الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
.. أَنا فِي حالتي الَّتِي قد تراني
…
ان تَأَمَّلت أحسن النَّاس حَالا
…
منزلي حَيْثُ شِئْت من مُسْتَقر الأَرْض
…
اسقى من الْمِيَاه زلالا
…
لَيْسَ لي كسْوَة أَخَاف عَلَيْهَا
…
من مغير وَلنْ ترى لي مَالا
…
اجْعَل الساعد الْيَمين وِسَادِي
…
ثمَّ اثْنَي إِذا انقلبت الشمالا
…
لَيْسَ لي وَالِد وَلَا مَوْلُود
…
لَا وَلَا حزت مذ عقلت عيالا
…
قد تلذذت حقبه بِأُمُور
…
فتأملتها فَكَانَت خيالا
…
وَمثل قَول أبي مُحَمَّد عبد الله بن الْعَسَّال الطليطلي
…
انْظُر إِلَى الدُّنْيَا فان ابصرتها شَيْئا يَدُوم
…
فاغد مِنْهَا فِي امان ان يساعدك النَّعيم
…
وَإِذا ابصرتها مِنْك على كره تهيم
…
فاسل عَنْهَا واطرحها وارتحل حَيْثُ تقيم
…
وَهل نشا عنْدكُمْ من النِّسَاء مثل ولادَة المروانية الَّتِي تَقول مداعبة للوزير ابْن زيدون وَكَانَ لَهُ غُلَام اسْمه عَليّ
…
مَا لِابْنِ زيدون على فَضله
…
يغتابني ظلما وَلَا ذَنْب لي
…
ينظرني شزرا إِذا جِئْته
…
كانما جِئْت لأخصي عَليّ
…
وَمثل زَيْنَب بنت زِيَاد الْمُؤَدب الْوَادي آشية الَّتِي تَقول
…
وَلما ابى الواشون الا فراقنا
…
وَمَا لَهُم عِنْدِي وعندك من ثار
…
وشنوا على اسماعنا كل غَارة
…
وَقل حماتي عِنْد ذَاك وانصاري
…
غزوتهم من مقلتيك وادمعي
…
وَمن نَفسِي بِالسَّيْفِ وَالْمَاء وَالنَّار
…
وَأَنا أختم هَذِه الْقطع المتخيرة بقول أبي بكر بن بَقِي ليَكُون الختام مسكا
(عاطيته وَاللَّيْل يسحب ذيله
…
صهباء كالمسك الفتيق لناشق)
(وضممته ضم الكمي لسيفه
…
وذؤابتاه حمائل فِي عَاتِقي)
(حَتَّى إِذا مَالَتْ بِهِ سنة الْكرَى
…
زحزحته شَيْئا وَكَانَ معانقي)
(باعدته عَن اضلع تشتاقه
…
كَيْلا ينَام على وساد خافق)
وَبقول القَاضِي أبي حَفْص بن عمر الْقُرْطُبِيّ
(هم نظرُوا لواحظها فهاموا
…
وتشرب لب شاربها المدام)
(يخَاف النَّاس مقلتها سواهَا
…
ايذعر قلب حامله الحسام)
(سما طرفِي اليها وَهُوَ باك
…
وَتَحْت الشَّمْس ينسكب الْغَمَام)
(وإذكر قدها فانوح وجدا
…
على الاغصان تنتدب الْحمام)
(واعقب بَينهَا فِي الصَّدْر غما
…
إِذا غربت ذكاء اتى الظلام)
وَبِقَوْلِهِ أَيْضا
(لَهَا ردف تعلق فِي لطيف
…
وَذَاكَ الردف لي وَلها ظلوم)
(يُعَذِّبنِي إِذا فَكرت فِيهِ
…
ويلعبها إِذا رامت تقوم)
وَقد اطلت عنان النّظم على اني اكتفيت عَن الِاسْتِدْلَال على النَّهَار بالصباح فبالله الا مَا أَخْبَرتنِي من شاعركم الَّذِي تقابلون بِهِ شَاعِرًا مِمَّن ذكرت لَا اعرف لكم اشهر ذكرا واضخم شعرًا من أبي الْعَبَّاس الجراوي وَأولى لكم ان تجحدوا فخره وتنسوا ذكره فقد كفاكم مَا جرى من الفضيحة عَلَيْكُم فِي قَوْله من قصيدة يمدح بهَا خَليفَة
(إِذا كَانَ املاك الزَّمَان اراقما
…
فانك فيهم دَائِم الدَّهْر ثعبان)
فَمَا اقبح مَا وَقع ثعبان وَمَا اضعف مَا جَاءَ دَائِم الدَّهْر وَلَقَد انشدت أحد ظرفاء الأندلس هَذَا الْبَيْت فَقَالَ لَا يُنكر هَذَا على مثل الجرأوي فسبحان من جعل روحه وَنسبه وشعره تتناسب فِي الثقالة
