الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[إِنْكَارِ الْأَصْلِ تَحْدِيثَ الْفَرْعِ]
304 -
وَمَنْ رَوَى عَنْ ثِقَةٍ فَكَذَّبَهْ
…
فَقَدْ تَعَارَضَا وَلَكِنْ كَذِبَهْ
305 -
لَا تُثْبِتَنْ بِقَوْلِ شَيْخِهِ فَقَدْ
…
كَذَّبَهُ الْآخَرُ فَارْدُدْ مَا جَحَدْ
306 -
وَإِنْ يَرُدَّهُ بِ " لَا أَذْكُرُ " أَوْ
…
مَا يَقْتَضِي نِسْيَانَهُ فَقَدْ رَأَوْا
307 -
الْحُكْمَ لِلذَّاكِرِ عِنْدَ الْمُعْظَمِ
…
وَحُكِيَ الْإِسْقَاطُ عَنْ بَعْضِهِمِ
308 -
كَقِصَّةِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ إِذْ
…
نَسِيَهُ سُهَيْلٌ الَّذِي أُخِذْ
309 -
عَنْهُ فَكَانَ بَعْدُ عَنْ رَبِيعَهْ
…
عَنْ نَفْسِهِ يَرْوِيهِ لَنْ يُضِيعَهْ
310 -
وَالشَّافِعِيُّ نَهَى ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ
…
يَرْوِي عَنِ الْحَيِّ لِخَوْفِ التُّهَمِ
[إِنْكَارِ الْأَصْلِ تَحْدِيثَ الْفَرْعِ] الْعَاشِرُ: فِي إِنْكَارِ الْأَصْلِ تَحْدِيثَ الْفَرْعِ بِالتَّكْذِيبِ أَوْ غَيْرِهِ.
(وَمَنْ رَوَى) مِنَ الثِّقَاتِ (عَنْ) شَيْخٍ (ثِقَةٍ) أَيْضًا حَدِيثًا (فَكَذَّبَهُ) الْمَرْوِيُّ عَنْهُ صَرِيحًا، كَقَوْلِهِ: كَذَبَ عَلَيَّ (فَقَدْ تَعَارَضَا) فِي قَوْلِهِمَا ; كَالْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا تَكَاذَبَتَا ; فَإِنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ ; إِذِ الشَّيْخُ قَطَعَ بِكَذِبِ الرَّاوِي، وَالرَّاوِي قَطَعَ بِالنَّقْلِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا جِهَةُ تَرْجِيحٍ، أَمَّا الرَّاوِي فَلِكَوْنِهِ مُثْبِتًا، وَأَمَّا الشَّيْخُ فَلِكَوْنِهِ نَفَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي أَمْرٍ يَقْرُبُ مِنَ الْمَحْصُورِ غَالِبًا.
(وَلَكِنْ كَذِبَهْ) أَيِ: الرَّاوِي (لَا تُثْبِتَنْ) بِنُونِ التَّأْكِيدِ الْخَفِيفَةِ مِنْ أَثْبَتَ (بِقَوْلِ شَيْخِهِ) هَذَا، بِحَيْثُ يَكُونُ جَرْحًا ; فَإِنَّ الْجَرْحَ كَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَأَيْضًا (فَقَدْ كَذَّبَهُ الْآخَرُ) أَيْ: كَذَّبَ الرَّاوِي الشَّيْخَ بِالتَّصْرِيحِ إِنْ فُرِضَ أَنَّهُ قَالَ: كَذَبَ، بَلْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ، أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ التَّصْرِيحِ، وَهُوَ جَزْمُهُ بِكَوْنِ الشَّيْخِ حَدَّثَهُ بِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَهُ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ كَذَبَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ قَبُولُ قَوْلِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
وَأَيْضًا فَكَمَا قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ: عَدَالَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَيَقَّنَةٌ، وَكَذِبُهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَالْيَقِينُ لَا يُرْفَعُ بِالشَّكِّ، فَتَسَاقَطَا، كَرَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَعَكَسَ آخَرُ، وَلَمْ يُعْرَفِ الطَّائِرُ ; فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ غَشَيَانِ امْرَأَتِهِ مَعَ أَنَّ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ طَالِقٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّاهِدِ ; فَإِنَّ الْمَاوَرْدِيَّ قَالَ: إِنَّ تَكْذِيبَ الْأَصْلِ جَرْحٌ لِلْفَرْعِ، وَالْفَرْقُ غِلَظُ بَابِ
الشَّهَادَةِ وَضِيقُهُ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ فِي خُصُوصِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ لِيُوَافِقَ غَيْرَهُ.
