الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس
في نوادر ملك السباع ونديمه أمير الثعالب وكبير الضباع
(قال) الشيخ أبو المحاسن المرتوي من بحار الحكمة بماء غير آسن فلما أنهى الحكيم هذا الباب العظيم عن عالم الإنس والشيطان الرجيم تنبه الملك لغزارة حكمه فأفرغ عليه خلع إحسانه وكرمه وغمسه في غدير فضله ونعمه ثم أمر أن يقوي الطباع ويذكر نوادر الوحوش والسباع لتنبسط النفس وترتاض وتتحلى بعقود عقيدة هذه الأحماض فقبل أرض العبودية بشفاه الأدب وانتهض لأداء ما عليه من المراسيم وجب وقال كان في بعض الغياض أسد رباض عظيم الصورة كريم السريرة والسيرة وافي الحشمة عالي الهمة كثير الأسماء والألقاب عزيز الأصحاب كبير بين الأمراء والحجاب والوزراء والنواب يدعى في جوانب مملكته وأطراف ولايته بحيدرة وبيهس والدوكس والغضب والضرغام والعنبس والطيشار والهندس الغضنفر والهرماس والغضبان وأبي العباس إلى سائر الأسماء والألقاب والكنى وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى وهو مطاع في مماليكه وولاياته وأقاليمه مترشف ثغور الامتثال بشفاه أمثلته ومراسيمه، وكان له ومن خواص الندماء وكبراء الجلساء نديمان كندماني جذيمة يلازمان حضرته ويلجان حريمه أحدهما ثعلب يدعى أبا نوفل والآخر ضبع يسمى أخا نهشل، طبعهما ظريف وشكلهما لطيف ومحاضرتهما مرغوبة وصحبتهما مطلوبة.
وكان في خدمته دب هو وزيره ومعتمده ومشيره كافل أمور مملكته ومدبر مصالح رعيته والملك مفوض أمور الرعية إليه ومعتمد لما يعلم
من كفايته عليه ومشغول ليلا ونهارا بمعاشرة نديميه فاتسع خيال الوزير وأخذ في مجال التفكير إلى النديمين لكونهما ناصحين قديمين ربما يصدر منهما عند الملك ما يحط منزلته ويفسدان للحسد الذي لم يخلو منه جسد صولته واستحوذ عليه هذا الخيال واتسع في ميدانه المجال فكان خائفا على وظيفته ومنصبه مترقبا ومنهما ما يكون عزله بسببه. فنشأ من ذلك في خاطره جساوة أورثته قساوة وجذبته إلى عداوة ووقر في قلبه ذلك وتأكد وطال عليه من الدهر الأمد فكان يترقب لهما الفرص ليوقعهما من الغصص في قفص ويسابقهما قبل انتيابه ويتغدى بهما قبل أن يتعشيا به ويقول لا بد من تنظيف الطريق قبل حصول التعويق.
وقد أحسن من قال واتقن في المقال:
ومن لم يزح عن دربه الشوك قبل أن
…
يطأه فلا يعتب إذا شاك رجليه
وأقل الأقسام أن يبعدهما عن حضرة الملك الهمام، فاتفق أن في بعض الأسحار تجاذب الملك ونديماه أطراف الأسمار فأثر فيهم السهر لطيب السمر في ضوء القمر وحلاوة ما جنوا منه من ثمر عاملين بما قيل:
متى ما أصادف من أحب بخلوة
…
أصرح بما أرجوه منه متكتما
يقول فأصغي أو أبث فينثني
…
ليسمع قولي كالمشوق المتيم
أسامره لا إن أمل حديثه
…
وآمره كل الأمور سوى نم
فأخذت الملك عيناه فاستند إلى متكاه فأنحل من طرفه وكاه فلم يتمالك أبو نوفل أن ضحك لما غنت زمارة الملك فتنبه من ضحكه وتعجب
من جرائته وفتكه ثم استمر متناوما ينظر من يصدر منهما، فابتدره أخو نهشل وزجره فقال: ويلك ماذا رأيت وأي عجب سمعت ووعيت حتى ترتبك في الضحك أما قرأت وفهمت وسمعت وعلمت أن الضحك بلا سبب من قلة الأدب وإن الحشم وسائر الخدم ومن نادم الملوك وجالسهم يحترم أمورهم ويعظم مجالسهم سواء غابوا أو حضروا ناموا أو سهروا قامواأو قعدوا استيقظوا أو رقدوا وقد قيل رفع قلم الحساب والضبط والعتاب عن الصبي والمجنون والعاشق والمفتون وكذلك السكران والنائم لا سيما السهران وعذر النائم يا مسكين أعظم من عذر الباقين فإن النوم أخو الموت وفيه ما ليس في غيره من الفوت وقد قال صاحب الشرع الذي زكى منه الأصل والفرع حفظه الله بجنود الصلاة والسلام وحرسه يعتذر عن النائم وكاء السه وقال ذو الصدق والتصديق رفع قلم التكليف عن النائم حتى يفيق وإنما اعتبر الشرع أحوال النيام وساواهم في اليقظة صونا لبعض الأحكام في نحو من خمس وعشرين مسألة ضبطها من الفقهاء الكملة ولقد طالعت في كتاب الأخلاق إن الله الكريم الخلاق حيث جعل جنسا من الأمم في طبائع وصفات متساوي القدم فلا يعتب أحد أحدا ولا يزدريه ولا ينقم عليه عيبا هو فيه وعلى الخصوص إذا صدر من الملوك شيء يعاب فلا
يحمل ذلك منهم إلا على الفضل والصواب وكل ما كان في غير الملوك معتبه فإنه إذا صدر من الملوك يعد منقبه ويجب على من يجالس الملوك وكان له في خدمتهم سلوك واختص بمحاضرتهم واستعد لمناظرتهم أن لا يبصر منهم إلا المحاسن ولا يخبر عنهم إلا بالأحاسن وقد قيل من جالس الملوك بغير أدب حبسه فإنه خاطر بروحه وعرض للبلاء نفسه وقال الله الأعظم في كتابه المحكم لنبيه صلى الله عليه وسلم: فاستقم كما أمرت.
ولهذا قال عليه السلام: شيبتني هود وأخواتها وما ساد العجم والعرب إلا بسلوك طريق الأدب وقال عليه الصلاة والسلام: أدبني ربي فأحسن تأديبي، فقال المغفل أبو نوفل إذا طهر القلب من الخيانة وعاملت اليد بالأمانة وتنقى العرض من العيوب وكان اللسان غير كذب وزكت النفس بالحلم وعريت عن الجهل بلباس العلم يصلح لها أن تسخر بكل أحد وتفخر على أكبر من يكون ولو أنه الأسد وأنا إذا طار بهذه الصفات طيري فلا علي إذا ضحكت على غيري، فقال أخو نهشل لا تقل ذلك لا واستعذ بالله من الجهل والخيلا وأعلم يا ذا الكرامات أن الجاهل يعرف لثلاث علامات إحداها يا محبوب أن يرى نفسه عارية عن العيوب الثانية يا رفيق الخير أن يرى نفسه أعلم
من الغير الثالثة أن يرى أنه انتهى في فنون العلم والنهى وبلغ أعلى المراتب وهذا أكبر المعايب وقالت الحكماء إذا رأيت نفسك عارية عن العيوب وتصديت لتتبع عثرات الناس بالغيوب وفتشت عن عيوبهم الجيوب فأنت حينئذ غارق في بحر العيوب وبالذي أنت طالبه مطلوب وانظر يا ذا السكينة ماذا قاله الإمام مالك رضي الله تعالى عنه حبر المدينة ليكن جل مطلوبك حرصك على تفقد عيوبك وقم بذلك عن نفسك وذاتك مقام حسادك ورقبائك وعداتك وقال ذو هدى وقال سدى:
لكل فتى خرج من العيوب ممتلئ
…
على كتفه منه ومن أهل دهره
فعين عيوب الناس نصب عيونه
…
وعين عيوب النفس من خلف ظهره
فقال أبو نوفل صدقت ونصحت إذا نطقت فجزاك الله عني خيراً ووقاك شراً وضيراً ولكن يا أخي وقعت هفوة على سبيل السهوة وحصلت على غفلة واللفظ عن غير نظر كالسهم إذا رمى عن الوتر لا يمكن رده ولا وقوفه وصده كما قيل:
القول كاللبن المحلوب ليس له
…
رد وكيف يرد الحالب اللبنا
ولكن الذنب والاجترا إذا لم يشتهر إلا بتوجه عليهما العتاب ولا يستحق مرتكبهما العقاب إذا استغفر وأناب وأنا وإن وقع مني الخطا آمن بحمد الله من شر الجزا ومن المؤاخذة بالجريمة وإن كانت عاقبتها وخيمة لأنها بينك وبيني وأنت بمنزلة روحي وعيني وفيقي وصاحبي ومراعي حقي وجانبي فسرى عندك مصون وأمري عن الإشاعة مخزون وقد قال الحكماء ذو التجارب لا تودع السر إلا عند صاحب صدوق صديق
ومحب شفيق وأنت هو ذاك الموثوق فاطرحه سويداء قلبك في أسفل الصندوقفإن استمر عندك ساكناً صرت وبال أمره آمناً ولا يبعد ذلك من شفقتك وسابق صداقتك ووفائك بالمروة وقيامك بحقوق الأخوة وأسأل إحسانك أن تجيب لصاحبك القديم مرجوة قال أخو نهشل أعجب لأبي نوفل كيف يغفل أما سمعت يا عاقل قول القائل من علامات الجاهل أن يقرض ماله باللطف ثم يتقاضاه بالفظاظة والعنف وأن يودع سره وخفاياه وأمره عند من يحتاج أن يتضرع إليه ويقسم في إخفائه واكتتامه عليه ثم يحلفه أن لا يبديه ولا يذكره لأحد ولا ينهيه وقد قالت الحكماء لا تودع أحداً سراً فإن فعلت فاتك السر لأن كتمانه قيدهم وعناء وإبداءه كيد هلاك وبلاء وقد قيل:
وكل سر جاوز الاثنين شاع
…
كل علم ليس في القرطاس ضاع
ولم يقصد بالاثنين إلا الشفتين وقال الشاعر:
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
…
فصدر الذي يستودع السر أضيق
(وقال أيضاً) :
لا تودعن ولا الجماد سريرة
…
فمن الحجارة ما يسر وينطق
وإذا المحك أضاع سر أخ له
…
وهو الجماد فمن به يستوثق
(وقال أيضاً) :
صن السر عن كل مستخبر
…
وحاذر فما الحزم إلا الحذر
أسيرك سرك أن صنته
…
وأنت أسر له إن ظهر
وكل ما تحرك به اللسان انتشر في الكون والمكان وناهيك يا تامر قضية الحرامي مع الطامر قال أبو نوفل: كيف تلك يا أخا نهشل (قال) بلغني إن رجلاً من الحرامية واللصوص الكرارية كانت نفسه ذات الخيانة تحرضه على الدخول من حواصل الملك إلى الخزانة وإنها رؤية الخزانة مشتاقة ولمعانقة فاسق التحرم عشاقه وكان جاهداً في أن يعطيها من مناها ما يرضيها ولكن كانت نجوم احراس بالرصد ولرجوع ذلك الشيطان كل بعد وكتم ذلك السر عن الإخوان ومضى عليه برهة من الزمان وهو يكابد اكتتامه ويخاف من السوء ختامه والقدر كائن والكائن حائن إلى أن طفح عليه ما قصد وغلا خمر سره في قلبه وقذف بالزبد فطلب صاحباً يتلفظ به إليه ويعتمد في اكتتام سره عليه واختلافي حجرته فقرصه برغوث في حنجرته فمد يده إليه وأفشى سره معتمداً عليه وقال في خاطره عند إفشاء سرائره لا لهذا لسان يقدر على البيان وعلى تقدير أن لو كان فهو مثل ولدي تربى من دم كبدي ولحم جسدي واطلع على عورتي فلا يقصد عترتي ولا يكشف سري ولا يهتك ستري ثم أدنى فاه حتى وافاه وقال يا أبا طامر وكاتم السر في السرائر إني عزمت كالمنهمك على الدخول إلى خزائن الملك لأستصفيها وآخذ ما فيها فاكتم هذا السر عني وامصص ما شئت من الدم مني ثم طرحه في سراويله واستمر في نيته على أباطيله ثم قصد في بعض الليالي ما كان يخلو به على التوالي ويرصده في
المكامن من الدخول إلى الخزائن فلاحت له فرصة فانتهزها واستعمل دقائق صنعه وأبرزها وانتقل من ذلك إلى المبيت ولطئ تحت سرير الملك كالعفريت والملك نائم فوق السرير على فراش الحرير معانق الظبي الغرير وخرزة التاج عند رأسه فقد كأنها سراج متقد فقصد اللص أخذها واقتطاعها وفلذها فاسهل القوم إلى أن استغرقوا في النوم وبينما هو متفكر فيما به إذ خرج البرغوث من ثيابه ودخل إلى جسد السلطان وقص عليه بلسان القرص كل ما كان من شأن اللص فنهض الملك من مرقده فرأى نقطة على جسده فطلب النور لينظر الأمور فرأى برغوثاً طار ونزل تحت السرير فقصوا أثره على المسير فوجدوا الحرامي الكسير فربطوه كالأسير ووقع في الأمر العسير بالأمر اليسير فصار كما قيل:
