الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب العاشر
في معاملة الأحباب والخادم والأعداء والأصحاب
وبه تمت أبواب الكتاب
قال الشيخ أبو المحاسن الراوي من الأدب الاحاسن فلما أبان الحكيم عن هذا الفضل الجسيم وكشف نقاب البيان عن مخدرات هذا التبيان فتلألأ من وراء سجيف ألفاظه وجوه معانيه الحسان عظم في أعين الأعاظم وكبر لدي الأعراب والأعاجم ورفعه أخوه وعظمه ذووه فأضاء منارة وعلا مقداره وملأ الآفاق أنواره ووقع من الملك على الاعتماد عليه اختياره ثم استزاده من فيض هذا العيوب واستسقاه من خوض هذا الشؤبوب واستطعمه من أخبار العقاب واليعقوب إن كان ثم بقية تجلو القلوب الصديه فامتثل الإشارة وحسن العبارة وقال ثم أن أبا الحجاج دعا القبيح أبا الدجاج واختلى به دون أصحابه وقال له أعلم يا جليس الخير وأنيس الطير ورئيس الدير أني تحملت من اليؤيؤ المنة العظيمة والجميلة الجسيمة حيث أرشدك إلى بابي ونظمك في سلك أصحابي ولا حرم أنه قام بما يجب عليه وعرف مقدار إحساني وميلي إليه وأنه لا وثق أعواني وأصدق خلاني وصاحب قديم ومخلص عديم النظير نديم وصديق كافي وناصح مصافي وأني لا تيمن بطلعته وأتبرك بمشاهدته واستنجح بآرائه واستصبح في المهمات المظلمة بلامع ضيائه ولقد حصل منك على عضد معاضد وساعد مساعد وكهف وذخر وسند وظهر فإياك أن تترك ذيل مودته أو ترغب عن صحبته ومحبته وأن تقتصر يا ذا الوقوف في صداقته على الوقوف فافضل المحبة وأكمل المودة ما تزادي على مر الدهور وترادف على كر العصور وثبت أصله وغزرت فروعه وفاض من سويداء القلب على مجاري الجوارح نبوعه بحيث يقع الاتحاد وينمزج بالصفاء الوداد فقد قيل لا تصح المحبة بين أثنين حتى بصيراً كالعينين حيثما نظرت إحداهما ما شزرا مالت معها
تابعة الأخرى بل يصيرا كالنفس الواحدة لا كل واحدة على حده ولا كما تقول الملاحده بل يكمل لكل واحدة ولا كما تقول الملاحده بل يكمل لكل واحد بالآخر ألهنا ويحصل له بوجوده السنا وإذا خاطبه قال يا أنا ولا تعمل يا أكمل كما قيل:
ملأت حشاشتي شوقاً وحباً
…
فان ترم الزيادة هات قلبا
فان الفتاح عنده الفتوح وباب الفضل والزيادة مفتوح وكرم الله لا يضاهي وفضله كعمله لا يتناهى وانظر يا فضيل وذا العلم العريض الطويل إلى ما قيل وهو:
أيها السائل عن قصتنا
…
أنا من أهوى ومن أهوى أنانحن روحان حللنا بدنا من رآنا لم يفرق بيننا
نحن مذ كنا على عهد الهوى
…
تضرب الأمثال للناس بنا
فإذا أبصرته أبصرتني
…
وإذا أبصرتني أبصرتنا
وألطف من هذا وأرصن ما قاله القائل وأحسن وهو:
أنا والمحبوب كنا في القدم
…
نقطة واحدة من غير مين
فبرانا الله إذا أظهرنا
…
مهجة واحدة في بدنين
فإذا ما الجسم أمسى فانيا
…
تلتقينا واحداً من غير بين
ولقد ذكرك عندي بأنواع الفضل وبوفور التجارب والعقل وهذا يدل على نصحه وقوة دينه وصدقه في المحبة وحسن يقينه ولم يذكر غير الواقع ولا جازف فيما أنهاه إلى المسامع بل قال قليلاً من كثير وقطرة من غدير ولم يخبر بذلك غير خبير فأني أعرفك كما عرف ووقفت على فضائلك كما وقف ثم أنت عندي فوق ما وصف فأريد منك نصائح بالخير لوائح تتضمن فوائد وعوائد وفرائد تكون لنهم الحكمة موائد ولشهم الحكام قوائد ولنخور ألباب المنقول قلائد ولضبط أساس الملك والدين قواعد وعقائد
فتلقي مثاله بالامتثال وقبل الأرض في مقام العبودية وقام وقال لتحط العلوم الشريفة والآراء العالية المنيفة أن صانع العالم تعالى وتعاظم وبنى أمور المبدأ والمعاد وما بينهما من معاشر مستفاد على دليلين عظيمين جليلين أحدهما العقل الذي هو مناط التكلف وثانيهما قواعد الشرع الشريف فان أردت أن تكون سعيد الدارين فاستمسك بأذيال هذين الدليلين أما العقل فهو الدليل القاطع على وجود الصانع وهو مستقل بالقطع إلى السمع غير محتاج إلى السمع وكما هو مستقل بالدلالة على وجود ذاته كذلك هو مستقل بالدلالة على تحقيق صفاته ثم ورد بذلك الشرع فتأكدت في وجود الصانع دلالة العقل بالسمع وأما وجدانية الصانع فكل من العقل والنقل دليل عليها قاطع وقد تظافرا بالاستباق إليه وتظاهرا في الدلالة عليه بقول الكافر يوم المصير لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير وبالعقل والسمع يستقيم أمر المبدأ والمعاش وبالسمع فقط مبيت المعاد عاش لأن أمور المعاد من الشرع تستفاد والعقل في ذلك تابع سامع لأوامر الشرع طائع والمسموع في ذلك دليل قاطع وعلى كل تقدير أيها الملك الكبير فاجعل العقل وزيراً تجده لك في ظلمات المشكلات سراجاً منيراً واتخذ النقل هادياً ونصيراً يكن بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً وعامل الرعية بالعدل يعاملك الله بالفضل وأعلم أن الدنيا في معرض الزوال وأنه لا بد عنها من الانتقال وأن الله سبحانه وتعالى وجل سلطانه جلالاً اقتضت حكمته وجرت بين عباده سنته أن يكون الإنسان على خلاف ما فطره الرحمن فانه خلقه
للعبادة وركب فيه عناده وأقامه للعمل وجبله الكسل فأمره بالصلاة وهو كسلان وبالصوم وهو شهوان وبالزكاة وحبب إليه المال وبالحج وكره إليه الانتقال وبالرضا وركز فيه الغضب وبالتسليم والصبر وخمره بالضجر والصخب وبالتواضع ووضع فيه التيه وبالتخلق بأخلاق خالقه وفيه ما فيه وحكم عليه بالموت وقد تحقق انه ليس له منه فوت وهو يكره عن الدنيا التحويل وأقل أقسامه أنه يحب العمر الطويل وعلى هذا قد تعود أن يفعل في المكان المثزود أفعال المقيم الؤمبد والدائم المخلد وبنى بناء من لا ينتقل وعن قليل يتركه ويرتحل لا سيما من تعلق بالدنيا قلبه وتشبث بالمال والولد والجاه والتحكم حبه وقد أخبر العزيز الوهاب في أصدق كتاب وأوثق خطاب فقال زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب فالنفس مائلة إلى الإقامة راغبة في دوام السلامة تحب طول العمر في الزمان وأن أحوجت الثمانون السمع إلى ترجمان وقد قيل:
وأحسن ما كان الفتى في زمانه
…
مع السعد والجاه العظيم معمراوأشهى ما سمع الحاكم وألذ ما تلقاه من قول الناظم قوله:
فلا زلت بين الورى حاكماً
…
بجاه عريض وعمر طويل
ولقد بلغني يا ملك الزمان أن الملك العادل أنوشروان أساس ملكه على العدل وعامل رعيته بالإحسان والفضل ويكفيه من الفضائل وحسن الشمائل قول سيد الأواخر والأوائل ولدت في زمن الملك
العادل وقال الرحمن في محكم القرآن أن الله يأمر بالعدل والإحسان وقد قيل في الأقاويل لا ملك إلا بالرجال ولا رجال إلا بالمال ولا مال إلا بالعمارة ولا عمارة إلا بالعدل فلا ملك إلا بالعدل ومن أقوى الصفات العدلية عمارة بلاد الرعية وبذل الجهد في العمارة ليكثر الربح وتقل الخسارة فإذا عمرت البلاد وترمم الطريف والتلاد حصلت الأموال وكثرت الرجال وانتظمت الأحوال فقد بلغني يا ملك الزمان أن الملك أنوشروان كان ماراً في سيرانه بين جنده وأعوانه فرأى شيخاً كأنه قوس قطان نثر على رأسه قزع أقطان وهو في بعض البساتين يغرس ونصب تين من انحناء قامته وبياض هامته مع شدة حرصه وتعبه على نصب غرسه ونصبه فقال له يا ذا التجارب ومن هو من شرك الفناء هارب الأم ترتع في ميادين الأمل وقد تطوقت باوهاق الأجل تبني وأركان جسدك واهية وتغرس وقوائم يدنك كإعجار نخل خاوية وربيع شبابك قد استولى عليه خريف الهرم وصيف الهرم وصيف وجودك قد أدركه شتاء العدم ومحت نسيم طراوتك
عواصف الذبول ومسحت قوى عبالتك بقواصف النحول وقد آن أن تغرس للآخرة فانك قد قصرت عظاماً ناخرة فقال يا ملك الزمان وعادل الأوان قد تسلمناها عامرة قد غرسوا وأكلنا ونغرس ويأكلون وفي الحقيقة كلنا زارعون وغارسون:
لقد غرسوا حتى أكلنا وإننا
…
لنغرس حتى يأكل الناس بعدنا
وابعد فلاح عن الرشد والفلاح من يتسلم المعمور ويتركه وهو بور فاعجب أنوشروان وفور عقل الشيخ ألفان وحسن خطابه وسرعة جوابه فقال زه يعني أحسنت وهي كلمة تحسين ولفظة إعجاب وتزيين وكانت علامة للإحسان إذا تلفظ بها السلطان يعطي المقول في حقه أربعة آلاف درهم لرفقه فأعطوا الشيخ الهم أربعة آلاف درهم فقال أيها السلطان أن الغراس بثمر بعد زمان غراسي لحسن طاعته أثمر من ساعته فقال زه فأعطوه أربعة آلاف أخرى ورفعوا منزلته قدراً فقال وأعجب من هاتين القضيتين أن الغراس يثمر مرة وأنا غراسي يثمر مرتين فقال زه فأعطوه القدر المعلوم وزاده في التكريم والتعظيم والتفيخم وقال له أنوشروان أن أمهلك الزمان حتى تأتيني بباكورة هذا البستان فأنا أقطعك خراجه وأقضي مالك من حاجة فأمهله الدهر وطال به العمر وأدرك ما نصبه ولم يخيب الله تعبه فحمل إلى الملك الباكورة ووفى له الملك نذوره
(وإنما أوردت) هذا المثل ليعلم مولانا الملك الأجل أن الدنيا وأن كانت ظلاً زائلاً وحائطاً مائلاً فهي مزرعة للآخرة وأن الآخرة هي الدار الفاخرة وأن الله تعالى وجل جلالاً ولاك هذه المزرعة وعلق بالأوامر العلية ما بها من مضرة ومنفعة وحكمك في البلاد وملكك رقاب العباد قاياك أن تغفل عن عمارتها بالزراعة أو تسلم زمام تدبيرها إلى يد الإضاعة فانك منقول منها ومسؤل عنها ومصالح عساكرك بها منوطة وأحوال ملكك بالعساكر مربوطة تعمرت الضياع والقرى ترفهت الأجناد والأمرا واستراحت الرعية واستمرت مناظم الملك مرعية وتوفرت الخزائن واطمان الظاعن والساكن وقلت المظالم وكفت أكف الظالم وملاك هذا كله العدل والأستوا ومجانبة الأغراض الفاسدة والهوى وهذا الذي يقتضيه مقامك ويتم به مرامك فان الملك إنما هو ملك بالأجناد فلا بد له من عمارة البلاد والنظر في مصالح العباد لينتظم بنظره مصالح العالمين ويستقيم أمر العالم إلى الحين الذي قدره أحكم الحاكمين فان سنة الله حرت على هذا السنن وما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن ولهذا قال سيد سكان الخيف أنا نبي السيف والجهاد فرض عين على الملوك لا على الفقير والصعلوك فالملوك في نوع من السيادة تقتضي من المال ازدياده ليقيموا من الأسلاك عماده ويقتفوا من الشرع مرادهويقصموا الكفر وعناده ويبيدوا أهله وأولاده وينهبوا أطرافه وتلاده ويوطئوا سنابك الإيمان بلاده وواجب على كل حاكم أن يبذل في ذلك اجتهاده ويجعل الجهاد إلى الآخرة زاده وعتاده ويصون عن الكفر بلاد الإسلام وعباده إلى يوم يلقى
معادة فيجازيه الله الحسنى وزيادة هذه طريقة الملوك ومن تبعهم في الإقتداء والسلوك وإياك أيها الملك العظيم وصاحب الملك الجسيم وأخذ المال من غير حله ووضعه في غير محله ولو كان موضع الخير وقصد به نفع الغير فانه لا يفي ذاك بذا ولا يقوم نفعه بما فيه من أذى فذلك كإنشاء المغارس وبنيان المدارس وتنوير المساجد وتعمير المعابد وسد الثغور وعمارة القبور وإقامة القناطر والجسور وعمل مصالح الجمهور وإطعام الطعام وكفالة الأيتام والحج إلى بيت الله الحرام وإعطاء السائل وإغناء الأرامل وصرف النفقات وإخراج الزكوات والصدقات ومثله الوبيل كما قيل:
بنى مسجد الله من غير حله
…
فصار بحمد الله غير موفق
كمطعمة الأيتام من كد فرجها
…
لك الويل لا تزني ولا تتصدقي
قال من لم يخف عليه إخفاؤها لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ثم أخبر بخبر ما يصدر عنكم فقال ولكن يناله التقوى منكم فان طلب من هذا أجر خسران وكفر لأنه في صورة الاستهزاء وهل يطلب بقبيح الحرام حسن الجزاء بل الواجب في هذا على كل من آذى رد المظالم ورجع الحقوق إلى أهلها وإيصالها إلى محلها أما يرضى ظالم غوى وتحمل الحرام هوى أن يتخلص سواء بسوا وشر الناس يا ذا البأس من اتبع قضية أياس فسأل العقاب عن بيان هذا الخطاب (فقال) في الشام شخص من اللئام تصدى لفصل الأحكام ومشى من الظلم في ظلام وشرع في أخذ الأموال على سبيل التعدي والوبال فكان إذا أخذ من أحد ألفاً ادخر لنفسه من ذلك نصفاً وتصدق بالخمسمائة الأخرى على أولي الضرر والضر أكل واحد درهماً وعد ذلك مغنماً وقال هذه فائدة علينا بالربح عائدة الحسنات خمسمائة والسيئة واحدة وواحد يدعو علينا يتوجهون بالثناء والدعاء إلينا
ثم قال ذلك الجاحد ولا تعجز الخمسمائة عن الواحد (هذا وأن كان والعياذ بالله صرف ذلك الحرام في الفسق والملاه ونيل الأغراض الفاسدة وإقامة الجاه فهو أشد في النكال وأعظم في الوزر والوبال وهذا المقام يطول فيه الكلام وأقل ما في الباب أن الحلال حساب والحرام عقاب وقد سمعت يا جليل القدر ما نطق به السيد الصدر الذي أخجل نور طلعته الشمس والبدر سيد الأنام ومصباح الظلام وحبيب الملك العلام عليه أفضل الصلاة والسلام يوماً لأصحابه السادة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم وجمعنا في مستقر رحمته وإياهم أتدرون من المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال أن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فان فنيت جسناته قبل أن يقضي ما عليه خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار وهذا إذا كانت هذه الطاعات من الصلاة والصوم والزكاة واقعة في محلها ومصاريفها في حلها فأنها لا تفيد الظالم إلا في وفاء المظالم وأما إذا كانت من الحرام ومنشأ غراسها من مياه الآثام فهي وبال على وبال وثبور فوق نكال على كسر ونقصان فوق خسر (وقال أيضاً) أفاض الله عليه سحائب صلواته فيضاً لتؤذن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء فاستعذ بالله
يا مولى الطير ومولى الخير من نار هذا الشرر أن تتفرق طاعتك شذر مذر وأعيدك يا سلطان الصافات وما اكتسبته من الطاعات والخيرات أن ينقل إلى ديوان غيرك أو يفوز بخبرك سوى طيرك اللهم إلا أن يكون يا ذا الوقار والسكون على وجه ما قال من أحسن المقال:
ويكتسب الطاعات ذخر العلما
…
يجود بها يوم القيامة على العاصي
أو على وجه ما قيل وأحسن به من وجه الجميل:
يجود بما ضن الجواد بمثله
…
من الوفر بل لو أمكنته شمائلهلعاد على المرضى بصحة جسمه وجاد على الموتى بعمر يطاوله
ومن على النوكي بوافر عقله
…
وقسم في الحمقى من الرأي كامله
وثقل ميزان المخف بأجره
…
لدى الوزن لما آد بالوزر كاهله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه
…
لجاد بلها فليتق الله سائله
ولأجل عذا الخطر العظيم والخطب الجسيم تورع عن الحلال الزاهدين وشمر عن التلوث بالدنيا ذيل الرغبة العابدون قال سيد البشر والشفيع المشفع في المحشر لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي منها كافر شربة ماء وقال عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام اللهم رزق آل محمد قوتاً
ومع هذا كله فالملك والرعية أمانة ومن تقلد ذلك فقد أوجب على نفسه ضمانه فليجتنب خيانته ولا يشين بها أمانته قال صفوة الله تعالى وخيرته من بريته كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته ومصداقه قول رب العالمين وملك الملوك والسلاطين وهو أصدق القائلين أنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان أنه كان ظلوماً جهولاً فاعلم يا ملكاً أعطي الزمان أمانه أن هذا الملك الذي بيدك هو من جملة الأمانة التي أشفق السموات والأرض الجبال وأبين أن يحملنها خوفاً من النكال والوبال وخشية أن لا يفين بحقوق حملها أو يضعنها في غير محلها فيعاقبن أو بالعتاب يخاطبن فتعففن عن الرغبة في الثواب خوفاً من العتاب والعقاب وعملن بموجب ما قيل:
