الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
(128)
(ربنا واجعلنا مسلمين لك) أي ثابتين عليه أو زدنا منه، قيل المراد بالإسلام هنا مجموع الإيمان والأعمال (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) من للتبعيض أو للتبيين، قال ابن جرير: إنه أراد بالذرية العرب خاصة، وكذا قال السهيلي، قال ابن عطية: وهذا ضعيف لأن دعوته ظهرت في العرب وغيرهم من الذين آمنوا به، والأمة الجماعة في هذا الموضع وقد تطلق على الواحد ومنه قوله تعالى (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله) وتطلق على الدين ومنه (إنا وجدنا آباءنا على أمة) وتطلق على الزمان ومنه (وادَّكر بعد أمةٍ) قيل أراد بالأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله (وابعث فيهم رسولاً منهم).
(وأرنا مناسكنا) هي من الرؤية البصرية، والمناسك جمع نسك وأصله في اللغة الغسل يقال نسك ثوبه إذا غسله، وهو في الشرع اسم للعبادة، وقيل واحدها منسك والمراد هنا مناسك الحج، وقيل مواضع الذبح، وقيل جمع التعبدات، قال علي: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: قد فعلت أي رب فأرنا مناسكنا أبرزها لنا وعلمناها، فبعث الله جبريل فحج به (1)، وفي الباب آثار كثيرة عن السلف من الصحابة ومن بعدهم يتضمن أن جبريل أرى إبراهيم الناسك، وفي أكثرها أن الشيطان تعرض له.
(1) وقال أبو مجلز: لما فرغ إبراهيم من البيت أتاه جبريل، فأراه الطواف، ثم أتى به جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبعاً، وقال له: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان. ثم أتى به جمرة الوسطى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبع حصيات، فقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان. ثم أتى به الجمرة القصوى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبع حصيات. فقال له: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان، ثم أتى به منى، فقال: ها هنا يحلق الناس رؤوسهم، ثم أتى به جمعاً، فقال: ها هنا يجمع الناس، ثم أتى به عرفة، فقال: أعرفت؟ قال: نعم. قال: فمن ثم سميت عرفات.
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
(وتب علينا) أي تجاوز عنا والمراد بالتوبة التثبيت، لأنهما معصومان لا ذنب لهما وقيل المراد وتب على الظلمة منا (إنك أنت التواب) أي المتجاوز عن عباده (الرحيم) بهم.
(ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم) ضمير فيهم راجع إلى الأمة المسلمة المذكورة سابقاً وقرأ أبىّ في آخرهم، ويحتمل أن يكون الضمير راجعاً إلى الذرية وهم العرب من ولد إسماعيل، وقد أجاب الله لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة فبعث في ذريته رسولاً منهم وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أخبر عن نفسه أنه دعوة إبراهيم كما أخرجه أحمد من حديث العرباض بن سارية (1) وغيره (2) ومراده هذه الدعوة، وقد أجمع على ذلك المفسرون، لأن إبراهيم إنما دعا لذريته وهو بمكة ولم يبعث من ذريته بمكة غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فدل على أن المراد به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والرسول هو المرسل، قال ابن الإنباري: يشبه أن يكون أصله ناقة مرسال ومرسلة إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق، ويقال جاء القوم أرسالاً أي بعضهم في إثر بعض.
(يتلو عليهم آياتك) وهو القرآن (ويعلمهم الكتاب) أي معاني
(1) أحمد بن حنبل 4/ 127 - 128 5/ 262.
(2)
قوله تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم) في الهاء والميم من (فيهم) قولان. أحدهما: أنها تعود على الذرية، قاله مقاتل والفراء: على أهل مكة في قوله: (وارزق أهله) والمراد بالرسول: محمد صلى الله عليه وسلم. وقد روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قيل: يا رسول الله! ما كان بدء أمرك؟ قال: " دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام " رواه أبو داود الطيالي وأحمد في " المسند " عن أبي أمامة، وفي مسنده الفرج بن فضالة، وهو ضعيف، وجاء الحديث بمعناه في " مسند أحمد " عن العرباض بن سارية، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر.
الكتاب من دلائل التوحيد والنبوة والأحكام الشرعية، والكتاب هو القرآن (والحكمه) أي ويعلمهم الحكمة وهي الإصابة في القول والعمل، ووضع كل شيء موضعه، والمراد بالحكمة هنا المعرفة بالدين والفقه في التأويل والفهم للشريعه، وقال قتادة: هي السنة وقيل هي الفصل بين الحق والباطل، وقال ابن قتيبه: هي العلم والعمل، ولا يكون الرجل حكيماً حتى يجمعهما، وقال ابن دريد: كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمه، وقيل أن المراد بالآيات ظاهر الألفاظ، والكتاب معانيها، والحكمة الحكم وهو مراد الله بالخطاب وقيل غير ذلك (ويزكيهم) التزكية التطهير من الشرك وسائر المعاصى (إنك أنت العزيز الحكيم) أي الذي لا يعجزه شيء قاله ابن كيسان، وقال الكسائي: العزيز الغالب والحكيم العالم.
(ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) الاستفهام للإنكار، قال الزجاج وابن جني: سفه بمعنى جهل أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها ْأنها مخلوقه لله فيجب عليه عبادته، وقال أبو عبيدة: المعنى أهلك نفسه، وقال الأخفش: أي فعل بها من السفه ما صار به سفيهاً، وقال الزمخشري: امتهنها واستخف بها، عن أبي العالية قال: رغبت اليهود والنصارى عن ملته واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم الإسلام، وبذلك بعث الله نبيه محمداً الرسول الذي هو دعوة إبراهيم فقد رغب عن ملة إبراهيم، فيه إشارة إلى لزوم اتباع ملته فيما لم يثبت نسخه.
(ولقد اصطفيناه في الدنيا) تعليل للحصر قبله، واللام جواب قسم محذوف، والغرض منه الحجة والبيان لقوله (ومن يرغب) والاصطفاء الاختيار أي اخترناه في الدنيا بالرسالة والخلة كما شاهدوه ونقله جيل بعد جيل (وأنه في الآخرة لمن الصالحين) أمر مغيب فاحتاج الإخبار به إلى فضل تأكيد قيل مع الأنبياء في الجنة أو الذين لهم الدرجات العلى، فكيف يرغب عن ملته راغب.
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
(إذ قال له ربه أسلم) يحتمل أن يكون متعلقاً بقوله (اصطفيناه) أي اخترناه وقت أمرنا له بالإسلام، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف هو اذكر، قال في الكشاف كأنه قيل اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله، وزاد أبو السعود وأنه ما نال ما نال إلا بالمبادرة للإذعان والإنقياد لما أمره به وإخلاص سره، قالى ابن عباس: قال الله له ذلك حين خرج من السرب، وذلك عند استدلاله بالكوكب واطلاعه على أمارات الحدوث فيها وافتقارها إلى محدث مدبر، ومعنى (أسلم) انقد لله وأخلص دينك وعبادتك له أو استقم أو فوض أمورك إلى الله أو اذعن واطلع أو اثبت على ما أنت عليه من الإسلام (قال أسلمت لرب العالمين) أي فوضت أمري إليه، قال ابن عباس: وقد حقق ذلك حيث لم يستعن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار.
(ووصى بها إبراهيم بنيه) الضمير في " بها " راجع إلى الملة الحنيفية أو إلى الكلمة أي أسلمت لرب العالمين، قال القرطبي: وهو أصوب لأنه أقرب مذكور أي قولوا أسلمنا انتهى، والأول أرجح لأن المطلوب ممن بعده هو اتباع ملته لا مجرد التكلم بكلمة الإسلام، فالتوصية بذلك أليق بإبراهيم وأولى بهم، قيل كانوا ثمانية منهم إسمعيل وهو أول أولاده وقيل أربعة عشر (ويعقوب) معطوف على إبراهيم أي وأوصى يعقوب بنيه كما أوصى إبراهيم بنيه، وكانوا اثني عشر، وقرىء بنصب يعقوب فيكون داخلاً فيما أوصاه إبراهيم، قال القشيري: وهو بعيد، لأن يعقوب لم يدرك جده إبراهيم وإنما ولد بعد موته.
(يا بني) قيل أنه من مقول إبراهيم وقيل من مقول يعقوب
(إن الله اصطفى لكم الدين) المراد بالدين ملته التي لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه وهي الملة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وفي قوله:
(فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) إيجاز بليغ، والمراد إلزموا الإسلام ولا تفارقوه حتى تموتوا، وهذا استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تموتوا على حالة غير حالة الإسلام، وليس فيه نهي عن الموت الذي هو قهري، ولهذا قال السيوطي نهى عن ترك الإسلام وأمر بالثبات عليه إلى مصادفة الموت، انتهى، والمعني أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام موت لا خير فيه، وإن حق هذا الموت أن لا يحصل فيهم، عن فضيل بن عياض قال:
(مسلمون) أي محسنون بربكم الظن، ويدل عليه ما روي عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: " لا يموتن أحد إلا وهو يحسن الظن بربه " أخرجاه في الصحيحين (1).
(1) قال البغوي: في تفسيره -188: والنهي في ظاهر الكلام وقع على الموت، وإنما نُهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام معناه: داوموا على الإسلام حتى لا يصادفكم الموت إلا وأنتم مسلمون، وعن الفضيل بن عياض رحمه الله: أنه قال: إلا وأنتم مسلمون، أي: محسنون بربكم الظن، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، أنا علي بن الجعد أنا أبو جعفر الرازي عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام، يقول:" لا يموتن أحدكم إلاّ وهو يحسن الظن بالله عز وجل ".