مشى برجليه عمداً نحو مصرعه
…
ليقضي الله أمراً كان مفعولا
(وإنما أوردت هذا المثل) لتعلم يا أبا نوفل أن سراً في الفؤاد لا يؤمن عليه الجماد فضلاً عن متحرك منحيوان ونعوذ بالله إن كان من جنس الإنسان وقد قيل للحيطان آذان ومن أمثال العجم الأوباش للديوان أكواش فلما انقضى هذا الكلام وكان الأسد قد استوفاه على التمام وقد أثار في أحشائه لهباً نهض من مرقده غضباً واستحال وتحرك وأمر بأبي نوفل فقبضوا عليه ووضعوا الغل ف رقبته والسلاسل في يديه ورجليه وأمر إلى السجن برفعه بعد التنكيل به وصفعه فتشوش خاطر صديقه وجليسه ورفيقه ثم انقض المجلس النظيم ودخل الملك إلى الحريم
فتوجه أخو نهشل إلى السجن المقفل ولأم صاحبه أبا نوفل وزاد في التعنيف وقال أيها الأخ الظريف ألم تعلم أن الشخص إذا تكلم يضبط كلامه عليه ويعود محصول ما يلفظ به إليه وقد قال الرب المجيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وإن كثرة الكلام تضر بالنفس أكثر مما يضر بالبدن الطعام وكل هذا المصاب إنما جاء من قبل الإعجاب وكثرة الكلام والغرور وعدم التأمل في عواقب الأمور قال الشاعر:
ما أن ندمت على سكوتي مرة
…
ولقد ندمت على الكلام مراراً
قال حكماء الهند وفضلاء السند ما دام الكلام في الفؤاد ولم يبد منه على اللسان باد ولم يصب منه سائل حرف في صدفة الآذان أو وعاء الطرف فهو كالبنت البكر المشهورة الذكر كل أحد يخطبها ويميل إليها ويطلبها ويتمنى أن يراها ويترشف لساها فإن ألقى إلى المسامع ووعاه كل ناظر وسامع فهو كالعجوز الشوها إذا سلوها وقلوها وهي تلازم صباحاً ومساء ويفر منها الرجال والنساء ويحيد كل أحد عنها فإذا تكلمت أسكتت وإذا سلمت أعرض عنها وقال بعض الحكماء اللسان أسد وهو حارس الرأس والجسد إن حبسته حرسك وإن أطلقته حبسك وإن سلطته افترسك وقالوا الكلام أسيرك ما لم تبده فإن تكلمت به فأنت أسيره قال بعض الحكماء أنا على ما لم أقل أقدر مني على ما قلت وقال عيسى صلوات الله عليه العافية عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت إلا عن ذكر الله وواحد منها في ترك مجالسة السفهاء
وقال نبي الحرمين وإمام الثقلين صلوات الله وسلامه عليه الصمت حكمة وقال عليه الصلاة والسلام البلاء موكل بالمنطق وقال الحكماء السكوت يسترعب الجهل ويعظم حرمة الملوك ولقد آذيت نفسك وتسبب فيما أوجب حبسك وأقلقت ودودك وأشمت حسودك ولقد كانت حصتي من بلائك ومما دهاني من شدة عنائك أعظم من كل حصة وقصتي في ذلك أعجب من كل قصة إذ أنت رفيقي وزميلي وفي حضرة الملك ومنادمته عديلي نشأنا على ذلك وسلكنا في الموافقة والمرافقة أقوم المسالك وكنت المرحو لمخافي وأيابي في مطافي ومشتكى حزني ومشتفى شجني ومخزن أسراري وأعظم أستاري وراوية أخباري في أحباري وراوية أسفاري في أسفاري ومن أين ألقى مثلك وفيقاً أو أجد صديقاً شفيقاً وأنت صاحب السراء ومصاحب الضراء وأنشد:
ومن أين ألقى بعد سبعين حجة
…
رفيقاً كمن أرضعته قهوة الصبا
أديباً أريباً لم أمل مقامه
…
ولا ملني يوماً حكيماً مهذباً
ويعز علي ويعظم لدي أن أراك في هذه الحالة ثم أجرى سحائب دموعه الهطالة وقال:
وما على الحر أنكى أن يرى حزناً
…
في محنة ضاق عنها دونه الحيل
ولقد تحيرت في هذا الأمر المهول وما أدري قصاراه إلى ماذا يؤول وليلة الغم الصراح عماذا يسفر فيها الصباح فأنكئ لذلك أبو نوفل وبكى وتضرع إلى الله وشكا وقال يا أعز الأصحاب وأحب الأحباب لقد أثر عندي ما قلت من الكلام أكثر مما أصابني من الآلام كيف يغتفر لأحد الجانبين ويطلق أحد القيدين وأني يعتذر بالقضاء والقدر لإحدى الغصتين وهل شيء في عالم السكون والفساد جاء خارجاً عما قدره الله وأراد وكلنا في هذا سويه والعبد مقهور مع المنية ولكن الجداد إذا أقبل ولاحظ بسعدهوتفضل فكل حركة تصدر من الغبي العاجز يعجز عن مقاومتها البطل المبارز وكل قول يتفوه به الجاهل يدع دليل معانيه أدلة العقلاء في مجاهل ومذاهل ودعاميص ذوي الآراء المنضبطة المناهل تلقى من عقنقل الحيرة في مجاهلها مناهل فيصير كل وجه إليها مائل وكل إنسان بها قائل وقوام كل سعد وقبول إليها قابل كما قيل:
وإذا السعادة لاحظتك عيونها
…
نم فالمخاوف كلهن أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبائل
…
واقتد بها الجوزاء فهي عنان
ونعوذ بالله من ليل السعد إذا أدبر وصبح الخمول إذا أسفر فإن اللبيب إذ ذاك يخطئ ما كان يصيب ويفعل العاقل ما لا يرتضيه بأقل فيكون جهد النفس زيادة في العكس:
وإذا تولى الجد يحتاج الذكي
…
في رأيه قبل الزوال مراحاً
وانقلاب الدهر وانعكاس الزمان شيمة معهودة وخصلة معدودة كما قيل:
ومن ذا الذي ما غره صرف دهره
…
فأضحكه يوماً ولم يبكه سنه
وأنا كنت غافلاً وإن لم أكن جاهلاً وقد يكون الشخص عما تحققه ذاهلاً وذلك لما كان عودني الزمان وألفته من سالف الدوران وإرخاء العنان ونيل الأماني والأمان وأسبال ذيل النعم والإحسان الدائم والكرم فمشيت على ما كنت أعهده وفي نفسي أجده وأيضاً كانت لذة عشرتك ونعيم صحبتك وحسن موافقتك وعز مرافقتك أنساني كل بليه وأمنت بذلك كل رزية فألهاني عن التنكد ودهتني غفلة عن التوزع والتبدد مثل ما أصاب ذلك الهدهد قال أخو نهشل أسرد ذلك المثل (فقال) ذكروا إن الله مجري الخير علم بعض عبيده الصلحا منطق الطير فصاحب منها هدهداً وازداد ما بينهما تودداً ففي بعض الأيام مر بالهدهد ذلك الإمام وهو في مكان عال ملتفت إلى ناحية الشمال وهو مشغول بالتسبيح يسبح الله بلسانه الفصيح فناداه يا صاحب التاج والقباء والديباج لا تقعد في هذا المكان فإنه طريق كل فتان ومطروق كل صائد شيطان ومقعد أرباب البنادق ومرصد أصحاب الجلاهق فقال الهدهد أني عرفت ذلك وإنه مسلك المهالك قال فلأي شيء عزمت على القعود فيه مع علمك بما فيه من دواهيه
قال أرى صبباً وأظنه غوياً نصب لي فخاً يروم لي فيه زخاً وقد وقفت على مكايده وماصب مصايده وعرفت مكيدته أين هي وإلى ماذا تنتهي وأنا أتفرج عليه وأتقدم بالضحك إليه وأتعجب من تضييع أوقاته وتعطيل ساعاته فيما لا يعود عليه منه نفع ولا يفيده في قفاه سوى الصفع وأسخر من حركاته وأنبه من يمر على خزعبلاته فتركه الرجل وذهب وقضى حاجاته وانقلب فرأى الهدهد في يد الصبي يلعب به لعب الخلى بالشجى ولسان حاله يلهج بمقاله:
كعصفوره في يد طفل يهينها
…
تقاسي حياض الموت والطفل يلعب
فلا الطفل ذو عقل في يد طفل لحالها
…
ولا الطير مطلوق الجناح فيهرب
فناداه وقال: يا أبا عباد كيف وقع في شرك الصياد وقلت لي أنك وعيت ورأيت ما رأيت؟ فقال: أما سمعت أن الهدهد إذا نقر الأرض يعرف مسافة ما بينه وبين الماء ولا يبصر شعرة الفخ وذلك لينفذ ما كتبه الله تعالى وقدره من قضائه وقدره وناهيك في قضية القضاء والقدر قضية آدم أبي البشر مع موسى الكليم عليهما الصلاة والتسليم لما جرت عليه أحكام القضاء والقدر فتمت مشيئة الله تعالى السابقة في عمله وجرى ما لم تدركه عقول الفحول في ميدان إرادته من سوابق حكمه وحكمته وأنشد الهدهد:
يا سائلي عما جرى
…
والعين مبصرة القدر
أو ما سمعت بأن إذا
…
جاء القضا عمى البصر
وقال أيضاً:
إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
…
إن القضاء إن أتى يعمى البصر
واسمع أيها العاقل قول القائل:
إذا أراد الله أمرا لامرئ
…
وكان ذا عقل وسمع وبصر
وحيلة يفعلها في دفع ما
…
يأتي به محتوم أسباب القدر
أصم أذنيه وأعمى قلبه
…
وسل منه عقله له سل الشعر
فلا تقل فيما جرى كيف جرى
…
فكل شيء بقضاء وقدر
وأنا لما اغتررت بحدة بصري ذهلت عما يجول في فكري فتغطت حدة استبصاري فوقعت في فخ غنراري أما سمعت يا همام قول الإمام إذا حلت المقادير ضلت التدابير ثم قال أبو نوفل وقد أثر فيه كلام أخي نهشل:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
…
رداوني بالتي كانت هي الداء
وإنما أوردت هذه الحكاية لتخفف عني ما في تقريعك وتوبيخك من نكاية وتعلم إن الأمور كلها جلها وقلها جارية على وفق ما قضاه الله تعالى وقدره وأثبته في سابق عمله في اللوح المحفوظ وسطره وإن كانت الأحكام في هذا الباب تضاف إلى العلل والأسباب ولا شك في هذا ولا ارتياب فقد مر أن الذهول شغلني عن الفضل بالفضول وإن العذر غير مقبول فإن الجهل لا يكون حجة ولا مخلص لسالك لا سوأ المحجة وقد طال الكلام والحق بيدك والسلام
وأما الآن فجل المقصود من لطفك المعهود وبذل المجهود وتذكر سابق العهود وقديم الصداقة وأكيد المحبة والعلاقة عطف الخواطر الملكية ورجوعها على ما كانت عليه من الصدقات السنية والعواطف الملوكية وأقل الأقسام الخلاص من هذه البلية وعلمك قد أحاط بأوثق مناط أني شخص وحيد بين ملازمي الخدمة فريد لم يكن لي أخ سواك وأنت مشتكاي وأنا مشتكاك وهذا أو إن الفتوة وزمان المروة وعدم التخلي عن الإخوان والانبعاث بالهمة الثابتة الأركان والسعي في خلاص الصاحب القديم من هذا البلاء العظيم وأسألك بسالف الخدمة والمودة ذات القدمة أن لا تذكر ما سلف من التقصير الموجب للتلف فإني معترف أني للذنب مقترف وأنشد:
جاوزت في اللوم حداً قد أضر به
…
من حيث قدرت أن اللوم بنفعه
وإني إذا تفكرت وتصورت ما وقع إذا تذكرت وإن كان قد مضى يضيق بي الفضا وأغرق في عرق الحيا وتسود في عيني الدنيا فكأنه في هذا القبيل عني قيل:
كأن فؤادي في مخالب طائر
…
إذا ما ذكرت الحب يشتد بي قبضا
وهذا القدر من الإعلان يكفي وأني أستحلي إذا مر بخاطري غصص حتفي ثم علا زفيره وشهيقه وبدا من لهيب قلبه بريقه ومن وادي دمعه عقيقة حتى خيف عليه غريقة وحربقه ورق له ورق له عدوه وصديقه وبكى لبكائه رفيقه قال أخو نهشل اعلم أيها الأخ المفضل أني لم أقل ذاك الكلام للعدوان
