الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع
في مباحث عالم الإنسان مع العفريت جان الجان
(قال) الشيخ أبو المحاسن من ماء ينابيع عمله بدن الفضل غير آسن فلما أنهى الحكيم حسيب ذو الفضل النسيب حكاية ما طرزه مما نسحبه وحاك وفصله خياط تقديره على قامة المجد من خلع حكم العرب والعجم والأتراك شكره أخوه القيل على هذا القيل وأفاض عليه من نيل نواله جزيل النيل وأدرك من ذلك الأنموذج علو علمه وسمو حلمه وجميل حكمه وجليل حكمه، ثم قال يا أستاذ بلغني أن بغداد خرج منها خارج من نار من مارج وهبط إلى مدارك الخزي عن المعارج وأصل ذلك المشوم من عفريت خلق من نار السموم وأن شخص ذلك الشيطان جبل من سخام الدخان فلهذا ركب وجهه السواد وتركب سائر جسده من الرماد فهو جني ذميم وشيطان رجيم وقد شرع ذلك الخناس في الإفساد والوسواس وتعاطى إيذاء أكابر الناس وأنه في هذه الأيام نفي إلى بلاد الشام فلم يوافقه ذلك المقام لأنه مهاجر الأنبياء الكرام وهذا مخبول على سجايا اللئام وطباع أهل الفساد والإجرام، فأقام فيها بالاضطرار والاضطرام مدة أشهر وعدة أعوام وأخذ في الإضلال والتضليل فأضل خلقا كثيرا عن سواء السبيل وتستر ذلك الجان بحجاب الانتساب إلى جنس الإنسان ولبس بشق العصا ثوب العصيان فكمن كمون الشوك تحت ورق الورد والريحان واحتمى في حمى الشقاق والنفاق بشقائق النعمان والحق أنه من نسل العفاريت وكان عند الجن مقيلة والمبيت ومن ألبانهم له غذاء تربيت فقال له الملك هديت ووقيت فإن يكن عندك من ذلك شيء فشنف من جواهر حكمه أذني فإنك حكيم الجن والإنس وكريم النوع والجنس.
(قال الحكيم) : نعم أيها الملك العظيم أنا جهينة الأخبا ومزينة الأخيار وحكم الحكم ولي في البيان أعلى علم أما هذا الشخص المذكور فإنه بالفسق والفساد مشهور ورق شره في البلاد منشور وكتاب عناده بين العباد مسطور وبيت جسده لنعم الله تعالى على خلص أوليائه بالفجور معمور وله صفات تعيسة وأخلاق خسيسة تأنف مردة الشيطان منها وتستنكف العفاريت عنها وكم له من دواهي شرها غير متناهي لا يفي بذكرها هذا الخطاب ولا يتسع سردها هذا الكتاب يل ولا يقوم بذلك دفتر ولا حسابولكن البعرة تدل على البعير فقس من هذا التقدير الكثير على اليسير وقد كان أراد نشر الفساد ببلاد العراق وبغداد فعاكسه القدر وأحاد فنفي من تلك البلاد فوصل إرم ذات العماد وتعاطى أسباب ما هو عليه من الزندقة والإلحاد أصناف الفتن وأنواع العناد وابتدع من الشر والبدع ما يخرج عن حصر التعداد وهو على ما هو عليه من المناكدة والمجاحدة وقصده الأعوج من تعديل أقوال الرافضة والملاحدة وسيوضع لذلك مصنف متسع على حده ولقد بلغني أيها الملك الهمام أنه حصل له في ذلك المقام مع عالم من علمائها الأغلام قضايا كبته على خيشومه وأظهر بها ذلك العالم دسائس خبثه وشومه مثل ما اتفق لعالم الإنسان مع شيطان العفاريت وجان الجان في غابر الدهر وماضي الزمان فقال القيل العظيم أخبرنا بذلك أيها الحسيب الكريم
فقال ذكر أن في الأزمان الغابرة كانت صنوف الجن للإنس ظاهرة تتراءى بأشكال مختلفة وتنزيا بأمثال غير مؤتلفة وتظهر لهم الخيالات العجيبة والصور المموهة الغريبة فتضلهم ضلالا مبينا وتأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم شمالا ويمينا وتخاطبهم مشافهة وتوفيهم مواجهة.
ففي بعض الأيام ظهر ببلاد الشام مهبط الوحي ومهاجر الأنبياء الكرام ومحط رحال الرجال من أهل الفضل والأفضال رجل من العباد وأفراد الزهاد فاق الأقران بالصلاح وساد أهل الزمان بالورع والفلاح وحاز طرفي العلم والعمل فكمل كثيرا منهم بعدما كمل واستمر يدعو الخلق إلى خالقهم ويحثهم في الإنابة والتوكل على رازقهم ويرضونه ويرضيهم في الطاعة واتباع السنة والجماعة ويقبح الدنيا في أعينهم ويحذرهم غدراتها في مكمنها عند مأمنهم وكان لنفسه المبارك نقوش في النفوس يجذبها إلى ما يريد جذب الحديد المغناطيس ففي مدة يسيرة تبعه طوائف كثيرة وانتشر صيته إلى الآفاق وصفا للعباد وقت الطاعة وراق وضربت إليه أكباد الإبل وامتلأت به الدنيا من العلم والعمل واضطرب أمر المردة والشياطين الغندة وتعطلت أسواق الفسوق وخرج عرق المعاصي من العروق وتخملت العفاريت وتنكست أعلام الجن المصاليت وضل سبيل الضلال كل مارد خربت وبطلت زخارفهم وتموياتهم وعطلت وساوسهم وتشويهاتهم وأهانهم الناس وكسد الوسواس وفسد فعل الخناس فلما ضل سعيهم وكاد يقع نعيهم اجتمع العفاريت العتاة والشياطين
الطغاة والمردة العصاة إلى إبليسهم العنيد وهو شيطان مريد صورته من أقبح الصور له أظلاف كأظلاف البقر ووجه كالتمساح وشكل كالرماح وخرطوم طويل ورأس كالفيل وعيون مشققة بالطول وأنياب كأنياب الغول وشعر كالشهيم وجلد كالأرقم وهو يلهث كالكلاب ومن ورائه عدة ذئاب فشكوا إليه حالهم وأطالوا في الشكوى قالهم وقالوا يا شيخ التلبيس وابن عم إبليس لقد عرت المدارس وبطلت منها الوساوس وتعمرت المساجد بكل راكع وساجد وقائم وقاعد وقارئ وجاهد فطرد كل شيطان مارد وتمشي سنن الحلال فوقف منا الاحتيال وأمر بالمعروف فوقعنا على الأمر المخوف وكثرت الحجاج فتقطعت منا الأوداج وأديت الزكوات والحقوق فطرد منا كل عقوق وقام الحق فنام الفسق وعبد الله في المغارات والكهوف واشتد علينا السبيل فعلى من نطوف ولم يبق لنا على بني آدم سلطة وصرنا في بحارهم أقل من نقطة وعند جهرهم بأذكارهم أذل من ضرطة لا وساوسنا تؤثر في أفكارهم ولا مجالسنا تعطل من أذكارهم ولا تخيلاتنا تتراءى لأبصار أسرارهم فإن استمر الحال على هذا المنوال لا يبقى لنا في الدنيا مقام ولا بين الجن والإنس كلام (فلما وعى) العفريت فحوى هذه الشكوى وتأمل ما في مطاويها من نازلة أحاطت بهم وبلوى اشتعلت نيران غضبه وتأججت شواظات لهبه ثم قال أمهلوني أتلوى واتركوني أتلوم وأتروى وأفتكر في هذه البلية وأكشفها عن جلية فإن الأمور لا تنتج لمعانيها ما لم يتأمل من فراغها في جوانبها ونواحيها وتحقيق المسائل إنما يوجد من محكميها وحاكميها.
وكان هذاالغفريت العاتي المارد الغير المواتي تحت يده وأمره من مقتبسي تلبيسه ومكره والشياطين المرده وأغوال العفاريت العنده طوائف شتى وأمم لا تحصى وممن فاقهم في المكر والمراء أربعة أشخاص كبراء زراء كل منهم في الشيطنة والموالسة ومعرفة طقوس الوسوسة كأبي علي بن سينا في علم الهندسة غاية لا تدرك ونهاية لا تستدرك فاجتمع هذا الغول بوزراءه ورؤساء أشياعه وكبرائه ثم قال لهم أفتوني في أمري وساعدوني على فكري وسكري. ووجه الخطاب لكبيرهم الذي علمهم السحر المشار إليه في الدهاء والمكر وقال له ما رأيك في هذه القضية والمواقف الردية والداهية الدهية فقال الوزير يا مولانا الأمير وصاحب المكر والتدبير إن العقلاء وذوي التجارب من الحكماء تفرسوا بأمر قاطع من الوقائع القواطع فقالوا شيئان لا بقاه لهما الروح في الجسد والسعد في الطالع وهذا هو الصواب ولكل أجل كتاب وما دام الأجل باقيا والسعد راقيا ومنادم السلامة ساقيا وحافظ العوارض واقيا لا ينفع الجد ولا يدفع الجد ولا يرفع الجهد ما أثبت السعد فإذا تم الأجل وبطل من السعد العمل انتكس السعد وانقلب وفارقت الروح بلا سبب وإذا كان كذلك فهذا الرجل الناسك سعده عمال وطالعه في إقبال فكل سهم مكر فوقناه إلى نحو حياته يعود علينا وكل رمح فكر صوبنا سنانه إلى شاكلة بقائه يرجع إلينا فالرأي عندي أن نتربص حين تدور به الدوائر ولا نهتم باحتيال محتال ولا مكر ماكر إلى أن تنقضي مدته ويسقط من سعد طالعه قوته فعند ذلك يفيد سعينا ولا يضيع كدنا.
(فقال) العفريت للوزير الثاني يا أفضل جاني أنت ماذا تقول وكيف تشير أن نصول في ميدان هذا الأمر ونجول فقال رأي مولانا الوزير سديد وكل ما أشار به فهو أمر مجيد ولكن كيف يهمل أمر يهمل أمر العدو ويركن مع وجوده إلى قرار وهدو وإذا كان طالعه في قوة فاهماله يزيد في قوته والتهاون في أمره مساعدة في معاونته ومعاونة في مساعدته وهذا من سلامات العجز والانكسار ومن أقوى الأدلة في الانحطاط والصغار وأن رب الأرباب وضع عالم الكون والفساد على الأسباب فلا بد من تعاطيها في هذا الباب وبذل المجهود في معاملات الأعداء والأحباب ولم يقتصر الشارع على التقدير والطالع إذ فيه حسم مادة الشرائع والتعرض لأبطال حكم الصانع فعندي أن نبذل الجهد في حسم مادتهم وتعاطي كسر شوكتهم وبذل الجهد والجد بما تصل إليه اليد وثبات الأقدام في إثبات الأقدام كما قال الشاعر وهو سلم الخاسر في ثبت الجاسر:
من راقب الناس مات غماً
…
وفاز باللذة الجسور
وهذا الشاعر المسمى أخذه من أخينا بشار الأعمى من لنا بوجوده أنس وهو شيطان الأنس حيث يقول ذلك الغول:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
…
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
فاعزموا على هدم ما يبنون وصدم ما يعنون والأخذ في تمزيق جلدتهم وتفريق كلمتهم إذ لا اطلاع لنا على مساعدة الطالع ولا حد لبقاء الأجل فضلاً عن أن نقول هذا الحد جامع مع أو مانع وهذا الرأي عندي أولى ورأيك يا رئيس التلبيس يا غول هذا القول:
إذا كانت الأعداء نملاً فآتهم
…
إذا لم تطأهم وأصبحوا مثل ثعبان
ومن هذا المقال يا أبا الأغوال:
واللص ليس له دليل ساتر
…
نحو الذي يبغي كنوم الحارس
(والأصل) في هذا كله حسم مادتهم ورد جادّتهم وذلك بإهلاك مرشدهم وإفساد زاهدهم فان قدرنا على إهلاكه وتمزيق حبائله واشراكه تشتت شمائلهم وثبتت جلهم وقلهم (فقال) العفريت للوزير الثالث وكان أمحس عابس قل لي أيها الوزير ما سنح لك من التدبير في هذا الأمر المبير والخطب الخطير وماذا ترى فيه وتشير فقال لا شك أن الطباع تميل إلى ما تسمعه وما يلقى إلى النفس لا بد أن يؤثر موقعه وما أشار به ودبره الوزيران وهما نعم المشيران فهو لا يخلو عن فوائد بل هو متحل بعقود الفرائد وأني لاعلم أنهأثر في الخواطر كما يؤثر في الرياض السحب المواطر وبالجملة فللكلام تأثير في النفس كما تظهر آثاره الحس ولهذا ترى رقيق الشعر يفعل مالا يفعله دقيق السحر وجليل العبارة فيه من الإثارة ما يشجع الجبان وينشط الكسلان ويسخي البخيل وينجي الذليل ويسحر الأرواح ويسخر الأشباج ويعطف القلوب ويؤلف بين المحب والمحبوب ويصير العدو وصديقاً وغليظ الأحرار رقيقاً وتأمل يا بنيه ما قيل في البديه:
حديث إذا نادمت دهري انتخى
…
وكف عن الايذا وعاد إلى الأخا
أذكره أخلاق مالكه الذي
…
تعلم منه العلم والحلم والسخا
أنال به مالا ينال بقوة
…
وأرواح أشباح أنت بعدما شمخا
وهذه قضية تحتاج إلى أعمال الرويه وإمعان النظر وتدقيق الفكر وعندي الرأي السعيد السديد والفكر الحميد المجيد أن التعرض إلى هذا الرجل الدين الداعي إلى طريق الحق البين ليس بمحمود ولا طالع قاصده بمسعود فانه على الحق متشبث بأذيال الصدق ومن قصد مصادمة الحق اصطدم وفي مهاوي الهلاك ارتدم وقد كان في بني إسرائيل من أهل التسجيل عاملاً بالتوراة والإنجيل مشغولاً بالعبادة باذلاً في إقامة الحق اجتهاده فتعرض له جماعة من أهل الفسق والخلاعة فتعاطوا إهلاكه وفجعوا به نساكه فقتلوه بغير حق فغار له الدين ورق فاخبرني من لا يتهم بكذبه أنه قتل سبعمائة ألف نفس بسببه فذهب بسبب ذلك الصالح من بني إسرائيل الصالح بالطالح ومن كان مع الحق هادياً إلى الصدق فان الله تعالى معه ومن كان معه منعه وحرسه وما ضيعه ومن تصدى لضياع ما حفظ الله وعزم على ابتذال من أعزه مولاه وكلاه فقد قصد خراب عمره وعمارته وباع رأس مال تجارته وربحه بخسارة وجنى بيده على نفسه وحفر بيد تدبيره مهواة رمسه واسمع يا نعم العون ما جرى لمؤمن آل فرعون حيث كان على السداد داعياً إلى سبيل الرشاد وقصدا هلاكه أهل الفساد فقال وأفوض أمري إلى الله أن الله بصير بالعباد فغلبوا هنالك وانكسروا ووقاه الله سيآت ما مكروا وأيضاً لو قتلنا هذا الرجل وكان على أيدينا له حمام الأجل فلا شك أنه يقوم مقامه من يلم عظامه ويزم زمامه ويحيي بعده أيامه فيقيم شعاره ويكتب ما قدم وآثاره
فإن تلامذته كثيرة وطوائف جماعاته غزيرة فينتظم لهم بعده الأمر ولا يضرم لنا من كيدنا الجمر وإذا علموا أن ذلك منا واشتهر ذلك الكيد عنا أخذوا منا حذرهم وصوبوا إلينا عداوتهم ومكرهم ثم عملوا على استئصالنا واستعدوا لقتالنا لأنا أهلكنا معتقدهم وهدمنا عمادهم ومعتمدهم ولا يمكننا بعد ذلك طلب الملامة والسلامة وتستمر العداوة بيننا وبينهم إلى يوم القيامة، مع إن عداوتنا قديمة وبالجملة فعاقبة من عادى أولياء الله وخيمة إذا تقرر هذا القول وثبت بطرق المعقول فاعلم أيها الغول والشيطان المهول أن الرأي الصواب في هذا المصاب أن نبادر إلى هذا الرجل وجماعته بإفساد طاعتهم وطاعته وحيث لا يتيسر لنا المواجهة ولا الخطاب والمشافهة ولا الإضلال في الظاهر بصورة المتجاهر فنزين لهم حب الدنيا وشهوائها والميل إلى زينتها ولذاتها والركون إليها والاعتماد عليها ونلقي إليهم طول الأمل وبعد الأجل فنثبطهم بذلك العمل وندعوهم إلى التهاون والكسل ثم بعد ذلك نجلو خدود عرائس الحرص على أبصار أفكارهم وقدود موائس الشج وحب المال على أعين خيالاتهم وبصائر أسرارهم فإذا ذاقت ألسنة عقولهم حب الدنيا وتمكنت في أدمغة سويدائهم الرغبة في الآباء والأبناء سلبوا حب الطاعة وتفرقت منهم الجماعة وزاغوا عن الطريق الأقوم وراغوا عن السبيل الأمم فنتوصل إذ ذاك منهم إلى مقاصدنا ونوقعهم كيفما اخترنا في مصايد مراصدنا لأنهم هبطوا من سماء المنازعة إلى الأرض وأهلكوا بأيديهم أنفسهم إذ بغى بعضهم على بعض فتحاسدوا وتحاشدوا وتدابروا وتفاخروا وتضاربوا وتناهبوا وتسالبوا
وتقابلواوتقاتلوا وتفرقوا وتمزقوا وتحرقوا وانحاز كل منهم إلى ناحية وأعجب كل برأيه فلا تعرف منهم الفرقة الناجية إذ تفرقت أهوائهم وتصادمت آراؤهم وجذبت أغراضهم إلى الانحناء وجلبتهم أمراضهم مع الأهواء ومال كل منهم إلى صوب وأيس منهم الصواب الاوب وتعدد الخلق الذمر ولبس كل لصاحبه جلد النمر ثم بعد ذلك زلوا وأزلوا وضلوا وأضلوا فتمكنا فيهم كما نريد وتصرفنا فيهم تصرف السادات في العبيد وسلطنا عليهم دواعي الغضب والشره ولعبنا بشيوخهم لعب الصبيان بالكره فنصوب لهم أقوالهم ونزخرف أفعالهم كما قال من خلقهم وأحوالهم: وزين لهم الشيطان أعمالهم ولا نقصد بذلك إلا كبراءهم وفضلاءهم وعلماءهم وزهادهم ورؤساءهم وحكامهم وحكماءهم ولا نفتر عن مكابدتهم ولا نميل عن مكايدتهم ونجري في عروقهم ونسكن في فروقهم ونحركهم في رعودهم وبروقهم فإن تحركوا إلى خير سكناهم وإن سكنوا عن شر حركناهم وإن عزموا على الآخرة صددناهم وإن حزموا إلى مواطن رددناهم وإن أموا مفسدة قدناهم أو هموا إلى معصية سقناهم ولا بد لهذا العمل الكثير من تأثير ولبيدق جد في المسير أن يصير وبالجملة فنبذل في كل عامة جهدنا وجدنا ولا غضاضة في ذلك علينا لأنه صنعة أبينا
وجدنا وقد أخبر بذلك جدنا اللعين لما خالف رب العالمين كما أخبرنا في الكتاب المبين قوله: فبعزتك لأغوينهم أجمعين.
