المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ١

[صديق حسن خان]

الفصل: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‌

(213)

(كان الناس أمة واحدة) أي كانوا متفقين على دين واحد، وهو الإسلام فاختلفوا، واختلف في الناس فقيل هم بنو آدم حين أخرجهم الله نسماً من ظهر آدم.

عن أبيّ بن كعب قال: كانوا أمة واحدة حين عرضوا على آدم ففطرهم على الإسلام وأقروا بالعبودية وكانوا مسلمين، ثم اختلفوا من بعد آدم، وقيل آدم وحده قاله مجاهد، وسمى ناساً لأنه أصل النسل، وقيل آدم وحواء وقيل المراد القرون الأولى التي كانت بين آدم ونوح، وهي عشرة قرون. كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، قاله ابن عباس، وقيل المراد نوح ومن في سفينته، وقيل أن العرب كانت على دين إبراهيم إلى أن غيره عمرو بن لحي.

وقيل كانوا من حين وفاة آدم إلى زمان نوح على الكفر والباطل بدليل قوله (فبعث الله النبيين) والحكم للغالب، والأول أولى قال أبو السعود: وهو الأنسب بالنظم الكريم، وقيل ليس في الآية ما يدل على أنهم كانوا على إيمان أو كفر فهو موقوف على دليل من خارج، وقيل المراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق لولا أن الله من عليهم بإرسال الرسل، والأمة مأخوذة من قولهم أممت الشيء أي قصدته أي مقصدهم واحد غير مختلف.

(فبعث الله النبيين) قيل الأنبياء جملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر، المذكور منهم في القرآن بأسماء الأعلام

ص: 427

ثمانية وعشرون نبياً، والله أعلم.

(مبشرين) بالثواب لمن آمن وأطاع (ومنذرين) بالعقاب لمن كفر وعصى (وأنزل معهم الكتاب) أي الجنس، وقيل المراد به التوراة أو أنزل مع كل واحد الكتاب، وجملة الكتب المنزلة من السماء مائة وأربعة كتب كما قيل (بالحق) أي الصدق والعدل، والمراد هنا الحكم والفوائد والمصالح (ليحكم بين الناس) مسند إلى الكتاب في قول الجمهور، وهو مجاز مثل قوله تعالى (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) وقيل أن المعنى ليحكم كل نبي بكتابه، وقيل ليحكم الله (فيما اختلفوا فيه) أي في الحق الذي اختلفوا فيه من بعد ما كانوا متفقين عليه، وقيل الضمير في (فيه) راجع إلى ما في قوله (فيما).

والضمير في قوله (وما اختلف فيه) يحتمل أن يعود إلى الكتاب ويحتمل أن يعود إلى المنزل عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الزجاج، ويحتمل أن يعود إلى الحق (إلا الذين أوتوه) أي أوتوا الكتاب أو أوتوا الحق، أو أوتوا النبي صلى الله عليه وسلم أي أعطوا علمه (من بعد ما جاءتهم البينات) أي الدلالات الواضحات على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو الحجج الظاهرة على التوحيد (بغياً بينهم) أي لم يختلفوا إلا للبغي أي الحسد والحرص على الدنيا وطلب ملكها وزخرفها أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس، وفي هذا تنبيه على الصفة في فعلهم القبيح الذي وقعوا فيه لأنهم جعلوا نزول الكتاب سبباً في شدة الخلاف.

(فهدى الله الذين آمنوا) أي أمة محمد- صلى الله عليه وسلم (لما اختلفوا فيه من الحق) أي إلى الحق، و " من " للبيان أو للتبعيض، وذلك لما بين لهم في القرآن من اختلاف من كان قبلهم، وقيل معناه فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للتصديق بجميع الكتب بخلاف من قبلهم، فإن بعضهم كذب كتاب بعض، وقيل أن الله هداهم إلى الحق من القبلة، وقيل هداهم ليوم الجمعة، وقيل هداهم لاعتقاد الحق في عيسى بعد أن كذبته اليهود، وجعلته النصارى رباً، وقيل المراد بالحق الإسلام.

ص: 428

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

وقال الفراء: إن في الآية قلباً وتقديره فهدى الذين آمنوا بالحق لما اختلفوا فيه، واختاره ابن جرير وضعفه ابن عطية (بإذنه) قال الزجاج: معناه بعلمه، وقال النحاس: هذا غلط، والمعنى بأمره وإرادته (والله يهدي من يشاء) من عباده (إلى صراط مستقيم) أي طريق سوي.

ص: 429

(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) أم هنا منقطعة بمعنى بل، وحكى بعض اللغويين أنها قد تجيء بمثابة همزة الاستفهام يبتدأ بها الكلام، فعلى هذا معنى الاستفهام هنا التقرير والإنكار أي أحسبتم دخولكم الجنة واقعاً، والغرض من هذا التوبيخ تشجيعهم على الصبر وحثهم عليه، وحسب هنا من أخوات ظن، وقد تستعمل في اليقين.

(ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) الواو للحال، ولما بمعنى لم أي والحال أنكم لم يأتكم مثلهم بعد، ولم تبتلوا بما ابتلوا به من الأحوال الهائلة التي هي مثل في الفظاعة والشدة وهو متوقع منتظر، ولم تمتحنوا بمثل ما امتحن به من كان قبلكم فتصبروا كما صبروا.

ذكر الله سبحانه هذه التسلية بعد أن ذكر اختلاف الأمم على أنبيائهم تثبيتاً للمؤمنين وتقوية لقلوبهم، ومثل هذه الآية قوله (أم حسبتم أن تدخلوا

ص: 429

الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) وقوله (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون).