وان اردت الإفتخار بالفرسان والتفاضل بالشجعان فَمن كَانَ قبلنَا مِنْهُم فِي مُدَّة الْمَنْصُور بن أبي عَامر وَمُدَّة مُلُوك الطوائف أخبارهم مَشْهُورَة واثارهم مَذْكُورَة وَكَفاك من ابطال عصرنا مَا سَمِعت عَن الْأَمِير أبي عبد الله بن مردنيش وَأَنه كَانَ يدْفع فِي مواكب النَّصَارَى ويشقها يَمِينا ويسارا منشدا
(اكر على الكتيبة لَا ابالي
…
احتفي كَانَ فِيهَا ام سواهَا)
حَتَّى أَنه دفع يَوْمًا فِي موكب من النَّصَارَى فصرع وَقتل وَظهر مِنْهُ مَا اعجبت بِهِ نَفسه فَقَالَ لشيخ من خواصه عَالم بامور الْحَرْب مَشْهُور بهَا كَيفَ رَأَيْت فَقَالَ لَهُ لَو رآك السُّلْطَان زَاد فِيمَا لَك فِي بَيت المَال واعلى مرتبتك امن يكون راس جَيش يقدم هَذَا الْإِقْدَام ويتعرض بِهَلَاك نَفسه إِلَى هلاكهم فَقَالَ لَهُ دَعْنِي فَإِنِّي لَا اموت مرَّتَيْنِ وَإِذا مت أَنا فَلَا عَاشَ من بعدِي
والقائد ابو عبد الله بن قادوس الَّذِي اشْتهر من شجاعته ومواقعه فِي النَّصَارَى وَحسن بلائه مَا صير النَّصَارَى من رعبه والاقرار بفضله فِي هَذَا الشَّأْن ان يَقُول أحدهم لفرسه إِذا سقَاهُ فَلم يقبل على المَاء مَالك ارأيت ابْن قادوس فِي المَاء وَهَذِه مرتبَة عَظِيمَة وَالْفضل مَا شهِدت بِهِ الاعداء
وَلَقَد أَخْبرنِي من اثق بِهِ أَنه خرج من عَسْكَر فِي كَتِيبَة مُجَرّدَة برسم الْغَارة على بِلَاد النَّصَارَى فَوَقع فِي جمع كَبِير مِنْهُم فجهد جهده فِي الْخَلَاص مِنْهُم وَالرُّجُوع إِلَى الْعَسْكَر فَجعل يُقَاتل مَعَ اصحابه فِي حَالَة الْفِرَار إِلَى ان كبا بِأحد جنده فرسه وفر عَنهُ فناداه مستغيثا فَقَالَ اصبر ثمَّ نظر إِلَى فَارس من النَّصَارَى قد طرق فَقَالَ اجْرِ إِلَى هَذَا
النَّصْرَانِي فَخذ فرسه وركض نَحوه فاسقطه وَقَالَ لصَاحبه اركب فَركب وَنَجَا مَعَه سالما
وأمثال هَذَا كثير وَإِنَّمَا جِئْت بحصاة من ثبير
وَأما كرم النَّفس وشمائل الرياسة فَأَنا أحكي لَك حِكَايَة تعجب مِنْهَا وَهِي مِمَّا جرى فِي عصرنا وَذَلِكَ ان ابا بكر بن زهر نشات بَينه وَبَين الْحَافِظ أبي بكر ابْن الْجد عَدَاوَة مفرطة للإشتراك فِي الْعلم والرياسة وَكَثْرَة المَال والبلدية فَأجرى ابْن زهر يَوْمًا ذكره فِي جمَاعَة من اصحابه وَقَالَ لقد آذَانا هَذَا الرجل اشد إذية وَلم يقصر فِي القَوْل عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ وَعند خَواص النَّاس وعوامهم فَقَالَ لَهُ أحد عوامهم اني إذكر لَك عَلَيْهِ عقدا فِيهِ مخاصمة فِي مَوضِع مِمَّا يعز عَلَيْهِ من موَاضعه وَمَتى خاصمته فِي ذَلِك بلغت مِنْهُ فِي النكاية اشد مبلغ فَخرج ابْن زهر واظهر الْغَضَب الشَّديد وَالْإِنْكَار لذَلِك وَقَالَ لوَكِيله امثلي يجازي على الْعَدَاوَة بِمَا يجازي بِهِ السّفل والأوباش واني اجْعَل ابْن الْجد فِي حل من مَوضِع الْخِصَام وامر بِأَن يحمل لَهُ العقد ثمَّ قَالَ واني وَالله مَا أروم بذلك ان اصالحه فَإِن عدأوته من حسد أَنا اسْأَل الله تَعَالَى ان يديمها لِأَنَّهَا مقترنة بدوام نعم الله عَليّ
