المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ١

[صديق حسن خان]

الفصل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ‌

(165)

(ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله) إظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار لتربية المهابة وتفخيم المضاف، وإبانة كمال قبح ما ارتكبوه.

ولما فرغ سبحانه من الدليل على وحدانيته، أخبر أن مع هذا الدليل الظاهر المفيد لعظيم سلطانه وجليل قدرته وتفرده بالخلق، قد وجد في الناس من يتخذ معه سبحانه نداً يعبده من الأصنام كذا قيل، وقد تقدم تفسير الأنداد مع أن هؤلاء الكفار لم يقتصروا على مجرد عبادة الأنداد، بل أحبوها حباً عظيماً، وأفرطوا في ذلك إفراطاً بالغاً حتى صار حبهم لهذه الأوثان ونحوها متمكناً في صدورهم كتمكن حب المؤمنين لله سبحانه، ويجوز أن يكون المراد كحبهم لله أي عبدة الأوثان، قاله الزجاج وابن كيسان، ويجوز أن يكون مبنياً للمفعول ومعناه كما يحب الله ويعظم، والأول أولى لقوله:

(والذين آمنوا أشد حباً لله) فإنه استدراك لما يفيده التشبيه من التساوي أي أن حب المؤمنين لله أشد من حب الكفار للأنداد، لأن المؤمنين يخصون الله سبحانه بالعبادة والدعاء، والكفار لا يخصون أصنامهم بذلك بل يشركون الله معهم ويعترفون بأنهم إنما يعبدون أصنامهم ليقربوهم إلى الله، ويمكن أن يجعل هذه الجملة دليلاً على الثاني لأن المؤمنين إذا كانوا أشد حباً لله لم يكن حب الكفار للأنداد كحب المؤمنين لله، وقيل المراد بالأنداد هنا الرؤساء والكبراء أي يطيعونهم في معاصي الله، ويقوى هذا الضمير في قوله (يحبونهم) فإنه لمن يعقل، ويقويه أيضاً قوله سبحانه عقب ذلك

ص: 331

(إذ تبرأ الذين اتبعوا) الآية،

ص: 331

والحب نقيض البغض والمحبة والإرادة وقيل في معنى الآية غير ذلك وإيثار إظهار الاسم الجليل في موضح الإضمار لتفخيم الحب والإشعار بعلته.

(ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب) قرأ أهل مكة بالياء وأهل الشام بالفوقية، والمعنى على الأولى لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه (أن القوة لله جميعاً) قاله أبو عبيدة، قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير انتهى، وعلى هذا فالرؤية هي البصرية لا القلبية، وروي عن محمد بن يزيد قال: هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيدة بعيد، وليست عبارته فيه بالجيدة لأنه يقدر ولو يرى الذين ظلموا العذاب، فكأنه يجعله مشكوكاً فيه وقد أوجبه الله تعالى، ولكن التقدير وهو الأحسن ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله، ويرى بمعنى يعلم أي لو يعلمون حقيقة قوة الله وشدة عذابه، قال: وجواب لو محذوف أي لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة كما حذف في قوله (ولو ترى إذ وقفوا على النار)(ولو ترى إذ وقفوا على ربهم).

ومن قرأ بالفوقية فالتقدير ولو ترى يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعاً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك؛ ولكن خوطب بهذا الخطاب؛ والمراد به أمته، وقيل (أن) في موضع نصب مفعول لأجله أي لأن القوة لله، ودخلت إذ وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريباً للأمر وتصحيحاً لوقوعه، وهو مما يتكرر في القرآن كثيراً، وجميع في الأصل فعيل من الجمع وكأنه اسم جمع فلذلك يتبع تارة بالمفرد، قال تعالى:(نحن جميع منتصر) وتارة بالجمع قال تعالى (جميع لدينا محضرون) وينتصب حالاً ويؤكد بمعنى كل، ويدل على الشمول كدلالة كل، ولا دلالة له على الاجتماع في الزمان.

(وأن الله شديد العذاب) عطف على ما قبله وفائدته تهويل الخطب وتفظيع الأمر، فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفواً مع القدرة عليه.

ص: 332

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)

(إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب) أي تنزه وتباعد معناه أن السادة والرؤساء من مشركي الإنس تبرؤوا ممن اتبعهم على الكفر ورأوا يعني التابعين والمتبوعين العذاب، قيل عند المعاينة في الدنيا، وقيل عند العرض والمساءلة في الآخرة، ويمكن أن يقال فيهما جميعاً إذ لا مانع من ذلك، وقيل هم الشياطين يتبرؤون من الإنس وبه قال قتادة، والقول هو الأول، وقد احتج جمع من أهل العلم بهذه الآية على ذم التقليد وهو مذكور في موطنه (وتقطعت بهم) أي عنهم (الأسباب) بسبب كفرهم جمع سبب، وأصله في اللغة الحبل الذي يشد به الشيء ويجذب به، ثم جعل كل ما جر شيئاً سبباً فهي مجاز هنا، والمراد بها الوصل التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من الرحمة وغيرها، وقيل هي الأعمال، وقال ابن عباس: هي المنازل، وقال أيضاً: هي الأرحام وقال المودة، وقيل العهود والحلف.

ص: 333

(وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة) أي رجعة إلى الدنيا، الكرة الرجعة والعودة إلى حال قد كانت، و " لو " هنا بمعنى التمني كأنه قيل ليت لنا كرة، ولهذا وقعت الفاء في الجواب، والمعنى أن الاتباع قالوا لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحاً (فنتبرأ منهم) أي المتبوعين (كما تبرؤا منا) اليوم وهو جواب التمني (كذلك) أي كما أراهم الله العذاب (يريهم الله أعمالهم) السيئة، وهذه الرؤية إن كانت البصرية فقوله (حسرات عليهم) منتصب على الحال،

ص: 333

وإن كانت القلبية فهو المفعول الثالث، والمعنى أن أعمالهم الفاسدة يريهم الله إياها فتكون عليهم حسرات وندامات أو يريهم الله الأعمال الصالحة التي أوجبها عليهم فتركوها فيكون ذلك حسرة عليهم، والحسرة الغم على ما فاته وشدة الندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه (وما هم بخارجين من النار) فيه دليل على خلود الكفار في النار، وظاهر هذا التركيب يفيد الاختصاص، وجعله الزمخشري للتقوية لغرض له يرجع إلى المذهب والبحث في هذا يطول، عن ثابت بن معبد قال: ما زال أهل النار يأملون الخروج منها حتى نزلت هذه الآية.