فضلاً عن أيحاش قلب وإيلام ولكن تألم حناني أجرى الله ذلك على لساني ولم يكمن لذلك الحديث باعث ولا قصد عابث أو عائث ولكن صفو المحبة ووفور الصدق أوجبا التلفظ بذلك النطق وكيف لا أدرك دقائق المعاني وأنالها من ثمار فضائلك جاني وأما بذل الاجتهاد من أهل الوداد فهل يخطر ببالك غير ذلك ويأبى الله والأخلاق الكريمة وما عملته من همة وشيمه وفواضل فضائل من موانح خصائلك اقتباستها ومطارف معارف على منوال سحاياك نسجتها أن أتخلف عن التعلق بأهدابها وأغلق أبواب مقاصدها في وجوه طلابها وأنا إن لم أبذل مجهودي وأصرف موجودي في مساعدة خلي وصديقي وصاحبي ورفيقي بما تقتضيه المروءة والفتوة والصداقة القديمة والأخوة وإلا فأي فائدة في وجودي لوالدي ومولودي وطارفي وتليدي وصديقي وودودي. وقد قيل أربعة أشياء فرض عين في شريعة المروءة على المحبين وكذلك الإخوان وسائر الصحاب والخلان الأولى المشاركة في النوائب وتعاطي دفعها من كل جانب الثاني إذا ضل أحدهم عن طريق السداد يردونه إلى سبيل الرشاد ولا يتركونه على غير الصواب بل يستلطفونه بألطف خطاب الثالث إذا صدر من أحدهم نوع جفاء يلاقونه بالوفاء والصفا ولا يتركونه على شفا ولا ينسون الوفاء القديم بالجفاء الحادث فربما يتفرع على ذلك ما يؤكده من العوائث
الرابع لا يؤاخذون المقصر في حال الغضب بل يرجئون عقوبته إلى أن يطفأ اللهب فربما يتعدى بواسطة الغضب الحد فيقع بسبب ذلك بين لأصحاب نكد ثم أن أبا نوفل قال لأخي نهشل المبادرة أولى إلى التلافي لئلا يسابق الجنود إلى تلافي وهذا المصاب إنما جاء بغتة وأخذ قلوبنا وأسماعنا بهتة فاستعمل فكرك القويم وتوجه إلى التدارك بقلب سليم فقال هاأنا أذهب على الفور لهذا المطلب النافع وأقوي العزيمة واجتهد في دفع الموانع فأول ما ابتدئ بقصد الملك وانظر ما يصدر منه قولاً وفعلاً في هذا الأمر المشتبك فأبني على ذلك ما يناسبه وأجاريه فيما يميل إليه خاطره ولا أجاذبه ثم توجه إلى الأسد ودخل عليه فوجد الدب جالساً بين يديه وقد بلغه قضية النديم وأنه حل به العذاب الأليم فاغتنم الفرصة وبادر ليتم على أبي نوفل الغصة ويتعاطى في أمره قصة وخصة فأراد أخو نهشل أن يفتتح الكلام ثم أفكر في أنه ربما يعاكسه الدب في المرام وأنه إذا قام في المناقضة لا يمكنه مقابلته المعارضة وإن سكت فالسكوت رضاً وإن وافق فعلى غير مراده مضى فأمسك عن الكلام ورأى السكوت مقتضى المقام ثم أمعن النظر وأجال قداح الفكر فرأى أنه إن انفصل المجلس من غير أن يفصح بشيء وينبس ربما يفوت المقصود أو يسابقه بالمعاكسة عدو أو حسود لا سيما مثل الوزير الرفيع الخطير صاحب الرأي والتدبير وهو عدو قديم وفي طرق الخزي نظيره عديم فإذا بادر بالكلام ربما يقع منه فلتة بمقام كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
…
فصادف قلباً خالياً فتمكنا
فتلقاه الملك بقبول فيصول كما يختار في ميدان الفتك ويجول فتنعقد الأمور وتتقصد وتنعقف الأخلاق الأسدية وتتعرد فرأى الأولى المبادرة بالكلام والوقوف في مقام الشفاعة أنسب بالمقام فإن عارض أحد عرف أن جوهر كلامه عرض ولا تصدى إلا لغرض وكان الملك قد سمع كلامه بعد معرفة سلامته وإلقائه على أبي نوفل عذله وملامه وكلامه معه وينهمك مقبول وما لأحد عنه عدول، وكان الدب منتظراً خروجه من عند الملك حتى يختلي بالكلام معه وينهمك فأدرك أخو نهشل هذا المرام فوقف في مقام الدعاء وبادر بالكلام ثم قال بعد وظائف الدعاء والقيام بما يجب من مراسيم الثناء العلوم الشريفة والآراء المنيفة محيطة أن من عادة الملوك العظام وأخلاق السلاطين الكرام العفو عن الجرائم والاغضاء عن العظائم لا سيما إذا صدر ذلك من أحد المخلصين والعبيد المتخلصين على سبيل السهو والخطأ لا على سبيل العمد والأبترا:
من ذا الذي ما ساء قط
…
ومن له الحسني فقط
وأن العبد الأقل أبا نوفل الواقع في الخطر الخطير المعترف بالذنب والتقصير متوقع غفرها من صدقات الحضرة الملوكية ومراحمها وما اعتاده من حملها الشامل ومكارمها ومحتم على الملوك القيام بقبول الشفاعة دون سائر الخدم والجماعة خصوصاً وقد كان رفيقاً نديماً ومصاحباً قديماً ولا يقصد المملوك بذلك الأسواق الحسنات الكثيفة إلى دفائر الصدقات الشريفة وقصد الخير وذهاب الاسي والضير وانتشار صيتها في الآفاق والأطراف بالعلم والحلم والعفور والصفح والفضل والعدل والألطاف فلان الأسد من هذا
الخطاب وعرف أن قصد الشافع من هذا إنما هو الثواب والصواب فاطرق ملياً ولم يحرمن الأجوبة شيا فتأثر الدب الخبيث والعد والقديم لهذا الحديث وخاف أن يكون الكوت رضا وأن هو رضي يفوت منه المنى والأطراق علامة الحلم والسكوت في الحرب دليل السلم ومن فوت الفرصة وقع في غصه ومتى بقع أبو نوفل المختال في مثل هذا العقال وما أطراف مقال من قال:
وإن رأيت غراب البين في شرك
…
فاذبح وكل وذر الأفراخ في عنقي
(وقد قيل) :
إذا صارت أعداء نملاً فانهم
…
إذا لم تطأهم أصبحوا مثل الثعبان
وكم ذا يقاسي من أذاه وقرصه
…
على ضعفه أن صار داخل آذانفانبرى وانبرم وتصدى للمعاكسة ذلك البرم وغطى دسائس لؤمه بنقوش الكرم وقال أعلم أيها النديم القديم ومن هو للملك أو في خديم أن الواجب على جميع الخدام أن يكونوا في الصدق متساوي الأقدام ولا يقدموا على نصيج الملك غرضاً ولا يطلبوا سوى رضاه على النصيحة عرضاً فلا يصادقوا الخائن ولا يصدقوا المائن ولا يواطؤا الخاطي ولا المذنب المتعاطي ولو بالكلام الواطي ولا يخفوا الخيانة والجنابه ولا يرعوا في ذلك أدنى الرعاية فساعد السارق سارق ومعاضد المارق مارق والقيام مع الجاني جناية وإخفاء الخيانة نكاية وفي هذا الكلام كفاية ومن اعتذر من حناية جان لا سيما أن كانت في حق ملك أو سلطان فهو شريك فيها بل أعظم جرماً من متعاطيها لأن عظم الجناية يا ذا الدراية إنما هو بحسب المجني عليه وأن ذلك لوهن عائد إليه لا على مقدار الجاني وأنت
لا تجهل هذه المعاني ولهذا قال بعض أهل الافضال أن تعاطي الفساد يا ذا الرشاد ليس فيه صغبره وأن كل ما يخالف الأمر كبيره وذلك بالنظر إلى الجناب الأقدس القاهر تعالى وتقديس فقال أخو نهشل كلام مولانا الوزير هو المفضل وما أشار به هو الصواب المعدل يا مولانا الوزير علمك الخطير خبير باننا كلنا محل الخطأ والتقصير ولا يسع الكبير منا والصغير إلا الحلم الغزير والعفو عن كثير وقل لي من هو البرئ عن الهفوة والذي لا يتوقع من مولانا الملك عفوه وأن لم تقع الشفاعة في الجاني وذي الخلاعه ومخالف سنة الجماعة فالمحسن لا يحتاج إلى شفاعه ومن لم يجير المكسور ويأخذ بيد المحقور فما يجد عند انكساره جابراً ولا يؤخذ حين بيد حين يصير عاثراً وقد قيل من مثلك الفضيل وصاحب الأدب الجزيل:
إذا أصبحت فينا ذا اقتدار
…
وأمرك في رقاب الخلق جاري
أقل وأقبل عثارا واعتذارا
…
فمن يقبل يقل عند العثار
فما زال الصغار ثروم عفوا
…
وغفران الكبائر من كبار
وأحسن العفو يا ذا السلوك عفو السلاطين والملوك لا سيما إذا عظم الجرم وكبر الأثم فإن العفو إذ ذاك صادر من ملك ذي سلطان قادر مع قوة الباعث على المؤاخذة والقدرة الشاملة النافذه وغير الملوك من العاجز والصعلوك عفوهم إنما هو عجز خشيه أو لتمشية غرض مشيه والملوك إنما عنهم الخلال الحميدة والخصال الشريفة السعيدة وإلا كابر يعفون والاصاغر يهفون وقد قسم الحكماء والحكام ما يقع من الذنب والآثام أربعة أقسام فاسمع
يا كبير هفوة وتقصير وخيانة ومكروه وحرروا ذلك وضبطوه وذكروا لكل جزءاً قروره فجزاء الهفوة العتاب وبه نطق الكتاب وجزاء التقصير الملامه على ما أورث من ندامة وجزاء الخيانة العقوبة فإن في ارتكابها للعاقل صعوبة وأعظم بعقابها مثوبة وما يرتكب المكروه إلا الغافل المعتوه وجزاؤه أيضاً بمثله وهذا على مقتضى العقل وعدله والذي صدر في سابق القدر من المخلص أبي نوفل إنما هي هفوة بها زل وجزاؤه على هذا الحساب إنما هو العقاب وقد استوفاه وزيادة وفي هذا لمولانا الملك الإرادة فإن شاء عاقب على الذنب الصغير وإن شاء عفا عن الجرم الكبير والهفوة لا يكاد يسلم منها الخواص فضلاً عمن هو في شرك العبودية والأقتناص ولأن يؤثر الفضل عن الملك وعلى طريق عفوه يسلك الدرب للستلك خير من أن يؤثر عنه لنفسه انتقام ويخلد ذلك على صفحات الأيام ولا شك أن سيرة العفو والفضل أفضل من القصاص والعدل وذلك هو اللائق بالحشمة والأوثق للحرمة والأجدر لناموس السلطنة والأبقى على ممر الدهور والأزمنة وقد قال سيد المرسلين وحبيب رب العالمين ينادي مناد يوم القيامة من كان له عند الله يد فليقم فلا يقوم إلا من عفا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً فاعفوا يعزكم الله ولقد كان جماعة من عظماء الملوك والأكابر يبحثون عمن تعاطى
الذنوب والأجرام من الأصاغر لا سيما لمن يتعرض لذات الملك ونفسه ويستعين بطوائف على فساده من أبناء جنسه فإذاقدروا عليهم وتلذذوا بالعفو والإحسان واستعفوا وحسبك يا أبا جهينه ومن فضله أعذب مزينه واقعة ابن سليمان المخلدة على ممر الأزمان وما تضمنت من مكارم الأخلاق التي تعطرت بها الآفاق فتوجه الأسد إليه ومال وقال أخبرنا يا أخا نهشل كيف كان هذا المثال (قال) لها انتهت أيام بني أمية وتطرزت خلع الأيام بأعلام الدولة العباسية وأشرق بطلعة أبي العباس السفاح في ديار جير الدهر أيمن صباح بأحسن فلاح اختفت نجوم أفلاك بني أمية وكواكب من بقي من تلك الزواهر المضيه وكان منهم إبراهيم ابن سليمان بن عبد الملك بن مروان وجعل السفاح يتطلبهم ويرغب من يدري بهم ويرهبهم إلى أن ظهر ابن سليمان وكان من أمره ما كان فحكى أنه كان بالحيرة مختفياً في هم وحيره قال ففي بعض الأيام تراءت لي على سطح سواد أعلام فوقع في نفسي وغلب على حدسي أنها قد جاءت لطلبي راغبة في عطبي فتنكرت في الحال واختفت وخرجت من الحيرة وإلى الكوفة أتيت فدخلتها خائفاً أترقب ولم يكن لي فيها مترصد ولا مترقب ولا صديق أركن إليه ولا صاحب أعول عليه فصرت في تلك البلاد مثل المنشد ببغداد:
بغداد دار لآهل المال منعمة
…
وللمفاليس دار الضنك والضيق
ظللت حيران أمشي في أزقتها
…
كأنني مصحف في بيت زنديق
