المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ ‌كتاب النكاح

‌كتاب النكاح

ص: 181

1 -

عن عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه عنه قال: "قال لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء" متفق عليه.

[المفردات]

النكاح: هو فى اللغة الضم والتداخل، ويستعمل فى عقد الزواج وفى الوطء قال أبو على الفارسى: إذا قالوا نكح فلانة أو بنت فلان فالمراد العقد وإذا قالوا: نكح زوجته فالمراد الوطء اهـ أكثر ما يستعمل فى الكتاب والسنة بمعنى العقد وقد أفاد أبو الحسين ابن فارس أن النكاح لم يرد فى القرآن إلا للتزويج إلا فى قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} فإن المراد به الحلم. وأما قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فإن معناه أيضا العقد أى حتى تتزوج زوجا غيره لكن السنة قيدت هذا الإِطلاق بأنه لابد من ذوق العسيلة. كما أنه لابد من التطليق وتمام العدة بعد ذوق العسيلة أيضا.

ص: 181

قال لنا: أى للشباب.

يا معشر الشباب: المعشر هم الجماعة الذين يشملهم وصف من الأوصاف فالشباب معشر والشيوخ معشر والأنبياء معشر والنساء معشر والشباب جمع شاب ومجمع أيضا على شَبَبَة وشُبان. وأصله الحركة والنشاط قيل: هو اسم لمن بلغ إلى أن يكمل الثلاثين وقال الحافظ فى الفتح: قال القرطبى فى (المفهم): يقال له حدث إلى ستة عشر سنة ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين ثم كهل، وكذا ذكر الزمخشرى فى الشباب أنه من لدن البلوغ إلى اثنتين وثلاثين، وقال ابن شاس المالكى فى (الجواهر): إلى أربعين وقال النووى: الأصح المختار أن الشاب من بلغ ولم يجاوز الثلاثين ثم هو كهل إلى أن يجاوز الأربعين ثم هو شيخ اهـ.

الباءة: قال النووى: اختلف العلماء فى المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد: أصحهما أن المراد معناها اللغوى وهو الجماع فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه -وهى مؤن النكاح- فليتزوج. ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع

ص: 182

شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء، وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشباب الذين هم مظة شهوة النساء ولا ينفكون عنها غالبا. والقول الثانى أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح، سميت باسم ما يلازمها، وتقديره: من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج ومن لم يستطع فليصم لدفع شهوته. والذى حمل القائلين بهذا على ما قالوه قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم" قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة فوجب تأويل الباءة على المؤن اهـ هذا ويقال فيها: الباءة والباهة والباه والباء.

فإنه أغض للبصر: أى فإن الزواج أشد حملا للبصر على الانكسار وعدم حدادة النظر إلى النساء.

وأحصن للفرج: أى وأشد منعا للإنسان من الوقوع فى الفاحشة لأنه إذا وقعت عينه فجأة على امرأة أعجبته انصرف إلى أهله فقضى شهوته، فيكون ذلك تحصينا لفرجه. كما روى مسلم فى صحيحه من حديث جابر رفعه:"إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت فى قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها فإن ذلك يَرُدُّ ما فى نفسه".

ص: 183

فعليه بالصوم: أى فَعَلَى غير المستطيع مؤن الزواج الذى لا يقدر على النكاح بالصوم. وليس هذا من باب إغراء الغائب بل الخطاب للحاضرين الذين خاطبهم بقوله: من استطاع منكم. . فالهاء فى قوله: "فعليه" ليست لغائب وإنما هى للحاضر المبهم المنزل منزلة الغائب، إذ لا يتوجه خطابه بالكاف هنا. قال الحافظ فى الفتح نقلا عن عياض: ونظير هذا قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى أن قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ومثله لو قلت لاثنين: من قام منكما فله درهم. فالهاء للمبهم من المخاطبين لا لغائب اهـ هذا والأمر بالصوم دون الأمر بالجوع وقلة ما يثير الشهوة ليجمع للشاب فضل عبادة الصوم مع الجوع وقلة ما يثير الشهوة. والصوم كذلك يورث التقوى التى تحمل الإنسان على البعد عما حرم اللَّه.

فإنه له وجاء: أى فإن الصوم يعمل فى كسر الشهوة كما يعمل الوجاء وأصل الوجاء بكسر الواو: الغمز والدفع. تقول: وجأه فى عنقه إذا غمزه دافعا له، ووجأه بالسيف إذا طعنه به، ووجأ أنثييه غمزهما حتى رضَّهما. والوجاء كالإخصاء فى قطع عمل الأنثيين غير أن

ص: 184

الوجاء إبطال مفعولهما برضهما حتى ينتفخا، والإخصاء سل البيضتين.

[البحث]

أورد البخارى هذا الحديث من طريق الأعمش قال: حدثنى إبراهيم عن علقمة قال: كنت مع عبد اللَّه، فلقيه عثمان بمنى، فقال: يا أبا عبد الرحمن إن لى إليك حاجة فَخَلَيَا، فقال عثمان: هل لك يا أبا عبد الرحمن فى أن نزوجك بكرا، تذكرك ما كنت تعهد؟ فلما رأى عبد اللَّه أن ليس له حاجة إلى هذا أشار إلىَّ فقال: يا علقمة، فانتهيت إليه وهو يقول: أَمَا لئن قلت ذلك لقد قال لنا النبى صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" وفى لفظ من طريق الأعمش قال: حدثنى عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد قال: دخلت مع علقمة والأسود على عبد اللَّه فقال عبد اللَّه: كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم شبابا لا نجد شيئا. فقال لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء. أما مسلم رحمه الله فقد أورد من طريق الأعمش عن عمارة ابن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد اللَّه باللفظ الذى ساقه المصنف وأورده من طريق أبى معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: كنت أمشى مع عبد اللَّه بمنى فلقيه عثمان فقام معه يحدثه فقال له عثمان: يا أبا عبد الرحمن ألا نزوجك جارية شابة لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك؟ قال: فقال عبد اللَّه: لئن قلت ذاك لقد قال لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء.

ص: 185

ثم ساقه من طريق جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: إنى لأمشى مع عبد اللَّه بن مسعود بمنى إذ لقيه عثمان بن عفان فقال: هَلُمَّ يا أبا عبد الرحمن قال: فاستخلاه فلما رأى عبد اللَّه أن ليست له حاجة قال: قال لى تعال يا علقمة قال: فجئت، فقال له عثمان: ألا نزوجك يا أبا عبد الرحمن جارية بِكْرًا لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد؟ فقال عبد اللَّه: لئن قلتَ ذاك، فذكر بمثل حديث أبى معاوية اهـ هذا والترغيب فى الجارية الشابة لأنها تجمع مقاصد النكاح غالبا فهى -كما قال النووى- ألذ استمتاعا وأطيب نكهة، وأرغب فى الاستمتاع الذى هو مقصود النكاح، وأحسن عِشرة، وأفكه محادثة، وأجل منظرا، وألين ملمسا، وأقرب إلى أن يُعَوِّدَها زوجها الأخلاق التى يرتضيها اهـ وفى الحديث المتفق عليه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لجابر رضى اللَّه عنه:"هَلَّا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك" زاد مسلم: "وتضاحكها وتضاحكك".

[ما يفيده الحديث]

1 -

الحض على الزواج والترغيب فيه للقادر عليه.

2 -

جواز تخفيف الشهوة الجامحة بواسطة الأدوية.

3 -

استحباب الصيام للشاب العاجز عن مؤن النكاح.

4 -

جواز أداء عبادة معينة كالصوم مع إرادة مصلحة منها لدين الإِنسان أو بدنه مع ما يبتغى بها من وجه اللَّه عز وجل وهذا بخلاف الرياء.

5 -

الحث على تحصيل ما يغض به البصر ويحصن به الفرج.

ص: 186

2 -

وعن أنس بن مالك رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم حمد اللَّه وأثنى عليه وقال: "لكِنِّى أنا أصلى وأنام، وأصوم وافْطِرُ، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتى فليس منى" متفق عليه.

ص: 186

[المفردات]

وأثنى عليه: أى وشَكرَ اللَّه عز وجل.

أصلى: أى أتهجد بعض الليل.

وأنام: أى بعض الليل.

وأفطر: أى بعض الأيام نافلة.

فمن رغب عن سنتى: أى أعرض عن طريقتى السهلة السمحة المباكة.

فليس منى: أى ليس على منهاجى وما أدعوا إليه من اليسر ودفع الحرج.

[البحث]

هذا اللفظ الذى ساقه المصنف هو لفظ مسلم، ولهذا الحديث سبب فقد روى البخارى رحمه الله من طريق حميد بن أبى حميد الطويل أنه سمع أنس بن مالك رضى اللَّه عنه يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبى صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبى صلى الله عليه وسلم فلما أُخْبِرُوا كأنهم تقَالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبى صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أمَّا أنا فأنا أصلى الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال، آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ ، أمَا واللَّه إنى لأخشاكم للَّه، وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى" وأخرجه مسلم من طريق ثابت عن أنس بلفظ: أن نفرا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبى صلى الله عليه وسلم عن عمله فى السر فقال بعضهم. لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد اللَّه وأثنى عليه فقال: "ما بال

ص: 187

أقوام قالوا كذا وكذا. لكنى أصلى وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتى فليس منى" وهذا الحديث قاعدة من أمهات قواعد الإِسلام التى قررت أن الإِسلام هو دين الفطرة، ودين الحياة الطيبة، وأن مبناه اليسر، وترك التنطع، وأن لا رهبانية فى الإسلام وأنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، وقد ذكر اللَّه تبارك وتعالى هذه المعانى السامية فى آيات كثيرة حيث يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ويقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ} ويقول: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} ويقول: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} قال البخارى فى صحيحه: باب الدين يسر وقول النبى صلى الله عليه وسلم: "أحب الدين إلى اللَّه الحنيفية السمحة" ثم ساق من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدين يسر ولن يُشَادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشئ من الدُّلْجَة" كما روى البخارى ومسلم من حديث عائشة رضى اللَّه عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، قال "من هذه؟ " قالت: فلانة تذكر من صلاتها، قال: "مَهْ، عليكم بما تطقون، فواللَّهِ لا يَمَلُّ اللَّهُ حتى تَمَلُّوا" وكان أحبَّ الدِّين إليه ما داوم عليه صاحبه" اهـ حتى الموعظة والإرشاد والتذكير كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتخولهم بها مخافة السآمة عليهم. قال البخارى: باب ما كان النبى صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كى لا ينفروا. وساق هو

ص: 188

ومسلم من حديث ابن مسعود رضى اللَّه عنه قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة فى الأيام كراهة السآمة علينا" كما روى البخارى ومسلم من حديث أنس رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "يَسروا ولا تُعَسِّرُو. وبَشِّروا ولا تنفروا اهـ وقد دلت التجارب على أن المتشددين فى الدين الغالين قد انقطعوا وصاروا من أهل الأهواء وأن السائرين إلى اللَّه على بصيرة هم أهل السنة والجماعة، وللَّه الحمد والمنة، فهم المتوسطون بين المُفْرطين والمُفَرِّطِين، وخير الأمور أوساطها.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن ترك التزوج من أجل الانقطاع للعبادة ليس من هدى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

2 -

وأن المشروع هو الاقتصاد فى العبادات.

3 -

وأن مبنى الشريعة الإسلامية قائم على التيسير وعدم التعسير.

4 -

وأن الانهماك فى العبادة والإِضرار بالنفس ليس من هدى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

5 -

الترغيب فى الزواج.

ص: 189

3 -

وعنه رضى اللَّه عنه قال: كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالباءة، ويَنْهَى عن التبَّتِّل نَهْيًا شديدا، ويقول:"تزوجوا الوُلودَ الوَدُودَ فإنى مُكاثرٌ بكم الأمَمَ يوم القيامة" رواه أحمد وصححه ابن حبان. وله شاهد عند أبى داود والنسائى وابن حبان أيضا من حديث معقل بن يسار.

ص: 189

[المفردات]

وعنه: أى وعن أنس رضى اللَّه عنه.

بالباءة: أى بالنكاح والسعى فى تحصيل مؤنه.

التَّبتُّل: المراد بالتبتل هنا هو الانقطاع عن النكاح وما يتبعه من الملاذ إلى العبادة. وأصل التبتل الانقطاع مطلقا ومنه قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} أى انقطع إلى اللَّه وحده انقطاعا وأخلص له العبادة إخلاصا فَيُبَتِّلُكَ تبتيلا أى فيجعلك خالصا له ويخلص قلبك من التوجه إلى غيره. وأشار ابن جرير رحمه الله إلى أن قوله "تبتيلا" ليست مصدر "تَبَتَّلْ" وإنما هى فى الآية مصدر لفعل محذوف مرتب على "تَبَتَّلْ" أى فَيُبَتِّلُكَ، يعنى تَبَتَّل إليه تَبَتُّلًا، فيبتلك تبتيلا. والصدقة البَتْلة أى المنقطعة عن الملك، ومريم البتول لانقطاعها عن التزويج إلى العبادة، وفاطمة الزهراء يقال لها البتول أى لانقطاعها عن نظائرها فى الحسن والشرف فكلهن دونها رضى اللَّه عنها.

نهيا شديدا: أى حذر عنه تحذيرا مؤكدا بالغا.

ويقول: أى وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول.

الْوَدُود: أى التى تتحبب إلى زوجها وأهلها المحبوبة بكثرة ما هى عليه من خصال الخير والبر وحسن الخلق.

ص: 190

الوَلُود: أى كثيرة الولادة والإِنجاب، ويعرف ذلك عادة فى البكر بحال أمها وقرابتها.

مكاثر بكم الأم: أصل المكاثرة المفاخرة بالكثرة وأمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هى أكثر الأمم يوم القيامة.

وله شاهد: أى ولحديث أنس شاهد يعضده ويقويه.

معقل بن يسار: هو معقل بن يسار بن عبد اللَّه بن مُعَبِّر بن حُرَّاق بن لأى بن كعب بن عبد بن ثور بن هُذْمة بن لاطم بن عثمان بن مزينة أبو عبد اللَّه أو أبو على المزنى رضى اللَّه عنه، قد كان يوم الحديبية مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس تحت الشجرة ومعقل بن يسار يرفع بيده غصنا من أغصان الشجرة عن رأس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو صاحب نهر معقل بالبصرة، وقد أمره عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه بحفره فحفره وقد ابتنى دارا بالبصرة، وتوفى بها أيام ولاية عبيد اللَّه بن زياد فى آخر خلافة معاوية بن أبى سفيان رضى اللَّه عنهم.

[البحث]

حديث أنس رضى اللَّه عنه عند أحمد فى سنده حفص بن عمر وفيه مقال، قال الهيثمى: وبقية رجاله رجال الصحيح. وقد رواه الطبرانى والبزار من طريق حفص بن عمر كذلك. أما الشاهد الذين أشار إليه المصنف.

ص: 191

فقد أخرجه أبو داود والنسائى كلاهما من طريق المستلم بن سعيد عن منصور ابن زاذان عن معاوية بن قرة عن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إنى أصبت امرأة ذات حسب ومنصب، إلا أنها لا تلد، أفأتزوجها؟ فنهاه، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فنهاه، وقال:"تزوجوا الولود الودود فإنى مكاثر بكم" والمستلم بن سعيد الثقفى الواسطى قال فى التقريب: صدوق عابد ربما وهم. ومنصور بن زاذان من رجال الجماعة وكذلك معاوية بن قرة. قال البخارى فى صحيحه: باب ما يكره من التبتل والخصاء وساق هو ومسلم من طريق سعيد بن المسيب عن سعد بن أبى وقاص قال: ردَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا" وفى لفظ لمسلم من طريق سعيد بن المسيب أنه سمع سعد ابن أبى وقاص يقول: أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل فنهاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولو أجاز لى ذلك لاختصنا" وقد اشتهر عند الصحابة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يكره التبتل والانقطاع إلى العبادة وترك الطيبات من الحياة الدنيا فقد روى مسلم من طريق سعيد بن هشام أنه قدم المدينة فأراد أن يبيع عقاره فيجعله فى سبيل اللَّه، ويجاهد الروم حتى يموت، فلقى ناسا بالمدينة فنهوه عن ذلك وأخبروه أن رهطا ستة أرادوا ذلك فى حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنهاهم فلما حدثوه ذلك راجع امرأته وكان قد طلقها. ويظهر أن عثمان بن مظعون رضى اللَّه عنه كان رأس هؤلاء الستة وأن قصته غير قصة الثلاثة الرهط الذين ورد ذكرهم فى بحث

ص: 192

الحديث الثانى من أحاديث هذا الباب.

[ما يفيده الحديث]

1 -

كراهية التبتل وترك الزواج للقادر عليه.

2 -

حرص الإسلام على أن لا يترك الإنسان طيبات الحياة الدنيا.

3 -

حرص الإسلام على تكثير النسل.

4 -

أن العمل على تحديد النسل ليس من هدى الإسلام.

ص: 193

4 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "تُنْكَحُ المرأةُ لأربع: لمالها لحسبها ولجمالها ولدينها. فاظفر بذات الدِّين تَرِبَتْ يداك" متفق عليه مع بقية السبعة.