هجرتك لا قلى مني ولكن
…
رأيت بقاء ودك في الصدود
كهجر الحائمات الورد لما
…
رأت أن المنية في الورود
تفيض نفوسها ظمأ وتخشى
…
حماماً فهي تنظر من بعيد
تصد بوجه ذي البغضاء عنه
…
وترمقه بالحاظ الودود
ثم حمل هذه الأمانة بنو آدم لما قدره وقضاه العلي العظيم في سابق القدم ولما فيها من أحكام وحكم وأن الصادق المصدوق أخبر فيما روى عنه أبو ذر قال قلت يا رسول الله ألا تستعملني قال فضرب بيده على منكبي ثم قال يا أبا ذر أنك ضعيف وأنها أمانة وأنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها فمن جملتها الصلاة والصوم والزكاة والوضوء والاغتسال ومراقبة ذي الجلال في السر والإعلان بقدر الطاقة والإمكان وعلى هذا جميع الطاعات وأنواع
العبادات هي في رقاب العباد أمانات ومن أعظمها وأهمها وأحكمها الإمرة والحكومة والتصدي لفصل الخصومة والسلطنة العلية وأمور الملك البهية والقيام بأمور الرعية فيجب على السادة الحكام ومالكي أزمة الأنام أن يراقبوا الله تعالى في كيفية أدائها ويطالبوا أنفسهم على ممر الأنفاس بالقيام بوفائها ويراعوا أوامر سلطان السلاطين في أمور عبيده المستضعفين خصوصاً المظلوم والفقير والضعيف والمسكين فإذا عاملوا عباد الله بالعدل عاملهم الله عز وجل بالفضل قال الله المنان في محكم القرآن أن الله يأمر بالعدل والإحسان وقال السيد الكامل والسند الفاضل أشرف الأواخر والأوائل صلى الله عليه صلاة تفنى البواكر والأصائل سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله أمام عادل بدأ في هذا الفصل من ذكر الصفات بالعدل والعدل يا ذا الوجه النير الوسط هو الخير قال من أمره قهر وسطا وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء أي للأنبياء تشهدون لهم على أممهم لعدالة فيكم ويكون الرسول عليكم شهيداً أي يزكيكم أي وكما جعلنا نبيكم إمام القبلتين حائز الفضيلتين جعلناكم حائزين خصلتين بالغين مرتبتين وهما كونكم عدو لا شهداء على الناس مقبولي الشهادة في الأداء وكون الرسول معد لكم وبتزكيته على الأمم مفضلكم وقال صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وفخم وعظم عدل السلطان يوماً يعدل عبادة سبعين سنة وقال عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام والذي نفس محمد بيده أنه ليرفع للسلطان العادل إلى السماء مثل عمل جملة الرعية
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم وروى كثير بن مرة رضي الله عنه قال: قال: عليه الصلاة والسلام السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم من عباده فإذا عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر وإذا جار كان عليه الإثم وعلى الرعية الصبر وعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه لعمل الإمام العادل في رعيته يوماً أفضل من عبادة العابد في أهله مائة سنة أو خمسين سنة وقال قيس بن سعد ستين سنة وأعلم أيها الملك الأعظم واسلم أن العدل ميزان الله تعالى في الأرض به ينتصف بعض الرعية من البعض وبه يؤخذ للضعيف من القوي ويعبد الله على الصراط والسوى ويتميز الحق من الباطل والحالي من العاطل وهو من صفات الذات وأعظم الصفات بمعنى أن الله تعالى عز وجل جلالا له أن يفعل في ملكه ما يشاء فيؤتي الملك من يشاء وينزع الملك عن من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويحكم ما يريد والخلق كلهم له عبيد وجميعهم بعض ملكه نافذ فيهم سهم أمر ملكه فلا اعتراض على فعل المالك ولا فيما يسلك بمملوكة المسالك ولا مجال لاعتراض عبده على ذلك لا سيما إذا كان مولاه كريماً وفي أفعاله مدير حكيماً فمن عرف أن الله عدل وأن أفعاله جارية بين العدل والفضل يتلقى نقمه بالصبر
ويقابل نعمه بالشكر ويطمئن خاطره وتسكن إلى مولاه سرائره فلا يستقبح موجوداً ولا يستهجن مفقوداً ولا يستثقل حكماً ولا يرمي في الكون ظلماً بل يستقبل الأحكام بالرضا ويستسلم لموارد القضا ويقابل العوارض بما قاله ابن الفارض:
وكل أذى في الحب منك إذا بدا
…
جعلت له شكري مكان شكيتي
وأعدل المخلوقات وأوسط الكائنات الأنبياء عليهم السلام فأنهم أعدل الخلق مزاجاً وطبيعة وأقوم الناس منهاجا وشريعة وأوسط البشر أفعالاً وأقسطهم أعمالاً وأقوالاً وإنما يعترض على أقوالهم ويتعرض لأفعالهم من هو عن الصواب منحرف وعن جادة الحق منصرف ومن عين يصيرته عمياء عن مراقية التحقيق كالأعمى الذي خرج وهو ماش عن سواء الطريق فيعثر في شوك أو حجر أو يصدمه حيوان أو شجر فيقول نحو هذا عن الطريق فانه يحصل للمارة تعويق ويعيب على واضعه وإنما العيب في طبائعه والجهل منسوب إليه لعمى قلبه وعينيه كما قال ذو الخويصره لسيد الرسل البررة لما قسم الغنيمة قسمة مستقيمة اعدل فأجابه الكامل المكمل بأنه أن لم يعدل فمن يعدل وأنه رأى ذا الخويصره الذي أعمى الله بصره خاب وخسر ولاقى اليوم العسران لم يعدل ذلك المفضل وكيف يقال هذا الكلام لمثله عليه الصلاة والسلام قود أمره الله تعالى بالعدل ونشر سر هذا النقل واقر عينكم بقوله وأمرت لا عدل بينكم
قال الأسد الغالب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وجعل إلى رضوانه له احسن وجهه أما عادل خير من مطر وابل وأسد حطوم خير من سلطان ظلوم وقيل الملك يدوم مع العدل ولو كان الملك كافراً ولا يدوم مع الظالم ولو كان مسلماً وما تعاطى حاكم ذو فضل فصل قضية في فصل أحسن سلوك طريقة العدل ولذا بقي أسم أنوشروان مخلداً بالعدل على مر الزمان وإلى يوم ينصب الميزان مع أنه كان مجوسياً يعبد النيران وللسنة التي اخترعها بالسلسلة التي وضعها باقية في ممالك الصين معمول إلى آخر حين وقيل أنه كان شديد الوداد للاصطياد وكان يعشق البازي والزروق والصقر والباشق والبيدق فسأل يوماً من الباز دار لم كانت هذه الأطيار قصار الأعمار قال لأنها تظلم الطيور والظالم عمره قصير فتنبه بهذه الكلمة واتعظ وكف يده عن الظلم واحتفظ ثم أسس قواعد العدل فانتشر ذكره إلى يوم الفصل ويكفيه من الفضائل قول السيد الكامل ولدت في زمن الملك العادل وروى أن بعض الملوك العادلين والحكام الفاضلين استولى عليه الكبر ووقر في أذنه وقروقر وكان قبل الصمم في العدل والكرم كما قيل:
وأنه مظلوم وغنة سائل
…
على أذنه أحلى من الشهد في الفم
فحزن لفقد سمعه وتأسف وتحرق وتلهف وتأرق وبكى وتأوه واشتكى وقال ما أتلهف من عدم سماع الحديث الأعلى فقدي صوت المستغيث ولا كنت أتلذذ من متكلم إلا بالإصغاء إلى خطاب المتظلم ثمقال لئن حرمت ذلك من طريق الأخبار فلأتوصلن إليه من طريق الأبصار ثم أمر بأشعار النداء في الأطراف والأرجاء أنه من كانت له ظلامه فليظهر له علامة وهي أن يلبس ثوباً أحمر ويقف فوق ذلك التل الأخضر لنعرف علامته ونكشف ظلامته وقيل أن السلطان السعيد نور الدين الشهيد لما أمر ببناء دار العدل وعزم أن يقيم فيها للحكومات الفصل أدرك الأمير الكبير صاحب الرأي المنير أسد الدين شيركوه السلطان ما يعتمده السلطان ويرجوه وما يحمله على ذلكم ويدعوه وعلم أن ذلك الأسد لا يسامح عنده أحد وأنه لا يراعي في الحق أميراً ولا كبيراً ولا صغيراً فانه مع الحق وبالحق قائم لا تأخذه في الله لومة لائم فجمع مباشرى ديوانه وأكد ما قاله لهم بأيمانه لئن شكا منهم أحد أو بلغه عن أحد من حاشيته ظلم أو نكد ليذيقنه أشد العذاب ولينزلن به أنكى عقاب وقال ما برز هذا الأمر العزيز الغالي ببناء هذا المقعد العام العالي إلا الأجلى ولأجل أمثالي فما وسعهم إلا طلب الخصوم واسترضاء العادل والمظلوم
(وروى) أن أحد الصدور هصبه بعض عمال المنصور وأخذ منه كفراً من الكفور فتوجه إلى الخليفة وضرب له أمثالاً ظريفة وقال أصلح الله أمير المؤمنين وأقام به شعائر الدين ونصر به المظلومين على الظالمين أأذكر ظلامتي أولا أم أضرب أمام حاجتي مثلاً فقال دع الجدل وأضرب المثل فقال ألهمك الله العدل وأقام بك قواعد الفضل أن الطفل إذا نابه ما يكرهه أو قرعه خطب يجبهه فر إلى أمه وأجهش إليها من همه فأوى إلى حضنها وأندس تحت بطنها لأنه لا يعرف سواها فيستكشف بها عن نفسه ما دهاها ولا يظن أن غيرها يدفع عن نفسه ضيرها فإذا عرف أباه بث إليه شكواه واستدفع به ما عراه لأنه قد وقر في وهمه أن أباه أقوى من أمه وأن غيره من الناس لا يقدر على دفع البأس فيلجأ إليه فيترامى في دفع شدائده عليه ولا يقبل عذره أن ترك نصره أو قصر في مبتغاه أو تهاون في متمناه ولهذا قال بدر الحي أن النساء والصبيان يظنون أن الرجل يقدر على كل شيء فإذا أشتد واستوى وأصابه من أحد جوى تقدم إلى الوالي لأن مقامه عالي وهو أقوى من أبيه فيستكشف به ما وقع فيه فإذا صار رجلاً وأصابه من أحد نكد وبلاً استنجد بنائب السلطان فوجده له أحسن معوان فاشتكاه ورفع بلواه وكفاء إذ دعاه ما دهاه ورعاه عما عراه فانه أقوى من الوالي وأقدر على دفع الظلامة من كل منهمك غالي وهو السلطان الحاضر والعامل والناظر على البادي والحاضر فإذا ظلمه الوالي والعامل ونقصه حقه ذو الحكم الكامل تعلق بأذيال عدل السلطان واستكشف بمراحم نصرته ما دهاه من عدوان إذ قد تحقق ورأى
وصدق أنه أقوى من الكل وإلى مرسومة مرجح الجل والقل ولايد فوق يده وأنه قد انتهى حديث رفعته لعلو سنده وبلغ في التسلط ونفوذ الأمر إلى أقصى أمده إذ هو ظل الله في أرضه وخليفته في إقامة نفله وإحياء فرضه وقابض أزمة المخلوقين ومنصف المظلومين من الظالمين فإذا لم ينصفه السلطان مع القدرة الكاملة والإمكان توجه بشكواه إلى سلطان السلاطين وطلب رفع ظلامته من رب العالمين لعلمه أنه الحكم الذي لا يجوز والحكيم الذي بيده مقاليد الأمور والحاكم الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وأنه أوقى من السلطان ولا يحتاج في الشكوى إلى بيان ولا إلى دليل ولا برهان وقد نزلت بي حادثة للقلب كارثة وبالفكر عابثة وللسر عائثة وهي أن العامل الفلاني ظلمنني وأخذ مكاني فأنا أشكوه إليك وقد تراميت عليك وعرضت قصتي بين يديك لأنك نعم السند وليس فوقك أحد ولا في الحكام إلا من هو لك بمنزلة الغلام وما بعدك إلا الله مولى لا يخيب من رحاه ويجيب المضطر إذا دعاه فان وعيت قصتي وكشفت غصتي وإلا رفعتها إلى الله وقطعت النظر عما سواه وهذا أوان الموسم وأعمال المنسيم وأنال متوجه إلى حرمه ومترام على باب إحسانه وكرمه فلما وعى المنصور خطابه أرسل من سحاب جفنه عبابه وقال حباً وكرامة يا ذا الزعامة بل أنصفك وبالفضل أسعفك وأضعف كرامتك وأكشف ظلامتك وأوصلك حقك وأعطيك مستحقك وأمر فكتب إلى واليه يضع من معاليه ويأمره بردأراضيه وطلب مراضية والتحلل من ظلم أياديه وإكرام محله
وناديه
وروى موسى الكليم عليه الصلاة والتسليم في بعض مناجاته وسؤاله حاجاته سأل الله من فضله أن يريه نكتة من عدله فأمره أن يتوجه إلى مكان ويختفي فيه عن العيان فامتثل ما به أمر واختفى في ذلك المكان على شط نهر فما كان سارع من قدوم إنسان إلى ذلك المكان فبمجرد ما وصل إليه نزع من ملبوسه ما عليه وكان معه كيس فيه مال نفيس فأودعه ئيابه ورام في الماء انسيابه فدخل في ذلك النهر وغلغل فيه إلى أن غاب عن النظر فاقبل فارس فوجد ثياباً بلا حارس فنزل عن الدابة وفتش ثيابه وأخذ كيس الذهب وركب فرسه وذهب وأسرع في الذهاب إلى أن زال شخصه وغاب ثم أقبل شخص ذو شجب وعلى ظهره حزمة حطب فانتهى إلى ألما وقد برح به الظمأ وأمضه التعب وأخذ منه النصب فطرح عن ظهره الحطب وقصد الراحة وقد ظهر الذي كان في السباحة فوجد عند ثيابه شخصاً من أترابه فأستأنس به وتأوه لمكتئبه وما يقاسيه من نصبه ثم اشتمل ملبوسة وتفقد كيسه فما وجده فعض يده فسأل الحطاب عما كان في الثياب وطلب منه الكيس بالتعبيس فقال ما رأيته ولا حويته فقال هل كان معك أحد فقال لا والواحد الأحد قال فهل كان هناك سواك قال لا والذي سواك قال يا أخي أنا وضعت الهميان بيدي في هذا المكان ولم يطل على ذلك زمان ولا حضر سواك حيوان ولا طمث عذراء هذا الموضع أنس ولا جان فلا اشك أنك أخذته ولنفسك افتلذته فاقسم بعالم الخفيات وكاشف البليات المطلع على الضمائر والنيات
أنه ما رأى له همياناً ولا يعرف لذلك مكاناً فقال لو شهد لك الكون والمكان ونطق ببراءتك جوامد الزمان وزكاهم الكرام الكاتبون لما شككت أنهم كاذبون لأن إنكار المحسوس مكابرة والمثابرة على الباطل للحق مادبرة خذلك منه يا فقير الثلث والثلث كثير واردد على الثلثين وإن أبيت فاجعله بيني وبينك نصفين فما زاد ذلك على اليمين وما شك هذا أنه يمين فقال اردد على مالي وإلا قتلتك فلا لك ولا لي فقال ما رأيت ما لك فافعل ما بدا لك فشرع في تفتيشه وبالغ في فحصه وتنبيشه فلم يهتد إلى شيء سوى الضلال والغي فأخذه الحنق واشتد به الأرق وثارت نفسه الأبية واتقدت ثورته الغضبية فضربه بمحدد فقتلته وجد له بالإهلاك فجد له ثم تركوه وذهب ولم يحظ من الذهب بغير اللهب كل هذه الأحوال وموسى عليه السلام يشاهد ما فيها من أفعال وأفوال ثم ناجى فقال يا ذا الجلال أنت عالم بحقائق الأمور وسواء عندك البطون والظهور سألت فضلك أن تريني عد لك فأريتني هذا المغرم وأنت أعلى وأعلم ففي ظاهر ما أمرتني وبكرامته غمرتني من الشريعة المطهرة ونص التوراة المحرم أن هذا الحكم جور وظلم فأطلعني على الحقيقة وبين لي سلوك هذه الطرقة فقال الله تعالى وجل جلالاً يا موسى المقتول قتل أبا القاتل والقاتل سرق الكيس من أبي الفارس الخائل ففي الحقيقة الفارس النبيه وصل إلى ماله المخلف عن أبيه والقاتل إنما استوفي قوده ممن قتل والده وهذه الأمور إنما تتضح يوم النشور تبلى السرائر وتكشف الضمائر وينادي يوم التناد لا ظلم اليوم إن الله قد حكم بين العباد
ونظير هذه القصة ما ذكره الله تعالى وقصة في روض كلامه النضر عن موسى والخضر عليهما السلام والتحية والإكرام إذ ركب السفينة وخرق خرقاً مؤدياً إلى الغرق وقتل النفس الزكية وأقام بغير أجر أركان الجدار الواهية وبعض ذلك مخالف لظاهر الشريعة تنفر عنه النفس السليمة والطبيعة ولكنه موافق للحكمة الإلهية ومقتضيات العقل الحقية الذي لا يطلع عليه الأعالم الأسرار الخفية ولهذا قال جل وواحد أحداً وتعالى فرداً صدمداً عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً ثم استثنى من هذا المقول إلا من ارتضى من رسول وإنما الشريعة الزاهرة وردت بما تقتضي من الحكم الظاهرة فتعبدنا الله في الشرائع بظاهرها ما يثبت في الوقائع (قيل) من أيقن بحقية أربعة كان من ضيق أربعة في سعه وأمن ودعه من أيقن أن الصانع الضار النافع لم يخطئ ولم يغلط أمن من العيب والشطط ومن أيقن أن الخلاق ومقسم الأرزاق لم يحف في خلقه ولم يمل في رزقه أمن من الحسد واستراح من النكد ومن أيقنبوقوع المقدور وأنه لا ينجيه منه محضور أمن من الغم ولم يتساقط عليه الهم كما قيل:
ما قد قضي يا نفس فاصطبري له
…
ولك الأمان من الذي لم يقدر
ومن عرف أصله أمن من الكبر تصله وكتب في قضية إلى أعدل خلفاء بني أمية من
