الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ
(145)
(ولئن) لام قسم وإن شرطية (أتيت الذين أوتوا الكتاب) يعني اليهود والنصارى (بكل آية) أي بكل معجزة وبكل حجة وبرهان (ما تبعوا قبلتك) أي الكعبة عناداً، وفي هذه الآية مبالغة عظيمة وهي متضمنة للتسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وترويح خاطره بأن هؤلاء لا يؤثر فيهم كل آية ولا يرجعون إلى الحق وإن جاءهم بكل برهان فضلاً عن برهان واحد، وذلك لأنهم لم يتركوا اتباع الحق لدليل عندهم أو لشبهة طرأت عليهم حتى يوازنوا بين ما عندهم وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويقلعوا عن غوايتهم عند وضوح الحق، بل كان تركهم للحق تمرداً وعناداً مع علمهم بأنهم ليسوا على شيء، ومن كان هكذا فهو لا ينتفع بالبرهان أبداً.
والإخبار في قوله (وما أنت بتابع) يمكن أن يكون بمعنى النهي من الله لسبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، أي لا تتبع يا محمد (قبلتهم) ويمكن أن يكون على ظاهره دفعاً لأطماع أهل الكتاب، وقطعاً لما يرجونه من رجوعه صلى الله عليه وآله وسلم إلى القبلة التي كان عليها، وهذه الجملة أبلغ من النفي من قوله (وما تبعوا قبلتك) من وجوه منها كونها اسمية تكرر فيها الاسم مؤكداً نفيها بالباء (وما بعضهم بتابع قبلة بعض) فيه إخبار بأن اليهود والنصارى مع حرصهم على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما عندهم، هم مختلفون في دينهم حتى في هذا الحكم الخاص الذي قصه الله سبحانه على رسوله، فإن بعضهم لا يتابع الآخر في استقبال قبلته، قال في الكشاف: وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى تستقبل مطلع الشمس، انتهى.
قال الشهاب: إن كون قبلة النصارى مطلع الشمس صرحوا به لكن وقع في بعض كتب القصص أن قبلة عيسى كانت بيت المقدس.
وقال الحافظ ابن القيم في بدائع الفوائد: قبلة أهل الكتاب ليست بوحي وتوقيف من الله بل بمشورة واجتهاد منهم، أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق، وهم يقرون بأن قبلة المسيح قبلة بني إسرائيل وهي الصخرة، وإنما وضع لهم أشياخهم هذه القبلة فهم مع اليهود متفقون على أن الله لم يشرع استقبال بيت المقدس على رسوله أبداً، والمسلمون شاهدون عليهم بذلك الأمر، وأما اليهود فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة البتة، وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا عليه، فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة.
(ولئن اتبعت أهواءهم) يعني مرادهم ورضاهم لو رجعت إلى قبلتهم (من بعد ما جاءك من العلم) في أمر القبلة أو بأنهم مقيمون على باطل وعناد (إنك إذاً لمن الظالمين) فيه من التهديد العظيم والزجر البليغ ما تقشعر له الجلود، وترجف منه الأفئدة، وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغراء والملة الشريفة من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد ولد آدم (1) يوجب
(1) ذكر مسلم في صحيحه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع مسلم/2278.
كذلك يؤيده حديث الشفاعة الذي رواه مسلم/194 والبخاري/1579: وملخصه أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون بم ذاك يجمع الله يوم القيامة الأولين والأخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنوا الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم
…
فياتون آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ويأتون عمداً ويسألونه الشفاعة فيجاب يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الناس. انظر بتنصل لحديث مسلم/2278.
الظلم عليه وحاشاه أن يكون من الظالمين. فما ظنك بغيره من أمته، وقد صان الله هذه الفرقة الإسلامية بعد ثبوت قدم الإسلام وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شيء من هوى أهل الكتاب، ولم تبق إلا دسيسة شيطانية ووسيلة طاغوتية، وهي ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف المبتدعة لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم أو الجاه لديهم، إن كان لهم في الناس دولة أو كانوا من ذوي الصولة، وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل بل اتباع أهوية المبتدعة يشبه اتباع أهوية أهل الكتاب كما يشبه الماء الماء، والبيضة البيضة، والتمرة التمرة.
وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشد على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل، لأن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام ويظهرون للناس أنهم ينصرون الدين ويتبعون أحسنه، وهم على العكس من ذلك، والضد لما هنالك، ولا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من بدعة إلى بدعة، ويدفعونه من شنعة إلى شنعة حتى يسلخوه من الدين ويخرجوه منه، وهو يظن أنه منه في الصميم، وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم.