ص: 334

(يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً) قيل إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الحرث والأنعام، حكاه القرطبي في تفسيره، وهذا هو المشهور بخلاف ما جرى عليه القاضي من أنها نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس فإنه مرجوح، قاله الكرخي، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وسمي الحلال حلالاً لانحلال عقدة الحظر عنه، والطيب هنا هو المستلذ كما قاله الشافعي وغيره، وقال مالك وغيره: هو الحلال فيكون تاكيداً لقوله حلالاً.

" ومن " في مما للتبعيض للقطع بأن في الأرض ما هو حرام كالحجارة لا يؤكل أصلاً، وليس كل ما يؤكل يجوز أكله فلذلك قال حلالاً والأمر مستعمل في كل من الوجوب والندب والإباحة، الأول إذا كان لقيام البنية، والثاني كالأكل مع الضيف، والثالث كغير ما ذكر، وقيل معنى حلالاً، مأذوناً فيه شرعاً، والطيب الحلال وإن لم يستلذ كالأدوية، وفي هذه الآية دليل على أن كل ما لم يرد فيه نص أو ظاهر من الأعيان الموجودة في الأرض فأصله الحل حتى يرد دليل يقتضي تحريمه وأوضح دلالة على ذلك من هذه الآية قوله تعالى:(وهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً).

ص: 334

(ولا تتبعوا خطوات الشيطان) جمع خطوة بالفتح والضم وهي بالفتح المرة وبالضمة لما بين القدمين، وقيل إنهما لغتان وقرىء خطؤات، بضم الخاء والطاء والهمز على الواو، قال الأخفش: وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع خطيئة من الخطأ لا من الخطو، والمعنى على قراءة الجمهور لا تقتفوا أثر الشيطان وطرقه وتزيينه وعمله، وكل ما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان، وقيل هي النذور في المعاصي، وقيل المحقرات من الذنوب. والأولى التعميم وعدم التخصيص بفرد أو نوع، قال ابن عباس: ما خالف القرآن فهو من خطوات الشيطان، وقال عكرمة: هي نزعات الشيطان، وعن سعيد بن جبير قال: هي تزيين الشيطان، وقال قتادة: كل معصية لله فهي من خطواته، وعن ابن عباس: ما كان من يمين أو نذر في غضب فهو من الخطوات وكفارته كفارة يمين.

(إنه لكم عدو) تعليل للنهي عن الاتباع (مبين) أي ظاهر العداوة ومثله قوله تعالى (إنه عدو مضل مبين) وقوله (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً) وقد أظهر الله عداوته بآية السجود لآدم. (1)

(1) وهذا غاية في التحذير، ومثله في القرآن كثير. وقال عبد الله بن عمر: إن إبليس مُوثَق في الأرض السُفلى، فإذا تحرك فإن كل شرٍّ في الأرض بين اثنين فصاعداً من تحرّكه. وخرّج الترمذي من حديث أبي مالك الأشعري وفيه:" وآمركم أن تذكروا الله فإن مَثَل ذلك كَمَثَل رجل خرج العدوّ في أثره سراعاً حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله " الحديث. وقال فيه: (حديث حسن صحيح غريب).

ص: 335

إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)

ثم بين عداوته ما هي فقال

ص: 336

(إنما يأمركم) قيل استعير الأمر لتزيينه وبعثه لهم على الشر تسفيهاً لرأيهم، وتحقيراً لشأنهم قاله البيضاوي، وقيل لا حاجة إلى صرف الأمر عن ظاهره لأن حقيقته طلب الفعل، ولا ريب أن الشيطان يطلب السوء والفحشاء ممن يريد إغواءه (بالسوء) سمي السوء سوءاً لأنه يسوء صاحبه بسوء عاقبته، وهومصدر ساءه يسؤه سوءاً ومساءة إذا أحزنه (والفحشاء) أصله سوء المنظر ثم استعمل فيما يقبح من المعاني، وقيل السوء القبيح والفحشاء التجاوز للحد في القبح، وقيل السوء ما لا حد فيه، والفحشاء ما فيه الحد قاله ابن عباس، وقيل الفحشاء الزنا، وقيل هو البخل وقيل إن كل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء.

(وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) أي بأن تقولوا، قال ابن جرير الطبري: يريد ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوهما مما جعلوه شرعاً. وقيل هو قولهم هذا حلال وهذا حرام بغير علم، والظاهر أنه يصدق على كل ما قيل في الشرع بغير علم فيتناول ذلك جميع المذاهب الفاسدة التي لم يأذن فيها الله، ولم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر الشيطان ووسوسته عبارة عن هذه الخواطر التي يجدها الإنسان في قلبه، وفاعل هذه الخواطر هو الله تعالى، وإنما الشيطان كالعرض، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم:

ص: 336

(وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا) الضمير في (لهم) راجع إلى الناس في قوله (يا أيها الناس) لأن الكفار منهم، وهم المقصودون هنا فعدل عن المخاطبة إلى الغيبة على طريق الالتفات،

ص: 336

مبالغة في بيان ضلالهم، كأنه يقول للعقلاء انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون، وقيل مشركو العرب خاصة، وقد سبق ذكرهم في قوله (من يتخذ من دون الله أنداداً) ولفظ أبي السعود نزلت في المشركين أمروا باتباع القرآن وسائر ما أنزل الله من الحجج الظاهرة والبينات الباهرة فجنحوا للتقليد انتهى، وقيل نزلت في اليهود، وعلى هذا فالآية مستأنفة، وألفينا معناه وجدنا وفي هذه الآية من الذم للمقلدين والنداء بجهلهم الفاحش، واعتقادهم الفاسد ما لا يقادر قدره حيث عارضوا الدلالة بالتقليد.

ومثل هذه الآية قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) الآية يعني من التحريم والتحليل، وفي ذلك دليل على قبح التقليد والمنع منه، والبحث في ذلك يطول.

قال الرازي في هذه الآية تقرير هذا الجواب من وجوه.

