الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَدِيثُهُ، كَمَا يَكُونُ مَنْ أَكْثَرَ التَّخْلِيطَ فِي الشَّهَادَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ "، وَقَالَ فِيمَا يَعْتَضِدُ بِهِ الْمُرْسَلُ كَمَا تَقَدَّمَ: " وَيَكُونُ إِذَا شَرَكَ أَحَدًا مِنَ الْحُفَّاظِ فِي حَدِيثٍ لَمْ يُخَالِفْهُ، فَإِنْ خَالَفَهُ وَوُجِدَ حَدِيثُهُ أَنْقُصَ كَانَتْ فِي هَذِهِ دَلَائِلُ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ ".
وَيُعْرَفُ الضَّبْطُ أَيْضًا بِالِامْتِحَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَقْلُوبِ، مَعَ تَحْقِيقِ الْأَمْرِ فِيهِ.
[سَبَبُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ]
[سَبَبُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ] وَالرَّابِعُ: فِي بَيَانِ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَكَانَ إِرْدَافُهُ الثَّانِيَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنْسَبَ (وَصَحَّحُوا) أَيِ: الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
(قَبُولَ تَعْدِيلٍ بِلَا ذِكْرٍ لِأَسْبَابٍ لَهُ) خَشْيَةَ (أَنْ تَثْقُلَا) لِأَنَّهَا كَثِيرَةٌ، وَمَتَى كُلِّفَ الْمُعَدِّلُ لِسَرْدِ جَمِيعِهَا احْتَاجَ أَنْ يَقُولَ: يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا عَادًّا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، وَلَيْسَ يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، عَادًّا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ، وَفِيهِ طُولٌ. (وَلَمْ يَرَوْا) أَيِ: الْجُمْهُورُ أَيْضًا.
(قَبُولَ جَرْحٍ أُبْهِمَا) ذِكْرُ سَبَبِهِ مِنَ الْمُجَرِّحِ ; لِزَوَالِ الْخَشْيَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا ; فَإِنَّ الْجَرْحَ يَحْصُلُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ، وَ (لِلْخُلْفِ) بَيْنَ النَّاسِ (فِي أَسْبَابِهِ) وَمُوجِبِهِ.
(رُبَّمَا اسْتُفْسِرَ الْجَرْحُ) بِبَيَانِ سَبَبِهِ مِنَ الْجَارِحِ (فَ) يَذْكُرُ مَا (لَمْ يَقْدَحْ) مَعَ إِطْلَاقِهِ الْجَرْحَ بِهِ ; لِتَمَسُّكِهِ بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَقْتَضِيهِ، أَوْ لِشِدَّةِ تَعَنُّتِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِ.
(كَمَا فَسَّرَهُ شُعْبَةُ) بْنُ الْحَجَّاجِ مَرَّةً (بِالرَّكْضِ) ، وَهُوَ اسْتِحْثَاثُ الدَّابَّةِ بِالرِّجْلِ لِتَعْدُوَ، حَيْثُ قِيلَ لَهُ: لِمَ تَرَكْتَ حَدِيثَ فُلَانٍ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُ يَرْكُضُ عَلَى بِرْذُوْنٍ، بِكَسْرٍ الْمُوَحَّدَةِ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ، الْجَافِي الْخِلْقَةِ، الْجَلْدُ عَلَى السَّيْرِ فِي الشِّعَابِ، وَالْوَعْرُ مِنَ الْخَيْلِ غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَكْثَرُ مَا يُجْلَبُ مِنَ الرُّومِ، وَحِينَئِذٍ (فَمَا) ذَا يَلْزَمُ مِنْ رَكْضِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ، أَوْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلِيقُ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو لِذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مَرْفُوعًا: «سُرْعَةُ الْمَشْيِ
تُذْهِبُ بَهَاءَ الْمُؤْمِنِ» .
وَنَحْوُهُ مَا رُوِيَ عَنْ شُعْبَةَ أَيْضًا أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، فَسَمِعَ مِنْ دَارِهِ صَوْتًا فَتَرَكَهُ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: إِنَّهُ سَمِعَ قِرَاءَةً بِالتَّطْرِيبِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِيهِ أَبِي حَاتِمٍ كَمَا قَالَهُ الشَّارِحُ: إِنَّهُ سَمِعَ قِرَاءَةَ أَلْحَانٍ، فَكَرِهَ السَّمَاعَ مِنْهُ.