هذا إن كان في عداد المقصرين ومن جملة الجاهلين، وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق والباطل، كان في اتباعه لأهويتهم ممن أضله الله على علم، وختم على قلبه وصار نقمة على عباده ومصيبة صبها الله على المقصرين لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى الحق، ولا يتبع إلا الصواب، فيضلون بضلاله فيكون عليه إثمه وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة نسأل الله اللطف والسلامة والهداية والكرامة.
الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
(الذين آتيناهم الكتاب) يعني علماء اليهود والنصارى، وقيل أراد به مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه (يعرفونه) الضمير لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يسبق له ذكر لدلالة الكلام عليه وعدم اللبس، ذكره القاضي ويقال عليه بل سبق ذكره بلفظ الرسول مرتين أي يعرفون نبوته، روي ذلك عن مجاهد وقتادة وطائفة من أهل العلم، وقيل يعرفون تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة بالطريق التي قدمنا ذكرها، وبه قال جماعة من المفسرين، ورجح صاحب الكشاف الأول، وعندي أن الراجح الآخر كما يدل عليه السياق الذي سيقت له هذه الآية.
(كما يعرفون أبناءهم) أنهم منهم لا يشكون فيه، ولا يشتبه عليهم كما لا تشتبه عليهم أبناؤهم من أبناء غيرهم، يعني يعرفون أن القبلة التي صرفتك إليها هي قبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء قبلك، كما يعرفون أولادهم، قال ابن سلام: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ومعرفتي بمحمد أشد، وخص الأبناء دون البنات أو الأولاد لأن الذكور أعرف وأشهر، وهم لصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق، والالتفات عن الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأن المراد ليس معرفتهم له صلى الله عليه وآله وسلم من حيث ذاته ونسبه بل من حيث كونه مسطوراً في الكتاب منعوتاً بالنعوت التي من جملتها أنه صلى الله عليه وآله وسلم يصلي إلى القبلتين كأنه قيل: الذين آتيناهم الكتاب يعرفون من وصفناه فيه، وبهذا تظهر جزالة النظم الكريم ذكره الكرخي.
(وإن فريقاً منهم) أي من علماء أهل الكتاب (ليكتمون الحق) يعني أمر القبلة أو صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكتم الحق هو عند أهل القول الأول نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، وعند أهل القول الثاني استقبال الكعبة (وهم يعلمون) أن كتمان الحق معصية.
(الحق) يحتمل أن يكون المراد به الحق الأول ويحتمل أن يراد به جنس الحق على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره قوله (من ربك) أي الحق هو الذي من ربك لا من غيره (فلا تكونن من الممترين) خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والامتراء الشك، نهاه الله سبحانه عن الشك في كون الحق من ربه أو في كون كتمانهم الحق مع علمهم، وعلى الأول هو تعريض للأمة أي لا يكن أحد من أمته من الممترين لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يشك في كون ذلك هو الحق من الله سبحانه وفيه كناية وهي أبلغ من التصريح.
(ولكل وجهة) أي لكل دين وجهة ولكل أهل ملة قبلة، والوجهة، فعلة من المواجهة وفي معناها الجهة والوجه وهي اسم للمكان المتوجه إليه كالكعبة أو مصدر، والمراد القبلة أي أنهم لا يتبعون قبلتك وأنت لا تتبع قبلتهم ولكل وجهة إما بحق وإما بباطل.
والضمير في (هو موليها) راجع إلى لفظ (كل) والهاء هي المفعول الأول والثاني محذوف أي موليها وجهه في صلاته، والمعنى أن لكل صاحب ملة قبلة صاحب القبلة موليها وجهه، فقبلة المسلمين الكعبة، وقبلة اليهود بيت المقدس، وقبلة النصارى مطلع الشمس، أو لكل منكم يا أمة محمد قبلة يصلي إليها من شرق أو غرب أو جنوب أو شمال إذا كان الخطاب للمسلمين، ويحتمل أن يكون الضمير لله سبحانه وإن لم يجر له ذكر إذ هو معلوم أن الله فاعل ذلك، والمعنى أن لكل صاحب ملة قبلة الله موليها إياه، وقيل لكل واحد من الناس قبلة وقرىء مولاها، والضمير لواحد، والمعنى الواحد مولاها أي
محول ومصروف إليها.