(أحدها) أنه يقال للمقلد هل تعترف بأن شرط جواز تقليد الإنسان أن يعلم كونه محقاً أم لا، فإن اعترفت بذلك لم تعلم جواز تقليده إلا بعد أن تعرف كونه محقاً فكيف عرفت أنه محق، وإن عرفت بتقليد آخر لزم التسلسل، وإن عرفته بالعقل فذلك كاف فلا حاجة إلى التقليد، وإن قلت ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم كونه محقاً، فإذاً قد جوزت تقليده وإن كان مبطلاً، فإذاً أنت على تقليدك لا تعلم أنك محق أو مبطل.

(وثانيها) هب أن ذلك المتقدم كان عالماً بهذا الشيء إلا أنا لو قدرنا أن ذلك المتقدم ما كان عالماً بذلك الشيء قط وما اختار فيه البتة مذهباً، فأنت ماذا كنت تعمل، فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه كان لا بد من العدول إلى النظر فكذا ههنا.

(وثالثها) أنك إذا قلدت من قبلك فذلك المتقدم كيف عرفته، أعرفته بتقليد أم لا بتقليد، فإن عرفته بتقليد لزم إما الدور وإما التسلسل، وإن عرفته لا بتقليد بل بدليل، فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدم وجب أن تطلب العلم

ص: 337

بالدليل لا بالتقليد، لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل، مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد كنت مخالفاً له، فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه فيكون باطلاً.

وإنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان تنبيهاً على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان وبين متابعة التقليد، وفيه أقوى دليل على وجوب النظر والاستدلال، وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل، أو على ما يقوله الغير من غير دليل، انتهى كلامه.

وكم من آية بينة وأثر جلي تدل على ذم التقليد والمقلدين، ولكن مفاسد الجهل والتعصب كثيرة لا يأتي عليها الحصر، وقد أفرده الشوكاني بمؤلف مستقل سماه القول المفيد في حكم التقليد، واستوفى الكلام فيه في أدب الطلب ومنتهى الأرب، وألف الحافظ الواحد المتكلم ابن القيم في ذلك كتاباً ضخماً سماه أعلام الموقعين عن رب العالمين.

قال ابن عباس: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ورغبهم فيه وحذرهم عذاب الله ونقمته فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع يا محمد صلى الله عليه وسلم ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا أعلم وخيراً منا، فأنزل الله في ذلك هذه الآية:

(أولو كان آباؤهم) الهمزة للإنكار، والواو إما للحال أو للعطف، وجواب لو محذوف قاله أبو البقاء وتقديره لاتبعوهم، والذي جرى عليه أبو السعود أن لو في مثل هذا التركيب لا تحتاج إلى جواب لأن القصد منها تعميم الأحوال (لا يعقلون) أي لا يعلمون (شيئاً) من أمر الدين، وهذا لفظ عام ومعناه خاص لأنهم كانوا يعقلون كثيراً من أمور الدنيا فهذا يدل على جواز ذكر العام مع أن المراد به خاص (ولا يهتدون) إلى الصواب وكيفية اكتسابه، قال البيضاوي: وهو دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد.

ص: 338

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

ثم ضرب لهم مثلاً فقال

ص: 339

(ومثل الذين كفروا) في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم وفي ذلك نهاية الزجر لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقهم في التقليد (كمثل الذي ينعق بما لا يسمع) فيه تشبيه واعظ الكافرين وداعهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم بالراعي الذي ينعق بالغنم أو الإبل فلا تسمع (إلا دعاء ونداء) ولا تفهم ما يقول، هكذا فسره الزجاج والفراء وسيبويه، وبه قال جماعة من السلف، قال سيبويه: لم يشبهوا بالناعق إنما شبهوا بالمنعوق به، والمعنى مثلك يا محمد صلى الله عليه وسلم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم، فحذف لدلالة المعنى عليه، وقال قطرب: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يفهم يعني الأصنام كمثل الراعي إذا نعق بغنمه وهو لا يدري أين هي، وبه قال ابن جرير الطبري، وقال ابن زيد: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الجماد كمثل الصائح في جوف الليل فيجيبه الصدى فهو يصيح بما لا يسمع ويجيبه ما لا حقيقة فيه، فهذه أربعة أقوال.

وقال البيضاوي: المعنى أن الكفرة لانهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها فتسمع الصوت ولا تعرف مغزاه، وتحس بالنداء ولا تفهم معناه.

وقد اختلف الناس في هذه الآية اختلافاً واضطربوا اضطراباً شديداً.

والذي لخصناه أقوال مهذبة لكل قول منها تقدير، ذكره السمين، والنعيق زجر

ص: 339

الغنم والصياح بها. والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل ويقولون أجهل من راعي ضان، قال ابن عباس: مثل الذين كفروا مثل البقر والحمار والشاة إن قلت لبعضها كلاماً لم يعلم ما تقول غير أنه يسمع صوتك، وكذلك الكافر إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وعظته لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك، ونحوه قال مجاهد والدعاء والنداء بمعنى واحد وسوغ العطف اختلاف اللفظ.

(صم بكم عمي) هذا نتيجة ما قبله، ورفع على الذم أي هم صم عن سماع الحق ودعاء الرسول (بكم) عن النطق بالحق (عمي) عن طريق الهدى (وفهم لا يعقلون) أي بالعقل للإخلال بالنظر نتيجة للنتيجة، قيل المراد به العقل الكسبي، لأن العقل الطبيعي كان حاصلاً فيهم، قال عطاء: هم اليهود الذين أنزل الله فيهم (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب) إلى قوله فما أصبرهم على النار.

ص: 340

(يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) هذا تأكيد للأمر الأول أعني قوله: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً) هو وإنما خص المؤمنين هنا لكونهم أفضل أنواع الناس، قيل والمراد بالأكل الانتفاع وقيل المراد به الأكل المعتاد وهو الظاهر، وقيل أن الأمر في كلوا قد يكون للوجوب كالأكل لحفظ النفس ودفع الضر عنها، وقد يكون للندب كالأكل مع الضيف، وقد يكون للإباحة إذا خلا من هذه العوارض، وعن عمر بن عبد العزيز أن المراد بما في الآية طيب الكسب لا طيب الطعام، وقال الضحاك: أنها حلال الرزق.

وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن المنذر وابن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يقبل إلا طيباً وأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما

ص: 340

تعملون عليم) وقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له " وقيل الطيب المستلذ من الطعام فلعل قوماً تنزهوا عن أكل المستلذ من الطعام فأباح الله لهم ذلك.