وَقَوْلُ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ شُعْبَةَ: أَتَيْتُ مَنْزِلَ الْمِنْهَالِ، فَسَمِعْتُ مِنْهُ صَوْتَ الطُّنْبُورِ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ. قَالَ وَهْبٌ: فَقُلْتُ لَهُ: فَهَلَّا سَأَلْتَهُ، عَسَى كَانَ لَا يَعْلَمُ؟ قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا اعْتِرَاضٌ صَحِيحٌ ; فَإِنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ قَدْحًا فِي الْمِنْهَالِ، بَلْ وَلَا يُجَرَّحُ الثِّقَةُ بِمِثْلِ قَوْلٍ الْمُغِيرَةِ فِي الْمِنْهَالِ: إِنَّهُ كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ لَهُ لَحْنٌ يُقَالُ لَهُ: وَزْنُ سَبْعَةٍ.
وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ عَقِبَ كَلَامِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مَا نَصُّهُ: هَذَا لَيْسَ بِجَرْحِهِ إِلَى أَنْ يَتَجَاوَزَ إِلَى حَدٍّ يَحْرُمُ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَاكَ عَنْهُ - انْتَهَى.
وَجَرْحُهُ بِهَذَا تَعَسُّفٌ ظَاهِرٌ، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالْعِجْلِيُّ وَغَيْرُهُمَا ; كَالنَّسَائِيِّ
وَابْنِ حِبَّانَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّهُ صَدُوقٌ.
وَاحْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، بَلْ وَعَلَّقَهُ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ نَفْسِهِ عَنْهُ، فَقَالَ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْمُثْلَةِ مِنَ الذَّبَائِحِ: تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْمِنْهَالِ، يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدٍ، هُوَ ابْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:«لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ» . وَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شُعْبَةَ لَمْ يَتْرُكِ الرِّوَايَةَ عَنْهُ، وَذَلِكَ إِمَّا بِمَا لَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ لِزَوَالِ الْمَانِعِ مِنْهُ عِنْدَهُ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ السَّمَاعَ يُكْرَهُ مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْأَلْحَانِ، وَنَصَّ الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ الْمَوْضُوعَةِ وَالتَّرْجِيعِ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ.
وَالْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إِنْ خَرَجَ بِالتَّلْحِينِ لَفْظُ الْقُرْآنِ عَنْ صِيغَتِهِ بِإِدْخَالِ حَرَكَاتٍ فِيهِ أَوْ إِخْرَاجِ حَرَكَاتٍ مِنْهُ، أَوْ قَصْرِ مَمْدُودٍ أَوْ مَدِّ مَقْصُورٍ، أَوْ تَمْطِيطٍ يَخْفَى بِهِ اللَّفْظُ وَيُلَبَّسُ بِهِ الْمَعْنَى، فَالْقَارِئُ فَاسِقٌ، وَالْمُسْتَمِعُ آثِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ اللَّحْنُ عَنْ لَفْظِهِ وَقِرَاءَتِهِ عَلَى تَرْتِيلِهِ، فَلَا كَرَاهَةَ ; لِأَنَّهُ زَادَ بِأَلْحَانِهِ فِي
تَحْسِينِهِ.
وَكَذَا اسْتَفْسَرَ غَيْرُ شُعْبَةَ، فَذَكَرَ مَا الْجَرْحُ بِهِ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، فَقَالَ شُعْبَةُ: قُلْتُ لِلْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ: لِمَ لَمْ تَحْمِلْ عَنْ زَاذَانَ؟ قَالَ: كَانَ كَثِيرَ الْكَلَامِ.
وَلَعَلَّهُ اسْتَنَدَ إِلَى مَا يُرْوَى عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَمَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» ، وَكَذَا لِمَا وَرَدَ فِي ذَمِ مَنْ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ.
وَمِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي زَاذَانَ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِالْمَتِينِ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ يُخْطِئُ كَثِيرًا، لَكِنْ قَدْ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ: أَتَيْتُ سِمَاكَ بْنَ حَرْبٍ، فَرَأَيْتُهُ يَبُولُ قَائِمًا، فَلَمْ أَسْأَلْهُ عَنْ حَرْفٍ. قُلْتُ: قَدْ خَرِفَ، وَلَعَلَّهُ كَانَ بِحَيْثُ يَرَى النَّاسُ عَوْرَتَهُ.
