الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الهبة والعُمْرَى والرُّقْبَى
1 -
عن النعمان بن بشير رضى اللَّه عنهما أن أباه أتى به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إنى نحلت ابنى هذا غلاما كان لى، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "أكُلَّ ولدك نَحَلْتَه مثل هذا؟ " فقال: لا. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَارْجِعْهُ" وفى لفظ: فانطلق أبى إلى النبى صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَه على صدقتى، فقال: "أفَعَلْتَ هذا بوَلَدِكَ كُلِّهِم؟ " قال: لا. قال: "اتقوا اللَّه واعدلوا بين أولادكم" فرَجَعَ أبى فَرَدَّ تلك الصدقة. متفق عليه. وفى رواية لمسلم قال: "فَاشْهِدْ على هذا غيرى" ثم قال: "أيسُرُّكَ أن يكونوا لك فى البِرِّ سواءً؟ قال: بلى قال: "فلا إذَنْ"
[المفردات]
الهبة: هى لغة العطية وشرعا هى تمليك بلا عوض قال فى الفتح: تطلق بالمعنى الأعم على أنواع الإبراء وهو هبة الدين ممن هو عليه، والصدقة وهى هبة ما يتمحض به طلب ثواب الآخرة، والهدية وهى ما يكرم به الموهوب له. ومن خصها بالحياة أخرج الوصية وهى تكون أيضا بالأنواع الثلاثة، وتطلق الهبة بالمعنى الأخص على ما لا يقصد له بدل، وعليه ينطبق قول من عرف الهبة بأنها تمليك بلا عوض، اهـ وقد سبق
قلم الشوكانى رحمه الله فى نيل الأوطار عند ما نقل كلام الحافظ هذا فقال: والهدية وهى ما يلزم له الموهوب له عوض اهـ ولا شك أن هذا خطأ فى نقل عبارة الحافظ رحمهما اللَّه.
والعُمْرَى: هى بضم العين وسكون الميم وحكى فيها ضم الميم أيضا كما حكى فيها فتح العين وسكون الميم مأخوذة من العمر قال البخارى فى صحيحه: أعْمَرْتُهُ الدارَ فهى عُمْرَى: جعلتها له، استعمركم فيها: جعلكم عُمَّارًا اهـ والعمرى فى الاصطلاح: هى أن يعطى الإِنسان غيره دارا ويقول له: أعمرتك إياها أى أبحتها لك مدة عمرك فقيل لها عُمْرى لذلك.
والرُّقْبَى: وهى مأخوذة من المراقبة وهى الانتظار قال فى القاموس: والرقبى كَبُشْرَى أن يُعْطِىَ إنسانا مِلْكًا فأيهما مات رجع المِلْكُ لورثته أو أن يجعله لفلان يسكنه فإن مات ففلان، وقد أرقبه الرُّقْبَى وأرقبه الدار جعلها له رقبى اهـ. وقد أشار الحافظ فى الفتح إلى أن العمرى والرقبى قد يطلقان على معنى واحد فى لغة العرب وقد روى النسائى بإسناد صحيح إلى ابن عباس موقوفا "العمرى والرقبى سواء"
ولا شك أن أصل العمرى مختلف عن الرقبى وقد كانوا فى الجاهلية يتعاملون بالرقبى والعمرى وكانت الرقبى أن يقول أحدهما لصاحبه: إن مت قبلى فدارك لى وإن مت قبلك فدارى لك فكان كل واحد منها يرقب موت صاحبه.
النعمان بن بشير: هو النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة بن جلاس بن زيد بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصارى الخزرجى أبو عبد اللَّه المدنى. له ولأبويه صحبة وأمه عمرة بنت رواحة أخت عبد اللَّه ابن رواحة رضى اللَّه عنهم وأرضاهم. ولد فى السنة الثانية من الهجرة وهو أول مولود ولد فى الأنصار بعد الهجرة كما أن ابن الزبير هو أول مولود ولد فى المهاجرين بعد الهجرة. وقد ولى الكوفة لمعاوية رضى اللَّه عنه ثم نقله معاوية رضى اللَّه عنه إلى ولاية حمص. ولما مات يزيد بن معاوية بايع النعمان رضى اللَّه عنه لابن الزبير فلما تمرد عليه أهل حمص فارقهم فلحقه خالد بن خلى الكلاعى وقتله رضى اللَّه عنه وهو ابن ثلاث وستين سنة وذلك سنة خمس وستين هجرية.
أباه: هو بشير بن سعد رضى اللَّه عنه.
أتى به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أى جاء به إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم-
نحلت: أى أعطت من النحلة بكسر النون وهى العطية بغير عوض.
ابنى هذا: يعنى النعمان بن بشير رضى اللَّه عنهما.
غلاما: أى عبدا رقيقا.
أكل ولدك نحلته مثل هذا: أى أعطيت سائر أولادك مثل ما أعطيت ولدك النعمان.
فقال لا: أى لم أعط سائر أولادى مثل ما أعطيت ولدى النعمان.
فارجعه: أى فَارْدُد الغلام إلى ملكك أو لا تُمْضِ الهبة المذكورة.
فانطلق أبى: أى فذهب أبى.
ليشهده على صدقتى: أى ليثبت لى عطيتى بشهادة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليها.
