الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب المساقاة والإجارة
1 -
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشَطْر ما يخرج منها من ثَمَرٍ أو زرع" متفق عليه. وفى رواية لهما: فسألوه أن يُقِرَّهُم بِها على أن يَكْفُوا عَمَلَها، ولهم نصف الثمر، فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "نقِرُّكم بها على ذلك ما شئنا" فقرُّوا بها حتى أجلاهم عمرُ، ولمسلم: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يَعْتَمِلُوها من أموالهم، ولهم شطرُ ثمرها".
[المفردات]
المساقاة: هى دفع الأرض المغروسة لمن يقوم بسقيها وخدمتها وما يحتاجه شجرها من عمل فى نظير جزء معلوم من ثمرتها وهى شبيهة بالمضاربة غير أن رأس المال فى المساقاة هو الأرض.
والإِجارة: قال فى الفتح: والإجارة بكسر أوله على المشهور وحكى ضمها وهى لغة: الإثابة. يقال: آجرته بالمد وغير المد إذا أثبته. واصطلاحا: تمليك منفعة رقبة بعوض اهـ.
عامل أهل خيبر: أى أعطى يهود خيبر أرض خيبر بعد فتحها ليعملوا فيها ويكونوا عُمَّالها لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمين
وعامَل تُستَعْملُ بمعنى ساقى وزارع وخابر. وخيبر بوزن جعفر هى مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع وهى على 173 (كيلو متر) من المدينة إلى جهة الشام وتقع على طريق تبوك المزفت.
بشطر ما يخرج منها: أى بنصف غلتها.
من ثمر: أى ثمر أشجارها.
أو زرع: أى ما يستنبتون فيها من زروع.
ونمط رواية لهما: أى وفى رواية للبخارى ومسلم من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما.
فسألوه: أى فسأل اليهود رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
أن يقرهم بها: أى أن يبقيهم بأرض خيبر.
على أن يكفوا عملها: أى على أن يتولوا جميع ما يحتاجه الشجر أو الأرض من سقى وحرث وخدمة وغيرها دون أن يرجعوا بشئ من ذلك على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
ولهم نصف الثمر: أى ولليهود فى نظير قيامهم بجميع ما تحتاجه أرض خيبر نصف ثمرة النخل.
نقركم بها على ذلك: أى نوافق على بقائكم فى خدمة الأرض على الوجه المذكور.
ما شئنا: أى مدة موافقتنا على بقائكم فإن كرهنا بقاءكم وأجليناكم فلنا ذلك.
فقروا بها: أى فأقاموا بها يخدمونها ويقومون بجميع ما تحتاجه
الأرض والشجر.
حتى أجلاهم عمر: أى حتى أبعدهم عمر رضى اللَّه عنه وأخرجهم من خيبر مدة خلافته رضى اللَّه عنه.
ولمسلم: أى من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما.
دفع إلى يهود خيبر: أى سلم يهود خيبر.
وأرضها: أى أرض خيبر.
على أن يعتملوها من أموالهم: على أن يقوموا بالعمل فى خدمتها وتكون جميع نفقتها عليهم يبذلونها من أموالهم.
ولهم شطر ثمرها: أى ولليهود نصف ما يخرج منها من ثمر.
[البحث]
أخرج البخارى فى صحيحه فى كتاب المزارعة فى باب المزارعة بالشطر ونحوه من طريق نافع أن عبد اللَّه بن عمر أخبره عن النبى صلى الله عليه وسلم: عامل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. فكان يعطى أزواجه مائة وسق: ثمانون وسق تمر وعشرون وسق شعير، فقسم عمر خيبر فخير أزواج النبى صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن من الماء والأرض أو يمضى لهن، فمنهن من اختار الأرض ومنهن من اختار الوسق، وكانت عائشة اختارت الأرض" ثم أخرج فى باب إذا لم يشترط السنين فى المزارعة من طريق نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: عامل النبى صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع ثم أخرج فى باب المزارعة مع اليهود من طريق نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر اليهود على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما خرج منها وأخرج