[المفردات]

تُنْكَحُ المرأةُ: أى يُرْغبُ فى الزواج منها.

لأربع: أى لأجل أربع خصال وصفات.

لحسبها: بفتح الحاء والسين أى لشرفها والحسب فى الأصل الشرف بالآباء وبالأقارب مأخوذ من الحساب لأنهم كانوا إذا تفاخروا عَدُّوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحسبوها فيحكم لمن زاد عدد مناقبه على غيره قال الحافظ فى الفتح: وقيل المراد بالحسب هنا الفعال الحسنة.

ص: 193

ولدينها: أى ولمحافظتها على تعاليم دينها واستمساكها بشعائر الإسلام.

فاظفر بذات الدين: أى فاحرص واجتهد فى تحصيل الزوجة المتدينة الحريصة على العمل بكتاب اللَّه وسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

تربت يداك: أى لصقتا بالتراب وهو كناية عن الفقر وهو خبر بمعنى الدعاء ولكن لا وراد به حقيقته، فهو يجرى على على اللسان من غير قصد الدعاء: قال فى المصباح قولهم تربت يداك كلمة جاءت فى كلام العرب على صورة الدعاء ولا يراد بها الدعاء بل يراد بها الحث والتحريص اهـ. وقيل معناه: إذا لم تحرص على ذات الدين تربت يداك، فيكون دعاء على من لم يحرص على الزواج بذات الدين.

متفق عليه مع بقية السبعة: يعنى أخرجه البخارى مسلم وأحمد وأبو داود والنسائى والترمذى وابن ماجه.

[البحث]

هذا الحديث أخرجه البخارى مسلم وغيرهما باللفظ المذكور وأخرجه مسلم من طريق عطاء عن جابر بدون ذكر الحسب وإنما اقتصر على الدين والمال والجمال ولفظه قال: تزوجت امرأة فى عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلقيت النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "يا جابر تزوجت؟ " قلت: نعم. قال: بِكرٌّ أم ثيِّب؟ " قلت: ثيب. قال: "فهلا بِكْرًا تلاعبها؟ "

ص: 194

قلت: يا رسول اللَّه إن لى أخواتٍ فخشيتُ أن تَدْخُل بينى وبينهن. قال: "فذَاكَ إذن، إن المرأة تنكح على دينها ومالها وجمالها، فعليك بذات الدين تربت يداك" قال الحافظ فى الفتح: قال القرطبى: معنى الحديث أن هذه الخصال الأربع هى التى يرغبُ فى نكاح المرأة لأجلها فهو خبر عما فى الوجود من ذلك لا أنه وقع الأمر بذلك بل ظاهره إباحة النكاح لقصد كُلٍّ من ذلك لكن قصد الدين أولى اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

الترغيب فى نكاح المرأة المحافظة على دينها.

2 -

أنه لا ينبغى للرجل أن يكون كل حريصه أن يتزوج المرأة الجميلة ولو لم تكن متدينة.

3 -

حرص الإسلام على بناء الأسرة الصالحة.

ص: 195

5 -

وعنه رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا رَفَأ إنسانا إذا تزوج قال: "بارك اللَّه لك، وبارك عليك، وجمع بينكما فى خير" رواه أحمد والأربعة، صححه الترمذى وابن خزيمة وابن حبان.

[المفردات]

عنه: أى وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه.

كان إذا رفأ إنسانا إذا تزوج: أصل الرفاء الالتئام والاتفاق وحسن العشرة ومنه رفأ الثوب إذا أصلحه وكان أهل الجاهلية يقولون للمتزوج: بالرفاء والبنين. أى يتمنون له زواجا

ص: 195

مصاحبا لحسن العشرة والموافقة وإنجاب الأولاد الذكور فغيَّر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أسلوب الجاهلية واستبدله بالدعاء بالبركة للزوجين والجمع بينهما فى خير. كما غيَّر ما كان عليه الجاهليون من تحايا كأنعم صباحا وعِمْ مساء بالسلام الذى هو تحية أهل الإسلام.

وجمع بينكما: أى بينك وبين زوجك.

فى خير: أى فى سرور ونماء ورفاهية وسعادة.

[البحث]

روى مسلم فى صحيحه من حديث جابر رضى اللَّه عنه قال: قال لى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: تزوجتَ؟ " قلتُ: نعم. قال: "بارك اللَّه لك" وقال البخارى فى صحيحه: باب كيفى يُدْعَى للمتزوج، وساق من حديث أنس رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف أثَرَ صُفْرَةٍ فقال: "ما هذا؟ " قال: إنى تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب، قال: "بارك اللَّه لك. أولِمْ ولو بشاة" قال الحافظ فى الفتح: قال ابن بطال: إنما أراد بهذا الباب واللَّه أعلم ردَّ قول العامة عند العرس: بالرفاء والبنين. وقد ساق الحافظ فى الفتح حديث الباب ثم قال: وقوله "رفأ" بفتح الراء وتشديد الفاء مهموز معناه دَعَا لَهُ فى موضع قولهم: بالرفاء والبنين. وكانت كلمة تقولها أهل الجاهلية فورد النهى عنها كما روى بقى بن مخلد من طريق غالب عن الحسن عن رجل من بنى تميم قال: كنا نقول فى الجاهلية

ص: 196

بالرفاء والبنين فلما جاء الإسلام عَلَّمَنَا نبيُّنا قال: "قولوا: بارك اللَّه لكم وبارك فيكم وبارك عليكم" وأخرج النسائى والطبرانى من طريق أخرى عن الحسن عن عقيل بن أبى طالب أنه قدم البصرة فتزوج امرأة فقالوا له: بالرفاء والبنين فقال: لا تقولوا هكذا وقولوا كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لهم وبارك عليهم" ورجاله ثقات إلا أن الحسن لم يسمع من عقيل فيما يقال. ودل حديث أبى هريرة على أن اللفظ كان مشهورا عندهم غالبا حتى سمى كل دعاء للمتزوج ترفئة واختلف فى علة النهى عن ذلك فقيل: لأنه لَا حَمْدَ فيه ولا ثناء ولا ذكر اللَّه، وقيل: لما فيه من الإشارة إلى بغض البنات لتخصيص البنين بالذكر اهـ ثم نقل الحافظ عن ابن المنير قال: الذى يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كره اللفظ لما فيه من موافقة أهل الجاهلية اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

استحباب الدعاء للمتزوج بأن يبارك اللَّه له وأن يبارك عليه وأن يجمع بينهما فى خير.

2 -

أن قولهم للمتزوج: بالرفاء والبنين هو من ألفاظ أهل الجاهلية المكروهة.

ص: 197

6 -

وعن عبد اللَّه ابن مسعود رضى اللَّه عنه قال: علمنا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لتشهد فى الحاجة "إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، من يهد اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى

ص: 197

له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" ويقرأ ثلاث آيات. رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذى والحاكم.

[المفردات]

التشهد فى الحاجة: أى الخُطبة فى الحاجة كالنكاح وغيره وسميت الخطبة تَشَهُّدًا لأنه يبدأ فيها بعد الحمد والثناء بشهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا عبده ورسوله.

ونستعينه: أى ونطلب العون منه وحده جل وعلا.

ونعوذ باللَّه: أى ونستجير باللَّه.

من شرور أنفسنا: أى مما قد تجلبه علينا نفوسنا من الشر والأذى.

من يهد اللَّه: أى من يوفقه اللَّه تعالى للخير وسبيل الرشاد ويسدده ويسلك به الصراط المستقيم.

فلا مضل له: أى فلا صارف له عن طريق الهدى.

ومن يضلل: أى ومن يخذله اللَّه ويتركه لتدبير نفسه أو غيره من دون اللَّه ويصرفه عن طريق طاعته.

فلا هادى له: أى فلن يجد من يَدُلُّه على الصراط المستقيم.

ويقرأ ثلاث آيات: قيل: هى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى قوله: {رَقِيبًا} والثانية هى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ

ص: 198

مُسْلِمُونَ} والثالثة هى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} إلى قوله {عَظِيمًا} .

[البحث]

قال الحافظ فى تلخيص الحبير: حديث ابن مسعود موقوفا ومرفوعا: "إذا أراد أحدكم أن يخطب لحاجة من النكاح أو غيره فليقل: الحمد للَّه نحمده ونستعينه -الحديث- وفيه الآيات. البيهقى من حديث أبى داود الطيالسى عن شعبة نا أبو إسحاق سمعت أبا عبيدة بن عبد اللَّه يحدث عن أبيه قال: علمنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: الحمد للَّه أو إن الحمد للَّه نستعينه ونستغفره. فذكره. وفى آخره: قال شعبة: قلت لأبى إسحاق: هذه فى خطبة النكاح أو فى غيرها؟ قال: فى كل حاجة، ولفظ ابن ماجه فى أول هذا الحديث من هذا الوجه: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أوتى جوامع الخير وخواتيمه فعلمنا خُطبة الصلاة، وخطبة الحاجة، فذكر خطبة الصلاة ثم خطبة الحاجة، ورواه أبو داود والنسائى والترمذى والحاكم. وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه. إلا أن الحاكم رواه من طريق أخرى عن قتادة عن عبد ربه عن أبى عياض عن ابن مسعود، وليس فيه الآيات، ورواه أيضا من طريق إسرائيل عن أبى إسحاق عن أبى الأحوص وأبى عبيدة أن عبد اللَّه قال فذكر نحوه، ورواه البيهقى من حديث: واصل الأحدب عن شقيق عن ابن مسعود بتمامه (تنبيه) الرواية الموقوفة رواها أبو داود والنسائى أيضا من هذا الوجه اهـ.

ص: 199

7 -

وعن جابر رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل" رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات، وصححه الحاكم، وله شاهد عند الترمذى والنسائى عن المغيرة، وعند ابن ماجه وابن حبان من حديث محمد بن مَسْلَمَةَ، ولمسلم عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لرجل تَزَوَّجَ امرأةً:"أَنظَرتَ إليها" قال: لا. قال: "اذهب فانظر إليها".

[المفردات]

إذا خطب أحدكم المرأة: أى إذا رغب أحدكم فى خِطْبَة المرأة، والخطبة بكسر الخاء هى ذكر المرأة وإبداء الرغبة فى الزواج منها.

فإن استطاع: أى فإن تمكن وقَدَرَ.

أن ينظر منها: أى أن يرى ويُبْصِرَ من المرأة التى يرغب فى خِطْبَتها للزواج منها.

إلى ما يدعوه إلى نكاحها: أى إلى ما يُرَغبُهُ فى الزواج منها.

فليفعل: أى فلينظر إلى ما يدعوه ويرغبه فى الزواج منها.

وله: أى ولحديث جابر رضى اللَّه عنه.

عن المغيرة: أى من طريق المغيرة بن شعبة رضى اللَّه عنه.

وعند ابن ماجه الخ: أى ولحديث جابر شاهد آخر عند ابن ماجه

ص: 200

وابن حبان من طريق محمد بن مسلمة رضى اللَّه عنه.

محمد بن مسلمة: هو محمد بن مَسْلَمَةَ بن سلمة بن خالد بن عدى بن مَجْدَعَةَ بن حارثة بن الحارث بن الخزرج ابن عمرو وهو النَّبِيت بن مالك من الأوس. وقد أسلم محمد بن مسلمة رضى اللَّه عنه بالمدينة على يد مصعب بن عمير وذلك قبل إسلام أسيد بن الحضير وسعد بن معاذ رضى اللَّه عنهم. وقد آخى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بين محمد بن مسلمة وأبى عبيدة، وقد شهد محمد بدرا وأحدا وثبت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومئذ حين ولَّى الناس، وشهد الخندق والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما خلا تبوك فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة حين خرج إلى تبوك، واشترك فى قتل كعب بن الأشرف لعنه اللَّه. وبعثه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على عدد من السرايا، وقد اعتزل رضى اللَّه عنه الفتن كلها. وتوفى بالمدينة فى صفر سنة ست وأربعين وهو ابن سبع وسبعين سنة رضى اللَّه عنه.

تزوج امرأة: أى أراد الزواج منها.

قال لا: أى قال الرجل لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لم أنظر إليها.

ص: 201

[البحث]

يحرص الإِسلام على أن يكون بناء الأسرة على قواعد سليمة راسخة. كما يحرص الإِسلام أن يكون الود والمحبة والوئام والائتلاف من أهم عناصر تكوين البيت السعيد ولذلك نبَّه المسلم عند اختيار الزوجة أن يتخير المرأة الصالحة ذات الدِّين، النابتة فى المنابت الحسنة، وأن يكون على عِلْم بهيئتها العامة وما فيها من صفات خاصة، حتى لا يفاجأ منها بشئ يكرهه، ولذلك ندب المسلم إلى أن ينظر إلى المرأة قبل أن يتزوجها قال البخارى فى صحيحه: باب النظر إلى المرأة قبل التزويج. وساق من حديث عائشة رضى اللَّه عنها قالت: قال لى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أريتُكِ فى المنام يجئ بك المَلكُ فى سَرَقةٍ من حرير فقال لى: هذا امرأتك فكشفت عن وجهك الثوب، فإذا أنت هى، فقلت: إن يك هذا من عند اللَّه يُمضِهِ" اهـ وحديث أبى هريرة عند مسلم الذى أشار إليه المصنف: لفظه قال: كنت عند النبى صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنظرت إليها؟ " قال: لا. قال: "فاذهب فانظر إليها فإن فى أعين الأنصار شيئا" ونظر الإِنسان إلى من يريد التزوج منها يكون برؤية قوامها وهيئتها العامة وكذلك وجهها وكفيها ولعل فى حديث عائشة عند البخارى المذكور هنا "فكشفت عن وجهك الثوب" وكذلك فى حديث أبى هريرة عند مسلم: "فإن فى أعين الأنصار شيئا" ما يؤيد ذلك. وليس بلازم أن يكون طريق رؤية الرجل لمن يريد أن يتزوجها أن يجلس معها أو

ص: 202

يعلن لها أنه يرغب فى رؤيتها للزواج منها فإن هذا قد تأباه نفوس كريمة وقد يُستغَلُّ استغلالا سيئا، بل يمكن أن تحصل الرؤية بطريق المفاجأة أو الغفلة أو نحو ذلك. قال النووى فى شرح مسلم: وحكى القاضى عن قوم كراهته، وهذا خطأ مخالف لصريح هذا الحديث ومخالف لإجماع الأمة على جواز النظر للحاجة عند البيع والشراء والشهادة ونحوها اهـ. وأما ما فسر به بعض الناس قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى حديث جابر: أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها" بأنه ينظر إلى جميع بدنها فهو تفسير فاسد كاسد، وقول عاطل باطل، قال النووى: هذا خطأ ظاهر منابذ لأصول السنة والإِجماع اهـ هذا وقد وصف المصنف رحمه الله حديث جابر هنا بأن رجاله ثقات وقال فى الفتح: وسنده حسن، وقال فى تلخيص الحبير: حديث جابر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل" قال: فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعانى إلى نكاحها فتزوجتها. الشافعى وأبو داود والبزار والحاكم من حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن واقد بن عبد الرحمن عنه، ورواه أحمد من هذا الوجه وفيه: أنها من بنى سلمة، وأعله ابن القطان بواقد ابن عبد الرحمن، وقال: المعروف واقد بن عمرو. قلت: رواية الحاكم فيها واقد بن عمرو وكذا هو عند الشافعى وعبد الرزاق اهـ وفيه أيضا محمد بن إسحاق وقد عنعن. أما الشاهد الذى أشار المصنف إلى أنه أخرجه الترمذى والنسائى من حديث المغيرة فلفظه: "أنه خطب امرأة

ص: 203

فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" أى أن تدوم الألفة والمودة بينكما. قال فى التلخيص عن حديث المغيرة: ذكره الدارقطنى فى العلل، وذكر الخلاف فيه، وأثبت سماع بكر بن عبد اللَّه المزنى من المغيرة اهـ أما الشاهد الآخر الذى أخرجه ابن ماجه وابن حبان من حديث محمد بن مسلمة رضى اللَّه عنه فقد رواه ابن ماجه من طريق حفص بن غياث عن حجاج عن محمد بن سليمان عن عمه سهل بن أبى حثمة عن محمد بن مسلمة قال:"خطبت امرأة فجعلت أتخبأ لها حتى نظرت إليها فى نخل لها، فقيل له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ألقى اللَّه فى قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها" قال فى الزوائد: فى إسناده حجاج وهو ابن أرطأة الكوفى ضعيف ومدلس ورواه بالعنعنة لكن لم ينفرد به حجاج فقد رواه ابن حبان فى صحيحه بإسناد آخر اهـ وقد أخرجه البيهقى وقال: هذا الحديث إسناده مختلف فيه ومداره على الحجاج بن أرطأة اهـ هذا وفى بعض النسخ بلوغ المرام وسبل السلام وابن ماجه "محمد بن سلمة" وهو خطأ ظاهر، صوابه: محمد بن مسلمة. فهو الذى يروى عنه سهل ابن أبى حثمة وهذا الحديث من روايته عنه. واللَّه أعلم.

[ما يفيده الحديث]

1 -

استحباب نظر الرجل إلى المرأة التى يريد الزواج منها قبل العقد.