فإذا رآهم الناس وقع بينهم البأس وحصل لهم منهم اليأس وتراجعوا عنهم وهبروا منهم وفسد اعتقادهم فهم بل قتلوهم بأيديهم فإذا ظهر فسوقهم وكسد سوقهم فإن شئنا أوقفنا حالهم وإن رمنا إلى الهلاك نسوقهم وأوثق ما يتصل به إليهم من الأسباب هي حالة الانفراد والإعجاب وحالة الاجتماع للكذاب فإن الإعجاب يهوي في النار والكذب يخرب الديار. وناهيك قضية التاجر مع عبده الكذاب الفاجر فسأله شيخ الجن عن بلية ذلك القن (فقال) : ورد في الخبر عن شخص معتبر قال كان بمكان تاجر ذو مال وزوجة ذات جمال كل يهوى صاحبه ويرعى جانبه ويفديه بروحه ويترشف رضابه في غبوته وصبوحه كأنهما زوج حمام وفي بذمام ففي بعض الأيام قال أحدهما لرفيقه وهو يرشف من كأس عقيقه شهد رضابه بخمرة ريقه لو كان لنا عبد يتعاطى مالنا من حاجة ويخلصنا من جميلة عمر وزيد فذهب التاجر إلى سوق الرقيق فوجد مع النخاس عبدا ذا قد رشيق ينادي عليه أبيعه بكذا على ما فيه من أذى فقال وما عيبه قال كذبه لا على الدوام وإنما هو مرة في عام فقال عيب هين وشين لين فاشتراه وأتى إلى داره وارتضاه فاستمر في خدمة حسنة حتى أتى عليه سنة ونسى سيده عيبه وأمن ريبه بالأمانة وجرب بالأمانة يده وبالطهارة جيبه فلما مضى عليه عام كان سيده في الحمام فأتى البيت في بعض الحوائج في صورة الجمل الهائج شاهقا باشرا صائحا ثائرا صارخا واويلاه واسيداه وامولاه فسئل مالك لا أحسن الله حالك ولا أنعش بالك
فقال رمح البغل بسيدي فما تمالك أن تهالك وسلم الروح لخالقها وقال لوارثه تسلم مالك فأقيم العزاء والسخام وتركهم وأتى للحمام وهو يبكي وينوح ويصرخ ويصيح فسأله مولاه ما دهاه فقال وقع البيت على كل من أويت ولم يبق في الدار نافخ نار فهلك الكبير والصغير ونهب ما فيها من جليل وحقير فخرج وهو يستغيث من حديث ذلك الخبيث فوجد أهل البيت سالمين ورأوه من الناجين فعزم على خباطه فذكر له ما سلف من اشتراطه ثم أنه استقام ونسي هذا الكلام ومضى عليه عام فاستأنف ذلك الخبيث أمره العبيث وقال لامرأة مولاه يا هنتاه إن كنت نائمة فاستيقظي وخذي حذرك وتيقظي واعلمي أن نية صاحبك أن يلقي حبلك على غاربك لأنه قد عشق عليك ونبذ حبل حلك إليك وتعلق قلبه ببنت رجل كبير ولا ينبئك مثل خبير وقد حملني على نصيحتك الشفقة وما أسديت إلي من إحسان وصدقة فبادري قبل حلول البأس ونزول الفأس في الرأس فأثر فيها هذا الحديث فاستشارت ما تفعله ذلكالخبيث فقال لو ظفرت بشيء من شعره لكفيتك مؤنة مكره وفكره فإن لي صاحبا منجما وأستاذا معلما يرقي الشعور ويجعلها في النحور وإذا وجد لي خيشومه مساغه ودخل البخور دماغه صار عبدا لك على الدوام وحظيت عنده بالمراد وارتقيت إلى أعلى مقام ولكن ينبغي أن يكون من شعر لحيته النابت على ترقوته قالت وأنى لي أن أصل إلى ذاك وقاك الله شر أذاك فقال إذا نام وغرق في المنام فاحلقي منه بموسي لتكفي الضرر والبوسي وأنا آتيك بموسي يحلق الشعور فافعلي ذلك من غير أن يكون له شعور فاتفقا على ذلك الاتفاق وأتاها بموسي حلاق ثم توجه إلى مولاه وقد أضمر له ما دهاه وقال أشعرت يا ذا الفضائل أن زوجتك البديعة الشمائل تغير خاطرها عليك وتقدمت بالإساءة إليك ولولا أنك شفيق علي وعزيز ومكرم لدي ما أنبأتك من أخبارها بشيء فإني أريد أن يكون ما أنهيته إليك مكتوما إلى أن يصير عندك محققا معلوما وقد أرسل إليها من يخطبها وأمالها عنك بما يرغبها واتفق معها أنها تقتلك وتستريح وتصبح في فراشك وأنت ذبيح وذلك يقوم بديتك وقد أرسل إليها من الجواهر والأموال أضعاف قيمتك فإن أردت مصداق هذا الكلام فتثاقل عندها في المنام ليزول الشك باليقين وتتحقق من الصادقين فأثر هذا الكلام فيه وخاف من مكر النساء ودواهيه فلما أقبل العشاء وأحضروا العشاء تناول من ذلك الطعام ونهض إلى الفراش لينام وأظهر بين القوم أنه غرق في النوم وغمض عينه وانط وسال لعابه فنهضت الزوجة إليه وفتحت الموسي ودخلت عليه ومدت يدها إلى لحيته ووضعتها على ترقوته
ففتح عينيه فرأى آلة الموت متوجهة إليه فما تمالك أن وثب عليها وجثم إليها وخرج زمام تفكره عن يد تأمله وتدبره وخطف الموسي من كفها وسقاها كأس حتفها
فلما فوران الدم أدركه لاحق الندم وقد تبدل الوجود بالعدم ووقع القال والقيل واشتهر أمر القتيل وعلق في شر الاقتناص وعومل في صاحبه بالقصاص. وإنما أوردت هذا الكلام لتعلم أن ما أهلك الأنام وأوقعهم في شرك الآثام والكفر والفسوق والحرام مثل الكذب في الكلام وهولنا أوثق زمام
ولجذبهم إلى ما قصدنا من المرام أحكم خطام وأعظم حزام فاستحسن العفريت هذا الرأي واستصوبه وأعجبه ما تضمنه من معان واستغربه ثم قال رأيت يا أصحاب من الرأي الصواب أن أجتمع بهذا العالم الزاهد العامل العابد في محافل غاصة وأسأله عن مسائل عامة وخاصة وعن أسرار رقيقة أطالبه فيها بمجازها والحقيقة وأنا أعرف أنه يفحم عن جوابي ويلجم عند أول خطابي فإذا عجز عن جواب المسائل في تلك الجموع والمحافل تحقق الحاضرون جهله فنبذوه من أول وهلة واعترفوا لنا بالفضل الوافر والعلم الغزير المتكاثر فصاروا لنا أوداء والفضل ما شهدت به الأعداء ورجعوا عن اعتقاده ونفضوا أيديهم من محبته ووداده وربما سعوا في دماره وخراب دياره فيكفونا أمره ويزيحون عنا شره وأقل الأقسام أن جماعة ذلك الإمام إذا رأوا ما لنا في الفضل من تجارة وعلموا أن رأس مال إمامهم الخسارة التهوا بالسهو وسهو باللهو وانفضوا عنه وتركوه وهذا إن لم يكونوا سفكوه وسكبوه كما فعل صاحب البستان بالمزرعة من الغدر والتفتخيذ مع غرمائه الأربعة فسأل الوزراء عن غدير ذلك الغدر كيف جرى (قال العفريت) : كان من تكريت رجل مسكين ينظر البساتين ففي بعض السنين قدم قرية منين وسكن في بستان كان قطعة من الجنان فاكهة ونخل ورمان ففي بعض الأعوام أقبلت الفواكه بالأنعام ونثرت
للثمار ملابس الأشجار من الأذيال والأكمام فألجأت الضرورة ذلك الإنسان أن خرج من البستان ثم رجع في الحال فرأى فيه أربعة رجال أحدهم جندي والآخر شريف والثالث فقيه والرابع تاجر ظريف قد أكلوا وسقوا وناموا واتفقوا وتصرفوا في ذلك تصرف الملاك وأفسدوا فسادا فاحشا خادشا وما رشا وناوشا وناكشافأضر ذلك بحاله ورأى العجز في أفعاله، إذ هو وحيد وهم أربعة وكل عتيد فسارع إلى التأخيذ وعزم على التفخيذ فابتدأ بالترحيب والبشاشة والإكرام والهشاشة وأحضر لهم من أطايب الفاكهة وطايبهم بالمفاكهة وسامح بالممازحة ومازح بالمسامحة إلى أن اطمأنوا واستكانوا واستكنوا ودخلوا في اللعب ولاعبوه بما يجب فقال في أثناء الكلام أيها السادة الكرام لقد حزتم أطراف المعارف والطرف فأي شيء تعانون من الحرف فقال أحدهم أنا جندي وقال الآخر وأنا رسول الله حدي وقال الثالث أنا فقيه وقال الرابع أنا تاجر نبيه فقال والله لست بنبيه ولكن تاجر سفيه وقبيح الشكل كريه أما الجندي فإنه مالك رقابنا وحارس حجابنا يحفظنا بصولته ويصون أنفسنا وأموالنا وأولادنا بسيف دولته ويجعل نفسه لنا وقاية وينكي في أعدائنا أشد نكاية فلو مد يده إلى كل منا ورزقه فهو بعض استحقاقه ودون حقه وأما الشريف فإن جده هدانا ومن النار أنجانا وقد ملكنا كرامة وحبا لقوله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى. وقد تشرف به اليوم مكاني وحلت به البركة علي وعلى بستاني وأما سيد العالم فهو مرشد العالم وهو سراج ديننا الهادي إلى يقيننا فإذا شرفونا بإقدامهم ورضوا أن نكون من خدامهم فلهم الفضل علينا والمنة الواصلة إلينا وأما أنت يا
رابعهم وشر جان تابعهم بأي طريق تدخل إلى بستاني وتتناول سفرجلي ورماني هل بايعتني بمسامحة وتركت لي المرابحة أو لك على دين أو عاملتني نسيئة دون عين ألك علي جميلة وهل بيني وبينك وسيلة تقتضي وسيلة، تقتضي تناول مالي والهجوم على ملكي ومنالي، ثم مد يده إليه فلم يعترض من رفقائه أحد عليه لأنه أرضاهم بالكلام واعتذر عما يتطرق إليه من ملام فأوثقه وثاقا محكما وتركه مغرما ثم مكث ساعة وهو على الخلاعة مع الجماعة وغامز الجندي والشريف على الفقيه الظريف فقال يا أيها العالم الفقيه والفاضل النبيه أنت مفتي المسلمين وعالم بمنهاج الدين على فتواك مدار الإسلام وكلمتك الفارقة بين الحلال والحرام بفتواك تستباح الدماء والفروج فمن أتاك بالدخول في هذا والخروج أفتني يا عالم الزمان محمد بن إدريس أفتاك بهذا النعمان أم أحمد بن حنبل أم مالك فسح لك بذلك أما سمعت قول معز العلماء ومجلها
ومذل الجهلاء لجهلها: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا
بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها. وإذا ارتكب مثلك هذا المحظور وتعاطى العلماء والمفتون أقبح الأمور فلا عتب على الأجناد والأشراف ولا على الجهلاء الأجلاف ثم مد يده إلى جلابيبه وأوثقه بتلابيبه فأحكمه وثاقا وآلمه رباقا فاستنجد بصاحبيه إلى جانبيه فما أنجده ولا رفداه ثم جلس يلاهي الجندي الساهي وغامزه على الشريف ذي النسب الظريف ثم قال أيها السيد الأصيل النجيب الجيد الحسيب لا تعتب كلامي ولا تستثقل ملامي أما الأمير فإنه رجل كبير ذو قدر خطير له الجميلة التامة والفضيلة اللامة وأنت يا ذا النسب الطاهر والأصل الباهر والفضل الزاهر سلفك الطيب أذن لك في الدخول إلى ما لايحل لك أم جدك الرسول أفتاك باستباحة الأموال أم زوج البتول أنباك أن أموالنا لآل البيت حلال وإذا كنت يا طاهر الأسلاف لا تتبع سنة آبائك الأشراف من الزهد والعفاف فلا عتب على الأوباش والأطراف ثم وثب إليه وكتف يديه ولم يعطف الجندي عليه ولم يبق إلا الجندي وهو وحيد فانتصف منه البستاني كما يريد وأوثقه رباطا وزاد لنفسه احتياطا ثم أوجعهم ضربا وأشبعهم لعنا وسبا وجمع عليهم الجيران واستعان بالجلاوذة وأصحاب الديوان وحملهم برباطهم وعملتهم تحت آباطهم إلى باب الوالي وأخذ منهم ثمن ما أخذوه ومن رخيص وغالي
وإنما أوردت ما جرى لتعلموا أيها الوزرا أن التفخيذ بين الأعداء بالتأخيذ أمر من السهام في تنفيذ الأحكام وأحكام التنفيذ وهذا قبل تعاطي أسباب البيلسة وفتح أبواب الوسوسةفانه يقال في الأمثال عقدة تنحل باللسان لا يؤخر حلها إلى الأسنان ما أرشد من أنشد:
فكم عقدة أغنى اللسان بحلها
…
تراخت وقد أعيت نواجذ أسنان
(ثم قال العفريت) للوزير الرابع ما ترى في هذا الأمر الواقع فقال حيث تردد الأمرين آراء مختلفة وأقوال متفاوتة غير مؤتلفة وأقيم على كل قتيل برهان ودليل فنعدد النقل وتبلد العقل وعميت وجوه الترجيح ودرست طرق التصحيح فلا يمكن القول بأحدها ولا الميل إلى مفردها فإن ذلك ترجيح بلا مرجح وتصحيح بلا مصحح فربما يتصور الشيء خيراً وتكون عقباه شراً ويتوهم شراً فتظهر قصاراه خيراً وقد قال منزل الفرقان على أشرف جنس الإنسان وعسى أن تكرهوا شيءً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم وكم من قضية يتصورها الفكر صواباً ويذهل عما تتضمنه من خطا مآبا وكذلك النفس تتصور شيء بصفة وهو بالعكس ولذلك شاهد من وقائع الحس فليس على ذلك معول وشاهده قضية المضيف وع ولده الأحوال فقال العفريت وكيف ذلك أيها الخريت (قال الوزير) أخبرني شخص فاضل أنه كان رجل كامل كريم الشمائل محبوب الخصائل مرغوب الفضائل غزير الثراء يحب الفقراء عذب الموارد مترصد للصادر والوارد لا يسال الضيف من أين ولا كيف وهو كما قيل للضيف والسيف ورحلة الرجال في الشتاء والصيف فنزل في بعض الأيام ضيف من أصحابه الكرام فزاد في إكرامه وأحضر ما طاب من طعامه
فلما رفع السماط ووضع للبسط بساط قال لضيفه الصديق عندنا قارورة من الشراب العتيق كنت ادخرته لنزلك وأعددته لمثلك وما عندي سواها فإن رأيت أحضرناها وتعاطينا الراح لطلب الانشراح فإنها مادة الأفراح كما قيل:
وما بقيت من اللذات إلا
…
أحاديث الكرام على المدام
فسمع الضيف مقاله وتحمل جميلته ودعا له وأجاب سؤاله فأشار المضيف المفضل إلى ولده الأحوال وقال اذهب إلى المقصورة فإن هناك قارورة وإياك أن تنكسر فإن صدع الزجاج لا يجبر وما بناها ضيرها ولكن ما عندنا غيرها فتوجه إلى ذلك المكان فتراءى له قارورتان فرجع من وقته ونادى لمقته أيها الأب المفيد هناك قارورتان فإليهما تريد فخجل من ضيفه وغضب لئلا ينسب إلى اللؤم والكذب فقال لابنه يا ابن البظرا اكسرا حداهما وهات الأخرى فاخذا العصا وعبر وضرب أحد ما كان تراء للبصر فلم يكن غير وعاء واحد وقد انكسر فخرج إلى أبيه وهو من الفكر في تيه وقال امتثلت ما أمرت وأخذت العصا وضربت فانكسرت إحدى القارورتين ولا أدري الأخرى ذهبت إلى أين فقال يا بني إن الخطأ منك واليك والخطأ في ذلك كان من نظر عينيك وإنما أوردت هذا المقول لتعلم أيها الغول المهول أن أقوى طرق العلم العين وإذا حصل في إدراكها الخلل والشين تراءى الصدق بصورة المين والشيء الواحد بشكل اثنين وهذا أمر محسوس لا تنكره النفوس فكيف ترى تكون عين الفكر المصون وهي بأنواع الحجب محجوبة وبتخيلات الوهم وقضاياه مشوبة ومرآتها إنما هي المعاني دون المحسوسة المشاهدة المباني
(فعلى هذا) ينبغي التأمل في عقبى هذه الحوادث والتدبر في قصارى هذه الأمور الكوارث ثم الأخذ في تعاطيها والشروع في أسباب تلافيها إنما يكون بعد إمعان الأنظار وأنعام التدبر والأفكار (ثم اعلم) أيها الرئيس الداهي النفيس شيخ المكر والتلبيس والبيلسة والتدليس إن الله القديم القادر الحكيم لم يخلق في الموجودات ولم يوجد في المخلوقات أعز جوهراً من الإنسان فانه فضله على جنسي الملك والجان واختصه بدقيق النظر وعميق الفكر وسرعة الإدراك فهو مع عدم الحراك بحكم وهو ساكن على ما تحت الثرى وفوق الأفلاك وشمله بعوائد وعوده بفوائده ولطف به في مصادره وموارده فهو أرحم به من والدته لمشفقة ووالده ووكل بحفظه الكرام الكاتبين وملائكته المقربين ورباه في حجر نعمته علىموائد لطفه وكرمه ورحمته كما ترى بي الوالدة الشفيقة والظئر الرقيقة الرفيقة وألهمهم العلم الغزير والقدر الخطير والرأي والتدابير وأطلعهم على غامض الأسرار ودقائق الأفكار وأن علمنا بالنسبة إلى علمهم وحلمنا في القياس إلى ثباتهم وحملهم كنيسة علم الفلاح المغتر إلى علم الطبيب المعبر بحسن النظر قال العفريت أخبرني بذلك يا شيخ المصاليث (قال الوزير) أخبرني شيخ كبير انه رأى في منامه فلاح كأنه خرج من بطنه مفتاح فلما أصبح الصباح جاء إلى رجل من أهل الصلاح يعبر المنامات وكان ذا كرامات فقص عليه رؤياه وطلب منه تعبير ما رآه فقال له يا رئيس هذا منام نفيس لا أذكر ما فيه من تعبير إلا بدينار كبير فحصل له بشارة فناوله ديناره فقال بولد لك ولد ذكر يكون سبباً للفتوح
والظفر وكان له زوجة حامل بقي لها أيام قلائل فولدت أيمن غلام بعد ثلاثة أيام فاستبشر الفلاح بالظفر والنجاح ثم بعد مده حصل الفلاح شده من مرض آلمه وأصاب قدمه فجاء إلى معبر المنام وشكا إليه الآلام وقال ألمي في قدمي ضاعف همي وأضعف هممي فقال له الطبيب لا بأس يا حبيب هذا داء هين وعلاجه بين أعطني ديناراً ثانياً أصف لك دواء شافياً فأعطاه ما اشتهى واستوصفه الدواء فقال ضمده بعجة بيض كثيرة الإبراز وضع عليه عسلاً مسخناً على النار ففعل ذلك فبرئت قدمه وزال بالكلية ألمه ففكر الفلاح في فعل المعبر الطبيب وقوله المصيب وأمره العجيب فأنه بأدنى عبارة عير المنام وبأوهى إشارة أزال الآلام فرأى الراحة في ترك الفلاحة والاشتغال بعلم الطب والتعبير فانه أمر هين يسير وبأدنى أمر حقير يحصل المال الكثير فباع آلات الزراعة وعزم على تعاطي ما في الطب والتعبير من صناعه وجمع كتباً ودفاتر وكراريس محزمة مناثر ووسع أكمامه ووضع على رأسه عمامة كغمامة وجميع عقاقير وأوراق وبسط بسطه في بعض الأسواق وأشار على لسان مخبر أن المكان الفلاني فيه طبيب معبر وهو أستاذ الزمان وعلامة الأوان وتلامذة في الطب حكماء اليونان وفي التعبير ابن سيرين وكرمان وتصدر كابي زيد وساسان عاملاً بما قاله شيخ البيان وهو:
الطب أهون علم يستفاد فطر
…
بين الأنام به طير الزنابير
واجمع لذاك كراريساً منثرة
…
وجملة من حشيش من عقاقير
رضع على الرأس بقياراً تدوره
…
كقبة النسر في وزن القناطير
واجمع معاجين من رب تخلطها
…
واسحق سفوفاً واكحال العواوير
وسم ما شئت من أسماء مغربة
…
كالسند والهند والسرحا وخنفور
وقل من الهند جا هذا ومن عدن هذا وهذا أتى من ملك فغفور
وذا من البحر بحر الصين معدنه
…
وذا من البربر المدعو وبيربور
فإن رأيت بالاستسقاء ذا ورم
…
فقل تورم من لسع الزنابير
إن أقشعر فقل برد عراه وأن يحم قل حره وهج التنانير
وإن أتاك مريض لا تخف وأشر
…
بما ترى من دواء دونه البوري
فأن يعش قل دوائي كان منعشه
…
وإن يمت قل أتاه حكم مقدور
كذلك الرمل والتنجيم خذه على
…
هذا المثال وخض في علم تعبير
فإن أصبت فقل علمي ومعرفتي
…
وفي التخالف قل ذد المقادير
وإن رأيت فقيها فر منه ولا
…
تنطق يخطئك في فسق وتكفير
وأنت تحتاج في هذا وذاك إلى
…
ذوق ومعرفة مع حسن تدبير
فاتفق أن زمام خليفة الأنام رأى في المنام شيأ هاله وغير حاله فحصل له في رأسه صداع وفي فؤاده أوجاع فسمع بهذا الربع الجديد وأنه أستاذ مفيد فأرسل إليه وعرض ما رآه عليه فقال هذا منام يدل على
خير وأنعام وبقاء ذكر الزمام على الدهر والأعوام ولكن لا أعير هذه الأحلام إلا بدينار تمام فناوله ديناراً وأظهر استشاراً فقال له يولد لك غلام بعد ثلاثة أيام فضحك الزمام من هذا الكلام وقال يا أمام أنا رئيس الخدام ظواشي بلا شي لا زوجة ولا سرية ولا آلة ولا شهية فمن أين لي هذه السعادة ولا فرحت بحسن الحسنى فأنى تحصل هذه الزيادة فلا تسخر مني وكف كلامك عني وأخبرنيبتعبير هذا المنام ودع عنك الملام فقال حقاً أقول وأنا جربت هذا المقول وقد عبرت لك هذا التعبير ولا ينبئك مثل خبير فقال الزمام يا أخي دع هذا المقال فإن وجود الولد مني محال وأنا رجل بي وجع وما بقي في منتجع فقال وماذا تشكو وألمك في أي مكان هو فقال في فؤادي أوجاع وفي رأسي صداع فقال يا زين من فاخر أعطني ديناراً آخر أصف لك أيسر دواء يحصل لك منه العافية والشفاء فدفع إليه الدينار وطلب منه دواء الدوار وما بفؤاده من ألم أورثه الوهج والضرم فقال يا أبا الفيض ضمد رجلك بعجة بيض مضافاً إليها عسل مشتار وليكن ذلك كشتار وليكن ذلك مسخناً بالنار فاستشاط الطواشي غضباً وفار كالنار شواظاً ولهباً وعرف أنه جاهل وعن طرق العلم غافل فأدبه التأديب البالغ ورده إلى ما كان عليه مكن منادمة السالغ واستمر على كلاحته بعد رجوعه إلى فلاحته (وإنما أوردت) هذا المثال يا غول الأغوال لتعلم أننا إذا اشتغلنا بمناظرتهم اشتظنا في محاورتهم لأنه في دقيق الأسرار وعميق الأفكار وتحقيق الأنظار لا يقاوم أحد جنس الإنسان فكيف يستطيع الجان معارضة من أيده الله تعالى برفيع المعاني وبديع البيان فإذا فقابلناهم في المباحث بالمعارضة تعود مسئلتنا علينا بالمناقضة
فلما رأى العفريت خور ذلك الصفريت وأنه نكل عن المقاومة ونكص عن المصادمة خاف أن تكون آراء الوزراء تبعاً لرأيه في عدم لقائه وظنهم مستحسنين لدهائه مستصوبين لآرائه فأرخى عنان الكلام ليقف على ما عندهم من مرام وكان عزمه المباحثه والمعابثة والتصدي للأقدام وإلقاء المسائل بحضرة الخاص والعام لكن مشى مع إمام الوزراء ليرى ما هم عليه من الآراء (فقال للوزير) نعم ما قلت أيها الوزير والرأي ما سرت من الرأي والتدبير فإن الله تعالى خلقنا من النار وطبعها الإهلاك والدمار وإحراق كل رطب ويابس وبارد وحار والظلم والخسار والإفناء والجهل والبوار وطلب الرفعة وعدم القرار وافساد ما تجده من غير فرق بين نفاع وضرار وخلقهم من تراب وإليه الأياب وطبعه الحلم والسكون والترابية والركون والعلم والعدل والإحسان والفضل ومع هذا فلو خرجوا عن مادة ما جبلوا عليه وتلبسوا بغير ما ندبوا إليه ولو أدنى الخروج ورعوا ما للمارج من مروج لتحكمنا فيهم كما نختار وللعبنا بهم كما يلعب بالكرة الصغار ونحن إذا خرجنا عن دائرة طبعنا وتخالفت أوصاف أصلنا وفرعنا ونقلنا إلى دائرة الخبر عن جادة الشر أقدام صنعنا لا يقع لنا منهم صيد ولا يؤثر لنا فيهم سيف كيد فإذ عجزنا عن الإيذاء في الظاهر لم يبق إلا الأغواء من باطن الضمائر والتعلق بأسباب ما نصل إليه من الحيل البواطن والظواهر فقد قال الحكماء وأهل التجارب ومن ابتلى من مكايد الدهر بالنواثب ومنى من ذلك بالعجائب والغرائب إذا تصدى الإنسان وقصد غريمه وعجز
عن مقاومته في الحكومة والخصوصه فعليه يهدم ذلك الجبل بمغناطيس الخداع ومعاويل الحيل ويستعين في ذلك بأهل النجدة وذوي البطش الشديد لشدة فيتوصل بهم إلى حسم ذلك الداء ولو كانوا أعداء غير أو داء فتسلط بعض الأعداء على بعض من أيمن سنة بل من أحسن فرض ولقد أحسن من قال:
تغرقت غنمي يوماً فقلت لها
…
يا رب عليها الذئب والضبعا
ولا يوجد في هذا الباب لجمع شمل الأعداء أوثق من تفريق الأحباب ومصداقه قوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً وما قويت أعضاد الإسلام إلا باجتماع كلمة الأنصار والالتئام ولهذا قصد من نافقوا لما ترافق الأنصار وتوافقوا أن يتشاققوا ويتفارقوا فأنزل عليهم واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وهذا الفن يحتاج إلى فكر عميق ومكر دقيق وعقل كبير وفعل كثير ومصيب رأي وتدبير وسلوك في طريق اصطناع كما فعلت الفأرة من الخداع فقال الوزير ينعم مولانا الباقعة بتحقيق هذه الواقعة (فقال) سمعت أن بعض التجار كان له بستان في دار وإلى جانبه حاصل فيه المغل المتواصل وفي ذلكالحاصل وكر لشاطر من شطار الفار له عدة منافذ وإلى الجهات طرق ومآخذ أحدها إلى جهة البستان والبستان كأنه جنة رضوان فكانت الفاره ذات الشطارة والمهارة تأخذ من الغلات وأطايب الطعامات ما يكفيها غداء وعشاء صيفاً وشتاء
وفي وقت المصيف تخرج من ذلك المنزل اللطيف إلى جهة البستان فتتمشى بين الغدران وتترقى إلى أعلى الأغصان وتتمرغ في المروج والرياض وتتبخر في ظلال الدوح والغياض ثم تعود إلى وكرها وتأرز إلى حجرها وكان عيشها هيناً وأمرها رضياً ومضى على ذلك دهرها وانقضى في أرغده عيش أمرها ففي بعض الأحيان خرجت على العادة للتنزه في البستان فمر بسكنها أفعوان فرأى مكاناً مكيناً وسكنا حصيناً بالأطعمة محفوفاً وبطيب الأغذية مكنوفاً فدخله واستوطنه وترك ما سواه من الأمكنة فلما رجعت الفارة إلى مكانها المألوف وجدت به العدو الظالم العسوف فأحاط بها من الأمر المخوف مما يحصل من الذئب إذا عانق الخروف فأسرعت إلى أمها وشكت إليها نوائب غمها وما دهمها من نوازل همها فقالت أمها لا شك أنك ظلمت أحداً أو وضعت على ما ليس لك يداً أو تعديت الحدود أو عاملت مغرماً بالصدود فجوزيت بإخراجك من وطنك وإبعادك عن مقرك وسكنك ومن ظلم ضعيفاً عاجزاً سلط الله عليه قوياً لاكزا وقد رأيت يا أنسي في حديث قدسي اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصر أغيري فلا تطيلي الكلام ولا تتصوري أنك ترجعين إلى مالك من مقام ولا طاقة لك على مقاومة الثعبان فدعى تعب الخاطر واطلبي لك مأوى غير هذا المكان فتوجهت إلى ملك الفار والجرذان وشكت ما بها من ذلك الشيطان وقالت أنا في خدمتك ومعدودة من رعيتك