(واشكروا الله) على ما رزقكم من نعمه وأحل لكم، وفيه التفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة إذ لو جرى على الأسلوب الأول لقال واشكرونا، والأمر فيه للوجوب فقط (إن كنتم إياه تعبدون) أي تخصونه بالعبادة وتقرون بأن إلهكم لا غيره كما يفيده تقديم المفعول، وقيل إن كنتم عارفين بالله وبنعمته فاشكروه عليها، والأول أولى.

ص: 341

(إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) لما أمرنا الله تعالى في الآية التي تقدمت بأكل الطيبات التي هي الحلالات، بين في هذه الآية أنواعاً من المحرمات فقال (إنما) وهي كلمة موضوعة للحصر تثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه، وقد حصرت ههنا التحريم في الأمور المذكورة بعدها أي ما حرم عليكم إلا الميتة وهي كل ما فارقه الروح من غير ذكاة.

وقد خصص هذا العموم بمثل حديث " أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالطحال والكبد " أخرجه أحمد وابن ماجة والدارقطني والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر، ومثل حديث جابر في العنبر الثابت في الصحيحين مع قوله تعالى (أحل لكم صيد البحر) فالمراد بالميتة هنا ميتة البر لا ميتة البحر.

وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أكل جميع حيوانات البحر حيها

ص: 341

وميتها، وقال بعض أهل العلم أنه يحرم من حيوانات البحر ما يحرم شبهه في البر، وتوقف ابن حبيب في خنزير الماء، قال ابن القاسم: أنا أتقيه ولا أراه حراماً، والدم هو الجاري السائل وكانت العرب تجعل الدم في المصارين ثم تشويه وتأكله، فحرمه الله تعالى.

وقد اتفق العلماء على أن الدم حرام، وفي الآية الأخرى (أو دماً مسفوحاً) فيحمل المطلق على المقيد لأن ما خلط باللحم غير محرم، قال القرطبي بالإجماع، وقد روت عائشة أنها كانت تطبخ اللحم فتعلو الصفرة على البرمة من الدم، فيأكل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره.

وأما لحم الخنزير فظاهر هذه الآية والآية الأخرى أعني قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير) أن المحرم إنما هو اللحم فقط، وقد أجمعت الأمة على تحريم شحمه كما حكاه القرطبي في تفسيره، وقد ذكرت جماعة من أهل العلم أن اللحم يدخل تحته الشحم، وحكى القرطبي الإجماع أيضاً على أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه تجوز الخرازة به، وقيل: أراد بلحمه جميع أجزائه، وإنما خص اللحم بالذكر لأنه المقصود لذاته بالأكل، واختلفوا في نجاسته فقال الجمهور أنه نجس وقال مالك أنه طاهر وكذا كل حيوان عنده، لأن علة الطهارة هي الحياة، وللشافعي قولان في ولوغ الخنزير (الجديد) أنه كالكلب (والقديم) يكفي فيه غسلة واحدة.

والآية قصر قلب للرد على من استحل هذه الأربعة وحرم الحلال غيرها كالسوائب ومع ذلك هو نسبي أي ما حرم عليكم إلا هذه الأربعة لا غيرها من البحيرة وما بعدها في الآية وإن كان حرم غيرها من الأمور المذكورة في أول المائدة.

(وما أهل به لغير الله) يعني ما ذبح للأصنام والطواغيت وصيح في

ص: 342

ذبحه لغير الله، وأصل الإهلال رفع الصوت يقال أهل بكذا أي صرخ ورفع صوته ومنه إهلال الصبي واستهلاله، وهو صياحه عند ولادته، ومنه الهلال لأنه يصرخ عند رؤيته، والمراد هنا ما ذكر عليه اسم غير الله تعالى كاللات والعزى إذا كان الذابح وثنياً، والنار إذا كان الذابح مجوسياً. ولا خلاف في تحريم هذا وأمثاله.

ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم، فإنه مما أهل به لغير الله، ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن، قال مجاهد: يعني ما ذبح لغير الله، أخرجه ابن أبي حاتم، وفي تفسير النيسابوري للنظام قال العلماء لو أن مسلماً ذبح ذبيحة وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتداً، وذبيحته ذبيحة مرتد انتهى.

وقال صاحب الروض: إن المسلم إذا ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم كفر وانتهى، وهذا القائل من الشافعية.

قال الشوكاني: وإذا كان الذبح لسيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم كفراً عنده فكيف بالذبح لسائر الأموات، انتهى.

وقيل أن المراد بذلك ذبائح عبدة الأوثان التي كانوا يذبحونها لأصنامهم كما تقدم وأجازوا ذبيحة النصارى إذا سمي عليها باسم المسيح، وهو مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب لعموم قوله تعالى (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا يحل ذلك، والحجة فيه أنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فقد أهلوا به لغير الله فوجب أن يحرم، ورُوي عن علي أنه قال: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا وإذا لم تسمعوهم فكلوا، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.

ص: 343

(فمن اضطر) إلى شيء من هذه المحرمات، والمضطر هو المكلف بالشيء الملجأ إليه المكره عليه والمراد هنا من خاف التلف، والمضطر إما بإكراه فيبيح ذلك إلى زوال الإكراه، أو يجوع في مخمصة، فإن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع منها، وإن كانت نادرة فقال الشافعي: يأكل ما يسد به الرمق، وبه قال أبو حنيفة أو يأكل قدر الشبع، وبه قال مالك، فأكل (غير باغ) بالاستئثار على مضطر آخر أو على الوالي وأصل البغي الفساد (ولا عاد) اسم فاعل أصله من العدوان وهو الظلم ومجاوزة الحد، والمراد بالباغي من يأكل فوق حاجته، والعادي من يأكل هذه المحرمات وهو يجد عنها مندوحة وبلغة، وقال ابن عباس: باغ في الميتة وعاد في الأكل وقيل غير باغ على المسلمين ولا معتد عليهم، فيدخل في الباغي والعادي قاطع السبيل والخارج على السلطان والمفارق للجماعة والأئمة، والمفسد في الأرض وقاطع الرحم، وقيل المراد غير باغ على مضطر آخر ولا عاد لسد الجوعة، قاله سعيد بن جبير.