(فاستبقوا الخيرات) أي فبادروا إلى ما أمركم الله به من استقبال البيت الحرام كما يفيده السياق وإن كان ظاهر الأمر بالاستباق إلى كل ما يصدق عليه أنه خيره كما يفيده العموم المستفاد من تعريف الخيرات، قال ابن زيد: يعني الأعمال الصالحة والمراد من الاستباق إلى الاستقبال الاستباق إلى الصلاة في أول وقتها فإن الصلاة فيه أفضل، لأن ظاهر الأمر للوجوب، فإذا لم يتحقق الوجوب فلا أقل من الندب، والآية دليل لمذهب الشافعي في أفضلية الصلاة في أول الوقت، والسبق الوصول إلى الشيء أولاً، وأصله التقدم في السير ثم تجوز به في كل ما تقدم، والخيرات واحدها خيرة بوزن فيعلة أو زنة فعلة كجفنة، وعلى كلا التقديرين فليستا للتفضيل.
(أينما تكونوا) أي في أي جهة من الجهات المختلفة تكونوا (يأت بكم الله) للجزاء يوم القيامة فهو وعد لأهل الطاعة بالثواب ووعيد لأهل المعصية بالعقاب ويجمعكم (جميعاً) ويجعل صلاتكم في الجهات المختلفة كأنها إلى جهة واحدة (إن الله على كل شيء قدير) ومنه الإعادة بعد الموت والإثابة لأهل الطاعة والعقاب لمستحق العقوبة (1).
(1) روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما مَثَلُ المُهجِّر إلى الصلاة كَمَثَل الذي يُهدِي البَدَنَة ثم الذي على أثَره كالذي يُهْدِي البقرة ثم الذي على أثره كالذي يُهدِي الكبش ثم الذي على أثره كالذي يُهْدِي الدّجاجة ثم الذي على أثره كالذي يُهدِي البيضة ". وروى الدارقُطْني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنّ أحدكم ليصلي الصَلاة لوقتها وقد ترك من الوقت الأوّل ما هو خير له من أهله وماله ". وأخرجه مالك.
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
(ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) الظاهر أن " من " هنا ابتدائية، والأقرب أن تكون بمعنى " في " أي مكان سافرت (وأنه) أي التولي (للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون) بالياء والتاء وتقدم مثله.
(ومن حيث خرجت) أي من أي مكان خرجت للسفر (فول وجهك شطر السجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) كرر سبحانه هذا تأكيداً لأمر استقبال الكعبة وللاهتمام به لأن موقع التحويل كان معتنى به في نفوسهم، وقيل وجه التكرير أن النسخ من مظان الفتنة ومواطن الشبهة، فإذا سمعوه مرة بعد أخرى ثبتوا واندفع ما يختلج في صدورهم، وقيل أنه كرر هذا الحكم لتعدد علله، فإنه سبحانه ذكر للتحويل ثلاث علل: الأولى ابتغاء مرضاته، والثانية يجري العادة الإلهية أن يولي أهل كل ملة وصاحب دعوة جهة يستقبل بها، والثالثة دفع حجج المخالفين فقرن بكل علة معلولها، وقيل أراد بالأول ول وجهك شطر الكعبة إذا صليت تلقاءها، ثم قال: وحيثما كنتم معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة وغيرها فولوا وجوهكم شطره، ثم قال (ومن حيث خرجت) يعني وجوب الاستقبال في الأسفار، فكان هذا أمراً بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواطن من نواحي الأرض.
(لئلا) اللام لام كي وإن هي المصدرية ولا نافية (يكون للناس عليكم حجة) قيل أراد بالناس أهل الكتاب، وقيل هو على العموم، وقيل هم
قريش واليهود. والمعنى لا حجة لأحد عليكم في التولي إلى غيره أي لتنتفي مجادلتهم لكم من قول اليهود يجحد ديننا ويتبع قبلتنا. وقول المشركين يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته (إلا الذين ظلموا منهم) يعني المعاندين من أهل الكتاب القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه، وقيل: هم مشركو العرب وحجتهم قولهم راجعت قبلتنا؛ وقيل: معناه لئلا يقولوا لكم قد أمرتم باستقبال الكعبة ولستم ترونها، وقال أبو عبيدة: إلا ههنا بمعنى الواو، وأبطل الزجاج هذا القول وقال إنه استثناء منقطع أي لكن الذين ظلموا منهم فإنهم يحتجون ومعناه إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كأن تقول ما لك عليّ حجة إلا أن تظلمني أي مالك علي حجة ولكنك تظلمني، وسمى ظلمه حجة لأن المحتج بها سماه حجة وإن كانت داحضة.
