الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ
(204)
(ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) أي يروقك وتستحسنه ويعظم في قلبك حلاوة كلامه مما يتعلق بأمر الدنيا، والإعجاب استحسان الشيء والميل إليه والتعظيم له.
وقال الراغب: العجب حيرة تعرض للإنسان بسبب الشيء، وليس هو شيئاً له في ذاته حالة حقيقية بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السبب ومن لا يعرفه، وحقيقة أعجبني كذا ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه انتهى.
لما ذكر سبحانه طائفتي المسلمين بقوله (ومن الناس من يقول) عقب ذلك بذكر طائفة المنافقين وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وقيل إنها نزلت في قوم من المنافقين، وقيل إنها نزلت في كل من أضمر كفراً أو نفاقاً أو كذباً وأظهر بلسانه خلافه.
(ويشهد الله على ما في قلبه) أي أنه يحلف على ذلك فيقول إني بك مؤمن ولك محب أو يقول الله يعلم أني أقول حقاً وأني صادق في قولي لك، أو أن ما في قلبي موافق لقولي (وهو ألد الخصام) أي شديد الخصومة يقال رجل ألد، وامرأة لداء، والخصام مصدر خاصم قاله الخليل؛ وقيل جمع خصيم قاله الزجاج.
والمعنى أنه أشد المخاصمين خصومة لكثرة جداله وقوة مراجعته، والإضافة بمعنى في، أي ألد في الخصام أو جعل الخصام ألد على المبالغة أي شديد الجدال في الباطل؛ وهو كاذب القول؛ وقيل شديد القسوة في المعصية يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة؛ وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم (1)؛ أخرجه البخاري ومسلم.
(1) صحيح الجامع الصغير 39.
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
(وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها) أي إذا أدبر وذهب عنك يا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل أنه ضل وغضب، وقيل أنه بمعنى الولاية أي إذا كان والياً بفعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض، والسعي يحتمل أن يكون المراد به السعي بالقدمين إلى ما هو فساد في الأرض كقطع الطريق وقطع الأرحام وحرب المسلمين وسفك دمائهم، ويحتمل أن يكون المراد به العمل في الفساد وإن لم يكن فيه سعي بالقدمين كالتدبير على المسلمين بما يضرهم وأعمال الحيل عليهم؛ وكل عمل يعمله الإنسان بجوارحه أو حواسه يقال له سعي وهذا هو الظاهر من هذه الآية.
(ويهلك الحرث والنسل) من عطف الخاص على العام فإن الفساد أعم من ذلك فيشمل سفك الدماء ونهب الأموال وغير ذلك، والمراد بالحرث الزرع والنسل الأولاد، وقيل الحرث النساء، قال الزجاج: وذلك لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة ووقوع القتال وفيه هلاك النسل.
وقال مجاهد: الحرث نبات الأرض، والنسل نسل كل شيء من الحيوان الناس والدواب، وعنه أيضاً قال: معنى الآية يلي في الأرض فيعمل فيها بالعدوان والظلم فيحبس الله بذلك القطر من السماء فيهلك بحبس القطر الحرث والنسل.
وقال ابن عباس: نسل كل دابة، وأصل الحرث في اللغة الشق ومنه المحراث لما يشق به الأرض، والحرث كسب المال وجمعه، وأصل النسل في اللغة الخروج والسقوط ومنه نسل الشعر، ومنه (أيضاً إلى ربهم ينسلون)، (ومن
كل حدب ينسلون)، ويقال لما خرج من كل أنثى نسل لخروجه منها.
(والله لا يحب الفساد) يشمل كل نوع من أنواعه من غير فرق بين ما فيه فساد الدين وما فيه فساد الدنيا، واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن المحبة عبارة عن الإرادة، وأجيب عنه بأن الإرادة معنى غير المحبة فإن الإنسان قد يريد شيئاً ولا يحبه كالدواء المر يتناوله ولا يحبه، فبان الفرق بينهما، وقيل أن المحبة مدح الشيء وتعظيمه، والإرادة بخلاف ذلك.
(وإذا قيل له) أي على سبيل النصيحة وهي مستأنفة أو معطوفة على يعجبك (اتق الله) أي خف الله في سرك وعلانيتك (أخذته العزة بالإثم العزة القوة والغلبة، من عزه يعزه إذا غلبه ومنه (وعزني في الخطاب) وقيل العزة هنا الحمية والأنفة وقيل المنعة وشدة النفس.