عمري على ذلك مضى وزماني في إخلاص العبودية انقضى وأبي كان في خدمة أبيك وجدي عبد جدك وذويك لم نزل في رق الطاعة متمسكين بحبل سنة الولاء مع الجماعة كل ذلك لأمر يدهم أو نازلة تقدم فنستدفع ذلك الخطيب بخطابكم ونستكفي هول ذلك النازل بجنابكم والآن لقد وقعت حادثه بالباب عابثة وبالأفكار عائثة وللأرواح كارثة وذلك أني خرجت من مسكني لطلب قوتي ثم رجعت إلى مبيتي ذو فوجدت ظالماً قد استحوذ عليه وغاصباً قد دخل إليه وهو ثعبان مالي به يدان وقد تراميت على جنابك أستدفع هذا البلاء بك فقال ملك الفار يا سائبة الأشفار من ترك ماله سائباً فقد جعله ذاهباً وقال ذوو الأعتبار وأولو الأبصار ينبغي بل يجب على الدزدار وحافظ القلعة والحصار أن تكون رجله ذات عرج وانكسار لئلا يكون دينار وجوده خارج الدار وأنت أيتها الفارة فرطت في أمرك والمفرط أولى بالخسارة وقد خاب منك المسعى لأنهم قالوا ظلم من أفعى ومن ظلم الأفعوان أنه لا يكد نفسه في حفر مكان وتهيئة مبان ومغان ولكنه حيث وجد مسكناً اتخذه لنفسه مقاماً وطناً وهذا قد عرف مكانك النزه وهو جبار شره فلا يزايله ولا يقابله ومن أين يلتقي مثل هذا المأوى وفي المثل عرف الكلب بيت العميا فالأولى أن ترتادي لك موضعاً فتتخذ به مقاماً ومرتعاً فقالت الفارة وقد تأثرت لهذه العبارة يا أيها السلطان وملك الفار والجرذان فما فائدة خدمتي وانقياد أبي وطاعة جدي الكبير الأبي وإذا كنتم في الدنيا لا تنفعونهنا وفي الآخرة لا تشفعون لنا ولا تدفعون في الأولى صدامات الدواهي والبلا ولا تحمون الأوداء عن مواطئ أقدام الأعداء
ولا تدفعون في الأخرى نوائب الطامة الكبرى ولا تحلونا بما لكم من الاستيلاء غرف الدرجات العلى فأي فائدة لكم علينا ونعمة منكم تسدي إلينا وهل أنتم إلا كما قيل في الأقاويل:
إذا لم يكن لي منك عز ولا غنى
…
ولا عندما يغتالني الدهر موئل
فكل التفات لي إليك تكرم
…
وكل سلام لي عليك تفضل
فقال ملك الفار يا قليلة الاستبصار العديمة العقل والأفتكار إذا اجتهدنا في ردك إلى مكانك وكنا على الثعبان كجندك وأعوانك فهل تشكين يا مسكينة وبنت مسكين في أن الأفعى تتوجه إلى سلطانهموتخبره بشأنها وأنها أخرجت من مكانها وتستنصر بأعوانه وتنتصر على سلطاننا بقوة سلطانه وتستجيش وتستغيث وتغري علينا ذلك الخبيث كما فعل الرافضي العادي العلقمي البغدادي حين دعا التتار الطغام لخراب مدينة السلام ومن بعده الذميم نابذة الإمام وقصد دمار ديار الشام ولا طاقة لنا بعساكر الحيات ونحن في أحيائهم كعساكر الأموات فتذهب الأموال والأرواح وتتعب القلوب والأشباح ومع هذا الأمر المعلوم حصول القصد والظفر موهوم فبالله اتركيني واذهبي واطلبي لك مسكناً غيره ولا تتعبي فقالت هذا منزلي القديم وميراثي عن سلفي الكريم وأين أذهب وفيمن أرغب أن لم تغثني هلكت وانذهلت وانسلبت فقال لا تطيلي القول فلا قوة لنا ولا حول فلما أيست الفارة الغدارة تركت سلطانها
وذهبت وسلكت طريقها وانقلبت وأنشدت فأرشدت:
أبعين مقتفر إليك نظرتني
…
فحقرتني وقد فتني من خالق
لست الملوك أنا الملوك لأنني
…
أنزلت آمالي بغير الخالق
ثم غاصت في بحر الفكر وتشبثت بأذيال المكر واستعرضت على مرآة أفكارها وجوه الحيل واستورت من زناد آرائها سرر النظر في الجدل وأخذت تطوف في أكناف البستان فعثرت في طوافها على ذلك الأفعوان نائماً تحت ورده متطوقاً في أهنى رقدة فرقت غصناً من الأغصان فلاح لها الباغيان قد سقى البستان وهو تعبان متكئاً في الرياض على مسكبة ريحان فاغتنمت الفرصة ونزلت إليه وقربت منه ودارت حواليه ثم وثبت على وجهه وكان نائماً فانتهض مرعوباً قائماً فذهبت واختفت وبذا القدر اكتفت فرجع ونام وغرق في المنام فدخلت في قميصه ورقصت فاستيقظ متعجباً منزعجاً فرآها فهربت ونكصت ثم عاد وأتكا بعدما وغضب وانتكى فوثبت على وجهه وأدخلت ذنبها في أنفه فنهض مستيقظاً مجداً فرآها واقفة لا تتعدى فقصدها فهربت ثم رجع فآبت وأتت فنام في مسنده فقربت منه وعضته في يده فانكته وآلمته وهجته بما أضرمته فطفر من مرقده وأخذ غصناً بيده وقصدها وقد ذاق نكدها فهربت غير بعيد فرأى وجهها من حديد فتبعها فمشت ثم وقفت وارتعشت تطمعه في صيدها وهو غافل عن كيدها فتبعها وهي قائده حتى انتهت به إلى الحية الراقدة فعندما رأى الثعبان نسي أفعال بنت الجرذان فقتل تلك الأفعى ولم يخب للفأرة مسعى (وإنما أوردت) هذه الحكاية لتقفوا منها على طريق النكاية وليعلم الضعيف إذا كان له أعدا كيف يوقعهم في مصايد الردى وإذا استعمل اللبيب العقل المصيب والفكر النجيب وساعده في ذلك قضاء وقدر نال ما أمل وأمن ما حذر وأفلح أمره ونجح فكره وهذا إذا كان الضعيف
مظلوماً والقوى ظالماً غشوماً كما أنتم عليه مما توجهتهم إليه من معاداة شيخ الشام المستحق للتجبيل والإكرام والتعظيم والاحترام فانه على الحق وأنتم ظالمون وقاصد الصدق وأنتم كاذبون يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون فهذا أمر مشكل وداء معضل فأني تصح أبدانكم وقلوبكم مرضى ومن يحبكم وأنتم محسوبون من البغضا وكيف تقتفون وأنتم على الباطل وفي أي ذوق يحلى ما منكم من عاطل وأنا أخاف أي أجلاف أن تسفر هذه القضايا بعد ارتكاب البلايا وتحمل المشاق والتعب باقتحام موارد الهلاك والنصب عما هو وأشد وأنكى وأحر لعينكم وأبكى كما أصاب مضيف العراق مر زوجته بيدة ذات النطاق حين بدا منها الزنبور على حافة التنور فقال الوزير للعفريت أفدنا هذا الصوت يا ذا الصيت (قال) نزل في بعض الرستاق من بلاد العراق فقير نحيف على مسكن ضعيف وكان بعض أيام الخريف والبرد الشديد يقطع الحديد فبعدما طبخوا وتعشوا سجروا النار ليتدفوا فبقي كل من الحضور يتدفأ على جانب التنور فقعد الضيف مقابل زوجة المضيففظهر من تحت نطاقها وجه ذلك الحر الظريف ولاح من تحت السجيف كأنه قرص أو رغيف أو قند عسلي نظيف أو خد جندي نتيف أو القمر شق نصفين أو بدر لاح من تحت ذيل حنين
فلما أحس بحرارة النار وظهر على وجهه الاحمرار صار يتلمظ ويتحلى ولسانه من الحر والدف تدلى فلمحه الضيف وهو يتثائب فتمطى قائم رمحه ونحوه قام وتصاوب وقد قيل في الأقاويل عضوان متعاونان وهما اليدان وعضوان مختلفان وهما الرجلان وعضوان متتابعان وهما العينان وعضوان متصاحبان وهما اليد والفم وعضوان متباغضان وهما الأست والأنف وعضوان متوافقان وهما العين والأبر وكان الضيف يسارقه النظر وبترشف شفاهه بلسان الفكر ويود في مطالعة جبينه لو أتبع العين بالأثر وجعل يتغنى ويترنم ويهيم بما يتكلم:
ليس في العاشقين أقنع مني
…
أنا أرضى بنظرة من بعيد
فتنبه أمام هواء الهاجد وجعل يقوم ويقع وهو راكع ساجد ويسلم على محرابه أحسن التحيات ويتشهد رافعاً إصبعه بالسلام والصلوات ثم غلبته الحيرة فاخذ يجلد عميره فنظر صاحب البيت فرأى الضيف غارقا في ذيت وذيت مشغولاً بكيت وكيت متأملاً معنى هذا البيت:
وعند الملتقى انكشف المغطى
…
تثاءب كسها أيرى تمطى
فأراد أن ينبه ربة البيدار على هذا العثار لتستر حالها وتغطي مالها بطريقة لا يؤبه إليها ولا يقف ضيفها عليها فمد يده إلى سفود وحرك به
النار ذات الوقود فعلق من النار به في الطرف وما شعر بذلك أحد وما عرف ثم لعب ساعة بذلك العود وأوصل في خفية طرفه إلى ذلك الشق المعهود لتيقظ فتتحفظ فشوظها وأجرها وأحرق رأس السفود بظرها فالتأمت وانضبطت واحترقت واختبطت وتحركت بزعجة فضرطت فزادت فضيحة الأنف والأذن ولم يحصل من تلك الحركة إلا الخجالة والغبن (وإنما أوردت) هذه الحكاية لتتأملوا في الغايات والنهايات فإن من لا يراقب ما يأتي في العواقب ما الدهر له بصاحب وهذا الرجل الصالح القيم الراجح ما فاق أقرانه وساد أصحابه وإخوانه إلا بشيء تقدم به عليهم وتحقق موجب تقدمه لديهم وذلك درجات العلم والعمل فبذاك ساد الرجل وكمل وقال منزل الآيات وخالق البريات يرفع الله الذين آمنوا ومنكم والذين أوتوا العلم درجات وقد برع في أنواع العلوم وأطلع على حقيقتها من طريقي المنطوق والمفهوم وأنتم عن طريقه غافلون وعن حقيقة ما هو عليه ذاهلون واعلموا أن طريقه واحدة وهي الحق وطرقكم متعددة وكلها فسق وأتباعه على اتباعه متحالفون وأنتم في طرائقكم القدد متخالفون فقد قال الله تعالى في محكم تنزيله وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وقال بعض أهل الفضل وكلامه في بيان الحق فصل ما ناظرت ذا فنون إلا غلبته وما ناظرني وذو فن إلا غلبني وإنما أخشى أن ناظرت هذا الرجل الكامل الفاضل أن لا أحصل منه على طائل ويظهر فضله قصوري فينهدم بنيان قصوري
فقال الوزراء بعد أن اتفقت الآراء كلمة واحدة متفقة متعاضدة نعم ما رأى مولانا الرئيس صاحب التدليس وإسناداً التلبيس وأنجب أولاد إبليس ونحن أيضاً يا باقعه نخشى عاقبة هذه الواقعة ولقد جرى مثل هذا المجرى بين بزر جمهر ومخدومه كسرى في قضية فاق فيها الوزير مخدومه الكبير فسأل العفريت وزراء عن بيان ذلك الشبان كيف كان (فقالوا) بلغنا أيها الخنس الملقى الوسواس في صدور الناس أن بزر جمهر الوزير كان ذا علم غزير ورأى وتدبير وبديهة جواب تفحم الكد والتفكير وكان حكيم زمانه وعليم أوانه وممن فاق في الفضل والحكم سائراً أترابه وأقرانه وكان مقرباً عند مخدومه يزيد في كل وقت في تكريمه وتعظيمه وتوقيره وتفخيمه ويصغي إلى نصائحه ويعد قربه من أعظم مناجحه ويصبر على كلامه الصادعووعظه القارع ونصحه القارع لما فيه من الفوائد والمنافع والحكم والبدائع وقد قيل من أحبك نهاك ومن أبغضك أغواك فكان الوزير يبادر قبل سائر الخدم في وظائف الخدم ويعجل من الليل والظلم حتى كأنه يوافق النجم أو يسابقه في الرجم ومع ذلك كل يوم يجد مخدومه راقداً في النوم فيقرعه بالغفلة وينقم عليه هذه الفعلة ويعلن بالندا وينادي في الملا فيقول أفق يا محجوب وتيقظ حتى تظفر بالمطلوب فمن باكر نجح ومن فلس المطلوب أفلح ومن تخلف في النوم سبقه إلى المنزل القوم وفاته المطلوب ولا يدرك المحبوب واترك لذة الكرى فعند الصباح بحمد القوم السرى وكان كسرى يجد لهذا الكلام أنواعاً من الآلام لأنه كان يطيل السهر إلى وقت السحر عاكفاً على
المدام وسماع الأنغام ومغازلة الغزلان ومعاقرة الندمان وإحياء الليل عمر ثان فإذا نام واستراح امتد نومه إلى الصباح فلا يوقظه إلا عياط الوزير وصراخ ذلك الصائح النذير فلما طال عليه المطال وغلب عليه من ذلك الملال أرصد للوزير في الطريق من منعه عن التبكير بالتعويق فتصدى له الرصد وأعروا رأسه والجسد وأخذوا قماشه وسلبوا رياشه فرجع إلى بيته مكرهاً ولبس ثياباً غيرها فأبطأ في ذلك اليوم وتخلف في الخدمة عن القوم ولم يجيء إلا وقد استيقظ كسرى من النوم وهو جالس في صدر الإيوان وحواليه مباشر والديوان وسائر الوزراء والأركان وعامة الجند والأعوان كل في مقامه ضابط زمامه فأدى بزر جمهر وظائف الخدمة على عادته ووقف في مكانه مع جماعته فقال كسرى ما دعا مولانا الوزير في هذا اليوم المنير إلى التخلف والتأخير وترك التبكير وإنشاده بالتبكير قول الشاعر الكبير:
بكرا صاحبي قبل الهجير
…
إن ذاك النجاح في التبكير
فقال إن الحرامي عارضني أمامي وقصدني في ظلامي فأخذ شاشي وسلبني قماشي ورياشي فرجعت إلى كناسي وجددت زينتي ولباسي فهذا سبب تأخيري وعدم تبكيري وموجب تخلفي عن وعظي وتذكيري فقال كسرى ما أفادك التذكير إلا الغرامة في التبكير ولولاه ما سلب القماش ولا ذهب الرياش ولا قام الحرامي بالمعاش فأين الفلاح في القيام قبل الصباح فقال بزرجمهر في الحال وقد أصاب في الجواب ليس ذلك كذلك يا إمامي وإنما بكر قبلي الحرامي ولم أباكر أنا بالنسبة إليه فرجع فائدة تبكيره مني عليه فعجب كسرى من خطابه وسرعة بديهته في جوابه