أفعلت هذا بولدك كلهم: أى أأعطيت مثل ما أعطيت النعمان لجميع أولادك.
واعدلوا بين أولادكم: أى ساوُوا بينهم فى الهبات والهدايا والعطايا.
فرجع أبى فرد تلك الصدقة: أى فاستعاد أبى ملكية الغلام أو لم يمض الهبة المذكورة بمجرد انصرافه من عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وسماع نصيحته ووصيته صلى الله عليه وسلم.
وفى رواية لمسلم: أى من حديث النعمان بن بشير رضى اللَّه عنهما.
فأشهد على هذا غيرى: أى أنا لا أشهد على هذا لما فيه من الجَوْر وعدم العدل بين الأولاد فالأمر ليس للإِذن بشهادة غيره بل هو نوع من التأنيب والتأديب.
أيسرك أن يكونوا لك فى البر سواء: أى أتحب وتفرح بأن يكونوا بارِّين بك من غير تفاوت فى حسن معاملتهم لك وترك عقوقك؟
قال بلى: أى أنا أحب أن يكون بِرُّهم بى على حد سواء.
قال: فلا إذنْ: أى فلا تُفَاوِتْ بينهم فى العطية أو لا تعط أحدا منهم دون الآخرين.
[البحث]
حديث النعمان بن بشير رضى اللَّه عنهما أورده البخارى بعدة ألفاظ فقد أخرجه فى باب الهبة للولد من كتاب الهبة من طريق حميد ابن عبد الرحمن ومحمد بن النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير أن أباه أتى به إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إنى نحلت ابنى هذا غلاما، فقال "أكُلَّ وَلَدِك نحلت مثلَه؟ " قال: لا. قال: "فارْجِعْه" وأورده فى باب الإِشهاد فى الهبة من طريق عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضى اللَّه عنهما وهو على المنبر يقول: أعطانى أبى عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشْهِدَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال إنى أعطيت ابنى من عمرة بنت رَوَاحَةَ عطية فأمرتنى أن أشهدك يا رسول اللَّه، قال:"أعطيت سائر وَلَدِك مثل هذا؟ " قال: لا. قال: "فاتقوا اللَّه
واعدلوا بين أولادكم" قال: فرجع فردَّ عطيته. وأورده فى كتاب الشهادات فى باب "لا يَشْهَدُ على شهادة جَوْرٍ إذا أُشْهِدَ" من طريق الشعبى عن النعمان بن بشير رضى اللَّه عنهما قال: سَألت أمى أبى بعض المَوْهِبَةِ لى من ماله، ثم بَدَا له فوهبها لى، فقالت: لا أرضَى حتى تُشْهِدَ النبى صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدى وأنا غلام فَأتَى بى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فقال إن أُمَّه بنت رواحةَ سألتنى بعض الموهِبَة لهذا؟ فقال: ألَكَ وَلَدٌ سواه؟ قال: نعم. قال: فَأرَاه قال: "لا تُشْهِدْنِى على جَوْرٍ" وقال أبو حَرِيزٍ عن الشعبى: "لا أشهد على جور" أما مسلم فقد أورده كذلك من طريق حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن النعمان ابن بشير يحدثانه عن النعمان بن بشير أنه قال: إن أباه أتى به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إنى نحلت ابنى هذا غلاما كان لى فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أكُلَّ وَلَدِكَ نحلته مثل هذا؟ " فقال: لا. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فارجعه" وفى لفظ من طريقهما عن النعمان بن بشير قال: أتى بى أبى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إنى نحلت ابنى هذا غلاما فقال: "أكُلَّ بنيك نحلت؟ " قال: لا. قال: "فَارْدُدْه" ثم قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وإسحاق بن إبراهيم وابن أبى عمر عن ابن عيينة ح وحدثنا قتيبة وابن رُمْحِ عن الليث بن سعد ح وحدثنى حرملة، بن يحيى أخبرنا ابن وهب قال: أخبرنى يونس ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا: أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر كلهم عن الزهرى بهذا الإسناد، أما يونس ومعمر ففى حديثهما "أكُلَّ بنيك" وفى
حديث الليث وابن عيينة "أكلَّ وَلَدِكَ" ورواية الليث عن محمد بن النعمان وحميد بن عبد الرحمن أن بشيرا جاء بالنعمان. حدثنا قتيبة ابن سعيد حدثنا جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال: حدثنا النعمان بن بشير قال: وقد أعطاه أبوه غلاما فقال له النبى صلى الله عليه وسلم "ما هذا الغلام؟ " قال: أعطانيه أبى قال: "فكل إخوته أعطيتَه كما أعطيت هذا؟ " قال: لا. قال: "فرده" ثم ساقه من طريق الشعبى عن النعمان بن بشير قال: تَصَدَّقَ علىَّ أبى ببعض ماله فقالت أمى عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشْهِدَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فانطلق أبى إلى النبى صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَه على صدقتى فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أفعلت هذا بولدك كلهم قال: لا. قال: "اتقوا اللَّه واعدلوا بين أولادكم" فرجع أبى فرد تلك الصدقة. ثم ساقه من طريق الشعبى أيضا قال: حدثنى النعمان بن بشير أن أمه بنت رواحة سألت أباه بعض المَوْهِبَة من ماله لابنها، فَالْتَوَى بها سنة، ثم بَدَالَه، فقالت: لا أرضى حتى تُشهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ما وهبت لابنى. فأخذ أبى بيدى وأنا يومئذ غلام فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه إن أمَّ هذا بنت رواحة أعْجَبَهَا أن أشْهِدَكَ على الذى وهبت لابنها فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا بشير ألَكَ وَلَدٌ سوىَ هذا؟ " قال: نعم. فقال: "أكُلَّهُمْ وهبت له مثل هذا؟ " قال: لا. قال: "فلا تُشْهِدنى إذًا، فإنى لا أشهَدُ على جور" وفى لفظ من طريق الشعبى عن النعمان بن بشير أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"ألك بنون سواه؟ " قال: نعم،
قال: "فَكلَّهُمْ أعطيت مثلَ هذا؟ " قال: لا. قال: "فلا أشْهَدُ على جوْر" وفى لفظ من طريق الشعبى عن النعمان بن بشير أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لأبيه: "لا تُشْهِدْنِى على جور" وفى لفظ من طريق الشعبى عن النعمان بن بشير قال: انطلق بى أبى يحملنى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه: اشْهَدْ أنى قد نحلتُ النعمان كذا وكذا من مالى. فقال: "أكُلَّ بنيك قد نحلتَ مثلَ ما نحلتَ النعمان؟ " قال: لا. قال: "فاشْهِدْ على هذا غيرى" ثم قال: "أيسرك أن يكونوا إليك فى البِر سواءً" قال: بلى. قال: "فلا إذا" وفى لفظ من طريق ابن عون عن الشعبى عن النعمان بن بشير قال: نحلنى أبى نُحْلًا ثم أتى بى إلى رسول اللَّه ليُشْهِدَه فقال: "أكلّ وَلَدِك أعطيته هذا؟ " قال: لا. قال: "أليس تريد منهم البِرَّ مثلَ ما تريد من ذا؟ قال: بلى. قال: "فإنى لا أشْهَدُ" قال ابن عون: فحدثت به محمدا فقال: إنما تَحَدَّثْنَا أنه قال: "قَارِبُوا بين أولادكم" ثم أورده مسلم من طريق أبى الزبير عن جابر قال: قالت امرأة بشير: انحل ابنى غلامك وأشْهِدْ لى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنة فلان سألتنى أن أنْحَلَ ابنها غلامى وقالت: أشْهِدْ لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "ألَه إخوةٌ" قال: نعم. قال: "أفكلَّهُمْ أعطيت مثلَ ما أعطيتَه؟ " قال: لا. قال: "فليس يَصْلُحُ هذا وإنى لا أشْهَدُ إلا على حق" اهـ وليس بين هذه الألفاظ الكثيرة
التى أوردناها عن الشيخين تعارض وللَّه الحمد والمنة كلها تؤكد حق الأولاد فى عدل الآباء ولا شك أن هذا من قواعد الإِسلام فى تربية الأسر الإِسلامية وغرس المحبة والرحمة والعدالة فى نفوس أفرادها ونزع حميع أسباب الشر وعوامل الفرقة فيها ليتكون منها المجتمع الصالح المثالى المتعاطف المتكاتف المتراحم، ويظهر أن عمرة رضى اللَّه عنها لما طلبت من بشير رضى اللَّه عنه أن يهب لولدها النعمان رفض إجابتها أولا وماطلها ثم طابت نفسه أن يهب له وخشيت من رجوعه فأرادت تثبيت العطية بأن يشهد عليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد حفظ بعض الرواة ما لم يحفظ البعض الآخر أو كان النعمان رضى اللَّه عنه يقص بعض القصة تارة ويقص بعضها تارة أُخرى فسمع بعض الرواة ما لم يسمع البعض الآخر وحدث كل واحد منهم بما رواه واقتصر عليه أو رواه بالمعنى وقد أشار إلى ذلك الحافظ فى الفتح. واللَّه أعلم.
[ما يفيده الحديث]
1 -
أنه ينبغى للآباء أن يعدلوا بين أولادهم فى العطايا والهبات.
2 -
أنه ينبغى للآباء أن لا يعملوا مع بعض أبنائهم عملا ينفر منهم باقى الأبناء.
3 -
جواز استرداد الهبة إن وقعت على جوْر ولو كانت للأقارب.
2 -
وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: "العائد فى هبته كالكلب يقئ ثم يعود فى قيئه" متفق عليه. وفى
رواية للبخارى: "ليس لنا مَثَلُ السَّوءِ، الذى يعود فى هبته كالكلب يقئ ثم يرجع فى قيئه".
[المفردات]
العائد: أى الراجع.
فى هبته: أى فى عطيته.
كالكلب يقئ ثم يعود فى قيئه: أى حالته وصفته فى رجوعه فى هبته كحالة الكلب وصفته حيث يقئ ثم يعود فيأكل قيئه والقئ هو ما يخرج من الجوف عن طريق الحلق من الطعام أما يخرج من الجوف عن طريق الدبر فهو الغائط والقئ أشد من القلس قال الخليل فى القلس: هو ما خرج من الحلق ملء الفم أو دونه وليس بقئ فإن عاد فهو القئ. وعبارة اللسان والمصباح: فإن غلب فهو القئ.