والمعنى حملته العزة على فعل الإثم، من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه وألزمته إياه، قاله الزمخشري، وقيل أخذته العزة بما يؤثمه أي ارتكب الكفر للعزة، ومنه (بل الذين كفروا في عزة وشقاق) وقيل الباء في قوله بالإثم بمعنى اللام أي أخذته الحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه وهو النفاق، وقيل الباء بمعنى مع أي أخذته العزة مع الإثم، وقيل للسببية أي إن إثمه كان سبباً لأخذ العزة له.
وفي هذه الآية التتميم، وهو نوع من علم البديع وهو عبارة عن إرداف الكلمة بأخرى ترفع عنها اللبس وتقربها إلى الفهم، وذلك أن العزة تكون محمودة ومذمومة، فمن مجيئها محمودة قوله تعالى (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) فلو أطلقت لتوهم فيها بعض من لا دراية له أنها المحمودة فقيل (بالإثم) توضيحاً للمراد، فرفع اللبس به، قاله السمين.
قال ابن مسعود: إن من أكبر الذنوب عند الله أن يقول الرجل لأخيه اتق الله فيقول عليك بنفسك أنت تأمرني، وعن سفيان قال: قال رجل لمالك ابن مغول اتق الله فسقط فوضع خده على الأرض تواضعاً لله.
(فحسبه جهنم) أي كافيه معاقبة وجزاء كما تقول للرجال كفاك ما حل بك، وأنت تستعظم عليه ما حل به وحسب اسم فاعل، وقيل اسم فعل (ولبئس المهاد) جمع المهد وهو الموضع المهيأ للنوم ومنه مهد الصبي، وقيل اسم مفرد سمى به الفراش الموطأ للنوم وسميت جهنم مهاداً لأنها مستقر الكفار، وقيل المعنى أنها بدل لهم من المهاد كقوله (فبشرهم بعذاب أليم) وقال مجاهد: بئسما مهدوا لأنفسهم، وقال ابن عباس: بئس المنزل وهذا من باب التهكم والاستهزاء.
(ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) يشري بمعنى يبيع أي يبيع نفسه في مرضاة الله كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال قتادة: هم المهاجرون والأنصار، ومثله قوله تعالى (وشروه بثمن بخس) وأصله الاستبدال ومنه قوله (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) والمرضاة الرضا، قال ابن عباس: نزلت في سرية الرجيع وكانت بعد أحد، وفي البخاري تمام قصته عن حديث أبي هريرة فإن شئت فارجع إليه.
(والله رؤوف بالعباد) وجه ذكر الرأفة هنا أنه أوجب عليهم ما أوجبه ليجازيهم ويثيبهم عليه، فكان ذلك رأفة لهم ولطفاً بهم، ومن رأفته أن جعل النعيم الدائم في الجنة جزاء على العمل القليل المنقطع، ومن رأفته أنه يقبل توبة عبده وأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، وأن المصر على الكفر ولو مائة سنة إذا تاب ولو لحظة أسقط عنه عقاب تلك السنين وأعطاه الثواب الدائم.
ومن رأفته أن نفس العباد وأموالهم له ثم أنه يشتري ملكه بملكه فضلاً منه ورحمة وإحساناً.
وهذه أربعة أقسام اشتملت عليها تلك الآيات الكريمات أولها راغب في الدنيا فقط ظاهراً وباطناً، والثاني راغب فيها وفي الآخرة كذلك، والثالث راغب في الآخرة وفي الدنيا باطناً، والرابع راغب في الآخرة ظاهراً وباطناً معرض عن الدنيا كذلك.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) لما ذكر سبحانه أن الناس ينقسمون إلى ثلاث طوائف مؤمنين وكافرين ومنافقين، أمرهم بعد ذلك ما يكون على ملة واحدة، وإنما أطلق على الثلاث الطوائف لفظ الإيمان لأن أهل الكتاب مؤمنون بنبيهم وكتابهم، والمنافق مؤمن بلسانه وإن كان غير مؤمن بقلبه، والسلم بفتح السين وكسرها، قال الكسائي: معناهما واحد، وكذا عند البصريين وهما جميعاً يقعان للإسلام والمسالمة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: أنه بالفتح للمسالمة وبالكسر للإسلام، وأنكر البرد هذه التفرقة.