البخارى مسلم واللفظ للبخارى من طريق ابن جريج قال: حدثنى موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنهما أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها، وكانت الأرض حين ظهر عليها، للَّه ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين وأراد إخراج اليهود منها فسألت اليهود رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليقرهم بها أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"نقركم بها على ذلك ما شئنا" فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء. وساق مسلم رحمه الله حديث ابن عمر من طريق نافع بلفظ: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع. ثم ساق من طريق نافع عن ابن عمر قال: أعطى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع فكان يعطى أزواجه كل سنة مائة وسق: ثمانين وسقا من تمر وعشرين وسقا من شعير. فلما ولى عمر قسم خيبر خير أزواج النبى صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن الأرض والماء أو يضمن لهن الأوساق كل عام فاختلفن فمنهن من اختار الأرض والماء ومنهن من اختار الأوساق كل عام فكانت عائشة وحفصة ممن اختارتا الأرض والماء. ثم ساق مسلم من طريق أسامة بن زيد الليثى عن نافع عن عبد اللَّه بن عمر قال: لما افتتحت خيبر سألت يهود رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يقرهم فيها على أن يعملوا على نصف ما خرج منها من الثمر والزرع فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أقركم فيها على
ذلك ما شئنا. الحديث. وفيه: وكان الثّمر يُقْسَمُ على السُّهْمَان من نصف خيبر فيأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخُمْسَ" ثم أورد مسلم من طريق محمد بن عبد الرحمن عن نافع عن عبد اللَّه بن عمر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى يهود خيبرَ نَخْلَ خيبر وأرضها على أن يَعْتَمِلُوها من أموالهم ولرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شَطْر ثَمَرِها. هذا وليس فى قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: نقركم بها على ذلك ما شئنا" دليل على أن هذه المعاملة كانت خالية من إثبات حق اليهود فى النصف المستحق لهم من الثمرة إذا أخرجهم إذ أن هذا مسكوت عنه ولكنه معلوم من قوله "ولهم نصف الثمرة" ولذلك لما أجلاهم عمر رضى اللَّه عنه أعطاهم فيه ما كان لهم من الثمر مَالًا وإبلا وعُرُوضا من أقتاب وحبال وغير ذلك فقد روى البخارى فى صحيحه فى كتاب الشروط فى باب إذا اشترط فى المزارعة إذا شئتُ أخرجتك قال: حدثنا أبو أحمد حدثنا محمد بن يحيى أبو غَسَّان الكِنَانيُّ أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: لما فَدَعَ أهلُ خيبرَ عبد اللَّه بن عمر قام عمر خطيبا فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان عَامَلَ يهودَ خيبر على أموالهم، وقال:"نقركم ما أقركم اللَّه" وإن عبد اللَّه بن عمر خرج إلى ماله هناك فَعُدِى عليه من الليل فَفُدِعتْ يداه ورجلاه، وليس لنا هناك عَدُوٌّ غيرهم، هُم عَدُوُّنَا وتُهْمَتُنَا، وقد رأيت إجلاءهم، فلما أجمع عمرُ على ذلك أتاه أحد بنى أبى الحُقَيق فقال: يا أمير المؤمنين: أتخرجنا وقد أقرنَّا محمد صلى الله عليه وسلم وعامَلَنَا على
الأموال وشَرَطَ ذلك لنا؟ فقال عمر: أَظَنَنْتَ أنى نسيت قولَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كيف بك إذا أُخْرِجتَ من خَيْبَرَ تَعْدُو بك قَلُوصُكَ ليلة بعد ليلة" فقال: كانت هذه هُزَيْلَةً من أبى القاسم، قال: كَذَبْتَ يا عدو اللَّه، فأجلاهم عمر، وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مَالًا وإبلًا وعروضًا من أقتَاب وحِبَالٍ وغير ذلك" وقوله فى الحديث: فدع أهل خيبر عبد اللَّه بن عمر: الفدع بفتح الفاء والدال هو زوال المفصل قال الحافظ فى الفتح: وقال الأصمعى: هو زيغ فى الكف بينها وبين الساعد وفى الرجل: بينها وبين الساق اهـ يعنى أصاب اليهود عبد اللَّه بن عمر فالتوت يداه ورجلاه وحديث عمر يوضح أنه لو اشترط مالك الأرض على العامل فى المساقاة أو المزارعة عدم تحديد مدة العقد بسنين معلومة جاز ذلك على أنه إذا أخرجه قبل جَنْى الثمار أعطاه قيمتها. واللَّه أعلم.
[ما يفيده الحديث]
1 -
جواز المساقاة.
2 -
جواز الجمع بين المساقاة والمزارعة فى عقد واحد لتكون المساقاة على الشجر والمزارعة على الأرض.
3 -
أن المساقاة ليست من باب الإجارة.
4 -
أنه إذا قال رب الأرض للعامل عند العقد: أقرك ما أقرك اللَّه ولم يذكر أجلا معلوما فهما على تراضيهما وللمالك أن يخرج العامل متى شاء.
5 -
جواز عدم تحديد مدة العقد فى المساقاة مع المحافظة على حق العامل.
6 -
جواز المعاملة مع أهل الذمة.
7 -
جواز المساقاة والمزارعة بجزء من الغلة من ثمر أو زرع.
8 -
أن المساقاة أشبه بالمضاربة.
9 -
أن الأرض فى المساقاة والمزارعة تشبه رَأْسَ المال فى المضاربة.