2 -

لا يجوز للرجل أن يختلى بالمرأة التى يريد الزواج منها قبل أن

ص: 204

يعقد عليها.

3 -

لا يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة إذا لم يكن فى نيته الزواج منها.

4 -

أنه لا عيب على من حاول أن ينظر إلى المرأة التى يريد الزواج منها ما دامت محاولته مشروعة ولا تجلب له سوءا.

ص: 205

8 -

وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يخطبْ أحدُكم على خِطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له" متفق عليه. واللفظ للبخارى.

[المفردات]

لا يخطب أحدكم على خِطبة أخيه: أى لا يتقدم أحدكم لطلب الزواج من امرأة قد سبقه وتقدم لخِطبتها رجل قبله.

حتى يترك الخاطب قبله: أى حتى يتنازل الخاطب الأول الذى خطبها قبله ويدع خطتها.

أو يأذن له: أى أو حتى يسمح الخاطب الأول للخاطب الثانى فى التقدم لخطبتها برضًى من نفسه.

[البحث]

هذا الحديث من الأحاديث الداعية إلى منع أى تشويش بين قلوب المسلمين، حتى يقوم المجتمع المسلم على قواعد متينة من التحابب والتعاطف والتراحم ليصيروا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا،

ص: 205

وقد ساقه البخارى من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما بلفظ: نهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب" وأخرج البخارى من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم بلفظ:"ولا يخطب الرجلُ على خِطبة أخيه حتى يَنْكِح أو يَتْرُك" وقد أخرجه مسلم من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا يخطب بعضكم على خطبة بعض" وفى لفظ: لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له" وأخرجه من حديث أبى هريرة بلفظ: أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد أو يتناجشوا أو يخطبَ الرجلُ على خطبة أخيه. وفى لفظ من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تناجشوا، ولا يبع المرءُ على بيع أخيه، ولا يبع حاضر لباد، ولا يخطب المرءُ على خطبة أخيه" وفى لفظ له وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَسُمِ المسلم على سَوم أخيه. ولا يخطب على خطبته" وأخرجه مسلم من حديث عقبة بن عامر رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر" هذا ولا شك أن الخاطب الأول إذا رُدَّ ورُفِضَت خطبته جاز لمن شاء أن يتقدم للخطبة لأنه حينئذ لا يكون خاطبا على خطبة أخيه إذ لا وجود لها وقتئذ واللَّه أعلم.

ص: 206

[ما يفيده الحديث]

1 -

تحريم خطبة الرجل المرأة التى تقدم إليها خاطب قبله حتى يأذن لة الخاطب الأول أو يترك خطبتها.

2 -

أن الخاطب الأول إذا رُدت خِطبتُه جاز للخاطب الآخر أن يتقدم للخِطبة.

3 -

يجب على المسلم أن يحرض على ما فيه سلامة صدور المسلمين.

ص: 207

9 -

وعن سهل بن سعد الساعدى رضى اللَّه عنهما قال: جاءت امرأة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أهب لك نفسى فنظر إليها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فصَعَّدَ النظر فيها وصَوَّبَه: ثم طَأطَأ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئًا جَلَسَتْ، فقام رجل من أصحابه، فقال: يا رسول اللَّه إن لم تكن لك بها حاجةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، قال:"فهل عندك من شئ؟ " فقال: لا واللَّه يا رسول اللَّه، فقال:"اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئًا؟ "فذهب ثم رجع فقال: لا واللَّه ما وجدت شيئًا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"انظر ولو خاتَمًا من حديد" فذهب ثم رجع فقال: لا واللَّه يا رسول اللَّه ولا خاتمًا من حديد. ولكن هذا إزارى -قال سهل: ما له رداء- فلها نصفه، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما تصنع بإزارك؟ إن لَبِسْتَهُ لم يكن عليها منه شئ، وإن لَبِسَتْهُ لم يكن عليك منه شئ" فجلس الرجل حتى إذا طال مَجْلِسُه قام فرآه

ص: 207

فرآه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مُوَلِّيًا، فَأمَرَ به فَدُعِىَ، فلما جاء قال:"ماذا معك من القرآن؟ " قال: معى سورة كذا وسورة كذا عَدَّدَها، فقال:"تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ " قال: نعم. قال: اذهب فقد مَلَّكْتُكَهَا بما معك من القرآن" متفق عليه، واللفظ لمسلم، وفى رواية قال له: "انطلق فقد زَوَّجْتُكَهَا فَعَلِّمْهَا من القرآن" وفى رواية للبخارى: "أَمْلَكْنَاكَهَا بما معك من القرآن" ولأبى دواد عن أبى هريرة قال: "ما تحفظ؟ " قال: سورة البقرة والتى تليها، قال: "قم فعلمها عشرين آية".

[المفردات]

امرأة: قيل هى خولة بنت حكيم أو ليلى بنت الخطيم وقيل أم شريك إلا أن ابن سعد ذكر فى الطبقات أن أم شريك لما وهبت نفسها للنبى ولم يتزوجها رفضت أن تتزوج غيره حتى ماتت رضى اللَّه عنها. قال الحافظ فى الفتح: لم أقف على اسمها.

أهب لك نفسى: أى أتزوجك من غير عوض.

فصَعَّدَ النظر فيها وصَوَّبه: أى رفع البصر إليها وخفضه بمعنى أنه نظر أعلاها وأسفلها وتأملها.

ثم طأطأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأسه: أى خفض رأسه وصمت صلى الله عليه وسلم حياء من مواجهتها بالرد أو انتظارا للوحى أو تفكرا فى جواب يناسب المقام كما قال الحافظ فى الفتح.

أنه لم يقض فيها شيئًا جلست: أى أنه لم يبتَّ فى أمرها بالقبول

ص: 208

أو الرد فى الحال قعدت تنتظر ما قد يبث فى أمرها أو يجيئها من الفَرَج من عند اللَّه.

فقام رجل من أصحابه: قال الحافظ فى الفتح: ولم أقف على اسمه.

إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها: أى إن لم تكن لك رغبة فى نكاحها فأنكحنيها.

فهل عندك من شئ: أى ألك مال تجعله صداقا لها؟

لا واللَّه يا رسول اللَّه: أى ليس عندى مال أجعله صداقًا لَهَا واللَّهِ يا رسول اللَّه.

اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئًا: أى اذهب إلى أهل دارك وجماعتك فابحث عندهم لعلك تجد لديهم مَالًا تجعله صداقا لها.

انظر ولو خاتما من حديد: أى ابحث عن شئ تجعله صداقا للمرأة ولو كان الذى تجده خاتما من حديد فإنه يكفى فى صداقها.

ولا خاتما من حديد: أى ذهبت وبحثت عن شئ ولو كان خاتما من حديد فلم أجد شيئًا ولا حتى خاتما من حديد وذكر خاتم الحديد لأنه أقل ما يمكن أن يتمول بخلاف خاتم الذهب أو خاتم (الماس) أو خاتم الفضة فإن قيمته فوق ذلك بكثير.

ولكن هذا إزارى فلها نصفه: أى يكون إزارى بينى وبينها أُمَلِّكُهَا نصفه.

ص: 209

قال سهل ما له رداء: أى قال سهل بن سعد الراوى لهذا الحديث: لم يكن له إزار ورداء بل إزار فقط. والإِزار ما يلبس الإِنسان ليستر من سرته إلى ركبته وهو يقوم مقام "السروال" وأما الرداء فهو ما يكون فوق الكتفين والظهر والصدر وهو يقوم مقام القميص.

ما تصنع بإزارك: يعنى ما تصنع المرأة بملكية نصف إزارك لأنه لا يُنْتَفَعُ به إلا بجملته لأنه لو شقه بينه وبينها لم يسترهَا نصفه ولم يستره نصفه.

فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام: أى فجلس الرجل جلوسا طويلا، ولما طال مجلسه قام.

مُوَلِّيًا: أى مدبرا منصفا.

فَدُعى: أى فنودى وطُلِبَ.

فلما جاء: أى فلما رجع.

ماذا معك من القرآن: أى ماذا تحمل من كتاب اللَّه عز وجل فى صدرك.

معى سورة كذا وسورة كذا عَدَّدها: أى أحفظ سورة كذا وسورة كذا وقد بيَّنها وفصَّلها لكن الراوى لم يبينها.

تقرؤهن عن ظهر قلبك: أى أتحفظهن وتقرؤهن دون من حاجة إلى النظر فى المصحف وتضبطهن فى صدرك؟

ص: 210

قال نعم: أى أضبطهن فى صدرى وأقرؤهن من قلبى.

اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن: أى انطلق فقد زوجتكها بما معك من القرآن أى فعلمها ما معك من القرآن كما بينت ذلك الرواية الأخرى.

وفى رواية قال له: أى فى رواية لمسلم من طريق زائدة بن قدامة عن أبى حازم عن سهل بن سعد قال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

فعلِّمها من القرآن: أى فأقرئها وعلمها ودَرِّس لها من القرآن ما حفظت.

وفى رواية للبخارى: أى من طريق أبى غسان عن أبى حازم عن سهل بن سعد.

ولأبى داود عن أبى هريرة: أى وفى رواية لهذا الحديث عند أبى داود من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه.

قال: ما تحفظ: أى ما تضبط فى قلبك من سور القرآن؟

والتى تليها: يعنى سورة آل عمران.

قم فعلمها عشرين آية: أى درِّس لها عشرين آية مما تحفظ من القرآن.

[البحث]

أورد البخارى رحمه الله هذا الحديث فى مواضع شتى من صحيحه مختصرا ومطولا واستنبط رحمه الله منه قواعد كثيرة وقد أورده فى الوكالة

ص: 211

وفى فضائل القرآن وفى النكاح وفى اللباس وفى التوحيد، وعنون له فى النكاح بعناوين منها باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح وباب النظر إلى المرأة قبل التزويج، وباب إذا كان الولى هو الخاطب. وباب السلطان ولى، وباب إذا قال الخاطب للولى زوجنى فلانة فقال: قد زوجتك بكذا وكذا جاز النكاح وإن لم يقل للزوج: أرضيت أو قبلت؟ وباب التزويج على القرآن وبغير صداق. قال الحافظ فى الفتح: قوله (باب التزويج على القرآن وبغير صداق) أى على تعليم القرآن وبغير صداق مالىٍّ عَيْنىٍّ ويحتمل غير ذلك؟ سيأتى البحث فيه. ثم قال الحافظ: وهذا الحديث مداره على أبى حازم سلمة بن دينار المدنى وهو من صغار التابعين، حَدَّث به كبار الأئمة عنه مثل مالك وقد تقدمت روايته فى الوكالة وقبل أبواب هنا، ويأتى فى التوحيد، وأخرجه أيضًا أبو داود والترمذى والنسائى والثورى كما ذكرته، وحماد بن زيد وروايته فى فضائل القرآن، وتقدمت قبل أبواب هنا أيضًا، وأخرجها مسلم، فضيل بن سليمان ومحمد بن مطرف أبى غسان وقد تقدمت روايتهما قريبا فى النكاح ولم يخرجهما مسلم، ويعقوب بن عبد الرحمن الاسكندرانى وعبد العزيز بن أبى حازم وروايتهما فى النكاح أيضًا، ويعقوب أيضًا فى فضائل القرآن وعبد العزيز يأتى فى اللباس وأخرجها مسلم، وعبد العزيز بن محمد الدراوردى وزائدة بن قدامة وروايتهما عند مسلم، ومعمر وروايته عند أحمد والطبرانى، وهشام بن سعد وروايته فى صحيح أبى عوانة والطبرانى، ومبشر بن مبشر وروايته عند الطبرانى،

ص: 212

وعبد الملك بن جريج وروايته عند أبى الشيخ فى كتاب النكاح، وقد روى طرفا منه سعيد بن المسيب عن سهل بن سعد أخرجه الطبرانى، وجاءت القصة أيضًا من حديث أبى هريرة عند أبى داود باختصار والنسائى مطولا، وابن مسعود عند الدارقطنى، ومن حديث ابن عباس عند أبى عمر بن حيوة فى فوائده، وضميرة جد حسين بن عبد اللَّه عند الطبرانى وجاءت مختصرة من حديث أنس كما تقدم قبل أبواب، وعند الترمذى طرف منه آخر، ومن حديث أبى أمامة عند تمام فى فوائده ومن حديث جابر وابن عباس عند أبى الشيخ فى كتاب النكاح اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

جواز عرض المرأة الراغبة فى الزواج نفسها على الرجل الصالح.

2 -

جواز النظر إلى المرأة قبل التزويج لمن يرغب فى الزواج منها.

3 -

أن السلطان ولىٌّ وله حق تزويج المرأة.

4 -

جواز التزويج على تعليم بعض القرآن لغير القادر على دفع صداق مالى.

5 -

وجوب الصداق فى النكاح وأنه لابد منه.

6 -

استحباب تعيين الصداق عند العقد.

7 -

يجوز أن يكون الصداق خاتما من حديد.

8 -

أن الخطبة ثم النكاح للاستحباب.

9 -

جواز الحلف وإن لم يكن على الحالف يمين.

10 -

جواز عقد النكاح بلفظ الإملاك والتمليك والإنكاح والتزويج.

ص: 213

11 -

أنه إذا تيقن الرجل أن الخاطب الأول قد أعرض عن الخِطبة جاز له أن يتقدم لخطبة المرأة ولا يكون هذا من باب الخطبة على الخطبة كما تقدم.

12 -

أنه إذا لم يقبل الموهوب له الهبة اعتبرت لاغية.

ص: 214

10 -

وعن عامر بن عبد اللَّه بن الزبير عن أبيه رضى اللَّه عنهم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أعلنوا النكاح" رواه أحمد وصححه الحاكم.

[المفردات]

عامر بن عبد اللَّه بن الزبير: هو عامر بن عبد اللَّه بن الزبير بن العوام ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤى. أبو الحارث المدنى. قال الحافظ فى التقريب: ثقة عابد اهـ.

وقد توفى رحمه الله سنة إحدى وعشرين ومائة وقيل سنة أربع وعشرين ومائة وقد أخرج له الجماعة.

عن أبيه: هو عبد اللَّه بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد ابن عبد العزى بن قصى القرشى الأسدى أبو بكر وأبو خبيب. كان أول مولود فى الإسلام بالمدينة من المهاجرين. وولى الخلافة تسع سنين، وأمه أسماء بنت الصديق رضى اللَّه عنهما وقتل فى ذى الحجة سنة 73 هـ رضى اللَّه عنه.

ص: 214

أعلنوا: أى أظهروا وأشيعوا.

النكاح: أى خبر عقد الزواج.

[البحث]

إعلان النكاح مقصد من مقاصد الشرع الكريم لما فيه من دفع الشُّبه عن البيوت، وصيانة أعراض المسلمين عن الانتهاك، وقد ثبت من طرق الإِعلان الشرعى عن النكاح أن يُضْرَبَ عند الزواج بالدُّف، وأن تُصنع وليمة للعرس، قال البخارى فى صحيحه: باب ضرب الدُّف فى النكاح والوليمة ثم ساق من طريق خالد بن ذكوان قال: قالت الرُّبَيِّعُ بنت مُعَوِّذ بن عفراء: جاء النبى صلى الله عليه وسلم يدخل حين بُنِىَ علَىَّ فجلس على فراشى كمجلسك منى، فجعلت جُوَيْرِياتٌ لنا يضربن بالدُّف ويَنْدُبْنَ من قُتِلَ من آبائى يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبى يعلم ما فى غد. فقال: "دَعِى هذه وقولى بالذى كنتِ تقولين" قال الحافظ فى الفتح: فى هذا الحديث إعلان النكاح بالدُّف وبالغناء المباح، وفيه إقبال الإمام إلى العُرس وإن كان فيه لهو ما لم يخرج عن حد المباح ثم قال: وإنما أنكر عليها ما ذكر من الإطراء حيث أطلق علم الغيب له وهو صفة تختص باللَّه تعالى كما قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وقوله لنبيه {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} وسائر ما كان النبى صلى الله عليه وسلم يخبر به من الغيوب بإعلام اللَّه تعالى إياه لا أنه يستقل بعلم ذلك كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى

ص: 215

غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} اهـ وروى البخارى من حديث عائشة رضى اللَّه عنها أنها زَفَّت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال نبى اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة ما كان معكم لَهْوٌ فإن الأنصار يعجبهم اللهو" هذا وحديث الباب قد ذكر المصنف هنا أنه صححه الحاكم وقال فى الفتح: وفى حديث عبد اللَّه بن الزبير عند أحمد وصححه ابن حبان والحاكم "أعلنوا النكاح" زاد الترمذى وابن ماجه من حديث عائشة: واضربوا عليه بالدف وإسناده ضعيف اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

استحباب إعلان النكاح.

2 -

أنه لا يجوز أن يتجاوز الإعلان ما أباحته الشريعة.

ص: 216

11 -

وعن أبى بردة بن أبى موسى عن أبيه رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "لا نكاح إلا بولى" رواه أحمد والأربعة وصححه ابن المدينى والترمذى، وابن حبان وأعله بالإرسال.

[المفردات]

لا نكاح: أى لا زواج.

إلا بولى: أى إلا أن يكون العاقد للزوج وليّا للمرأة سواء كانت ولايته بسبب أنه أقرب عصبتها إليها أو أنه السلطان أو نائبه.