(وَ) إِذَا تَسَاقَطَا فِي مَسْأَلَتِنَا (فَارْدُدْ) أَيُّهَا الْوَاقِفُ عَلَيْهِ (مَا جَحَدْ) الشَّيْخُ مِنَ الْمَرْوِيِّ خَاصَّةً ; لِكَذِبِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، وَلَكِنْ لَوْ حَدَّثَ بِهِ الشَّيْخُ نَفْسُهُ أَوْ ثِقَةٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ عَنْهُ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَقْبُولٌ، كُلُّ هَذَا إِذَا صَرَّحَ بِالتَّكْذِيبِ، فَإِنْ جَزَمَ بِالرَّدِّ بِدُونِ تَصْرِيحٍ كَقَوْلِهِ: مَا رَوَيْتُ هَذَا، أَوْ مَا حَدَّثْتُ بِهِ قَطُّ، أَوْ أَنَا عَالِمٌ أَنَّنِي مَا حَدَّثْتُكَ، أَوْ لَمْ أُحَدِّثْكَ، فَقَدْ سَوَّى ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِلْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ بَيْنَهُمَا أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا فِي تَوْضِيحِ النُّخْبَةِ، لَكِنَّهُ قَالَ فِي الْفَتْحِ: إِنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَهُمْ ; أَيِ: الْمُحَدِّثِينَ، الْقَبُولُ.
وَتَمَسَّكَ بِصَنِيعِ مُسْلِمٍ ; حَيْثُ أَخْرَجَ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ» ، مَعَ قَوْلِ أَبِي مَعْبَدٍ لِعَمْرٍو: لَمْ أُحَدِّثْكَ بِهِ ; فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُسْلِمًا كَانَ يَرَى صِحَّةَ الْحَدِيثِ، وَلَوْ أَنْكَرَهُ رَاوِيهِ إِذَا كَانَ النَّاقِلُ عَنْهُ عَدْلًا.
وَكَذَا صَحَّحَ الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَأَنَّهُمْ حَمَلُوا الشَّيْخَ فِي ذَلِكَ عَلَى النِّسْيَانِ كَالصِّيَغِ الَّتِي بَعْدَهَا.
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ: كَأَنَّهُ نَسِيَ بَعْدَ أَنْ حَدَّثَهُ،
بَلْ قَالَ قَتَادَةُ حِينَ حَدَّثَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ [أَبِي كَثِيرٍ عَنْ] أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ كَثِيرٌ: مَا حَدَّثْتُ بِهَذَا قَطُّ، إِنَّهُ نَسِيَ، لَكِنَّ إِلْحَاقَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِالصُّورَةِ الْأُولَى أَظْهَرُ.
وَلَعَلَّ تَصْحِيحَ هَذَا الْحَدِيثِ بِخُصُوصِهِ لِمُرَجَّحٍ اقْتَضَاهُ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالشَّيْخَيْنِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قِيلَ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: إِنَّ الرَّدَّ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ التَّسَاوِي، فَلَوْ رُجِّحَ أَحَدُهُمَا عُمِلَ بِهِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَمْثِلَتِهِ.