عامله بحمص أنه هدم الدمص وعدم النمص وأن ربضها رابض ومرعى رياضها بأرض وأنها محتاجة إلى عمارة وزراعة وحراسة ومناعة فكتب إليه عمر بن عبد العزيز هذا الجواب المفيد الوجيز وهو حصنها بالعدل ولق طرقها من الحدل يثبت ألبنا وينبت الكلا والسلام وقيل أمير بلا عدل كغيم بلا مطر وعالم بلا ورع كشجر بلا ثمر وشاب بلا توبة كمشكاة بلا مصباح وغنى بلا سخاء كقفل بلا مفتاح وفقير بلا أدب كطابخ بلا حطب وامرأة بلا حياء كطعام بلا ملح وقاض جائر كملح على جرح وقيل العالم بستان سياجه الشريعة والشريعة سياج يخدمها الملك والملك راع يعضده الجيش والجيش أعوان يكفلها المال والمال رزق تجمعه الرعية والرعية أحرار يستعبدها العدل والعدل سلك به نظام العالم وليعلم أن الملة الأحمدية والشريعة المحمدية هي أعدل الملل وأقوم النحل مثلاً النصارى لا يتحامون الحائض أيام أقرائها ولا فرق بين الحائض وغيرها من نسائها
واليهود يجتنبونها فلا يؤاكلونها ولا يشاربونها ويقربونها رأساً ويعدونها رجساً وركساً فسلكت الشريعة المحمدية في ذلك أعدل الطرق وأفضل المسالك فتعاشر كالأطهار وحرم قربان ما تحت الإزار وفي بعض الملل على الذي قتل القود والقصاص وليس في الدية خلاص وفي بعض الدية لا غير وما للقصاص فيها سير ودين الإسلام المرفوع كل فيه مشروع والعدل في الاعتقاد يا ملك البلاد ترك التخليط وسلوك ما بين الأفراط والتفريط والقول بالتقديس والتنزيه واثبات الصفات من غير تعطيل ولا تشبيه واقتباس النور من جمرين وسلوك أمر بين أمرين والعدول عن المذهب البغيض وهو مذهب الجبر والتفويض والعدل في الفقيهات يا معشوق المخدرات والحذريات الذي قام عليه النص دليلاً ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا
فمن العدل الوضوء والمعتاد ثلاث مرات ومن نقص أو زاد فقد تعدى وظلم كذا قال النبي المكرم صلى الله عليه وسلم أي تعدى أن أسرف وظلم أن أجحف والعدل في الصلاة أن تكون على مرتضى الشرع ومقتضاه وهي أداؤها في أفضل الأوقات مؤداة مع الجماعات في الصف الأول على الوجه الأكمل عن يمين الأمام من الافتتاح إلى الاختتام مع تعديل الأركان بل التعديل فرض عند بعض الأعيان لا نقرا كنقر الطير ولا تطو بلا يضر بالغير والعدل في الزكاة أن لا يتمموا الخبيث منه ينفقون ولا يجعلوا الله ما يكرهون وليسوا بآخذيه الآن يغمضوا فيه ولا يكلف جابي المال أن يعطي كرائم الأموال والعدل في الصوم يا سيد القوم أن لا يتنول فوق الغذاء المعتاد ولا يصل بالوصال إلى درجة الإجهاد ويعجل الفطور ويؤخر السحور والعدل في الحج أن لا يماري في الأنفاق ولا يضار الرفاق بالشقاق كما يفعله أبناء الزمان فان ذلك خسران والازدياد من ذلك نقصان ولقد بلغك يا قمر ما قاله عمر لخادمه يرفا وذا لا يخفي كم بلغت نفقاتنا مقداراً قال ثمانية عشر ديناراً يا أمير المؤمنين قال ويلك أجحفنا بيت مال المسلمين وإياك والأشر وقاك الله كل شر فقد بلغك قيمة راحلة
سيد البشر ليدل ذلك على ترك البطر والأشر ولا يقصر في نفقته بحيث يصير كلا على رفقته وكذلك في كل الأنفاق يا ملك الآفاق قال من عز كلاماً مقالاً ومقاماً والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً والعدل في النكاح يا حبيب الصباح لمن عليه يقوى فهو أقرب للتقوى وهو يا أبا حسان واجب عند التوقان سنة عند القدرة عليه مستحب عند استواء طرفيه مكروه عند العجز عنه وهذا بحث قد فرغ منه وقس يا ذا الكرامات على هذا سائر العبادات وجميع العادات وعقود المعاملات ولا تتعدا الحدود في الحدود فان ذلك مردود وعلى قانون العدل وردت الشريعة المطهرة وجرت قديماً شرائع الأنبياء البررة وكذلك مقادير الملة المحمدية عليه افضل صلاة وأزكى تحيه محررة على القواعد العدلية وفيها من الحكم الإلهية ما يعجز عن إدراكها القوىالعقلية قال الله تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبيان وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وحاصل الأمر يا ذا النهي والأمر أن العدل هو قوام كل فضيلة كما أن الصبر هو أساس كل خصلة جميلة وأن أردت بسط هذا البيان فدونك القول والتبيان في تفسير القرآن المنزل على أشرف إنسان إن
الله يأمر بالعدل والإحسان فقد أشبع التقرير ودقق التحرير في روضة النضير فارس ميدانه الأمام الخطير فخر الدين الرزاي في تفسيره الكبير
والعدل يجري في لصفات كما يمشي في الذوات ومرتبتا في العلو أن يكون بين التقصير والعلو كالكرم الذي يكون بين الإسراف والتبذير والشح والتقتير والتواضع الذي بين الضعة والتكبر وبين التصعر والتصغر والشجاعة التي بين التهور والخفة والجبن الطائش الكفة والقناعة التي بين الحرص والطمع والنذالة والهلع وبين العجب والتصلف والاحتشام والتقشف والإخلاص الذي بين الشرك والهوى وبين الإعجاب والريا والعفة التي بين التهافت على المشتبهات والترفع عن تناول المباحات والطيبات والحزم الذي بين سوء الظن والوهم والوسواس وبين إذاعة السر والأسختفاف وعدم ألا مبالاة بالناس والحلم الذي بين الغضب بلا سبب وبين التغاضي عن اللئام عند موجب الانتقام والشفقة ولين الجانب للأقارب والأجانب الذي بين القوة والاستكبار وبين الرخاوة واللين المستلزم لتضييع حقوق الأهل والجار وحفظ الحقوق الذي بين التكلف والعقوق يراعي فيها الحدود ولا يخرج فيها عن الحد المعهود فالخروج عنها يسمى عناداً وقساوة والتقصير فيها يدعى ركاكة ورخاوة مثلاً من يستحق العفو لا يضرب ومن يستأهل الضرب لا يقطع ولا ينكب ومن استوجب القطع لا يقتل ومن وجب عليه حد لا يهمل وتجري أمور الشرع الشريف على ما ورد به الأمر المنيف فما ثم أحد أكرم من الله ولا أرحم ولا أعلم بأمور مخلوقاته ولا أحكم قال السميع البصير ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير
وروى أن الإمام المسدد جعفر بن محمد دخل على الرشيد وهو في أمر شديد قد استولى عليه الغضب واستخفه الطيش والصخب فقال يا أمير المؤمنين إن كان غضبك لرب العالمين فلا تغضب له أكثر من غضبه لنفسه وقد حد لكل شيء حداً من نقمه وبأسه فلا تتعد حدوده فانه قد ملكك عبيده فتذكر من وقوفهم بين يديك واقتدارك عليهم إذا تمثلوا قياماً لديك قدومك يوم القيامة عليه ووقوفك خاضعاً منفرداً بين يديه ومن انتقامك منهم سؤاله إياك عنهم فسكن من غضبه واقتدى بأدبه وقال الحكماء للإسكندر عليك بالاعتدال في كل الأمور فان الزيادة عيب والنقصان عجز وفي الحديث خير الأمور أوسطها ولهذا قيل في الأقاويل ينبغي للإنسان الراجح العقل في الميزان أن يحصل من كل علم مقدار ما يحتاج إليه ويعول في مشكلاته عليه مثلاً علم الأدب ما ينال به عند أربابه الرتب كاللغة والنحو والصرف ولو أنه أدنى حرف ليقوم بذلك لسانه ومن علم المعاني ما يبدع به بيانه ومن العروض والقوافي المقدار الوافي والمعيار الكافي ومن الطب ما يعرف به
مزاجه ويصلح به علاجه ويقوم به اعوجاجه ومن علم التفسير والقرآن ما يقتدر به على بيان كلام الرحمن ومن علم السنة والحديث ما يميز به الطيب من الخبيث ويضبط به أقسامه وصحته وسقامه والأنساب والرجال ومالهم من صفات وأحوال أن لم يكن مفصلاً فعلى الأجمال ويندرج فيه علم التاريخ العالي الشماريخ ومن علم الكلام ما يصحح به دينه ويقيم به اعتقاده ويقينه ومن علم الأصول وما اشتمل عليه من معقول ومنقول ما يقدر على استنباط الأحكام ومعرفة أدلة الحلال والحرام ومن علم الفروع ما يحكم به أصناف العبادات وأنواع العادات وطرائق العقود وإقامة الحدود ومن علم مكارم الأخلاق ما يصيد به قلوب الرفاق ويكتسب به الذكر الجميل والثناء الجليل ومن الحرف ما يحصل به القوت الحلال ولا يصير على الناس كلاذ إملال وقد قيل خالطوا الناس مخالطة أن غبتم حنوا إليكم وإن متم حنوا إليكم ومن علم الركوب والرمي والسباحة والخط ولعب الرمح والسياحة وعلم الفرائض والحساب وطرائق المبايعات والكتاب ما يقدر به على الدخولإليه إذا تكلموا فيه بين يديه بحيث يكون له فيه مشاركة والمام ولا يكون بين الخواص كالعوام وكل ما ذكر فسلوكه عدل والتلبس به كمال وفضل ورأس مال الجميع التقوى فان الإنسان الضعيف بالتقوى بقوى قال الله تعالى ولكن يناله التقوى منكم وبالجملة فالعاقل العادل بل الكامل الفاضل لا يستنكف عن نوع من العلوم ولا تبرد همته عن اقتباس منطوق ومفهوم قال معلم الخير ومحذر الشر تعلموا حتى السحر وقال:
عرفت الشر إلا
…
للشر لكن لتوقيه
ومن لم يعرف الخير
…
من الشر يقع فيه
وكل مصافي السريره وذي بصيرة منيره يتوجه إلى التعلم والاستفادة ويجعل مراده مراده أي علم كان خصوصاً إذا كان من الشرف بمكان قال بعض الوزراء لابنه يا بني تعلم العلم والأدب ولا تسأم فيهما من الطلب فلولا العلم والأدب لكان أبوك في السوق حمالاً وللنوق جمالاً فبالعلم والأدب ركبنا أعناق الملوك وأحوج الناس يا ذا الأفضال إلى اكتساب الفضل والعلم والكمال السلاطين والملوك ومن تبعهم في السلوك فانهم بين خلق الله تعالى المرموقون والسابقون بجلائل النعم لا المسبوقون وبحفظ بلاده وعباده المستوثقون منهم موثوقون فهم المتحملون لأعباء العدل المكلفون بالمحاسبة عنه والفضل قال من يقول للشيء كن فيكون قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون فهم أقدر على التحصيل من غيرهم والزمان والمكان تابعان لسيرهم والخاص والعام يتمنى قربهم ويسلك في التوصل إلى جنابهم دربهم ويبذل في ذلك ما وصلت إليه يداه ويجعل تحصيل ما يرمونه غاية متمناه فيبذل جهده في ايصالهم إليه ويكد قلبه وقالبه في اطلاعهم عليه قال الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس نقصاً
…
كنقص القادرين على التمام
وقال بعض المؤرخين الملوك لأولاده يا بني اكتسبوا العلم والفضل وادخروا الحلم والعدل فان احتجتم إلى ذلك كان مالاً وإن استغنيتم عنه كان جمالاً وقال بعض الحكماء العلم ملك ذو أعضاء رأسه التواضع ودماغه المعرفة ولسانه الصدق وقلبه حسن النية ويداه الرحمة ورجلاه مثابرة
العلماء وسلطانه العدل ومملكته القناعة وسيفه الرضا وقوسه المساءلة وسهمه المحبة وجيوشه مشاورة الأدباء وزينته النجدة وحكمه الورع وكنزه البر وماله العمل الصالح ووزيره اصطناع المعروف ومستقره جودة الرأي ومأواه الموادعة ورفيقه مودة الأخيار وذخيرته اجتناب الذنوب والحاصل يا ملك الطير ويا مالك عنان الخير أن قوام العالم ونظام بني آدم سيف الملوك والسلاطين وقلم العلماء الأساطين فمهما حدث من شر محاه سيف الملوك ومهما وجد من خير أثبته فلم علماء الإرشاد والسلوك وفي الحقيقة يا شيخ الطريقة العالم عبارة عن هؤلاء وبصلاحهم تصلح الأشياء وبفسادهم والعياذ بالله تفسد الدنيا إذ هم لزوال الفساد وطهارة العباد وعمارة البلاد بمنزلة الصابون للأوضار والاستغفار وللأوزار فإذا فسد هؤلاء فما لفسادهم دواء كما قيل:
الذنب صابون الاستغفار يغسله
…
كالثوب ينظف بالصابون أن وسخا
فما الذي يغسل الصابون من دنس
…
إذا رأيناه صار الذنب والوسخا
وناهيك يا ملك العقبان ما فسد من الزمان وجرى من الدماء من طوفان وانمحى من أمهات البلدان عند استيلاء الكافر جنكيز خان فسأل العقاب عن كيفية هذا المصاب والعقاب ومن هو جنكيز خان الذي أفسد وخان وما أصله وفصله وكيف كان قطعه ووصله حتى نفذت في كبد العالم بالفساد نصله
فقال هذا رجل من بقايا التتار الساكنين من بلاد الشرق في قفار وهم من بقايا يأجوج ومأجوج عن الإسلام منحرفون وعن الإيمان عوج سموا بالترك لأنهم تركوا عن دخول السد بالخروج فكانوا قبل جنكيز خان مبددين في صحاري لا يتفق منهم اثنان مسيرة أماكنهم ومدى مساكنهم شرقاً بغرب نحو من ثمانية أشهر وشمالاً بجنوب لا ينقص عن هذا المدى ولا يقصر حدها من الشرق حدود ممالك الخطاوأقصاها خان بالق وهي مدينة عظمى ووراءها شرقاً يا من يرقى ينتهي الحد بعد السير الجد إلى بلدة عظيمة ولا يأتيها جسيمه تدعى خيسار وأهلها كفار وهي مبدأ مملكة الصين يا ذا المجد الرصين ومن الشمال نواحي قرقير وسلنكاي ومن الجنوب بلاد تدعى تنكيت وتيت هذه يا ذا النسك هي التي يتولد غزالها المسك ومن الغرب وهي جهة قبلة تلك البلاد إذا صلى المسلمون منهم والعباد حدود بلاد أو يغور وما وإلى تلك الكفور من بلاد تركستان يا ذا الإحسان ويسير المجد منها إذا انفصل عنها كذا وكذا شهر حتى يصل من جهة غربها إلى ما وراء النهر ثم هؤلاء التتار كانوا تلك القفار بين هذه الحدود الأربعة في مضيعة وأي مضيعة يتوالدون في ذلك البر ويتهارجون في ذلك السهل والوعر كالحيوانات السائبة في البر والبحر لا حاكم يردعهم ولا دين واعتقاد يجمعهم وهم فيما بينهم قبائل وشعوب وأصناف وضروب وخلائق وأمم لا يعرفون الإسلام والسلم بل كل أمة تلعن أختها وتنهب
تختها وتأكل رختها وكل طائفة تعد غارتها وتقصد جارتها وكل من قوى على غيره كسره أما قتلته وأما أسره لم تزل المكافحة بينهم قائمة والمناطحة بين ثيرانهم وكباشهم دائمة وعيون الرشد والاهتداء عنهم نائمة وضواري الظلم والاعتداء في مسارح سوارح إسلامهم سائمة يعدون النهب غنيمة والفسق والفجور والنميمة أجمل صنعة وأكمل شيمة يأكلون والكلاب والفار وما وجدوه منن صيد القفار والميتة والدم والهوام لا يعرفون الحلال والحرام ويلبسون جلودهم وأوبارها وأصوافها وأشعارها كما كان مشركو العرب في الجاهلية قيل إشراق شمس الملة المحمدية لا زرع لهم ولا ثمر سوى نوع الشجر يشبه شجر الخلاف هو ثمرهم في الشتاء والاصطياف اسمه قسوق وهم على ما هم عليه من الفسوق يعبدون الأوثان والأصنام ويسجدون للشمس إذا بزغت من الظلام ويعظمون النجوم ويعبدونها وتخاطبهم الجن ويرصدونها وفيهم كهنة يعتقدونها وسحرة وساجع وزجره يجبى خراجهم إلى ملك الخطا وهم على أشد كفرو خطا قد تركب الكفر في أحشائهم وإن الشيطاين ليوحون إلى أوليائهم وأعلى من فيهم أكابرهم وذويهم علامة رياسته وانفراده بسياسته وأنه فيهم ذو يأس شديد ورأي سديد ومال مديد كون ركابه من حديد وباقي أعيانهم وذوي مكانتهم وإمكانهم أن كانوا ذوي جد فركابهم قضيب ملوي أوقد وعندهم أفخر ملبوس جلود الكلاب والنموس والذئاب والتيموس
وقس على هذا جميع تجملاتهم ومفاخر آلاتهم فهم في قديم الزمان وبعد الحدثان من حين بلغ ذو القرنين بين السدين وساوى على ياجوج ومأجوج بين الصدفين إلى آخر وقت كانوا في قلة ومقت وضيق حال وسوء بال لا دنيا رخيه ولا آخره رضية حتى نبغ منهم هذا اللعين الطاغية تموجين الذي تسمى بجنكيزخان وساعده قضاء الديان فأمده الزمان وأعطاه المكان لأمر يريده الرحمن وقضاء قدره على عبيده في سالف الأزمان فطعم العالم بالفساد فاهلك العباد والبلاد وأخلى والديار والدار وعم غالب بلاد الإسلام بالشنار والبوار فصلى الله على سيد بني عدنان بل أشرف جنس الإنسان الذي قال يخرج في آخر الزمان رجل يسمى أمير العصب أصحابه مخسورون محقرون مقصون عن أبواب السلطان ياتونه من كل فج عميق كانهم قزع الطريق يورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها فاتبعه منهم النساء والرجال اتباع اليهود والكفرة والمسيح الدجال أمم لا يحصرها حساب ولا يحصيها ديوان ولا كتاب وما يعلم جنود ربك إلا هو فارشدوا إلى طريق الضلال بعدما تاهوا وصار كل من أولئك الطغاة الكفرة الهجرة الأوغاد اللئام وكل كلاب خادم كلاب الصعود يجري سيفه الكال الكدود من