فأداني المسير إلى باب كبير منظره جليل وداخله دهليز طويل ليس فيه أحد من الحجاب والرصد فدخلت إليه وبه مكان فجلست عليه وإذا برجل جسيم الشكل وسيم على فرس جواد مع طائفة من الأجناد فدخل إلى دهليز الباب وفي خدمته غلمانه والأصحاب إلى أن نزل عن دابته وانفرد عن جماعته فلما رآني في وجيف ووجل قال من الرجل فقلت خلالك الذم مختف على دم واستجرت بجوارك ونزلت في ديارك فقال أجارك الله لا تخف من سواه ثم أدخلني في حجرة لطيفة تشتمل على أشياء ظريفة قد جعلها مضيفة ينزلها كل من قصده جهله أو عرفه فمكثت عنده حولا أصول في نعمه صولا ولا يسألني فعلا ولا قوة بل كان يركب من الأسحار وينزل إذا انتصف النهار وذلك كل يوم لا تأخذه عن ذلك سنة ولا نوم فسألته في بعض الأيام ونحن في أهنى مقام وقد صرت عيبة سره ومرآة قلبه وصدره عن ركوبه ونزوله وموجب تنقله وحلوله فقال أن إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك بن مروان قتل أبي صبرا وأورثني بذلك نكدا أو ضرا وأوهج في فؤادي لهبا وجمرا وقد دارت على بني أمية الدوائر وبلغني بقتله من كربه فآخذ بثاري وأكشف عني عاري وأطفئ لهبي وآخذ ثار أبي
قال ابن سليمان فعجبت من قضاء الرحمن وكيف ساقتني أرجلي إلى شبكة مقتلي وأمشاني القضاء برجلي إلى من هو دائر على قتلي فاستحييت منه ومن الله وكرهت عند ذلك الحياة فسألته عن اسم أبيه لا تحقق ما يبديه وينهيه فأخبرني فعرفته إني أنا قتلته فقلت يا هذا وجب على حقك وأنا غريمك ومسترقك وقد قرب الله خطاك وأنا لك متمناك فقال وما ذاك فقلت أنا إبراهيم الذي على طلبه تهيم وأنا قاتل أبيك فافعل بي ما يرضيك وخذ ثارك وأطفئ نارك فقال كأنه طال بك الجفاء وأضر بك الاختفاء فأردت بالموت الخلاص واستندت لدعوى القصاص فقلت لا والله الذي علم السر وأخفاه بل قلت الحق وفهت بالصدق وخلاص الذمة في الأولى أخف من قصاص الأخرى وأولى أنا فعلت بأبيك الأذى في يوم كذا ومكان كذا قال فلما علم ذلك مني وتحقق أنه صدر عني احرت عيناه وانتفخت شفتاه وقامت عروقه ولمعت بروقه وأزبدت شدوقه وأطرق إلى الأرض وكاد يأكل بعضه البعض وجعل يرجف ويرعد ويزأر كالأسد ويتململ كريشة تقلبها الريح في قاع البلد واستمر على ذلك زمانا يتأمل فيما يفعله بي إساءة وإحسانا إلى أن سكنت رعدته وبردت همته فأمنت سطوته وقهر جديسورته ثم أقبل على رفع رأسه إلي وقال أما أنت
فستلقى أبي غدا فيقتص له منك جبار السما وأما أنا فلا أخفر ذمتي ولا أضيع جواري وحرمتي ولا يصل إليك مكر ومضى. ولكن قم واخرج عني فلست آمن نفسي عليك ولا أقدر بعد اليوم أنظر إليك ثم دفع إلى ألف دينار وقال استعن بها على ما تختار فلم آخذها ولا نظرت إليها وخرجت من داره ولم أعرج عليها ولم أر أكرم من ذلك الرجل ولا أحلم ولا أعظم مكارم منه ولا أجسم. (وإنما أوردت) هذه الحكاية وقى الله مولانا شر النكاية ليعلم أن الذنب الكبير يستدعي العفو الكثير ممن قدره عظيم وحسبه جسيم ونسبه كريم كما قيل في محكم الكتاب الحكيم: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. فقال الوزير ناموس السلطنة وحشمتها وهيبة الملك وحرمتها له شروط كل منها محرر مضبوط وبالمحافظة عليه محوط ولا بد من إقامة أركانها وتشييد بنيانها ويجب الوفاء بها على المملوك والمالك ويفترض القيام بها على سلاطين الممالك والإخلال برعايتها وهن في الولاية فلا غنى عن العمل بها ورعايتها أحسن رعاية فمن ذلك أن لا يسامح جماعة ولا يغفل عنهم وعن كيدهم ساعة فساعة ولا يركن إليهم في إقامة ولا سير حيث لا يصدر عنهم للملك ولا للملكة خير فمنهم من يعزل الإنسان عن منصبه من غير وقوف لعزله عن سببه ومنهم من يوالي أعداء الملك وهو ذو اجتراء منهمك ومنهم من يراعي مصلحة نفسه ويقدمها على مصلحة مخدومته في حالتي رخائه وبأسه ومنهم من يفشي سره ولا يراعي خيره وشره ومنهم من يتعرض لسقطه وغلطه لتغيير خاطره وسخطه ومنهم
من ينتقص حرمته وينتهك عظمته وحشمته ومنهم ذو الطبع اللئيم المفسد في الحريم ولا شك أن أبا نوفل المهمل المغفل قد ارتكب بعض هذه الصفات وهو متلبس بأشنع الحركات وهذا يدل على لؤم أصله وشؤم محله وسوء طوبته وفسداد نيته ومن أكرم اللئيم فهو
الملوم وهذا أمر معلوم وقد قيل:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
…
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فقال أخو نهشل الفقير لا تقل ذلك أيها الوزير فإن أبا نوفل عبد خديم ومخلص قديم وظريف نديم ومحب صديق وودود شفيق أمين ثقة ذو وفاء ومقه محب ناصح وجليس صالح لم يعلم مولانا الملك عليه إلا الخير ولم يزل يسير في طريق العبودية أحسن سير ولم يطلع منه على شيء يعينه ولا يشينه في الدارين ولا يريبه بل هو ملازم لوظائف عبوديته مباشر لما يجب عليه من شرائط خدمته لم يصدر أبدا غش لمخدومه ولا خروج عن امتثال أوامر مرسومه فإن منه هفوة نادرة أو سهوة بادره أو جفوة سادره فحلم مولانا الملك لا يقتضي بل ولا يرتضي إطراح هذه الأوصاف المتعاضد لأجل هذه الزلة الواحدة كما قيل:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا
…
فأفعاله اللاتي سررن ألوف
مع أنه حصل له من كسر الخاطر وإحراق القلب وإغراق الجفن الماطر ما لا يجبره إلا العواطف السلطانية والمراحم الشريفة الملوكية ونظرة من الحنو والعطف وذرة من الشفقة واللطف تكفيه ومن أليم الجفاء تنجيه وبعد شدة الممات تحييه وإلا فلا نعرف أحداً يجبر كسر ذلك الوهن أبداً إلا الآلاء السلطانية من يد العلو تعالى مقامها إلى درجات السمو والعطف والحنو
ثم عطف على الدب وقد حفر لإيقاعه الجب وقال أما أنا مع قلة البضاعة واحتقار مقامي بين الجماعة فقد أقمت نفسي لما وجب عليها في مقام الشفاعة فلا أقصر فيها ولا أرجع عنها ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها وأسال صدقات مولانا أبي اللماس المساعدة في إنجاز هذا الالتماس وأن يكون هذا شريكاً لي في إحراز هذا الجعل والوصول إلى أنواع الفضل من هذا الفصل فإنه يرد عنا فئة ومن يشفع شفاعة سيئة وأرجو من وزير الممالك أن لا يقع منه مخالفة في ذلك فإن من سكن الكرم في ربعة لا يصدر منه ما يلبق بكرم طبعه اللئيم بتكلفبل يحسد عليه ويتأسف إذا شرع في مكارم الأخلاق وتعاطى فيها ما لم يقسمه له مقسم الأرزاق ترى وجوه محاسنها في مكانها تتستر منه بانقاب النشوز وأبكار خدورها في قصورها تتراءى لعينه في صورة شوهاء عجوز فلا يطاوعه لسانه في طيب المقام إلى طيب المقال ولا يبعثه جنانه إلى مباشرة حسن الفعال فيصير كما قيل:
يراد من القلب نسيانكم
…
وتأبى الطباع على الناقل
والناس على دين ملوكهم سالكون طريق سلوكهم وحيث كان مولانا الملك مجبولاً على الشفقة الكاملة والمراحم الشاملة فكلنا يجب على ذمتنا ويلزم دائرة همتنا أن نتخلق بإخلافه العلية ونتشبث بأهداب شمائلها الرضية ونتعاون جميعاً على التزين بملابسة ملابسها البهية ونستضيء بل نهتدي في دياجير المعاش بدراري أفلاك صفاتها الزكية فإن العبد فيما يتعاناه مجبول من طينة مولاه وإن الله جل وعلا لا يضيع أجر من أحسن عملاً
قال فالجم الدب ذو الساقطة بما فعله من المغالطة ثم أمسكوا عن الكلام وانتظروا ما يصدر من الضرغام فلم يبد خطاباً ولا أنهى جواباً سوى أن قال صلوا في الرحال ولا تبدوا ولا تعيدوا ولا تنقصوا في هذه القضية ولا تزيدوا حتى أمعن فيها النظر واستشير فيها مشير الفكر فمهما أشار إليه الرأي وأرشد إلى اتباعه الهدى فيما يتعلق بحاله تقدمت إليكم بامتثاله فلما انصرفوا توجه أخو نهشل إلى الحبس وذكر لأخيه ما جرى بينه وبين ذلك النحس ثم قال: أبشر بالنجاح والفلاح والصلاح فقد رأيت في جبين الفوز نور صباح ولا شك أن الله الغفور يجري على يدي ولساني من الأمور ما يجلب السرور ويذهب الشرور فكن أوثق سبور وإن حصل في الطريق عقبة تعويق فلا يكن في صدرك حرج فإن وراءها باب الفرج فإن الظفر مقرون بالصبر والصبر مشفوع باليسر وقد أجاد صاحب الإنشاد:
أصبر على ما جرى من سابق قدما
…
فمركب الصبر بالإمهال تلحفه
فشكر له جميل سعيه ثم عرض على مشير وعيه فقال: كنت أرى إن هذه القضية تؤخر ويرجا السعي في أمرها ولا يذكر وسبب ذلك أن الطالع قد أدبر والحظ عن المساعدة قد تأخر وإذا تحرك الشخص والسعد ساكن وتبسم الدهر والزهر باك وطلب شكر مسالمته وهو شاك فهو كقاطع البحر بالمراكن والباني على ثبجه أماكن لا يصلح له عمل ولا ينجح له أمل فيشبه إذ ذاك الحمار المعصوب العينين في المدار يقطع بالمسير زمانه ولا يفارق مكانه كذلك من يتعاطى الأعمال والسعد غير
عمال فلا يستفيد إلا التعويق والتبعيد ففي تلك الحال ينبغي الإمهال لا الإهمال إلى أن يتوجه السعد بالإقبال فعند ذلك مد الشباك وصيد السماك فإن السعد أتاك والدهر واتاك وناهيك قصة كسرى القديم مع وزيره بزرجمهر الحكيم فسأل أخا نهشل بيان ما نقل من المثل أخوه أبو نوفل (فقال) بلغني أن كسرى أراد التنزه فثنى إلى حديقة عنان التوجه وطلب الحكيم بزرجمهر وجلسا تحت دوحة زهر على بركة ماء أصفى من دموع العشاق وأنقى من قلوب الحكماء ثم طلب طائفة من البط لتلعب قدامه في البركة وتنغط وجعل ينادم وزيره ويتلقف منه حكمه المنيره ويتعرج على البط وهو يلعب ويتأمل في أنواع حكم الصانع الخاتم من أصبعه وهو ساه وشاهد بزرجمهر هذا الأمر فما أبداه ولا أنهاه فالتقمته بطة وغطت في الماء غطة وكان فيه فص ثمين وكسرى به من المغرمين فلما سود قلم الاقتدار بياض النهار وأكمل مشقة على قرطاس الأقطار أذن كسرى للوزير بالانصراف وقد أسبغ عليه خلع الأنعام والإسعاف ودخل كسرى إلى الحرم وافتقد من أصبعه الخاتم فلم يتذكر ما جرى له ولا وقف على كيفية هذه الحالة فأرسل يطلب الوزير البارع وسأل منه عن خاتمة الصائغ وكان الوزير قد نظر في الطالع فرأى أن الكلام فيأمر الخاتم غير نافع فلو تكلم بصورة الواقع ذبح جميع البط وما وجد لأن الطالع مانع فكتم أمره وكلمه بكلام الحقيقة الحد جامع مانع ثم أنصرف وذهب واستمر كسرى على الطلب