(فلا إثم عليه) في تناوله ولا حرج، ومن أكله وهو غير مضطر فقد بغى واعتدى (إن الله غفور) لمن أكل من الحرام (رحيم) به إذ أحل له الحرام في الاضطرار. (1)

(1) روى أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن سَمَاك بن حرب عن جابر بن سَمُرة أن رجلاً نزل الحَرّة ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقة لي ضَلّت فإن وجدتها فأمسكها؛ فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت، فقالت امرأته: انحرها، فأبى فَنَفَقَت. فقالت: اسلخها حتى نُقدّد لحمها وشحمها ونأكله، فقال: حتى أسال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فسأله، فقال:" هل عندك غنىَّ يغنيك " قال لا، قال:" فكلوها " قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر؛ فقال: أفلا كنت نحرتها! فقال: أستحييت منك.

ص: 344

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)

ص: 345

(إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب) المراد بهذه الآية علماء اليهود لأنهم كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ووقت نبوته، هذا قول المفسرين، وقال المتكلمون بل كانوا يكتمون التأويل، والعنى يكتمون معاني ما أنزل الله من الكتاب، والأول أولى (ويشترون به) أي بالكتمان أو بما أنزل الله من الكتاب، والأول أظهر، والاشتراء هنا الاستبدال، وقد تقدم تحقيقه (ثمناً قليلاً) سماه قليلاً لانقطاع مدته وسوء عاقبته، وهذا السبب وإن كان خاصاً فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهو يشمل كل من كتم ما شرعه الله وأخذ عليه الرشا.

(أولئك ما يأكلون في بطونهم) ذكر البطون دلالة وتأكيداً على أن هذا الأكل حقيقة، إذ قد يستعمل مجازاً في مثل أكل فلان أرضي ونحوه، وقال في الكشاف معناه ملء بطونهم ظرف متعلق بما قبله لا حال مقدرة كما قال الكواشي (إلا النار) استثناء مفرغ أي أنه يوجب عليهم عذاب النار فسمى ما أكلوه ناراً لأنه يؤول إليها، هكذا قال أكثر المفسرين وهو من مجاز الكلام، وقيل إنهم يعاقبون على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة ومثله قوله سبحانه (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً).

(ولا يكلمهم الله يوم القيامة) أي كلام رحمة وما يسرهم بل يكلمهم بالتوبيخ، وعدم تكليم الله إياهم كناية عن حلول غضب الله عليهم وعدم الرضا عنهم، يقال فلان لا يكلم فلاناً إذا غضب عليه، وقال ابن جرير

ص: 345

الطبري المعنى ولا يكلمهم بما يحبونه ولا بما يكرهونه كقوله تعالى (اخسؤوا فيها ولا تكلمون) وإنما كان عدم تكليمهم في معرض التهديد لأن يوم القيامة هو اليوم الذي يكلم الله فيه كل الخلائق بلا واسطة فيظهر عند كلامه السرور في أوليائه وضده في أعدائه.

(ولا يزكيهم) لا يثنى عليهم خيراً، قاله الزجاج وقيل معناه لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم أو لا ينزلهم منازل الأزكياء، وقيل لا يطهرهم من دنس الذنوب (ولهم عذاب أليم) أي وجيع يصل ألمه إلى قلوبهم وهو النار.

ص: 346

(أولئك) أي الموصوفون بالصفات الستة من قوله (إن الذين يكتمون) إلى هنا، وهذا بيان لحالهم في الدنيا بعد أن بين حالهم في الآخرة (الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة) أي اختاروا الضلالة على الهدى واختاروا العذاب على المغفرة، لأنهم كانوا عالمين بالحق، ولكن كتموه وأخفوه، وكان في إظهاره الهدى والمغفرة. وفي كتمانه الضلالة والعذاب (فما أصبرهم على النار) حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل، وقد تقدم تحقيق معناه.

وذهب الجمهور ومنهم الحسن ومجاهد إلى أن معناه التعجب، والمراد تعجب المخلوقين من حال هؤلاء الذين باشروا الأسباب الموجبة لعذاب النار، فكأنهم بهذه المباشرة للأسباب صبروا على العقوبة في نار جهنم، وحكي الزجاج أن المعنى ما أبقاهم على النار، من قولهم ما أصبر فلاناً على الحبس أي ما أبقاه فيه، وقيل المعنى ما أقل جزعهم من النار، فجعل قلة الجزع صبراً، وقال الكسائي وقطرب أي ما أدومهم على عمل أهل النار، وقيل " ما " استفهامية ومعناه التوبيخ أي أي شيء صبرهم على عمل أهل النار، وهذا من مجاز الكلام، وبه قال ابن عباس والسدي وعطاء وأبو عبيدة.

ص: 346

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

ص: 347

(ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق) أي ذلك الأمر وهو العذاب، قاله الزجاج، وقال الأخفش: إن خبر اسم الإشارة محذوف والتقدير ذلك معلوم والمراد بالكتاب هنا القرآن أو التوراة والحق الصدق، وقيل الحجة (وإن الذين اختلفوا في الكتاب) يعني في معانيه وتأويله فحرفوه وبدلوه، وقيل آمنوا ببعض وكفروا ببعض، والمراد بالكتاب قيل التوراة فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى وأنكرهم اليهود، وقيل خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم واختلفوا فيها، وقيل المراد القرآن والمختلفون هم كفار قريش، يقول بعضهم هو سحر وكهانة، وبعضهم يقول هو أساطير الأولين، وبعضهم يقول غير ذلك، وقيل المختلفون هم اليهود والنصارى (لفي شقاق) أي خلاف ومنازعة (بعيد) عن الحق وقد تقدم معنى الشقاق.

ص: 347

(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) قيل أن هذه الآية نزلت للرد على اليهود والنصارى لما أكثروا الكلام في شأن القبلة عند تحويل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، وقيل أن سبب نزولها أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم سائل عن الإيمان فتلا هذه الآية حتى فرغ منها ثم سأله أيضاً فتلاها ثم سأله فتلاها قال وإذا عملت بحسنة أحبها قلبك، وإذا عملت بسيئة أبغضها قلبك "، أخرجه ابن أبي حاتم وصححه عن أبي ذر.