أشراف الملوك وملوك الأشراف وفي أعضاد الأسود وفي قارب النمور والفهود وكل ماضغ شيح وقيصوم وعلج من أولئك العلوج وعلجوم يتفكه في أنواع المستلذات من المشروب والمطعوم وكل صعلوك معلوك من تركي متروك أو خدام
مملوك يتحكم في رقاب أكابر الملوك ويستعبدون أحرار أولادهم ويستفرشون زوجاتهم وبناتهم في بلادهم:
على رأس عبد تاج عز يزينه وفي رجل حر قيد ذل يشينهومن لا يعرف البطائن المروية ولم يسمع بالرقاع الكرباسيه يستوطي الإستبراق والديباج ويتقلب على تخوت الصندل والساج ويترقى إلى سرر الأبنوس والعاج ويعامل التجار والمضاربين في البر والبحار بألوف الألوف من الدرهم والدينار فيجي إليهم نفائس المضارب من المشارق والمغارب ومكامن المعادن وذخائر الخزائن كل ذلك بواسطة ذلك الطاغية واستيلاء الفئة الباغية وكان من أمر هذا المصاب الذي بدل حولاة العيش بمرار المصاب وخلد في الدهر قواعد البلايا والأوصاب أن الله القاهر فوق عباده الذي لا يسئل عما يفعل من مراده بل له المراد في عباده وبلاده المتصرف في ملكه تصرف المالك في ملكه لما أراد ابتذال الصون وعموم الفساد في عالم الكون واستئصال غالب أهل الأرض وإذاقة بعض عباده بأس بعض وأظهار آثار غضبه على صفحات الشهود وإبراز أسرار قهره على وجنات الوجود ولحس سطور صدور علماء العالم على روح الورد بلسان نار السخط ذات الوقود ونقص أرض العلم من أطرافها وإخلاء ربوع المحاسن من ألافها اينع هذا التنين المبين من أوعار تلك القفار وأغوار أوغادها تيك التتار فكان
ممتازاً على أقرانه بوفور عقله وحسن بيانه ذا فكر مصيب ورأي صائب وحزم مجيب وعز ثاقب وهمة تباري الأفلاك وثبات يجاري السماك كسر بصدماته الأكاسرة وقص بسطواته القياصرة وقرع بعزماته على قمم الفراعنة والجبابرة وقهر بحملاته قهارمة خوافين القياصرة وكان أميالاً يقرأ أولا يكتب أعجمياً عجر يا لا يحسب ولا ينسب لا طالع ولا اقتفى في سياسة الممالك والآثار بل فرع ما فرعه من القواعد في صحيفة تفكيره واخترع ما ابتدعه من تدبير الملك من مطالعة هو لجنس ضميره فأسس قواعد لو أدركه إسكندر ودارا لما وسعهما لاقتفاء أثره وشيد مباني لو بلغت نمرود شداداً لبنيا قصور قصورها على أركان خبره وخبره ورتب تجهيز السرايا والجنود وربط عقود الجيوش والبنود بطرائق يعجز عنها مهندس الحكمة ويتقاعد عن حل رموزها معزم الفطنة وغاية ما يتعاناه ويستعمله ويتعاطاه جيوش الأتراك في بسيط الأرض من إبرام طرائق عساكرهم والنقض إنما هو من قوانين ما رتبه وأفانين ما هذبه وركبه وله في ترتيب حراب الحروب وما فن الضرب والضراب من ضروب وطرائق الاصطياد مخترعات دقائق لم يسبق إليها من لدن كيخسرو وكيقباد احكم الموافق ونصر المصادق وكبت المعادي وكسر الأعادي واستطال مع كثرة مخالفيه عليهم وأنفذ سهم تحكمه فيهم واليهم وصال فيهم حسبما أراد وجال واتسع له في التضييق على الإسلام والمسلمين المجال
فكل من عامله بالمجاملة وتلقاه بالعبودية وحسن المعاملة أبقى على نفسه وأهله وماله وحصنهم من أليم خيله ورجاله ومن قابله بالمقاتلة وتلافى صف قتالة سورة المجادلة محا سطور ركونه من لوح الوجود وأوطأ سنابك خيله منه الجباه والخدود فخرب ديارهم ومسح آثارهم مع شكره وإسلامهم وتبدد عساكره ونظامهم ومع أن أكثر الملوك والسلاطين وحكام الممالك الإسلامية من الأمراء والأساطين لعدم اكتراثهم بالأتراك والتتر وشدة ما هم فيه من لنخوة والبطر ولاعتمادهم على حصونهم والحصينة وتعويلهم على معاقلهم المكينة ولكثرة العدد والعدد ومساعدة المدد والمدد ولوفور العمائر ببلادهم وخراب بلاده وبسطة استعدادهم وضيق استعداده لم يعاملوه إلا بالمكافحة ولا ردوا جواب خطاياته إلا باللعن والمكالحه والسب والمقابحة ولا قابلوه إلا بالمرامحه والمراوسة والمناطحه فقتلهم وأبادهم واستصفى طارفهم وتلادهم وتوطن ديارهم وبلادهم وأبادهم عن آخرهم وأطفأ قبائل عشائرهم فمد لأكابرهم أسمطة الرزايا ووضع في أفواه أصاغرهم أثدية المنايا وأضافهم في ولائم الدمار وأطافهم على نجائب الانكسار في ملابس البوار فاستأصل شأفتهم بالكليه وحكم فيهم المنية فلم يسبق من مائة ألف إنسان مثلاً مائة إنسان وذلك أيضاً أما على سبيل التغافل أو على سبيل النسيان وسيذكر على سبيل الأجمال ما يدل على تفصيل ما له من أحوال وشواهد ما فزعه من أهوال واستمر ذلك في ذريته وإن كانوا رجعوا عن ملته وأصل هذه الأصلهالتي أضحت بخلقان اللعن أكسى من بصله قبيلة من تلك التتار
الساكنين في تلك القفار تسمى قنات ظلمة عتات غير أمناء ولا ثقات منها آباؤه وأجداده وفيها أقاربه وأحفاده واخوته وأولاده فنشأ
كما ذكر بطلاً باسلاً وشجاعاً كاملاً سهام أفكاره في عمره مصيبة ورهام آرائه في مكره خصيبه ثم اتصل بعد ما أخنى وخان بملك يسمى باونك خان وأظهر من أنواع الفراسة والفروسة والكياسة ما فاق به أناسه وفات من العقل قياسه فقر به الملك وأدناه ولمهماته اصطفاه ولا زال يترقى عنده إلى أن ملك جنده وصار عضده وزنده ودستور ممالكه ومسلك مسالكه وحاكم أمرائه وناظم أمور وزرائه وناظر جمهور كبرائه وعين أعوانه وعون أعيانه وأعز من أخوته وأولاده وأبر من حفدته وتلاده وكثفت حواشيه وعظمت غواشيه وملأت السهل والوعر فواشيه ومواشيه فثقل على الوزراء وصعب على الأمراء إذ مدار الملك صار عليه ومرجع الأمير والمأمور إليه فحسده أولاد الخان وإخوانه وأجناده وأسرته وأعملوا له المكائد ونصبوا له المصائد وتعاطوا إفساد صورته وتواطؤا على إخماد سيرته فصاروا يتناوبون على ذلك في غيبته ويمزقون أديم عرضه عند الخان ويشقون ستر عصمته بمخاليب البهتان ويراقبون الكلام أوقات القبول ويواظبون في السعاية عليه بدلائل المعقول حتى أوغروا صدر الملك عليه وأخذ يفكر في كيفية إيصال الإساءة إليه ولم يقدر على
مواجهته لوفور جماعته وكثرة حاشيته فان أوتاده كانت ثابته وغراس هيبته كالارزة نابتة وفروع دوحة عصابته قد أحاطت بالملك من كل جهاته حتى قيل إن ذلك الثقيل كان له القرابات وذوي الأرحام والعصابات والأولاد والأحفاد ما جاوز في التعداد عشرة آلاف نسمة كل له حرمة وكلمه فأضمر له السلطان البيات وانتخب لذلك من عسكرة أولي الثبات الثقات ولم يختلف عليه في ذلك اثنان لأنه كان قد استحكم فيهم منه الشنآن وعلموا أن سهم مكرهم نفذ وحسام فكرهم في قطعه فلذ ورأوا من الرأي أرصنه أن يراقبوا لحتفه مكمنه فتواعدوا على ليلة معينة يدهمون فيها مأمنه وكان عند الخان صبيان محرمان لا يؤبه إليهما ولا يعول في الأمور عليهما يدعى أحدهما كلك والآخر باده فانسلا من بين أولئك القادة وسلكا طريقاً غير العادة وأتيا تموجين الطاغية اللعين في خفية ونبها وعيه وأخبراه وبصراه وأنذراه وحذراه بما تمالأ عليه الملك مع عسكره المنهمك وقالا أيها العفريت قد طنجت لك قدر التبييت فتنبه من النوم وراقب في الليلة الفلانية هجوم القوم فانه قد مرج المارج الفتنة فامرج وعن وهاد غفلتك اعرج إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك وباعاه من السر ما جرى بتخيير المشتر يوقصا عليه القصص فخلصا طير حياته من القفص وظبى نجاته من القنص فشكر لهما ما فضلهما واستكتمهما قولهما ثم تثبت في أمره عن زيده وعمره وجمع تلك الليلة رجله
وخيله ولم يبد تلك الحال لأحد من الرجال بل أخلى بيوته ولازم سكوته وقصد أحد الجوانب بما معه من راجل وراكب وأقام في كمين ينظر أيصدق الواشي أم يمين فما مضى هزيع من الليل إلا وقد هبطت الخيل فوجدوا البيوت خاليه والأطلال خاوية فتحقق صدق الناقل وأنه ناصح عاقل فعمل مصلحته وأخذ حذره وأسحلته وتقرر وقوع النكد فتقدم أمامهم واستعد فقصدوه وبالأذى رصدوه ولا زالوا يتبعونه حتى التقوا بمكان يسمى ببا لجونه وهو عين ماء في حدود بلاد الخطا فاشتعلت بين الفريقين نار الحرب وقصد كل منهم الآخر بالطعن والضرب فأعانه الله ونصره فكسر الخان وعسكرة وفر بمن معه من فئة وذلك في سنة تسع وتسعين وخمسمائة وغنم تموجين من الأموال والمواشي والأثقال وذخائر الخزائن ونفائس البحار والمعادن ما فات الحد والحصر خارجاً عن سعادة النصر وهرب الخان وتهدمت منه الأركان فجمع جنكيز خان عسكرة وضبط أسماء من حضره ومن كان شاهد القتال ومواقف الحرب والجدال من والنساء والصبيان والرجال ومن خادم ومخدوم وخاصم ومخصوم ومأمور وأمير وكبير وصغير حتى السائس والجمال والطباخ والبغال والطفل والرضيع والنذل والوضيع ومن شهد تلك الغارة أو كانفي تلك الدارة ولو حاضرا للتفرج مع النظارة واستبشر بوجودهم وتميز بور ودهم فأثبتهم في الديوان بأسماء آبائهم وجدودهم وفرق عليهم ذاك الفيء ولم يرفع إلى خزائنه منه شيء بل وزع ذلك المغنم الوافر العظيم المتكاثر على الحاضرين معه العساكر وضبط أسماءهم في الدفاتر وفرق ذلك العرض العربض الطويل على قدر الحقير منهم والجليل ووعدهم بكل جميل
وأما الغلامان اللذان أخبراه وعلى ما كان أضمره الخان أظهراه وكانا سبب حياته وخلاصه من الموت ونجاته فانه جعلهما
ترخان فصار السهم مقاصده كأنهما شرخان والثرخان عبارة عن المعافي المطلق يستوفي حقوقه ولا يقوم بما عليه من حق لا يؤاخذ بقصاص أن قتل وقس على هذا ما يوجب القول والعمل مقضي المآرب موصول المطالب لا يكلف بخدمة ومباشرة ولا بحضور ومعاشرة مهما طلب أعطى ويعد مصيباً ولو يخطى وأعلى مراتبه في مراعاة جانبه أنه يدخل على السلطان من غير استئذان وهو نائم سراريه ونسائه وجواريه فيذكر ماله من مآرب فتقضى ومن شفاعة فتقبل وتمضي ويعطي بذلك مناشير وتواقيع وتقارير تبلغ التاسع من أولاده ويشمل أحكامها جميع أسباطه وأحفاده ولما انتصر وحصل أمنه واستقر وتعاظم أمره واشتهر وعظم وانتشر قرر كل من حضرة تلك الوقعة فيما يليق به من منصب ورفعه فأقبلت القبائل إليه وانهالت الرؤس والوجوه عليه ورجع الخان واستعد وأعد ما وصلت إليه يده من عدد واستعان عليه بالمدد والعدد ثم تقلايا كرتين وتصاولا مرتين انكسر الخان في الأولى وقبض عليه بعد الكسرة في الأخرى وأباده وأستملك بلاده واستولى على عساكره واستحوذ على ذخائره وعشائره وهربت أولاد الخان ولجأت إلى أطراف تركستان ثم راسل سلطان الخطا والصين بكلام رصين يدل على عقل حصين واسم ذلك السلطان التون خان وطلب المهادنة والموافقة والمصافاة والمصادقة فلم يلتفت إلى كلامه فضلاً عن إعزازه وأكرامه على حسبه واستناداً إلى نشبه ونسبه واعتماداً على سعة ممالكه
وكثرة ملوكه ومناعة حصونه وعمارة بلاده ووفرة مملوكه فان ممالك جنكيز خان بالنسبة إلى ولايات الخاقان لاش وأقل من لاش وعساكره وقبائله بالنظر إلى أهل الصين أو شاب أو باش فرجع قصاد جنكيز خان بالخيبة وذكروا ما رأوا لملك الصين من عظمة وهيبة فلم يلتفت إليه ثم قصد التوجه عليه بعدد كالرمال ومدد كالجبال وواقعة فكسره ونافقه فحصره وقبض عليه وأباده واستصفى ولايته وبلاده وكانت هذه الكسرة والنصرة في سنة إحدى وستمائة متن الهجرة فاستقل من غير منازع ولا ممانع ولا مدافع فلما خلصت له الممالك وانقاد له المملوك والمالك أخذ في ترتيب الأمور وتهذيب الجمهور وطير أجنحة مراسيمه إلى أطراف ممالكه وأكناف أقاليمه فرفع جميع ما هم عليه من النهب والغارات والتحزبات وطلب الثارات فهدم قواعد الظلم والتعدي في ممالكه فلم ير أيمن من ولايته ولا آمن من مسالكه وهي ممالك المغل والخطا وإلى الصين شرقاً وولايات المغل والجنا وبلاد الترك وإلى حدود أترار ما وراء النهر غرباً فجرى بعد النهب والأسار في ممالك المغل والتتار والبغي والعدوان العدل والأمان والسلامة والاطمئنان وبعد السرقة والخيانة الوفاء وألمانة وأمر بوضع البرد والمنارات والعلائم والأشارات وعمرت المفاوز والمناهل وسكنت الصحاري والمذاهل وعرفت طرق المهامه
والمجاهل وائتلفت تلك الطوائف والأمم وانتشر صيت عدلها في العرب والعجم واخترع كما ذكر أنواع سياسات وقرر للمملكة قواعد بنيان وأساسات ألف بها بين تلك الطوائف فلم ير بينهم مخالف ولا غير موالف على سعة ممالكهم واختلاف مسالكهم وتعدد أديانهم وتفاوت كيل أخلاقهم وميزانهم فانهم كانوا ما بين مسلمين ومشركين ومجوس وأرباب ناقوس ويهود ومن لا يدين لمعبود وصباه وغواه وعباد الشمس والنجوم ومن يسجد لها أو أن الرجوم وكل منهم بتعصب لمذهبه ويغض من مذهب صاحبه فلم يتعرض لأحد في دينه ولا وقف له في طريق اعتقاده ويقينه وأما هو فلم يتقيد بدين لا كافر مع الكافرين ولا ملحد مع الملحدين ولا يتعصب بملة من الملل ولا يميل لنحلة من النحل بل يعظم علماء طل طائفة ويحترم زهاد كل ملة على دينهاعاكفة وبعد تلك الخصلة قربه حيث يعظم كل دين وحزبه وكل من احتار من أولاده وأسباطه وأحفاده وأمرائه ورعيته وأجناده ديناً من الأديان لا يعترض عليه أي دين كان فبعضهم كان مسلماً حنيفاً وبعض كان يهودياً وبعض نصرانياً مجوسياً إلى غير ذلك من الإلحاد والزندقة وعدم الاعتقاد وحيث لم يتعرضوا إلى دنياه ولا نازعوا ملكه الذي تولاه لم يشاققهم في دينهم ولم يوافقهم في يقينهم واخترع هو لنفسه في الملك قواعد حمل عليها المقارب والمباعد ثم لما لم يكن له كتاب ولا خط ولا لأولئك الحروف قلم يعرفون به قط أمر أذكياء قبيلته وعقلاء مملكته أن يضعوا له خطاً وقلماً يكون لهم علما وعلما فوضعوا له قلم المغل واشتغلوا به أهم شغل نسبوه إلى قبيلته
ليدلوا به على فضلته فقالوا قوتاً تقويعني قلم قتات وهي قبيلة ذلك القتات فوضعوا مفرداته ورتبوها ثم حملوها وركبوها وهي أربعة عشر حرفاً ظاهرة بيتهم لا تخفي وهذه صورة مفرداتها
فأمر أولاده وأحفاده وجماعته وأجناده ومهرة الرجال والأذكياء والأطفال أن يتعلموا هذا الخط وينشروه ويتداولوه ويشهروه بينهم حتى ملأ رأسهم وعينهم فرسموا به المراسيم والمناشير ورصعوا بجواهره جباه المساطير ووضعوا الرسومات الديوانية والتوقيعات السلطانية وابتدع لهم يتواريخ وحساب كل ذلك بهذا الكتاب ثم لما تقرر أمره وانتشر في الآفاق ذكره مهد قواعد أسسها ونصب في دوحة ملكه أصول خلاف غرسها ووضع على ما اقتضاه رأيه التعيس وفكره الخسيس طرقاً وافانين ودرب في أمور الحكومات أساليب وقوانين فجعل لكل حكومة حكماً وفوق لكل حادثة سهماً وفرع لكل حسنة مثوبة ولكل سيئة عقوبة وقرر لكل معصية حداً ولكل بنيان مخالفة هذا ولكل فرع أصلاً ولكل سهم من الوقائع نصلاً وبين كيفية الصد والحرب وسلك في كل ذلك الطريق والدرب وألقى دروس ذلك على أولاده وحفدته وجيوشه ورعيته بحيث أنهم حفظوها ورعوها وفي سير سيرهم هرجاً ومرجاً فمن أحكامها المظلمة وفروعها المعتمة صلب السارق وخنف الزاني وأن شهد بذلك واحد فلا يحتاج إلى ثاني ثم فصل حد السارق بهذيان فارق في السرقة من حركاه أو بيت شعرواه بوجوب الصلب وبقطع اليدان كان بالنقب ثم كلا السارقين يؤخذ ما لهما من مال وعين ويسترق ما لهما من أولاد وينتقل إلى السلطنة ما لهما من طريف وتلاد