10 -
تيسير الشريعة أسباب تنمية الأموال والاستفادة منها دون حاجة إلى الوقوع فى الربا.
11 -
أن تسمية نصيب العامل فى المساقاة أو المزارعة تغنى عن تسمية نصيب المالك فالباقى من الثمرة له بعد نصيب العامل.
2 -
وعن حنظلة بن قيس رضى اللَّه عنه قال: سألت رافع بن خَدِيج عن كراء الأرض بالذهب والفضة؟ فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الْمَاذِيَانَاتِ وأَقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فَيَهْلِكُ هذا ويَسْلَمُ هذا، ويَسْلَمُ هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كِرَاءٌ إلا هذا فلذلك زَجَرَ عنه، فأما شئ معلوم مضمون فلا بأس به" رواه مسلم، وفيه بيان لِما أُجْمِلَ فى المتفق عليه من إطلاق النَّهْى عن كراء الأرض.
[المفردات]
حنظلة بن قيس: هو حنظلة بن قيس بن عمرو بن حصن بن خلدة الزرقى الأنصارى المدنى روى عن عمر وعثمان وأبى اليسر ورافع بن خديج وابن الزبير وعبد اللَّه بن عامر بن كريز رضى اللَّه عنهم وروى عنه ربيعة ويحيى بن سعيد الأنصارى والزهرى وأبو الحويرث الزرقى وغيرهم حكى عن الزهرى قال: ما رأيت من الأنصار أحزم ولا أجود رأيا من حنظلة بن قيس قال الحافظ ابن حجر فى تهذيب التهذيب: وذكره ابن حبان فى الثقات وقال: رأى عمر وعثمان. قلت: وذكره ابن عبد البر فى الصحابة جانحا لقول الواقدى: إنه ولد على عهد النبى صلى الله عليه وسلم اهـ.
كراء الأرض: أى تأجير الأرض، فالكراء الأجرة. وتقول: أكريته الدار فاكتراها أبى أجرته الدار فاستأجرها.
لا بأس به: أى لا حرج فى كراء الأرض ولا إثم.
الماذيانات: قال النووى: هى مسايل الماء وقيل: ما ينبت حول السواقى وهى لفظة معربة ليست بعربية اهـ وقال ابن الأثير: هى جمع ماذيان وهو النهر الكبير وقد تكرر فى الحديث مفردا وجمعا اهـ.
وأقبال الجداول: أقبال بفتح الهمزة أى رءوس الجداول.
والجداول جمع جدول وهو النهر الصغر ويطلق عليها السواقى.
وأشياء من الزرع: أى وقطعة من الزرع تكون مختارة طيبة.
فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا: أى فقد يهلك نصيب العامل ويسلم نصيب المالك أو يسلم نصيب العامل ويهلك نصيب المالك بسبب ما قد يعتريه من آفات وغيرها بأن تخرج هذه ولم تخرج هذه.
ولم يكن للناس كراء إلا هذا: أى ولم يكن لأهل المدينة طريقة لتأجير الأراضى إلا هذه الطريقة المشتملة على الغرر والجهالة والضرر. فلم يكونوا يؤاجرون بالذهب أو الفضة أو يزارعون على شطر ما يخرج من الأرض ونحو ذلك مما لا غرر فيه ولا ضرر.
فلذلك زجر عنه: فبسبب هذه الطريقة الفريدة عندهم المشتملة على الغرر والجهالة نهى عنه أى عن التأجير بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع.
فَأمَّا شئ معلوم مضمون: أى فأما كراء الأرض بقدر معلوم مضمون من الذهب أو الفضة.
فلا بأس به: أى فليس بحرام.
وفيه بيان لما أجمل فى المتفق عليه: أى وفى الحديث بيان وتفصيل لما ورد عند البخارى ومسلم مجملا من حديث رافع
ابن خديج رضى اللَّه عنه.
من إطلاق النهى عن كراء الأرض: أى حيث قال: نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع.