وان تعرضت إِلَى ذكر الْبِلَاد وَتَفْسِير محاسنها وَمَا خصها الله تَعَالَى بِهِ مِمَّا حرمه على غَيرهَا فاسمع مَا يُمِيت الحسود
كمدا أما اشبيلية فَمن محاسنها اعْتِدَال الْهَوَاء وَحسن المباني وتزيين الْخَارِج والداخل وَتمكن التمصر حَتَّى ان الْعَامَّة تَقول لَو طلب لبن الطير فِي اشبيلية وجد ونهرها الاعظم الَّذِي يصعد الْمَدّ فِيهِ اثْنَيْنِ وَسبعين ميلًا ثمَّ يحسر وَفِيه يَقُول ابْن سفر
(شقّ النسيم عَلَيْهِ جيب قَمِيصه
…
فانساب من شطيه يطْلب ثاره)
(فتضاحكت ورق الْحمام بدوحها
…
هزءا فضم من الْحيَاء ازاره)
وزيادته على الْأَنْهَار كَون ضفتيه مطرزتين بالمنازه والبساتين والكروم والانسام مُتَّصِل ذَلِك اتصالها لَا يُوجد على غَيره
وَأَخْبرنِي شخص من الأكياس دخل مصر وَقد سالته عَن نيلها أَنه لَا تتصل بشطيه الْبَسَاتِين والمنازه اتِّصَالًا بنهر اشبيلية وَكَذَلِكَ أَخْبرنِي شخص آخر دخل بَغْدَاد وَقد سعد هَذَا والوادي بِكَوْنِهِ لَا يَخْلُو من مَسَرَّة وان جَمِيع ادوات الطَّرب وَشرب الْخمر فِيهِ غير مُنكر لَا ناه عَن ذَلِك وَلَا منتقد مَا لم يؤد السكر إِلَى شَرّ وعربدة وَقد رام من وَليهَا من الْوُلَاة المظهرين للدّين قطع ذَلِك فَلم يستطيعوا ازالته واهله أخف النَّاس ارواحا واطبعهم نَوَادِر واحملهم لمزاح بأقبح مَا يكون من السب قد مرنوا على ذَلِك فَصَارَ لَهُم ديدنا حَتَّى صَار عِنْدهم من لَا يتبذل فِيهِ وَلَا يتلاعن ممقوتا ثقيلا وَقد سَمِعت عَن شرف اشبيلية الَّذِي ذكره أحد الوشاحين فِي موشحه مدح بهَا المعتضد ابْن عباد
(اشبيليا عروس وبعلها عباد
…
وتاجها الشّرف وسلكها الواد)
أَي شرف قد حَاز مَا شَاءَ من الشّرف إِذْ عَم اقطار الارض خَيره وسفر مَا يعصر من زيتونه من الزَّيْت حَتَّى بلغ الاسكندرية وتزيد قراه على غَيرهَا من الْقرى بانتخاب مبانيها وتهمم سكانها فِيهَا دَاخِلا وخارجا إِذْ هِيَ من تبييضهم لَهَا نُجُوم فِي سَمَاء الزَّيْتُون
وَقيل لأحد من راى مصر وَالشَّام ايها رَأَيْت احسن هَذَانِ ام اشبيلية فَقَالَ بعد تَفْضِيل اشبيلية وشرفها غابة بِلَا اسد ونهرها
نيل بِلَا تمساح وَقد سَمِعت عَن جبال الرَّحْمَة بخارجها وَكَثْرَة مَا فِيهَا من بساتين التِّين القوطي والشعري وَهَذَانِ الصنفان اجْمَعْ المتجولون فِي أقطار الأَرْض ان لَيْسَ فِي غير اشبيلية مثل لَهما وَقد سَمِعت مَا فِي هَذَا الْبَلَد من اصناف ادوات الطَّرب كالخيال والكريج وَالْعود والروطة والرباب والقانون والمؤنس والكثيرة والفنار والزلامي والشقرة والنورة وهما مزماران الْوَاحِد غليظ الصَّوْت وَالْآخر رَقِيقه والبوق وان كَانَ جَمِيع هَذَا مَوْجُودا فِي غَيرهَا من بِلَاد الأندلس فَأَنَّهُ فِيهَا أَكثر وأوجد وَلَيْسَ فِي بر العدوة من هَذَا شَيْء إِلَّا مَا جلب اليه من الأندلس وحسبهم الدُّف واقوال واليرا وابو قُرُون ودبدبه السودَان وحماقى البرابر وَأما جواريها ومراكبها برا وبحرا ومطابخها وفواكهها الخضراء واليابسة فاصناف أخذت من التَّفْضِيل بأوفر نصيب وَأما مبانيها فقد سَمِعت عَن اتقانها واهتمام اصحابها بهَا