ورجح ابن جرير الطبري أن الاستثناء متصل وقال: نفى الله أن تكون لأحد حجة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في استقبالهم الكعبة، والمعنى لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا ما ولاهم، وقالوا إن محمداً تحير في دينه وما توجه إلى قبلتنا إلا أنّا أهدى منه، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو يهودي أو منافق، قال: والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة والمجادلة وسماها تعالى حجة وحكم بفسادها حيث كانت من ظالم، ورجح ابن عطية أن الاستثناء منقطع كما قال الزجاج، قال القرطبي: وهذا على أن يكون المراد بالناس اليهود، ثم استثنى كفار العرب كأنه قال لكن الذين ظلموا في قولهم رجع محمد صلى الله عليه وسلم إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله.
(فلا تخشوهم) أي لا تخافوا جدالهم في التولي إليها ومطاعنهم فإنها داحضة باطلة لا تضركم (واخشوني) أي احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم به وفرضته عليكم (ولأتم نعمتي عليكم) أي بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم لتتم لكم الملة الحنيفية، وقيل تمام النعمة الموت على الإسلام ثم دخول الجنة ثم رؤية الله تعالى (ولعلكم تهتدون) أي لكي تهتدوا من الضلالة، ولعل وعسى من الله واجب.
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
(كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة) التشبيه واقع على أن النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة، وقيل معنى الكلام على التقديم والتأخير أي فاذكروني كما أرسلنا، قاله الزجاج وقيل غير ذلك، والتعبير بصيغة التكلم الدالة على العظمة بعد التعبير بالصيغة التي لا دلالة لها عليها من قبيل التفنن وجرياً على سنن الكبراء، وفيكم خطاب لأهل مكة والعرب وكذا قوله منكم، وفي إرساله رسولاً منهم نعمة عظيمة عليهم لما فيه من الشرف لهم، ولأن المعروف من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير، فكان بعثة الرسول منهم وفيهم أقرب إلى قبول قوله والانقياد له، والرسول هو محمد- صلى الله عليه وسلم، والآيات القرآن وذلك من أعظم النعم لأنه معجزة باقية على الدهر، والتزكية التطهير من دنس الشرك والذنوب، وقيل محاسن الأعمال ومكارم الأفعال، والحكمة هي السنة المطهرة والفقه في الدين.
(ويعلمكم) من أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية وقصص الأنبياء والخبر عن الحوادث المستقبلة (ما لم تكونوا تعلمون) ذلك قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتستقلون بعلمه بعقولكم.
(فاذكروني أذكركم) أمر وجوابه، وفيه معنى المجازاة قاله سعيد بن جبير، والمعنى اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة حكاه عنه القرطبي، وروى نحوه مرفوعاً، وقيل الذكر يكون باللسان وهو التسبيح والتحميد ونحو ذلك من الأذكار المأثورة، ويكون بالقلب، وهو التفكر في الدلائل الدالة على وحدانيته وبدائع خلقه ويكون بالجوارح وهو الاستغراق في الأعمال التي أمروا
بها مثل الصلاة وسائر الطاعات التي للجوارح فيها فعل، وقيل غير ذلك.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " أخرجه البخاري ومسلم (1).
وأخرجا عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل " أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه "(2) وأخرجا عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر كمثل الحي والميت "(3) وفي الباب أحاديث كثيرة.
(واشكروا لي) يعني بالطاعة ما أنعمت به عليكم، قال الفراء: شكرتك وشكرت لك واحد، قال ابن عطية: ولي أفصح وأشهر مع الشكر، والشكر معرفة الإحسان والتحدث به، وأصله في اللغة الظهور وقد تقدم الكلام فيه، وقد ورد في فضل ذكر الله على الإطلاق وفضل الشكر أحاديث كثيرة كما أشرنا اليه. (ولا تكفرون) أي بجحد النعم وعصيان الأمر، والكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب، فمن أطاع الله فقد شكره ومن عصاه فقد كفر، وقد تقدم الكلام فيه.
(1) مسلم/2675.
(2)
ومثل ذلك ما رواه ابن ماجة عن عبد الله بن بسر أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فانبثني منها بشيء أتشبث به قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عز وجل.