ص: 216

بالإِرسال: أى بإسقاط أبى موسى رضى اللَّه عنه وأنه من قول أبى بردة عن النبى صلى الله عليه وسلم.

[البحث]

قول المصنف: رواه أحمد والأربعة غير ظاهر لأن الظاهر أن النسائى لم يخرجه فقد قال المصنف نفسه فى التلخيص: حديث أبى موسى "لا نكاح إلا بولى" أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه وابن حبان والحاكم وأطال فى تخريج طرقه، وقد اختلف فى وصله وإرساله قال الحاكم: وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبى صلى الله عليه وسلم عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش قال: وفى الباب عن على وابن عباس ثم سرد تمام ثلاثين صحابيا، وقد جمع طرقه الدمياطى من المتأخرين اهـ وقال فى الفتح على قول البخارى:"باب لا نكاح إلا بولى" قال الحافظ: والمشهور فيه حديث أبى موسى مرفوعا بلفظه أخرجه أبو داود والترمذى وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم لكن قال الترمذى بعد أن ذكر الاختلاف فيه: وإن من جملة من وصله إسرائيل عن أبى إسحاق عن أبى بردة عن أبيه ومن جملة من أرسله شعبة وسفيان الثورى عن أبى إسحاق عن أبى بردة ليس فيه أبو موسى رواية، ومن رواه موصولا أصح لأنهم سمعوه فى أوقات مختلفة، وشعبة وسفيان وإن كانا أحفظ وأثبت من جميع من رواه عن أبى إسحاق لكنهما سمعاه فى وقت واحد، ثم ساق من طريق أبى داود الطيالسى عن شعبة قال: سمعت سفيان الثورى يسأل أبا إسحاق: أسمعت أبا بردة يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا

ص: 217

بولى"؟ قال: نعم. قال: وإسرائيل ثبت فى أبى إسحاق. ثم ساق من طريق ابن مهدى قال: ما فاتنى الذى فاتنى من حديث الثورى عن أبى إسحاق إلا لما اتكلت به على إسرائيل لأنه كان يأتى به أتم. وأخرج ابن عدى عن عبد الرحمن بن مهدى قال: إسرائيل فى أبى إسحاق أثبت من شعبة وسفيان. وأسند الحاكم من طريق على بن المدينى ومن طريق البخارى والذهلى أنهم صححوا حديث إسرائيل. ومن تأمل ما ذكرته عرف أن الذين صححوا وصله لم يستندوا فى ذلك إلى كونه زيادة ثقة فقط بل للقرائن المذكورة المقتضية لترجيح رواية إسرائيل الذى وصله على غيره اهـ ويظهر أيضًا من ذكر الحافظ لابن حبان فى عداد من صحح هذا الحديث أن عبارة بلوغ المرام "وأعله بالإرسال" محرفة وصوابها: وأعل بالإرسال. واللَّه أعلم. وأما حديث ابن عباس: لا نكاح إلا بولى فقد قال الحافظ فى التلخيص: أحمد وابن ماجة والطبرانى وفيه الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف ومداره عليه. وغلط بعض الرواة فرواه عن ابن المبارك عن خالد الحذاء عن عكرمة. والصواب الحجاج بدل خالد اهـ.

هذا وقد ساق البخارى رحمه الله فى الاستدلال على أنه "لا نكاح إلا بولى" أدلة جلية كثيرة فقال رحمه الله: باب من قال لا نكاح إلا بولى لقول اللَّه تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} فدخل فيه الثَّيِّب، وكذلك البكر، وقال:{وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وقال: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} ثم ساق

ص: 218

من طريق عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم أخبرته "أن النكاح فى الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل ولِيَّتَه أو ابنته فيُصْدِقُهَا ثم يَنْكِحُها، ونكاحٌ آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طَهُرَتْ من طَمْثِهَا: أرسلى إلى فلان فاستبْضِعِى منه، ويَعْتَزِلُهَا زوجها ولا يَمَسُّها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذى تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة فى نجابة الولد فكان هذا النكاحُ نكاحَ الاستبضاع. ونكاحٌ آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومرَّ ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذى كان من أمركم. وقد ولدتُ، فهو ابنك يا فلان، تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدُها، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، ونكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها وهن البغايا كُنَّ ينصبن على أبوابهن رايات تكون عَلَمًا فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جُمِعُوا لها ودَعَوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدَها بالذى يرون، فالْتَاطَتْهُ به، ودُعِى ابنَه لا يمتنع من ذلك. فلما بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كلُّه إلا نكاح الناس اليوم. ثم ساق البخارى من حديث عائشة رضى اللَّه عنها {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قالت: هذا فى

ص: 219

اليتيمة التى تكون عند الرجل -لعلها أن تكون شريكتَه فى ماله، وهو أولى بها- فيرغب عنها أن ينكحها فيعضُلُها لمالها، ولا يُنكِحُها غيرُه كراهية أن يشركه أحد فى مالها ثم ساق البخارى رحمه الله من طريق سالم أن ابن عمر أخبره أن عمر حين تأيمت حفصة بنت عمر من ابن حذافة السهمى -وكان من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم من أهل بدر- توفى بالمدينة فقال عمر: لقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة؟ فقال: سأنظر فى أمرى، فلبثت ليالى، ثم لقينى فقال: بدا لى أن لا أتزوج يومى هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة؟ ثم ساق البخارى من طريق الحسن قال: "فلا تعضلوهن" قال حدثنى معقل بن يسار أنها نزلت فيه قال: زوَّجت أختا لى من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها، لا واللَّه لا تعود إليك أبدا، وكان رجل لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل اللَّه هذه الآية {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} فقلت: الآن أفعل يا رسول اللَّه قال: فزَوجها إياه. قال الحافظ فى الفتح: استنبط المصنف هذا الحكم من الآيات والأحاديث التى ساقها لكون الحديث الوارد بلفظ الترجمة على غير شرطه اهـ ووجه الاستدلال بهذه الآيات وهذه الأحاديث أن سبب نزول قوله {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} هو امتناع الولى عن تزويجها ولو لم يكن الولى شرطا فى صحة العقد لم يكن لعضله معنى. وقوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}

ص: 220

فقد خاطب اللَّه تعالى الأولياء فكأنه قال: لا تنكحوا أيها الأولياء مولياتكم للمشركين ووجه الاستدلال من قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} أن الخطاب إما للأولياء أو للسلطان وعليه فلا ولاية للمرأة على نفسها فى النكاح. وأما الاستدلال بحديث عائشة رضى اللَّه عنها فهو فى قوله: "فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كلها إلا نكاح الناس اليوم" يعنى الذى بدأت الحديث بذكره وفيه: "يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته" وأما الاستدلال بحديث عائشة الثانى فمن قولها فى تفسير الآية: فيعضلها لمالها ولا ينكحها غيره فلو كانت لا تحتاج فى العقد إلى ولىِّ ما تأتىَّ له أن يعضلها، وأما الاستدلال بالحديث الثالث فإن عمر رضى اللَّه عنه هو ولى حفصة رضى اللَّه عنها وقد عرضها على الرجل الصالح وفيه التصريح بقوله: إن شئت أنكحتك حفصة. وأما الاستدلال بحديث معقل بن يسار رضى اللَّه عنه وفيه سبب نزول قوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} وهم ظاهر فى أن الولى هو الذى يتولى عقد النكاح ولاسيما قوله تعالى فى الآية {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} فهو ظاهر فى أن العضل يتعلق بالأولياء قاله الحافظ فى الفتح: وهى أصرح دليل على اعتبار الولى، وإلا لما كان لعضله معنى ولأنها لو كان لها أن تزوج نفسها لم تحتج إلى أخيها ومن كان أمره إليه لا يقال إن غيره منعه منه وذكر ابن المنذر أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك اهـ وسيأتى مزيد بحث لهذا عند الكلام على الحديث الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من أحاديث هذا الباب. هذا وليس اشتراط الولى فى صحة العقد قاضيا على اختيار المرأة ورضاها، بل لا بد من رضا

ص: 221

المرأة بمن تتزوج كما سيأتى عند الكلام على الحديث الثالث عشر والحديث الرابع عشر من أحاديث هذا الباب إن شاء اللَّه تعالى.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أنه لا نكاح إلا بولى.

2 -

وأنه لا يحل للولى أن يعضل موليته.

3 -

وأن اشتراط الولى فى العقد ليس قاضيا على اختيار المرأة ورضاها بالزوج الذى تريد.

ص: 222

12 -

وعن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشْتَجَرُوا فالسلطان وَلِىُّ من لا وَلِىَّ لها. أخرجه الأربعة إلا النسائى وصححه أبو عوانة وابن حبان والحاكم.

[المفردات]

نكحت: أى تزوجت:

بغير إذن وليها: أى بغير رضا أقرب عصبتها إليها وقيامه بإجراء العقد.

فنكاحها باطل: أى فزواجها غير صحيح.

فإن دخل بها: أى فإن اختلى بها الذى تزوجته بدون إذن وليها تمكن منها.

فلها المهر بما استحل من فرجها: أى فإنها تستحق المهر كاملا بسبب دخوله بها واستباحته لفرجها.

فإن اشتجروا: أى فإن تنازع الأولياء فى إجراء العقد أو عدم إجرائه وامتنعوا

ص: 222

من العقد عليها بسبب هذا النزاع.

فالسلطان ولى من لا ولى لها: أى فإن عضل الأولياء انتقلت الولاية عليها للسلطان لأنه ولى من لا ولى لها من النساء فيزوجها السلطان من ترغب فى الزواج منه.

[البحث]

قال البخارى فى صحيحه: باب السلطان ولى لقول النبى صلى الله عليه وسلم: "زوجناكها بما معك من القرآن" وساق حديث سهل بن سعد فى قصة المرأة التى جاءت تهب نفسها للنبى صلى الله عليه وسلم وهو الحديث التاسع من أحاديث هذا الباب. قال الحافظ فى الفتح: وقد وقع التصريح بأن السلطان ولىٌ فى حديث عائشة المرفوع: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" الحديث. وفيه: والسلطان ولى من لا ولى لها. أخرجه أبو داود والترمذى وحسنه صححه أبو عوانة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم لكنه لما لم يكن على شرطه استنبطه من قصة الواهبة. وعند الطبرانى من حديث ابن عباس رفعه: لا نكاح إلا بولى، والسلطان ولى من لا ولى له، وفى إسناده الحجاج بن أرطأة وفيه مقال، وأخرجه سفيان فى جامعه ومن طريقه الطبرانى فى الأوسط بإسناد آخر حسن عن ابن عباس: بلفظ "لا نكاح إلا بولى مرشد أو سلطان" اهـ وقال فى تلخيص الحبير: حديث عائشة: أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها

ص: 223

فلها المهر لما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولى من لا ولى له. الشافعى وأحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه وأبو عوانة وابن حبان والحاكم من طريق ابن جريج، عن سليمان بن موسى عن الزهرى عن عروة عنها، وأعل بالإِرسال. قال الترمذى: حديث حسن وقد تكلم فيه بعضهم من جهة أن ابن جريج قال: ثم لقيت الزهرى فسألته عنه فأنكره، قال: فَضَعَّفَ الحديث من أجل هذا، لكن ذكر عن يحيى ابن معين أنه قال: لم يذكر هذا عن ابن جريج غير ابن علية وضعف يحيى رواية ابن علية عن ابن جريج انتهى. وحكاية ابن جريج هذه وصلها الطحاوى عن ابن أبى عمران عن يحيى بن معين عن ابن علية عن ابن جريج، ورواه الحاكم من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج سمعت سليمان سمعت الزهرى، وعد أبو القاسم بن مندة عدة من رواه عن ابن جريج فبلغوا عشرين رجلا، وذكر أن معمرا وعبيد اللَّه بن زحر تابعا ابن جريج على روايته إياه عن سليمان بن موسى، وأن قرة وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق وأيوب بن موسى وهشام بن سعد وجماعة تابعوا سليمان بن موسى عن الزهرى قال: ورواه أبو مالك الجنبى ونوح بن دراج ومندل وجعفر بن برقان وجماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ورواه الحاكم من طريق أحمد عن ابن علية عن ابن جريج وقال فى آخره: قال ابن جريج: فلقيت الزهرى فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه، وسألته عن سليفان بن موسى فأثنى عليه. قال: وقال ابن معين: سماع ابن علية من ابن جريج ليس بذاك، قال: وليس

ص: 224

أحد يقول فيه هذه الزيادة غير ابن علية، وأعل ابن حبان وابن عدى وابن عبد البر والحاكم وغيرهم الحكاية عن ابن جريج، وأجابوا عنها على تقدير الصحة بأنه لا يلزم من نسيان الزهرى له أن يكون سليمان بن موسى وهم فيه، وقد تكلم عليه أيضًا الدارقطنى فى جزء "من حدث ونسى" والخطيب بعده، وأطال فى الكلام عليه البيهقى فى السنن وفى الخلافيات، وابن الجوزى فى التحقيق، وأطال الماوردى فى الحاوى فى ذكر ما دل عليه هذا الحديث من الأحكام نصا واستنباطا فأفاد اهـ هذا وقد أطلق الحافظ فى الفتح تصحيح حديث عائشة رضى اللَّه عنها حيث قال: وهو حديث صحيح.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أنه لا نكاح إلا بولى.

2 -

وأن السلطان ولى من لا ولى لها.

3 -

وأن المرأة إذا زوجت نفسها بدون إذن وليها فزواجها غير صحيح ويفرق بينهما.

4 -

وأنه إذا دخل عليها الذى تزوجها بهذا العقد فلها المهر كاملا بما استحل من فرجها.

5 -

وأنه إذا عضل الأولياء انتقلت الولاية للسلطان.

6 -

وأن الإسلام يحمى حرمة المرأة ويقيها من قالة السوء.

ص: 225

13 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال

ص: 225

"لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كيف إذنها؟ قال: "أن تسكت" متفق عليه.

[المفردات]

لا تُنْكُح: أى لا تُزَوَّجُ.

الأيِّمُ: تُطْلَقُ الأيم على الثيب وهى التى فارقها زوجها بموت أو طلاق وانقضت عدتها، وهذا المعنى هو المراد هنا لمقابلتها فى الحديث بالبكر. وقد تطلق الأيم على كل امرأة لا زوج لها بكرا كانت أم ثيبا وعلى كل رجل لا زوجة له بكرا كان أم سبق له الزواج. ومنه قول الشاعر:

فإن تنكحى ننكح وإن تتأيمى

وإن كنت أفتى منكموا أتأيم

وقول الشاعر:

ومن أيِّمٍ قد أنكحتها رماحنا

وأخرى على عم وخال تلهف

حتى تستأمر: أى حتى يطلب منها أن تأمر وليها بالعقد على من ترغب الزواج به فتأمر بذلك وتصرح برضاها.

البكر: هى التى لم يسبق لها زواج ولا وطء وهى من كانت بكارتها بها.

ص: 226

تستأذن: أى يطلب الإِذن منها ليعقد وليها النكاح على من ترغب فى الزواج منه.

كيف إذنها: أى وما طريقة إستئذانها لأنها قد تستحى فلا تصرح بالإذن؟ فكيف الحصول على إذنها؟

أن تسكت: أى يكفي فى إذنها سكوتها وعدم ظهور معارضتها. وإنما جعل السكوت إذنا فى حق البكر لأنَّها قد تستحى أن تفصح. قال ابن المنذر: يستحب إعلام البكر أن سكوتها إذن اهـ هذا ولا شك أن السكوت قد تظهر معه أمارات الكراهية وعدم الرضا كما قد يظهر معه الرضا وأمارات الفرح، فالمقصود من السكوت هنا هو ما لم تظهر معه أمارات الكراهية وعدم الرضا لأنَّ الأصل المقصود هو طلب رضاها وموافقتها.

[البحث]

ساق البخارى رحمه الله هذا الحديث تحت باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما ثم ساق من حديث عائشة رضى اللَّه عنها أنها قالت: يا رسول اللَّه إن البكر تستحى، قال:"رضاها صمتها" وفى لفظ: "إذنها صماتها" وفى لفظ: "سكاتها إذنها" كما بوب البخارى رحمه الله فقال: باب إذا زوَّج الرجل ابنته وهى كارهة فنكاحه مردود وساق من طريق القاسم بن محمد عن عبد الرحمن ومُجْمَع

ص: 227

ابنى يزيد بن جارية عن خنساء بنت خِدَام الأنصارية أن أباها زوَّجها وهى ثيب فكرهت ذلك فأتت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فردَّ نكاحها وفى لفظ للبخارى من حديث عائشة رضى اللَّه عنها أورده فى كتاب الإِكراه من صحيحه قالت: قلت يا رسول اللَّه يُستأمر النساء فى أبضاعهن قال: "نعم" قلت: فإن البكر تستأمر فتستحى فتسكت قال: "سُكاتها إذنها" وقد وهم الحافظ فى التلخيص فنسب هذا الحديث لمسلم وهو ليس فيه وإنما هو فى البخارى. فقد قال فى التلخيص عند كلامه على حديث "لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن. قال: وفى الباب عن عائشة بلفظ: تستأمر النساء فى أبضاعهن. الحديث. أخرجه مسلم اهـ. وقد ساق مسلم رحمه الله حديث الباب ثم ساق حديث عائشة رضى اللَّه عنها بلفظ: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الجارية يُنْكِحُهَا أهْلُهَا أَتُسْتَأْمَرُ أم لا؟ فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "نعم تُستأمَرْ" فقالت عائشة: فقلت له: فإنها تستحى فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فذلك إذنها إذا هى سكتت" اهـ والمراد بالجارية فى هذا الحديث هى البكر دون الثيب وهذا ظاهر الدلالة على حماية الإسلام لمشاعر المرأة وأنها لا تُزَوَّجُ من تكره ولا تتزوج إلا بمن ترضى، وأنه لا يحل للولى أن يجعلها سلعة يزوجها من شاء بغير رضاها. فالولى شرط فى صحة العقد كما أن رضا المرأة شرط فى صحة العقد فإن رغبت الزواج من كفء وعضل وليها انتقلت الولاية للسلطان وإن رغبت فى غير كفء كان ذلك إشارة سفه فيها ووليها يمنع ذلك حرصا على مصلحتها. واللَّه أعلم.