ص: 347

قيل أشار سبحانه بذكر المشرق إلى قبلة النصارى لأنهم يستقبلون مطلع الشمس وأشار بذكر المغرب إلى قبلة اليهود لأنهم يستقبلون بيت المقدس، وهو في جهة الغرب منهم إذ ذاك وزعم كل طائفة منهم أن البر في ذلك، فأخبر الله تعالى أن البر ليس فيما زعموا ولكنه فيما بينه في هذه الآية، وقيل المخاطب هم المسلمون وقيل هو عام لهم ولأهل الكتابين أي ليس البر مقصوراً على أمر القبلة.

والبر اسم جامع لكل طاعة وعمل الخير، ويجوز أن يكون بمعنى البار، ويطلق المصدر على اسم الفاعل كثيراً ومنه في التنزيل (إن أصبح ماؤكم غوراً) أي غائراً وهذا اختيار أبي عبيدة، والمشرق جهة شروق الشمس، والمغرب جهة غروبها، وهذا مشكل بما تقدم من أن قبلة اليهود إنما هي بيت المقدس، وهو بالنسبة إلى المدينة شمال لا مغرب (1) لأن من استقبل بيت المقدس يكون فيها ظهره مقابلاً لميزاب الكعبة ووجهه مقابلاً لبيت المقدس الذي هو من جهة الشام وكذا بالنسبة لمكة فلم يظهر المراد في هذه الآية، وقد تنبه أبو السعود لهذا وأجاب عنه بما لا يجدي شيئاً فليتأمل فإني لم أر من حقق المقام والله أعلم.

(ولكن البر) أي لكن ذا البر، وقرىء البار أو بر (من آمن بالله) والأخير أوفق وأحسن، والبر اسم جامع لكل طاعة وأعمال الخير مما لا يختلف باختلاف الشرائع وما يختلف باختلافها، والمراد بالبر هنا الإيمان والتقوى (واليوم الآخر) ذكر ذلك لأن عبدة الأوثان كانوا ينكرون البعث بعد الموت (والملائكة) أي الإيمان بهم كلهم لأن اليهود قالوا إن جبريل عدونا (والكتاب) قيل أراد به القرآن وقيل جميع الكتب المنزلة لسياق ما بعده وهو قوله (والنبيين) يعني أجمع، وإنما خص الإيمان بهذه الأمور الخمسة لأنه يدخل تحت كل واحد منها أشياء كثيرة مما يلزم المؤمن أن يصدق بها.

(1) إنما يأتي الإشكال على قول من فسر الآية بهذا القول، أما على قول الأخرين فلا إشكال.

ص: 348

(وآتى المال على حبه) ضمير حبه راجع إلى المال، وقيل إلى الإيتاء المدلول عليه بقوله وآتى المال وقيل أنه راجع إلى الله سبحانه أي على حب الله، والمعنى على الأول أنه أعطى المال وهو يحبه ويشح به، ومنه قوله تعالى (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وعلى الثاني أنه يحب إيتاء المال وتطيب به نفسه، وعلى الثالث أنه أعطى من تضمنته الآية في حب الله عز وجل لا لغرض آخر، وهو مثل قوله (ويطعمون الطعام على حبه).

عن ابن مسعود قال: يعطى وهو صحيح شحيح يأمل العيش ويخاف الفقر، وأخرج الحاكم عنه مرفوعاً مثله، وعن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم قال " أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان " أخرجه الشيخان (1).

(ذوي القربى) يعنى أهل قرابة المعطي وقدم ذوي القربى لكون دفع المال إليهم صدقة وصلة إذا كانوا فقراء، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة " أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي في سننه من حديث سلمان بن عامر الضبي (2).

وفي الصحيحين وغيرهما من حديث زينب امرأة ابن مسعود أنها سألت رسول الله هل تجزىء عنها من الصدقة النفقة على زوجها وأيتام في حجرها فقال: " لك أجران أجر الصدقة وأجر القرابة "، وأخرج الطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من حديث أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح ".

(1) مسلم/1032 - البخاري/757.

(2)

أحمد 4/-214،18،7.

ص: 349

(واليتامى) أي وهكذا اليتامى المحاويج الفقراء أولى بالصدقة من الفقراء الذين ليسوا بيتامى لعدم قدرتهم على الكسب، واليتيم هو الذي لا أب له مع الصغر (والمساكين) جمع مسكين، والمسكين الساكن إلى ما في أيدي الناس لكونه لا يجد شيئاً (وابن السبيل) المسافر المنقطع، وجعل ابنا للسبيل لملازمته له، وهو اسم جنس أو واحد أريد به الجمع.

(والسائلين) يعني الطالبين للإحسان المستطعمين ولو كانوا أغنياء، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " للسائل حق ولو جاء على فرس "(1) أخرجه أحمد وأبو داود، وعن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أعطوا السائل ولو جاء على فرس "، أخرجه مالك في الموطأ، وعن أم نجيد قالت: قلت يا رسول الله المسكين ليقوم على بابي فلم أجد شيئاً أعطيه إياه قال " إن لم تجدي إلا ظلفاً محرقاً فادفعيه إليه في يده "، أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح، وفي رواية مالك في الموطأ عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " ردوا المسكين ولو بظلف محرق ".

(وفي الرقاب) يعني المكاتبين وقيل هو فك النسمة وعتق الرقبة وفداء الأسارى أي دفعه في فكها أي لأجله وبسببه (وأقام الصلاة وآتى الزكاة) المفروضة، فيه دليل على أن الإيتاء المتقدم هو صدقة التطوع لا صدقة الفريضة (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) الله أو الناس، قيل المراد بالعهد القيام بحدود الله والعمل بطاعته وقيل النذر ونحوه، وقيل الوفاء بالمواعيد والبر في الحلف وأداء الأمانات (والصابرين في البأساء) الشدة والفقر (والضراء) المرض والزمانة، والبأساء والضراء اسمان بنيا على فعلاء ولا فعل لهما لأنهما اسمان وليسا بنعت ونصب والصابرين على المدح وقيل على الإختصاص، ولم يعطف على ما قبله لمزيد شرف الصبر وفضيلته. قال أبو علي إذا ذكرت صفات للمدح

(1) مسند أحمد 1/ 201.

ص: 350

أو الذم وخولف الأعراب في بعضها فذلك تفنن ويسمى قطعاً، لأن تغيير المألوف يدل على زيادة ترغيب في استماع الذكر ومزيد اهتمام بشأنه.