(وإنما أوردت) هذا القول بين يدي إمامنا الغول أو شيخ المردة الهول ليعلم أن كسرى وإن كان عالماً وفاضلاً وحاكماً كما أذعن لكلام وزيره واتبع رأي مشيره وانصف من نفسه إذ أدرك الوزير بفهمه ما لم يدركه هو بحسه فاسترسل معهم العفريت فيما هم عليه والتخلف عما ندبهم إليه وقال فبأي الحبائل نصيدهم وبماذا نكيدهم فقال أحد الوزراء بالنساء فإنهن زمارة المحن وطبل الفتن والطبل لا يضرب تحت الكساء هن أعظم وسائلنا وأحكم أوهاقنا وحبائلنا وناهيك ما قاله العزيز العليم الذي جبلهن على غير تقويم وفطرهن على الكيدان كيدكن عظيم وجعل كيدنا بالنسبة إلى كيدهن سخيفاً فقال أن كيد الشيطان كن ضعيفا وقال سيد السادات ورئيس الرؤساء ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وقال الولي ومن قدره الرفيع على:
إن النساء شياطين خلقن لنا
…
نعوذ بالله من شر الشياطين
وقال من أجاد في المقال المسامع بالأقوال حيث قال:
وما حز أعناق الرجال سوى النسا
…
وأي بلاء جاء لسن له أهلا
فكم نار شر أحرقت كبد الورى
…
ولم يك إلا مكرهن لها أصلا
وإنهن أشرك الأشراك وأوهاق الأزهاق واسواق الغساق ومصائد المصائب ومراصد النوائب وحسبك يا ذا الدها مأوى ذلك الحكيم حين سها وأعن لزوجة لرئيس إذ نبهته على ما عنه لها فسألالعفريت عن تلك الحالة وبيان ما فيها من المقالة
(فقال) ذكر أن حكيماً من العلماء وعالماً من الحكماء أولع بضبط مكر النساء وشرع في تدوينه صباحاً ومساءً وصار يجول البلدان ويطالع لذلك على كل ديوان ويكتب ما يكون وما كان ويحرر من ذلك الأوزان بالمكيال والميزان فنزل في بعض الآناء على حي من الأحياء فصادف ذلك التعس بنت الرئيس فتلقته امرأة ظريفة ذات شمائل لطيفة وحركات رشيقة خفيفة وقابلته بالترحاب وفتحت للدخول الباب فاقبل عليها وترامي لديها فأنزلته في صدر البيت وأخذت معه في كيت وكيت كأنها معرفة قديمة وحديثة كريمة وكان زوجها غائباً قد قصد جانباً فشرعت في نزل الضيف لئلا تنسب إلى بخل وحيف فأخذ يطالع في ديوانه ويسرح سوائم طرفه في ظرف بستانه يشغل أوقاته ويتفكر ما فاته ليتعاطى إثباته فقالت له ضرة الريم ما هذا الكتاب العظيم أيها الفاضل الحكيم فقال شيء صنعته وكتاب ألفته وهو في الغربة أنيسي وفي الوحدة جليسي فقالت يا ذا الحكم والحلم ما فيه من فنون العلم فقال سر مصون وأمر مخزون ودر مكنون لا يجوز إبداؤه ولا يحل إفشاؤه فقالت يا ذا الشكل الظريف والصوف اللطيف والعلم المنيف هذا التعريف لا يليق بالتصنيف فإن فائدة التصنيف الاشتهار وثمرة العلم الانتشار ودونك ما قاله الكئيب في مخاطبة الحبيب:
أذقني من رضابك يا حبيبي
…
فما للشهد دون الذوق لذة
وما أخذ الله على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن أن يعلموا
فقال الأمر كذلك يا زين الأمور ولكن هذا علم يصان عن ربات الخدور فقالت إن الله الجليل الذات الجميل الصفات ذكر المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات وما منع نساء الأنصار الخيرات الأطهار أن يسألن المصطفى المختار عليه أفضل الصلاة والسلام عن غسل المرأة في الاحتلام ولا أن يلجن معه المخاضة في السؤال عن الحائض والمستحاضة فجمع في ميدان الامتناع وأصر على الممانعة والدفاع وقال يا حصان هذا سر يصان لا سيما عمن في دينه وعقله نقصان فأغراها هذا المقال على الإلحاح في السؤال وزادت في اللجاج ومارت في الاحتجاج وترامت لديه وأقسمت بدلالة الدال عليه فقال هذا علم ما أسبق إليه جمعت فيه مكر النساء ومن أجاد منهم ومن أساء ومن تعاطت لطائف الحيل وخفي الفعل وخفيف العمل ومن دعت بدعاها حتى بلغت مناها ومن وقعت في الشدائد فاحتالت بدقيق فكرها لتلك المكايد وتخلصت من شرك المصايد فلما سمعت ما قال ووعت سكت وجهها وأعربت تقهقها وتمايلت تمايل القضيب وقالت سر غريب وأمر عجيب وضيعة عمر حاصل
فيما لا تحته طائل وشغل سر وبال في جمع أمر محال لقد ركبت المشاق وكلفت نفسك ما لا يطاق ونسفت الرمل بالكربال وغرفت البحر بالغربال فإن مكر ربات الخدور لا يدخل ضبطه بسفر تحت مقدور فقال لها أنت غبية وعن هذا الكلام غنية وإن كنت فاضلة ذكية أنا قد بلغت في ذلك الغاية وأحطت به بداية ونهاية ووقفت على نجمله ومفصله فلم يشذ عني شيء من آخره وأوله فسلمت وما تكلمت وغالطت وما بالطت في هذا المقام شيءً فريا ونسياً منسيا ثم نزلت من برج المنازلة وأخذت تلك الغزالة في المغازلة وانتهى بها المقال إلى هذا السؤال فقال أيها اللبيب الماهر ما معنى قول الشاعر:
يهددني بالرمح ظبي مهفهف
…
لعوب بألباب البرية عابث
ولو كان رمحاً واحداً لاتقيته
…
ولكنه رمح وثان وثالثفالرمح الواحد قامته والرمح الثاني ما حوته راحته. وقل يا أبا الحارث ما هو الرمح الثالث فقال: ذلك النبيه قبل ما يظهر من تثنيه فإن هزلين أعطافه وسرعة انعطافه تراه العينان كأنه رمحان وقيل ما يظهر ذلك المهفهف عند هزه الرمح المثقف فإنه
يتراءى للعين الشكل الواحد اثنين ولهذا نظير في اليوم المطير وأحسن مثال عند رشق النبال وفي تدوير المحجن وفتل الصولجان عند سرعة الدوران. وقيل كأن معه رمحان فعده واحداً وهما اثنان وعندي يا دمية القصر أنه ليس المراد الحصر وإنما المراد التكثير يا ضرة البدر المنير لأن عطفه كلما انهز هزه حصل في صدر المتيم وخزه ورمح قامته يثنى ويتقصف فتارة يميل وأخرى في بتثقيف ولطعن العشاق يخطر ويتهفهف فالمتيم لا يبرح من قده في طعنات كما لم يزل من سهام جفنه في محزات ووخزات وهو من المجاز المرسل إذ المراد الطعن من ذلك الاسل وكأن قصده أن يسرد الأعداء إلى غاية ويبلغ ما لا نهاية فيقول ثان وثالث ورابع وخامس وسادس وسابع فلم تسع القافية:
يا من بوصلها شافيه
…
ورضابها عافيه
ونظير هذا يأجره إن تستغفر لهم سبعين مرة، وليس المراد الحصر يا رقيقة الخصر ويا عين العين في السبعين حتى لو زاد على هذا العدد لغفر لهم الواحد الصمد بل المراد أنه لا يغفر لهم ولو زاد فقالت: يا صاحب البيان وربه إنما عنى بالرمح الواحد زبه فأفصحت له بالكلام عما لها من مرام كأنها ثالثة بنات همام فخجلت عين الرجل واستحت لما أفصحت عن مقصودها وأوضحت
فقالت: حبيت وحييت لا تستح واصنع ما شئت فحركت بهذا الكلام العابث من الشيخ الحكيم الرمح الثالث فمد إليها يد الفاجر العائث وذهب لب ذلك الرجل الحازم، وراودها مراودة العازم الجازم، وصارت تلك اللاعة بين الأطماع والمناعة تنثني وتنقصف فتارة تتثقف وأخرى تتخسف وبينما هما في المجاذبة جاء زوجي وهو عنيف عنيد فسلب الفرار وطلب الغرار ووقع ذلك الحكيم النبيه في فتنة فيها الحليم سفيه ودهمه ما هو أهم مما هو فيه من دواهي العشق ودواعيه ونسى العشق والعشيق وطلب الخلاص من المضيق وأظهر صورة حاله ما عناه الشاعر في قاله:
سألت مجربا طبا عليما
…
خبير بالوقائع مستعاذا
وقلت الشهد أحلى أم رضاب
…
أم النيك الذي للروح حاذي
فقال وحق ربي النفس أولى
…
إذا جر الجزا هذا وهذا
واشتغل الحكيم بنفسه وخاف حلول رمسه وكان في طرف البيت صندوق مقفل عليه ستر مسبل ففتحت له الصندوق ورعت له بإخفائه عن زوجها الحفوق وأمرته بولوجه ليكفي من زوجها شر خروجه فشكر لها صنعها وامتثل وانسل إلى ذلك اللحد الضيق فأقفلت عليه أغلاقه وأحكمت وثاقه ثم تلقت زوجها بالترحاب ودخلت معه في الأطعمة من كل باب وقدمت له ما أكل وانسدحت له فركب ووكل
ثم قالت أخبرك يا حبيب بوقوع أمر غريب وحادث بديع عجيب وهو أنه قدم حكيم فاضل حليم عالم عظيم فأكرمت نزله، وبوأت منزله، وكان معه كتاب فيه العجب العجاب فسألته عما حوى فقال مكر النسا فقلت له هذا شيء لا يحصى ولا يحصر ولا يجمعه ديوان ولا دفتر فلم يسلم إليّ ولم يعول علي وذكر أنه أنهاه ولم يدع من مكر النسا فنا لا أوعه إياه فما وسعني إلى أني غازلته وداعبته وهازلته فطمع من لين محاورتي في حسن مزاورتي وطلب مني ذلك العقوق ما هو أعز من بيض الأنوق، وبينما نحن في العيش الرغيد وإذا بك أقبلت من بعيد كل ذلك والحكيم يسمع قولها وما تخبر به بعلها فلما سمع الزوج هذا الكلام اضطرب وزمجر فلم يبق الحكيم مفصل إلا ارتجف فقال هاهو في الصندوق مختفي فخذ ثارك منه واشتفي فنهض وصاح هاتي المفتاح فعلم الحكيم أن عمره ذهب وراح، وكان سبق من زمان، بين الزوجينعقد رهان أنه من فتح منهما الصندوق غلب وأقام لصاحبه بما طلب فلما ذكرت له حكاية الحكيم تذعنه عقد الرهن القديم وذهل لشدة الغيرة ووفور الحيرة وتوجه إلى الصندوق فبمجرد ما فتح القفل المغلوق صاحب عليه غلبتك يا معشوق فأد ما ثبت لي عليك من الحقوق فتذكر عقد المراهنة ولم يشك أن كلامها كان مداهنة فضحك بعد ما كان عبس وألقى المفتاح من يده وجلس ولعنها ومكرها ولعبها وفكرها ثم اصطلحا وانشرحا وزاد انشاطاً ومرحاً ثم خرج في ضروراته وتوجه إلى حاجاته فأقبلت تلك العروس إلى الحكيم
المحبوس وأفرجته من الاعتقال وذكرت له هذه المناقلة والانتقال وقالت أيها الحكيم العظيم هل كتبت هذه المناقلة كتابك الكريم فقال لا والله الرحمن الرحيم وإني قد سلمت إليك وتبت إلى الله علي يديك (وإنما أوردت) هذا المثال لأعرض على شيخ السعالى وإمام الأغوال أن النساء في هذه الحركة أعظم متشبث وأقوى شبكة وهن لسلب اللب من الرجال أضعاف فتنة المسيح الدجال خلقهن أعوج وخلقهن أهوج ورأيهن غير سديد والرجال لهن أذل عبيد وإن كن ناقصات عقل ودين، فهن الكاملات في سلب العقل المتين والفكر الرزين وأذهب للب الرجل الحازم والعقل السديد الجازم وهل أخرج آدم من جنة المأوى إلا قصة صدمته من قبل حوا وما قتل هبيل قابيل إلا بفتنة الزوجة كما قيل وكذلك قصة من أوئى الآيات فانسلخ منها وقد عرف كل ذلك إبداء وإنها وغالب من عصى الله وأسا إنما كان سبب كفره واخزائه النسا فلا تعترضوا على هذا الرأي المتين ولا تتعرضوا لهذا الرجل فإنه على الحق المبين ولا تقصدوا لمعارضته وسؤاله فربما يكون مجالكم أضيق من مجاله وإنا لا نقدر على مناقشته ويظهر جهلنا وعجزنا عند مباحثته فقال سائر الوزراء هذا الرأي أصوب الآراء فإنا إلى الآن ما بارزناهم بالمخاشنة وإنما كنا نأتيهم بالمخادعة والمحاسنة فنزين لهم الباطل ونجلي لهم العاطل ونشوه وجه الحق ونسود طلعة الصدق إلى أن ظهر هذا الرجل ونحن على ذلك فوقف في طريقنا وأراهم الدرب السالك وعلا شأنه ووضح برهانه ونحن على ما نحن عليه من الإغواء وإلقائهم في
مهاوي الأهواء والحرب بيننا وبينهم سجال فلو كاشفناهم بسوء الفعال انكشف لهم زيف نقدنا وبطل ما كنا نسوله بجهدنا فإذا ظهر الحق من الباطل وتميز الحالي من العاطل أخذوا حذرهم وضبطوا أمرهم وداروا بالعداوة ومروا بالملوحة من الحلاوة ثم ظفرنا بهم موهوم ونصرنا عليهم غير معلوم فما نظفر إلا بالندامة ونرضى إذ ذاك بغنيمة السلامة ويستمر هذا العار علينا إلى يوم القيامة وقد قيل:
لا تسع في الأمر حتى تستعد له
…
سعي بلا عدة قوس بلا وبر
فعند ذلك استشاط العفريت غضباً وطار شراراً لهذا الاشتعال ولهباً، وقال: لقد عظمتم من شأن الإنسان وأوهنتم بل أهنتم جانب إخوانكم الجان وضيعتم حقوق الإخوان وأبطلتم حكاية السعالى والغيلان ونسيتم فتن جدكم الأعلى الباقية على ممر الزمان ونحن أدق حيلة، وأجل جماعة وقبيلة، وأوسع ذكراً وأسرع مكراً وأقدم وجوداً، وأعظم جنوداً، وأغزر علماً، وإدراكاً وفهماً، ولا أرى لكم همة صادقة ولا عزيمة موافقة وأنا ما قلت لكم ما تقدم من القول إلا لأخبر ما في فرائض علمكم من الرد والعول فلا أقوالكم سديدة ولا أفعالكم رشيدة، ولقد حل بكم الصغار وسطا بكم من الأنس الصغار وأما أنا فلا بد لي من المباحثة والمناقشة والمنابثة والإلقاء للمسائل والأبحاث في الرسائل من غير وسائط ولا وسائل ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينه فأعلموا ذلك وتحققوه ثم أمعنوا النظر فيه ودققوه وهذا هو الرأي الذي الذي صممت عليه فليتوجه كل منكم بقلبه وقالبه إليه ويقل في ذلك غثه وسمينه ويلق هجان قوله وهجينه ولا يدخر شيئاً من آرائه فلا بد لي من إلقائه