ص: 228

وسيجئ مزيد بحث لهذا فى الحديث الذى يلى هذا الحديث إن شاء اللَّه تعالى. هذا والمراد بالبكر التى تستأذن هى من كانت فى سن الرشد أما من كانت دون سن الرشد والتمييز فإن استئذانها كعدمه فلأبيها أن يزوجها دون استئذان وقد زوج أبو بكر رضى اللَّه عنه النبى صلى الله عليه وسلم عائشة رضى اللَّه عنها وهى بنت ست سنين أو سبع سنين.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أنه لابد من رضا المرأة بمن يريد وليها أن يزوجها منه.

2 -

أنه لابد فى الثيب من صريح موافقتها على الزواج.

3 -

أن البكر تستأذن.

4 -

وأنه يكفى فى إذنها أن تسكت.

5 -

إذا اقترن السكوت بما يدل على عدم الموافقة والرضا لا يعتبر هذا السكوت إذنا.

6 -

لابد من الولى فى عقد نكاح المرأة.

7 -

إذا كانت المرأة راضية بالكفء الخاطب وعضلها الولى انتقلت الولاية للسلطان.

8 -

إذا رغبت المرأة فى غير كفء كان لوليها الحق فى منع زواجها منه.

9 -

إذا كانت البكر صغيرة لم تبلغ سن الرشد فلأبيها تزويجها دون استئذانها.

ص: 229

14 -

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تُسْتَأْمَرُ وإذنها سُكُوتُهَا".

ص: 229

رواه مسلم وفى لفظ: "ليس للولى مع الثيب أمر، واليتيمة تستأمر" رواه أبو داود والنسائى وصححه ابن حبان.

[المفردات]

الثيب: هى التى زالت بكارتها بوطء.

أحق بنفسها من وليها: قال النووى: واعلم أن لفظة أحق هنا للمشاركة، معناه أن لها فى نفسها فى النكاح حقا ولوليها حقا وحقها أوكد من حقه فإنه لو أراد تزويجها كفؤًا وامتنعت لم تجبر، ولو أرادت أن تتزوج كفؤًا فامتنع الولى اجبر فإن أصَرَّ زوَّجَها القاضى فدل على توكيد حقها ورحجانه اهـ.

تستأمر: هو هنا بمعنى تستأذن.

وإذنها سُكُوتُها: أى ودليل رضاها بالزواج هو عدم معارضتها.

وفى لفظ: أى من حديث ابن عباس لكنه من رواية أبى داود والنسائى.

ليس للولى مع الثيب أمر: أى لابد من رضا الثيب بتصريحها بالرضا والقبول فإذا لم تصرح بالقبول لا يزوجها الولى ولا يحتم عليها.

واليتيمة تستأمر: أى ومن مات أبوها فوليها بعد أبيها لا يزوجها إلا بعد استئمارها يعنى استئذانها. وإطلاق اليتيمة باعتبار ما كان إذا اليتيم من بنى آدم من مات أبوه قبل البلوغ.

ص: 230

[البحث]

أخرج مسلم حديث ابن عباس رضى اللَّه عنهما بعدة ألفاظ منها ما ساقه المصنف. ومنها: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تُسْتَأذَنُ فى نفسها وإذنها صُمَاتُهَا" وفى لفظ: "الثيب أحق بنفسها. من وليها، والبِكْر يستأذنها أبوها فى نفسها وإذنها صُمَاتُهَا" وربما قال: "وصَمْتُها إقرارها" أما حديث ابن عباس عند أبى داود والنسائى فقد قال فيه الحافظ فى التلخيص: حديث ليس للولى مع الثيب أمر. أبو داود والنسائى وابن حبان من حديث معمر عن صالح بن كيسان عن نافع بن حبيب عن ابن عباس وزاد: واليتيمة تُسْتَأْمَرُ وإذنها إقرارها ورواته ثقات قاله أبو الفتح القشيرى، ويقال: إن معمرا أخطأ فيه يعنى أن صالحا إنما حمله عن عبد اللَّه بن الفضيل عن نافع بن جبير، وهو قول الدارقطنى اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن للثيب حقا فى رفض النكاح أو قبوله ولوليها حقا. وحقها أوكد من حقه.

2 -

إذا رغب الولى فى تزوج الثيب من كفء فامتنعت لم تجبر.

3 -

لو أرادت أن تتزوج كفؤا فامتنع الولى أجبر فإن أصر على الامتناع زوَّجها القاضى.

ص: 231

15 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تُزَوِّجُ المرأةُ المرأةَ، ولا تزوج المرأة نفسها" رواه ابن ماجه والدارقطنى ورجاله ثقات.

[المفردات]

لا تزوج المرأة المرأة: أى ليس للمرأة ولاية فى تزوج غيرها من النساء.

ولا تزوج المرأة نفسها: أى وليس للمرأة حق تزوج نفسها.

[البحث]

تقدمت الأدلة الظاهرة على أنه لا نكاح إلا بولى، وهو يتضمن أن المرأة لا ولاية لها فى النكاح لا لنفسها ولا لغيرها. وقد تقدم أن اشتراط الولى فى النكاح إنما هو لحماية حرمة المرأة وصيانتها من قالة السوء. وقد تقدم بحث هذا فى الحديث العاشر والثانى عشر من أحاديث هذا الباب. أما حديث أبى هريرة هذا فقد رواه الدارقطنى من عدة طرق بعدة ألفاظ فرواه من طريق جميل بن الحسن أبى الحسن الجهضمى نا محمد بن مروان العقيلى نا هشام بن حسان عن محمد عن أبى هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هى التى تزوج نفسها اهـ وجميل بن الحسن الأزدى العتكى الأهوازى روى عنه ابن خزيمة وابن أبى داود وغيرهما وروى عنه هذا الحديث ابن ماجه وابن خزيمة ووثقه ابن حبان وتكلم فيه غيره وقال ابن الجوزى: لا يعرف. وقال ابن عدى: لا أعلم له حديثا منكرا وطعن فيه عَبْدَانُ كما فى الخلاصة. وقد أخرجه الدارقطنى كذلك من طريق مسلم بن أبى مسلم

ص: 232

الجرمى نا مخلد بن الحسين عن هشام عن ابن سيرين عن أبى هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها، إن التى تنكح نفسها هى البغى" قال ابن سيرين: وربما قال أبو هريرة: هى الزانية اهـ قإل ابن الجوزى فى مسلم بن أبى مسلم الجرمى: لا يعرف وقال ابن أبى حاتم: هو من الثقات ووثق يحيى بن معين رواية مخلد بن الحسين عن هشام بن حسان. وقد أخرجه الدارقطنى من طريق عبد السلام (هو ابن حرب) عن هشام عن ابن سيرين عن أبى هريرة رفعه قال: لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة نفسها. وقال أبو هريرة: وكان يقال: الزانية تنكح نفسها اهـ وقال الحافظ فى تلخيص الحبير: "لا تنكح المرأة المرأة ولا نفسها، إنما الزانية التى تنكح نفسها" ابن ماجه والدارقطنى من طريق ابن سيرين عن أبى هريرة، وفى لفظ: كنا نقول: إن التى تزوج نفسها هى الزانية. ورواه الدارقطنى أيضًا من طريق أخرى إلى ابن سيرين فبين أن هذه الزيادة من قول أبى هريرة، ورواه البيهقى من طريق عبد السلام بن حرب عن هشام عنه بها موقوفا ومن طريق محمد بن مروان عن هشام مرفوعا قال: ويشبه أن يكون عبد السلام حفظه فإنه ميز المرفوع من الموقوف اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أنه ليس للمرأة ولاية فى تزويج غيرها من النساء.

2 -

وليس للمرأة حق تزويج نفسها.

ص: 233

16 -

وعن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما: قال "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الشِّغار" والشِّغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق. متفق عليه. واتفقا من وجه آخر على أن تفسير الشغار من كلام نافع.

[المفردات]

الشِّغار: أى عن نكاح الشغار وأصل الشغار يدور على معنى الرفع وعلى معنى الخلو فمن الأول قولهم: شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول، ومن الثانى قولهم: شغر البلد إذا خلا. والناس يقولون: وظيفة شاغرة أى خالية ممن يشغلها. والمراد هنا أن يزوج الرجل موليته للآخر على أن يزوجه الآخر موليته وليس بينهما صداق كما جاء تفسيره عن نافع رحمه الله. والمناسبة بين المعنى اللغوى والمعنى الاصطلاحى. ظاهرة، لما فى المعنى الاصطلاحى من خلوا لزواج عن المهر وجعل البضع بدلا منه.

والشغار الخ: بينت الرواية الأخرى المتفق عليها أن هذا التفسير من كلام نافع.

واتفقا من وجه آخر: أى واتفق البخارى ومسلم فى إخراج الرواية

ص: 234

الأخرى التى تنص على أن تفسير الشغار فى الحديث هو من كلام نافع وليس من كلام ابن عمر ولا من كلام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والرواية الأخرى هذه من طريق عبيد اللَّه بن عمر عن نافع.

[البحث]

أخرج البخارى حديث الباب من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما فى كتاب النكاح وأخرجه فى كتاب ترك الحيل من صحيحه فقال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد اللَّه قال حدثنى نافع عن عبد اللَّه رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار. قلت لنافع: ما الشغار؟ قال: يَنْكح ابنةَ الرجل ويُنْكِحُهُ ابنتَه بغير صداق، وينكح أخت الرجل ويُنْكِحُه أخته بغير صداق اهـ وأخرج مسلم حديث الباب من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر ثم قال: وحدثنى زهير بن حرب ومحمد بن المثنى وعبيد اللَّه بن سعيد قالوا: حدثنا يحيى عن عبيد اللَّه عن نافع عن ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم بمثله غير أن فى حديث عبيد اللَّه قال: قلت لنافع ما الشغار. وهذه الرواية المتفق عليها من طريق عبيد اللَّه يعنى ابن عمر عن نافع تنص على أن تفسير الشغار فى الحديث هو من كلام نافع وليس من كلام ابن عمر ولا من الحديث المرفوع. أكثر الرواة لهذا الحديث لم ينسبوا التفسير لأحد قال الحافظ فى الفتح: ولهذا قال الشافعى فيما حكاه البيهقى فى المعرفة: لا أدرى التفسير عن النبى صلى الله عليه وسلم أو عن ابن عمر أو عن نافع أو عن مالك، ونسبه محرز بن عون وغيره لمالك، قال

ص: 235

الخطيب: تفسير الشغار ليس من كلام النبى صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول مالك وصل بالمتن المرفوع وقد بين ذلك ابن مهدى والقعنبى ومحرز بن عون ثم ساقه كذلك عنهم، ورواية محرز بن عون عند الإسماعيلى والدارقطنى فى "الموطآت" وأخرجه الدارقطنى أيضًا من طريق خالد بن مخلد عن مالك قال: سمعت أن الشغار أن يزوج الرجل الخ وهذا دال على أن التفسير من منقول مالك لا من مقوله اهـ وقد أخرج مسلم هذا الحديث أيضًا من طريق ابن نمير وأبى أسامة عن عبيد اللَّه عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الشغار. زاد ابن نمير والشغار أن يقول الرجل للرجل: زوجنى ابنتك وأزوجك ابنتى أو زوجنى أختك وأزوجك أختى. قال القرطبى: تفسير الشغار صحيح موافق لما ذكره أهل اللغة فإن كان مرفوعا فهو المقصود وإن كان من قول الصحابى فمقبول أيضًا لأنه أعلم بالمقال وأقعد بالحال اهـ قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز اهـ ولا شك أن هذا النوع من النكاح فيه فساد كبير ففيه افتيات على النساء وتضييع لحقوقهن فى الصداق، وجعلهن كالسلع المتبادلة، مع ما جرب من سرعة انهيار هذا النوع من النكاح، والإسلام من أهم مقاصده رفع الضيم عن عباد اللَّه من الرجال والنساء وإشعار الناس بأن المرأة إنسان لها ما للإِنسان وعليها ما على الإنسان، على حد قوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .

ص: 236

[ما يفيده الحديث]

1 -

تحريم نكاح الشغار.

2 -

لا يجوز لولى المرأة أن يضيع حقوقها.

ص: 237

17 -

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما أن جارية بِكْرًا أتت النبى صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زَوَّجَهَا وهى كارهة، فَخَيَّرَها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وأُعِلَّ بالإرسال.

[المفردات]

جارية: أى شابة.

بكرا: أى ليست بثيب.

وهى كارهة: أى وهى غير راضية بهذا الزواج.

فخيرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أى فقضى لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنها بالخيار إن شاءت أمضت الزواج وإن شاءت ردته وألغته.

[البحث]

هذا الحديث أخرجه أحمد فى مسنده وأبو داود والنسائى وابن ماجه والدارقطنى من طريق حسين بن محمد عن جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما أن جارية بكرا. الحديث. وحسين بن محمد هو المروزى أحد الثقات المخرج له فى الصحيحين. لكن قال البيهقى: أخطأ فيه جرير بن حازم على أيوب السختيانى، والمحفوظ عن

ص: 237

أيوب عن عكرمة عن النبى صلى الله عليه وسلم مرسلا. وقد رواه أبو داود عن محمد ابن عبيد عن حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة مرسلا. وقال ابن أبى حاتم فى علله: سألت أبى عن حديث حسين فقال: هو خطأ إنما هو كما رواه الثقات حماد بن زيد وابن علية عن أيوب عن عكرمة عن النبى صلى الله عليه وسلم مرسلا وهو الصحيح. فقلت: الوهم ممن؟ فقال: ينبغى أن يكون من حسين فإنه لم يروه عن جرير بن حازم غيره. قال أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادى فى التعليق المغنى على الدارقطنى: قال فى التنقيح: قال الخطيب البغدادى: قد رواه سليمان بن حرب عن جرير بن حازم أيضًا كما رواه حسين فبرأت عهدته ثم رواه بإسناده قال: ورواه أيوب بن سويد هكذا عن الثورى عن أيوب موصولا، وكذلك رواه مُعَمَّر بن سليمان عن زيد بن حبان عن أيوب انتهى، قال ابن القطان فى كتابه: حديث ابن عباس صحيح اهـ وقال الحافظ فى التلخيص: رجاله ثقات ثم ذكر اختلاف الرواة فى وصله وإرساله ثم قال: وإِذا اختلف فى وصل الحديث وإرساله حكم لمن وصله على طريقة الفقهاء اهـ. هذا وقد تقدم الحديث المتفق عليه: ولا تنكح البكر حتى تستأذن.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أنه لا يجوز تزويج البكر بمن تكره.

ص: 238

18 -

وعن الحسن عن سمرة رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 238

"أيما امرأة زوَّجها وليَّان فهى للأول منهما" رواه أحمد والأربعة وحسَّنه الترمذى.

[المفردات]

زوَّجها وليان: أى زوجها أحد أوليائها لرجل. وزوَّجها ولىٌّ آخر من أوليائها لرجل آخر.

فهى للأول منهما: أى فهى زوجة للزوج الأول الذى زوجه الولى الأول.

[البحث]

هذا الحديث من رواية الحسن عن سمرة وقد تقدم البحث فيها، وقال الحافظ فى التلخيص: حديث إذا أنكح الوليان فالأوَّل أحق. ويروى أيما امرأة زوجها وليان فهى للأول منهما. أحمد والدارمى وأبو داود والترمذى والنسائى من حديث قتادة عن الحسن عن سمرة باللفظ الثانى، حسَّنه الترمذى وصححه أبو زرعة وأبو حاتم والحاكم فى المستدرك، وذكره فى النكاح بألفاظ توافق اللفظ الأول، وصحته متوقفة على ثبوت سماع الحسن من سمرة فإن رجاله ثقات لكن قد اختلف فيه على الحسن، ورواه الشافعى وأحمد والنسائى من طريق قتادة أيضًا عن الحسن عن عقبة بن عامر قال الترمذى: الحسن عن سمرة فى هذا أصح، وقال ابن المدينى: لم يسمع الحسن من عقبة شيئًا، وأخرجه ابن ماجه من طريق شعبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة أو عقبة بنى عامر اهـ ومعنى هذا الحديث صحيح إن عقد وليان فى درجة واحدة فى وقتين مختلفين فإن نكاح الأول صحيح، ونكاح الثانى باطل لأنه لم يصادف محلا، ولا نزاع فى هذا عند أهل العلم، أما إذا عقدا فى وقت واحد فعقدهما باطل. واللَّه أعلم.