وفى رواية للبخارى: أى من حديث ابن عباس رضى اللَّه عنهما.
ليس لنا مثل السوء: أى لا ينبغى لنا معشر المؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة يشابهنا فيها أخس الحيوانات فى أخس أحوالها.
[البحث]
أورد البخارى هذا الحديث فى باب لا يحل لأحد أن يرجع فى هبته وصدقته من طريق سعيد بن المسيب عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: "العائد فى هبته كالعائد فى قيئه. ثم أورده
من طريق عكرمة عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ليس لنا مَثَلُ السَّوء، الذى يعود فى هبته كالكلب يرجع فى قيئه. أما مسلم فقد أورد هذا الحديث من طريق طاوس عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما باللفظ الذى أورده المصنف وأورده من طريق قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما. عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: العائد فى هبته كالعائد فى قيئه. وأورده من طريق أبى جعفر محمد بن على عن ابن المسيب عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَلُ الذى يرجع فى صدقته كمثل الكلب يقئ ثم يعود فى قيئه فيأكله. وأورده من طريق بكير سمع سعيد بن المسيب يقول: سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما مَثَلُ الذى يتصدق بصدقة ثم يعود فى صدقته كمثل الكلب يقئ ثم يأكل قيأه" أما إذا وهب الوالد أحد أولاده دون بقية أولاده فإن عليه أن يرجع فى ذلك لما تقدم فى الحديث الأول من أحاديث هذا الباب، إذ أن الهبة لبعض الأولاد دون بعض جوْر وعمل من أسوء ما يورث العقوق والقطيعة بين الأولاد. وسيأتى فى الحديث الذى يلى هذا الحديث مزيد بحث لهذه المسألة إن شاء اللَّه تعالى.
[ما يفيده الحديث]
1 -
لا يحل لواهب أن يرجع فى هبته المشروعة.
2 -
يجب على المسلم أن يتنزه عن مشابهة الكلاب.
3 -
أن الرجوع فى الهبة المشروعة يدل على خسة الراجع.
3 -
وعن ابن عمر وابن عباس رضى اللَّه عنهم عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لرجل مسلم أن يعطى العطة ثم يَرْجِعَ فيها إلا الوالد فيما يعطى وَلَدَه" رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذى وابن حبان والحاكم.
[المفردات]
لا يحل لرجل مسلم: أى لا يجوز لإنسان منقاد لأمر اللَّه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
أن يعطى العطية: أى أن يهب الهبة.
ثم يرجع فيها: أى ثم يستردها.
[البحث]
هذا الحديث رواه أصحاب السنن كلهم من طريق عمرو بن شعيب عن طاوس عن ابن عمر وابن عباس رضى اللَّه عنهم عن النبى صلى الله عليه وسلم ولفظ حديث أبى داود: "لا يحل لرجل أن يعطى عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطى ولده، ومثل الذى يعطى العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد فى قيئه. ولفظ. حديث الترمذى: لا يحل لأحد أن يعطى عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطى ولده ثم قال الترمذى: حديث حسن صحيح. ولفظ حديث النسائى: لا يحل لرجل يعطى عطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطى ولده ومثل الذى يعطى عطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب أكل حتى إذا شبع قاء ثم عاد فى قيئه. ولفظ هذا
الحديث عند ابن ماجه: لا يحل للرجل أن يعطى العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطى ولده اهـ وسند هذا الحديث حرىٌّ بالتصحيح. وينبغى أن يفسر استثناء الوالد فى الرجوع فى الهبة لولده على ما إذا كان لم يعط جميع إخوانه مثله. فيكون رجوعه فى هبته لأنه لا يحل له أن يعطى أحد الإخوة دون الباقين لما تقدم فى حديث النعمان بن بشير رضى اللَّه عنهما.
[ما يفيده الحديث]
1 -
لا يحل لواهب أن يرجع فى هبته المشروعة.
2 -
إذا أعطى الوالد بعض أولاده هبة دون بقية أولاده رجع لأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
3 -
الرجوع فى الهبة المشروعة يدل على خسة الراجع.
4 -
وعن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها" رواه البخارى.
[المفردات]
يقبل الهدية: أى يأخذ الهدية التى تُهدَى له وهى ما يُتْحَفُ به الإنسان من العطايا ويكرم به.
ويثيب عليها: أى ويُعَوِّضُ الذى أهداه بَدلها ويكافئه عنها فالمراد بالثواب المجازاة والمكافأة.