وَكَون أَكثر ديارها لَا تَخْلُو من المَاء الْجَارِي والاشجار المتكاثفة كالنارنج والليم والليمون والزنبوع وَغير ذَلِك وَأما علماؤها فِي كل صنف رفيع أَو وضيع جدا أَو هزلا فَأكْثر من ان يعدوا واشهر من ان يذكرُوا وَأما مَا فِيهَا مت الشُّعَرَاء والوشاحين والزجالين فَمَا لَو قسموا على بر العدوة ضَاقَ بهم وَالْكل ينالون خير رؤسائها ورفدهم وَمَا من جَمِيع مَا ذكرت فِي هَذِه الْبَلدة الشَّرِيفَة الا وقصدي بِهِ الْعبارَة عَن فَضَائِل جَمِيع الأندلس فَمَا تَخْلُو بلادها من ذَلِك وَلَكِن جعلت اشبيلية بل الله جعلهَا ام قراها ومركز فخرها وعلاها إِذْ هِيَ اكبر مدنها واعظم امصارها
وَأما قرطبة فكرسي المملكة الْقَدِيم ومركز الْعلم ومنار التقى وَمحل التَّعْظِيم والتقديم بهَا اسْتَقَرَّتْ مُلُوك الْفَتْح وعظماؤه ثمَّ مُلُوك المروانية وَبهَا كَانَ يحيى بِي يحيى راوية مَالك وَعبد الْملك بن حبيب وَقد سَمِعت من تَعْظِيم أَهلهَا للشريعة ومنافستهم فِي السؤدد
بعلمها وَأَن مُلُوكهَا كَانُوا يتواضعون لعلمائها ويرفعون اقدارهم وَيَصْدُرُونَ عَن آرائهم وَأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يقدمُونَ وزيرا وَلَا مشاورا مَا لم يكن عَالما حَتَّى ان الحكم الْمُسْتَنْصر لما كره لَهُ الْعلمَاء شرب الْخمر هم بِقطع شَجَرَة الْعِنَب من الأندلس فَقيل لَهُ فَإِنَّهَا تعصر من سواهَا فامسك عَن ذَلِك وَأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يقدمُونَ أحدا للْفَتْوَى وَلَا لقبُول الشَّهَادَة حَتَّى يطول أختباره وتعقد لَهُ مجَالِس المذاكرة وَيكون ذَا مَال فِي غَالب الْحَال خوفًا من ان يمِيل بِهِ الْفقر إِلَى الطمع فِيمَا فِي ايدي النَّاس فيبيع بِهِ حُقُوق الدّين وَقد أخْبرت ان الحكم الربضي اراد تَقْدِيم شخص من الْفُقَهَاء يخْتَص بِهِ للشَّهَادَة فَأخذ فِي ذَلِك مَعَ يحيى بن يحيى وَغَيرهمَا من اعلام الْعلمَاء فَقَالُوا لَهُ هُوَ أهل وَلكنه شَدِيد الْفقر وَمن يكون فِي هَذِه الْحَالة لَا تأمنه على حُقُوق الْمُسلمين لَا سِيمَا وَأَنت تُرِيدُ انتفاعه وظهوره فِي الدُّخُول فِي الْمَوَارِيث والوصايا واشباه ذَلِك فَسكت وَلم يرد منازعتهم وَبَقِي مهموما من كَونهم لم يقبلُوا قَوْله فَنظر اليه وَلَده عبد الرَّحْمَن الَّذِي ولي الْملك بعده وعَلى وَجهه اثر ذَلِك فَقَالَ مَا بالك يَا مولَايَ فَقَالَ الا ترى لهَؤُلَاء الَّذين نقدمهم وننوه عِنْد النَّاس بمكانتهم حَتَّى إِذا كلفناهم مَا لَيْسَ عَلَيْهِم فِيهِ شطط بل مَا لَا يعيبهم وَلَا مِمَّا هُوَ يزرؤهم صدونا عَنهُ وغلقوا ابواب الشَّفَاعَة وَذكر لَهُ مَا كَانَ مِنْهُم فَقَالَ يَا مولَايَ انت أولى النَّاس بالانصاف ان هَؤُلَاءِ مَا قدمتهم انت وَلَا نوهت بهم وانما قدمهم ونوه بهم علمهمْ أَو كنت تَأْخُذ قوما جُهَّالًا فتضعهم فِي مواضعهم قَالَ لَا قَالَ فانصفهم فِيمَا تعبوا فِيهِ من الْعلم لينالوا بِهِ لَذَّة الدُّنْيَا وراحة الْآخِرَة قَالَ صدقت ثمَّ قَالَ وَأما كَونهم لم يقبلُوا هَذَا الرجل لشدَّة فقره فالعلة فِي ذَلِك تنحسم بِمَا يبْقى لَك من الصَّالِحَات ذكرا قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تعطيه من مَالك قدر مَا يلْحق بِهِ من الْغنى مَا يؤهله لتِلْك الْمنزلَة ويزيل عَنْك خجل ردهم لَك وَتَكون هَذِه