وأعلموا أن الولي الخرار الذي هو إلى جهة جار لو اتفقت الآراء على صرف جريانه إلى جهة أخرى وأن يسد عن هذه الجهة المجرى فإنهم لو قصدوا ذلك من أسفل الواديلسخر منهم الحاضر والبادي، ولا يتهيأ لفاعله ما يتمناه حتى يسد طريق الماء من أعلاه. وأنتم إن قصدتم معالي الأمور وإهلاك رؤوس الجمهور ثم تعمدتم الأراذل وتبدلتم الأكابر بالأوغاد والأسافل فإنكم إذاً أغمار وقد ضيعتم في غير حاصل الأعمار وقد قيل:
إذا كنت لابد مستتربا
…
فمن أعظم التل فاستترب
وما اللجين كالرصاص والجروح قصاص ولا يكافأ الربيس إلا بالربيس ولا يقابل النفيس بالخسيس وأي فخر للملوك إذا نازلوا السوقة والصعلوك وقد قيل:
ألم تر أن السيف بقدره
…
إذا قلت هذا السيف أمضى من العصا
وما أكتفى صناديد قريش يوم بدر بدون اكفائهم في النسب والقدر وماذا تفيد بيلستكم وتجدي شيطنتكم ووسوستكم وأنتم أولوا الزعاره وذوو الشطارة والدعارة إذا قهرتم من الأنس وعلاكم أضعف جنس وهم أقصر أعماراً ونحن أطواراً لم نزل نصادم الجبال ونقتحم الأهوال ونظهر
كما شئنا في باب الخيال ومن قبل جدنا اللعين جادل رب العامين فقال في حق جدهم أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين وقال لأغوينهم أجمعني. وقال ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثر شاكرين. وهم يموتون وهو من امنظرين وعلى كل جال نحن أقوى منهم وأجرأ وأعرف بطريق الخبث والمكر وأدرى بالجملة الحكم على الشيء فرع عن تصوره والشخص لا يحكم على شيء إلا بعد تصوره وتقرره وهذا الإنسان إلى الآن لا سبرناه ولا خبرناه ولا عرفناه ولا عرفناه فكيف فكيف تقطعون له بالغلبة وتفضلون علينا مسيره ومنقلبه، وإن لم تفصحوا بالعبارة فقد دللتم على ذلك بالإشارة وكنيتم عنه بالتلميح والكناية أبلغ من التصريح هذا ونحن كم قد أضللنا من حكيم وأذللنا من عليم وأفسدنا من عقائد وعقدنا من فسائد ونصبنا لهم من مصايد وأرصدنا عليهم من مراصد وأبطلنا من طاعات وعطلنا من خيرات وأخللنا من صلوات وأحبطنا من زكوات ومنعنا من حجات وصدقات وضيعنا من ميراث ونفقات وأسقطنا من أعمال الصالحات وكم لنا في الشر من سوق ومن سوق إلى فسوق وإلقاء في حرام وتسربل بمظالم وآثام وكم لنا من إحكام أحكام على القضاة والحكام يستحلون بها السحت والحرام ويأكلون بها أموال الأيتام ويستبيحون بها الدماء والفروج وكم دخلنا فيهم فأخرجنا منهم الإسلام أخفى خروج وكم لنا فيهم من مصائب لعصائب وحواصب
مناصب وكتائب نوائب وعجائب نواهب وغرائب نوادب نسلبهم بها دينهم ونمنعهم اعتقادهم الحق ويقينهم وكم لنا في سكونهم إلى الطاعات من حركات وفي ركونهم إلى الخيرات من سقطات وكم لهم إلى الطاعات من همم فبردتها وساوسنا فحصل منها في أحشائهم الضرم وفي وجود خيرهم العدم وفي صحة إيمانهم السقم وفي شباب صدقهم الهرم وفي سكون أمانهم الضر بان والآلم في دائرة حلالهم الحرام وكم وكم وكم وكم ونحن الآن على ما كنا عليه وهو الذي طبعنا عليه وندبنا إليه دأبنا عن الحق أضلالهم وعن الصراط المستقيم إزلالهم وإلى الباطل دلالتهم وإطلالهم نزين لملوكهم الاجتراء ولكبرائهم الافتراء ولرؤسائهم الازدراء ولعلمائهم المراء ولزهادهم الرياء ولتجارهم الربا ولأمرائهم سفك الدما ولنسائهم السلاطة والزنا ولخواصهم الغيبة والغميمة وعوامهم الخوض في كل جريمة وللمشايخ قول الزور ولنسائهم الوقاحة والفجور وهذا دأبنا ودأبهم. ولم نزل أوهاقنا ورقابهم فإن قلنا نصل هذا الواصل فإن هذا تحصيل الحاصل وإن قلنا نستأنف عملاً جديداً فإنا لم نترك في ذلك ما يبقى مزيداً وقد بلغنا في ذلك كله الغاية وهانحن ملابسون منه ما ليس وراءه نهاية ولم يبق إلا المقابلة في المقاتلة والمباشرة بالمكاثرة والمفاتحة في المقابحة والمكالحة في المناكحة فلما سمع الوزراء هذا الكلام عرفوا أن أسباب دولتهم آذنت بانصرام غير أنهم لم يقدروا على المخالفة فما وسعهم إلا المطاوعة والمؤالفة لئلاينسبهم إلى غرض فيصيبهم منه عرض أو مرض. فحسنوا له رأى المصادمة ومباحثة العالم والمقاومة
واتفقت الآراء أن يرسلوا للعالم أولاً وانتخبوا من يصلح أن يكون مرسلاً فيحمله العفريت في الرسالة ما تتضمنه من الحماسة والبسالة حسب ما يراه رأيه التعيس وفكره المدبر الخسيس. وكان في سياطينه المردة وغيلانه العتاة العندة عفريت من الجن مارد مسن اسمه صن بن مصن، قد أضل عقائد وأزل قواعد وأشرب بغض بني آدم وغمس طائفة منهم في نار جهنم بعدما غهم من المعاصي في يم لا يمنعه وجوم عن الهجوم ولا يخاف الرجوم من النجوم طالما أطال العوائق في المغارب والمشارق. وأضرم نيران الإفساد بين الخلائق وملأ ما بين الخافقين من مواقع الصواعق وفوح نتانة النوساوس وفساء الظربان في المجالس وانقض للشر والفتن على كل قائم وجالس فكم له توفيق بين الحرامين وتغريق بين الحلالين وسفك دماء بين الأخوين وإلقاء للبغضة بين المحبين والعداوة بين الألفين والعربدة بين السكارى والحروب بين المسلمين والنصارى. وبالجملة فقد أوتي من الوسوسة والتلبيس صنوفاً كثيرة
فاق بها على ذرية أبليس فانتدبه العفريت الملم إلى هذا الأمر المهم، وأمهلاه إلى أن انسلخ أهاب الضو ثم طار في عنان الجو حتى وصلا إلى سفح الجبل، متعبد ذلك العالم البطل الذي ملأ الدنيا بالعلم والعمل ثم كمن العفريت في مغارة وأرسل رسوله بالسفارة يقول أبلغ عالم الأنس صاحب الكرامات والأنس ومقرب حظيرة القدس، عن شيخ العفاريت الطغاة المصاليت أني من قديم الزمان وبعيد الحدثان أضللت كثيراً من الناس، بالمكر والخداع والوسواس وفي أمثالي نزلت قل أعوذ برب الناس، وابن عمي هو الوسواس الخناس، وكان من جنس بني آدم كذا كذا ألف عالم
خدامي ومعي وجندي وتبعي منهم رؤس الزهاد وعلماء العباد، وعلى محبتي مضوا، وباتباع أوامري قضوا فأنا فتنة العالم وأعدى أعداء بني آدم الشيطان الرجيم، وأبليس الذميم اسم ذاتي ووصف صفاتي، أنا مقتدى الشياطين ورأس العفاريت المتمردين ومحل غضب رب العالمين خلقت من مارج من نار، وطبعت على إلقاء البوار والدمار رجوم النجوم إنما أعدت لأجلي، وعتاة الغواة لا تصل رؤوسها إلى مواطئ رجلي إلا من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب آية منعتي، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم طراز خلعتي، أأسجد لمن خلقت طيناً مقام مقالي لاحتنكن ذريته إلا قليلاً مجال جدلي، لعنه الله، وقال لاتخذن من عبادك نصيباً مفروضا منشوري القديم يعدهم ويمنهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، مرسومي الكريم، الشياطين تستمد من زواخر مكري والأعور اللعين يقتبس من ضمائر فكري، لم تمر قضية في الزمان الغابر إلا ولي الشركة فيها ولا حدثت محنة لنبي ولا ولي إلا وأنا متعاطيها، جدي إبليس، نهض لجدي التعيس، وغلى نحو آدم هوى، فعصى ربه فغرى، وأنا قضيت بالتسويل، حتى قتل قابيل هابيل، وحلت بقوم نوح عن النصوح وأرشدت المجوس إلى عبادة النار ووضعت الناقوس، وأضللت عاداً وثمود، وشداداً ونمرود، وبعثت على عبادة الأصنام في البيت الحرام، وعلى كيفية إلقاء إبراهيم في
نار الجحيم، وهديت قوم لوط إلى الخوض في التلوط ومحافر القلوط، وسولت لأولاد يعقوب وحاولت في قضية ايوب، وتصديت لابن إسماعيل وعارضت ابنها وهو مع الخليل، وأنسيت يوشع قصة الحوت، وساعدت على صاحب الحوت، وجلست بالعصيان على تحت سليمان، وحضرت وقعة طالوت، وساعدت عليه جالوت، وأنا كنت العون لهامان وفرعون، وبحسن ضبطي قتل موسى القبطي، وأنا فتنت داود، وأغويت قارون اليهود، وسلطانهم على الوالدة والمولود، ودللت على نشر زكريا، وذبح يحيى، وجرأت على قتل الأنبياء والأولياء، وتوصلت بتزيين الوسواس لقاتلي الذين يأمرون بالقسط من الناس، ودعوت على عبادة العجل قوم موسى، وساعدت في التفريق، والإظلال بين أمة عيسى، وكم أغويت من رهبان، بما زخرفت من صلبان، وقد بلغني من جميع مسترقي السمع وطن على أذني، ووعاه خاطري ووقر في ذهني، وأنا أشارفالتخوم واسارق النجوم وأسابق الرجوم، إن لي أسماء تذكر في السماء منها الغيظ الرقبة، وشيخ نجد وأزب العقبة، والمقيم في الدست البيضة، والغوي على نقض عهد بني قريظة، والمحرض على أحد وبدر من الصناديد كل جليل القدر والمشهور في أحد بالندا، والملقي العرب بالردة إلى الردى، وأنا المتسبب في قتل عمر وعثمان، وإهلاك على أمير الشجعان، والغوي في وقعتي الجمل وصفين، والملقي الفتن بين جنود المسلمين، وإن شري سرى إلى يزيد وفاض للحجاج والوليد، وبي تكثر البدع بين الجماعات والجمع، ويظهر من الفتن ما يطن، ويغلب من التتار وأهل البوار والخسار أنواع الشرور والجدال إلى حين يظهر الدجال، وتستمر هذه الأمور إلى يوم البعث والنشور،
وبالجملة والتفصيل أنا شيخ التكفير والتضليل، وتلك صنعتي من الابتداء، وحرفتي إلى الانتهاء، ثم إنك نبعت في هذا الزمان، وظهرت في هذا المكان، تريد أن تهدم ما بنيته، وتعوج بصلاحك ما بفسادي سويته، وترد كلامي وتعاكسني في مرامي، وأنا كنت في قديم الزمان، من قبل أن توجد أنت في هذا المكان ناديت بين بنيه وشهرت في ذوقه قولي:
كلوا واشربوا وازنوا ولوطوا وقامروا
…
وهيا اسرقوا وخوضوا والدما جهرا
ولا تتركوا شيئاً من الفسق مهملا
…
مصيركم عندي إلى الجنة الحمرا
وكانوا قد سمعوا وأجابوا وأطاعوا وأنابوا وشملي بهم منتظم، وأمري بتفريق كلمتهم ملتئم، وأسهم مرامي المشومة نافذة في المشارق والمغارب، وسيوف مناشري المسمومة قاطعة في الأعاجم والأعارب، كم لي في الأطراف والآفاق والاكناف من قاض ونائب ومانع من الخير حاجب وأمير وصاحب، ووزير وكاتب، ومشير وحاسب، وجليس ونديم، وتابع وخديم، وناظر وعامل، وناقص وكامل، وكم لي من جابي منوط بتفريق قلوبهم وجمع سويدائها إلى بابي، وكم لي في المدارس ذو وساوس، وفي الجوامع والبيع والصوامع من مذكر وواعظ وإمام وحافظ، ومقرئ وعابد، وشيخ وزاهد، وكم لي في الزوايا من خبايا، وفي أصحاب الروايات من درايات، وفقيه في النادي فاق الحاضر والبادي، يعلم في الشيطنة أولادي، وفي البيلسة حفدتي وأجنادي، وأما سائر الفساق في الآفاق، وسكان الأسواق، وقطان الجبال والرستاق، ورجال الحاري والأوراق، فكلهم لي عشاق وإلى ديني مشتاق، وسل عني أرباب الحانات، وسكان الخانات، وبالجملة غالب الطوائف وأرباب الوظائف على باب خدمتي واقف، وعلى طاعة مراسيمي ليلاً ونهاراً عاكف، مناي مناهم، ورضاي رضاهم، وأن خالف بعض سري نجواهم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل
ما هم، وأنت الآن جئت برايتك وسالوسك، وطامتك وناموسك تبدد عني عساكري، وتشرد من بني الأنس عشائري، وتشتت جموعي، وتخلي من الفسق والفساق ربوعي، من غير أن تشاورني، ولا تخبرني ولا تحاورني، ولا تبحث معي، ولا تناظرني، وهاأنا قد جئت إليك، ونزلت كالقضاء المبرم عليك، أريد أن أناظرك في أنواع من العلوم، وأسألك عن حقائقها من طريق المنطوق والمفهوم بحضرة من الجن والأنس، وسائر نوع الحيوان والجنس، فيظهر إذ ذاك جهلك فينبذك قومك وأهلك، ويتركك معتقدوك، ويتراجع عنك مريدوك، وأفسد بين العالم صيتك وأتلفه فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه.