[البحث]
من صفات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التى وصف بها فى الكتب السماوية السابقة أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ولذلك أثر عن سلمان رضى اللَّه عنه أنه لما علم بهجرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ووصوله إلى قباء وأراد أن يتعرف على صفاته التى كان قد تعلمها من علماء أهل الكتاب جاء إليه بتمر وقال: يا محمد هذا تمر تصدق به علىَّ قال فأعطاه أصحابه وقال: أنا لا أكل الصدقة. قال سلمان: فقلت فى نفسى هذه واحدة قال: ثم لما تحول إلى المدينة جئته بتمر وقلت: يا محمد هذا تمر أهدى إلىَّ فأكل منه وأطعم أصحابه منه فقلت: هذه الثانية الخ وقد روى البخارى من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أُتِى بطعام سأل عنه: "أهَدِيَّةٌ أم صدقة"؟ فإن قيل: صدقة قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل وإن قيل: هدية ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم. وقد أخرج البخارى رحمه الله حديث الباب من طريق مسدد حدثنا عيسى بن يونس عن هشام عن أبيه عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها ثم قال البخارى: لم يذكر وكيع ومحاضر عن هشام عن أبيه عن عائشة قال الحافظ فى الفتح: فيه إشارة إلى أن عيسى بن يونس تفرد بوصله عن هشام وقد قال الترمذى والبزار: لا نعرفه موصولا إلا من حديث عيسى بن يونس وقال الآجرى: سألت أبا داود عنه فقال تفرد بوصله عيسى بن
يونس وهو عند الناس مرسل اهـ وقد روى البخارى من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: لو دعيت إلى ذراع أو كُرَاع لأجبت، ولو أهْدِىَ إلى ذراع أو كُرَاعٌ لقبلت، وقد أثاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ملك أيلة لما أهدى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بغلة فكتب له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ببحرهم مكافأة له فقد روى البخارى فى صحيحه فى باب خرص التمر من كتاب الزكاة بسنده عن أبى حميد الساعدى رضى اللَّه عنه قال: غزونا مع النبى صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك. الحديث: وفيه: وأهدى ملك أيلة للنبى صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء، وكساه بردا، كتب له ببحرهم" قال الحافظ فى الفتح فى قوله وكتب له ببحرهم. أى ببلدهم أو المراد بأهل بحرهم لأنهم كانوا سكانا بساحل البحر أى أنه أقره عليهم. اهـ وملك أيلة هذا هو يوحنا بن روبة وكان يقال له ابن العلماء كما جاء فى رواية سلمان عند مسلم: "وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكتاب وأهدى له بغلة بيضاء.
[ما يفيده الحديث]
1 -
استحباب قبول الهدية إذا لم تكن لغرض غير مشروع.
2 -
استحباب الإثابة على الهدية.
3 -
أنه لا حرج على من أثيب على هديته فى أن يتقبل المكافأة.
5 -
وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: وهب رجل لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ناقة فأثابه عليها. فقال: "رضيتَ؟ " قال: لا. فزاده فقال: "رضيتَ؟ " قال: لا. فزاده فقال: "رضيتَ؟ " قال: نعم. رواه أحمد وصححه ابن حبان.
[المفردات]
فأثابه عليها: أى كافأه وأعطاه فى مقابلة هبته.
فقال: رضيت: أى فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للرجل المُهْدِى بعد أن كافأه: هل ارتاحت نفسك للمكافأة.
قال: لا: أى قال الرجل: لم تطب نفسى بذلك.
فزاده: أى فأعطاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أكثر مما أعطاه أولا.
قال نعم: أى قال الرجل بعد أن زاده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرتين قد رضيت أى طابت نفسى بالمكافأة.
[البحث]
قال الحافظ فى تلخيص الحبير: حديث: أن أعرابيا وهب للنبى صلى الله عليه وسلم ناقة فأثابه عليها، وقال:"أرضيت؟ " قال: لا. فزاده وقال: "رضيت؟ " قال: نعم. قال: "لقد هممت أن لا أتهب إلا من قرشى أو أنصارى أو ثقفى" أحمد وابن حبان فى صحيحه من حديث ابن عباس، ولأبى داود والنسائى عن أبى هريرة بالمتن دون القصة، وطوله الترمذى، ورواه من وجه آخر، وبين أن الثواب كان
ست بكرات وكذا رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم اهـ وقاله فى مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح. على أن مثل هذا الأعرابى الذى يهدى وهو لا يرضى بمكافأة بمثل هديته لا تعتبر هديته هدية. واللَّه أعلم.
6 -
وعن جابر رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "العُمْرَى لمن وهبت له" متفق عليه. ولمسلم "امسكوا عليكم أموالكم ولا تُفْسِدُوها فإنه من أعمر عُمْرَى فهى للذى أُعْمِرَها حيا وميتا، ولعقبه" وفى لفظ: "إنما العمرى التى أجازها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يقول: هى لك ولعقبك، فأما إذا قال: هى لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها. ولأبى داود والنسائى "لا تُرقِبُوا، ولا تُعْمِرُوا فمن أرقب شيئا أو أُعْمِرَ شيئا فهو لورثته"
[المفردات]
لمن وهبت له: أى لمن أُعْطِيَهَا.
ولمسلم: أى من حديث جابر رضى اللَّه عنه.
أمسكوا عليكم أموالكم: أى حافظوا على أموالكم.
ولا تفسدوها: أى ولا تتصرفوا فيها تصرفا يؤدى إلى ضياعها منكم وندمكم.
من أعْمَرَ عمرى: أى من أعطى أحدًا دارا على أن تكون له عمره ومدة حياته.
فهى للذى أُعْمِرهَا: أى فهى ملك للمعطَى وتخرج من ملك المعطِى.
حيا وميتا ولعقبه: أى تكون له حال حياته وينتقل الملك إلى ورثته بعد موته فكأنها له حياته وموته.