(3)
ومنه حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سيروا هذا جمدان (جبل في طريق مكة) سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات مسلم/2676.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
(يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة) لما فرغ سبحانه من إرشاد عباده إلى ذكره وشكره عقب ذلك بإرشادهم إلى الاستعانة بالصبر عن المعاصي وحظوظ النفس، وبالصلاة التي هي عماد الدين ومعراج المؤمنين، فإن من جمع بين ذكر الله وشكره واستعان بالصبر والصلاة على تأدية ما أمر الله به، ودفع ما يرد عليه من المحن فقد هدي إلى الصواب، ووفق للخير، ومن الناس من حمل الصبر على الصوم وفسره به، ومنهم من حمله على الجهاد ولا وجه لتخصيص نوع دون نوع، والصبر حبس النفس على احتمال المكاره في ذات الله، وتوطينها على تحمل المشاق في العبادات وسائر الطاعات، وتجنب الجزع والمحظورات، والمعنى استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض وبالصلوات الخمس على تمحيص الذنوب، وخصها بالذكر لتكررها وعظمها لأنها أم العبادات ومناجاة رب الكائنات.
(إن الله مع الصابرين) أي بالعون والنصر وإجابة الدعوة، وهذه المعية التي أوضحها الله فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال، وإن كانت كالجبال، وهذه المعية خاصة بالمتقين والمحسنين والصابرين، وأما المعية بالعلم والقدرة فهي عامة في حق كل أحد، والجملة تعليل لما قبلها من الاستعانة بالصبر خاصة كما قال أبو السعود أو بالصبر والصلاة كما قال الكرخي.
(ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء) قيل نزلت فيمن قتل ببدر من المسلمين وكانوا أربعة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وسماهم في الخازن بأسمائهم وكان الناس يقولون فيهم مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذاتها فأنزل الله هذه الآية، وقيل إن الكفار قالوا إن
الناس يقتلون أنفسهم ظلماً لمراضاة محمد صلى الله عليه وسلم من غير فائدة فنزلت هذه الآية.
وأخبر الله أن من قتل في سبيله فإنه حي، وإنما خص الشهداء لأنهم فضلوا على غيرهم بمزيد النعم، وهو أنهم يرزقون من مطاعم الجنة ومآكلها، وغيرهم ينعمون بما دون ذلك.
(ولكن لا تشعرون) بهذه الحياة عند مشاهدتكم لأبدانهم بعد سلب أرواحهم لأنكم تحكمون عليها بالموت في ظاهر الأمر، بحسب ما يبلغ إليه علمكم الذي هو بالنسبة إلى علم الله كما يأخذ الطائر في منقاره من ماء البحر. وليسوا كذلك في الواقع بل هم أحياء في البرزخ تصل أرواحهم إلى الجنان، فهم أحياء من هذه الجهة، وإن كانوا أمواتاً من جهة خروج الروح من أجسادهم.
وفي الآية دليل على ثبوت عذاب القبر للعصاة وأن المطيعين لله يصل إليهم ثوابهم وهم في قبورهم في البرزخ، ولا اعتداد بخلاف من خالف في ذلك، فقد تواترت به الأحاديث الصحيحة ودلت عليه الآيات القرآنية، ومثل هذه الآية قوله تعالى:(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) وقد وردت أحاديث في أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تأكل من ثمار الجنة (1)، فمنها عن كعب بن مالك مرفوعاً عند أحمد والترمذي وصححه النسائي وابن ماجة وروي " أن أرواح الشهداء على صور طيور بيض " كما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي العالية.
والآية نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر، وفيها دلالة على أن الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس من البدن تبقى بعد الموت دراكة وعليه جمهور الصحابة والتابعين، وبه نطقت الآيات والسنن، وعلى هذا تخصيص الشهداء لاختصاصهم بالقرب من الله تعالى ومزيد البهجة والكرامة.
(1) صحيح الجامع الصغير 1555.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات) أي لنختبرنكم واللام جواب القسم، أي والله لنبلونكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم والبلاء أصله المحنة أي نمتحنكم لنختبركم هل تصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء أم لا، وليظهر الطائع من العاصي، والتنكير للتقليل أي بشيء قليل من هذه الأمور، فإن ما وقاهم عنه أكثر بالنسبة إلى ما أصابهم بألف مرة فكذا ما يصيب به معانديهم، وإنما أخبر به قبل الوقوع ليوطنوا عليه نفوسهم ويزداد يقينهم عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به، وليعلموا أنه شيء يسير له عاقبة محمودة، والمراد بالخوف ما يحصل لمن يخشى من نزول ضرر به من عدو أو غيره، وبالجوع المجاعة التي تحصل عند الجدب والقحط، وبنقص الأموال ما يحدث فيها بسبب الجوائح وما أوجبه الله فيها من الزكاة ونحوها.
عن رجاء بن حيوة قال: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة فيه إلا تمرة، وبنقص الأنفس بالموت والقتل في الجهاد، وبنقص الثمرات ما يصيبها من الآفات، وهو من عطف الخاص على العام لشمول الأموال للثمرات وغيرها.