وقال الجوهري: السلم بفتح السين ويكسر ويذكر ويؤنث أصله من الاستسلام والانقياد، ورجح الطبري أنه هنا بمعنى الإسلام، وقد حكى البصريون في سلم وسلم أنها بمعنى واحد، (وكافة) حال من السلم أو من ضمير المؤمنين فمعناه على الأول لا يخرج منكم أحد، وعلى الثاني لا يخرج من أنواع السلم شيء بل ادخلوا فيها جميعا أي في خصال الإسلام، وهو مشتق من قولهم كففت أي منعت أي لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام، والكف المنع، والمراد به هنا الجميع.
(ولا تتبعوا خطوات الشيطان) أي لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم إليها الشيطان، وقيل لا تلتفتوا إلى الشبهات التي تلقيها إليكم أصحاب الضلاله والغواية والأهواء المضلة لأن من تبع سنة إنسان فقد اتبع أثره، وقد
تقدم الكلام على خطوات.
(إنه لكم عدو مبين) يعني الشيطان وأنه يحاول إيصال الضرر والبلاء إلينا، وأن الله بيَّن عداوته ما هي، فكأنه مبين وإن لم يشاهد، وهذا البيان بالنسبة لمن أنار الله قلبه، وأما غيره فهو حليف له.
(فإن زللتم) أي تنحيتم عن طريق الاستقامة، وأصل الزلل في القدم ثم استعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك، يقال زل يزل زلاً، وزلولاً أي دحضت قدمه، والمعنى فإن ملتم وضللتم وأشركتم وعرجتم عن الحق.
(من بعد ما جاءتكم البينات) أي بالحجج الواضحة والبراهين الصحيحة على أن الدخول في الإسلام هو الحق (فاعلموا أن الله عزيز) غالب لا يعجزه شيء عن الانتقام (حكيم) لا ينتقم إلا لحق، وفي الآية وعيد وتهديد لمن في قلبه شك ونفاق أو عنده شبهة في الدين. (1)
(1) حكى النقاش أن كعب الأحبار لما أسلم كان يتعلم القرآن. فأقرأه الذي كان يعلمه (فاعلموا أن الله غفور رحيم).
فقال كعب: إني لأستنكر أن يكون هكذا.
ومر بهما رجل فقال كعب: كيف تقرأ هذه الآية.
فقال الرجل: (فاعلموا أن الله عزيز حكيم).
فقال كعب: هكذا ينبغي.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
(هل ينظرون) استفهام إنكاري أي ينتظرون يقال نظرته وانتظرته بمعنى، والمراد هل ينتظر الزالون التاركون للدخول في الإسلام والمتبعون خطوات الشيطان، فهو التفات إلى الغيبة للإيذان بأن سوء صنيعهم موجب للإعراض عنهم، وحكاية جنايتهم لما عداهم من أهل الإنصاف على طريق الإهانة.
(إلا أن يأتيهم الله) بما وعدهم من الحساب والعذاب، استثناء مفرغ من مقدر أي ليس لهم شيء ينتظرونه إلا إتيان العذاب، وهذا مبالغة في توبيخهم (في ظلل) جمع ظلة وهي ما يظلك، وقال الأخفش: وقد يحتمل أن يكون معنى الإتيان راجعاً إلى الجزاء فسمى الجزاء إتياناً كما سمى التخويف والتعذيب في قصة ثمود إتياناً فقال (فأتى الله بنيانهم من القواعد) وقال في قصة النضير (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا).
وإنما احتمل الإتيان هذا لأن أصله عند أهل اللغة القصد إلى الشيء، فمعنى الآية هل ينظرون إلا أن يظهر الله فعلاً من الأفعال مع خلق من خلقه يقصد إلى محاربتهم وقيل أن المعنى يأتيهم أمر الله وحكمه، وقيل أن قوله (في ظلل) بمعنى بظلل، وقيل المعنى يأتيهم ببأسه في ظلل.
(من الغمام) يعني السحاب الرقيق الأبيض، سمي بذلك لأنه يغم أي يستر، ووجه إتيان العذاب في الغمام على تقدير أن ذلك هو المراد ما في مجيء الخوف من محل الأمن من الفظاعة وعظم الموقع، لأن الغمام مظنة الرحمة لا مظنة العذاب، وهذا أبلغ في تبكيتهم وتخويفهم.
أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياماً شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل القضاء، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي (1) ".
وعن ابن عمر قال: يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتاً تنخلع له القلوب.
وعن ابن عباس: يأتي الله يوم القيامة في ظلل من السحاب قد قطعت طاقات.
والتقدير في ظلل كائنة من الغمام، " ومن " على هذا للتبعيض أو من ناحية الغمام، وهي على هذا لابتداء الغاية.
(والملائكة) أي وتأتيهم الملائكة فإنهم وسائط في إتيان أمره تعالى بل هم الآتون ببأسه على الحقيقة، وقرىء بالجر عطفاً على ظلل أو على الغمام فتوصف الملائكة بكونها ظللاً على التشبيه، وقال عكرمة: والملائكة حوله، وقيل حول الغمام، وقيل حول الرب تعالى.
وهذه من آيات الصفات وللعلماء فيها وفي أحاديث الصفات مذهبان:
(1) أبو داود كتاب الصلاة باب 163.
أحدهما الإيمان والتسليم لما جاء في آيات الصفات وأحاديثها ووجوب الاعتقاد بظاهرها والإيمان بها كما جاءت، وإحالة علمها إلى الله تعالى، مع تنزيهه سبحانه عن التشبيه والتمثيل والتحريف والتبديل والتعطيل، وهو قول سلف هذه الأمة وأئمتها، قال الكلبي: هذا من الذي لا يفسر، وكان ابن عُيَينة والزهري والأوزاير ومالك وابن المبارك والثوري والليث بن سعد وأحمد ابن حنبل وإسحق بن راهويه يقولون في هذه الآية وأمثالها اقرؤها كما جاءت بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل ولا تعطيل، هذا مذهب أعلام أهل السنة ومعتقد سلف الأمة، وأنشد بعضهم في المعنى.
عقيدتنا أن ليس مثل صفاته
…
ولا ذاته شيء، عقيدة صائب
نسلم آيات الصفات بأسرها
…
وإجراءها للظاهر المتقارب
ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا
…
وتأويلنا فعل اللبيب المغالب
ونركب للتسليم سفناً فإنها
…
لتسليم دين المرء خير المراكب
(والثاني) التأويل لها بما يناسب تنزيهه سبحانه وتعالى عندهم وهو قول جمهور علماء المتكلمين وأصحاب النظر كما قالوا في هذه الآية مجيء الله هو مجيء الآيات أو مجيء أمر الله أو عذاب الله، فأنكروا إمرار الصفات على ظاهرها وإجرائها على ما أراد الله، وهذا خلاف ما عليه سلف الأمة وأئمتها، وقد أوضحنا ذلك في كتابينا الانتقاد الرجيح وبغية الرائد بما لا يحتاج الناظر فيهما إلى غيرهما.
(وقضي الأمر) عطف على يأتيهم داخل في حيز الانتظار، وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على تحققه فكأنه قد كان، أو جملة مستأنفة جيء بها للدلاله على أن مضمونها واقع لا محالة أي وفرغ من الأمر الذي هو إهلاكهم، قال عكرمة: قضي الأمر أي قامت الساعة.
(وإلى الله ترجع الأمور) أي أمور العباد في الآخرة لا إلى غيره، والمراد
من هذا إعلام الخلق أنه المجزي على الأعمال بالثواب والعقاب.
(سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة) المأمور بالسؤال هو النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون هو كل فرد من السائلين، وهو سؤال تقريع وتوبيخ، والمسؤول عنهم يهود المدينة، وكم إما استفهامية للتقرير أو خبرية للتكثير، والآية هي البراهين التي جاء بها أنبياؤهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل المراد بذلك الآيات التي جاء بها موسى وهي تسع، قال أبو العالية: آتاهم الله آيات بينات عصا موسى ويده وأقطعهم البحر، وأغرق عدوهم وهم ينظرون وظللاً من الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى.
(ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته) المراد بالنعمة هنا ما جاءهم من الآيات، وقال ابن جرير الطبري: النعمة هنا الإسلام، والظاهر دخول كل نعمة أنعم الله بها على كل عبد من عباده كائناً من كان، فوقع منه التبديل لها، وعدم القيام بشكرها.