ص: 239

19 -

وعن جابر رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أيما عبدٍ تزوج بغير إذن مواليه أو أهله فهو عاهر" رواه أحمد وأبو داود والترمذى وصححه وكذلك ابن حبان.

[المفردات]

بغير إذن مواليه: أى بغير رضا سادته.

أو أهله: شك من الراوى والمراد بأهله مواليه وسادته.

عاهر: أى زان.

[البحث]

نسب المصنف هنا إلى الترمذى تصحيح هذا الحديث ونسب إليه فى التلخيص أنه حسنه فقد قال الحافظ فى التلخيص: حديث: أيما مملوك أنكح بغير إذن مولاه فهو عاهر. ويروى: فنكاحه باطل. أحمد وأبو داود والترمذى وحسنه والحاكم وصححه من حديث ابن عقيل عن جابر باللفظ الأول، وأخرجه ابن ماجه من رواية ابن عقيل عن ابن عمر وقال الترمذى: لا يصح إنما هو عن جابر، وأبو داود من حديث العمرى عن نافع عن ابن عمر باللفظ الثانى وتعقبه بالتضعيف وبتصويب وقفه. ورواه ابن ماجه من حديث ابن عمر بلفظ ثالث: أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو زان. وفيه مندل بن على وهو ضعيف، وقال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر، وصوب الدارقطنى فى العلل وقف هذا المتن على ابن عمر، ولفظ الموقوف أخرجه عبد الرزاق عن

ص: 240

معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه وجد عبدا له تزوج بغير إذنه ففرق بينهما، وأبطل صداقه، وضربه حدًّا. اهـ

ص: 241

20 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُجْمَعُ بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها" متفق عليه.

[المفردات]

لا يُجْمَعُ بين المرأة وعمتها: أى لا يتزوج رجل امرأة وعمة هذه المرأة فتجتمعا فى عصمته، لكن له أن يتزوج إحداهما إذا كان قد طلق الأخرى كالأختين.

ولا بين المرأة وخالتها: أى ولا يتزوج رجل امرأة وخالة تلك المرأة فتجتمعها فى عصمته لكن له أن يتزوج إحداهما إذا كان قد طلق الأخرى كالأختين.

[البحث]

أخرج البخارى ومسلم حديث الباب باللفظ الذى ساقه المصنف عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُجْمَعُ، الحديث. كما أخرجه البخارى من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه بلفظ: نهى النبى صلى الله عليه وسلم أن تُنْكَحَ المرأة على عمتها والمرأة على خالتها. كما أخرج البخارى من طريق عاصم عن الشعبى سمع جابرا رضى اللَّه عنه قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تُنْكَحَ المرأة على عمتها أو خالتها. وقال داود وابن عون عن الشعبى عن أبى هريرة اهـ وقد أخرجه مسلم كذلك عن

ص: 241

أبى هريرة رضى اللَّه عنه بعدة ألفاظ ففى لفظ عن أبى هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن أربع نسوة أن يُجْمَعَ بينهن: المرأةِ وعمتها والمرأةِ وخالتها. وفى لفظ عن أبى هريرة قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُنْكَحُ العمةُ على بنت الأخ، ولا ابنة الأخت على الخالة" وفى لفظ عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه يقول: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يَجْمَعَ الرجل بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها. وفى لفظ عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا تُنْكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" وفى لفظ عن أبى هريرة: رضى اللَّه عنه قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تُنْكَحَ المرأة على عمتها أو خالتها" قال النووى هذا دليل لمذاهب العلماء كافة أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها سواء كانت عمة وخالة حقيقة وهى أخت الأب وأخت الأم أو مجازية وهى أخت أبى الأب وأبى الجد وإن علا، أو أخت أم الأم وأم الجدة من جهتى الأم والأب وإن علت فكلهن بإحماع العلماء يحرم الجمع بينهما اهـ ليقال الحافظ فى الفتح: قال الشافعى: تحريم الجمع بين من ذكر هو قول من لقيته من المفتين لا اختلاف بينهم فى ذلك، وقال الترمذى بعد تخريجه: العمل على هذا عند عامة أهل العلم لا نعلم بينهم اختلافا أنه لا يحل للرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ولا أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها. وقال ابن المنذر: لست أعلم فى منع ذلك اختلافا اليوم، وإنما قال بالجواز فرقة من الخوارج، وإذا ثبت الحكم بالسنة واتفق أهل العلم على القول به لم يضره خلاف من خالفه. وكذا نقل

ص: 242

الإجماع ابن عبد البر وابن حزم والقرطبى والنووى اهـ وهذا المقام من المقامات التى ثبت تخصيص القرآن فيها بالسنة لأنَّ قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} يقتضى بعمومه إباحة الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها فخصصت السنة هذا العموم إذ حرمت الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها. وهذا لأنَّ اللَّه تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ومن البيان تخصيص العموم وتقييد المطلق، كما قيد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مطلق قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} بأنها لا تحل له بمجرد عقد الزواج بل لابد من ذوق العسيلة. وإلى ذلك ونحوه يشير اللَّه عز وجل حيث يقول {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .

[ما يفيده الحديث]

1 -

تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها.

2 -

أنه إذا عقد الرجل على العمة وبنت أخيها معا أو على الخالة وبنت أختها معا فالعقد باطل.

3 -

وأنه إذا كان متزوجا العمة ثم عقد على بنت أخيها بطل العقد على بنت الأخ فقط.

4 -

وأنه إذا كان عنده الخالة ثم عقد على بنت أختها بطل العقد على بنت الأخت فقط.

5 -

وأن هذا الحكم يشمل العمة أخت الأب كما يشمل أخت أبى

ص: 243

الأب وأبى الجد وإن علا.

6 -

وأنه يشمل الخالة أخت الأم كما يشمل أخت أم الأم وأم الجدة من جهتى الأم والأب وإن علت.

7 -

حرص الإسلام على صلة الأرحام وإبعاد أسباب قطيعتها.

ص: 244

21 -

وعن عثمان رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يَنْكِحُ المحرم ولا يُنْكَحُ" رواه مسلم وفى رواية له: "ولا يَخطُبُ" وزاد ابن حبان "ولا يُخْطَبُ عليه"

[المفردات]

لا يَنْكِحُ: أى لا يتزوج.

ولا يُنْكِحُ: أى ولا يُزَوِّجُ امرأة بولاية أو وكالة. وإذا كانت بفتح الكاف فمعناه لا يزوجه غيره.

وفى رواية له: أى وفى رواية لمسلم من حديث عثمان رضى اللَّه عنه.

ولا يخطب: أى ولا يتقدم لطلب يد امرأة.

ولا يُخْطَبُ عليه: أى ولا يتقدم أحد للخِطْبَةِ منه.

[البحث]

أورد مسلم هذا الحديث من طريق نُبَيْه بن وهب أن عمر بن عبيد اللَّه أراد أن يُزَوِّجَ طلحة بن عمر بنت شيبة بن جبير فأرسل إلى أبان بن عثمان يحضر ذلك وهو أمير الحج فقال: سمعت عثمان بن عفان يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يَنكح المحرم

ص: 244

ولا يُنكح ولا يخطب. وفى لفظ: "إن المحرم لا ينكح ولا يُنكح" وفى لفظ: المحرم لاينكح ولا يخطب. وفى لفظ: لا ينكح المحرم. وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الحج فى باب الاحرام وما يتعلق به برقم 6 وقد أوضحت هناك كلام أهل العلم فيما يتعلق بحديث عثمان وحديث ابن عباس الذى يلى هذا الحديث.

ص: 245

22 -

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: تزوج النبى صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم" متفق عليه، ولمسلم عن ميمونة نفسها: أن النبى صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال.

[البحث]

تقدم كذلك بحث هذا الحديث وما يتعلق به فى سياق بحث الحديث السابق عند الكلام عليه فى كتاب الحج فى باب الإحرام وما يتعلق به كما أشرت إلى ذلك عند الكلام على الحديث رقم 21 من هذا الباب.

ص: 245

23 -

وعن عقبة بن عامر رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن يُوفَّى به ما استحللتم به الفروج. متفق عليه.

[المفردات]

أحق الشروط أن يُوفَّى به: أى أولى الشروط بالوفاء وأجدرها بتنفيذ مضمونها وقضائه.

ص: 245

ما استحللتم به الفروج: أى ما التزم به عند عقد النكاح الذى تمت استباحة الفرج بمقتضاه لأنَّ أمره أحوط وبابه أضيق.

[البحث]

أخرج البخارى هذا الحديث فى كتاب الشروط تحت باب الشروط فى المهر عند عُقدة النكاح: عن عقبة بن عامر رضى اللَّه عنه بلفظ: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أحق الشروط أن تُوفُوا به ما استحللتم به الفروج" وأورده فى كتاب النكاح بلفظ: أحق ما أوفيتم من الشروط أن تُوفُوا به ما استحللتم به الفروج. أما مسلم فقد ساق الحديث من طريق أبى بكر بن أبى شيبة بلفظ: "إن أحَقَّ الشَّرْطِ أن يُوفَى به ما استحللتم به الفروج" وأخرجه من طريق محمد بن المثنى باللفظ الذى ساقه المصنف. وقد أشار البخارى رحمه الله إلى أن هناك شروطا لا يحل أن تشترط فى النكاح فقال: باب الشروط التى لا تحل فى النكاح وقال ابن مسعود: لا تشترط المرأة طلاق أختها ثم ساق من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، فإنما لها ما قُدِّرَ لها" قال الحافظ فى الفتح: هكذا أورده البخارى بهذا اللفظ وقد أخرجه أبو نعيم فى "المستخرج" من طريق ابن الجنيد عن عبيد اللَّه بن موسى شيخ البخارى فيه بلفظ: "لا يصلح لامرأة أن تشترط طلاق أختها لتُكْفِئ إناءها" اهـ. وقد أخرج مسلم من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم: "ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما فى إنائها أو ما فى صحفتها. وفى لفظ:

ص: 246

ولا تسأل المرأة طلاق الأخرى لتكفئ ما فى إنائها" وبهذا يتضح أن الشرط الذى يجب الوفاء به هو ما لم يكن معارضا لكتاب اللَّه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أما إذا كان معارضا لكتاب اللَّه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحل أن يشترط، وإذا اشترط فلا يجب الوفاء به ولا يحل لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما كان من شرط ليس فى كتاب اللَّه فهو باطل وإن كان مائة شرط" كما تقدم بحث ذلك عند الكلام على الحديث العاشر من أحاديث كتاب البيوع.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن أحق الشروط بالوفاء ما استحلت به الفروج.

2 -

أن من حق الشرط غير المعارض لكتاب اللَّه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُوفَى به.

ص: 247

24 -

وعن سلمة بن الأكوع رضى اللَّه عنه قال: "رخَّص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام أو طَاسٍ فى المتعة ثلاثة أيام ثم نهى عنها" رواه مسلم.

[المفردات]

سلمة بن الأكوع: هو سلمة بن الأكوع -واسمه سنان- أو سلمة بن عمرو بن الأكوع بن عبد اللَّه بن قُشَيْر بن خُزيمة بن مالك بن سلامان بن أسلم بن أفصى الأسلمى. أسلم قديما مع أبيه وأخيه عامر

ص: 247

وصحبوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جميعا وقد غزا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سبع غزوات منها الحديبية وخيبر وحنين ويوم القَرَد، وكان جهورى الصوت، خرج سلمة يوما يريد الغابة فلقى غلاما لعبد الرحمن ابن عوف فسمعه يقول: أُخذت لقاح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: قلت من أخذها؟ قال غطفان قال سلمة: فانطلقت فناديت: يا صباحاه يا صباحاه حتى أسمعت من بين لابتيها ثم مضيت فاستنقذتها منهم. وكان سلمة من أهل الشجرة أصحاب بيعة الرضوان رضى اللَّه عنهم قال ابن سعد فى الطبقات: أخبرنا هشام أبو الوليد الطيالسى قال حدثنا عكرمة بن عامر عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: قدمنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الحديبية ثم خرجنا راجعين إلى المدينة فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجَّالتنا سلمة. وقد اعتزل رضى اللَّه عنه الناس ونزل الربذة قال البخارى: باب التعرب فى الفتنة حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حاتم عن يزيد بن أبى عُبيد عن سلمة بن الأكوع أنه دخل على

ص: 248

الحجاج فقال: يا ابن الأكوع: ارتددت على عقبيك تَعَرَّبْتَ؟ قال: لا. ولكنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أذن لى فى البدو. وقد أخرج مسلم هذا الحديث أيضًا. قال البخارى: وعن يزيد بن أبى عبيد قال: لما قتل عثمان بن عفان خرج سلمة بن الأكوع إلى الربذة وتزوج هناك امرأة وولدت له أولادا، فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليال فنزل المدينة اهـ وتوفى سنة أربع وسبعين بالمدينة رضى اللَّه عنه.

رخص: أى أباح.

عام أوطاس: أى سنة غزوة أوطاس وكانت بعد فتح مكة فى شوال سنة ثمان من الهجرة. وأوطاس واد فى ديار هوازن من أودية الطائف قرب حنين نزله المشركون لحرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم انتقلت المعركة إلى حنين ثم لما فى انهزم المشركون عسكر بعضهم فى أوطاس فتمت هزيمتهم فيها على يد أبى موسى الأشعرى رضى اللَّه عنه بعد استشهاد أبى عامر الأشعرى رضى اللَّه عنه فيها.

فى المتعة: أى فى النكاح المؤقت، كان الرجل يقول للمرأة: متعينى من نفسك مدة كذا بكذا.

ثلاثة أيام: أى استمر الترخيص لمدة ثلاثة أيام أو أن مدة التمتع بالنساء كانت ثلاثة أيام ولفظ مسلم: ثلاثة.

ص: 249

ثم نهى عنها: أى ثم حَرَّمهَا صلى الله عليه وسلم.

[البحث]

لم يقع فى هذا الحديث أنهم تمتعوا من النساء فى أوطاس وإنما الذى فى هذا الحديث أن الرخصة فى المتعة وقعت عام أوطاس، وعام أوطاس هو عام فتح مكة فإن مكة فتحت فى أواخر رمضان وأوطاس كانت فى شوال من نفس السنة، وقد وقع فى الحديث رقم 25 الذى يلى هذا الحديث عن على رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة عام خيبر، وكذلك فى الحديث رقم 26 الذى يليه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء وعن أكل الحمر الأهلية يوم خيبر. وأما الحديث الذى يليه وهو الحديث رقم 27 وهو حديث ربيع بن سبرة عن أبيه فليس فيه هنا تحديد الوقت الذى أبيحت فيه ولا الوقت الذى حرمت فيه. وخيبر كانت فى صفر من السنة السابعة للهجرة فقد كانت قبل أوطاس بأكثر من عام وقد وقع فى بعض ألفاظ حديث سبرة عند مسلم ما يفيد أن الترخيص فى المتعة والنهى عنها كان فى فتح مكة وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وهو قائم بين الركن والباب. وليس هناك كبير تعارض بين الترخيص فيها وتحريمها عام أوطاس أو فى فتح مكة لأنَّ فتح مكة كان فى عام أوطاس، وقبل أن نتكلم فى تحقيق هذا المقام نسوق إليك الأحاديث الصحيحة الثابتة فى شأن الترخيص فى المتعة وتحريمها فقد روى البخارى ومسلم واللفظ لمسلم عن عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه عنه قال: كنا نغزو مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليس لنا نساء فقلنا: ألا نستخصى؟ فنهانا

ص: 250

عن ذلك ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد اللَّه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} كما روى البخارى ومسلم من حديث على رضى اللَّه عنه قال: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن المتعة عام خيبر" كما روى البخارى ومسلم من حديث على رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء وعن أكل الحمر الأهلية يوم خيبر، كما روى البخارى من طريق أبى جمرة قال: سمعت ابن عباس يُسْألُ عن متعة النساء فرخص، فقال له مولى له: إنما ذلك فى الحال الشديد وفى النساء قلة أو نحوه فقال ابن عباس: نعم" كما روى البخارى ومسلم واللفظ للبخارى من حديث جابر بن عبد اللَّه وسلمة بن الأكوع قالا: كنا فى جيش فأتانا رسولُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد أَذنَ لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا" وفى لفظ مسلم: "إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أذِنَ لكم أن تستمتعوا يعنى متعة النساء" وفى لفظ للبخارى من حديث سلمة بن الأكوع عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجلٌ وامرأة توافقا فَعِشْرَةُ ما بينهما ثلاث ليال، فإن أحبا أن يتزايدا أو يتتاركا تتاركا" فما أدرى أشئ كان لنا خاصة أم للناس عامة. قال أبو عبد اللَّه: وقد بينه على عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه منسوخ اهـ كما روى من حديث جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه عنهما قال: استمتعنا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر. كما روى مسلم من حديث جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه عنهما قال: كنا نستمتع بالقُبْضَة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبى بكر حتى نهى عنه عمر فى شأن عمرو بن حريث. وفى لفظ لمسلم من طريق أبى نضرة قال: كنت