فلما وصل رسول العفريت الكافر الصفريت إلى الشيخ العاد والعالم الزاهد الجاهد المجاهد فعندما وقع نظر الشيخ عليه ووصلت سهام لحظاته إليه، كاد أن يذوب مالملح، وأن لا يقوم الفساد للصلح، فبهت الذي كفر، وأخذته الدهشة والخور، وغلب عليه الانبهار وكاد يحترق من الأنوار، واستولى عليه الرجيف، وسقط من الوجيف، فما أبدى ولا أعاد ولا قام للصلاح ذلك الفساد. فقال له الشيخ مالك: وما أحالك وغير حالك؟ وما موجب دخولك علي وأنت غير منسوب إليّ؟ فقال: كف عني أنوارك واطوعني أسرارك حتى أقول فإني رسول فمالي طاقة برؤيتك ولا سواغوما على الرسول إلا البلاغ.
فقال: رسول أي طغين وسيطان لعين. فقال: أنا رسول محبك العفريت المشقوق الحوافر، الواسع المناخر، المسلوب المفاخر، أبي السعالى الكافر العالي، قد أقبل إليك في جمع كثير، وعدد من الجن غزير، ومعه رؤوس العفاريت والعتاة المصاليت، والطغاة المفاليت، وقد حملني إليك رسالة، تتضمن من الخبث شجاعة وبسالة، إن شئت أديتها، وإن أبيت رديتها، فقال: قل ما تريد وأبلغ ما معك عن ذلك العنيد وأوجز ما تقول، ولعن الله المرسل والرسول. فأبلغ الرسالة وأداها وأسال في أوديتها مؤداها. فقال الزاهد وكان بالأحوال خبيراً: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا. والله ما لكم شبه في هذا الكيد إلا الحمار في الوحل والحمام في شبكة الصيد. قل لمرسلك أرى قدمك أراق دمك وهواك أهواك وأفعالك أفعالك لم وسؤالك أسوا لك وخيالك أخبى لك فأولى لك أولى لك، ولعن الله أولى لك لا شك أن الله تعالى أراد دماركم وأن يمحوا آثاركم ويخلي دياركم فتستريح البلاد من فسادكم والعباد من عنادكم أما أنا فأذل الخلق وأحقر الداعين إلى الحق، ولكن بعون الله وقدرته وإلهامه وقوته لي من اعلم والفضل ما أجيبه ويقتله من خوفه به وجيبه وسيظهر في الجمع على رؤوس الأشهاد عويله ونحيبه وسيبين اللع في سنن الخلق فروضه، ويكشف صحيح الحق ومريضه، وإذا أدعى بدعاوى طويلة عريضة فإن الله تعالى قتل نمرود العاتي ببعوضة، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون.
أما سمع ذلك الملعون، وعلم الشقي المغبون، أنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون. فمتى أراد يحضر ويسير نفسه وخصمه ويخبر ويصحب معه من يريد من كل جني عنيد وشيطان مريد فإن الحق يحق فيبطل الباطل، ويتميز في حلبة السباق الحالي من العاطل، فرد هذا الجواب الرسول، وكشف حقيقة المقول. ثم إن العفريت المخذول سأل الرسول عن أوضاع الشيخ الزاهد وأحواله في المساجد والمشاهد وما شاهده من أموره وحكاياته وحركاته وسكناته وأخلاقه ومعاملاته وكيف هيئته وصورته وما شاع عنه في قومه من سيرته. فقال: رأيت رجلاً سعيد الحركات كامل البركات صورته جميلة وأوصافه نبيلة، وهيئته جليلة، بدنه نحيل وفضله عريض طويل، وكلامه الصادع في أمثالنا ثقيل قاطع. فقذف الله في قلبه الفزع، وأخذته نوافض الرعب والهلع. فقال: أما والله إن هذه الأوصاف لصعبة الأعراق والأعراف، وستطرحنا وراء جبل قاف وإنها لسيمة الصلاح وعلامة الفوز والنجاح، وإنهم لهم المنصورون، وحزب الله هم الغالبون، ولقد ندمت على مراسلته، وكان الأولى سلوك طريق مجاملته ولكن الشروع ملزم ولابد أن أتم ما عليه أعزم، فواعده إلى وقت معلوم، ثم إنه أحضر وأحضر معه من جنده كل جني ظلوم وعفريت غشوم، ومتمرد مشوم ومخلوق من قبل من نار السموم.
واجتمع من بني آدم عند الشيخ تلامذته وأصحابه الصالحون وجماعته وكانوا الجم الغفير والجمع العزيز، واشترطوا بعدما خبطوا واختبطوا وحلوا وارتبطوا أنه أن أجاب الشيخ سؤالات العفريت، وسرى في نارهم سريان النار في الكبريت، لا يظهر بعد ذلك اليوم لبني آدم أحد من أولئك القوم بل يكونون عن الأبصار مختفين وتحت الأرض في الجزائر والخرائب كزنادقة بغداد منتفين. وإن عجز الشيخ عن جواب سؤاله يهلكه العفريت مع خيله ورجاله ثم شرع العفريت في الرسائل، وإلقاء المسائل فقال العالم: على كم بالعرض والجسم وهل للعالم موجد وهل هو واحد أو متعدد؟ فقال الزاهد الإمام العالم على ثلاثة أقسام (الأول) مفردات العناصر كالتراب والماء والنار والهواء، وتسمى الإستقصاآت
وأصول الكائنات والمركبات من هذه الأجزاء المفردة لا تستمر على حالة واحدة ولا تخلو من حركة وانتقال ودأبها التغير من حال إلى حال (الثاني) الأجرام العلوية كالسماوات وكواكبها المضية، وهي متحركة بالبروج ولحركتها دائرة ما لها من مركزها خروج فهي متحركة من بعض الجهات ساكنة كالفصوص في المرصعات وتوصف في حركتها بالصعود والهبوط والارتفاع والسقوط والرجوع والإقبال واستقامة الحال والاحتراق والانصراف والانحطاط إلى الحضيض والإشراف ويحكم عليها بالافتراق والاقتران والتربيع والتثليث والتسديس في السيران والمقابلة في الرجعة وبطئ السير والسرعة وينسب إليها ما يحدث في
العالم السفلي من جزئي الوقائع والكلي ومن نحوسة وسعادة ونقص وزيادة وخير وشر ونفع وضر وتأثر وتأثير وقليل وكثير وانحراف واعتدال وحدوث وزوال وصحة وسقم وسكون وألم ووجود وعدم فبعض من لم يعرف الطريقة يسند هذه الأشياء على الحقيقة، وذلك لقصور فهمه وقلة العقل كقول الجاهل أنبت الربيع البقل. وبعض من لم يكن له إدراك يزعم أن هذا إشراك ولا يسند هذه الحوادث إليها ولا يعول في ذلك أبداً عليها لا بالحقيقة ولا بالمجاز ولا يسلك في ذلك إلى طريقة المجاز والمحققون من العلماء والراسخون في العلم من حكماء الفقهاء يسندون هذه الحوادث والتأثير إلى قدرة اللطيف الخبير الصانع القدير الفاعل المختار الذي يخلق ما يشاء ويختار فإذا نسبوا هذه الأفعال إلى غير ذي الجلال فإنما يجعلونها في ذلك الباب كالآلات والأسباب كتأثير الخبز في الإشباع والنار في الإحراق والإيجاع وكفعل الماء في الإرواء والدواء في الأدواء وإنما ذلك كله بتقدير صانعها وما أودعه فيها من خواص بدائعها وصفات ودائعها كخاصية الإسهال المودعة في السقمونيا وخواص التصبير وغيره الكامنة في الموميا والإسكار في الخمر والإحراق في الجمر وقد رأينا القوة النامية عقيب الأمطار الهامية والشمس حامية تهيج وتنمو وتموج وتزكو وهذا الصنيع البديع إذا حلت الشمس في برج الحمل وقت الربيع وإذا نقلت إلى برج الأسد احترق ذلك الجسد وعند نقلها إلى الميزان ينقلب هذا الزمان، وكذا إذا تحولت الغزالة إلى برج الجدي فكأنه بلغ إلى محل الهدى فتموت إذ ذاك قوة الزمان، ويضعف لذلك غالب الحيوان
وهذا كله مشاهد محسوس لا يمكن أن تنكره النفوس خواص وضعها خالق الكون، يستفاد بعضها من الطعم والريح واللون، وبعضها لا يدرك ما أودع فيه الابارشاد خالقه ومنشيه، هكذا جرت سنة العزيز الوهاب أن الأحكام والوقائع تناط بالأسباب، وقد يختلف منها الأثر عن المؤثر ليعلم من ذلك وجود سنة القاهر المدبر وأنها مقهورة تحت الأمر ومقسورة فسر العقل مع الخمر ولولا أن ذلك من سر جسيم لما تخلفت النار عن إحراق إبراهيم ولما ولدت مريم ولا أغرق البحر القبط وأنجى بني إسرائيل وموسى وكم من آكل وهو جيعان وشارب وهو عطشان ومتدثر يتدفأ بالنار وهو بردان والفلك الأعظم محيط بهذه الأجرام ونسبتها إليه كنقطة للبحر الطام متأثرة بتأثيره دائرة بتدويره يتصرف فيها على حسب ما شاء باريها وصرفه فيها منشيها فاطر السماوات والأرض جامع الخلائق ليوم العرض وكما هي محاطة بالدائرة الفوقانية كذلك هي محيطة بالكرة لتحتانية (القسم الثالث) العقول والنفوس الملكية وهي أشرف من الأجرام العلوية ومقام هذه العقول في مقام عزيز الوصول يسمى أعلى عليين وجواهرها لا توصف بتحريك ولا تسكن ولا بهذه البساطة والتركيب وأمرها بديع وشأنها عجيب وأما العرض فما لا يقوم بذاته، وهو في العالم كالألوان والطعوم وأصواته والروائح والقدر وإراداته وأما الجسم فما تركب من جوهرين فأكثر وما قام بنفسه يسمى الجوهر
(وأما) الموجد للعالم فهو واحد لا ينثني واحد لا يتجزأ ولو لم يكن للعالم صانع لكان العالم أضيع ضائع وهل رأيت مصنوعاً بلا صانع وسقفاً مرفوعاً بلا رافع وهل نفي الصانع إلا مكابر. وما يجحده إلا النفوس الكافره فقال العفريت: فما لدليل على وجود الصانع العقل والنقل أم أحدهما متبوع والآخر تابع فقال العالم الزاهد: قد أطبقت العقلاء وأجمعت الحكماءأن العقل دليل على وجود الصانع وبه الدلالة والشرع له تابع وكما هو الدليل على وجود الذات كذلك هو الدليل المستقل على إثبات الصفات وهي صفات الكمال، ونعوت الجلال. فقال العفريت: فما الدليل على وحدانيته
فقال الزاهد كل من العقل والشرع كاف في دلالته. قال العفريت: فما المراد من عالم الكون والفساد؟ فقال العالم: معرفة أمور المبدأ والمعاد. قال العفريت: فما أفضل العقل أم النقل؟ فقال العالم: كل منهما حجة الله قد أسند له من عباد من يراه وذلك إن الله لما أرشدنا إلى الدين القويم، وثبت أقدام توحيدنا على الصراط المستقيم، نبهنا إلى أن المقصود من الدخول في دائرة الوجود معرفة موجودنا المعود، كما قال من يقول للشيء كن فيكون، وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ثم طلب مراضيه بما تبرز به أوامره وتقتضيه وذلك هو الرشاد ياذا المكر والعناد
إلى المعارف الإلهية وما به نظام المعاش ونجاة المعاد وليس لنا دليل في العلم والتعريف سوى طريقتين مرشدتين إلى التوقيف على أمور المبدأ والمعاد وما بينهما في دار التكليف إحداهما ما جبلنا عليه وما اكتسبناه من العقل وثانيتهما ما بلغنا من الأخبار الصحيحة والنقل فالعقل لا يدخل في إثبات المعارف الإلهية ولا في هذا الباب المقدم من الأمور المعاشية والمعادية وهو حجة الله القاطعة البالغة وأصل براهينه الساطعة الدامغة وبواسطته استعبد عباده الكملة وإلى من خصه به أرسل رسله ثم العقل جوز إرسال الرسل ولا يرد ما تقوى به لتوضيح السبل والنقل لا يأتي بما يناقض العقل وإنما يرد بما يزكي قضاياه وبصقل مرائي أحكامه أحسن صقل ونظير ما حصل للعقل بالشرع من الاستئناس ما حصل للكتاب من معاضدة السنة والإجماع والقياس ولو ورد المنقول بما يناقض المعقول لأشبه فرعاً يوجد ماله من أصول إذا أقبلت مواكب الأوامر الإلهية على لسان الرسول خضعت جماجم العقول منقادة بزمام الانقياد والقبول سامعة لما يرد منها مطيعة لما يصدر عنها فتارة يظهر للعقل ما للأوامر الشرعية من الحكم كنار على علم وتارة يعجز عن الإطلاع على ما تضمنته الأحكام النقلية من الحكم فإذا ورد الشرع بحكم وكان للعقل في حكمته إدراك آثره وأكده واستمسك به في تصرفاته أقوى استمساك وإن لم يكن له في إدراكه مدخل نادي بلسان العجز والتسليم سبحان من لا يسئل عما يفعل والحاصل أن سلطان العقول في ممالك خليفة الشرع وولايته معزول ومن جملة ما ورد على لسان السمع على لسان عدوك صاحب الشرع الصادق في المقال مما ليس للعقل فيه مجال أحوال المعاد ومبدؤها ما يطرأ على العباد في حد هذا الكون من الفساد
فقال العفريت أخبرني يا ذا الإنسان مخلوق مماذا وما الآدمية والنفس الإنسانية وهل هي واحدة أو متعددة ومآلها إلى أين بعد وقوع البين فقال العالم: الإنسان مخلوق يا مصفعه من هذه العناصر الأربعة التي مر ذكرها وتبين أمرها التراب والماء والنار والهواء فإذا تمازجت واعتدلت إذا تزاوجت حصل لها من التركيب أمزجة ثمانية لا على الترتيب والآدمية عبارة عن القوة المميزة بين الحسن والقبيح والفاسد والصحيح والحق والباطل والخالي والعاطل والخير والشر والنفع والضر والمميزة لهذه الأشياء الفارقة، يقال لها النفس الناطقة وهي ثلاثة أنواع يا خارج الطباع إحدها الروح الطبيعة القائمة بالكبد وهي من الأغذية تستمد الثانية الروح الحيوانية ومقامها لقلب أي كلب وللأبد إن منها حراك واستمدادها من حركات الأفلاك الثالثة لروح النفسانية ومقامها في الدماغ ومنها الحركات الذهنية والقوة التامة القوية تطلب غذاءها الروح الطبيعية والقوة المميزة تطلب ما يسعدها في الدارين من الروح النفسانية ويبعدها في المقامين عن الأسباب الشقية واستمدادها وقوتها من الأجرام العلوية وأعلى مقامات هذه النفس الحكمة والحكمة أوفى منحة وأوفر نعمة وقد قال تعالى يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقدأوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولوا الألباب ومصير هذه الأرواح إلى عالم الغيب لأجل الثواب والعقاب وقيل حقيقة نفس الإنسان أيها المارد الشيطان لطيفة روحانية ودقيقة ربانية لها تعلق رباني بقلبه وقالبه الجسماني وهي المدركة العالمة