هَذَا مَعَ أَنَّ شَيْخَنَا قَدْ حَكَى عَنِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْقَبُولَ، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ الرَّدَّ قِياسًا عَلَى الشَّاهِدِ.
وَبِالْجُمْلَةِ، فَظَاهِرُ صَنِيعِ شَيْخِنَا اتِّفَاقُ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى الرَّدِّ فِي صُورَةِ التَّصْرِيحِ بِالْكَذِبِ، وَقَصْرُ الْخِلَافِ عَلَى هَذِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَالْخِلَافُ مَوْجُودٌ، فَمِنْ مُتَوَقِّفٍ، وَمِنْ قَائِلٍ بِالْقَبُولِ مُطْلَقًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ السُّبْكِيِّ، تَبَعًا لِأَبِي الْمُظَفَّرِ بْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَقَالَ بِهِ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَإِنْ كَانَ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ حَكَيَا الِاتِّفَاقَ عَلَى الرَّدِّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَهُوَ مِمَّا يُسَاعِدُ ظَاهِرَ صَنِيعِ
شَيْخِنَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَيُنَازِعُ فِي الثَّانِيَةِ.
وَيُجَابُ بِأَنَّ الِاتِّفَاقَ فِي الْأُولَى وَالْخِلَافَ فِي الثَّانِيَةِ بِالنَّظَرِ لِلْمُحَدِّثِينَ خَاصَّةً.
وَأَمَّا لَوْ أَنْكَرَ الشَّيْخُ الْمَرْوِيَّ بِالْفِعْلِ كَأَنْ عَمِلَ بِخِلَافِ الْخَبَرِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ قَرِيبًا أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْخَبَرِ، وَلَا فِي رَاوِيهِ، وَكَذَا إِذَا تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، وَهَلْ يُسَوِّغُ عَمَلُ الرَّاوِي نَفْسِهِ بِهِ بِحَيْثُ لَمْ نَقْبَلْهُ مِنْهُ؟ الظَّاهِرُ نَعَمْ إِذَا كَانَ أَهْلًا، قِياسًا عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي سَادِسِ أَنْوَاعِ التَّحَمُّلِ فِيمَا إِذَا أَعْلَمَ الشَّيْخُ الطَّالِبَ بِأَنَّ هَذَا مَرْوِيُّهُ، وَلَكِنْ مَنَعَهُ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْهُ ; إِذْ لَا فَرْقَ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَذْكُرِ الشَّيْخُ أَنَّ الْمَرْوِيَّ لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ أَصْلًا، فَإِنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فَلَا، حَتَّى لَوْ رَوَاهُ ثَانِيًا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، بَلْ ذَاكَ مُقْتَضٍ لِجَرْحِهِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ، ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا يَرُدُّهُ الشَّيْخُ بِالصَّرِيحِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ كَمَا شَرَحَ (وَ) إِمَّا (إِنْ يَرُدَّهُ بِ) قَوْلِهِ:(لَا أَذْكُرُ) هَذَا، أَوْ لَا أَعْرِفُ أَنِّي حَدَّثْتُهُ بِهِ (أَوْ) نَحْوِهِمَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي فِيهَا (مَا يَقْتَضِي نِسْيَانَهُ) ، كَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّنِي مَا حَدَّثْتُهُ بِهَذَا، أَوْ لَا أَعْرِفُ أَنَّهُ مِنْ حَدِيثِي، وَالرَّاوِي جَازِمٌ بِهِ (فَقَدْ رَأَوْا) أَيِ: الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، قَبُولَهُ (الْحُكْمَ لِ) الرَّاوِي (الذَّاكِرِ) كَمَا هُوَ (عِنْدَ الْمُعْظَمِ) مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَصَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ الْخَطِيبُ
وَابْنُ الصَّلَاحِ وَشَيْخُنَا، بَلْ حَكَى فِيهِ اتِّفَاقَ الْمُحَدِّثِينَ ; لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الرَّاوِيَ ثِقَةٌ جَزْمًا، فَلَا يُطْعَنُ فِيهِ بِالِاحْتِمَالِ ; إِذِ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ غَيْرُ جَازِمٍ بِالنَّفْيِ، بَلْ جَزْمُ الرَّاوِي عَنْهُ وَشَكُّهُ هُوَ قَرِينَةٌ لِنِسْيَانِهِ (وَحُكِيَ الْإِسْقَاطُ) فِي الْمَرْوِيِّ وَعَدَمُ الْقَبُولِ (عَنْ بَعْضِهِمِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ ; أَيْ: بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَنَسَبَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلْكَرْخِيِّ مِنْهُمْ، بَلْ حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، لَكِنْ فِي التَّعْمِيمِ نَظَرٌ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ، لَا سِيَّمَا وَسَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ صِفَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ سَمَاعُهُ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ غَيْرُ ذَاكِرٍ لِسَمَاعِهِ يَجُوزُ لَهُ رِوَايَتُهُ.
وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِ الْكِيَا الطَّبَرِيِّ: إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ فِي مَسْأَلَتِنَا بِخُصُوصِهَا كَلَامٌ
إِلَّا إِنْ أُخِذَ مِنْ رَدِّهِمْ حَدِيثَ: (( «إِذَا نُكِحَتِ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» )) الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنْ أَمْثِلَةِ مَنْ حَدَّثَ وَنَسِيَ.
وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي الْأَقْضِيَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ ابْنَ كَجٍّ حَكَاهُ وَجْهًا عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَنَقَلَهُ شَارِحُ اللُّمَعِ عَنِ اخْتِيَارِ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُّوذِيِّ، وَأَنَّهُ قَاسَهُ عَلَى الشَّاهِدِ. وَتَوْجِيهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْفَرْعَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي إِثْبَاتِ الْحَدِيثِ بِحَيْثُ إِذَا أَثْبَتَ الْأَصْلُ الْحَدِيثَ ثَبَتَتْ رِوَايَةُ الْفَرْعِ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَرْعًا عَلَيْهِ وَتَبَعًا لَهُ فِي النَّفْيِ.
وَلَكِنْ هَذَا مُتَعَقَّبٌ ; فَإِنَّ عَدَالَةَ الْفَرْعِ يَقْتَضِي صِدْقَهُ، وَعَدَمُ عِلْمِ الْأَصْلِ لَا يُنَافِيهِ، فَالْمُثْبِتُ الْجَازِمُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، خُصُوصًا الشَّاكُّ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَأَمَّا قِيَاسُ ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ، يَعْنِي عَلَى الشَّهَادَةِ، إِذَا ظَهَرَ تَوَقُّفُ الْأَصْلِ، فَفَاسِدٌ ; لِأَنَّ شَهَادَةَ الْفَرْعِ لَا تُسْمَعُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ، فَافْتَرَقَا، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ - كَمَا حَكَاهُ الْبُلْقِينِيُّ - قَدْ أَجْرَى فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ لَمْ يُنْكِرِ الْحَاكِمُ حُكْمَهُ بَلْ
تَوَقَّفَ، وَالْأَوْفَقُ هُنَاكَ لِقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ قَبُولُ الشَّهَادَةِ بِحُكْمِهِ، فَاسْتَوَيَا.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ إِنْ كَانَ الشَّيْخُ رَأْيُهُ يَمِيلُ إِلَى غَلَبَةِ النِّسْيَانِ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ عَادَتَهُ فِي مَحْفُوظَاتِهِ، قُبِلَ الذَّاكِرُ الْحَافِظُ، وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ يَمِيلُ إِلَى جَهْلِهِ أَصْلًا بِذَلِكَ الْخَبَرِ رُدَّ، فَقَلَّمَا يَنْسَى الْإِنْسَانُ شَيْئًا حَفِظَهُ نِسْيَانًا لَا يَتَذَكَّرُهُ بِالتَّذْكِيرِ، وَالْأُمُورُ تُبْنَى عَلَى الظَّاهِرِ لَا عَلَى النَّادِرِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ وَأَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ.