وفى لفظ: أى وفى لفظ لمسلم من حديث جابر رضى اللَّه عنه.
التى أجازها: أى أمضاها
هى لك ما عشت: أى تنتفع بها مدة حياتك.
ولأبى داود والنسائى: أى من طريق سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن جابر رضى اللَّه عنه.
فهو لورثته: أى فالمُعْطىَ يكون لورثته.
[البحث]
العمرى والرقبى كانتا من المعاملات التى كان يتعاطاها أهل الجاهلية وكان لهم فيها صور، وقذ يستعملون العمرى والرقبى بمعنى واحد وقد يستعملون العمرى بمعنى العطية للرجل طول عمره فقط ويستردونها بعد موته وقد يعطونها للرجل ولعقبه وقد يستعملونها على الإطلاق كما أن الرقبى قد تستعمل عندهم بمعنى أن يقول كل واحد من الشخصين لصاحبه: دارى لك إن مت قبلك ودارك لى إن مت قبلى. فلما جاء الإسلام أمضى منها ما لا غرر فيه ولا ضرر فقد روى مسلم فى صحيحه من حديث جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أيُّمَا رجلٍ أعْمِرَ عُمْرَى له ولعقبه فإنها للذى أُعْطِيَهَا لا ترجع إلى الذى أعطاها لأنه أعْطَى عطاءً وقعت فيه المواريث.
وروى مسلم من حديث جابر رضى اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من أعْمَرَ رجلا عُمْرَى له ولعقبه فقد قطع قوله حقَّه فيها وهى لمن أُعْمِرَ ولعقبه. كما روى مسلم من حديث جابر بن عبد اللَّه الأنصارى رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أيُّمَا رجلٍ أعْمَرَ رجلا عُمْرَى له ولعقبه فقال: قد أعْطيْتُكَهَا وَعَقِبَكَ ما بقى منكم أحد فإنها لمن أُعْطِيَهَا وإنها لا ترجع إلى صاحبها من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث" وقوله: من أجْلِ أنه أعْطَى عطاء وقعت فيه المواريث يظهر أنه من قول أبى سلمة بن عبد الرحمن الراوى عن جابر رضى اللَّه عنه فقد جاء فى لفظ لمسلم من طريق ابن أبى ذئب عن ابن شهاب عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن جابر رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَضَى فيمن أُعْمِرَ عُمْرَى له ولعقبه فهى له بتلة لا يجوز للمُعْطِى فيها شرط ولا ثُنْيَا. قال أبو سلمة: لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث فقطعت المواريث شرطه اهـ وقد أشارت بعض روايات مسلم إلى أنه إذا لم يجعل العمرى له ولعقبه وإنها جعلها له مدة حياته فقط فإنها ترجع إلى صاحبها فقد روى مسلم من طريق معمر عن الزهرى عن أبى سلمة عن جابر قال: إنما العمرى التى أجاز رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يقول: هى لك ولعقبك فَأما إذا قال: هى لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها قال معمر: وكان الزهرى يفتى به. وقد أطلقت رواية البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن العمرى جائزة ولفظه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:
"العمرى جائزة" ولفظ حديث الباب المتفق عليه عن جابر رضى اللَّه عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: العمرى لمن وهبت له" كما أطلقها ذلك اللفظ الذى أورده المصنف عند مسلم، وحمل المطلق على المقيد ولاسيما إذا ورد التنصيص على نحو ذلك هو الأمر المأثور عن سلف هذه الأمة وخلفها وقد ورد التنصيص فى بعض روايات مسلم التى سقتها فى هذا البحث على التفريق بين من يُعْمِرُ الشخص ما عاش وبين من يعمر الشخص له ولعقبه قال الحافظ فى الفتح: فيجتمع من هذه الروايات ثلاثة أحوال: أحدها أن يقول: هى لك ولعقبك فهذا صريح فى أنها للموهوب له ولعقبه. ثانيها أن يقول: هى لك ما عشت فإذا مت رَجَعَتْ إلىَّ فهذه عارية مؤقتة وهى صحيحة فإذا مات رجعت للذى أعطى وقد بينت هذه والتى قبلها رواية الزهرى. ثم قال الحافظ: ثالثها أن يقول: أعمرتكها ويطلق ونقل خلاف السلف فيها. ويظهر من الحديث الذى رواه مسلم عن جابر رضى اللَّه عنه بلفظ "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه من أعْمَرَ عُمْرَى فهى للذى أُعْمِرَها حيتا وميتا ولعقبه" يظهر أن هذا الحديث مشعر بأن هناك عمرى مفسدة للمال قد تجلب الندم للذى أعْمَرَها، وأن عَلَى من يريد أن يُعْمِرَ غيره أن يتحرى أوضح الطرق لإعماره. واللَّه أعلم.
[ما يفيده الحديث]
1 -
أن العمرى التى أجازها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
هى أن يقول: هى لك ولعقبك.
2 -
إذا اشترط المُعْمِرُ أن تكون العمرى للمُعْمَر مدة حياته وأنها ترجع إليه بعد مماته كان له ذلك.
3 -
ينبغى لمن يريد إعمار غيره عمرى أن يوضح الوجه الذى يريد ولا يطلقها.