ولم يزل بزرجمهر يراقب الأوقات وينظر في أحوال الساعات إلى أن استقام الطالع وزال من السعد المانع وتيمن الفال وحسن البال وحال الوبال فتوجه بزرجمهر إلى خدمة مخدومه وأخبره بما كان مخفياً من أمر الخاتم في جيب مكتومه وأنه سقط من أصبعه وهو على البركة في موضعه فبادرت بطة إلى الغطة فاختطفته وابتلعته بعد ما التقمته فأحضروا البط جميعه وذبحوا من عرضة واحدة بديعة فوجدوا الخاتم في حشاها ولم تحوج إلى ذبح سواها ثم سأل كسرى الحكيم الأديب لمَ لم يخبره بهذا الأمر الغريب في أول وقوعه وصدوره وما موجب تأخيره فقال: كان إذ ذاك الجد في انعكاس والسعد في انتكاس والطالع في سقوط والنجم في هبوط وأما الآن فالطالع واستقام والسعد كالخادم أقام ونجم السعود قد حال عنه الهبوط والوبال وفي استقامة السعد وإقباله من بعد يفعل الشخص ما شا فالدهر معه جار سواء جاري أو ماشي (وإنما أوردت) هذا النظير لتعلم أن معاندة التقدير أمر خطير وخطب عسير فربما يفرغ الإنسان جهده في المبالغة ويكون الأمر فيه ممانعة ومراودة فينعكس المرام ولم يحصل سوى إضاعة أيام ولم أذكر هذه المفاوضة إلا على سبيل العرض لا المعارضة لما علم منك من وفور الفضيلة وإن مقاصدك على كل حال جميلة فقال أخو نهشل الأمر كما زعمت وأشرت به ورسمت ولكن خشيت أن لم أبادر يسبقني عدوة غادر أو حسود ماكر أو مبغض مكابر فينهى المسامع ما ليس بواقع فلم نشعر أيها البطل إلا وقد ولج قلب الملك أنواع من مكر ودخل فيصير كما قيل:
أناني هواها قبل أن أعرف الهوى
…
فصادف قلباً خالياً فتمكنا
لا سيما وقد تقرر في الأمثال عند غالب الرجال أن الدعوى لمن سبق لا لمن صدق وبالجملة يا أبا عويله إذا كانت مقاصد الشخص جميلة فإن الله تعالى ينجحها ولا يفضحها ويدبرها ولا يدمرها وإن كان في الظاهر وعند البادي والحاضر يظهر في بعض القضايا نوع هم وغم لكن ذاك السر لم يطلع عليه إلا مدبر العالم وإذا فوض الشخص الأمور إلى العزيز الغفور الذي هو مدبر الطالع والغارب وفي الحقيقة رب المشارق والمغارب وعلم أن مقاليد الأمور بيد تدبيره وإن ملوك الأرض تحت تصريف تقديره وتسخيره استراح في كل المطالع وأخلص التوكل فنجاه الله من كل الوقائع وأوصله إلى ما رام من المطامع (وحسبك) قضية الناصح الأستاذ الأمين الدمشقي مع الخائن جاسوس بغداد وهي طويلة طائلة في مجلدة كاملة وأيضاً لم أبادر بمفاتحة السلطان في أمرك يا أعز الإخوان إلا لئلا أنسب إلى نهاون وتوان وما من شروط المروة والصداقة والأخوة أن يتخلف الفطن في مثل هذا الموطن عن مساعدة الأصحاب ومعاونة الأحباب لا سيما صديق مثلك وحبيب متسم بفضلك وإني لا أدع من أنواع الاجتهاد وما يحسن ببالي في الإصدار والإيراد شيئاً إلا فعلته ولا أمر إلا قدمته ولا فكر إلا استعملته ولو بذات في ذلك روحي ومالي وخيلي ورجالي وإني مباكر باب الملك وملازمه كأحسن من سدك فإن رايته مكرماً مقامي مصغياً إلى كلامي خاطبته بما يليق وسلكت في الشفاعة وحلو العبارة أوضح طريق وإن شاهدت في خلقه شكاسه وفي طبعه شراسة وصعوبة وشماسة سلكت سبيل حسن السياسة وفي الجملة استعمل علم الفراسة وفي كل حكم نظيرة وقياسة وأستعين بالأقرباء والأولاد وأغالط المناقض والمعارض من الأعداء وأقصد النحج وأراقبه وارتقب السعد وأخاطبه وأسلك مع كل
أحد ما يناسبه فالعدو أقتله والحسود أختله والعذول أفتله والمحب أحتله والمبغض أبتله ومن تصلب في المدافعة أمثلة إلى أن ينقضي هذا الأمر وينطفي منه الجمر ويقبل مبشر الأماني بالطبل والزمر ثم أنه بات مفكراً وبادر إلى الصباح مبكراً وأم أبواب السلطان قبل سائر الخدم والأعوانفوجد الدب قد سبقه وجلس من عين المكروه في الحدقة وقد فوق سهم الكبد وصوبه إلى شاكلة الصد ولم يبق إلا إطلاقه ليشد من المرمى وثاقه فقبل النديم الأرض وأعلن سلامه وقطع على أبي حميد كلامه وعارض ملامه وناقص مرامه وقال أدام الله أيام السعادة وأعوام الحسنى وزيادة المستمدة من بقاء مولانا السلطان وعمر دهره المخلد على تعاقب الزمان وأطأ قمم الأمم مواطئ قدمه وأطاب بطيب حياته معايش عبيده وخدمه كانت المواعيد الشريفة والآراء المنيفة سبقت بالتأمل في أمر عبدها القديم وخديمها الفقير النديم وجالب سرورها أبو نوفل النديم مع ما كان لائحاً وعلى صفحات الرضا واضحة من شمائل الأخلاق الملوكية ومكارم الشيم السلطانية إن مراحمها ستأخذ بيد العائر وتقبل عثرته بحسن المآثر بحيث يشرح الحاسر ويربح الخاسر والمملوك يسأل مراحمها ويرجو مكارمها أن لا تخيب ظنه وأن تجبر بتحقيق ظنه وهنه وأن تجري مماليكها وعبيدها على ما عودها من الصدقات قديمها وجديدها ثم أنشد وإلى الرضا أرشد:
أرجو بالعباس أن يروي لنا
…
عن ثغرة الضحاك نوراً يقتبس
فأقرأ تبسم ضاحكاً من قولها
…
متهللا نحوي ولا تقرأ عبس
فتبسم أبو العباس ابتسامة ظهرت منها للرضا علامة فاشتعل الدب من القيظ وكاد يتمزق من الغيظ وعلم أن عقد أمره انفرط ونجم سعده من فلك السعد سقط وأنه لم يكتسب من مكايد القساوة إلا هاتيك العداوة وانكشف عند مالكه ما وطاه من مغطى وقرأ كل أحد حديث ذلك الموطأ وغلب عليه الوجد في الحال فخرج عن دائرة الاعتدال وسكر من خمرة العداوة فطفح وعربد وشطح فقال: كل من ستر على أعداء الملك فهو في الخيانة والجناية مشترك وكل من شفع في الجاني فهو في قيد العصيان عاني بل هو أشد من المباشر إذ هو معاشر للمتعاطي ومكاثر والإبقاء على المعصية شر منها والرضا بكفر الكافر فتنة يفر عنها وما أظنك أيها النديم العارف القديم لمعرفة هذا القدر عديم فإن أبيت إلا الإصرار ومساعدة الفجار ومعاونة الأشرار فأنت حينئذ مستخف لهيبة ولي نعمتك مستنقص حرمة مالك رقبتك طالب لابتذاله مستهين بمقام جلاله راض بتسليط الأنذال والأوغاد الأراذل على انتهاك حرمته وابتكاك أستار حشمته ونحن لا نرضى بذاء الذمامة ولا كيد للمخالف ولا كرامة فعند ذلك استشاط الغضنفر وتأثر لكلام الوزير وتغير وزأر وهمر وزفر زفرة وزمجر وكاد أن يثب على أبي جمهر ثم أنه تماسك وتناسى الغدر وتناسك وقال يا أبا سلمة كبرت كلمه غيمة الأصحاب والنميمة بين الأحباب وساءت حركة وبئست ملكه تناسى الحقوق وتحاشى العقوق
وإطراح جانب الصديق الصدوق والرفيق الشفوق وإضاعة خدمة الخديم لا سيما النديم القديم ولم تزل الأصاغر تستمطر مراحم الرؤساء والأكابر ولم تبرح الملوك تعطف على مسكينها الصعلوك أنسيت ما قلت لك في حقيقة من ملك وهو:
ليس المليك الذي تشقى رعيته
…
وإنما الملك مولى يحفظ الخدما
وأيضاً لم تزل الأصحاب تساعد أصحابها وتستعطف عليها ملوكها وأربابها وترفع بحسن السفارة من ستائر الدهشة حجابها ويثبتون بذلك الأجر العظيم والثواب الجسيم والثناء العاجل والجزاء الآجل في صحائف مخاديمهم ويعدون ذلك أربح معاليمهم ويبذلون في ذلك الجهد ويبلغون فيه غاية الكد وذلك مما يجب عليهم ويتقدم بالمحافظة عليه إليهم كما قيل:
يستعطفون الأكابر
يستعبدون الأساغر
يحبون رسم الأوائل
يعملون الأواخر
وأي فائدة واستفادة أيها الوزير أبا قتادة في رعية ملك لا تتفق قلوبهم ولا تستر بينهم عيوبهم ولا تطهر بالصفاء جيوبهم ولا تتجافى عن مضاجع الجفاء جنوبهم ولا يتساوى في الوفاء حضورهموغيوبهم تراهم في الغيبة يفت بعضهم بعضاً فتاً ويرعون لحومهم قتا كبهائم لاقت في مرعاها قتاً وفي الحضور تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ثم إن كان أخو نهشل يساعد أخاه أبا نوفل فذاك شيء يجب عليه ويندب فإنه صاحبه القديم وجليسه القويم وإن تخلى عنه فماذا يرجى منه وحجر النوائب هو محك الأصحاب وجمر المصائب يظهر من تبر الصداقة اللباب وقد قام في هذه
النوائب بعدة أشياء كلها عليه واجب أولها القيام بحق أخيه والسعي في خلاصه من هذا الأمر الكريه ثانيها ساق إلى صحائفي الحسنات وقصد لي رفع الدرجات ثالثها طلب رضا خاطري وما يشرح صدري ويسر سرائري رابعها مباعدتي عن الآثام وخلاص ذمتي من الوقوع في الحرام فربما يحملني العنود والخلق الشرود على التعدي في الحدود خامسها اشتهار أسمي بالفضل وعدم المؤاخذة بالعدل فيشيع في الآفاق عني مكارم الأخلاق سادسها انتشار صيتي بحسن الوفاء بحقوق الإخوان وعدم الجفاء سابعها أنه غرس في قلوب الأماثل محبته وزرع في أوراح الأفاضل مودته وإن كان صدر من أبى نوفل ما صدر فإنه اعترف بالذنب وعنه اعتذر فنعمل معه بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر كما قيل:
اقبل معاذير من يأتيك معتذراً
…
إن بر عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من أرضاك ظاهره
…
وقد أجلك من يعصيك مستترا
ولو بلغت هذه الحكاية غاية الشر ونهاية النكاية ماندني واقعة الملك الصافح عن عدوه المؤذي السافح فقبل الدب الأرض وقام في مقام العرض وسأل الملك بيانها ليعلم بحسن التصريف فرزاتها ويقيس عليها أوزانها (فقال) ذكر أن بعض السلاطين تصدى له عدو من الشياطين يحرض عليه الأعادي ويفسد عليه الحاضر والبادي ويجتهد في إقامته ومسيره في إزالة الملك عن سريره ويغري به العساكر فيقابله ظاهراً بالنواكر باطناً بالمواكر وما فسد منه إلا بدواعي الحقد والحسد فجعل الملك يسترضيه بالهبات فلا يرضى ويستدنيه بالصلات فلا تزيد صلاته إلا بعداً ونقضاً كما قيل:
إلى كم يداري القلب حاسد نعمة
…
إذا كان لا يرضيه إلا زوالها
فاضطر الملك من أموره واشتغل لإيقاعه بنذوره وجعل ينصب له شرك الوقائع ويجتهد ف إيقاعه بكل دان وشاسع وذلك الباغي أحذر من الغراب وأسهر من طالع الكلاب والملك لا يقر له قرار ولا يطيب له عيش لا بالليل ولا بالنهار فكان من أحسن الاتفاق أن علق ذلك الباغي ببعض الأوهاق فحمل إلى حضرة الملك وهو في قيد البلاء مشتبك فلما رآه في قيد النكد بادر إلى الأرض فسجد وقال الحمد لله المغيث حيث أمكن منك أي خبيث أترى هذا المنام فهو أضغاث أحلام أم سمح الزمان بأهل العدوان وأنا يقظان ثم شرع في السب والتجديع والتوبيخ والتقريع وأقسم بالفالق الأصباح وخالق الأرواح والأشباح ليفعلن بذلك النباح من النكال والجراح ما فعل المصطفى عليه الصلاة والسلام مع سراق اللقاح وليذيقه كأس البأس وليجرعنه من خمر المنية أمر كأس ثم أمر الجلاد أن يأتيه بماله من القطع والسيف والعتاد فعلم ذلك الزنديق أنه وقع في الضيق وأنه لا ينجيه أخ ولا صديق ولا افتداء بشقيق ولا حميم وشفيق فضلاً عن مال ومنال أو خيل ورجال فلما غسل يده من العيش استهوته الخفة والطيش فشرع في السباب ودخل في الشتم من كل
باب ورفع بفاحش الكلام الصوت وقال ما بعد الموت موت فسأل الملك أحد الوزراء ماذا يقول من الافتراء هذا الظالم المجتري الباغي المفتري فقال يدعو بدوام البقاء ورفعة مولانا الملك والارتقاء ويقول ما أحسن العفو عند المقدرة واللطف والكرم أيام الميسرة وإن لم ثم مجال للمعذرة ولو جعل العفر شكر المقدرة لكان أولى وأعلى مقاماً في مكارم وأحلى كما قيل: ما أحسن العفو من القادر لا سيما لغير ذي ناصر