وَقَدْ عَقَدَ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ لِهَذَا بَابًا، وَمِمَّا ذَكَرَ فِيهِ مِمَّا تَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي إِيرَادِهِ: أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ سُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ لِصَالِحٍ الْمُرِّيِّ، فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ بِصَالِحٍ؟ ذَكَرُوهُ يَوْمًا عِنْدَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، فَامْتَخَطَ حَمَّادٌ.
وَإِدْخَالُ مِثْلِ هَذَا فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرُ جَيِّدٍ، فَصَالِحٌ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ، وَلِذَا حَذَفَهُ الْمُصَنِّفُ، بَلْ قَدْ بَانَ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ عَدَمُ تَحَتُّمِ الْجَرْحِ بِهِ. (هَذَا) أَيِ: الْقَوْلُ بِالتَّفْصِيلِ، هُوَ (الَّذِي عَلَيْهِ) الْأَئِمَّةُ (حُفَّاظُ الْأَثَرْ) أَيِ: الْحَدِيثِ وَنُقَّادُهُ.
كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ (شَيْخَيِ الصَّحِيحِ) اللَّذَيْنِ كَانَا أَوَّلَ مَنْ صَنَّفَ فِيهِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْحُفَّاظِ (مَعَ أَهْلِ النَّظَرِ) كَالشَّافِعِيِّ، فَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ ظَاهِرٌ مُقَرَّرٌ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ، وَقَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّهُ الصَّوَابُ عِنْدَنَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي عَكْسُهُ، فَيُشْتَرَطُ تَفْسِيرُ التَّعْدِيلِ دُونَ الْجَرْحِ ; لِأَنَّ أَسْبَابَ الْعَدَالَةِ يَكْثُرُ التَّصَنُّعُ فِيهَا، فَيَتَسَارَعُ النَّاسُ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَى الظَّاهِرِ، [فَ] هَذَا الْإِمَامُ مَالِكٌ مَعَ شِدَّةِ نَقْلِهِ وَتَحَرِّيهِ قِيلَ لَهُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ، فَقَالَ:
غَرَّنِي بِكَثْرَةِ جُلُوسِهِ فِي الْمَسْجِدِ، يَعْنِي لِمَا وَرَدَ مِنْ كَوْنِهِ بَيْتَ كُلِّ تَقِيٍّ.
وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ لِمَنْ قَالَ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخُطَّابِ الْعُمَرِيُّ ضَعِيفٌ: إِنَّمَا يُضَعِّفُهُ رَافِضِيٌّ مُبْغِضٌ لِآبَائِهِ، لَوْ رَأَيْتَ لِحْيَتَهُ وَخِضَابَهُ وَهَيْئَتَهُ لَعَرَفْتَ أَنَّهُ ثِقَةٌ. فَاسْتَدَلَّ لِثِقَتِهِ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ ; لِأَنَّ حُسْنَ الْهَيْئَةِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعَدْلُ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ تَوَسُّمَهُ يَقْضِي بِعَدَالَتِهِ فَضْلًا عَنْ دِينِهِ وَمُرُوءَتِهِ وَضَبْطِهِ، لَكِنْ يَنْدَفِعُ هَذَا فِي الْعُمَرِيِّ بِخُصُوصِهِ بِأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى ضَعْفِهِ، وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ مَدْحُ الْمَرْءِ بِأَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ سَمْتَهُ عَلِمْتَ أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ.
[وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَابُدَّ مِنْ سَبَبِهِمَا مَعًا لِلْمَعْنَيَيْنِ السَّابِقَيْنِ، فَكَمَا يُجَرِّحُ الْجَارِحُ بِمَا لَا يَقْدَحُ، كَذَلِكَ يُوَثِّقُ الْمُعَدِّلُ بِمَا لَا يَقْتَضِي الْعَدَالَةَ كَمَا بَيَّنَّا] .