ومنها حقية دعوى من سبق سواء كذب أو صدق ومنها استعباد الأحرار وتوارث الفلاح والأكار ومنها توريث نكاح لزوجة لأقارب الزوج وتداولهم إياها فوجاً بعد فوج فان تزوجها أحد منهم كان أحق بها ولا تخرج منهم وإلا زوجها بمن شاؤا وأخذوا مهرها وباؤا ومنها عدم العدة وعدم انحصار الزوجان في عده ومنها الأخذ بقول الجواري والصبيان وبما يتفوله على الرجال العبيد والنسوان ومنها امتثال أمر السلطان على الفور من غير توان ومنها لزوم ما لا يلزم من العطايا وإيجاب ما يتبرع به الإنسان من التجملات والهدايا حتى لو أعطى شخص شخصاً من ماله هدية أو شقصاً فان ذاك يلزمه وفي كل عام يغرمه ومنها الجثو بين يدي الحاكم على الركب وقت التحاكم ومنها مطالبة الجار بالجار ومعاقبة البريء بجريمة مرتكب الأوزار وذلك لأدنى مناسبة من معرفة أو مصاحبة فضلاً عن أكبر أو شديد قرابة ومنها أن لا يتقدم الوضيع على الشريف ولو كان ذا مال عريض وجاه كثير ومنها العمل بما يقتضيه العقل والكف عما لا يدركه ولو ورد به النقل ومنها منع عفو الحاكم وأن عفا المظلوم عن الظالم ونحو هذه الخرافات الباطلة والهذيانات العاطلة ومن أسخفها وأوسخها وأخسفها أنه لو أخذ أحداً أبله عن قواعدهم ذو غفلة من ثب أحدهم قملة فان دفعها إلى صاحبها خلص من تبعية عواقبها وغرامة مطالبها فان شاء قصعها وأن أراد وضعها وربما اختار عودها إلى مكانها فرجعها وأن قتلها أو رماها وإلى صاحبها ما أداها فان صاحبها يخاصمه وإلى حاكم التتار يحاكمه ويدعى عليه بين يديه بان هذا الإنسان عمد إلى حيوان
ربيته بين سحري ونحري وغذيته بدم صدري وظهري قصدا وأضاعه عمداً منغير سبب تقدم إليه ولا إيذاء اجترأ به عليه فينسب إلى الأجترام ويأخذ ديتها منه بالأغترام وقس على هذا اليسير أنواعاً من الكثير ومن نتن هذه البعرة على خرافة البعير ومن هذه القواعد أمر الأقارب والأباعد بما يستصوبه العقل ويستنتجه النقل من سلوك طريق الفتوة ومعاملة الخلق بالمروة والكرم والإحسان والمداراة مع كل إنسان والكف عن الظلم والغارات اللهم إلا في طلب الثارات ثم وضع طرق المكاتبات والمراسلات والمشافهات والمخطبات فكان فكان في المكتبات طريقة رسمه أن لا يزيد على وضع اسمه مثل أن يقول في أول الكتاب وبراعة استهلال الخطاب عند ابتداء المقال بعد عدة أوصال جنكيز خان كلامي ثم يكتب تحته من نصف السطر الثاني إلى فلان ليفعل كذا ولا يتعلل بان وإذا ثم يذكر مخ المقصود بطريق معهود بين العبارات من غير مجازات واستعارات ويختم بذكر الزمان واسم المنزل والمكان وإذا استدعى أحداً إلى الطاعة وملوك السنة أسوة الجماعة فانه يتجنب التهويل والتهديد ويتحامى عن التشريد والتشديد ويرغب بالوعد ويترك الوعيد ثم يقول أن سمعتم وأطعتم فزتم وغنمتم وأن أبيتم وتماديتم فليس أمر ذلك إلينا ولا درك علمه علينا ويرى فيكم الخالق القديم رأيه فان في تقديره وتدبيره كفاية فهذه القاعدة باقية في تلك
الفئة الباغية مستمرة على الدوام وإلى هذه الأيام وجارية على هذا النمط يكتبون اسم الخان والخاقان فقط وكذلك الأمراء والوزراء والمباشرون والكبراء يكتبون في أول الكتاب فلان لا كنية ولا جناب وهكذا إلى الأكابر من الأداني يذكرون اسم الكبير ووظيفته فلان لا الفلاني
ولما فرغ من ترتيب هذه القواعد الملعونة وخرج بها على خلاف الشريعة الميمونة وقرر عليها الأمور الديوانية والأحكام السلطانية أمر بها فكتبت وبهذا الخط رتبت ورسمت في طوامير ولفت في شفق الحرير وزمكت بالذهب ورصعت بالجواهر كما فعل ماني النقاش الكافر واضع مذهب المجوس ومصور على صفحات الطروس ومبرز بطريق المحسوس ليكون أقرب إلى تفهيم النفوس في كتابه المسمى بزند واستاثم أمر باحترامها وتوقيرها والمحافظة على ضبطها وتحريرها والعمل بها والإقتداء بما فيها وتعلق أهل ملته بقوادمها وخوافيها ثم رفعت إلى خزائنه وهي عندهم أعزو من الكبريت الأحمر في معادنه واسمها بالمغلي التوره وتفسيرها الملة المأثورة فإذا جلس منهم سلطان على سرير وذلك بما للرؤساء من اتفاق وتدبير وعادتهم في ذلك أنهم إذا رفعوا عليهم سلطاناً وأرادوا أن يبنوا الدار المملكة خاناً اجتمع الأمراء من الأطراف واستدعوا أركان الثغور والأكناف واشتروا فيما بينهم مدة أيام واستمروا في ذلك ما بين نقض وإبرام وربما أقاموا في ذلك الجمع العام حولاً جميعاً أرضعفي عام ويسمون تلك الجمعية قورلتاي وهي مستمرة الحكم في المغل والحفتاي وسبب ذلك تدافع الإمرة والفرار من تلك السلطنة الحلوة المره كما كان الصحابة الكرام يتدافعون الفتاوى خوف الآثام
فإذا وقع الاتفاق بين الرفاق وأمراء الجند ورؤساء الآفاق على واحد من أولاد الخان وأن يكون عليهم الممالك والسلطان وتصوب الرأي عليه وتسدد وضعوه على لبد أسود ثم رفعه من الأرض إلى السرير أربعة أنفس مكل أمير كبير كل حامل بطرف رافع في زعمه راية الشرف والخان يصيح بلسان فصيح يا رؤساء ويا أمراء ويا ملوك ويا زعماء أنا ما أقدر أن أتسلطن عليكم ولا طاقة لي أن أتحكم لديكم ولا قوة لي بهذا الحمل الثقيل والدخول تحت هذا الأمر العريض الطويل فيقولون بلى يا مولانا الخان تقدر أن تقوم بحمل أعباء هذا الشأن فيتكرر الخطاب ويتعدد الجواب حتى يجلسوه على السرير ويبتهج بذلك الكبير والصغير والمأمور والأمير ثم يأتون بالتوراة الجنكيز خانية الملعونة الشيطانية مجبلة معظمة محترمة مكرمه فينهضون إعظاماً لها ويتبركون بمسكهم أذيالها فينشرونها ويشهرونها ثم ينصتون فيقرؤنها ثم يبايعون الخان على إقامتها وأن يراعى أحكامها حق رعايتها ويبايعهم على امتثال أحكامها وإجراء نقضها وإبرامها فيجيب كل منهم الأمر على ذلك وأن يقيم شعائرها المملوك والمالك ثم يضربون له الجنوك ثلاث مرار ثم يتوجهون إلى الشمس في وجه النهارويضربون لها الجنوك ويسجد لها من فيهم من ملك ومملوك ولا يفعلون هذا الفعل الشنيع إلا في أيام الربيع فإذا تعاقدوا وتبايعوا وتعاهد وتتابعوا رفعوا تلك الكفريات واحضروا الآلات الخمريات فأدار الخان عليهم الكاسات واستعملوا الأقداح والطاسات وفتح الخزائن وأظهر المكامن ونثر النثار من الدرهم والدينار وخلع الخلع والتشاريف وأعاد في دروس النفائس أبحاث
التصريف واستمروا على ذلك أياماً والأنعامات تدر عليهم خاصاً وعاماً ثم يأذن لهم فيتفرقون ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون وهذه الطريقة مستعملة وإلى آخر وقت غير مهملة في جميع ممالك الشرق من الخطا والدشت والصين والمغل والجتا وفي ولايات الجفتاي والروم قد اعتاد والغالب هذه القواعد والرسوم فقدموها على القواعد الإسلامية والشرائع الأحمدية المحمدية اللهم ألهمنا الصواب ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب وسبب تحركه إلى ممالك الإسلام وتوجه عنان سخطه إلى طلب الانتقام هو أنه لما استقر أمره وانتشر بعد الجور بالعدل ذكره وطابت بلاده وأمنت وخمدت حركات الظلم وسكنت توجه من بلاد ما وراء النهر فئة في سنة ثلاث عشرة وستمائة فيهم ثلاثة أنفار من أعيان التجار أحدهم يدعى أحمد الخجندي والآخر عبد الله ابن الأمير حسن الجندي والثالث أحمد بلجيخ ومعهم من أنواع المتاجر ونفائس الأقمشة والذخائر ما يصلح للملوك أولى المفاخر فوصلوا إلى بلاده
الجاري فيها مياه كفره وعناده وانتهوا إلى قوقات والمسيل وهما محل سريره الذليل فاكرم نزلهم ورفع محلهم وأنزلهم في قباب بيض وأفاض عليهم الكرم العريض وكان شعار المسلمين في تلك البلد أن ينزلوهم في قباب بيض من لبد وكانوا يقربون المسلمين ويحترمونهم دون الناس أجمعين ثم أن جنكيز خان دعا أحد أولئك الأعيان واستعرض قماشه وساومه بعد ما قربه
وأكرمه فطلب منه أضعاف ثمنه وسامه ما يقضي بغببه وغبنه فما رد جوابه ولا اعتبر خطابه ثم طلب رفيقه واستعرض بضائعهما عليه ثم ساومهما الثمن فقالا يا ملك الزمن أن صلح هذا القماش فخذ مناك به بلاش فليكن ثمنه رضاك وهدية في مقابلة ملتقاك وتقدمة منا إليك بل خدمة لخادم أدخلنا عليك فأعجبه هذا الحوار وقال بل أنتم تجار إنما جئتم لتربحوا وتكسبوا علينا وتنجحوا وأنتم ضيوفنا فالأولى أن يشملكم معروفنا ولكن أنا أقول قولاً وأدفع إليكم نولاً فان رأيتم فيه فائدة وعاد عليكم منه عائدة قبلتموه وإلا فالرأي فيما رأيتموه ثم ذكر لهما مبلغاً أرضاهما وبلغ به منتهى مناهما بحيث ربح درهمهما ثلاثة وأربعة وتضاعفت لهما مع قرب الملك المنفعة فقالا رضينا بما رسمت وأنعمت وقسمت فقال لرفيقهما الأول أن رضيت بمثل ما رضى به صاحباك فتخول وإلا فخذ متاعك وتحول وشأنك وقماشك ونحن مع ذلك رياشك فقال رضيت بما رضيا به وتلطف في خطابه وجوابه فأمر في الحال وأحضر المال ووزن الثمن وزاد ومن وألبسهم الخلع وأفضل في المصطنع وأمر ببضائعهم فرفعت في خزائنه ووضعت ثم أمر خواص بطائنه أن يدخلوا خؤلاء التجار إلى خزائنه فلما دخلوا إليها ووقع نظرهم عليها رأوا من نفائس الأموال والذخائر وأصناف الأقمشة والحرائر وأنواع الجواهر الملوكية وأجناس الأمتعة الكسروية واعلاق ملوك الصين والسلاطين ما أبهت نواظرهم وأدهش أبصارهم وبصائرهم فنزهوا في محاسنها أبصارهم وأودعوا محاسن مخيلاتهم أفكارهم ثم أتوا بهم إليه وأدخلوهم عليه
فقال ماذا رأيتم في الخزائن من نفائس البحار والمعادن فقالوا ما لا يصلح إلا في خزائنك ولا ينثر على فرق ملوك المشارق والمغارب إلا من مكامن معادنك فقال ما بايعناكم فارغبناكم ولا أكرمناكم إذ صحبناكم بناء على أنا عادومون ولا أنا بقيمة الأشياء وقدرها جاهلون وإنما فعلنا ذلك الإحسان وجبرنا منكم لنقصان العدة معان أحدها أنكم أضيافنا وقد شملكم كرمنا وأنصافنا ثانيها أن فضلنا الفضيل يقتضي إكرام النزيل ثالثها إنكم مسلمون والمسلمون عندنا مكرمون رابعها أردنااشتهار اسمنا وأن تذكر في الأقطار طريقة رسمنا خامسها أنه إذا سمع بمعاملتنا التجار يقصدون بلادنا من الأمصار وسائر الآفاق والأقطار فتعمر المسالك والدروب ويربح الطالب والمطلوب سادسها وهو أعلاها وأحسنها وأقواها أنكم أملتمونا وافدين وإنا لا نخيب رجاء القاصدين ثم سرحهم شاكرين ولما سمعوا ورأوا ذاكرين ثم اقتضت الآراء فأمر الأمراء وأكابر بلاده ورؤساء أجناده أن يجهز كل منهم إلى الجهات الغربية والولايات الإسلامية من جهته أحد المسلمين ببضائع من أمتعة الخطا والصين في صفة التجار ليتعاملوا في هذه الديار وتنفتح المسالك على السالك وننقل إليهم بضائع هذه الممالك وتكثر المعاملات وتنجد الممالك والولايات فامتثلوا مراسيمه وعدوها غنيمة ويجهز كل منهم جهته من وثق بأمانته واعتم على كفايته وأعطاه من النقود والأجناس ما يصير به من رؤساء الناس واجتمعوا قافلة وركبوا السابلة نحو أربعمائة وخمسين نفرا كلهم مسلمون كبرا وكتب لهم مراسيم وجائزات بإكرام نزلهم في الدروب والمجازات ومعاملتهم بالكرامات وأن تهيأ لهم ولدوابهم الإقامات ذهابا وإيابا حضورا وغيابا
ثم أرسل معهم إلى السلطان قطب الدين محمد بن تكش علاء الدين بن أرسلان بن محمد بن انوشتكين وانوشتكين هذا هو أتابك الملوك السلجوقية والسلطان قطب الدين هو الفائق من تلك الذرية رسالة عاطرة تستميل خاطره وتسيل من سحائب كرمه مواطره وحسن الجوار ومراعاة جانب الجار وسلوك ما تنتظم به الأمور وتطمئن به الصدور ويحصل به الأمن للصادر والوارد والرفاهية للقائم والقاعد وتنعقد به أسباب المحبة من الطرفين وأطناب المودة بين الجانبين وفتح باب المراسلات وكشف حجاب المعاملات وإن كانت الأديان مختلفة فلتكن القلوب مؤتلفة وشمول نظر الصدقات السلطانية وعواطف مراحهما
الملوكية على القصاد الوافدين على أبواب مكارمها المستمطرين سحائب صدقاتها وديمها بحيث تسنى مطالبهم وتهني مآربهم أو كما قال وصدر منه السؤال هذا وما أخبار السلطان قطب الدين فإنه كان من أكبر الملوك والسلاطين تملك عراقي العرب والعجم وما في ممالك خراسان من أمم واستولى على غالب الممالك بالقهر وإلى أقصى ولايات ما وراء النهر وجعل جرجانبة خوارزم مأواه وتلقب لذلك خوارزمشاه ورفع ما بين ممالكه وبين ممالك جنكزخان من التتار المسمين بقراجفتاي وعباد الأوثان واسترقهم قهرا وقسرا واستصحبهم جبرا وكسرا واستولد من تلك
الطائفة المعتدين ولده السلطان جلال الدين فبواسطة أنه صار له منهم ولد صاروا أقرب عساكره إليه وعليهم المعتمد فكانوا شعوبا وقبائل يخرج منهم سبعون ألف مقاتل ومنهم أيضا كانت أمه وأخواله وخيله ورجاله إلى أن خانوه وبذلوه وما صانوه واستدفع بهم طارق البلاء فكانوا (غريبة نادرة عجيبة) كان هؤلاء التتار متاخمين بلاد أنزار وهي حد ممالك السلطان وهي سد عظيم بين المسلمين وبين جنكزخان فغزاهم السلطان وأبادهم واستعبد كما ذكر أجنادهم فارتفع السد من البين وانهدم الفاصل بين الجانبين واتصلت المملكتان كالمحبين أعني مملكة السلطان ومملكة جنكزخان فسرت السرائر وابتهجت الضمائر ودقت في ممالك السلطان قطب الدين البشائر وزينت الولايات بأنواع الذخائر وكان في نيسابور من أكابر الصدور شخصان من العلماء فاجتمعا وأقاما العزاء فسئلا عن موجب هذا البكاء وإنما الناس في فتوح وهناء فقالا أنتم تعدون هذا السلم فتحا وتتصورون هذا الفساد صلحا وإنما هو مبدأ الخروج وتسليط العلوج وفتح سد يأجوج ومأجوج ونحن نقيم العزاء على الإسلام والمسلمين وما يحدث من هذا الفتح من الحيف على قواعد الدين وستعلمن نبأه بعد حين وأنشد فأرشدا:
وعلمت أن فراقكم لا بد أن
…
يجري له دمعي دما وكذا جرى
وكان السلطان قد دانت له البلاد واستولى على أهل اليفاع والوهاد وأباد العجم وتفرد بسياسة تلك الأمم وتخت ملكه خوارزم وقد صمم العزم بحزم وحمل الناس على نزع الخلافة من آلعباس ووضعها في آل علي وقد توجه إلى العرق بهذا القصد الجلي فوصل إلى حدود العراق وهو مجد على هذا الاتفاق فوصل أولئك التجار إلى انزار من صوب جنكزخان وبها من جهة السلطان نائب يدعى قايرخان فلما وصلوا البلد أخبرهم النائب الرصد فحبسهم عنده في مكان وأرسل يستأمر فيهم السلطان وبشع العبارة وشنع السفارة وذكر أنهم جواسيس تستروا بالتجارة وإن معهم من الأموال ما يوازي الرمال ويوازن الجبال مصراع (وما آفة الأخبار إلا رواتها) فأمره بقتلهم وأخذ ما معهم وسلبهم ففي الحال أبادهم وسلبهم طارفهم وتلادهم وأرسل المال إلى السلطان وأوصله حسبما رسم به الديوان فطرحوه على تجار بخارى وسمرقند كما يطرح على مساكين دمشق القند واستخلصوا ثمنه بالظلم وزادوا عليهم فيه الغرم وكان سبب ذلك أن تاجرا عند قايرخان أراد أن لا يكون عند السلطان تاجر سواه فتبعه قايرخان لما أغواه فتعددت الأسباب وانفتح للشر أبواب وقالوا شر أهر ذا ناب فلم يفلت منهم سوى رجل واحد أنجاه الله من العدو والحاسد فاختفى واتصل إلى بلاده وأخبرهم بوقوع الأمر وفساده