ويترجم على أسلاف مولانا السلطان الذين كان شيمتهم العفو عن ذوي العصيان وكان ذلك منتهى لذتهم وغاية أمنيتهم وما أجدر مولانا الملك أن يحيي مكارم سلفه ويجعل العفو كلمة باقية في خلفه ولا زال يقول من هذا المقول حتى لان له القلب القاسي ورق له قلب الملك الجاسي فأمر بإطلاقه ومن عليه بإعتاقه وكان أحد الوزراء وأركان الأمراء شخص يعاكس هذا الوزير ويناقضه فيما يراه ويشير وبينهما مرت أسباب عداوة أحلى في مذاق طبعهما من الشهد والحلاوة كل مترصد للآخر زلة متوقع لإيقاعه في شبكة البلاء غفلة فحين رأى شقة الحال نسجت على هذا المنوال وجد فرصة للمقال فتقدم وقال ما أحسن الصدق وأيمن كلام الحق خصوصاً في حضرة المخدوم وهذا أمر معلوم عدو مبين وحسود مهين لم يترك من أنواع العداوة شيئاً إلا تعاطاه ولا من الإفساد والشر صنفاً إلا هياه قد أهلك الحرث والنسل وبدل جنتي الصلاح من الفساد بخمط وأثل إلى أن أمكن الله تعالى منه وحان تفريغ الخواطر الشريفة عنه ثم أنه في
مثل هذا المقام بين الخواص والعوام يثلب الأعراض من الأمراض ويجهر بالسوء من القول ويصرف في الخنى والسب ما له من قوة وحول كيف يحل السكوت عن جرائمه وتغطية مساويه وعظائمه فضلاً عن أن تتجلى سيئاته في خلع الحسنات وتتحلى شوهاء سواخط أدعيته بملابس أحسن الدعوات ومع هذا يطلب له التوقع والخلاص والإطلاق من شرك الاقتناص وهو على ما هو عليه من الإساءة المنسوبة إليه أما والله يا مولانا الهمام وسلطان الأنام ما قال إلا كذا كذا من قبيح الكلام وتناول العرض المصون بالسب والدعاء والملام فتغير خاطر الملك وتعكر وتشوش صافي خاطره وتكدر ثم قال أيها الوزير ذو الصدق في التحرير والله وحقك إن كذب هذا الوزير عندي خير من صدقك فإنه بكذبه أرضاني وإلى طريق الحق هداني وأصفى خاطري من الكدر وأطغا ما كان تلهب في غيظي من شرر ونجاني من دم كنت أريقه ولا يهتدي إلى كيفية استحلاله طريقة فأصلح بذلك ذات البين وأصار المتعادلين أحسن محبين وخلد ذكري بجميل الصفات وسلك بي طريقة أجدادي الرفات وأما أنت فكدرت عيشي وآثرت غضبي وطيشي وأسمعتني الكلام المر وقد سنى منك الضر وأما أنا فقد أعتقت هذا وأطلقته فلا أرجع في إيذائه وقد أعتقته وقد ثبت لهذا الوزير على حقوق لا ينكرها إلا ذو عقوق ولا تسعها الأوراق والرقوق فكذبه عندي خير من صدقك وباطله أحلى على قلبي من حقك ولهذا قال ذو الأفضال ما كل ما يعلم يقال
(وإنما أوردت) هذا الكلام يا كرام لتعلموا إن السلطان بمنزلة الإمام وأركانه له تبغ في القعود والقيام ولا يتم الإئتمام إلا بالاتفاق بين الرفاق فإذا كان الجماعة مجمعين طائعين لإمامهم مستمعين استقام القيام وانتهوا من جميل التحيات إلى السلام ولا يقع لهم انتظام مع مخالفتهم لحال الإمام هذا قائم وهذا قاعد وهذا راكع وهذا ساجد وهذا نائم وهذا هاجد وأيضاً السلطان بمنزلة القلب والرأس وبمنزلة الأعضاء رؤساء الناس وباقي الرعية خدم للرأس والأعضاء منتظرين لما تبرز به المراسيم من الزجر والإمضاء فإذا اتفقت الأعضاء واصطلحت انتظمت أمور كل من الرأس والرعية وانصلحت وإذا وقع اختلاف وتباين في الأعضا صار كل من الرأس والقلب والرعية مرضى ولقد صدق من قال وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضى المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. وخلاصة هذا الكلام أن قصدي أن تكون أحوال رعيتي على النظام لا يقع بينهم شقاق ولا تنافر ولا نفاق وأما أبو نوفل فيكفيه حياؤه وخجلته فقد انتهت وتمت عقوبته وأخذ حده حده ولا يليق بكرمي أن أرده وهذا الذي ورثته عن أسلافي وهو الحق اللائق بمحاسن شيمي وأوصافي فلما سمع الوزير هذا الكلاموجرح فؤاده نصل هذا الملام ندم غاية الندم وعلم أنه قد زلت به القدم وأنه لا حاجته قضى ولا على صديقه أبقى ولم يستفد مما أبداه من فجم سوى إظهار معاداة أبي التجم وإنه إذا تخلص من حبسه وكربه ورجع عند الملك إلى منادمته وقربه لابد أن يتصدى لمعاداته وسلبه ولا يفيده بعد ذلك أفعاله ولا يسمع في أبي نوفل أقواله فانصرف من
عند الملك الطيثار لا يدري أين يضع قدمه من الإفتكار حتى وصل إلى منزله واختلى في فكره بعمله وفرغ للمخلص من هذه الورطة طرقاً وتفرقت رواد أفكاره في منازل الخلاص فرقاً فأدى نصيب الرواد من الآراء ومفيد القصاد من الشورى
إلى السعي في مصالحة أبو نوفل وإزالة ما وقع من الغبر في وجوه الصداقة وتخلل ثم أدى إفتكاره وأورى من زند رأيه شراره إلى أن الذي وقع منه قد اشتهر وعلم به أصحاب البدو والحضر فإذا طلب من بعده الصلح فذلك في غاية القبح إذ كل من في حجره حجز يتحقق إن ذلك خور وعجز فصار يتردد بين هذه الأفكار ويتأمل ما فيها من تحقيق الأنظار وتدقيق الأسرار فبينما هو في بحر الافتكار يلطمه الموج ويصدمه التيار دخل عليه صفي له صافي الوداد وهو ظبي أغر يدعى مبارك الميلاد ذكي الجنان فصيح اللسان دقيق النظر عميق الفكر ذو رأي صواب وشفقة كاملة على الأصحاب فرآه مطرقاً إلى الأرض في فكر ذي طول وعرض فسلم عليه وتقدم بالسؤال إليه عن نشور باله وتوزع حاله فطلب الوقوف على ما ناله لينظر عاقبة أمره ومآله فأخبره بموجب ذلك وأنه قد سدت في وجهه المسالك فقال مبارك الميلاد يا صحيح الوداد أنت قد زعمت أن مولانا السلطان قد ترك أبا نوفل الندمان وطرحه إطراحاً لا رجعة فيه وأنه بعد اليوم لا يذكره ولا يدينه وإن عثرته لا تقال وغصته لا تزول وقصته لا تزال هيهات هيهات يا أبا الترهات الملوك إن لم يعرفوا حقوق خدمهم ولم يثبتوا في ديوان إحسانهم قدم قدمهم خصوصاً هذا الملك العظيم الذي أنفاس شيمه تحيي العظم الرميم ونحن قد وجينا عمرنا في خدمة وأذاقنا برد
عفوه وحلاوة كرمه وغذاء أرواحنا إنما هو غوادي حمله ورائح نعمه مع إن أبا نوفل لم يقع في محذور معضل يوجب تناسي ذممه وابتذال حرمته وحرمه وإنه استغفر وأناب واعتذر وتاب وأعلم أيها الوزير الأكرم إن ذوي النهي والحجر إذا أرادوا الشروع في أمر تأملوا في مبداه غايته ومنتهاه وهذا التقرير كالجلوس المقصود من عمل السرير فإنما تنبعث لصنعته النفوس إذا علمت بحصول الرفعة عليه من الجلوس كما قيل:
فإياك والأمر الذي إن توسعت
…
موارده ضاقت عليك مصادره
أما بلغك يا أخي وأكرم سخي حكاية التاجر البلخي؟ قال الوزير: أخبرني بكيفية هذا التنظير! (قال) مبارك الميلاد بلغني من أحد العباد الذين طافوا البلاد أنه كان في مدينة بلخ تاجر كثير العروض والمتاجر عريض المال والجاه غزير الضياع والمياه تكاثر نقوده الرمال وتباهي خزائنه معادن الجبال وتفاخر جواهره در البحار وتسامي بضائعه تلال القفار تراجع عنه الحظ وعامله الزمان بعادة طبعه الفظ وأدبرت عنه من الدنيا القوابل ونزلت بساحة موجوده بالإعدام النوازل وولت وفود معايشه فكادت تقد السلاسل فصار كلما عامل معاملة انعكست عليه حتى نفد جميع ما بين يديه فلم ير لنفسه أوفق من التغرب عن وطنه والإقامة في سكن غير سكنه فأخذ بعضاً من المال وخرج من بلاد الشرق إلى بلاد الشمال وداوم في الأرض على
الضرب حتى انتهى إلى بلاد الغرب فأقام بها دهراً يتعاطى معاملة وتجراً إلى أن زاد ماله وأثرى ورجع إليه بعض ما ذهب من يديه ثم اشتاق إلى بلده ورؤية زوجته وولده فتجهز إليها وسار حتى نزل عليها وأراد الدخول إلى داره فأوقفه مشير افتكاره إلى أعمال النظر في حادث القضاء والقدر وأنشده الزمان بلسان البيان:
للكون دائرة من قبلنا صنعت
…
لا بي تضيق ولا من أجلك اتسعتوالسر في جيب غيب الله مكتتم فلست تدري يد التقدير ما صنعت
فرأى أن يدخل متنسياً متنكراً متخفياً ويتوصل إلى داره ويتجسس أحوال كباره وصغاره وما حدث عليهم من الحوادث وتقلبات الزمان العائث فتوجه لما أظلم إلى داره وهو يترنم:
بالله قل لي خبرك
…
فلي زمان لم أرك
إلى أن وصل إلى الباب وما عليه حاجب ولا بواب فرأى الباب مقفلاً والقنديل عليه مسبلاً وكان يعرف للسطوح درباً خفياً فاستطرق منه وارتفع مكاناً علياً وأشرف من اكوة فرأى ربة البيت المرجوة فوق سرير الأمان معانقة فتى من الفتيان كأنهما لفرط العناق كانا ميتين من ألم الاشتياق فبعثتهما قيامة التلاق فتلازما والتفت الساق بالساق ولسان حال كل منها يروي عنهما:
عانقت محبوب قلبي حين واصلني
…
كأنني حرف لام عانقت ألفا
فتبادر إلى وهلة لغيبوبة عقله أن ذلك الشاب الظريف معاشر حريف أفسد زوجته مغتنماً غيبته وأنه في تلك الليلة استعمل قوله:
لا تلق إلا بليل من تواصله
…
فالشمس نمامة والليل قواد
فسل السكين وقصد قتل ذلك المسكين وصمم على النزول إلى البيت وإثارة الفتن بكيت وكيت ثم استناب وهله واستراب عقله وأخذ يتفكر ويتأمل ويتدبر واحتضر أحوال قرينته وأنها في العفة مجبولة من طينته وأنه لم يعلم عليها إلا الخير وعدم ميلها عن حلالها إلى الغير فطلب قبل الفضيحة لزوجته طريقة مندوحة ظريفة ممدوحة فإن مدة غيبته طالت وزوجته إن كانت حالتها حالت فلابد أولاً من الوقوف عليها كيف استحالت ثم كف عن الذبح ونزل عن السطح وقصد جارة داره ودارة جارة وطرق بابها واستنبح كلابها فخرجت إليه عجوز كانت إلى داره تجوز فسألت من هو وما مراده ومن أين إصداره وإيراده فقال: إني رجل غريب ليس لي بهذه البلدة خليل ولا قريب وبلادي أرض مكة كنت أتردد هذه السكة وأعامل التجار وكان لي في هذه المحلة مجير وجار من التجار الكبار كنت آوي إليه وأنزل في قدومي عليه اسمه فلان وقد مر علينا زمان وعاقني عنه نوائب الحدثان والآن قدمت إلى هذا المكان وقد قصدت داره ولا أدري أي جراه عاره ولم أعرف له خبراً ولا رأيت عيناً ولا أثراً فهل تعرفين كيف حاله وإلى ماذا آل مآله؟ فقال: نعم. زالت عنه النعم وألجأته الحال إلى الترحال فرحل منذ سنين وكنا في جواره من الآمنين وانقطع عنا خبره وعن زوجته عينه وأثره وطال عليها منظره ففسخت نكاحها واعتدت وطلبت تصيبها واستدت ولقد أوحشنا فرقاه وآلمنا اشتياقه غير أن زوجته قامت مقامه وأفاضت علينا إحسانه وإنعامه وهي متشوقة إلى رؤيته متشوفة إلى مطالع طلعته متلهفة على أيام وصاله متأسفة على ترشف زلاله فلما وقف على صورة الحال سجد شكر الله ذي الجلال وحمد الله على الثبات في مثل هذه النائبات