وَقَدْ صَنَّفَ الدَّارَقُطْنِيُّ، ثُمَّ الْخَطِيبُ:(مَنْ حَدَّثَ وَنَسِيَ) ، وَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْوِيَةِ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ الصَّحِيحِ ; لِكَوْنِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ حَدَّثَ بِأَحَادِيثَ، ثُمَّ لَمَّا عُرِضَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَذَكَّرْهَا، لَكِنْ لِاعْتِمَادِهِمْ عَلَى الرُّوَاةِ عَنْهُمْ صَارُوا يَرْوُونَهَا عَنِ الَّذِي رَوَاهَا عَنْهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ ; (كَقِصَّةِ) حَدِيثِ (الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ)، الَّذِي لَفْظُهُ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» .
(إِذْ نَسِيَهُ سُهَيْلٌ) ابْنُ أَبِي صَالِحٍ (الَّذِي أُخِذْ) أَيْ: حُمِلَ (عَنْهُ) عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (فَكَانَ) سُهَيْلٌ (بَعْدُ) بِضَمِّ الدَّالِ عَلَى الْبِنَاءِ (عَنْ رَبِيعَهْ) هُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ (عَنْ نَفْسِهِ يَرْوِيهِ)، فَيَقُولُ: أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ، وَهُوَ عِنْدِي ثِقَةٌ، أَنَّنِي حَدَّثْتُهُ إِيَّاهُ وَلَا أَحْفَظُهُ، قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ كَانَ أَصَابَتْ سُهَيْلًا عِلَّةٌ أَذْهَبَتْ بَعْضَ عَقْلِهِ، وَنَسِيَ بَعْضَ
حَدِيثِهِ، فَكَانَ يُحَدِّثُ بِهِ عَمَّنْ سَمِعَهُ مِنْهُ. وَفَائِدَتُهُ سِوَى مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ شِدَّةِ الْوُثُوقِ بِالرَّاوِي عَنْهُ - مِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ - الْإِعْلَامُ بِالْمَرْوِيِّ، وَكَوْنُهُ (لَنْ يُضِيعَهْ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ أَضَاعَ ; إِذْ بِتَرْكِهِ لِرِوَايَتِهِ يَضِيعُ.
وَمِنْ ظَرِيفِ مَا اتَّفَقَ فِي الْمَعْنَى أَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ عَسَاكِرَ، وَهُوَ أُسْتَاذُ زَمَانِهِ حِفْظًا وَإِتْقَانًا وَوَرَعًا، حَدَّثَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُبَارَكِ الدَّهَّانَ بِبَغَدَادَ يَقُولُ: رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ شَخْصًا أَعْرِفُهُ يُنْشِدُ صَاحِبًا لَهُ:
أَيُّهَا الْمَاطِلُ دَيْنِي
…
أُمْلِي وَتُمَاطِلْ
عَلِّلِ الْقَلْبَ فَإِنِّي
…
قَانِعٌ مِنْكَ بِبَاطِلْ
وَحَدَّثَ ابْنُ عَسَاكِرَ بِهَذَا صَاحِبَهُ الْحَافِظَ أَبَا سَعْدِ بْنَ السَّمْعَانِيِّ، قَالَ أَبُو سَعْدٍ: فَرَأَيْتُ ابْنَ الدَّهَّانِ، فَعَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَعْرِفُهُ. قَالَ أَبُو سَعْدٍ: وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ أَكْمَلِ مَنْ رَأَيْتُ، جُمِعَ لَهُ الْحِفْظُ وَالْمَعْرِفَةُ وَالْإِتْقَانُ، وَلَعَلَّ ابْنَ الدَّهَّانِ نَسِيَ، ثُمَّ كَانَ ابْنُ الدَّهَّانِ بَعْدَ ذَلِكَ يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ نَفْسِهِ.