7 -
وعن عمر رضى اللَّه عنه قال: حَمَلْتُ على فرس فى سبيل اللَّه فأضاعه صاحبه فظنت أنه بائعه بِرُخْصٍ: فسألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "لا تَبْتَعْه وإن أعطاكه بدرهم" الحديث. متفق عليه.
[المفردات]
حملت على فرس فى سبيل اللَّه: أى تصدقت به ووهبته لمن يقاتل عليه فى سبيل اللَّه.
فأضاعه صاحبه: أى قصر الرجل الذى وهبته له فى القيام بعلفه ومؤنته لقلة ماله.
برخص: أى بثمن قليل زهيد دون قيمته.
فسألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك: أى فاستفسرت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هل يحل لى شراؤه؟ .
لا تبتعه: أى لا تشتره.
وإن أعطاكه بدرهم: أى وإن باعه عليك بشئ تافه.
الحديث: أى أكمل الحديث.
[البحث]
تمام هذا الحديث: فإن العائد فى صدقته كالكلب يعود فى قيئه" ولفظ هذا الحديث عند البخارى عن عمر رضى اللَّه عنه قال: حملت على فرس فى سبيل اللَّه فأضاعه الذى كان عنده، فأردت أن أشتريه منه، وظننت أنه بائعه بِرُخْصٍ فسألت عن ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد، فإن العائد فى صدقته كالكلب يعود فى قيئه" ولفظ مسلم من طريق عبد اللَّه بن سلمة بن قعنب عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه من حديث عمر رضى اللَّه عنه قال: حملت على فرس عتيق فى سبيل اللَّه فأضاعه صاحبه فظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:"لا تبتعه ولا تعد فى صدقتك فإن العائد فى صدقته كالكلب يعود فى قيئه قال مسلم: وحدثنيه زهير بن حرب حدثنا عبد الرحمن (يعنى ابن مهدى) عن مالك بن أنس بهذا الإِسناد وزاد: لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم، وفى لفظ لمسلم عن عمر رضى اللَّه عنه أنه حمل على فرس فى سبيل اللَّه فوجده عند صاحبه وقد أضاعه، وكان قليل المال، فأراد أن يشتريه فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: "لا تشتره وإن أُعْطِيتَه بدرهم فإنَّ مَثَل العائد فى صدقته كمثل الكلب يعود فى قيئه" وفى لفظ لمسلم من طريق سالم ابن عمر أن عمر حمل على
فرس فى سبيل اللَّه ثم رآها تُبَاعُ فأراد أن يشتريها فسأل النبى صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تعد فى صدقتك يا عمر" وهذا الحديث مشعر بأن المتصدق بصدقة لا ينبغى له شراؤها ولا سيما إذا كانت بثمن بخس لأنه يشبه العود فيها، وتعلقه بها بعد أن أخرجها للَّه عز وجل.
[ما يفيده الحديث]
1 -
لا ينبغى لمن تصدق بصدقة أن يشتريها.
2 -
أن شراء المتصدق صدقته يشبه العَود فيها.
8 -
وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال "تَهَادُوا تَحَابُّوا" رواه البخارى فى "الأدب المفرد" وأبو يعلى بإسناد حسن.
[المفردات]
تهادوا: أى تبادلوا الهدايا بينكم.
تحابوا: أى تحصل بينكم المحبة والمودة والألفة.
فى الأدب المفرد: أى فى كتاب البخارى المسمى بالأدب المفرد. وقد ألفه البخارى ولم يلتزم فيه بما التزم به فى كتابه الجامع الصحيح.
[البحث]
قال الحافظ فى تلخيص الحبير: حديث: تهادوا تحابوا" رواه البخارى فى الأدب المفرد والبيهقى وأورده ابن طاهر فى
مسند الشهاب من طريق محمد بن بكير عن ضمام بن إسماعيل عن موسى بن وردان عن أبى هريرة وإسناده حسن، وقد اختلف فيه على على ضمام فقيل عنه عن أو قبيل عن عبد اللَّه بن عمر، وأورده ابن طاهر ورواه فى مسند الشهاب من حديث عائشة بلفظ:"تهادوا تزدادوا حبا" وإسناده غريب فيه محمد بن سليمان. قال ابن طاهر: ولا أعرف، وأورده أيضا من وجه آخر عن أم حكيم بنت وداع الخزاعية، قال ابن طاهر: إسناده أيضا غريب وليس بحجة. وروى مالك فى الموطأ عن عطاء الخراسانى رفعه: تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابُّوا وتذهب الشحناء وهاجروا تورثوا أولادكم مجدا وأقيلوا الكرام عثراتهم" وفى إسناده نظر اهـ وكون الهدايا تذهب وغر الصدر وتبعث الألفة فى القلوب هو من الأمور المجرية. فالتهادى يورث التحابب. والقلوب بيد اللَّه.
9 -
وعن أنس رضى اللَّه عنه قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تهادوا فإن الهَدِيَّة تَسُلُّ السَّخِيمَةَ" رواه البزار بإسناد ضعيف.
[المفردات]
تَسُلُّ: أى تقلع وتنزع وتُخْرِج وتُذْهِبُ فى رفق.