(وإنما أوردت) هذا المثال لتعلم فضيلة التأمل في المآل والتفكر في عواقب الأحوال قال الدب دعنا من هذا الكلام والأخذ في الملام وأسعدني في التدارك فإنك نعم المشارك قبل انفلات العنان وانقلاب الزمان وخروج زمان التلافي من أنامل الإمكان وانتقال حل عقدته من اللسان والبنان إلى الأسنان فقال مبارك الميلاد الرأي عندي يا أبا قتاد المبادرة إلى الصلح والاصطلاح ليحصل النصح والفلاح والأخذ في المصافاة وسلوك طريق الموافاة والعمل به باطناً وظاهراً والاستمرار عليه أولاً وآخراً ومحوا آثار العداوة وتناسي أسباب الجفا والقساوة واستئناف المودة الصافية والمحبة الوافية وصرف القلب نحو دروس فقه الحلة الشافية والكافية حتى يقول من رأى وسمع الحمد لله آلت العاقبة إلى العافية ثم أعلم إنه لا يصفو لك صاحب وخاطرك عليه للتكدرمصاحب ولا يخلص لك صديق ولبن خلوص محبتك إياه مذيق وقاطع بغضك في الطريق وشوك سعيك راكب التعويق والقلوب في المحبة تتجازى إن حقيقة فحقيقة وإن مجازاً فمجازاً وكل شيء بمقدار وميزان وكما ندين ندان وقلما تجد من تحبه ويبغضك وتربه ويرفضك وتصفو له ويتكدر ولا تتغير عليه ويتغير ودونك يا ذا الكرامات ما قال صاحب المقامات:
وكلت للخل كما كال لي
…
على وفاء الكيل أو بخسه
وقال من أحسن من المقال:
والعين تعرف من عيني محدثها
…
إن كان من حزبها أو من أعاديها
وأنا أقول هذا الكلام إلا من قول خير الأنام عليه أفضل التحيات وأكمل السلام أرواح أجناد مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وإنما يقع التعارف من الجهتين والتناكر من الطرفين ولا تغالط نفسك وتكابر حسك أن يحيك من تكرهه ويزينك من تشوهه ويقربك من تقصيه ويقيمك من ترميه ويرفعك من تضعه ويأخذ بيدك من تدفعه كما قيل في الأقاويل:
والناس أكيس من أن يمد حوار جلا
…
ما لم ير واعنده آثار إحسان
وأعلم أن غالب الإخوان في هذا الزمان مسلوب الإنسانية وإن كان في زي الإنسان من أحسنت إليه أسا ومن ترفقت له قسا ومن نفعته ضرك ومن أمنته غرك ومن سكنت أوامه بزلال فضلك جرك وقد أجاد صاحب الإنشاد:
جزى الله عنا الخير من ليس بيننا
…
ولا بينه ود ولا نتعارف
فما سامنا خسفاً ولا شفنا أذى
…
من الناس إلا من نود ونألف
وإذا كان هذا فيمن تحسن إليه وتسبغ ملابس أفضالك عليه فكيف يكون حال من تضمر له النكال ونتمنى وقوعه في شرك العقال أني تراه يصفو لك ويتقاضى سؤلك ومأمولك وهو مترقب غيله غولك متوقع منك أن يصير مقتولك فماذا عسى أن تبلغ منه سؤالك ومسؤلك أو ترى من محبته ومودته مأمولك ومحصولك
(وإنما أوردت) هذه المقامات وإن كانت من فضلات علمك ورشحات قلمك أتتنا متقدمات إلا لتعاطي أسباب الصلح أولا في نفسك ثم تستعمل الوسائط من أبناء جنسك فينتج المقصود ويصفو الورد المورود كما قيل:
فإن القلوب مرائي الصفات
…
كما السيف مرآة وجه الذوات
قال الدب أنا ألقي الزمام في هذا المقام لنيل هذا المرام إلى يد تدبيرك واكتفي في رعى رياضه برائد رأيك وتقديرك فإن فكرك نجيب وسهم رأسك مصيب فافعل ما تختار وأذقنا من رائق رأيك المشتار فقال: نقسم أولاً: باللطيف الخبير أنك أصفيت الضمير من الغش والتكدير وكرعت من وارد الصفاء الزلال النمير ونفضت يد المحبة والإخاء من علاقات البغضاء والشحناء حتى تجيب دعي ولا يخيب سعيي وأبذل مجهودي في نيل مقصودي وأبني على أساس وأسلك مع الناس مسلك الناس فبادر باليمين إلى اليمين المباينة وأنه يكتفي من غدير الغدير بما جرى ويطوي حديث الشحناء فلا سمع الواشي بذاك ولا درى فليبذل مبارك الميلاد جهده في السعي في إصلاح الفساد وعقد أعلى ذلك العهد وتوجه مبارك الميلاد من بعد وقصد منزل أخي نهشل فرآه فيمن ثار همومه في مشغل وقد غرق في بحر الأفكار هائماً لا يقر له قرار فسلك عليه وتقدم بالسؤال عن حاله إليه وآنسه بالمحادثة وذكر له الدهر وحوادثه وتذاكر لما وقع من الدب وكيف أظهر نواقص الحب وبارز بالعداوة وأبرز
بأدني حركة موجبات القساوة ثم أخذ أخو نهشل في العتاب وفتح لمبارك الميلاد من جهة صاحبه وعتابه الباب فاعترف بإن فعله حالك ولم يسعه إلا الاعتذار وجبر ما وقع لأبي نوفل من الإنكار بالسعي في مساعدته والقيام معهفي جماعته والتوجه إلى حضرة المخدوم والتلافي بمرهم التصافي ما سبق من جراحات الكلام والكلوم ثم إذا حصل من الخواطر الشريفة الإغضا وأثمر في رياض العفو لجاني الخدم فواكه الرضا يستأنف شوق المحبة عقود المبايعة ويروج تاجر الصداقة على مشترى الحشمة في مظان رغباتها بضائعه إلى أن يتزايد الوداد ويتأكد بين الجميع عالم الاتحاد فانهض يا رئيس الأصحاب وأنيس الأحباب:
فالعمر أقصر مدة
…
من أن يدنس بالعتاب
ثم نهضا جميعاً وأتيا أبا نوفل سريعاً فوجده في أحرج مكان وأوهج زمان محفوفاً بالأحزان مكنوفاً بالأشجان وما حال من جفاه أحباه وأقصاه مولاه وصار وهو جان غريمه السلطان فلما سلما عليه وجلسا إليه واعتذر مبارك الميلاد بعد إظهار تباشير الوداد أن موجب تقصيره في السؤال عنه وتأخيره أن قلبه الوامق وطرفه الوادق لم يطاوعا على رؤيته في تلك الحال ولا سمحت قدمه بالتقدم إليه وهو مشغول البال ثم تفاوضا في أسباب الصلح وقصد أبواب النجح فتجاذبوا أطراف الطرائف وتفكهوا على
موائد التحف واللطائف وما زالوا ينسجون خلع الوفاق ويمزقون شقق الشقاق إلى أن انعقدت أهداب المحبة والوداد وانحلت عقوداً الحقود والكباد وتحقق كل أحد من كبير وصغير ومأمور وأمير وجليل بحصول خالص المودة بين النديم والوزير:
ولما أن تراءى الفجر يحكي
…
جبين الحب أو رأى اللبيب
توجه الوزير ومبارك الميلاد وأخو نهشل ورؤوس الأجناد مع سائر الأمراء والوزراء والأعيان والكبراء حتى انتهوا إلى السدة العلية والحضرة الملكية السلطانية فقبلوا أرض الطاعة ووقفوا في مواقف الشفاعة ونشروا من الدعاء والثناء ما يليق بجناب الملوك والعظماء وذكروا النديم أبا نوفل بما يستعطف به الخاطر المفضل حتى عطفت عليه مراحمه وانمحت من جريدة لانتقام جرائمه وسمح بإحضاره لديه ليسبل ذيل الكرم والعفو عليه ثم يشمله ثوب الرضا وخلع العفو عما مضى فأسرع نحوه البشير بما اتفق من الجماعة مع الوزير ثم وصل القاصد وهو له مراصد فتوجه منشرح البال منبسط الآمال حتى دخل على حضرة ذي الدولة والإقبال وقبل الجدالة ووقف في موقف الخجالة لا يرفع طرفاً ولا ينطق حرفاً فرسم بالتشريف والخلع ليرفع عنه التخويف والهلع فتضاعفت الأدعية الصالحة والأثنية الفائحة:
بغادية من ذكره قد تمسكت
…
بطيب ثنا يحيي الزمان ورائحه
وأقيمت حرمته واستمرت عليه وظيفته ثم إن الملك انتقل من المجلس الغاص إلى مجلس خاص واجتمع بالخواص وعم الخطاب لكل ناص ومحدث وقاص
فقال ليعلم الوزير والنائب والأمير والحاجب والصديق والصاحب والجندي والكاتب والمباشر والحاسب والراجل والراكب والآتي والذاهب وليبلغ الشاهد الغائب إن مقتضى الرياسة في الشرع والسياسة على ما قدره حكماء الملوك وسلكوا بعباد الله تعالى أحسن السلوك أن كل واحد من الغني والصعلوك لا سيما من له من الأمر شيء أو نوع مباشرة على ميت أو حي له مقام معين لا يزايله ومكان مبين لا يقابله قال الحي القيوم ذو الملك الديموم حكاية عن متصرفي ملك الديوم وما منا إلا له مقام معلوم وعلى هذا جرت سنته وورد كلامه ولاه أو سلطان علاه أن يلازم مقامه ويلاحظ في صف جماعته إمامه ويراقب ما يصدر عنه قيل إياك وما يعتذر التفكر ويعيره بمعيار التأمل والتبصر ثم يسبكه في بوتعة الفصاحة ويسكبه في قالب الملاحة ويصوغه بالآلات حسن الانسجام ويرصعه بجواهر المقام فإذا صيغ على هذه الصياغة وقعدت علىصورة سبكه نقوش البلاغة وأخرج له غواص الفكر من بحر المعاني والبيان فرائد أفكار لم تظفر بها أصداف الآذان وخرائد أبكار لم تفترعها فحول الأذهان ازدانت بها من حور جنان الجنان ومقصورات خيام الدهور والأزمان آنسات لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جان فاختلب بيهائه القلوب والأرواح واستلب بروائه الأموال والأشباح واستمال الخواطر وسحب الأيادي المواطر وصار الدهر من بعض رواته وأشناف ما يرويه عنه
معلقة بآذان نياته وإن وقع والعياذ بالله منه ما يورث الندم والحزن وأخرج سهم الكلام من قوس العجلة لا اكتال ولا أتزن حصل في سوق ظاهره وباطنه الغبن والغين وأصابه نديم فغفور الختن فنهض الجماعة وللأرض قبلوا وعن كيفية هذا الخبر سألوا (فقال) الملك ذكر المخبرون وأخبر المذكرون أنه في قديم الزمن كان عند فغفور الختن ندمان كامل المعاني في البيان ذو نعمة جزيلة وصورة جميلة وفضائل فضيلة مبرز في العلم كامل المودة والحلم محبوب الصورة مشكور السيرة طاهر السريرة ثقيل الرأس خفيف الروح والحواس قد جال وجاب وبلا الأعداء والأصحاب وترشح لمنادمة الملوك والأمراء ومجالسة السلاطين والوزراء وهو خصيص بملك الختن والصين مقبول عند الملوك والسلاطين اتفق له في بعض الليالي أنه كان عند جناب ملكه الغالي وعنده جماعة من العلماء وطائفة من الإخصاء والندماء وهم يتعاطون كؤوس اللطائف ويتواطون على ما في الدنيا من طرف وطرائف ويتذكرون عجائب الأقطار يشنفون المسامع بخصائص الأمصار فقال النديم رأيت في بعض الأقاليم من الأراضي الحامية والبلاد القاصية حيواناً كبيراً سريع السير متردد أشكله بين شكلي الجمل والطير يضرب به في الدبدبة المثل فيتعاطى التعلل في الكسل إن قيل له أحمل يقول أنا طير وإن قيل له طر يقول أنا جمل وذكر إن اسمه النعام وسائر أوصافه وأعضائه على إتمام فتعجب الحاضرون من هذه الصفات والأشكال البديعة والهيآت ثم