قَالَ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ: وَلِأَجْلِ أَنَّ النِّسْيَانَ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى الْإِنْسَانِ، بِحَيْثُ يُؤَدِّي إِلَى جُحُودِ مَا رُوِيَ عَنْهُ، وَتَكْذِيبِ الرَّاوِي لَهُ، كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنَ الْعُلَمَاءِ التَّحْدِيثَ عَنِ الْأَحْيَاءِ، مِنْهُمُ الشَّعْبِيُّ ; فَإِنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَوْنٍ: لَا تُحَدِّثْنِي عَنِ الْأَحْيَاءِ. وَمَعْمَرٌ ; فَإِنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ: إِنْ قَدَرْتَ أَنْ لَا تُحَدِّثَ عَنْ حَيٍّ فَافْعَلْ.
(وَالشَّافِعِيْ) بِالْإِسْكَانِ (نَهَى ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ)، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (يَرْوِي) أَيْ: عَنِ الرِّوَايَةِ،
(عَنِ الْحَيِّ) ، وَهُوَ كَمَا [أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَطِيبُ قَرِيبًا] دُونَ ابْنِ الصَّلَاحِ (لِ) أَجْلِ (خَوْفِ التُّهَمِ) إِذَا جَزَمَ الشَّيْخُ بِالنَّفْيِ، وَذَلِكَ فِيمَا رُوِّينَاهُ فِي مَنَاقِبِهِ وَالْمَدْخَلِ، كِلَاهُمَا لِلْبَيْهَقِيِّ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْجَصَّاصِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ: سَمِعْتُ مِنَ الشَّافِعِيِّ حِكَايَةً، فَحَكَيْتُهَا عَنْهُ، فَنُمِيَتْ إِلَيْهِ، فَأَنْكَرَهَا، قَالَ: فَاغْتَمَّ أَبِي ; أَيْ: لِذَلِكَ غَمًّا شَدِيدًا، وَكُنَّا نُجِلُّهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتِ، أَنَا أُذَكِّرُهُ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ، فَمَضَيْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَلَيْسَ تَذْكُرُ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى الْكَلِمَةِ؟ فَذَكَرَهَا، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ، لَا تُحَدِّثْ عَنِ الْحَيِّ ; فَإِنَّ الْحَيَّ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْسَى.
لَكِنْ قَدْ قَيَّدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْكَرَاهَةَ بِمَا إِذَا كَانَ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ سِوَى طَرِيقِ الْحَيِّ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَاهَا وَحَدَثَتْ وَاقِعَةٌ فَلَا مَعْنَى لِلْكَرَاهَةِ ; لِمَا فِي الْإِمْسَاكِ مِنْ كَتْمِ الْعِلْمِ، وَقَدْ يَمُوتُ الرَّاوِي قَبْلَ مَوْتِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، فَيَضِيعُ الْعِلْمُ [إِنْ لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ غَيْرَهُ] ، وَهُوَ حَسَنٌ ; إِذِ الْمَصْلَحَةُ مُحَقَّقَةٌ، وَالْمَفْسَدَةُ مَظْنُونَةٌ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَبُولِ الْمُبْتَدِعِ فِيمَا لَمْ نَرَهُ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ، مِنْ أَنَّ مَصْلَحَةَ تَحْصِيلِ ذَاكَ الْمَرْوِيِّ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ إِهَانَتِهِ وَإِطْفَاءِ بِدْعَتِهِ.
وَكَذَا يَحْسُنُ تَقْيِيدُ مَسْأَلَتِنَا بِمَا إِذَا كَانَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، أَمَّا إِنْ كَانَا فِي بَلَدَيْنِ فَلَا ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ [الْحَامِلُ لَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ النَّفَاسَةَ] مَعَ قِلَّتِهَا بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ حَدَّثَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِشَيْءٍ، وَسُئِلَ الزُّهْرِيُّ عَنْهُ