مكرمَة مَا سَبَقَك اليها أحد فتهلل وَجه الحكم وَقَالَ الي الي أَنَّهَا وَالله شنشنة عبشمية وان الَّذِي قَالَ فِيهَا لصَادِق
(وابناء املاك خضارم سادة
…
صَغِيرهمْ عِنْد الْأَنَام كَبِير)
ثمَّ استدعى عبد الْملك بن حبيب وَسَأَلَهُ عَن قدر مَا يؤهله لتِلْك الْمرتبَة من الْغنى فَذكر لَهُ عددا فَأمر لَهُ بِهِ فِي الْحِين وَنبهَ قدره بَان اعطاه من اصطبله مركوبا وَكَانَت هَذِه اكرومة لَا خَفَاء بعظمها يفنى الزَّمَان وَمَا بنته مخلد ثمَّ أَنه إِذا كَانَ لَهُ من الْغنى مَا يكفه عَن اموال النَّاس وَمن الدّين مَا يصده عَن محارم الله تَعَالَى وَمن الْعلم مَا يجهل بِهِ التَّصَرُّف فِي الشَّرِيعَة اباحوا لَهُ الْفَتْوَى وَالشَّهَادَة وَجعلُوا عَلامَة لذَلِك بَين النَّاس القلانس والرداء
وَأهل قرطبة اشد النَّاس مُحَافظَة على الْعَمَل بأصح الْأَقْوَال الْمَالِكِيَّة حَتَّى أَنهم كَانُوا لَا يولون حَاكما إِلَّا بِشَرْط ان لَا يعدل فِي الحكم عَن مَذْهَب ابْن الْقَاسِم وَقَالَ ابْن سارة لما دخل قرطبة الْحَمد لله قد وافيت قرطبة دَار الْعُلُوم وكرسي السلاطين وَهِي كَانَت مجمع جيوش الْإِسْلَام وَمِنْهَا نصر الله على عَبدة الصَّلِيب
يُقَال ان الْمَنْصُور بن أبي عَامر حِين تمّ لَهُ ملك البرين وتوفرت الجيوش وَالْأَمْوَال عرض بِظَاهِر قرطبة خيله وَرجله وَقد جمع من اقطار الْبِلَاد مَا ينْهض بِهِ إِلَى قتال الْعَدو وتدويخ بِلَاده فنيف
الفرسان على مائَة الف والرجالة على سِتّمائَة الف وَبهَا حَتَّى الان من صَنَادِيد الْمُسلمين وقوادهم من لَا يفتر عَن محاربه وَلَا يمل من مُضَارَبَة من اسماؤهم بأقاصي بِلَاد النَّصَارَى مَشْهُورَة وآثارهم فِيهَا ماثورة وَقُلُوبهمْ على الْبعد بخوفهم معمورة
ويحكى ان الْعِمَارَة فِي مباني قرطبة والزاهرة والزهراء اتَّصَلت إِلَى ان كَانَ يمشى فِيهَا بضوء السرج الْمُتَّصِلَة عشرَة أَمْيَال وَأما جَامعهَا الْأَعْظَم فقد سَمِعت ان ثرياته من نواقيس النَّصَارَى وَأَن الزِّيَادَة الَّتِي زَاد فِي بنائِهِ ابْن أبي عَامر من تُرَاب نَقله النَّصَارَى على رؤوسهم مِمَّا هدم من كنائس بِلَادهمْ وَقد سَمِعت أيضاعن قنطرتها الْعُظْمَى وَكَثْرَة ارحي واديها يُقَال أَنَّهَا تنيف عَن خَمْسَة آلَاف حجر وَقد سَمِعت عَن كنبانيتها وَمَا فضل الله تَعَالَى بِهِ تربها من بركَة وَمَا ينْبت فِيهَا من الْقَمْح وطيبه وفيهَا جبال الْورْد الَّذِي بلغ الرّبع مِنْهُ مَرَّات إِلَى ربع دِرْهَم وَصَارَ اصحابه يرَوْنَ الْفضل لمن قطف بِيَدِهِ مَا يمنحونه مِنْهُ ونهرها ان صغر عِنْدهَا عَن عظمه عِنْد اشبيلية فَإِن لتقارب بريه هُنَالك انس وتقطع غدره ومروجه معنى آخر وحلاوة أُخْرَى وَزِيَادَة انس وَكَثْرَة امان من الْغَرق وَفِي جوانبه من الْبَسَاتِين والمروج مَا زَاده نضارة وبهجة