العارفة الفاهمة بها يتكلم الإنسان وتبصر العينان وتسمع الإذنان وتبطش اليدان وتمشي الرجلان وهي المخاطبة والمعاتبة والمثابة المعاقبة والمطلوبة والمطالبة ويطلق عليها لفظ القلب تارة ولفظ القلب تارة ولفظ الروح أخرى ويقال لها النفس مرة ولفظ العقل أيضاً وابن آدم هو المخصوص بهذه الكرامات
وبهذه النفس دون سائر الحيوانات وإن كان يطلق على الجميع إن لها نفساً بالاشتراك لكن هذه النفس الناطقة والنطق هو الإدراك واختلف أيضاً وتحيرت الألباب في صنع رب الأرباب وتاهت الأفكار والفطن في كيفية تعلقها بالبدن ولا يحصل لأحد على هذا وقف إلا بطريق الولاية والكشف وهذه النفس لما كثرت صفاتها وتضادت نعوتها تخالفت أوصافها وازداد في صفاتها اختلافها حتى قسموها فقالوا أنواعها ثلاثة ناطقة وشهوانية وغضبية رضية فالناطقة مسكنها الدماغ ولها مساغ والكبد مسكن الشهوانية والقلب مسكن الغضبية الرضية فأية نفس غلبت أختيها جذبت أحوالهما وصفاتهما إليها، وهذه يا أتعس زوبعة كالعناصر الأربعة فإنها إذا فسد مزاجها وعدل عن الاعتدال ازدواجها عسر علاجها واستحال إلى المطلوب الطالب وعجز عن المعالجة الطابب ففسد البيان وانهدمت الأركان وقيل هما روح ونفس بغير لبس وهما ضدان بل ندان لا يجتمعان ولا يرتفعان وطبع النفس باللئيم طبعك طبع الشيطان الرجيم كالنار في جوهرها وخاصة عنصرها تنسب إليها الصفات الذميمة والخلال غير المستقيمة كالجهل والغضب والحدة والصخب واللؤم والسفه والطيش والشره والحمية والشهوة والقسوة
المشؤومة والحيانة والفجور وعدم الأمانة والترفع والرياء والمخاصمة والمراء وسائر الأخلاق الذميمة والأوصاف المشؤومة الملومة والملكات الخبيثة الردية والحركات الشيطانية فهي كالنار في إحراقها وحدتها واستشاطتها وشدتها ودخانها ولهيبها وإهلاكها وتعذيبها وإقدامها في إعدامها وأكل ما تجده وما تصل إليه تفسده وطلب العلو والغليان وطبع والغلو وطبع الروح يا أنحس مجروح طبع الماء في النشور والنماء ينسب إليه كل خلق كريم وطبع سليم صافي الجوهر ما لامسه تطهر شيمته الحياء والعلم والصدق والحلم والتفويض والتوكل والتسليم والتجمل والاحتمال والأناة والصبر والموافاة والتودد والإسداء والسكون والإعطاء والركون والبذل والرضا والفضل والحياء والعدل والتواضع والعفة وعدم الترفع والخفة والسلامة والسهولة وسرعة الانقياد واللين والوداد والرقة والصفاء والكرم وعدم الجفاء إلى سائر الأخلاق المحمودة والأوصاف المطلوبة المودودة وأيتهما قويت غلبت وجذبت الأخرى إليها وسلبت وسيرتها على طبعها واستخدمتها على ربعها فكم من شيطان يرى في صورة إنسان ومن إنسان غلبت عليه أخلاق الجان ومن جان في صورة إنسان ونظير هذا الروح والبدن يدركه ذو العقل والفطن فإن الروح من عالم نوراني لطيف سماوي والبدن من عالم ظلماني كثيف أرضي فأيهما غلب على صاحبه جذبه إلى مركزه في جانبه قال الله تعالى وعز كمالاً وجل جلالاً يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا وقال جل عليا ورفعناه مكاناً علياً وقال ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فالأنبياء عليهم السلام صارت أجسادهم أرواحاً والكفار مثلك صارت أنفسهم ظلمانية أشباحاً
وقيل يا زوبعة الأنفس أربعة إمارة وهي نفس مثلك الكفار الطغاة ولوامة وهي أنفس العصاة وملهمة وهي أنفس المخلصين ومطمئنة وهي أنفس الأنبياء والمقربين والحق يا جاحده ما عي إلا نفس واحدةلكن لما تجلت في ملابس الصفات وتكثرت لها الأخلاق والسمات نوعوها وبمقتضى التنويع فرعوها تنزيلاً للتنويع بالصفات منزلة التنويع في الذات فيقال كانت نفس هذا شيطانية فتاب فصارت رحمانية وكانت نفس ذاك أبية فصارت دنية قال من براها ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها قال العفريت أخبرني أيها الباصر كيف تركيب هذه العناصر فقال الزاهد بحسب الخفة واللطافة والثقل والكثافة ولما كان عنصر التراب أثقل كان ركد من غيره وأنزل ومن فوقه عنصر الماء وفوق الماء عنصر الهواء ومن فوق هذه الثلاثة عناصر عنصر النار وهو بها محيط دائر وكذلك كل عنصر محيط بما تحته وقد حققت هذا وعلمته قال العفريت أخبرني عن أقرب الأشياء إليك قال العالم الأجل أقرب الأشياء الأجل قال أخبرني عن أبعد الأشياء عنك قال العالم الأكبر ما لم بقسم ولم يقدر قال أخبرني عن الشيء الممكن عوده قال الدولة إن زالت وتغيرن واستحالت يمكن ردها ولا يستحل عودها
قال أخبرني عن الشيء المستحيل عوده قال الشباب بغير شك ولا ارتياب قال أخبرني عما لا يمكن بالاكتساب ولا ينال إلا بتوفيق الوهاب قال العقل الغريزي فإنه
وهبي عزيزي قال أخبرني عما لا يمكن ضبطه ولا ينضبط ربطه قال الدهر إذا ولى والسعد إذا تجلى قال أخبرني يا ذا الجد عن الهزل الذي براديه الجد قال إبراز حكم الأمثال والآيات على لسان الحيوانات والجمادات قال أخبرني عما لا يمكن الإحاطة به ولا الوقوف على معرفة كنهه قال عظمة صانع الكائنات خالق الموجودات تعالى أن يحاط به علماً وتقدس أن تدرك عظمته معرفة وهماً ولهذا قال سيد المرسلين وحبيب رب العالمين لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقال سبحانك ما عرفناك حق معرفتك وهذا مصداق قوله تعالى وما قدروا الله حق قدره. فلما طالت المقاولة وانتهت إلى هذا الكلام المجادلة أقبل الليل وحل بالعفريت وجنده الويل وتصدع المجلس وقام العفريت وهو مبلس وتواعدوا إلى الصباح عند قول حي على الفلاح أن تجتمع الوجوه الصباح
لرد جواب الشياطين القباح فتفرقوا وقد أحاط بالعفريت لوهم ونفذ في أحشائه من سهام الذل أقطع سهم وبات لا يقر له قرار ولا يأخذه اصطبار وساوره الافتكار وثاوره الهم والدمار والغم والبوار:
إلى أن أضاء الصبح كالحق مقبلاً
…
وولى ظلام الليل كالجهل مدبراً
فاجتمع من كان بالأمس حاضراً ومن سمع بحضورهم ولم يكن ناظراً من جموع الأنس والجن وطوائف الجن والبن وأخذ كل مقامه وابتدأ العفريت كلامه وقال ما منبع الصفات الحميدة والشمائل السعيدة المار ذكرها القار أمرها وهي يا هذا نتيجة ماذا؟ فقال العالم المحقق العامل المدقق هي ثمرة العقل القويم الهادي إلى الصراط المستقيم. ويكفي العقل الشريف أنه مناط التكليف له الله يخاطب وبه يثيب ويعاقب وبه يأخذ وبه يعطي وتابعه يصيب ولا يخطي وكلما كان العقل أتم كانت محاسن الأخلاق أعم وكلما كان رأي العقل أصوب كان في اقتناء مكارم الأخلاق أرغب قال العفريت: فهل هو نوع متحد أو طريقة متعدد؟ قال الشيخ: العقل نوعان وحكمه واحد لا يختلف فيه اثنان أحدهما العقل الغريزي اللطيف، وهو مناط التكليف يحدثه الرحمن ويتدرج إلى بلوغ الإنسان فيكمل أما بالسن أو الاحتلام، ويجري عليه إذ ذاك قلم الأحكام ويدخل في حيز المخاطبين من ذوي الأحلام ويترتب عليه الحساب والعقاب من الحلال والحرام والثاني يحصل بالاكتساب والتجربة في كل باب ولهذا
يقال أن الشيوخ أكمل عقلاً من الشباب وقيل من بيضت الحوادث سواد لمته وأخلقت التجارب لباس جدته وأرضعه الدهر من وقائع الأيام إخلاف ذريته، وأراه الله تعالى لكثرة ممارسته تصاريف أقداره وأقضيت كان جديراً برزانة العقل ورجاحته فهو في قومه بمنزلة النبي في أمته. قال بعض الحكماءكفى بالتجارب تأدباً وبتقلب الأيام عظة وقالوا التجربة مرآة العقل وقال:
ألم تر أن العقل زين لأهله
…
ولكن تمام العقل طول التجارب
(قال) العفريت فائدة العقل (قال العالم) فائدته الإرشاد في بيداء الجهالة إلى جادة الرشاد والإعانة في الشدائد والوقوع في مصايد المكايد وحصول الخلاص من شرك الاقتناص وإجابة الإغاثة عند الاستعانة والاستغاثة ومد المعونة إذا انكسرت من الجبل السفينة في بحر الملامة والخلاص إلى بر السلامة والإغناء من كنز السعادة والصبر عند استيلاء نوائب الفقر. قال فمن العاقل في العالم ومن يطلق عليه هذا الاسم من بني آدم قال العالم: العاقل من يحتمل إذا ضيم ومن هو في الغضب حليم فإذا أعطي شكر وإذا منع صبر ويعفو إذا قدر ويستهين بأمور الدنيا ولا يغفل عن أمور الآخرة (قال العفريت) ما الفائدة في حب الدنيا والرغبة إلى ما فيها من الأشيا ولأي معنى غلب الحرص والهوى والرغبة فيها على أهلها وبنيها (قال العالم) لأجل قيام العالم وانتظامه على المنهج الأقوم وبقائه
المطلوب إلى الأجل المضروب الذي قدره موجده القديم الذي أنشأه أول مرة وهو بكل خلق عليم ولابد من أن تتم كلمته وتنفذ مشيئته ولولا الحرص والأمل لبطل العلم والعمل فإنهما لحجاب الغفلة يغشيان أعين البصائر ويغطيان طرق الاستدلال والضمائر فلذلك ذهلت العقول عن التأمل في العواقب واستغلت بالتهائها عما يجب عليها أن تراقب ولولا طول الأمل لما رجي العمل ولما انتظم أمر المعاش ولا أهتم لادخار قوت ورياش ولا افتكر صاحب اليوم في أحوال غد ولارتفعت المعاملات وما داين أحد ولا زرع زارع ولا غرس غارس ولا بنى بان ولا اخضر يابس ولانقرض إذ ذاك ظلم العالم وبانقراضه تنقرض أمور بني آدم (قال العفريت) أخبرني عن أصل الإنسان ومم جوهره جوهر الملك والجان (قال) الشيخ أما جوهر الملك فمن العقل المحض براه رب السماوات والأرض ولذلك لا يصدر من الملائكة إلا الشيم المباركة من الطاعات لمولاهم والانقياد لأوامر من أنشاهم وامتثال ما أمر من أمر مروم وما منا إلا له مقام معلوم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وأما جوهر الجان وأصلك يا أخس شيطان فمن الأخلاق الذميمة والصفات المشومة فلهذا لا يوجد منكم إلا المكر والبيلسة والشيطنة والوسوسة وأنحس بصفاتكم من صفة ولم يكن بينكم وبين الحق معرفة فأنتم يا أنحس بغيض وأنجس نهيض مع الملائكة في طرفي نقيض وأما جوهر الإنسان فما اشتملت عليه صفتا الملك والجان فمن غلب عقله شهوته ألبس من مكارم الشيم خلعته واضمحلت ظلمات نفسه في أنواع الطاعة وتجلت صفات ذاته من سنن الأبرار في جماعة وخط
رسم اسمها قلم الكرام الكاتبين كلا إن كتاب أبرار لفي عليين وما أدرك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون فهو وإن كان بجسمانه مع الأنس له حضور وأنس لكن بسره في عالم الملكوت حضرة القدس فهو بصفاته المباركة أشرف من الملائكة ومن غلبت شهوته عقله واستولت على قلبه حجب الغفلة فانغمس في بحر الشهوات واستحوذتم أنتم عليه بذميم الصفات وأشقاه القدر السابق ولم يعقكم عن التصرف فيه عائق فهو بالنهار ساه وبالليل لاه استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون فهو أخسر من أرذل الحيوانات وأدنى من أدك الجمادات فقد خاب مآباً وتعس انقلاباً وبقول يوم القيامة يا ليتني كنت تراباً (قال الراوي) فلما انتهى الكلام إلى هذا المقام أمسك العفريت عنانه وأخرس الله لسانه وظهر فضل الزاهد وعلمه ووفور حكمه وفهمه وإنه أصاب فيما أجاب ولزم العفريت ومن معه من الجن والعفاريت وطوائف المردة والشياطين والعندة المتمردين وذوي الإبلاس والوسواس الخناس ما شرطوه على أنفسهم من التخفي وعدم الظهور والتفرق في الخرائب والكفور فتفرقوا واختفواومصلمين ومجدعين انتفوا وسكنوا الخرائب والحمامات والحانات والخانات فلم يظهروا بعد ذلك للأنس وحصل منهم بذلك للأنس الأنس واستراحوا من مشاهدة طلعتهم القبيحة واستمرت إلى يوم القيامة من تلك القبائح مستريحة. وهذا آخر الباب والله أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.