قال وأعجب من هذه الصفات أن هذه الدابة تأكل الجمرات وتلتقط الحصيات وتختطف الحديدة المحماة من النار تزدردها ولا يتألم لذلك فمها ولا جسدها وتذيب كل ذلك معدتها ولا يتأثر بها لسانها ولا ترقوتها فأنكر بعض الحاضرين هذا المقال لكونه لم يشاهد هذه الأحوال ولا رأى ولا سمع خبر طير يأكل النار ويبلع الأحجار ونسبوه إلى المخارقة في الأخبار فتصدى لإثبات ما يقول بطريقي المنقول والمعقول فلم يسعف كلامه القبول على ما ألفته منهم العقول لأن الحيوان بل وسائر الجمادات إذا اتصلت بها النار محت منها الآثار وهذا طير من الأطيار من لحم ودم فكيف لا تحرقه النار فاتفق الجمهور على تكذيب هذه الأخبار وقالوا المثل المشهود إنما هو موضوع على لسان الطيور فيمن تردد بين الأمور فيقال هذا الفقير كالنعامة لا يحمل ولا يطير ومثل هذا المضرب يا شيخ المشرق والمغرب قولهم طارت به عنقاء مغرب فقال النديم الفاضل الحكيم أنا رأيت هذا بالعين فلم يزدهم إلا تأكيد المين من الخجالة والندم أمر عظيم واستمر في حصر حتى منعه السلطان من الدخول إلى القصر وصار بين الأصحاب يشار إليه بيا كذاب فلم يسع ذلك الأستاذ إلا السفر من تلك البلاد والتوجه إلى العراق وبغداد وأخذ من الطير النعام عده واستعمل عليها رجلاً مستعدة ونقلها إلى
الصين في عدة سنين تارة في البحر وأخرى في البر وقاسى أنواعاً من البؤس والضر وتكلف حملاً من الأموال وتحمل مع المشاق منن
الرجال فما انتهى به السير إلا وقد مات غالب تلك الطير فوصل إلى حضرة ملك الخطا واشتهر في المملكة أن النديم الفلاني أتى فاجتمع الناس لينظروا وأمر الملك للخاص والعام فحضروا وأحضروا النعام في ذلك المحفل العام وطرح لها الحديد المحمي فخطفته والجمر والحصى فالتقفته فتعجب الناس لذلك وسبحوا لله مالك الممالك وعلم الصغار والكبار أنه يخلق ما يشاء ويختارفشمله الملك بمزيد الإنعام واعتذر إليه عما مضى من ملام وزادت رفعته ونفذت كلمته إذ قد أثبت مدعاه وحقق بشاهد الحس معنى ما ادعاه ففي بعض الأوقات تذاكروا ما فات وانجر بهم الكلام ما مر من حديث النعام فقال النديم أيها الملك الكريم إني تكلفت على هذه الأطيار كذا وكذا ألف دينار وقاسيت من المشقة في الأسفار وعاينت من شدائد الأخطار ما لا تقاسيه عيدان النار واستمريت في هذا العذاب الأليم المهين وفي سجن المشاق سنين حتى بلغت تحقيق مرامي وتصديق كلامي ولولا عناية مولانا السلطان لما ساعدني على مقصودي الزمان ولما زال عني اسم الكذاب إلى يوم الحساب فتبسم السلطان وقال لقد أتيت بمحاسن وما قصرت ولكن كما يحتاج في إثبات تصديقها والخروج عن عهدة تحقيقها إلى صرف المال الجزيل وتجشم مشقة السفر العريض الطويل وتحمل منن الرجال وركوب الأخطار والأهوال وإزعاج الروح والبدن وإضاعة جانب كبير من العمر والزمن لأي معنى يتفوه بها العاقل ولماذا ينطق بها مستمع أو ناقل (وإنما أوردت) هذا المقول ليعلم أرباب المعقول من جلساء الملوك والعظماء ورؤساء الأمراء والزعماء خصوصاً خواص القدماء وعوام الندماء أن شيا يحتاج فيع إلى تعب النفس وقيد ونكال وحبس ثم استعمال ممن جماعة وأصحاب يتقدمون إلى الشفاعة لا ينبغي للعاقل أن يحوم حوله ولا يعقد أبداً عليه فعله وقوله
فتقدم مبارك الميلاد وبذل في أداء وظائف الدعاء الاجتهاد وقال إنما كان عاقبة هذا الأمر وإطفاء ناثرة هذا الجمر وأداؤه إلى انتظام عقود السعد واشتماله على جمع الخواطر من بعد بميامن الخواطر الشريفة وشرف ملاحظتها المنيفة وتوجه مساعدتها لخدمها وشمول عواطفها على عبيدها وحشمها وإقبال طالعها السعيد ولولا ذلك لما انتظم لنا شمل أيها العبيد فالمنة في هذا كله للصدقات الشريفة والجميلة لعواطف مننها المنيفة ونظير هذا الشأن ما جرى للخارج على الملك أنشروان فسأل الملك المطاع عن هذا المضاع (فقال) ذكر أهل التاريخ بأعالي الشماريخ أن كسرى أنوشروان جاهره أحد الملوك بالعصيان وانتدب لمحاربته طائفة من الأعوان فتوجه كسرى إليه ووثب وثوب الأسد الضاري عليه ورأى التواني في أمره والتأخير من جملة الإخلال والتقصير فقابله قاتلاً وقاتله قائلاً:
إذا استحقرت أدنى من تعادي
…
بمالك من يد وندي وطاقة
فما استحقرت أن أهمك إلا
…
أمورك وهو ذا عين الحماقة
فلما توافقا واصطدما وتثاقفا انكسر ذو الطغيان وانتصر أنوشروان وقبض على العدو وحصل الأمان والهدو وقص طائره وتفرقت عساكره وحمل وقد سين خسفاً وكسراً إلى الملك العادل كسرى فتقدم بالإحسان إليه وجعل العفو شكراً لقدرته عليه والغ معه في اللطف والإحسان وأنزله عنده في بستان ترتع النزاهة في ميادين رياضه وتكرع الفكاهة من رياحين حياضه وأفاض عليه من خلع الأنعام وإدرارات الفضل والإكرام ما أزال دهشته وأحال وحشته وأبدى استعباده وأبعد استبعاده فلما حصل أنسه وهدأت نفسه أخذ في تنجيزه وإبلاغه إلى مأمنه وتجهيزه فأبي إلا الإقامة والتلبث بدار الكرامة وسأل الصدقات وما لها من عميم الشفقات مجاورة مخلها والإقامة تحت ظلها واغتنام مشاهدتها
والتشرف بميامن طلعتها مدة أيام فإنها محسوبة من العمر العزيز بأعوام فأجابت مسؤولة واستنجزت مأموله وكان في ذلك البستان نخلة كنخلة مريم قد يبست من الهرم ولما تعاورتها يد القدم فلم تصلح إلا للضرم فأرسل يسأل الصدقات الجزلة أن تهبه تلك النخلة فاستزل كسرى عقله وأجاب قصده وسؤله وهبة تلك النخلة فكان كل يوم يتوجه إليها ويسند ظهره ويعتمد عليها وهو أرغد حال وأيمن مآل فبعد عدة شهور طلب إلى التوجه الدستور فاستدعاه وأكرم مثواه وأجاب قصده ومتمناه واسبغ عليه نعمة وفضلهوسأله عن موجب سؤاله النخلة وسبب طلبه الإقامة ثم سؤاله التوجه بالسلامة فقال أما سبب الإقامة بهذا البلد فلجوار الملك الأمجد والاستسعاد بمشاهدة وجهه الأسعد فان طالعه قوى سعيد ومجاورته للسعادة تفيد ويحصل منه لمجاورها المزيد فأردت أن يكون لي منها نصيب ويلاحظني منها سهم مصيب:
فان تلمم بقفر عاد روضاً
…
وإن تمرر بملح صار شهدا
وإن يخطر ببالك نحس نجم
…
يعد في الحال من رياك سعدا
فصرت مشمولاً بميامن ظلها مغموراً بفائض وابلها وطلها وأما طلبي النخلة اليابسة فإني تفاءلت بها من حظي مساعدة ومناحسه فكنت أتردد إليها وأعول في ذلك عليها فما دامت في قحول كان جدي وسعدي في نحول إلى أن رأيتها قد خضرت وأطلعت واستبكرت فاقبل سعدي وعاد بعد أن مات حياً وساقطت نخلة سعدي من ثمرات السعادة رطباً جنياً فعلمت أن طالعي الهابط عاد إلى الأوج ورسول حظي دخل في دينه
ناس الإيناس فوجا بعد فوج وأرمل جدي ازدوج ببكر الآمال وكان لها أحسن زوج كل ذلك أي أعظم مالك بسعد فالك وجوار دار جلالك ومشاهدة أنوار جمالك واستماع كلامك وانتجاع كمالك فمن بعد إسعاد السعد كل سهم أمل فوقته ونحو شاكلة قصد أطلقته أصبت الغرض وحزت جوهره بلا عرض فإذا أسعف السعد النفس لا بعيقها معه نحس (وإنما أوردت) هذا القول يا ذا الكرامة والطول ليعلم الحضار والسادة النظار أن استقامتنا وإقبال سعدنا وانتظام أمورنا وجدنا إنما هو بالتفات الخواطر الشريفة وشمول أحوا لنا بملاحظتها المنيفة واستدامة بركاتها وميامن حركاتها كما قيل في ذا القبيل:
تلقى الأمان على حياض محمد
…
تولاء مخرفة وذئب أطلس
لا ذي تخاف ولا لهذا جرأة
…
تهدي الرعية ما استقام الريس
وكما أن الرعية لا يستقيم حالها إلا بالملك الراعي فإنها كالراعية لا ينتظم لها أمر إلا بالراعي كما قيل:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لها
…
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
كذلك الملك يا ذا الدرجات العلية لا يصير ملكاً لا بالرعية ولو لم يكن العاشق مشوقاً لم يكن المعشوق معشوقاً ولو لم يوجد الرامق بالأمل مسوقاً لم يصر الملك المأمول موقاً وقد عني هذا المعنى من في رياض المعاني أعني:
وأحقر صب فيك يهدي سناؤه
…
كأعظمهم إذ من هواك تعظما
فلا تحتقره إن تملكت قلبه
…
فلولا الهوى ما كنت ملكاً مفخماً
ففي موقف العشاق منك وظيفة
…
لكل فلا يبغي لها منقدما
وكل له وجد يليق بحاله
…
وكل له يوافيك مغرما
ألم تر أن الله أوجد حكمة
…
ذباباً وعقباناً وبقا وضيعاً
وكل له نفع وضر مخصص
…
فسبحان من قد خص طوراً وعمما
والله تعالى لكمال قدرته وإسبال ذيل رحمته خلق الكبير الأعلى محتاجاً لخدمة الصغير الأدنى وجعل الحقير الأدنى محتاجاً لرجمة الكبير الأعلى ولهذا أعظم الخلق من خلق الخلق وأحوج الخلق إلى الخلق وهو غني عن الخلق وقيل أيها الملك السني الإنسان بطبعه مدني وبمقدار كثرة الرعية واشتراكهم في الصفات المرضية وانقيادهم لأوامر ملكهم السنيه تصير درجة الملك عليه كما كان في زمن نبي الله سليمان صلوات الله عليه وسلامه وتحيته وإكرامه ولقد جرى في عصره بين الطيور مفاوضة بين اللقلق والعصفور فسأل ملك الآساد عن تلك المفاوضة مبارك الميلاد (فقال) بلغني يا سلطان الأسود أن نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام كان في سيرانه مع خواص أركانه فمر بذلك الطلب على شجرة دلب للقلق فيها عش قد بناه كأحسن حش وقد استوكر في عشه عصفور واحتمى بجواره من مؤذيات أبي مذعور فكانا يتخاصمان ويتقاولان ويتواصمان ويتصاولان فوقف النبي الكريم واستوقفالجند العظيم ليسمع ما يقولان وينظر كيف يجولان فسمع اللقق يقول وهو يجول ويصول ويخاطب العصفور بمجمع من الطيور أشكر لي حسن الصنيع حيث أنزلنا في حصني المنيع لا حية ترقى إليك ولا جارح ينقض عليك لولا أن لك عندي مناخاً ما أبقيت لك الحية ذاتاً ولا فراخاً وإنما سلمتم بجواري وبقربكم من داري
فوئب أبو محرز وتوسط الجمع وهو يجمز ونادى بين الأطيار أنسيت أبا خديج أي جار وأنا في المدار حول هذه الديار آناء الليل وأطراف النهار ألقط النمل الكبار والصغار ولولا أنا حارس مناخك ما أبقى لك النمل أثراً ولا لفراخك فكل منا محتاج إلى جاره مغتبط بجواره آمن به في سريه ومطاره فارفع من بيننا هذا النكد ولا يمن منا أحد على أحد فالحقوق ما تضع بين الجيران كما تراعى بين الأصحاب والأخوان وكما تدين تدان ومع هذا فكلنا نصلي على نبي الله سليمان ملك الأنس والجان وسلطان الطيور وسائر الحيوان فانه بحسن عدله اعتدل الزمان وبيمن فضله صلح الكائن والمكان ونحن أيضاً كذلك نشكر الله رب الممالك إذ من علينا بهذا السلطان المالك ملك الوحوش الأكابر وكاسر السباع الكواسر المشفق على الضعفاء والأصاغر فلم يخل من فضله سبع ولا طائر ثم نهضوا فوقفوا ودعوا للملك وانصرفوا هذا آخر الباب والله أعلم بالصواب والحمد به رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.