وَأما جيان فَأَنَّهَا لبلاد الأندلس قلعة إِذْ هِيَ أَكْثَرهَا زرعا واصرمها ابطالا واعظمها مَنْعَة وَكم رامتها عَسَاكِر النَّصَارَى عِنْد فترات الْفِتَن فرأوها ابعد من العيوق واعز منالا من بيض الأنوق وَلَا خلت من عُلَمَاء وَلَا من شعراء وَيُقَال لَهَا جيان الْحَرِير لِكَثْرَة اغتناء باديتها وحاضرتها بدود الْحَرِير
وَمِمَّا يعد من مفاخرها مَا ببياسة أحدى بِلَاد اعمالها من الزَّعْفَرَان
الَّذِي يسفر برا وبحرا وَمَا فِي ابدة من الكروم الَّتِي كَاد الْعِنَب لَا يُبَاع فِيهَا وَلَا يشترى كَثْرَة وَمَا كَانَ بابدة من اصناف الملاهي والرواقص المشهورات بِحسن الإنطباع والصنعة فانهن احذق خلق الله تَعَالَى باللعب بِالسُّيُوفِ والدك وأخراج الْقَرَوِي والمرابط والمتوجه
وَأما غرناطة فَإِنَّهَا دمشق بِلَاد الأندلس ومسرح الْأَبْصَار ومطمح الْأَنْفس لَهَا القصبة المنيعة ذَات الأسوار الشامخة والمباني الرفيعة وَقد أختصت بِكَوْن النَّهر يتوزع على ديارها واسواقها وحماماتها وارحائها الدأخلة والخارجة وبساتينها وزأنها الله تَعَالَى بَان جعلهَا مرتبَة على بسيطها الممتد الَّذِي تفرعت فِيهِ سبائك الْأَنْهَار بَين زبرجد الاشجار ولنسيم نجدها وبهجة منظر حورها فِي الْقُلُوب والأبصار استلطاف يروق الطباع وَيحدث فِيهَا مَا شاءه الْإِحْسَان من الأختراع والابتداع وَلم تخل من اشراف اماثل وعلماء اكابر وشعراء افاضل وَلَو لم يكن لَهَا الا مَا خصها الله تَعَالَى بِهِ من كَونهَا قد نبغ فِيهَا من الشواعر مثل نزهون القلاعية وَزَيْنَب بنت زِيَاد وَقد تقدم شعرهما وَحَفْصَة بنت الْحَاج وناهيك فِي الظّرْف والادب وَهل ترى اظرف مِنْهَا فِي جوابها للحسيب الْوَزير النَّاظِم الناثر أبي جَعْفَر ابْن الْقَائِد الاجل أبي مَرْوَان بن سعيد وَذَلِكَ أَنَّهُمَا باتا بحور مُؤَمل على مَا يبيت بِهِ الرَّوْض والنسيم من طيب النفحة ونضارة النَّعيم فَلَمَّا حَان الِانْفِصَال قَالَ ابو جَعْفَر
(رعى الله لَيْلًا لم يرع بمذمم
…
عَشِيَّة وارأنا بحور مُؤَمل)
(وَقد خَفَقت من نَحْو نجد اريجة
…
إِذا نفحت هبت بريا القرنفل)
(وغرد قمري على الدوح وانثنى
…
قضيب من الريحان من فَوق جدول)
(ترى الرَّوْض مَسْرُورا بِمَا قد بدا لَهُ
…
عنَاق وَضم وارتشاف مقبل)
وَكتبه اليها بعد الِافْتِرَاق لتجأوبه على عَادَتهَا فِي ذَلِك فَكتبت لَهُ مَا لايخفى فِيهِ قيمتهَا
(لعمرك ماسر الرياض بوصلنا
…
وَلكنه ابدى لنا الغل والحسد)
(وَلَا صفق النَّهر ارتياحا لقربنا
…
وَلَا صدح الْقمرِي الا بِمَا وجد)
(فَلَا تحسن الظَّن الَّذِي انت اهله
…
فَمَا هُوَ فِي كل المواطن بِالرشد)
(فَمَا خلت هَذَا الافق ابدى نجومه
…
لامر سوى كَيْمَا تكون لنا رصد)