وَالرَّابِعُ عَكْسُهُ، إِذَا صَدَرَ الْجَرْحُ أَوِ التَّعْدِيلُ مِنْ عَالِمٍ بَصِيرٍ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا مَعَ الْخَدْشِ فِي كَوْنِهِ قَوْلًا مُسْتَقِلًّا (فَإِنْ يُقَلْ) عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: قَدْ (قَلَّ) فِيمَا يُحْكَى عَنِ الْأَئِمَّةِ فِي الْكُتُبِ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهَا فِي الرِّجَالِ (بَيَانُ) سَبَبِ جَرْحِ (مَنْ جَرَحْ) ، بَلِ اقْتَصَرُوا فِيهَا غَالِبًا عَلَى مُجَرَّدِ الْحُكْمِ بِأَنَّ فُلًانًا ضَعِيفٌ، أَوْ لَيْسَ بِشَيْءٍ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
(وَكَذَا) قَلَّ بَيَانُهُمْ لِسَبَبِ ضَعْفِ الْحَدِيثِ (إِذَا قَالُوا) فِي كُتُبِ الْمُتُونِ وَنَحْوِهَا (لِمَتْنٍ) : إِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ، بَلِ اقْتَصَرُوا أَيْضًا غَالِبًا عَلَى مُجَرَّدِ الْحُكْمِ بِضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ عَدَمِ ثُبُوتِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (وَأَبْهَمُوا) بَيَانَ السَّبَبِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَاشْتِرَاطُ الْبَيَانِ يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ ذَلِكَ، وَسَدِّ بَابِ الْجَرْحِ فِي الْأَغْلَبِ الْأَكْثَرِ.
(فَالشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ (قَدْ أَجَابَا) عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِ (أَنْ يَجِبُ الْوَقْفُ) مِنَ الْوَاقِفِ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ عَنِ الِاحْتِجَاجِ بِالرَّاوِي أَوْ بِالْحَدِيثِ (إِذِ اسْتَرَابَا) أَيْ: لِأَجْلِ حُصُولِ الرِّيبَةِ الْقَوِيَّةِ بِذَلِكَ، وَيَسْتَمِرُّ وَاقِفًا (حَتَّى يُبِينَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، مِنْ أَبَانَ ; أَيْ: يُظْهِرُ (بَحْثَهُ) وَفَحْصَهُ عَنْ حَالِ ذَاكَ الرَّاوِي أَوِ الْحَدِيثِ (قَبُولَهُ) مُطْلَقًا، أَوْ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ. وَالثِّقَةُ بِعَدَالَتِهِ وَعَدَمِ تَأْثِيرِ مَا وُقِفَ عَلَيْهِ فِيهِ مِنَ الْجَرْحِ الْمُجَرَّدِ (كَمَنْ) أَيْ: كَالَّذِي مِنَ الرُّوَاةِ (أُولُو) أَيْ: أَصْحَابُ (الصَّحِيحِ) : الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا (خَرَّجُوا) فِيهِ (لَهُ) مَعَ كَوْنِهِ مِمَّنْ مُسَّ مِنْ غَيْرِهِمْ بِجَرْحٍ مُبْهَمٍ، وَقَالَ: فَافْهَمْ ذَلِكَ ; فَإِنَّهُ مُخْلَصٌ حَسَنٌ.
(فَفِي الْبُخَارِيِّ احْتِجَاجًا عِكْرِمَهْ) أَيْ: فَعِكْرِمَةُ التَّابِعِيُّ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مُخَرَّجٌ لَهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، فَضْلًا عَنِ الْمُتَابَعَاتِ وَنَحْوِهَا، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ ; لِكَوْنِهِ لَهُ عَنْهُ أَتَمَّ مُخْلَصٍ، حَتَّى إِنَّ جَمَاعَةً صَنَّفُوا فِي الذَّبِّ عَنْ عِكْرِمَةَ ; كَأَبِي جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَحَقَّقَ ذَلِكَ شَيْخُنَا فِي مُقَدِّمَتِهِ بِمَا لَا نُطِيلُ بِهِ (مَعَ ابْنِ مَرْزُوقٍ) عَمْرٍو الْبَاهِلِيِّ الْبَصْرِيِّ، لَكِنْ مُتَابَعَةً لَا احْتِجَاجًا (وَغَيْرُ تَرْجَمَهْ) أَيْ: رَاوٍ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ سَبَقَ مِنْ غَيْرِهِ التَّضْعِيفُ لَهُمْ يُعْرَفُ تَعْيِينُهُمْ، وَالْمُخَرَّجُ لَهُمْ مِنْهُمْ فِي
الْأُصُولِ مِمَّنْ فِي الْمُتَابَعَاتِ، مَعَ الْحُجَّةِ فِي التَّخْرِيجِ لَهُمْ، مِنَ الْمُقَدِّمَةِ أَيْضًا.