ولا ينافي ذلك كون السياق في بني إسرائيل، أو كونهم السبب في النزول، لما تقرر من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (فإن الله شديد العقاب) فيه من الترهيب والتخويف ما لا يقادر قدره.
(زين للذين كفروا الحياة الدنيا) المزين هو الشيطان بأن وسوس لهم ومناهم الأماني الكاذبة، وذلك حقيقة كما قال السعد التفتازاني وجيء به ماضياً دلالة على أن ذلك وقع وفرغ منه، أو المزين الأنفس المجبولة على حب العاجلة، وزين مبني للمجهول.
وقرىء بفتح الزاء والمزين هو الله بأن خلق الأشياء العجيبة ومكنهم منها إذ ما من شيء إلا وهو خالقه وعلى هذا المسند والإسناد مجاز لأن خذلانه إياهم
صار سبباً لاستحسانهم الحياة الدنيا وتزيينها في أعينهم.
والمراد بالذين كفروا رؤساء قريش أو كل كافر، وإنما خص الكفار بالذكر مع كون الدنيا مزينة للمسلم والكافر كما وصف سبحانه بأنه جعل ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملاً، لأن الكافر افتتن بهذا التزيين وأعرض عن الآخرة، والسلم لم يفتتن به بل أقبل على الآخرة والمعنى حسنت في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وتهافتوا فيها معرضين عن غيرها.
(ويسخرون من الذين آمنوا) أي والحال أن أولئك الكفار يسخرون من المؤمنين لكونهم فقراء لا حظ لهم من الدنيا كحظ رؤساء الكفار وأساطين الضلال، وذلك لأن عرض الدنيا عندهم هو الأمر الذي يكون من ناله سعيداً رابحاً ومن حرمه شقياً خاسراً، وقد كان غالب المؤمنين إذ ذاك فقراء لاشتغالهم بالعبادة وأمر الآخرة وعدم التفاتهم إلى الدنيا وزينتها.
وحكى الأخفش أنه يقال سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه وضحكت به، والاسم السخرية والسخرى، وجيء به مضارعاً دلالة على التجدد والحدوث.
ولما وقع من الكفار ما وقع من السخرية بالمؤمنين رد الله عليهم بقوله (والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة) والمراد بالفوقية هنا العلو في الدرجة لأنهم في الجنة، والكفار في النار، ويحتمل أن يراد بالفوق المكان لأن الجنة في السماء والنار في أسفل سافلين. أو أن المؤمنين هم الغالبون في الدنيا كما وقع ذلك من ظهور الإسلام وسقوط الكفر وقتل أهله وأسرهم وتشريدهم، وضرب الجزية عليهم، ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك لولا التقييد بكونه في يوم القيامة.
وفيه دلالة على أن فوقيتهم من أجل التقوى. وفيه تحريضهم على
الإتصاف به إذا سمعوا ذلك، أو للإيذان بأن إعراضهم عن الدنيا للإتقاء عنها لكونها شاغلة عن جانب القدس.
عن حارثة بن وهب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عُتُلٍّ جواظ جعظري مستكبر (1) " أخرجه الشيخان.
وعن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء "، أخرجه البخاري ومسلم.
(والله يرزق من يشاء بغير حساب) يحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن الله سبحانه سيرزق المستضعفين من المؤمنين ويوسع عليهم، ويجعل ما يعطيهم من الرزق بغير حساب أي بغير تقدير، لأن ما يدخل عليه الحساب فهو قليل، ويحتمل أن المعنى أن الله يوسع على بعض عباده في الرزق كما وسع على أولئك الرؤساء من الكفار استدراجاً لهم، وليس في التوسعة دليل على أن من وسع عليه فقد رضي عنه، ويحتمل أن يراد بغير حساب من المرزوقين كما قال تعالى (ويرزقه من حيث لا يحتسب).
وقال ابن عباس في تفسيرها: ليس على الله رقيب ولا من يحاسبه، وقال سعيد بن جبير: لا يحاسب الرب، وقيل يرزقه في الدنيا ولا يحاسبه في الآخرة، وقيل يرزقه بغير استحقاق، وقيل لا يخاف نفاد ما في خزائنه حتى يحتاج إلى حساب. وقيل لا يعطي كل واحد على قدر حاجته بل يعطي الكثير لمن لا يحتاج إليه، وقيل غير ذلك.
(1) مسلم 2853 - البخاري 2065.