وَأما مالقة فَأَنَّهَا قد جمعت بَين منظر الْبَحْر وَالْبر بالكروم الْمُتَّصِلَة الَّتِي لَا تكَاد ترى فِيهَا فُرْجَة لموْضِع عَابِر والبروج الَّتِي شابهت نُجُوم السَّمَاء كَثْرَة عدد وبهجة ضِيَاء وتخلل الْوَادي الرائز لَهَا فِي فَصلي الشتَاء وَالربيع فِي سرر بطحائها وتوشيحه لخصور ارجائها وَمِمَّا أختصت بِهِ من بَين سَائِر الْبِلَاد التِّين الربي الْمَنْسُوب اليها لَان اسْمهَا فِي الْقَدِيم ربة وَلَقَد أخْبرت أَنه يُبَاع فِي بَغْدَاد على جِهَة الاستطراف وَأما مَا يسفر مِنْهُ الْمُسلمُونَ وَالنَّصَارَى فِي المراكب البحرية فَأكْثر من ان يعبر عَنهُ بِمَا يحصره وَلَقَد اجتزت بهَا مرّة وَأخذت على طَرِيق السَّاحِل من سُهَيْل إِلَى ان بلغت إِلَى بليش قدر ثَلَاثَة أَيَّام مُتَعَجِّبا فِيمَا حوته هَذِه الْمسَافَة من شجر التِّين وان بَعْضهَا ليجتني جَمِيعهَا الطِّفْل الصَّغِير من لزوقها بِالْأَرْضِ وَقد حوت مَا يتعب الْجَمَاعَة كَثْرَة وتين بليش هُوَ الَّذِي قيل فِيهِ لبربري كَيفَ رَأَيْته قَالَ لَا تَسْأَلنِي عَنهُ وصب فِي حلقي بالقفة وَهُوَ لعمر الله مَعْذُور لِأَنَّهُ نعْمَة حرمت بِلَاده مِنْهَا وَقد خصت بِطيب الشَّرَاب الْحَلَال وَالْحرَام حَتَّى سَار الْمثل بِالشرابِ المالقي وَقيل لأحد الخلعاء وَقد اشرف على الْمَوْت اسال رَبك الْمَغْفِرَة فَرفع يَدَيْهِ وَقَالَ يارب اسألك من جَمِيع مَا فِي الْجنَّة خمر مالقة وزبيبي اشبيلية وفيهَا تنسج الْحلَل الموشية الَّتِي تجَاوز اثمانها
الالاف ذَات الصُّور العجيبة المنتخبة برسم الْخُلَفَاء فَمن دونهم وساحلها محط تِجَارَة لمراكب الْمُسلمين وَالنَّصَارَى
وَأما المرية فَأَنَّهَا الْبَلَد الْمَشْهُور الذّكر الْعَظِيم الْقدر الَّذِي خص اهله باعتدال المزاج ورونق الديباج ورقة الْبشرَة وَحسن الْوُجُوه والأخلاق وكرم المعاشرة والصحبة وساحلها انظف السواحل واشرحها واملحها منْظرًا وفيهَا الْحَصَا الملون العجيب الَّذِي يَجعله رُؤَسَاء مراكش فِي البراريد والرخام الصَّقِيل الملوكي وواديها الْمَعْرُوف بوادي بجانة من افرج الأودية ضفتاه بالرياض كالعذارين حول الثغر فَحق ان ينشد فِيهَا
(ارْض وطِئت الدّرّ رضراضا بهَا
…
والترب مسكا والرياض جنَانًا)
وفيهَا كَانَ ابْن مَيْمُون الْقَائِد الَّذِي قهر النَّصَارَى فِي الْبَحْر وَقطع سفرهم فِيهِ وَضرب على بِلَاد الرمانية فَقتل وسبى وملأ صُدُور أَهلهَا رعْبًا حَتَّى كَانَ مِنْهُ كَمَا قَالَ اشجع
(فَإِذا تنبه رعته وَإِذا غفا
…
سلت عَلَيْهِ سيوفك الأحلام)
وَبهَا كَانَ محط مراكب النَّصَارَى ومجتمع ديوأنهم وَمِنْهَا كَانَت تسفر لسَائِر الْبِلَاد بضائعهم وَمِنْهَا كَانُوا يوسقون جَمِيع البضائع الَّتِي تصلح لَهُم وَقصد بضبط ذَلِك بهَا حصر مَا يجْتَمع فِي اعشارهم وَلم يُوجد لهَذَا الشَّأْن مثلهَا لكَونهَا متوسطة ومتسعة قَائِمَة بالوارد والصادر وَهِي أَيْضا مصنع للحلل الموشية النفيسة
وَأما مرسية فَأَنَّهَا حَاضِرَة شَرق الأندلس ولأهلها من الصرامة والاباء مَا هُوَ مَعْرُوف مَشْهُور وواديها قسيم إشبيلية وَادي اشبيلية كِلَاهُمَا