وَكَذَا (احْتَجَّ مُسْلِمٌ بِمَنْ قَدْ ضُعِّفَا) مِنْ غَيْرِهِ (نَحْوَ سُوَيْدٍ) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُ (إِذْ بِجَرْحٍ) مُطْلَقٍ (مَا اكْتَفَى) كُلٌّ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ لِتَحْقِيقِهِمَا نَفْيَهُ، بَلْ أَكْثَرُ مَنْ فَسَّرَ الْجَرْحَ فِي سُوَيْدٍ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا عَمِيَ رُبَّمَا تَلَقَّنَ الشَّيْءَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَادِحًا فَإِنَّمَا يَقْدَحُ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ بَعْدَ الْعَمَى، لَا فِيمَا قَبْلَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُسْلِمًا عَرَفَ أَنَّ مَا خَرَّجَهُ عَنْهُ مِنْ صَحِيحِ حَدِيثِهِ، أَوْ مِمَّا لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ طَلَبًا لِلْعُلُوِّ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: قُلْتُ لِمُسْلِمٍ: كَيْفَ اسْتَجَزْتَ الرِّوَايَةَ عَنْ سُوَيْدٍ فِي الصَّحِيحِ؟ فَقَالَ: وَمِنْ أَيْنَ كُنْتُ آتِي بِنُسْخَةِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَرْوِ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ سَمِعَ حَفْصًا سِوَاهُ، وَرَوَى فِيهِ عَنْ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ حَفْصٍ. (قُلْتُ وَقَدْ قَالَ) فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ (أَبُو الْمَعَالِي) الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْبُرْهَانِ) (وَاخْتَارَهُ تِلْمِيذُهُ) حُجَّةُ الْإِسْلَامِ أَبُو حَامِدٍ (الْغَزَّالِيُّ وَ) كَذَا الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ (ابْنُ الْخَطِيبِ) الرَّازِيُّ (الْحَقُّ أَنْ يُحْكَمْ) مُسَكَّنُ الْمِيمِ ; أَيْ: يُقْضَى (بِمَا أَطْلَقَهُ الْعَالِمْ) مُسَكَّنُ الْمِيمِ أَيْضًا، الْبَصِيرُ (بِأَسْبَابِهِمَا) أَيِ: الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِسَبَبٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَنَقَلَهُ عَنِ الْجُمْهُورِ، فَقَالَ: قَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: " إِذَا جَرَّحَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْجَرْحَ يَجِبُ الْكَشْفُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجِبُوا ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذَا الشَّأْنِ ".
قَالَ: " وَالَّذِي يُقَوِّي عِنْدَنَا تَرْكَ الْكَشْفِ عَنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْجَارِحُ عَالِمًا، كَمَا لَا
يَجِبُ اسْتِفْسَارُ الْمُعَدِّلِ عَمَّا بِهِ صَارَ عِنْدَهُ الْمُزَكَّى عَدْلًا ".
وَمِمَّنْ حَكَاهُ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْغَزَّالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى، لَكِنَّهُ حَكَى عَنْهُ أَيْضًا فِي الْمَنْخُولِ خِلَافَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ فِي الْمُسْتَصْفَى هُوَ الَّذِي حَكَاهُ صَاحِبُ (الْمَحْصُولِ) ، وَالْآمِدِيُّ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنِ الْقَاضِي، كَمَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنْهُ فِي الْكِفَايَةِ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ، وَاخْتَارَهُ الْخَطِيبُ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ تَقْرِيرِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي صَوَّبَهُ قَالَ:" عَلَى أَنَّا نَقُولُ أَيْضًا: إِنْ كَانَ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْجَرْحِ عَدْلًا مَرْضِيًّا فِي اعْتِقَادِهِ وَأَفْعَالِهِ، عَارِفًا بِصِفَةِ الْعَدَالَةِ وَالْجَرْحِ وَأَسْبَابِهِمَا، عَالِمًا بِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي أَحْكَامِ ذَلِكَ، قُبِلَ قَوْلُهُ فِيمَنْ جَرَّحَهُ مُجْمَلًا، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ سَبَبِهِ "، انْتَهَى.