ص: 251

عند جابر بن عبد اللَّه فأتاه آتٍ فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا فى المتعتين فقال جابر: فعلناهما مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم نهانا عنهما عمر فلم نَعُدْ لهما. ثم ساق مسلم حديث سلمة بن الأكوع باللفظ الذى ساقه المصنف فى البلوغ إلا أنه قال: ثلاثًا ولم يقل ثلاثة أيام، ثم ساق مسلم من حديث سلمة رضى اللَّه عنه قال أذن لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمتعة، فانطلقت أنا ورجل إلى امرأة من بنى عامر كأنها بَكْرَةٌ عَيْطَاءُ، فعرضنا عليها أنفسنا فقالت: ما تعطى؟ فقلت: ردائى، وقال صاحبى: ردائى. وكان رداء صاحبى أجود من ردائى، كنت أشب منه. فإذا نَظَرَتْ إلى رداء صاحبى أعجبها وإذا نَظَرَتْ إلىَّ أعْجَبْتُهَا. ثم قالت: أنت ورداؤك يكفينى فمكثت معها ثلاثًا ثم إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عنده شئ من هذه النساء التى يَتَمَتَّعُ فَلْيُخَلِّ سبيلها. وفى لفظ لمسلم عن الربيع بن سبرة أن أباه غزا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتح مكة قال: فأقمنا بها خمس عشرة "ثلاثين بين ليلة ويوم" فأذن لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى متعة النساء فخرجت أنا ورجل من قومى ولى عليه فضل فى الجمال وهو قريب من الدمامة، مع كل واحد منا بُرْدٌ، فَبُرْدِى خَلَقٌ، وأما بُرْدُ ابن عمى فَبُرْدٌ جديد غَضٌّ حتى إذا كنا بأسفل مكة أو بأعلاها فَتَلَقَّتْنَا فتاةٌ مثل البكرة الْعَنَطنَطَةِ، فقلنا: هل لكِ أن يستمتع منكِ أحَدنا؟ قالت: وماذا تَبْذُلَانِ؟ فنشر كلُّ واحد منا بُردَه، فجعلت تنظر إلى الرجلين ويراها صاحبى تنظر إلى عِطْفِهَا، فقال: إن برد هذا خَلَقٌ وبردى جديد غضٌّ، فتقول: بُرْدُ هذا لا بأس به ثلاث مرات أو مرتين ثم استمتعت منها. فلم أخرج حتى حرَّمها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفى لفظ قالت: وهل يصلح ذاك؟ وفى لفظ

ص: 252

لمسلم من حديث سبرة أنه كان مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إنى قد كنت أذنت لكم فى الاستمتاع فى النساء وإن اللَّه قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شئ فَلْيُخَلِّ سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا. وفى لفظ: قال رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائمًا بين الركن والباب يقول: الحديث. وفى لفظ عن سبرة رضى اللَّه عنه قال: أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة ثم لم نخرج منها حتى نهانا عنها. وفى لفظ عن سبرة بن معبد رضى اللَّه عنه أن نبى اللَّه صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة أمر أصحابه بالتمتع من النساء قال: فخرجت أنا وصاحب لى منْ بنى سُلَيْم حتى وجدنا جارية من بنى عامر كأنها بكرة عيطاء فخطبناها إلى نفسها وعرضنا عليها بردينا فجعلت تنظر فترانى أجمل من صاحبى وترى برد صاحبى أحسن من بردى فآمرت نفسها ساعة ثم اختارتنى على صاحبى فكُنَّ معنا ثلاثًا ثم أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بفراقهن. وفى لفظ لمسلم عن سبرة أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة وفى لفظ له أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى يوم الفتح عن متعة النساء، وفى لفظ: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة زمان الفتح متعة النساء كما روى مسلم من طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن عبد اللَّه بن الزبير قام بمكة فقال: إن ناسا أعمى اللَّه قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة -يُعَرِّضُ برجل- فناداه فقال: إنك لَجِلْفٌ جافٍ فلعمرى لقد كانت المتعة تُفْعَلُ على عهد إمام المتقين "يريد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" فقال له ابن الزبير: فَجَرِّبْ بنفسك فواللَّه لئن فَعَلْتَهَا

ص: 253

لأرجمنك بأحجارك. قال ابن شهاب: فأخبرنى خالد بن المهاجر بن سيف اللَّه أنه بينا هو جالس عند رجل جاءه رجل فاستفتاه فى المتعة فأمره بها فقال له ابن أبى عمرة الأنصارى: مهْلًا قال: ما هى واللَّه لقد فُعِلَت فى عهد إمام المتقين قال ابن أبى عمرة: إنها كانت رخصة فى أول الإسلام لمن اضْطُرَّ إليها كالميتة والدم ولحم الخنزير ثم أحكم اللَّه الدين ونهى عنها قال ابن شهاب: وأخبرنى ربيع بن سبرة أن أباه قال: قد كنت استمتعت فى عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم امرأةً من بنى عامر ببردين أحمرين ثم نهانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن المتعة قال ابن شهاب: وسمعت ربيع بن سبرة يحدث ذلك عمر بن عبد العزيز وأنا جالس. وفى لفظ لمسلم عن سبرة رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وقال: "ألا إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة، ومن كان أعطى شيئًا فلا يأخذه" ثم روى مسلم من طريق يحيى بن يحيى عن مالك عن ابن شهاب عن عبد اللَّه والحسن ابنى محمد بن على عن على ابن أبى طالب رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية" وأخرج من طريق محمد بن على رحمه الله أنه سمع على بن أبى طالب يقول لفلان: إنك رجل تائه نهانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمثل حديث يحيى بن يحيى عن مالك. ثم أخرج مسلم من طريق محمد بن على عن على أنه سمع ابن عباس يُلَيِّنُ فى متعة النساء فقال: مهلًا يا ابن عباس فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية، وفى لفظ من طريق محمد بن على

ص: 254

أنه سمع على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه يقول لابن عباس: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإِنسية اهـ وقوله فى حديث سبرة (كأنها بكرة عيطاء) العيطاء هى الطويلة العنق فى اعتدال وحسن قوام، والعيط طول العنق. وقوله فى الرواية الأخرى (مثل البكرة العنطنطة) هى بمعنى العيطاء وقيل هى الطويلة فقط. وقد أخرج البخارى فى كتاب الحيل من طريق محمد بن على أن عليا رضى اللَّه عنه قيل له: إن ابن عباس لا يرى بمتعة النساء بأسا، فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الجمر الإِنسية. ولا يفهم من حديث ابن مسعود الذى سقته فى أول هذه الأحاديث أنه كان يبيح المتعة فقد ذكر الإسماعيلى أنه وقع فى رواية أبى معاوية عن إسماعيل بن أبى خالد "ففعله ثم ترك ذلك" قال: وفى رواية لابن عيينة عن إسماعيل: "ثم جاء تحريمها بعد" وفى رواية معمر عن إسماعيل: "ثم نسخ" قال الحافظ فى الفتح: وقد أخرجه أبو عوانة من طريق أبى معاوية عن إسماعيل بن أبى خالد وفى آخره: "ففعلنا ثم ترك ذلك" وقول جابر: "فنهانا عمر فلم نعد لهما" قال الحافظ فى الفتح: فإن كان قوله "فعلنا" يعم جميع الصحابة فقوله "لم نعد" يعم جميع الصحابة أيضا فيكون إجماعا اهـ وقول جابر فى بعض ألفاظ حديثه: "استمتعنا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر" أما الاستمتاع فى عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم-فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة المتقدمة فى

ص: 255

الترخيص فيها ثم تحريمها ونسخها إلى يوم القيامة. وأما قوله: "وأبى بكر وعمر" فإنما كان ذلك من بعض الأفراد الذين لم يعلموا بالتحريم والنسخ ويؤيد ذلك قوله: "فنهانا عمر فلم نعد" فإن عمر رضى اللَّه عنه عندما أعلن النهى عنها بسبب وقوع عمرو بن حريث فيها كان عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب وغيرهما من أئمة أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم موجودين ووافقوا عمر رضى اللَّه عنه على إعلان تحريمها، ولا شك أن عليا لا يوافق عمر رضى اللَّه عنهما إلا وهو مطمئن أن ذلك هو حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد تقدمت الروايات الصحيحة الثابتة وهى من بعض آل البيت عن على رضى اللَّه عنه عند البخارى ومسلم بالنص على أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حرَّم المتعة بعد الترخيص فيها. وأما ما كان من ابن عباس رضى اللَّه عنهما فإن ما رواه البخارى من طريق أبى جمرة قال: سمعت ابن عباس يُسأل عن متعة النساء فرخص فقال له مولى له: إنما ذلك فى الحال الشديد وفى النساء قلة أو نحوه فقال ابن عباس: نعم. وفى رواية الإسماعيلى: قال ابن عباس: صدق. وقد أخرج الخطابى والفاكهى من طريق سعيد بن جبير قال: قلت: لابن عباس: لقد سارت بفتياك الركبان، وقال فيها الشعراء يعنى فى المتعة فقال: واللَّه ما بهذا أفتيت وما هى إلا كالميتة لا تحل إلا للمضطر، وأخرجه البيهقى من وجه آخر عن سعيد بن جبير وزاد فى آخره: ألا إنما هى كالميتة والدم ولحم الخنزير. وقد نقل غير واحد من أهل العلم أن ابن عباس رضى اللَّه عنهما رجع عن فتياه بإباحة المتعة قال الشوكانى فى نيل الأوطار:

ص: 256

وقد روى الرجوع عن ابن عباس جماعة منهم محمد بن خلف القاضى المعروف بوكيع فى كتابه الغرر من الأخبار بسنده المتصل إلى سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: ما تقول فى المتعة فقد أكثر الناس فيها حتى قال فيها الشاعر قال: وما قال؟ قال:

قد قلت للشيخ لما طال محبسه

يا صاح هل لك فى فتوى ابن عباس

وهل ترى رخصة الأطراف آنسة

تكون مثواك حتى مصدر الناس

قال: وقد قال فيه الشاعر؟ قلت: نعم قال: فكرهها اهـ وقد روى الطبرانى فى الأوسط من طريق إسحاق بن راشد عن الزهرى عن سالم: أتى ابن عمر فقيل له: إن ابن عباس يأمر بنكاح المتعة فقال: معاذ اللَّه ما أظن ابن عباس يفعل هذا فقيل: بلى. قال: وهل كان ابن عباس على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا غلاما صغيرا ثم قال ابن عمر: نهانا عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: وما كنا مسافحين، قال فى التلخيص: إسناده قوى وروى الدارقطنى عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: هدم المتعة الطلاق والعدة والميراث إسناده حسن اهـ. والظاهر أن المتعة أبيحت ثم حرمت ثم أبيحت ثم حرمت وكانت إباحتها ضرورة، فكانت تقدر بقدرها إلى أن أعلن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنها حرمت إلى يوم القيامة قال النووى: والصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين وكانت حلالا قبل خيبر ثم حرمت يوم خيبر ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس لاتصالهما ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة. ثم قال النووى: قال القاضى: واتفق العلماء على

ص: 257

أن هذه المتعة كانت نكاحا إلى أجل، لا ميراث فيها، وفراقها يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق ووقع الإِجماع بعد ذلك على تحريمها اهـ وعمر رضى اللَّه عنه لم يحرم المتعة اجتهادا بل استنادا إلى تحريم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقد أخرج ابن ماجه من طريق أبى بكر بن حفص عن ابن عمر قال: لما ولى عمر خطب فقال: "إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أذن لنا فى المتعة ثلاثا ثم حرمها" وأخرج ابن المنذر والبيهقى من طريق سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن أبيه قال: صعد عمر المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة بعد نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عنها وقد تعلق بعض أهل الأهواء لاستباحة المتعة بأقوال مرسلة، وأخبار منقطعة كما زعموا أن قوله تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} ينص على إباحة المتعة، قال الفخر الرازى فى تفسير قوله تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} : فى هذه الآية قولان: أحدهما وهو قول أكثر علماء الأمة أن قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} المراد منه ابتغاء النساء بالأموال على طريق النكاح، وقوله:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فإن استمتع بالدخول بها آتاها المهر بالتمام، وإن استمتع بعقد النكاح آتاها النصف المهر. والقول الثانى: أن المراد بهذه الآية نكاح المتعة وهى عبارة عن أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين فيجامعها، واتفقوا على أنها كانت مباحة فى ابتداء الإسلام. ثم قال: أما ابن عباس فعنه ثلاث روايات إحداها القول بالإباحة المطلقة قال عمارة: سألت ابن عباس عن المتعة: أسفاح هى أم نكاح؟ قال: لا سفاح ولا نكاح، قلت: فما هى؟ قال: هى متعة كما قال

ص: 258

تعالى قلت: هل لها عدة؟ قال نعم عدتها حيضة. قلت هل يتوارثان؟ قال: لا. والرواية الثانية عنه: أن الناس لما ذكروا الأشعار فى فتيا ابن عباس فى المتعة قال ابن عباس: قاتلهم اللَّه إنى ما أفتيت بإباحتها على الإِطلاق لكنى قلت: إنما تحل للمضطر كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير له. والرواية الثالثة: أنه أقر بأنها صارت منسوخة روى عطاء الخراسانى عن ابن عباس فى قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} قال: صارت هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وروى أيضا أنه قال عند موته: اللهم إنى أتوب إليك من قولى فى المتعة والصرف. ثم ساق الفخر الرازى أدلة تحريم المتعة من وجوه: الأول: أن الوطء لا يحل إلا فى الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وهذه المرأة لا شك أنها ليست مملوكة وليست أيضا بزوجة، ويدل عليه وجوه: أحدها أنها لو كانت زوجة لحصل التوارث بينهما لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} وبالاتفاق لا توارث بينهما. وثانيها: ولثبت النسب لقوله عليه الصلاة والسلام: "الولد للفراش" وبالاتفاق لا يثبت. وثالثها: ولوجبت العدة عليها لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} اهـ ثم قال الفخر الرازى: الحجة الثانية أن عمر ذكر هذا الكلام (يعنى المنع من المتعة) فى مجمع الصحابة، وما أنكر عليه أحد فالحال ههنا لا يخلو: إما أن يقال: إنهم كانوا عالمين بحرمة المتعة فسكتوا أو

ص: 259

كانوا عالمين بأنها مباحة ولكنهم سكتوا على سبيل المداهنة، أو ما عرفوا إباحتها ولا حرمتها فسكتوا، لكونهم متوقفين فى ذلك، والأول هو المطلوب، والثانى يوجب تكفير عمر وتكفير الصحابة لأن من علم أن النبى صلى الله عليه وسلم حكم بإباحة المتعة ثم قال: إنها محرمة محظورة من غير نسخ لها فهو كافر باللَّه، ومن صدقه عليه مع علمه بكونه مخطئا كافرا كان كافرا أيضا وهذا يقتضى تكفير الأمة وهو على ضد قوله:"كنتم خير أمة" والقسم الثالث: وهو أنهم ما كانوا عالمين بكون المتعة مباحة أو محظورة، فلهذا سكتوا، فهذا أيضا باطل، لأن المتعة بتقدير كونها مباحة تكون كالنكاح، واحتياج الناس إلى معرفة الحال فى كل واحد منهما عام فى حق الكل، مثل هذا يمنع أن يبقى مخفيا بل يجب أن يشتهر العلم به، فكما أن الكل كانوا عارفين بأن النكاح مباح، وأن إباحته غير منسوخة وجب أن يكون الحال فى المتعة كذلك. ولما بطل هذان القسمان ثبت أن الصحابة إنما سكتوا عن الإنكار على عمر رضى اللَّه عنه لأنهم كانوا عالمين بأن المتعة صارت منسوخة فى الإسلام. ثم ذكر الفخر الرازى الأحاديث الصحيحة الثابتة فى تحريم المتعة ونسخها، وقد سقتها فيما تقدم. وما توفيقى إلا باللَّه.

[ما يفيده الحديث]

1 -

تحريم نكاح المتعة.

2 -

وأنه منسوخ إلى يوم القيامة.

3 -

أن المتعة رخص فيها ثم حرمت ثم رخص فيها ثم حرمت على التأبيد.

ص: 260

4 -

أن إباحتها كانت عام أوطاس وهو عام فتح مكة.

5 -

وأن إباحتها كانت لمدة ثلاثة أيام.

6 -

وأن إباحتها لم تكن إلا فى السَّفَرِ وقتئذ.

7 -

وأنها لم تبح للمقيمين أبدا.

ص: 261

25 -

وعن على رضى اللَّه عنه قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن المتعة عام خيبر" متفق عليه.

[المفردات]

عن المتعة: أى عن نكاح المتعة.

عام خيبر: أى سنة فتح خيبر، وكان المسير إلى خيبر فى المحرم سنة سبع من الهجرة وقد تم فتحها فى صفر.