(مستهم) استئناف بيان لقوله (مثل الذين خلوا)(البأساء والضراء) قد تقدم تفسيرهما (وزلزلوا) الزلزلة شدة التحريك تكون في الأشخاص وفي الأقوال، يقال زلزل الله الأرض زلزلة وزلزالاً بالكسر فتزلزلت أي تحركت واضطربت، فمعنى زلزلوا خوفوا وأزعجوا إزعاجاً شديداً، وحركوا بأنواع البلايا والرزايا، وقال الزجاج: الزلزلة نقل الشيء من مكانه، فإذا قلت زلزلته فمعناه كررت زلله من مكانه.

(حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه) أي استمر ذلك إلى غاية هي قول الرسول ومن معه أي صاحبوه في الإيمان، وحتى بمعنى إلى، وأن مضمرة أي إلى أن يقول، وهي غاية لما تقدم من المس والزلزال وذلك لأن الرسل أثبت من غيرهم وأصبر، وأضبط للنفس عند نزول البلايا وكذلك أتباعهم من المؤمنين.

(متى نصر الله) متى ظرف زمان لا ينصرف إلا بجره بحرف والرسول هنا قيل هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل شعياء: وقيل هو كل رسول بعث إلى أمته.

وقالت طائفة: في الكلام تقديم وتأخير أي حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله، ويقول الرسول ألا إن نصر الله قريب.

ولا ملجىء لهذا التكلف لأن قول الرسول ومن معه (متى نصر الله) ليس فيه إلا استعجال النصر من الله سبحانه، وليس فيه ما زعموه من الشك والإرتياب حتى يحتاج إلى ذلك التأويل المتعسف.

قال قتادة: نزلت هذه الآية في يوم الأحزاب وهي غزوة الخندق أصاب

ص: 430

النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ وأصحابه بلاء وحصر، وقيل نزلت في غزوة أحد، وقيل غير

ذلك.

وقال ابن عباس: أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء وأنه مبتليهم فيها، وأخبرهم أنه هكذا فعل بأنبيائه وصفوته لتطيب أنفسهم، والمعنى أنه بلغ بهم الجهد والشدة والبلاء ولم يبق لهم صبر، وذلك هو الغاية القصوى في الشدة، فلما بلغ الحال في الشدة إلى هذه الغاية واستبطؤوا النصر قيل لهم.

(ألا إن نصر الله قريب) إجابة لهم في طلبهم، والمعنى هكذا كان حالهم لم يغيرهم طول البلاء والشدة عن دينهم إلى أن يأتيهم نصر الله، فكونوا يا معشر المسلمين كذلك، وتحملوا الأذى والشدة والمشقة في طلب الحق، فإن نصره سبحانه قريب إتيانه لا بعيد، وفيه إشارة إلى أن المراد بالقرب القرب الزماني، وفي إيثار الجملة الاسمية على الفعلية المناسبة لما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه والتأكيد من الدلالة على تحقق مضمونها وتقرر ما لا يخفى.

ص: 431

(يسئلونك ماذا ينفقون) السائلون هنا هم المؤمنون، سألوا عن الشيء الذي ينفقونه ما هو أي ما قدره وما جنسه (قل ما أنفقتم من خير) إلى آخره فأجيبوا ببيان المصرف الذي يصرفون فيه تنبيهاً على أنه الأولى بالقصد لأن الشيء لا يعتد به إلا إذا وضع في موضعه وصادف مصرفه، وقيل أنه قد تضمن الآية بيان ما ينفقونه وهو كل خير، وقيل إنما سألوا عن وجوه البر التي ينفقون فيها وهو خلاف الظاهر " وما " شرطية، وقيل موصولة والأول أولى لتوافق ما بعدها.

(فللوالدين) قدمهما لوجوب حقهما على الولد لأنهما السبب في وجوده (والأقربين) قدمهم لأن الإنسان لا يقدر أن يقوم بمصالح جميع الفقراء فتقديم القرابة أولى من غيرهم ولأنهم أبعاض الوالدين (واليتامى) لأنهم لا

ص: 431

يقدرون على الكسب ولا لهم منفق، وقد تقدم الكلام في الأقربين واليتامى (والمساكين وابن السبيل) أي هم أولى به، وانظر إلى هذا الترتيب الحسن العجيب في كيفية الإنفاق كيف فصله ثم أتبعه بالإجمال فقال (وما تفعلوا من خير) أي مع هؤلاء أو غيرهم طلباً لوجه الله ورضوانه (فإن الله به عليم) فيجازيكم عليه.

قال ابن مسعود: نسختها آية الزكاة، وقال الحسن: أنها محكمة، وقال ابن زيد: هذا في النفل أي التطوع، وهو ظاهر الآية، فمن أحب التقرب إلى الله بالإنفاق فالأولى به أن ينفق في الوجوه المذكورة في الآية فيقدم الأول فالأول.

ولم يذكر فيها السائلين والرقاب كما في الآية الأخرى اكتفاء بها أو بعموم قوله (وما تفعلوا من خير) فإنه شامل لكل خير وقع في أي مصرف. (1)

(1) وفي سبب نزول الآية هو أن عمرو بن الجموح الأنصاري وكان له مال كثير فقال: يا رسول الله بماذا نتصدق، وعلى من ننفق فنزلت هذه الآية.

وقيل: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن لي ديناراً.

فقال: أنفقه على نفسك.

فقال: إن لي دينارين.

فقال: أنفقهما على أهلك.

فقال: إن لي ثلاثة فقال أنفقها على خادمك فقال إن لي أربعة فقال أنفقها على والديك فقال إن لي خمسة فقال أنفقها على أقربائك فقال إن لي ستة فقال أنفقها في سبيل الله وهو أحسنها فنزلت هذه الآية.

ص: 432