يَنْبع من شقورة وَعَلِيهِ من والبساتين المتهدلة الاغصان والنواعير المطربة الالحان والاطيار المغردة والازهار المتنضدة مَا قد سَمِعت وَهِي من أَكثر الْبِلَاد فواكه وريحانا وَأَهْلهَا أَكثر النَّاس راحات وفرجا لكَون خَارِجهَا معينا على ذَلِك بِحسن منظره وَهِي بَلْدَة تجهز مِنْهَا الْعَرُوس الَّتِي تنتخب شورتها لَا تفْتَقر فِي شَيْء من ذَلِك إِلَى سواهَا وَهِي للمرية ومالقة فِي صَنْعَة الوشي ثَالِثَة وَقد أختصت بالبسط التنتلية الَّتِي تسفر لبلاد الْمشرق وبالحصر الَّتِي تغلف بهَا الْحِيطَان المبهجة لِلْبَصَرِ إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول ذكره وَلم تخل من عُلَمَاء وشعراء وابطال
وَأما بلنسية فَإِنَّهَا لِكَثْرَة بساتينها تعرف بمطيب الأندلس ورصافتها من احسن متفرجات الأَرْض وفيهَا الْبحيرَة الْمَشْهُورَة الْكَثِيرَة الضَّوْء والرونق وَيُقَال أَنه لمواجهة الشَّمْس لتِلْك الْبحيرَة يكثر ضوء بلنسية إِذْ هِيَ مَوْصُوفَة بذلك وَمِمَّا خصت بِهِ النسيج البلنسي الَّذِي يسفر لاقطار الْمغرب وَلم تخل من عُلَمَاء وَلَا شعراء وَلَا فرسَان يكابدون مضايقة الْأَعْدَاء ويتجرعون فِيهَا النعماء ممزوجة بالضراء وَأَهْلهَا اصلح النَّاس مذهبا وامتنهم دينا واحسنهم صُحْبَة وارفقهم بالغريب
وَأما جَزِيرَة ميورقة فَمن أخصب بِلَاد الله تَعَالَى ارجاء وأكثرها زرعا وَرِزْقًا وماشية وَهِي على انقطاعها من الْبِلَاد مستغنية عَنْهَا يصل فَاضل خَيرهَا إِلَى غَيرهَا إِذْ فِيهَا من الحضارة والتمكن والتمصر وَعظم الْبَادِيَة مَا يغنيها وفيهَا من الْفَوَائِد مَا فِيهَا وَلها فضلاء وابطال اقتصروا على حمايتها من الْأَعْدَاء المحدقة بهَا
(من كل من جعل الحسام خَلِيله
…
لَا يَبْتَغِي ابدا سواهُ معينا) هَذَا زَان الله تَعَالَى فضلك بالإنصاف وَشرف كرمك بالإعتراف
مَا حضرني الْآن فِي فضل جَزِيرَة الأندلس وَلم إذكر من بلادها الا مَا كل بلد مِنْهَا مملكة مُسْتَقلَّة يَليهَا مُلُوك بني عبد الْمُؤمن على انْفِرَاد وَغَيرهَا فِي حكم التبع
وَأما علماؤها وشعراؤها فَإِنِّي لم أعرض مِنْهُم إِلَّا لمن هُوَ فِي الشُّهْرَة كالصباح وَفِي مسير الذّكر كمسير الرِّيَاح وَأَنا احكي لَك حِكَايَة جرت لي فِي مجْلِس الرئيس الْفَقِيه أبي بكر بن زهر وَذَلِكَ اني كنت يَوْمًا بَين يَدَيْهِ فَدخل علينا رجل عجمي من فضلاء خُرَاسَان وَكَانَ ابْن زهر يُكرمهُ فَقلت لَهُ مَا تَقول فِي عُلَمَاء الأندلس وكتابهم وشعرائهم فَقَالَ كَبرت فَلم افهم مقْصده واستبردت مَا أُتِي بِهِ وَفهم مني أَبُو بكر بن زهر أَنِّي نظرته نظر المستبرد الْمُنكر فَقَالَ لي اقرات شعر المتنبي قلت نعم وحفظت جَمِيعه قَالَ فعلى نَفسك إِذن فلتنكر وخاطرك بقلة الْفَهم فلتتهم فذكرني بقول المتنبي
(كَبرت حول دِيَارهمْ لما بَدَت
…
مِنْهَا الشموس وَلَيْسَ فِيهَا الْمشرق)
فاعتذرت للخراساني وَقلت لَهُ قد وَالله كَبرت فِي عَيْني بِقدر مَا صغرت نَفسِي عِنْدِي حِين لم افهم نبل مقصدك
فَالْحَمْد لله الَّذِي اطلع من الْمغرب هَذِه الشموس وَجعلهَا بَين جَمِيع اهله بِمَنْزِلَة الرؤس وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد نبيه الْمُخْتَار من صفوة الْعَرَب وعَلى آله وَصَحبه صَلَاة مُتَّصِلَة إِلَى غابر الحقب
كملت رِسَالَة الشقندي