قال الراغب: ولما كان الصبر من وجه مبدأ للفضائل ومن وجه جامعاً للفضائل إذ لا فضيلة إلا وللصبر فيها أثر بليغ، غير إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد، وهذا كلام حسن، فالآية جامعة لجميع الكمالات الإنسانية وهي صحة الإعتقاد وحسن المعاشرة وتهذيب النفس.

(وحين البأس) أي وقت الحرب وشدة القتال في سبيل الله وسمى الحرب بأساً لما فيه من الشدة.

(أولئك الذين صدقوا) وصفهم بالصدق في أمورهم والوفاء بها وإنهم كانوا جادين في الدين واتباع الحق، وتحري البر، حيث لم تغيرهم الأحوال، ولم تزلزلهم الأهوال، قال ربيع: صدقوا أي تكلموا بكلام الإيمان فكانت حقيقته العمل، قال: وكان الحسن يقول هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء.

(وأولئك هم المتقون) عن الكفر وسائر الرذائل وتكرير الإشارة لزيادة تنويه شأنهم، وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم، قال الواحدي: إن الواوات في هذه الأوصاف تدل على أن من شرائط البر استكمالها وجمعها، فمن قام بواحد منها لا يستحق الوصف بالبر، وقيل هذه خاصة الأنبياء لأن غيرهم لا تجتمع فيه تلك الصفات، وقيل هي عامة في جميع المؤمنين وهي الأولى إذ لا دليل على التخصيص.

ص: 351

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

ص: 352

(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) كتب معناه فرض وأثبت، وهذا إخبار من الله سبحانه لعباده بأنه شرع لهم ذلك وقيل إن كتب هنا إشارة إلى ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ، والخطاب للقاتلين وولاة الأمور، والقصاص أصله قص الأثر أي اتباعه ومنه القاص لأنه يتبع الآثار، وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل يسلك طريقاً من القتل يقص أثره فيها ومنه قوله تعالى (فارتدا على آثارهما قصصاً) وقيل أن القصاص مأخوذ من القص وهو القطع يقال قصصت ما بينهما أي قطعته، قيل نزلت في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية بسبب قتيل فكانت بينهم قتلى وحروب وجراحات كثيرة ولم يأخذ بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام، وقيل نزلت في الأوس والخزرج، وكان لأحد الحيين طول على الآخر في الكثرة والشرف.

وقيل نزلت لإزالة الأحكام التي كانت قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوب القتل بلا عفو، ووجوب العفو بلا قتل، والقتل تارة وأخذ الدية تارة؛ والقصاص فرض على القاتل للولي لا على الولي، والقصاص المساواة والمماثلة في القتل والدية والجراح فيقتل القاتل بمثل الذي قتل به، وهو قول مالك والشافعي؛ وقيل يقتل بالسيف وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد؛ والكلام في فروع هذه المسألة يطول؛ " وفي " في القتلى للسبب كقوله صلى الله عليه وسلم " أن امرأة دخلت النار في هرة أي بسببها " وفعلى يطرد جمعاً لفعيل بمعنى مفعول.

ص: 352

(الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن الحر لا يقتل بالعبد وهم الجمهور، وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى وداود إلى أنه يقتل به إذا كان غير سيده، وأما سيده فلا يقتل به إجماعاً إلا ما روي عن النخعي، فليس مذهب أبي حنيفة ومن معه على الإطلاق ذكره الشوكاني في شرح المنتقي، قال القرطبي: وروي ذلك عن علي وابن مسعود وبه قال سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم بن عتبة، واستدلوا بقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) وأجاب الأولون عن هذا الاستدلال بأن قوله الحر بالحر والعبد بالعبد مفسر لقوله تعالى (النفس بالنفس) وقالوا أيضاً أن قوله (وكتبنا عليهم فيها) يفيد أن ذلك حكاية عما شرعه الله لبني إسرائيل في التوراة.

ومن جملة ما استدل به الآخرون قوله صلى الله عليه وسلم " المسلمون تتكافأ دماؤهم " ويجاب عنه بأنه مجمل، والآية مبينة ولكنه يقال أن قوله تعالى (الحر بالحر والعبد بالعبد) إنما أفاد بمنطوقه أن الحر يقتل بالحر والعبد يقتل بالعبد، وليس فيه ما يدل على أن الحر لا يقتل بالعبد إلا باعتبار المفهوم، فمن أخذ بمثل هذا المفهوم لزمه القول به هنا، ومن لم يأخذ بمثل هذا المفهوم لم يلزمه القول به هنا، والبحث في هذا محرر في علم الأصول.

وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن المسلم يقتل بالكافر، وهم الكوفيون والثوري لأن الحر يتناول الكافر كما يتناول المسلم، وكذا العبد والأنثى يتناولان الكافر كما يتناولان السلم، واستدلوا أيضاً بقوله تعالى (أن النفس بالنفس) لأن النفس تصدق على النفس الكافرة كما تصدق على النفس المسلمة، وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل المسلم بالكافر، واستدلوا بما ورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " لا يقتل مسلم بكافر "(1) وهو مبين لما يراد في

(1) أحمد/1/ 79 - 2/ 178 وبرواية لا يقتل مؤمن بكافر 2/ 180.

ص: 353

الآيتين، وهذه الآية مع الأحاديث الواردة في ذلك حجة على أصحاب الرأي، والبحث في هذا يطول.

واستدل بهذه الآية القائلون بأن الذكر لا يقتل بالأنثى، وقرروا الدلالة على ذلك بمثل ما سبق إلا إذا سلم أولياء المرأة الزيادة على ديتها من دية الرجل، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحق والثوري وأبو ثور، وذهب الجمهور إلى أنه يقتل الرجل بالمرأة ولا زيادة وهو الحق، وقد بسط الشوكاني البحث في نيل الأوطار فليرجع إليه.

(فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان)(من) هنا عبارة عن القاتل أو الجاني والمراد بالأخ المقتول أو الولي، والشيء عبارة عن الدم، والمعنى أن القاتل والجاني إذا عفي له من جهة المجنى عليه أو الولي دم أصابه منه على أن يأخذ منه شيئاً من الدية أو الأرش فليتبع المجنى عليه أو الولي من عليه الدم فيما يأخذه منه من ذلك اتباعاً بالمعروف وليؤد الجاني ما لزمه من الدية أو الأرش إلى المجنى عليه أو إلى الولي أداء بإحسان، وقيل أن (من) عبارة عن الولي، والأخ يراد به القاتل، والشيء الدية، والمعنى أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص إلى مقابل الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه للقصاص كما روي عن مالك أنه يثبت الخيار للقاتل في ذلك، وذهب من عداه إلى أنه لا يخير بل إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل، بل يلزمه تسليمها.