وقال الشافعي: في تفسير هذه الآية الخوف خوف الله والجوع صيام شهر رمضان ونقص الأموال إخراج الزكاة والصدقات ونقص الأنفس بالأمراض ونقص الثمرات موت الأولاد لأن الولد ثمرة القلب. وفي الحديث: " إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته ": أقبضتم ولد عبدي؟ قالوا: نعم قال: أقبضتم ثمرة فؤاده! قالوا: نعم، قال: فماذا قال؟ قالوا: حمدك واسترجع، قال: ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد " أخرجه الترمذي عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً.
وقال حديث حسن، ولكن اللفظ القرآني أو سمع مما قال وأعم منه فلا يخصص
بشيء دون غيره (وبشر الصابرين) أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يقدر على التبشير، وقد تقدم معنى البشارة، والصبر أصله الحبس، والجملة عطف على (ولنبلونكم) عطف المضمون على المضمون أي الإبتلاء حاصل لكم وكذا البشارة لكن لمن صبر قاله سعد التفتازاني.
(الذين إذا أصابتهم مصيبة) المصيبة واحدة المصايب وهي النكبة التي يتأذى بها الإنسان وإن صغرت (قالوا) أي باللسان والقلب لا باللسان فقط فإن التلفظ بذلك مع الجزع قبيح وسخط للقضاء وذلك أن يتصور ما خلق لأجله وأنه يرجع إلى ربه ويتذكر نعم الله عليه ليرى أن ما أبقى الله عليه أضعاف ما استرده منه فيهون عليه ويستسلم (إنا لله وإنا إليه راجعون) في الآخرة فيجازينا. وصفهم بأنهم المسترجعون عند المصيبة لأن ذلك تسليم ورضا. وفيه بيان أن هذه الكلمات ملجأ للمصابين وعصمة للممتحنين، فإنها جامعة بين الإقرار بالعبودية لله والاعتراف بالبعث والنشور، والرجوع والتفويض إلى الله والرضا بكل ما نزل به من المصايب.
وفي الحديث " من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه " وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت أمتي شيئاً لم يعطه أحد من الأمم أن يقولوا عند المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون ألا تسمع إلى قول يعقوب عند فقد يوسف يا أسفا على يوسف "، وقد ورد في فضل الاسترجاع عند المصيبة أحاديث كثيرة. (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) الصلاة هنا المغفرة قاله ابن عباس، أو الثناء الحسن قاله الزجاج، وعلى هذا فذكر الرحمة لقصد التأكيد، وقال في الكشاف: الصلاة الرحمة والتعطف فوضعت موضع الرأفة وجمع بينها وبين الرحمة كقوله رأفة رحمة، رؤوف رحيم، والمعنى عليهم رأفة بعد رأفة، ورحمة بعد رحمة انتهى، وعبر عن المغفرة بلفظ الجمع للتنبيه على كثرتها وتنوعها، قاله البيضاوي وأبو السعود، وقيل المراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة وإنما وصفوا هنا بذلك لكونهم فعلوا ما فيه الوصول إلى طريق الصواب من الاسترجاع والتسليم.
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
(وأولئك هم المهتدون) يعني إلى الاسترجاع، وقيل إلى الجنة، وقيل إلى الحق والصواب، وقال عمر بن الخطاب: نعم العدلان ونعمت العلاوة، فالعدلان الصلاة والرحمة، والعلاوة الهداية، وقد وردت أحاديث كثيرة في ثواب أهل البلاء وأجر الصابرين ذكرها المفسرون لا نطيل بذكرها هنا فإنها معروفة في كتب الآثار.
(إن الصفا والمروة من شعائر الله) أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس الصلب وهو هنا علم، جبل من جبال مكة معروف، وكذلك المروة علم لجبل بمكة معروف، وأصلها في اللغة واحدة والمروى، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين، وقيل التي فيها صلابة، وقيل يعم الجميع، وقيل إنها الحجارة البيض البراقة. وقيل إنها الحجارة السود، والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة أي من أعلام مناسكه، والمراد بها مواضع العبادة التي أشعرها الله اعلاماً للناس من الموقف والمسعى والمنحر، ومنه إشعار الهدي أي إعلامه بغرز حديدة في سنامه، والأجود شعائر بالهمز لزيادة حرف المد وهو عكس معايش ومصايب.