[البحث]

قد سقت فى بحث الحديث السابق ألفاظ حديث على رضى اللَّه عنه عند البخارى ومسلم، وأن فيها: نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. كما تقدم أن المتعة رخص فيها عام أوطاس وهو عام فتح مكة وكان ذلك فى السنة الثامنة للهجرة وأن إباحتها كان لمدة ثلاثة أيام ثم حرمت. كما تقدمت الإشارة إلى أن المتعة أبيحت أكثر من مرة وحرمت أكثر من مرة. وكان تحريمها يوم خيبر لنسخ الترخيص فيها قبل ذلك. وكانت خيبر قبل فتح مكة

ص: 261

بأكثر من ثمانية عشر شهرا، وقد نسب إلى السهيلى أنه لا يعرف من أهل السير ورواة الآثار أنه نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر وهذا يرده هذا الحديث المتفق عليه عند الشيخين، وهو فى القمة فى إثبات الأخبار. وكون على رضى اللَّه عنه لم يذكر تحريمها يوم فتح مكة وهو أولى بالذكر من تحريمها يوم خيبر لأن عليا رضى اللَّه عنه كان يرد على ما نسب إلى ابن عباس رضى اللَّه عنه من إباحته المتعة ولحوم الحمر الأهلية. وقد كان تحريمهما جميعا يوم خيبر، فلذلك اقتصر على ذكر التحريم يوم خيبر وهو لم ينف ما عدا ذلك رضى اللَّه عنه ولم يتعرض له وقد جاء فى بعض ألفاظه رضى اللَّه عنه قوله لمن نسِبَتْ إليه إباحتها: إنك رجل تائه، وقوله مهلا يا ابن عباس فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية. كما سيجئ فى الحديث الذى يلى هذا الحديث إن شاء اللَّه تعالى.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن المتعة حرمت عام خيبر.

2 -

وأن لحوم الحمر الإِنسية حرمت يوم خيبر كذلك.

ص: 262

26 -

وعنه رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء وعن أكل الحمر الأهلية يوم خيبر" أخرجه السبعة إلا أبا داود.

[المفردات]

وعنه: أى وعن على رضى اللَّه عنه.

ص: 262

الحمر الاهلية: أى الحمر الإنسية وهى بخلاف حمر الوحش فإنها حلال.

يوم خيبر: أى عام فتح خيبر.

[البحث]

تقدم فى بحث الحديث السابق والذى قبله ألفاظ هذا الحديث، وما يتعلق به. وهذا الحديث ساقط من بعض نسخ بلوغ المرام ومن سبل السلام.

ص: 263

27 -

وعن ربيع بن سبرة عن أبيه رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم-قال: "إنى كنت أذنت لكم فى الاستمتاع من النساء. وإن اللَّه قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شئ فليخل سبيلها، ولا تأخذوا إذا آتيتموهن شيئا" أخرجه مسلم وأبو داود والنسائى وابن ماجه وأحمد وابن حبان.

[المفردات]

ربيع بن سبرة: هو الربيع بن سبرة بن معبد الجهنى المدنى روى عن الزهرى وروى الربيع عن أبيه رضى اللَّه عنه قال الحافظ فى التقريب: ثقة من الثالثة اهـ توفى بعد المائة رحمه الله.

عن أبيه: هو سبرة بن معبد الجهنى رضى اللَّه عنه ويقال: سبرة

ص: 263

ابن عوسجة ويقال: ابن ثرية بفتح الثاء كسر الراء وتشديد الياء والد الربيع، أول مشاهده الخندق، وكان لسبرة دار بالمدينة فى جهينة، ونزل فى آخر عمره ذا المروة قال ابن سعد فى الطبقات: فعقبه بها إلى اليوم وتوفى سبرة فى خلافة معاوية بن أبى سفيان رضى اللَّه عنهم.

كنت أذنت لكم فى الاستمتاع من النساء: أى كنت أبحت لكم متعة النساء.

حريم ذلك إلى يوم القيامة: أى حرم اللَّه المتعة تحريما مؤبدا لا يقبل النسخ بحال.

عنده منهن شئ: أى فى صحبته امرأة يطؤها على سبيل نكاح المتعة

فليخل سبيلها: أى فليفارقها وليسرحها.

ولا تأخذوا إذا آتيتموهن شيئا: أى ولا تستردوا شيئا من المال الذى دفعتموه لهن فى نظير المتعة مهما كان قد بقى من الأجل.

[البحث]

هذا الحديث أيضا ساقط من بعض نسخ بلوغ المرام ومن سبل السلام وقد سقت جميع ألفاظه فى بحث حديث سلمة بن الأكوع رقم 24 وقد جاء فى بعض ألفاظه: غزا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتح مكة.

ص: 264

وفيه: فأذن لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى متعة النساء وفيه: فلم أخرج حتى حرمها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفيه: فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا" وفى بعض ألفاظه: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائما بين الركن والمقام الخ. وفى بعض ألفاظه: أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة ثم لم نخرج منها حتى نهانا عنها. وفى بعض ألفاظه: نهى عن المتعة زمان الفتح متعة النساء" وتقدم فى حديث على رضى اللَّه عنه أخها حرمت يوم خيبر. وتقدم بيان أنه لا معارضة فى ذلك بين حديث على وحديث سبرة رضى اللَّه عنهما لأنها أبيحت وحرمت اكثر من مرة.

[ما يفيده الحديث]

1 -

تحريم نكاح المتعة.

2 -

وأن الترخيص فى المتعة وتحريمها تكرر أكثر من مرة.

3 -

وأن تحريم نكاح المتعة قد تأبد عام الفتح إلى يوم القيامة فلا يقبل النسخ بحال.

ص: 265

28 -

وعن ابن مسعود رضى اللَّه عنه قال: لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ له" رواه أحمد والنسائى والترمذى وصححه. وفى الباب عن على أخرجه الأربعة إلا النسائى.

[المفردات]

لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ له: أى دعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

ص: 265

بالطرد من رحمة اللَّه على من تزوج امرأة قد بانت من زوجها بينونة كبرى بقصد أن يُحِلَّها لزوجها وكذلك دعا بالطرد من رحمة اللَّه على من بانت منه امرأة بينونة كبرى فرضى بأن يتزوجها رجل لمجرد تحليلها له فطلقها الثانى وتزوجها الأول.

وفى الباب عن على: أى وفى باب لعن المحلل والمحلل له الذى جاء فى حديث ابن مسعود رواية بلعن المحلل والمحلل له عن على رضى اللَّه عنه أيضا.

[البحث]

قال الحافظ فى تلخيص الحبير: حديث لعن اللَّه المحلل والمحلل له. الترمذى والنسائى من حديث ابن مسعود وصححه ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخارى، وله طريق أخرى أخرجها عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن عبد اللَّه بن مرة عن الحارث عن ابن مسعود، وأخرى أخرجها إسحاق فى مسنده عن زكريا بن عدى عن عبيد اللَّه بن عمر، وعن عبد الكريم الجزرى عن أبى الواصل عنه، وفى الباب عن ابن عباس أخرجه ابن ماجه وفى إسناده زمعة بن صالح وهو ضعيف. ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذى من حديث على وفى إسناده مجالد وفيه ضعف وقد صححه ابن السكن وأعله الترمذى وقال: روى عن مجالد عن الشعبى عن جابر وهو وهم ورواه أحمد وإسحاق والبيهقى

ص: 266

والبزار وابن أبى حاتم فى العلل، والترمذى فى العلل من حديث أبى هريرة وحسنه اهـ. وقد قال البزار: حدثنا محمد بن إسحاق الصاغانى ثنا معلى بن منصور ثنا عبد اللَّه بن جعفر يعنى المخرمى عن عثمان بن محمد عن المقبرى عن أبى هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا بهذا ثم قال: وبه أنه لعن المحلِّ والمحلَّل له. قال البزار: لا نعلمه عن أبى هريرة إلا بهذا الإسناد. قال البيهقى: رواه أحمد والبزار وفيه عثمان بن محمد الأخنسى وثقه ابن معين وابن حبان قال ابن المدينى: له عن أبى هريرة مناكير.

وقد أشار الحافظ فى تلخيص الحبير إلى اتفاق أهل العلم على أن الرجل إذا تزوج التى طلقت ثلاثا من غير قصد أن يحلها للأول ولكن المرأة قد أضمرت ذلك، أنها لا تدخل فى اللعن.

هذا وإذا تزوج رجل المطلقة ثلاثا على نية أنها إن صلحت له لا يطلقها وإن لم تصلح له فارقها فإنه لا يدخل فى هذا اللعن أيضا، وإنما الذى يستحق هذا اللعن هو ما كان القصد من نكاحه مجرد تحليلها للأول، وهذا المحلِّل يسمى التيس المستعار.

ص: 267

29 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح الزانى المجلود إلا مثله" رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات.

[المفردات]

لا ينكح: أى لا يتزوج.

ص: 267

الزانى المجلود: أى الزانى الذى أقيم عليه الحد بالجلد. وإنما خص المجلود لأن الزانى الثيب المحصن حده الرجم فلا محل لنكاحه.

إلا مثله: أى إلا زانيا مثله فلا ينكح العفيفة كما أن الزانية لا تنكح العفيف.

[البحث]

هذا الحديث يؤيده قول اللَّه تبارك وتعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فلا ينكح العفيف إلا عفيفة ولا تنكح العفيفة إلا عفيفا. أما غير العفيف أو العفيفة فإنما ينكح مثله.

[ما يفيده الحديث]

1 -

تحريم تزويج الزانية من العفيف.

2 -

تحريم تزويج العفيف من الزانية.

3 -

يجب على العفيف أن لا يتزوج إلا عفيفة.

4 -

يجب أن لا تتزوج العفيفة إلا عفيفا.

ص: 268

30 -

وعن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: طلق رجل أمرأته ثلاثا فتزوجها رجل ثم طلقها قبل أن يدخل بها فأراد زوجها الأول أن يتزوجها فَسُئِلَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "لا حتى يذوق الآخر من عُسَيْلَتِهَا ما ذاق الأول" متفق عليه واللفظ لمسلم.

ص: 268

[المفردات]

رجل: هو رفاعة بن سموأل القرظى.

امرأته: هى تميمة بنت وهب أو بنت أبى عبيد أو تميمة بنت وهب أبى عبيد القرظية.

فتزوجها رجل: هو عبد الرحمن بن الزبَّير -بفتح الزاى كسر الباء- ابن باطاء أو باطياء القرظى قال النووى: هو الذى ذكره أبو عمر بن عبد البر والمحققون وقال ابن منده وأبو نعيم الأصبهانى فى كتابيهما فى معرفة الصحابة: إنما هو عبد الرحمن بن الزبير بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك ابن عوف بن عمرو ابن عوف بن مالك بن أوس، والصواب الأول اهـ

ثم طلقها: أى الرجل الثانى وهو عبد الرحمن بن الزَّبير.

فأراد زوجها الأول: هو رفاعة القرظى.

أن يتزوجها: أى بعد أن طلقها عبد الرحمن بن الزَّبير.

عن ذلك: أى عن جواز أن يتزوجها الزوج الأول الذى كان طلقها ثلاثا بعد أن تزوجت طلقها الزوج الثانى الذى لم يمسها.

فقال: لا حتى يذوق الآخِر من عسيلتها ما ذاق الأول: أى لا يجوز أن يتزوجها الأول حتى يطأها الزوج الثانى. والعسيلة قال الأزهرى: الصواب أن معنى العسيلة حلاوة الجماع الذى يحصل بتغييب الحشفة فى الفرج وأنث تشبيها بقطعة من عسل. قال الحافظ فى الفتح: وقال جمهور العلماء: ذوق العسيلة كناية عن المجامعة وهو تغييب

ص: 269

حشفة الرجل فى فرج المرأة اهـ وقال النووى: هو بضم العين وفتح السين تصغير عسلة وهى كناية عن الجماع شبه لذته بلذة العسل اهـ.

[البحث]

أورد البخارى رحمه الله هذا الحديث فى كتاب الطلاق فى "باب من قال لامرأته أنت علىَّ حرام" عن عائشة رضى اللَّه عنها بلفظ: قالت: طلق رجل امرأته، فتزوجت زوجا غيره، فطلقها. وكانت معه مثلُ الهُدْبَة فلم تصل منه إلى شئ تريده، فلم يلبث أن طلقها، فأتت النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إن زوجى طلقنى، وإنى تزوجت زوجا غيره فدخل بى ولم يكن معه إلا مثل الهدبة فلم يقربنى إلا هَنَةً واحدة لم يصل منى إلى شئ، أَفأَحِلُّ لزوجى الأول؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا تحلين لزوجك الأول حتى يذوق الآخر عُسَيْلتك وتذوقى عسيلته" وقد أورده قبل ذلك فى "باب من جوّز الطلاق الثلاث" من حديث عائشة رضى اللَّه عنها بلفظ: أن امرأة رفاعة القرظى جاءت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه إن رفاعة طلقنى فَبَتَّ طلاقى، وإنى نكحت بعده عبد الرحمن بن الزَّبير القرظى وإنما معه مثل الهُدْبة قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لعلك تريد أن ترجعى إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقى عسيلته" ثم أورده فى باب "إذا طلقها ثلاثا ثم تزوجت بعد العدة زوجا غيره فلم يمسها" من حديث عائشة رضى اللَّه عنها بلفظ: "أن رفاعة القرظى تزوج امرأة ثم طلقها فتزوجت آخر، فأتت النبى فذكرت له أنه لا يأتيها، وأنه ليس معه إلا مثل هدبة فقال: "لا. حتى تذوقى

ص: 270

عسيلته ويذوق عسيلتك "وقد أورده فى كتاب الشهادات "فى باب شهادة المختبئ" من حديث عائشة رضى اللَّه عنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظى النبىَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رفاعة فطلقنى فأبتَّ طلاقى فتزوجت عبد الرحمن بن الزَّبير، إنما معه مثل هُدْبة الثوب. فقال: "أتريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟ لا. حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك" وأبو بكر جالس عنده، وخالد بن سعيد بن العاص بالباب ينتظر أن يُوْذَنَ له فقال: يا أبا بكر ألا تسمع إلى هذه ما تجهر به عند النبى صلى الله عليه وسلم؟ وقد أورده مسلم بهذا اللفظ أيضا ثم أورده البخارى فى كتاب اللباس فى "باب الإزار المهدَّبِ" عن عائشة رضى اللَّه عنها بلفظ قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا جالسة وعنده أبو بكر فقالت: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنى كنت تحت رفاعة فطلقنى فبت طلاقى فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزَّبير، وإنه واللَّه ما معه يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا مثل هذه الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها، فسمع خالد بن سعيد قولها وهو بالباب لم يؤذن له قالت: فقال خالد: يا أبا بكر ألا تنهى هذه عما تجهر به عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلا واللَّه ما يزيد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على التبسم، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لعلك تريدين أن ترجعى إلى رفاعة، لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقى عسيلته، فصار سنة بعد. وقد أخرجه رحمه الله أيضا بلفظ: أن رفاعة القرظى طلق امرأته فبت طلاقها، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزَّبير فجاءت النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنها كانت تحت رفاعة فطلقها آخر ثلاث تطليقات فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزَّبير وإنه واللَّه ما معه إلا مثل الهدبة وأخذت بهدبة من جلبابها فتبسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضاحكا فقال:

ص: 271

"لعلكِ تريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟ لا. حتى يذوق عُسيلتك وتذوقى عسيلته، وأبو بكر الصديق جالس عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وخالد بن سعيد بن العاص جالس بباب الحجرة لم يؤذن له فطفق خالد ينادى أبا بكر ألا تَزْجُرُ هذه عما تجهر به عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. كما ساقه مسلم باللفظ الذى أورده المصنف. هذا وكان مقتضى قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أى إن طلقها التطليقة الثالثة لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره أنه يجوز للزوج الذى كان طلقها آخر الثلاث التطليقات أن يتزوجها بمجرد عقد زواجها على الزوج الآخر إذا طلقها ولو لم يدخل بها الثانى لأن النكاح -كما ذكرت فى مفردات الحديث الأول من كتاب النكاح- يراد له هنا العقد، لكن السنة قيدت هذا الإطلاق بأنه لابد من ذوق العسيلة كما أنه لابد من التطليق وتمام العدة بعد ذوق العسيلة أيضا. كما ذكرت فى بحث الحديث العشرين من كتاب النكاح أن السنة تقيد مطلق القرآن كما تخص عمومه لأن اللَّه تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قيد مطلق قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} بأنها لا تحل له بمجرد عقد الزواج بل لابد من ذوق العسيلة وإلى ذلك ونحوه يشير اللَّه عز وجل حيث يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .

ص: 272

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن من طلق زوجته ثلاثا فتزوجت بعده ثم طلقها دون أن يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته لا تحل للأول.

2 -

وأنها لا تحل للأول إلا بعد أن يذوق الزوج الثانى عسيلتها وتذوق عسيلته.

3 -

وأن السنة تقيد مطلق القرآن.

هذا وقد تم بحمد اللَّه تعالى وتوفيقه الجزء السادس من فقه الإسلام شرح بلوغ المرام فى ضحى يوم الثلاثاء الثانى والعشرين من شهر رمضان المبارك لعام 1402 هـ بمنزلنا بمدينة أبها.

ويليه الجزء السابع وأوله "باب الكفاعة والخيار" وما توفيقى إلا باللَّه، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

عبد القادر شيبة الحمد

عضو هيئة التدريس بقسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية والمدرس بالمسجد النبوي الشريف

ص: 273