وقيل معنى عفي بذل أي من بذل له شيء من الدية فليقبل وليتبع بالمعروف، وقيل أن المراد بذلك أن من فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من الديات، فيكون عفي بمعنى فضل، وعلى جميع التقادير فتنكير شيء للتقليل فيتناول العفو من الشيء اليسير من الدية، والعفو الصادر عن فرد من أفراد الورثة.

وفي الآية دليل على أن القاتل لا يصير كافراً وأن الفاسق مؤمن لأن الله

ص: 354

تعالى خاطبه بعد القتل بالإيمان وسماه مؤمناً حال ما وجب عليه من القصاص، وقتل العمد والعدوان من الكبائر بالإجماع، فدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن، وأنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وولي الدم وأراد بها أخوة الإيمان، فلولا أن الإيمان باق على القاتل لم تثبت له الأخوة، وأيضاً ندب إلى العفو عن القاتل والعفو لا يليق إلا عن المؤمن لا عن الكافر.

(ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) إشارة إلى العفو والدية أي أن الله شرع لهذه الأمة العفو من غير عوض، أو بعوض، ولم يضيق عليهم كما ضيق على اليهود، فإنه أوجب عليهم القصاص ولا عفو، وكما ضيق على النصارى فإنه أوجب عليهم العفو ولادية، وفيه تضييق على كل من الوارث والقاتل، فهذا تخفيف مما كتب على من كان قبلكم.

(فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) أي بعد التخفيف نحو أن يأخذ الدية ثم يقتل القاتل أو يعفو ثم يستقص.

وقد اختلف أهل العلم فيمن قتل القاتل بعد أخذ الدية فقال جماعة منهم مالك والشافعي أنه كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه، وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: عذابه أن يقتل البتة ولا يمكن الحاكم الولي من العفو، وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة، وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى.

وأخرج عبد الرازق وابن أبي شيبة وأحمد وابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث إما أن يقتص وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالداً فيها أبداً "(1) وعن قتادة

(1) ضعيف الجامع الصغير 5441.

ص: 355

قال ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذ الدية " أخرجه (1) ابن جرير وابن المنذر.

وأخرج سمويه في فوائده عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثله، والعذاب الأليم قيل هو عذاب الآخرة وقيل هو أن يقتل قصاصاً ولا تقبل منه دية ولا يعفى عنه، والأول أظهر وأولى، ويدل له الحديث المتقدم.

(1) أبو داود كتاب الديات الباب 5 - أحمد بن حنبل 2/ 262.

ص: 356

(ولكم في القصاص حياة) خطاب لمريدي القتل ظلماً، وقال أبو السعود: بيان لمحاسن الحكم المذكور على وجه بديع لا تنال غايته حيث جعل الشيء وهو القصاص محلاً لضده وهو الحياة، ونكر الحياة ليدل على أن في هذا الجنس نوعاً من الحياة عظيماً لا يبلغه الوصف، وذلك لأنهم كانوا يقتلون الجماعة بالواحد فتنشر الفتنة بينهم، ففي شرع القصاص سلامة من هذا كله (1)، والمعنى ولكم في هذا الحكم الذي شرعه الله بقاء وحياة لأن الرجل إذا علم أنه

(1) عن مسلم بن يزيد أحد بني سعد بن بكر أنه سمع أبا شريح الخزاعي ثم الكعبي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في قتال بني بكر حتى أصبنا منهم ثأرنا وهو بمكة ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نوافع السيف فلقي رهط منا الغد رجلاً من هذيل في الحرم يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم كي يسلم وكان قد وترهم في الجاهلية وكانوا يطلبونه فقتلوه وبادروا أن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً والله ما رأيته غضب غضباً أشد منة فسعينا إلى أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم نستشفعهم وخشينا أن نكون قد هلكنا فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قام فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله ثم قال أما بعد فإن الله عز وجل هو حرم مكة ولم يحرمها الناس وإنما أحلها لي ساعة من النهار أمس وهي اليوم حرام كما حرمها الله عز وجل أوّل مرة وأن أغنى الناس على الله عز وجل ثلاثة رجل قتل فيها ورجل قتل غير قاتله ورجل طلب بذحل في الجاهلية وإني والله لأديّن هذا الرجل الذي قتلتم فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 356

يقتل قصاصاً إذا قتل آخر كف عن القتل وانزجر عن التسرع إليه، والوقوع فيه، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية.

وهذا نوع من البلاغة بليغ، وجنس من الفصاحة رفيع، فإنه جعل القصاص الذي هو موت، حياة باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضاً إبقاء على أنفسهم واستدامة لحياتهم، وقيل إن الحياة سلامة من القصاص في الآخرة فإنه إذا اقتص في الدنيا لم يقتص عنه في الآخرة والأول أولى.

وقال الخازن: هذا الحكم غير مختص القصاص الذي هو القتل، بل يدخل فيه جميع الجروح والشجاج وغير ذلك، وقرأ أبو الجوزاء (ولكم في القصص حياة) أي فيما قص عليكم من حكم القتل حياة أو في كتاب الله أي نجاة وقيل أراد حياة القلوب، وقيل هو مصدر بمعنى القصاص. والكل ضعيف والقراءة به منكرة (يا أولي الألباب) أي ذوي العقول الكاملة، جعل هذا الخطاب موجهاً إلى أولي الألباب وناداهم للتأمل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب، ويتحامون ما فيه الضرر الآجل، وأما من كان مصاباً بالحمق والطيش والخفة فإنه لا ينظر عند سورة غضبه وغليان مراجل طيشه إلى عاقبة، ولا يفكر في أمر مستقبل، والألباب جمع لب، وهو العقل الخالي من الهوى، سمي بذلك لأحد وجهين إما لبنائه من لب بالمكان أقام به وإما من اللباب وهو الخالص.

ثم علل سبحانه هذا الحكم الذي شرعه لعباده بقوله (لعلكم تتقون) أي تعملون عمل أهل التقوى، وتتحامون القتل بالمحافظة على القصاص والحكم به والإذعان له، فيكون ذلك سبباً للتقوى.

ص: 357