فغضب جنكزخان وتحرك منه باعث العدوان ثم تثبت في أمره وتلبث في فكره وأرسل إلى السلطان رسالة فيها تهديد وبسالة وكان السلطان خوارزمشاه لما أبدى هذا الخطأ وأنهاه طير مراسيمه إلى أطراف الممالك يأمرهم بالمحافظة على در بندات المسالك ويحرض ولاة الأمور وأصحاب الإدراك في المضايق والثغور والطلائع والإرصاد على منع القصاد وكف من يخرج من تركستان إلى صوب ممالك جنكزخان ثم أرسل من جهته جواسيس يختبر أحوال ذلك الإبليس وينظر أموره وأوضاعه ومقدار عسكره وأمرهم في الطاعة وما قصده أن يفعل ليستعد بحسب ما يعلم منه ويعمل فتوجهت جواسيس السلطان وطال في غيبتهم الزمان وقطعوا الجبال والقفار وسلكوا المفارز والأوعار حتى وصلوا إلى بلاده وفحصوا عن أمره واستعداده وخبروا أمر جنده وعتاده وأوضاع عسكره وتعداده فرجعوا بعد مديدة وأزمان وأخبروا بما حققوه السلطان وأن عدد عساكره يفوت الإحصاء ويخرج عن دائرة الاستقصاء وأنهم أطوع البرية للملك وأثبت جنانا من الأسد المنهمك وأصبر جندا على القتال كأن أمر الهزيمة عندهم محال وأنهم إذا واثبوا أو حاربوا أو سالبوا أو لاسبوا أو رابضوا أو ضاربوا خابطوا ثم خاطبوا بقوله:
ونحن أناس لا توسط بيننا
…
الصدر دون العالمين أو القبر
وإنهم لا يحتاجون في الأسفار ولا عند مقاحمة الأخطار إلى كثير مؤنة ولا كبير معونة بل كل منهم ينهض باحتياجه واحتياج مركوبه إلى الجامه وأسراجه ويستبد بعمل سلاحه وجميع ما يستعين به سفرا وحضرا في صلحه وصلاحه ونطاحه وكفاحه وكذلك ملبوسه وزاده وسائر هبته وعتاده
فندم خوارزمشاه على ما قدمت يداه من قتل أصحابه وفتح الثغر وبابه وأنى يجدي الندم وقد زلت القدم وتبدل الوجود بالعدم وغرق في بحر الهموم وهمى عليه غمام الغموم فشاور لما لقي الشهاب الخيوقي وهو فقيه فاضل ونبيه كامل عالم أجل كبير المحل له عند دمحل خطير لا يخالفه فيما يشير فإن رأيه سديد وقوله رشيد فقال له يا إمام قد تحرك على الإسلام عدو ألد الخصام بعساكر كالرمال ذوي صدمات كالجبال فما ترى فيما طرأ فقال عساكرك كثرة وأنت ذو قوة ووفرة وزفر أقدامك له زفرة فكاتب الأطراف وأجمع عساكر الأكناف وادع أهل بيضة الإسلام إلى هذا النفير فإنه عام فإذا وفدوا عليك وتمثلوا بين يديك توجه بهم إلى نهر سيحون واجعل ساحله من تلك الجنود مشحون واملأ بهم تلك المهامة والقفار وحصن ممالكك إلى حدود انزار فإن أقبل العدو المخذول لم يصل إلا وهو من الكلال محلول فإنه يأتي من بلاد بعيدة بجنود عديدة وقد أثر فيه الغضب وأخذ منه التعب والوصب فتلاقيه على سيحون وهم كالون ونحن مستريحون فجمع بعد ذلك أمراءه ووزراءه وزعماءه وعرض عليهم ما جاءهم وطلب منهم آرائهم فلم يرتضوا رأي الشهاب لأمر يريده مسبب الأسباب وقالوا بل نتركهمحتى يقطعوا الأوعار والمضايق ويتورطوا في بلادنا
في بالعوايق فتزداد مشقتهم وتطول في المسير شقتهم لا سيما وهم بأرضنا جاهلون وعن مداخلها ومخارجها ذاهلون فإذا حصلوا في قبضتنا كان أمكن لنهضتنا فنضيق عليهم واسع رحابها وأهل مكة أخبر بشعابها وذهل أولئك الجمع عما رآه الفقهاء وهو أن الدفع أولى من الرفع وبينما هم في المشاورة والمراودة ورد قاصد جنكزخان برسالة المناكدة وفيها من التشنيع والتقريع والتهديد والتبشيع العجب العجاب وما يشيب الغراب فمن جملة تشنيعاته ومضمون تهويلاته ما معناه في فحواه كيف تجرأتم على اصحابي ورجالي وأخذتم تجارتي ومالي وهل ورد في دينكم أو جاز في اعتقادكم ويقينكم أن تريقوا دم الأبرياء أو تستحلوا أموال الأتقياء أو تعادوا من لا عاداكم وتكدروا عيش من صادقكم وصافاكم أتحركوا الفتن النائمة أو تنهضوا الشرور الجاثمة أو ما جاءكم عن نبيكم وسريركم وعليكم أن تمنعوا عن السفاهة غويكم وعن ظلم الضعيف قويكم أو ما أخبركم مخبروكم وبلغكم عنه مرشدوكم ونباكم محدثوكم اتركوا الترك ما تركوكم وكيف تؤذون الجار وتسيئون الجوار ونبيكم قد أوصى به مع أنكم ما ذقتم طعم شهده أوصابه ولا بلوتم شدائد أوصافه وأوصابه ألا وإن الفتنة نائمة فلا توقظوها
وهذه وصايا إليكم فعوها واحفظوها وتلافوا هذا التلف واستدركوا ما سلف قبل أن ينهض داعي الانتقام ويتحرك من الفتن حامي الاضطرام ويقوم سوق الفتن ويظهر من الشر ما بطن ويموج بحر البلاء ويروج وينفتح عليكم شد يأجوج ومأجوج وسينصر الله المظلوم والانتقام من الظالم أمر معلوم ولا بد أن الخالق القديم والحاكم الحكيم يظهر أسرار ربوبيته وآثار عدله في بريته فإن به الحول والقوة ومنه النصرة مرجوة فلترون من جزاء أفعالكم العجب ولينساب عليكم يأجوج ومأجوج من كل حدب وكان اللعين جنكزخان قد مشى على تركستان وأخذ منها عنوة كشغرو بلاساغون وصار تافي حوز ذلك الملعون وكانتا في يد كوجلك خان ابن أونك خان المار ذكره في أول القصة لما قتله حنكزخان وقصة هرب ولده كوجلك خان المغبون واستقر في شاغروبلا ساغون إلى أن مشت العساكر عليه وأخذت تلك الأماكن من يديه فلما وصل هذا الخطاب إلى ذلك الأسد الوثاب أمر بمقدم القصاد ورئيس أولئك الوراد فضربت رقبته وبمن بقى فحلقت لحيته وسخمت بالسواد حليته ردا لجواب بأبشع خطاب ومن فحواه وبارد ما حواه إني سائر إليك وهاجم عليك بجنود الإسلام وأسود الآكام وكل بطل ضرغام ولو بلغت مطلع الشمس فحلك في قعر الرمس وجاعلك كذاهب أمس فتيقن ذلك واعلم إنك لا محالة هالك ورد قصاده على عقبهم وقصد التوجه في ذنبهم
فتجهز وصار بعسكر جرار إلى صوب التتار وأوصل السير وسابق الطير وأراد أن يسبق الخبر ويكبس التتر ويريهم عين العلة قبل الأثر فألوى من العراق
وسار وساق فقطع ممالك خراسان وولايات ما وراء النهر وتركستان وهجم بذلك البحر الزخار في تلك المهامة والقفار فوصل إلى حشم في بيوت وهم آمنون في سكون وسكوت ليس فيهم غير نساء وصبيان ومواش وبعران رجالهم غائبة وأمورهم بواسطة الأمن سائبة وكانت رجالهم توجهت لأخذ الثار من بعض التتار بواسطة عدوان وقع بينهم وبين كوجلك خان فقاتلوهم وكسروهم ونهبوا أموالهم وهصروهم ففي غيبتهم وصل السلطان إلى بيوتهم وفي أمنهم وسكونهم وليس فيهم إلا الحريم والأطفال والمواشي والأثقال لا يؤبه إليهم ولا يعول عليهم فاستولى عليهم ونهبهم وسلبهم عيشهم وأمر العساكر فنهبوهم وأسروهم وفرقوهم وكسروهم وهم الجم الغفير والعدد الكثير والمال الغزير ورجع السلطان من فوره وابتدأ في حوره بعد كوره وتصور أنه أعنى وأنكى وأنه أضحك وليا وعدوا أبكى فما هو إلا وضع على القرح كيه وداس ذنبه الحية ثم رجع التتار ورأوا ما حل بأهلهم من بوار وإنهم أخرجوا من ديارهم وأولادهم ونكبوا في طريقهم وبلادهم وأن نساءهم أسرت وصفقتهم خسرت فما وفت نصرتهم بسكرتهم ولا قامت فرحتهم بحسرتهم التهبوا واضطربوا واصطلموا واصطدموا وأخذتهم الحمية وعصبتهم
العصبية وتنادوا ياللغارات وطلبالثارات وتناجى منهم حماة الحقايق وكماة المضايق وتتبعوا في الحال آثار الرجال من غير إهمال ولا إمهال وسلكوا الآثار لأخذ الثار وأكبوا كالبرق الخاطف وزعقوا كالرعد القاصف واندفعوا كالريح العاصف واندفقوا كالسهم الناقف ودهموا كالليل المدرك وهجموا كالسيل المهلك فأدركوا عساكره بشرور ثائرة ومراجل صدور بالضغائن فائرة فلم يشعروا إلا العدو المضرم غشيهم كالقضاء المبرم فألوت عساكره وقابلت واستعدت وقاتلت والتفت الرجال بالرجال وضاقت ميادين المجال واستمرت ضروب الحرب بينهم سجال وتطاولت سهام الموت لقصر الآجال وتهللت ثنايا المنايا لبكاء السيوف وتبسمت ثغور الرزايا لفتوح الحتوف واستمرت ديم السهام من غمام القتام على رياض الصدور تهمي ولوامع بروق السيوف على قمم تلك الصفوف بعد الوابل الوسمي بالصواعق ترمي ثم انتقلوا من معاشقة المراشقة إلى مراشقة المعانقة ومن مكالمة المضاربة إلى ملاكمة الملاببة ومن مخادعة المقارعة إلى مسارعة المصارعة وامتدت بهم الحال في هذا القتال والجدال ثلاثة أيام مع الليال لا يسأمون الطعن والضرب ولا يملون مباشرة الحراب والحرب إلى أن جرى من الدماء طوفان وكاد يظهر سر كل من عليها فإن كل ذلك وكاتب البيض والسمر يستوفي من أقلام الخط في صحائف الصفائح مستوردات
العمر ولم يسمع بمثل هذا القتال ولا بنظير هذا الضراب والنضال في سالف الأزمنة والأعصر الخوال وما أمكن تولي إحدى الطائفتين ولا نكوص جهة من الجهتين أما طائفة المسلمين فلحمية الدين ولو ولوا الأدبار لما أبقت التتار لبعد الديار وصعوبة القفار منهم نافخ نار وأما الكفار فللغيرة على ذوات الأستار واستخلاص الأطفال والصغار من قيد الذل ورق الاسار فصارت الخضراء غبراء والغبراء حمراء والصحرا بحرا والقتلى تلا والجرحى ترحى ولم يثبطهم عن استيفاء القتال غير انحلال الأعضاء والكلال فانفصلوا وما انفصلوا وانقطعوا بعد ما اتصلوا وحلوا بعد ما كلوا وتراجع كل عن صاحبه بعد ذوبان قلبه وقالبه واستفراغ جهده بما وصلت إليه غاية كده ثم استوفى ناظر القضاء ما أورده عامل الفناء من سهم المنون إلى ديوان برزخ إلى يوم يبعثون من أرواح الشهداء الأبرار وأنفس الأشقياء الكفار الوار من تلك المعركة الساكن من حركات هاتيك التهلكة فكان من المسلمين عشرون ألفا ومن الكفار كذا وكذا ضعفا غير أنه لم يمكن حصرهم ولم يعرف قدرهم فلما كانت الليلة الرابعة وهي الليلة الفارقة القاطعة أوقد كل من الفريقين في منزله النار وأكثر من القبائل في المنازل والآثار وتركها وسار فوصل السلطان من بلاد تركستان وقطع سيحون نهر خجند ووصل إلى بخارى وسمرقند وشرع في تحصين البلاد والقلاع والاحتفاظ بمدن الممالك عن الضياع وقد سكن الهم فؤاده ونهب
القلق والأرق رقاده وعلم المسلمون أنه خان وأنه لا طاقة لهم بالتتار فخافوا حلول البوار ونزول الدمار وتيقنوا خراب الديار لأن السلطان عاجز ولا بد من قدوم بلاء ناجز وقالوا إذا كان هذا الخور من شرذمة قليلة من التتر في طرف من أطراف بلاده لا فيهم أحد معتبر من أجناده ولا
رئيس يشار إليه من أولاده ولا درى ولا أعلم بما جرى فكيف إذا دهم بطامته الكبرى وأحشاد جيوشه العظمى فترك خوارزمشاه ببخارى عشرين ألف مقاتل وفي سمرقند خمسين ألف مناضل وقرر معهم أنه سيجمع الجنود ويستجيش أبطال المسلمين ويعود وتوجه بثبات عزم وإضاعة حزم إلى سرير ملكه خوارزم ثم انتقل إلى خراسان وخيم بضواحي بلح في مكان وأقام رخى البال كأن الشيء ما كان ثم لا زال يضمحل ويذوب ويحل به ما يحله من نوائب الخطوب حتى انتقل إلى جوار الرحمن في أطراف طبرستان في سنة سبع عشرة وستمائة وكانت ولايته في العشرين من شوال سنة ست وتسعين وخمسمائة وكان ملكا عظيما وسلطانا جسيما ذا صولة فاهرة ودولة باهرة وجولة أرقدت الملوك بالساهرة فاضلا فقيها عالما نبيها اضمحل بأدنى حركةملكه وغرق في بحر الفناء بعد الطغيان فلكه وركن إلى الخطا فوقع فيه وخانته عساكره ومخالوه ودود الخل منه وفيه كان في خزنته عشرة آلاف دينار من أجناس الأقمشة والأمتعة والأسلحة ما لا يحصيه إلا الواحد القهار وكان فيها ألف حمل من القماش الأطلس
وأضعاف ذلك من نفيس النفائس وأنفس ومن الخيل المسومة عشرون ألف جنيب ومن المماليك الملوك عشرة آلاف كل له في دار الملك ربع خصيب وأوفر حظ ونصيب فما أفاد ذلك ذره بل نبشوا بعد موته قبره وقطعوا رأسه وفجعوا به ناسه فسبحان من لا يزول سلطانه وعز وعلا من لا يذل شأنه:
فما كف ذو كف له رائد الردى
…
ولا مال بالأموال عنه حمامه
ولا ملك كلا ولا ملك حمي
…
حمى ملكه لما عراه انهدامه
وبسط المقول فيه شرح بطول (وأما) أمر الطاغية صاحب الفئة الباغية جنكزخان لما وصل قصاده من عند السلطان بعد الفناء والشدة لحاهم محلوقة ووجوههم مسودة وقد قتل رئيسهم وخلا من نقد مرادهم كيسهم ذهب حفاظه والتهب شواظه وطمت بحار كفره وتلاطمت وتزعزت أطواد شركه وتصادمت وبينما هو يرغى ويزبد ويقوم من غضبه ويقعد إذ جاءه الخبر الثالث وهو شر الحوادث إذ فيه خبر من قتل من الكفار وانتقل من دار الخسار إلى دار البوار جهنم يصولنها وبئس القرار فأعمل في قلبه نصله وكان أولا قد زاد على قرحه قرح مثله ثم كان هذا القرح ملحا مذرورا على جرح فقامت قيامته وتعوجت بالحزن قامته وود لو أحرق الكون بأنفاسه وهدم أساس المكان بفأس بأسه ثم تروى وافتكر وتهوى من حر هذا الشرر ثم قصد مذهب الاعتزال وانزوى عن جماعته في مكان خال ودخل إلى مكان خراب وعفر وجهه في التراب وتضرع إلى الله الحليم وقال يا خالق يا قديم أنا أردت أن أعمر
بلادك وأنعش عبادك فظلمهم يا الله عبدك خوارزمشاه وتعدى علي وكرر الإساءة إلي فانتصر لي منه وانتقم فإنك جبر من كسر وعون من ظلم واستمر على هذه الحال ثلاثة أيام وليال لا يأكل ويشرب ولا يفتر عن التضرع والطلب يمرغ رأسه ووجهه في الثرى ويقصد فيما يرومه رب الورى وقد قيل:
تضرع جنكزخان لله ساعة
…
وأخلص فيما رامه وهو مشرك
فما خاب فيما رامه من فساده
…
وما زال يعثو في الأنام ويسفك
فما بال من لله طول حياته
…
يوحد بالإخلاص هل هو يهلك
ثم نهض نهضة أنام فيها الأنام وقام قومة أقام بها ساعات القيام فتوجه من مشركي التتار وعساكر الكفار بالبحار الطامية والأمطار الهامية وجبال النيران الحامية في شهور سنة خمس عشرة وستمية ومشوا على ممالك الإسلام وساروا على بسك العالم سير الغمام وأرادوا طفاء نور الإيمان من أشراكهم بظلام فوصلوا إلى البلاد وهي جنة المرتاد آمنة مطمئنة ساكنة مستكنة وليس لها مانع ولا ممانع ولا لهم عنها دافع ولا مدافع ولا بها حام ولا محام ولا سام ولا مسام فاخنوا على جند وقراها وولايتها وما ولاها رابع صفر عام ستة عشر وأظهر فيها علامات الحشر فأدهشوا وهلها وسبكوا أهلها ودكوا جبلها وأحاظ بها ثبوره وويله واستمروا في نهبها ست عشرة ليلة ثم تنقلوا عن جند إلى ولايات اند كان وفناكث وخجند فأخذوها
وقتلوا وفعلوا كما كانوا فعلوا ثم إلى بلدة مرغينان وكانت دار ملك ايلك خان ثم إلى أطراف تركستان ومنها سيرام وتاش كبدو باقي البلدان ثم إلى تسف وأنزار وسغناق ومامن أمهات البلاد في تلك الآفاقفمشوا على سهل البلاد ووعرها مشي الجراد على القصير الأخضر
فكأنهم موسى على شعر مشت
…
أو منجل فوق الحصيد الأصفر
أو شعلة ثار الهوا فتعلقت
…
فوق الصعيد على الهشيم الأغبر
فكل من أطاعهم وقصد اتباعهم صار من جلدتهم ودخل في عدتهم ومن عصى أو توقف أو خالف أو تخلف سقوه كأس الدمار وأحلوه وقومه دار البوار وأسروا حريمه وأولاده ونهبوا طارفه وتلاده ثم أن تلك الدواهي المصمية يوم الثلاثاء رابع المحرم سنة سبع عشرة وستمية وصلوا إلى بخارى بلدة فضلها لا يجارى قبة الإيمان وكرسي ملوك بني سامان مجمع العلماء والزهاد ومنبع المحققين من الفقهاء الأمجاد والمدققين من النبهاء والأنجاد وفيها من الأكابر والأشراف وأوساط الأمائل والأطراف الجم الغفير والطم الكثير فلما رأى العساكر السلطانية والجيوش الخوارزمشاهية الذي كان أرصدهم السلطان لحفظ البلدة من طوارق الحدثان وهم عشرون ألفا أن البلاء زحف إليهم زحفا وأن كسرتهم منهم لا تخفى وأن سيل الويل حطم