(فمن حج البيت) هو في اللغة القصد، وفي الشرع الإتيان بمناسك الحج التي شرعها الله سبحانه (أو اعتمر) العمرة في اللغة الزيارة، وفي الشرع الإتيان بالنسك المعروف على الصفة الثابتة فالحج والعمرة قصد وزيارة
(فلا جناح) أي فلا إثم (عليه أن يطوف) أي يدور (بهما) ويسعى بينهما والجناح أصله الجنوح وهو الميل، ومنه الجوانح لاعوجاجها، ورفع الجناح يدل على عدم الوجوب، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري، وحكى الزمخشري في الكشاف عن أبي حنيفة أنه يقول: هو واجب وليس بركن، وعلى تاركه دم وقد ذهب إلى عدم الوجوب ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين، وعن أحمد أنه سنة، وأجمعوا على أنه مشروع فيهما، وإنما الخلاف في وجوبه.
ومما يقوي دلالة هذه الآية على عدم الوجوب قوله تعالى في آخر الآية (ومن تطوع خيراً) أي زاد على ما فرض عليه من حج أو عمرة أو طواف أو تطوع بالسعي أو فعل طاعة فرضاً كان أو نفلاً (فإن الله شاكر عليم) مثيب على الطاعة لا يخفى عليه، وذهب الجمهور إلى أن السعي واجب ونسك من جملة المناسك وهو قول ابن عمر وجابر وعائشة، وبه قال الحسن، وإليه ذهب الشافعي ومالك، واستدلوا بما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة أن عروة قال لها أرأيت قول الله (إن الصفا والمروة من شعائر الله) الآية فما أرى على أحد جناحاً أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أولتها كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت لأن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة، لطاغية كانوا يعبدونها، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله إن الصفا والمروة الآية، قالت عائشة ثم قد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما.
وأخرج مسلم وغيره عنها أنها قالت لعمري ما أتم الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته، لأن الله قال (إن الصفا والمروة من شعائر الله) وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا، وأخرج أحمد في مسنده والشافعي وابن سعد وابن
المنذر وابن قانع والبيهقي عن حبيبة بنت أبي تجزأة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور بهما إزاره، وهو يقول " اسعوا فإن الله عز وجل كتب عليكم السعي " ويؤيد ذلك حديث " خذوا عني مناسككم "(1) واختار الشوكاني في جميع مؤلفاته الوجوب وهو الراجح.
(1) وقد كثرت الكتب التي تتكلم عن كيفية جمع النبي صلى الله عليه وسلم ومنها ما ألفه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
(إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) فيه إخبار بأن الذي يكتم ذلك ملعون، وفيه دليل على جواز لعن الكافر بعد موته خلافاً لمن قال إنه لا فائدة له، واختلفوا من المراد بذلك فقيل أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقد روي عن جماعة من السلف أن الآية نزلت في أهل الكتاب لكتمهم نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغيرها من الأحكام التي كانت في التوراة، وقيل: كل من كتم الحق وترك بيان ما أوجب الله بيانه وهو الراجح لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول، فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من اليهود والنصارى من الكتم فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية لكل من كتم الحق.
وفي هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره، فإن من لعنه الله ولعنه كل من يأتي منه اللعن من عباده قد بلغ من الشقاوة والخسران إلا الغاية التي لا تلحق ولا يدرك كنهها.
وفي قوله (من البينات والهدى) دليل على أنه يجوز كتم غير ذلك كما قال أبو هريرة: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم، أخرجه البخاري.
والضمير في (بيناه) راجع إلى (ما أنزلنا) والكتاب اسم جنس وتعريفه
يفيد شموله لجميع الكتب، وقيل المراد به التوراة، واللعن: الإبعاد والطرد، والمراد بقوله (اللاعنون) الملائكة والمؤمنون قاله الزجاج وغيره ورجحه ابن عطية، وقيل كل من يتأتى منه اللعن، فيدخل في ذلك الجن والإنس، وقال ابن عباس: جميع الخلائق إلا الجن والإنس، وقيل هم الإنس والجن، وقيل ما تلاعن اثنان من المسلمين إلا رجعت إلى اليهود والنصارى الذين كتموا صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحكام التوراة والإنجيل، وقيل هم الحشرات والبهائم.
ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن البراء ابن عازب قال: كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه فتسمعه كل دابة غير الثقلين فتلعنه كل دابة سمعت صوته " فذلك قول الله تعالى: (ويلعنهم اللاعنون) يعني دواب الأرض، وعن مجاهد إذا أجدبت البهائم دعت على فجار بني آدم، وعنه أن دواب الأرض والعقارب والخنافس يقولون إنما منعنا القطر بذنوبهم فيلعنونهم، وعن أبي جعفر يلعنهم كل شيء حتى الخنفساء.
وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتم العلم والوعيد لفاعله.
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئاً أبداً (إن الذين يكتمون) الآية، وقوله (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) إلى آخرها.
وهل إظهار علوم الدين فرض كفاية أو فرض عين، فيه خلاف، والأصح أنه إذا أظهرها البعض بحيث يتمكن كل واحد من الوصول إليه لم يبق مكتوماً، وقيل متى سئل العالم عن شيء يعلمه من أمر الدين يجب عليه إظهاره وإلا فلا، وفي الآية دليل على وجوب قبول قول الواحد لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله.
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
(
إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) فيه استثناء التائبين الراجعين من الكفر إلى الإسلام والمصلحين لما فسد من أعمالهم، والمبينين للناس ما بينه الله في كتبه وعلى ألسن رسله، قال قتادة: أصلحوا ما بينهم وبين الله وبينوا الذين جاءهم من الله ولم يكتموه ولم يجحدونه (فأولئك أتوب عليهم) يعني أتجاوز عنهم وأقبل توبتهم، قاله سعيد بن جبير (وأنا التواب) أي المتجاوز عن عبادي الرجاع بقلوبهم المنصرفة عني إلى (الرحيم) بهم بعد إقبالهم علي، والجملة اعتراض تذييل محقق لمضمون ما قبله والالتفات إلى التكلم للتفنن في النظم الكريم، مع ما فيه من التلويح والرمز إلى ما مر من اختلاف المبدأ في فعله تعالى السابق وهو اللعن واللاحق وهو الرحمة.
(إن الذين كفروا) بالكتمان وغيره (وماتوا وهم كفار) جملة حالية وإثبات الواو فيها أفصح خلافاً لمن جعل حذفها شاذاً وهو الزمخشري تبعاً للفراء، وقد استدل بذلك على أنه لا يجوز لعن كافر معين لأن حاله عند الوفاة لا يعلم ولا ينافي ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من لعنه لقوم من الكفار بأعيانهم لأنه يعلم بالوحي ما لا نعلم، وقيل يجوز لعنه عملاً بظاهر الحال كما يجوز قتاله، واستدل بقوله (أولئك عليهم لعنة الله والملائكة) على جواز لعن الكفار على العموم قال القرطبي لا خلاف في ذلك قال وليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره، سواء كان الكافر عاقلاً أو مجنوناً، وقال قوم من السلف: لا فائدة في لعن من جن أو مات منهم لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر.
قال: ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الإخبار عن الله والملائكة والناس بلعنهم لا على الأمر به.
قال ابن العربي: إن لعن العاصي المعين لا يجوز باتفاق لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بشارب خمر مراراً فقال بعض من حضر " لعنه الله ما أكثر ما يشربه " فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم "(1) والحديث في الصحيحين (والناس أجمعين) قيل هذا يوم القيامة، وأما في الدنيا ففي الناس المسلم والكافر، ومن يعلم بالعاصي ومعصيته ومن لا يعلم فلا يتأتى اللعن له من جميع الناس، وقيل في الدنيا، والمراد يلعنه غالب الناس أو كل من علم بمعصيته منهم، عن أبي العالية قال: إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم يلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس أجمعون، وقال قتادة: يعني بالناس أجمعين المؤمنين.
(1) صحيح الجامع الصغير 7319.
(خالدين فيها) أي في النار، وقيل في اللعنة وإنما أضمرت لعظم شأنها (لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) فيعتذرون قاله أبو العالية، وقال ابن عباس: لا يؤخرون، والإنظار والإمهال، وقيل معناه لا ينظر الله إليهم فهو من النظر، وقيل هو من الانتظار أي لا ينتظرون ليعتذروا.
(وإلهكم إله واحد) أي لا شريك له في الألوهية ولا نظير له في الربوبية، والتوحيد هو نفي الشريك والقسيم والشبيه، فالله تعالى واحد في أفعاله لا شريك له يشاركه في مصنوعاته، وواحد في ذاته لا قسيم له. وواحد في صفاته لا يشبهه شيء من خلقه (لا إله إلا هو) تقرير للوحدانية بنفي غيره من الألوهية وإثباتها له (الرحمن الرحيم) وقد تقدم تفسيرهما، وفيه الإرشاد إلى التوحيد وقطع العلائق، والإشارة إلى أن أول ما يجب بيانه ويحرم كتمانه هو أمر التوحيد.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والدارمي وأبو داود والترمذي وصححه ابن