[وَقَرِيبٌ مِنْهُ اعْتِمَادُ قَوْلِ الْفَقِيهِ الْمُوَافِقِ بِتَنْجِيسِ الْمَاءِ دُونَ مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ غَيْرِ الْفَقِيهِ ; فَإِنَّهُ لَابُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ السَّبَبَ] .
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا خِلَافُ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي كَوْنِ الْجَرْحِ الْمُبْهَمِ لَا يُقْبَلُ، وَهُوَ عَيْنُ الْقَوْلِ الرَّابِعِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَوَّلًا، وَلَكِنْ قَدْ قَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ:" إِنَّهُ لَيْسَ بِقَوْلٍ مُسْتَقِلٍّ، بَلْ هُوَ تَحْقِيقٌ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ، وَتَحْرِيرٌ لَهُ ; إِذْ مَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِالْأَسْبَابِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ جَرْحٌ وَلَا تَعْدِيلٌ لَا بِإِطْلَاقٍ وَلَا بِتَقْيِيدٍ، فَالْحُكْمُ بِالشَّيْءِ فَرْعٌ عَنِ الْعِلْمِ التَّصَوُّرِيِّ بِهِ ". وَسَبَقَهُ لِنَحْوِهِ التَّاجُ السُّبْكِيُّ، قَالَ: إِنَّهُ لَا تَعْدِيلَ وَجَرْحَ إِلَّا مِنَ الْعَالِمِ.
وَكَذَا قَيَّدَ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ الْقَوْلَ بِاسْتِفْسَارِ الْمُجَرِّحِ بِمَا إِذَا كَانَ الْجَرْحُ فِي حَقِّ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ. وَسَبَقَهُ الْبَيْهَقِيُّ فَتَرْجَمَ: " بَابٌ: لَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ فِيمَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ إِلَّا بِأَنْ نَقِفَ عَلَى مَا يُجَرَّحُ بِهِ ".
وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: " مَنْ صَحَّتْ عَدَالَتُهُ، وَثَبَتَتْ فِي الْعِلْمِ إِمَامَتُهُ، وَبَانَتْ هِمَّتُهُ فِيهِ وَعِنَايَتُهُ، لَمْ يُلْتَفَتْ فِيهِ إِلَى قَوْلِ أَحَدٍ، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ الْجَارِحُ فِي جَرْحِهِ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ يَصِحُّ بِهَا جَرْحُهُ عَلَى طَرِيقِ الشَّهَادَاتِ وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمُشَاهَدَةِ لِذَلِكَ بِمَا يُوجِبُ قَبُولَهُ "، انْتَهَى.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِقَامَةَ بَيِّنَةٍ عَلَى جَرْحِهِ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَنِدُ فِي جَرْحِهِ لِمَا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ الشَّاهِدُ فِي شَهَادَتِهِ، وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ وَنَحْوُهَا.
وَأَوْضَحُ مِنْهُ فِي الْمُرَادِ مَا سَبَقَهُ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ ; فَإِنَّهُ قَالَ: " وَكُلُّ رَجُلٍ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ لَمْ يُقْبَلْ فِيهِ تَجْرِيحُ أَحَدٍ حَتَّى يُبَيِّنَ ذَلِكَ بِأَمْرٍ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ جَرْحِهِ ".
وَلِذَا كُلِّهِ كَانَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ شَيْخِنَا أَنَّهُ إِنْ خَلَا الْمَجْرُوحُ عَنْ تَعْدِيلٍ قُبِلَ الْجَرْحُ فِيهِ مُجْمَلًا، غَيْرَ مُبَيِّنٍ السَّبَبَ إِذَا صَدَرَ مِنْ عَارِفٍ، قَالَ:" لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعْدِيلٌ فَهُوَ فِي حَيِّزِ الْمَجْهُولِ، وَإِعْمَالُ قَوْلِ الْمُجَرِّحِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهِ "، قَالَ:" وَمَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَى التَّوَقُّفِ " انْتَهَى.