وموج بحر الدواهي التطم ومن لم يدرك من الغرق نفسه ارتطم شمروا الذيل وخرجوا تحت الليل وقصدوا جيجان والعبور إلى خراسان ومقدمهم من أمراء السلطان كورخان وسونج خان وحميد النوري وكوحلي خان فبينما هم على نهر جيحون قاصدين العبور صادفتهم طلائع جنكزخان الكفور فوضعوا السلاح فيهم ومحوهم عن بكرة أبيهم فما أبقوا منهم عينا ولا أثرا ولا سمع لهم أحد خبرا فوهي أمر البلد إذ لم يبق لهم مدد فطلبوا الأمان وأرسلوا لذلك القاضي بدر الدين بن قاضي خان فأجابهم إلى ذلك وأناب فاطمأ نواو فتحوا الأبواب فدخلوا المدينة يرفلون وهم من كل حدب ينسلون فعصى بقية العسكر في القلعة وتصوروا أن يكون لهم منه منعة ففي الحال أمر الرجال بطم الخندق بكل ما وجدوا جل أو دق فأتوا بنفائس الأقمشة والذخائر المدهشة والكتب والربعات والمصاحف الشريفة والختمات وطرحوها في الخندق ومشى العسكر عليها وتسلق ونقبوا النقوب وأنفذوا الثقوب وكان قد نادى بالأمان للقاضي والدان فعجزت القعلة وذهب ما بها من منعة وكان فيها فئة نحو من أربعمائة فباشروا عن آخرهم واستولوا على باطنهم وظاهرهم ثم مدوا أيديهم إلى المخدرات وفجروا ظاهرا بالمسترات وجعل الناس ينظرون ويبكون وهم يفتكون وينكون لا يستطيعون دفعا ولا يملكون ضرا ولا نفعا فاجتمع من أئمة الدين ومن أعلام العلماء المهتدين ومن لم يرض
بعمل المفسدين جماعة غاروا وثاروا وفاروا وانضموا إلى العلامة القاضي صدر الدين قاضي خان وأولاده السادة القادة الأعيان والحاكم الشهيد الإمام العالم السعيد والإمام ركن الدين إمام زاده واختاروا الموت على الشهادة فحملوا على الفئة الطاغية والطائفة الكافرة وقاتلوا حتى قتلوا وإلى جوار الله مقبلين انتقلوا فاستشهدوا عن آخرهم ولحق أصاغرهم بأكابرهم ودخل جنكزخان إلى المدينة وطاف بها على هينة وسكينة حتى انتهى إلى باب الجامع مكان نزه موضع رائع ومحل شريف ومعبد واسع ولم يكن لذلك البلد الكبير والجم الغفير والجمع الكثير والمصر الواسع من الجوامع سوى جامع واحد يجمع الصادر والوارد ويسع ما شاء الله من الأمم وهذا على مذهب الإمام الأعظم وهكذا كل أمصار الحنفية في الممالك الشرقية والممالك الهندية وغالب البلاد التركية فقال جنكزخان هذا بيت السلطان فقالوا بيت الرحمن ومأوى للعباد والعلماء والزهاد وذوي الطاعة والاجتهاد فقال إن أولى ما أقمنا أفراحنا في بيت من خلق أرواحنا ورزق أشباحنا ثم ألوى إليه وأقبل عليه ونزل عن دابته ودخل الجامع مع جماعته ثم دعا بأمرائه وكبراء جنوده وزعمائه واستدعىالخمور والطبول والزمور وهش إلى الكفار وعظمهم وبش فرحاً واحترمهم فسجدوا له مئهم الملوك وضربوا له الجنوك وعرفوا حقه ورعوا ورفعوا بالثناء صوتهم ودعوا فأذن لهم بالجلوس وأن تدار عليهم الكؤس فجلس كل في مكانه بين إضرابه وإخوانه وقام بعض في مقامه في موقف حده واحتشامه فتصدر في مجالس العلم والأذكار ومحاريب الصلاة والكفرة الفجارة ورؤس المشركين من المغل والتتار واستبدلت محافل العلم والتدريس بجحافل الشرك والتنجيس
ثم احضروا العلماء والأشراف والكبراء وسادات الأنام ورؤساء الخواص والعوام وأنزلوا بهم الثبور والويل واحتفظوا بهم واستحفظوهم الخيل وصارت الناس حيارى سكارى وما هم بسكارى وأخذتهم بهته إذ أتاهم العذاب بغتة ولم يكن بين رحيل ةالسلطان وبين هجوم هذا الطوفان غير خمسة أشهر وأيام ساروا فيها سير الغمام وهجموا على العالم هجوم الظلام وكأن الناس كانوا نياماً ورأوا في
منامهم أحلاماً فلم يوقظهم من هذا الرقاد سوى ابراق البلايا بالإرعاد فانسد عليهم طريق الخلاص وخانهم المدد في شدة الأقتنص وتنادوا ولات حين مناص إذ فارقهم العسكر وهم في حال المضطر وكان من جملة أولئك الأعيان شخص ولي يدعى السيد الشريف جلال الدين علي بن حسن الزيدي وهو المقدم والمقتدي والمسلك إلى طريق الهدى وأعلى سادات ما وراء النهر ولدوحة ساداتهم بمنزلة الثمر والزهر قد قبض عليه ربطوا إلى عنقه يديه ثم استنظروه مراكبهموأنشبوا فيه مخاليبهم وهو واقف بباب الجامع في هيئة الذليل الخاضع فرأى الأمام الهمام البحر الطام علم العلماء الأعلام أفضل علماء عصره وأنبل فقهاء دهره الشيخ ركن الدين ابن الإمام بوأهما الله تعالى دار السلام وهو في مصل حاله متسربل بسربال نكاله فقال أيها الإمام المفضال ما هذه الأحوال ثم أنشد معنى هذا المقال:
أرى حالة بذت لساني فليس لي
…
طريق إلى أني أفوه بلفظة
أعض لها كفي وأمعك مقلتي
…
أفي النوم هذا أم أراه بيقظة
فأجاب الإمام ما هذا محل الكلام كن عبد الإرادة واتبع ما أراده واستمروا يشربون الخمور على أصوات الزمور ويضربون الطبول ويتراقصون رقص التتار والمغول ثم صعد المنبر ابن جنكيز خان الأكبر
واسمه توشي خان وتكلم بكفر وكفران ثم غنى ورقص ودعا لأبيه ونكص ثم صعد بعده أبوه وتكلم بكلام سمعوه ودعا بالخمور ثم غنى وشرب ثم غنى وطرب ثم قال أيها الرجال أن خيلنا هي رأس المال وقد رعيتم الوهد والبقاع وحلفتم شعور الكلا من قمم البقاع وقد شبعتم فلا تنسوا الجياع ألا فاشبعوا خيلكم ولا تحرموها نيلكم رعيتم الخضيم فابغوا لها القضيم وامتثلوا أمر سلطانكم تحظوا منه بامانكم فنهضوا قياماً وامتثلوا مرسومه مراماً وتهارجوا كالحمير وابتدروا واطلب القمح والشعير ثم طغى وتكبر وبغى وتجبر ونزل عن المنبر فلم يكن بأسرع من اتيانهم بالحبوب والقضيم المطلوب وأدخلوا الخيل إلى الجامع وطلبوا لها مرابط ومواضع ثم أفرغوا الخزائن المصاحف والختمات وظروف الكتب وأوعية الربعات وصبوا فيها الشعير وأطعموا فيها الخيل والبغال والحمير فتبددت الكتب المنيفة والمصاحف الشريفة والربعات المعظمة والختمات المكرمة تحت السنابك والحوافر ومواطئ أقدام كل كافر وصارت أبحر القاذورات والخمور على تلك النفائس والذخائر تمور ثم أنه خرج من البلد وأمر أن لا يترك في البلد أحد بل يخرجون إلى المصلى وولى حفظهم من كفر وتولى ومن تأخر قتلوه وبتكوه وبتلوه فخرجوا كالجراد وانتشروا على الوهاد واجتمعوا في المصلى ثم على المنبر تعلى وخطب خطبة تركيه كافرية مشركية منها أنكم ركبتم عظائم وأتيتم ما ثم وجرائم فتقدم ربكم إليكم أن سلطني عليكم وهذه الأوزار إنما جناها
منكم الكبار فلأجل هذا عم البلاء وذهب بجريمة الكبراءالأصاغر والضعفاء ثم ضبط أسماء التجار واستخلص ما عندهم من درهم ودينار وقال هذا ثمن مالي من نقد وأعيان الذي كان منحكموه السلطان فلما استخلص الأموال أمر بقتل الرجال وأسر النساء والأطفال والنهب العام لسائر الأغنام ومن أخذ فهو له لا يقطع أحد سبله ثم أمر بهدم البلد والإحراق وإعدام عينها على الإطلاق فمهما قال فعلوه وكل ما رسم به امتثلوه فساووا بالبلد الأرض واستوفوا أعمار أهلها بالفرض والقرض فلم يبق منهم ديار ولم ينج من تلك النار العظيمة نافخ نار وقيل انه نجا من هذه الواقعة رجل ياقعة فوصل إلى خراسان فسألوه عن هذا الشان كيف كان فقال لهم بذلك اللسان ما صورته:
آمدند وكندند وسوختند
…
وكشتند وبردند ورفتند
يعني هجموا وهدموا وأحرقوا وأرهقوا ونهبوا فقيل لم يوجد في الفارسي في هذا المعنى أحسن من هذه الألفاظ ولا أرصن ولا أوجز ولا أمتن ثم أمر الجند بالتوجه إلى سمر قند فتوجهوا بالأثقال من الأموال والأسرى من النساء والأطفال مشاة حفاه أذلاء عراة فلم يتوقف كل أعتمي أعقف وكافر أغلف في ضرب رقبة من أعيا أتوقف فوصلوا إليها واخنوا عليها وفيها من العساكر الأكفا مائة ألف وعشرون ألفاً سبعون من أهل البلد وخمسون من المرصدين للمدد فتجهز عسكر للفا وخرجوا من البلد للملتقى فكمن لهم التتار من اليمن واليسار في رواب وتلال
تسمى بالأحصار فناوشهم من عساكر الكفار شر ذمه ثم ولت أمامهم منهزمة فركب البلديون أعقابهم وداسوا أذنابهم إلى أن ابعدوا عن البلد وانقطع عن البلديين المدد هرج الكمين من خلفهم لقطع رجل مددهم وكفهم ورجع عليهم الفارون وأحاط بهم الغرون ونلاحق بعم عساكر لا لأول لهم ولا آخر فلم يفلت منهم واحد ولا صدر عن حياض تلك الملحمة وارد فلما شاهد العساكر الخوار زمشاهيه ما نزل بالجنود البلدية من داهية ورزية لم يسعهم إلا الترامي عليهم والأنحياز إليهم فدار واوداروا واللبيب من داري فوقوا بذلك أنفسهم وأهليهم ناراً فلم يركنوا إليهم ولا اعتمدوا عليهم فرأوا مصلحتهم في سلبهم أسلحتهم فطلبوا منهم عدتهم ثم فرقوا عدتهم كما فعل تيمور الغدار في بلاد الروم بالتتار عند كسر ذلك الخوان في سنة خمس وثمانمائة بايزيد بن عثمان فلم يبق لأهل البلد معين ولا مدد فاستسلموا اللقضا وجروا طوعاً وكرهاً في ميادين الرضا فاحل بهم بوار وأنزل دماراً ففعل بسمر قند وأهلها ما فعل ببخاري ودور أسوارها بدلالة آثارها من الفراسخ اثنا عشر لا يمتري في ذلك اثنان من البشر فقس ما في ذلك من الخلائق والأمم فالكل براهم سيف القلم كما يبرى السيف القلم ثم قوى العزم وسدد الحزم وجهز طائفة من العساكر إلى خوارزم مع ولديه أحدهما المدعو بجفتاي والآخر المسمى باكتاي وهي تخت خوارزمشاه وفيها من الأمم ولا يعلمه إلا الله معدن الأفاضل ومقطن الأمائل محط رحال أهل التحقيق ومقصد رجال الفحول ذوي التدقيق ولوفور ما بها من الرؤس لم ينفرد برياستها رئيس لكثرة ما بها من الناس لم يتعين اسياستهم رأس فاتفق أكابرها لضبط أمور المسلمين على تقديم شخص يدعى حمار نكين فبعد حروب يطول شرحها ويهول برحها ويجب قرحها ويستحب طرحها أخذوها عنوه بعد ما قاسوا جفوه
فاستصفوا أرباب الحرف ومن تعلق من صنعة بطرف فكانوا نحواً من مائة ألف بيت أو يزيدون أن عددتهم وعديت ثم ميزوا النساء والأطفال وكانوا كعدد الحصى والرمال فقرقوهم على ذلك العسكر الثقيل فكفى الحقير منهم والجليل ثم فصلوا بالحسام المفصال مدارع ذوات ما بقي من الرجال ثم أراد واحصر من قتل وإقامة عدد من بتك وبتل فكان حصة كل فناك قتال على أن عددهم أكثر من القطر والرمال أربعة وعشرين مقتولاً ثم فعلوا بالبلدكعادتهم الأولى فهدموا أسوارها ومحوا آثارها وأجروا من بحر الدماء أنهارها فانمحى العلم والعلماء واندحى الفضل والفضلاء واستشهد الرؤساء والكبراء وناهيك بالقطب الولى الشيخ نجم الدين العكبري وتوجه جنكيز خان من سمر قند قاصداً السلطان ومر من أطوار عسكرة بكل أحشب حتى أناخ ترمذ وتخشب فامتنعتا عليه ولمناعتهما لم تلتفتا إليه وكانتا كثيرتي العدد والعدد غزيرتي المدد من مددوهما من أمهات البلاد مملوأتان من آلات الجهاد ومقاتلة الأجناد فاهلك ناسهما وسقاهما من خمر التشريد كأسهما فلم يبق لهما فيأ ولم تغن العدد والعدد عنهما من الله شيأ (ومن) غريب ما وقع من البدع أنه أمر بأهل ترمذان يقتلوا عن آخرهم مع أهلهم وعشائرهم ولا يبقى فيها على أحد وأرصد على ذلك لرصد فاتفق أن امرأة من المخدرات تخجل الشموس النيرات قبضوا وتقدموا بإراقة دمها إليها فتشفعت فما أفاد وتضرعت فما زاد إلا
العناد فلما أسلمت رتلوها اللجين وعلمت أنه جاءها الحق المبين قالت لأولئك الكفار لا تقتلوني يا حضار وأنا أفتدي نفسي منكم بعقود من اللؤلؤ كبار فانهوا القضية إليه وعرضوا ما قالته عليه فقال اتركوها ثم بما قالت طالبوها لننظر أصدقت أم اختلقت فاطلقوها ويتقاض ى اللؤلؤ أقلقوها فقالت لم أفه بزور ولا دليتكم بغرور وإنما اللؤلؤ كان عندي وحين استخلصتم مالي كان في يدي فخفت منكم فابتعلته
وتباً لفعل صنعته فامهلوني حتى أتبرز ويخرج مني ذلك المحرز فانهوا كلامها إليه وعرضوا أمرها عليه فقال ابقروا بطنها وانظروا قطعها فان وجدتم شيأ فهو لكم وإن كانت كاذبة فقد استحقت فعلكم فشقوا بطنها البطين واستخرجوا منه الدر الثمين فلما رأوا صدقها وحققوا نطقها أمرهم بشق بطون جميع القتلى وتفتيش ما طرحوه من جبال الاشلا فلم تنج رؤوس الروس من المثلة بعد القتل ولا بطون الصدور من ظهور التنكيل أثر البتل ثم أمر بهدم الحصون بعد ابتذال المال والعرض المصون فمحيت الديار ولم يبق فيها ديار ثم عبر من جيحون إلى خراسان وجعل نصب عينيه ممالك السلطان وتوجه إلى بلخ وهي إحدى معاقل الإسلام وفيها من أمم الأنام ما لا يدرك ضبطه سابق الأقلام بل يخرج عن حصر الأوهام ولا يحصيه إلا الملك العلام وكان السلطان قد انشمر عنها كما ذكر إلى نواحي طبرستان فوصل بتلك البحار الطامية في ثمان عشرة وستمية فخرج إليه الأعيان وطلبوا منه الأمان فأجاب سؤالهم بما يصلح حالهم ثم اختشى من السلطان جلال الدين بن المرحوم قطب الدين فلم يركن إليهم ولا عول عليهم فأمر بإراقة الدماء وهدم البناء وإحاطتهم بدائرة الفناء فأفنوهم عن آخرهم وساووا بالحضيض بقاع عمائرهم
ثم أرسل ولده تولي خان إلى محاصرة طالقان فعصت عليه ولم تسلم قيادها إليه فاستمرت في الحصار مدة وأذاقها لباس البأس والشدة إلى أن أخذوها وأبادوا خلقها ودكوها ثم أن جنكزخان الكافر الخوان معدن الكفر والطغيان لما استوبل هواء خراسان فألوى إلى بلاده وترك تولي خان من أولاده وولاه خراسان وهو محاصر طالقان وأقام في ممالك إيران من كفار أمرائه أميران أحدهما يدعى سنتاي وهو من قبيلة الجفتاي والآخر يدعى يما وهو من الكفار اللؤما وترك معهما من الكفار الأراذل والتتار الأسافل ثلاثين ألف مقاتل فوصل إلى رواة ووضعا السيف في الأئمة الهداة وابتدآ في القتل والنهب والفتك والسلب والقهر والأسر والقسر والكسر ثم أخذا في الإتلاف طريق الائتلاف وذهب كل منهما للاختلاف في الفساد على مخلاف فصالا وجالا وأوسعا في الدمار والبوار وخاضا في دماء المسلمين واجتهدا في إهلاك الإسلام والدين وخلا لهما الجو فباضا وصفرا وكان السلطان قطب الدين قد أخلى الدنيا منالملوك والكبرا فلم يلبث لهما فضلا عن مخاتل أو مقاتل فأهلكا الدين وأبادا وتصرفا في نصرة الشرك على الإسلام كيفما أرادا فاستخلصا جوين وطوس وأعدما ما
بهما من نفائس ونفوس وحام وخيوشان واسفراين وآمل وقومس وتلك البلدان فمحوا من كتب كتائبها أسطارها وأطفئوا منارها وأظهروا من صفة الجلال والقهر آثارها وأجروا من الفتن كالدماء بحارها وأضرموا من الشرور نارها كل ذلك قتلا ونهبا وسبيا وسلبا وهدما وإحراقا وصدما وردما وإغراقا ثم بلغهم أن حريم السلطان جلال الدين في قلاع آمل أمنين فقصدوها وحاصروها ورصدوها فقل ناصروها فاستولوا عليها ووصلوا كما أرادوا إليها فبقروا وفتكوا وبروا وبتكوا وسبوا وسبكوا وسفوا وسفكوا وكووا وشووا وغووا ولووا وعووا وما ارعووا ثم إنهم صادفوا العكس الزمان وانقلاب الدهر على السلطان وسوء التدبير وشؤم الحظ المبير وهم في بعض المسير من غير مخبر ولا معلم في سدفة ليل مظلم حريم السلطان خوارزمشاه لأمور قدرها الله مع والدته وجواريه وبناته وسراريه وكان لشدة ما نابهم من الزمان قد ضاق عليهم وتغير بل تنكر لهم الكون وقل عنهم النصير وقل العون وخافوا الابتذال بعد الصون فتركوا ما هم فيه من مكان وقصدوا البعد عن خراسان فتوجهوا إلى أطراف أصفهان ومعهم من نفائس الأموال والجواهر وأنواع المفاخر والذخائر ومصونات الخزائن ومكنونات المعادن ما لا يعلمه إلا مانحه ومن الكنوز ما ينوء بالعصبة مفاتحه وما لم يجتمع لسلطان قط ولا ضبطها قلم ديوان ولا حظ فتباغتوا مواجهة وتواجهوا
مباغتة وتباهتوا مشافهة وتشافهوا مباهتة فوقعن في شبكة الصيد وأحاطت بهن دائرة الكيد وتورطن فيما فررن منه وتربطن بأوهاق ما نفرن منه وناداهن لسان الحظ وهاتف الطالع الفظ:
وإذا أراد الله إنفاذ القضا
…
وظهور قهر للبصائر باتلا
جعل الدواء لذاك ممرضا
…
وفوائد الترياق سما قاتلا
والكون خصما والمكان منقضا