السَّخِيمَةُ: أى الحقد فى النفس.
[البحث]
قال البزار: باب حث أهل الإِسلام على الهدية. حدثنا محمد بن معمر ثنا حميد بن حماد بن أبى الخوار ثنا عائذ بن شريح قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار تهادوا، فإن الهدية تَسُلُّ السخيمة، لو أهدى إلىَّ كُرَاعٌ لقبلت، ولو دعيت إلى ذراع لأجبت" اهـ وعائذ بن شريح ضعيف. وقال الحافظ فى تلخيص الحبير: حديث عائشة: تهادوا فإن الهدية تذهب الضغائن" هو من أحاديث الشهاب ومداره على محمد بن عبد النور عن أبى يوسف الأعشى عن هشام عن أبيه عنها والراوى له عن محمد: هو أحمد بن الحسن المقرى دبيس قال الدارقطنى: ليس بثقة. وقال ابن طاهر: لا أصل له عن هشام. ورواه ابن حبان فى الضعفاء من طريق بكر بن بكار عن عائذ بن شريح عن أنس بلفظ: تهادوا فإن الهدية قلت أو كثرت تذهب السخيمة، وضعفه بعائذ. قال ابن طاهر: تفرد به عائذ وقد رواه عنه جماعة، قال: ورواه كوثر بن حكيم عن مكحول عن النبى صلى الله عليه وسلم مرسلا وكوثر متروك وروى الترمذى من حديث أبى هريرة بلفظ: تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر" وفى إسناده أبو معشر المدنى وتفرد به وهو ضعيف اهـ وقد قال الترمذى بعد إخراجه لهذا الحديث: غريب وأبو معشر يضعف فى الحديث.
10 -
وعن أبى هريرة ضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا نساء المسلمات لا تَحْقِرَن جارةٌ لجارتها ولو فِرْسِنَ شاةٍ" متفق عليه.
[المفردات]
يا نساء المسلمات: يعنى يا نساء الأنفس المسلمات أو يا نساء الطوائف المسلمات. قال الحافظ فى الفتح: وقيل: تقديره: يا فاضلات المسلمات كما يقال: هؤلاء رجال القوم أى أفاضلهم اهـ.
لا تحقرن جارةٌ لجارتها: أى لا تَسْتَقْلِلْ جارةْ هديةً مُهْدَاةً لجارتها والجارة يقصد به المجاورة للمنزل كما يقصد بها الضرة.
ولو فرسن شاة: الفرسن بكسر الفاء وسكون الراء كسر السين بعدها نون هو عُظَيْمٌ قليل اللحم وهو للبعير موضع الحافر للفرس ويتوسع فيه فيطلق على ظلف الشاة أيضا وليس المراد حقيقة الفرسن فإنه لم تجر العادة بإهدائه ولكن المراد من ذلك المبالغة فى إهداء الشئ اليسير وقبوله أى لا تمتنع جارة من الهدية لجارتها بسبب قلة ما تهديه ولا تمتنع الجارة من قبول هدية جارتها مهما كان المُهْدَى حقيرا تافها.
[البحث]
قد تقدم فى بحث الحديث الرابع ما رواه البخارى من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: لو دُعِيتُ إلى ذراع أو كراع لأجبت ولو أُهدِىَ إلىَّ ذراع أو كراع لقبلت" وعنون له البخارى: باب القليل من الهبة. والكراع من الحيوان ما دون الكعب. والمقصود أن المسلم ينبغى له أن لا يحتقر هدية أهديت إليه مهما صغرت وأنه لا ينبغى له أن يمتنع عن الإِهداء بسبب صِغَر ما يمكن أن يُهْديه. وفيه تربية للمسلم على التواضع وترك دواعى الكبر. واللَّه أعلم.
[ما يفيده الحديث]
1 -
لا ينبغى للمسلم أن يمتنع عن الإهداء بسبب استصغار ما فى يده.
2 -
لا ينبغى للمسلم أن يمتنع عن قبول الهدية مهما صغرت.
3 -
ينبغى للمسلمين أن يتهادوا.
11 -
وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من وَهَبَ هبة فهو أحق بها ما لم يُثَبْ عليها" رواه الحاكم وصححه، والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر قَوْلُه.
[المفردات]
فهو أحق بها: أى فهو أولى بها.
ما لم يُثَبْ عليها: أى ما لم يُعَوَّضْ عنها.
قَوْلُه: أى والمحفوظ من رواية ابن عمر أنه من كلام عمر رضى اللَّه عنه وليس من كلام النبى صلى الله عليه وسلم.
[البحث]
حديث ابن عمر المرفوع الذى صححه الحاكم قد حكم عليه الذهبى بأنه موضوع وقد أشار المصنف هنا إلى أن المحفوظ هو رواية ابن عمر عن عمر من كلامه وقال فى التلخيص: والمحفوظ عن عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه عن عمر قال البخارى: هذا أصح اهـ وأثر عمر رضى اللَّه عنه قد أخرجه مالك فى الموطأ قال: عن داود بن الحصين عن أبى غطفان بن ظريف المُرِّى أن عمر بن الخطاب قال: من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها ومن وهب هبة يرى أنه أراد بها الثواب فهو على هبته إذا لم يرض منها اهـ.