…
والعيش موتا والصديق مقاتلا
فلم يشعرن إلا وقد وقعن من نيران الفتن في تنور وتورطن من بحار المحن في دردور وتبسمت إلى بكائهن ثنايا البلايا وتكالمت على جباه مصابهن عقود الرزايا فظفرت حامية الكفر بذلك المغنم البارد ولم يصدر من حلقة صيده شارد ولا وارد فحازوا تلكالمسرات ونزل إلى حضيض قنصهم من سماء المنافسة الشموس النيرات فهتكوا أستارهن وخبروا ديارهن وضبطوا شعارهن ودثارهن وأحرزوا ما معهن من كنوز المعادن ونفائس المكامن وذخائر الخزائن ثم أضافوهن إلى زبانية غلاظ واحتفظوا بهن أشد احتفاظ وساقوهن إلى بلاد التتار مهتكات الأستار عاريات حافيات حاسرات مشايات وأمورهن أن يجتمعن كل ليلة عندما ينشر الظلام ذيله في كل منزله وصباح كل مرحلة ويقمن على أنفسهن العزا وينحن بما تقدم ويبكين بما جرى ويعددن على خوارزمشاه ويذكرن ما قدره الله عليه وقضاه وينعين ما كن فيه من النعم وما صرن إليه من الهوان والنقم وليدمن على هذه الطريقة حتى يقطعن من سفرهن طريقة ويصلن بجنكزخان على ذلك الامتهان والذل والهوان فيرى فيهن رأيه من نكال ونكاية ورحمة وعناية
فامتثلن ما أمروهن به فكن ينبهن النيام ويبكين المتنبه واستمررن على هذه الحال في الخزي والإذلال والمشقة والابتذال بعد ذلك الصون والدلال يصدعن بنحيبهن الجبال ويتفطرن بالنظر إليهن أكباد الصخور والتلال ثم إن تولي لما أخذ طالقان وأهلك أهلها بسيف الطغيان ولم يدع فيها من يتنفس وهدم إلى الأرض بنيانها المؤسس توجه إلى جانب من بلاد العجم وأهلك ما شاء الله تعالىمن خلائق وأمم فصار في أحد الجوانب يعبث وكل من سنتاي الخبيث ويما الكافر العثيث في جانب يبيد المسلمين ولا مغيث فدكوا قزوين وهمذان وصكوا اران وتيلقان وأغاروا على ممالك أذربيجان وبلغهم أن السلطان جلال الدين له في سجاس جماعة مجتمعين مقدمهم السلاحدار بكتكين وفيهم من الأعيان كوحبوغاخان فتوجه إليهم يما فبدد شمل أولئك الزعما وأبادهم وفرقهم وشتتهم ومزقهم ثم غاروا على غالب عراق العجم فأوسقوا القفار بالضرم وأوسعوا البحار بأمطار الدم وملئوا الوجود بالعدم ثم قصدوا أردبيل وجعلوا أهلها ما بين اسير وقتيل وكانوا في أول المرور قد صالحوا أهل نيسابور وانتقلوا إلى مرو منها وراودوا أهلها عنها فأغلقوا أبوابهم وأقلقوا جوابهم فحطموا عليها ودخلوا إليها وحكموا في أهلها السيوف وكان شهر الصيام ففطر وهم على كاسات الحتوف ونقل إلى جوار الله تعالى منهم المئين والألوف فضبطوا من أمكن ضبطهم من القتلى واستسعد بنيل الشهادة من الشهدا فكان ألف
ألف نسمة وثلثمائة ألف وثلاثين ألفا مكرمة وكل هذه الفتنة والفترة في سنة ثمان عشرة عامت في الدنيا عوما وكانت مدة نحو تسعين يوما ثم توجهوا إلى شروان وأفاضوا من دماء البحار الطوفان ودخلوا من الباب الحديد واتصلوا من الدست بذلك الشيطان المريد فتيقظ الناس من الفكرة وأفاقوا مما كانوا فيه من السكرة وتصوروا أنها سحابة صيف انقضت أو نسمة أزمنة هبت بارقة أو مضت ولكن احتاطوا واستعدوا وتحفظوا واستمدوا وحصنوا الحصون والمعاقل وجمعوا الجنود الجحافل فلم يكن بأسرع من إيابهم وتعاطي ما كانوا عليه من دأبهم والشروع في أعمال حرابهم بخراجهم وأخذهم في ضروب ضربهم وضرابهم واستقر تولي في ممالك العجم وهو أبو هلاكو الكافر الأغتم فوصلوا إلى شيراز وقد استعدت للحصار واستمدت للمناوشة والنقار فأخذوها عنوة وزحفاً وقتلوا منها مما أمكن ضبطه سبعين ألفاً ثم توجهوا إلى طوس فأزهقوا ما بها من نفوس ثم إلى سائر القلاع بالحضيض واليفاع فاستولوا على الكل قهراً وأخذوه وقسراً وسعوا في إحلال البؤس وإزهاق النفوس ثم إلى موقان ولم يبقوا بها أحداً كائناً من كان وعم القتل المبير كل صغير وكبير ثم حل أولئك البور ببلدة نيسابور فكافحت بعدما كانت صالحة وتحصنت بعد أن أذعنت واعتمدت على عددها واستندت إلى عددها وبرجالها استعانت بعد أن كانت قد دانت
ولانت واستكانت وكان فيها من آلات الحرب ورجال الطعن والضرب مالا يحصى ولا يبلغه الأستقصا فكان فيها من المجانيق المرسلات الصواعق على أسوار الحصار ثلثمائة منجنيق أصغرها كالغضبان في المقدار خارجاً عن المكاحل والمدافع المهلكات بالصواعق الصواقع ومن رماة القوس القصير المنفذ حكمه قاضي التقدير ثلاثة آلاف بطل مل أرمي من بني ثعل وأما عدد الضارب
والنابل والقاتل والرامح والناطح والصارع والقارع والحاذف والجارف والخاطف والقاطف والناهب والسالب فالضابطون فيه تاهوا وما يعلم جنود ربك إلا هو فوجه التتار إليها وأخنوا كالقضاء المبرم عليها وحمى الوطيس وخاطر بنفسه كل خسيس وبذل مهجته من الغزاة كل نفيس فقتل من أهل العدوان طغاجار خان زوج ابنه جنكيز خان وكان من فتاة الكفار المعتبرين بين التتار فخنق العدو ولذلك وسدد المسالك وسمع بذلك تولى الكافر الموغولي وكان في بعض الجوانب مشغولاً بالدواهي والمصائب ففار دم قلبه وتأججت نيران كربه وتأسف لفقد ختنه وثار غبارا حنه فتوجه من فوره بحنقه وحوره ونزل على نيسابور وحل بالبوار على أولئك البور وزحف بالعساكر وتقدم بالطعن والضرب كل كافر فلم تمض غلوه حتى أخذوها عنوه ودخلها من كفر من التتر يوم السبت خامس عشر صفر سنة تسع عشرة وستمائة من الهجرة وأعطىتولى لأخته ذلك عوضاً عن زوجها الهالك وقال لها تسلي عن ذلك المفقود بهذا الموجود وتحكمي في أهل البلد بما ترتضيه من سرور ونكد وتصرفي في الأموال والأرواح فمهما تريه فهو لك مباح
فأمرت أن لا يبقى على ذي روح وأن تجري السيول من الدم المسفوح فأطلقوا في ميادين الحتوف أعنة صوارم السيوف فجدت جباه الجياد وجادت بجواد الجد على أجياد الأجواد وصارت كالسن الشعراء النقاد تهيم من النظام والنثر في كل واد فمحوا عن لوح الوجود بلسان شواظ السيف ذات الوقود سطور ذوات ذلك السواد الأعظم وكتاب كتائب تلك الخلائق والأمم وزادوا في الأشتياط حتى قتلوا الكلاب والقطاط ثم أمرت أن تجمع رؤس أولئك الجمهور ويميز رؤس الإناث من الذكور فميزوا رؤس الرجال عن قمم ربات الحجال وطرحوا كل كاشية في ناحية فصارت الرؤس كرواسي الجبال وتلك الدور والقصور كالأعصر الخوال ولم يخلص من قطع الارؤس سوى أربعة أنفس كانوا من ذوي الحرف فجذبتهم المهارة من سفح بحر الفناء إلى الطرف ثم ركبت تلك البسوس ووقفت على تلال الرؤس فلم تنطفيء نارها ولا برد أوارها وزعمت أنها لم تستوف ثأرها وأن دود ترابها من علق تلك الأمم ما تكفت وغيظة غيظها بزائر ما تشفت واستغاثت بالرجال وصاحت بلسان الحال وأنشدت:
وهب إن النساء سللن سيفاً
…
فصلن وجلن كالفحل الغيور
فزلزلن الجبال فطرت خوفاً
…
يضاهين السحاب على الطيور
وصار لسفكهن البر بحراً
…
أيغنيهن ذاك عن الأيور
فأمرت بهدم البلد وإحراق ما فيها من آلات وعدد فدكوها دكاً وأعدموها سبكاً وسفكاً وتصرفت أيدي النوائب فيها فتكاً وبتكاً ثم أن تولي لوى العنان وقصد هراة من خراسان فأخذها بالأمان ولم ينج من ذلك الطوفان سوى تلك الكورة واستمرت تخت أوامرهم مقهورة وأمهات بلاد خراسان ومقر سرير السلطان كانت أربعة أمصار كل ذات اعتبار جليلة المقدار نيسابور وقد صارت بور وبلخ وقد كسيت من البوار ثوب سلخ ومر الرود وقد انحت من الوجود ولم يفز بالنجاه إلا بلجدة هراه وسائر الأمصار شملها البوار ولبست من خلع الدثور والدثار وكل منها مصر جامع وبرها وبحر واسع وبحرها كصدر البر مداه شاسع وأما القرى والقصبات والرسانيق والمزدرعات فأكثر من أن تحصر أو تضبط بحساب دفتر فأبيد ذلك كله وأبير فالحكم لله العلي الكبير كل ذلك في أدنى مده وأوهى رقده وما ذكر ذرة من طور وقطرة من بحور فسبحان من لا يسئل عما يفعل ثم أن جنكيز خان الهامة الهامية والفتنة الطامة الطامية لما علق به المرض وحصل له في خراسان العرض رجع إلى بلاده واستمر مرضه في ازدياده ولم يزل على ذلك حتى أورد سبيل المهالك وتسلم روحه الخبيثة مالك وحين أيس من الحياة وقنط من رحمة الله جمع المعتمد عليه من أولاده المشاركين له في عتوه وفساده وهم جفتاي وأوكناي وأوليغ نوبين
وجرجاي وكا كان وأو رجان وأوصاهم بوصايا وطرائق في سياسة الرعايا حافظوا عليها وتناهضوا إليها فثبت لهم من ملكهم أساساً لم ينهدم وأقام بنياناً إلى يومنا لم ينخرم وعروش قواعد أركانها لم تنثلم مع كثرة عددهم ووفرة مددهم وشكاستهم وشراستهم وشماستهم وتعاستهم وغلاظتهم وفظاظتهم واختلاف أديانهم واتساع بلدانهم وهلك الطاغية جنكيز خان وانتقل إلى الدرك الأسفل من النيران واستقر في لعنة الله وعقابه وأليم زجره وعذابه في رابع شهر رمضان الشامل بالفضل والإحسان والبركة النامية الهامية سنة أربع وعشرين وستميه في سرة ملكه المشوم وأعظم أمصاره أيميل وقوفان وقراقروم واستمرت بعده الفتن والشرور المحن تغير علىممالك الإسلام وتبير شعائر شرائع خير الأنام وتثير غبار الأفساد والمفسدين في وجوه سنة سيد المرسلين وتحصر جنود الإسلام وتقص جيوش العلماء الأعلام وتنقص أطراف الأرض وتنقص أركان الدين بعضها على بعض وناهيك يا مولانا السلطان بفتن هلاكو تولى بن جنكيز خان وبعده أبغا ابن هلاكو الذي تجبر وطغى وتكبر وبغى وبعده ابنه ارغون وبعده ابنه قازان المفتون واستمرت بحار الفتن منهم تؤثر عنهم ومرجها يمور إلى أن نبغ الأعرج تيمور فأهلك الحرث والنسل واختلط المباح بالسيل وحل بالعالم الباس وفسدت أحوال الناس وإنما ذلك كله بفساد الرأس ومن جملة فتنهم وطعنهم جالوا في معركة وصالوا في دست بركه فقتلوا في مثل حرب البسوس وقطعوا في ناحية من الروس جملة أرادوا ضبط عددها بعد أن أبانوها عن جسدها فلم يقدروا أن يحصروها
فرسم لتلك البغاة سلطانها أن يقطع من الرؤس آذانها يقطعون من كل رأس أذناً ولتكن الآذان اليمنى فجدعوا آذان بعض الرؤس وشكوها وفي خيوط سلكوها ثم قلائد ربطوها وبعد ذلك ضبطوها فكانت نحو مائتي ألف أذن مجدودة وسبعين ألف أذنت معدودة (وإنما) ذكرت يا ملك الطير أمثال ما جرى من الشر والخير وجلوت عن مرآه ضميرك المنير صورة ما مر في الزمان المنير وما فعله من ملكه زمام الاقتدار وأمهله سلطان السلاطين الذي يخلق ما يشاء ويختار وصرفه في بلاده وعباده وبين له طريق صلاحه وفساده وأخبركم أيها الملوك والحكام بأموركم في دنياكم وحلا صور أحوالكم على أعين أبصاركم وبين حاكمكم في مراياكم فقال وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض ودفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم فانظر ما في هذه السير من الحكم والعبر لتعلم أن الدنيا محل الغير ومحك العقول والفكر والحال بها هدف لسهام القضاء والقدر مبتلى بكل خير وشر ونفع وضر غافل عن مواقع الحذر آمن وهو على شرف الخطر مقيم وقد جد به السفر مناقش بما مضى من أنفاسه مما حلا ومر ومحاسب على ذوات ما اكتسبه مطالب بالفتيل والقطمير مما ارتكبه فلما وصل الحجل في الكلام إلى هذا المقام قبل العقاب بين عينيه وزاد قرب هلديه وأفاض خلع الأنعام عليه وقال صدق عليه أفضل الصلاة والتسليم حيث قال كلمة الحكمة ضالة كل حكيم
ونطق بالحق من قال لا تنظر إلى من قال وانظر
إلى ما قال فاهل التحقيق وذو والنظر الدجقيق راقبوا المعاني ولم ينظروا إلى القوالب والمباني فان سليمان عليه السلام وهو ملك الجن والأنام والوحوش والطير والهواء والهوام ونبي مرسل وملك ذو فضل وسلطان الفصل بالعدل استفاد النصائح من نملة وجمع هدهده مع ملكة سبأ شمله ويوجد في السقاط ما لا يوجد في الأسفاط ولقد ينطق بالفوائد من هو كافر وجاحد فيؤخذ من أقواله ولا يقتدي بافعاله وقد قيل إن الحسن البصري رحمة الله عليه دخل صبي مسجده وصلى بين يديه فرآه لا يتم سجوده ولا يرضي بصلاته معبوده فدعاه وخاطبه وأنكر عليه وعاقبه وقال له تمم سجودك ترض معبودك فقال يا شيخ المتقين هذه سجدات شخص من المؤمنين لو سجد إحداها ابليس لا آدم لما كان من الملعونين ولو سجدها فرعون مرة لكان من المسلمين ولم يصر من أهل العناد المطرودين (ورأى يوماً صبياً ومعه سراج وهو سالك في منهاج فساله عن ناره وما فيها من أنواره من أين أخذها وكيف افتلذها فلم يجاو به إلا باطفاء السراج وسؤاله أين ذهب ذلك النور الوهاج قل لي أين ذهبت تلك الأنوار أقل لك من أين جاءت تلك النار
ثم أن العقاب ولي الحجل ما تحت يده من رقاب وقدمه على سائر الخدم وصنوف الطير وأجناسه من الأمم وجعله الدستور الأعظم والوزير المقدم المكرم وفي هذا المقام أمسك الحكيم حسيب عن الكلام وختم ما افتتحه من الحكم والأحكام بالدعاء والثناءوالصلاة والسلام قال الشيخ أبو المحاسن المخجل بأدبه امرأ القيس وأبا فراس فلما انتهى الحكيم في مقترحه وما قصده من بيان محاسنه وملحه إلى هذا المحل وفصل من فضله ما أجمل من جمل نهض الوزير وقبل قدميه واعترف له بالفضل المنعم به عليه وأنه مالك أزمة الأنشاء وملك الكلام يصرفه كيف شاء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وكما أنه شيخ المنقول وأستاذ المقول فمن أنواره ألفاظه تنير العقول ومن كنوز عباراته تستخرج جواهر المعقول وأما أخوه الملك فطار بسروره به عن سريره واتخذ في مهام أموره مقام أميره ثم أدت آراء فكرته أن يستعمل أخاه لكشف كربته ويمشي مفي السعي بينه وبين أخوته لرتق ما انفق وسد ما خرقه سيل الحسد فانبثق أمره العالي ونهض بأمر الله المتعالي وأنفق من جواهر أفكاره في سوق المناصحة الرخيص والغالي ورصع ما استخرجه من بواقيت تلك من عباراته بما يستعبده عقود الاآلي وتعاطي الإصلاح وساعده لحسن النية وخلوص الطوية السعد والنجاح:
وهذب في الفضل ما رتبه
…
ورتب بالفضل ما هذبه
وأعجب ذا اللب ما شاده
…
فأثنى عليه بما أعجبه
وأغرب في السبق أشرافه
…
فالله ذا السعد ما أغربه
فما شذ بالصدق عن نصحه
…
ولا شذ خل لما
فاستمال الخواطر النافره وأطفا بزلال ألفاظه العذبة شواظ الناثرة وسكن بنسيم ملاطفاته قتام الأخلاق الثائرة فاطمأنت القلوب وطهرت من غش التشاحن الجيوب واتصل بالمحب المحبوب وحصل الأمن والأمان ومساعدة الزمان ومعاضدة الأخوان ومصافاة الخلان وطيب العيش والمكان وأفضل من هدا جميعه شفقة السلطان والاستقامة على الإسلام والإيمان ونسأل الله تعالى إتمام نعمه وإسبال ذيل إحسانه وكرمه واللطف في القضا والعفو عما مضى والمعاملة بإحسانه الجزيل وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء وسيد المرسلين وعلى آله الأطهار وصحابته الأبرار من الأختان والأصهار والمهاجرين والأنصار وسلم تسليماً يطيب الاعطار ويتمسك بأذيال عرفه خياشيم الأزهار في الأسحار ما دامت الإعصار ودارت الأدوار وترادف الليل والنهار وحشرنا في زمنهم مع المصطفين الأخيار أنه كريم ستار حليم غفار (قال مؤلفه رحمه الله تعالى) نمقة مؤلفه ولفقة مصنفه فقير عفواً لله تعالى من غير تردد ولا تفكر ولا تعمق في تدبر مع توزع أحمد بن محمد بن عرب شاه الحنفي سامحه الله تعالى وعامله بما يرضيه تفصيلاً وإجمالاً لا بما يقتضيه عدلاً وجلالاً في أواخر شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وثمانمائة أحسن الله خاتمها وعاقبتها وجعل آخرها خير من أولها بمنه وكرمه.