[البحث]
روى البخارى من طريق حنظلة الزرقى عن رافع رضى اللَّه عنه قال: كنا أكثر أهل المدينة حقلا، وكان أحدنا يُكْرِى أرضه فيقول: هذه القطعة لى. وهذه لك، فربما أخرجت ذه ولم تخرج ذه، فنهاهم النبى صلى الله عليه وسلم. كما قال البخارى فى صحيحه: باب كراء الأرض بالذهب والفضة. وقال ابن عباس: إن أمثل ما أنتم صانعون، أن تستأجروا الأرض البيضاء من السنة إلى السنة. حدثنا عمرو بن خالد حدثنا الليث عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس عن رافع بن خديج قال: حدثنى عَمَّايَ: أنهم كانوا يُكْرُون الأرض على عهد النبى صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء، أو شئ يستثنيه صاحب الأرض، فنهى النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقلت لرافع: فكيف هى بالدينار والدرهم؟ فقال رافع: ليس بها بأس بالدينار والدرهم. وقال الليث: وكان الذى نُهِيَ عن ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفَهْم بالحلال والحرام لم يجيزوه لما فيه من المخاطرة أهـ والمراد بالأربعاء فى قوله فى هذا الحديث: بما ينبت على الأربعاء هو جمع ربيع كنصيب وأنصباء وهو الساقية والنهر الصغير والجدول. كما روى مسلم من طريق حنظلة الزُّرقى أنه سمع رافع بن خديج يقول: كنا أكثر الأنصار
حقلا قال: كنا نكرى الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك، وأما الورق فلم ينهنا" كما روى البخارى مسلم واللفظ للبخارى من طريق أبى النجاشى مولى رافع بن خديج. سمعت رافع بن خديج بن رافع عن عمه ظُهَير بن رافع قال ظُهَير: لقد نهانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رَافقا. قلت: ما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فهو حق قال دعانى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلت: نؤاجرها على الرُّبُع على الأوسق من التَّمر والشعير، قال: لا تفعلوا، ازرَعوها، أو أزرِعوها، أو أمسكوها، قال رافع: قلت سمعا وطاعة. اهـ وقوله فى هذا الحديث: نؤاجرها على الرُّبع" يحتمل ان يكون المراد بالربع الجزء من الأربعة ويحتمل أن يكون جمعا للربيع وهو الجدول الصغير كالأربعاء فى الحديث السابق وهذه الألفاظ تبين أن تأجير الأرض أو مزارعتها إذا اشتمل عقد التأجير أو المزارعة على تخصيص أحد المتعاقدين بشئ فيه مخاطرة وغرر كان العقد فاسدا أما إذا كان التأجير بذهب أو فضة أو شئ آخر معلوم مضمون لا مخاطرة فيه ولا غرر فإنه لا بأس بذلك وكذلك مزارعة الأرض إذا اشتملت على شئ فيه مخاطرة وغرر كأن يزارع بالثلث أو الربع أو النصف مع شئ مما على الماذيانات وأقبال الجداول أو قطعة معينة لأحدهما فإن العقد يكون فاسدا، أما إذا زارع على الربع أو الثلث أو النصف دون شئ فيه مخاطرة وغرر فإنه لا بأس بذلك، ولذلك قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق حديث الباب فيه بيان لما أجمل فى المتفق عليه من إطلاق النهى عن كراء الأرض. وهو يشير رحمه الله إلى ما أخرجه البخارى ومسلم من حديث رافع بن خديج
رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع. هذا وقد قال البخارى فى صحيحه: باب المزارعة بالشطر ونحوه. وقال قيس بن مسلم عن أبى جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة الا يزرعون على الثُّلُث والرُّبُع، وزارع علىٌّ وسعد بن مالك وعبد اللَّه بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبى بكر وآل عمر وآل على وابن سيرين، وقال عبد الرحمن بن الأسود: كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد فى الزرع، وعامل عمر الناس على: إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاؤا بالبذر فلهم كذا اهـ. وسيأتى مزيد بحث لموضوع النهى عن المزارعة فى الحديث الذى يلى هذا الحديث إن شاء اللَّه تعالى.
[ما يفيده الحديث]
1 -
جواز كراء الأرض بشئ معلوم من الذهب أو الفضة.
2 -
تحريم كراء الأرض بشئ فيه مخاطرة وغرر.
3 -
جواز مزارعة الأرض بربع أو ثلث أو نصف ما يخرج منها.
3 -
وعن ثابت بن الضحاك رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة، رواه مسلم أيضا.
[المفردات]
ثابت بن الضحاك: "هو ثابت بن الضحاك بن خليفة الأشهلى الأوسى أبو زيد المدنى رضى اللَّه عنه كان ممن بايع تحت الشجرة وكان رديف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم-
يوم الخندق ودليله إلى حمراء الأسد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم وروى عنه عبد اللَّه بن معقل بن مقرن المزنى وأبو قلابة عبد اللَّه بن زيد الجرمى. قال البخارى والترمذى: شهد بدرا. قيل توفى سنة 45 هـ رضى اللَّه عنه.
نهى عن المزارعة: أى حذر من إعطاء الأرض بجزء من الخارج منها، يعنى على الطريقة التى كانت مستعملة لديهم من أخذ شئ آخر يجعل العقد مشتملا على الغرر.
وأمر بالمؤاجرة: أى وحض على كراء الأرض بشئ معلوم من الذهب أو الفضة.
[البحث]
تقدم فى الحديث الأول من أحاديث هذا الباب أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. وجاءت الإشارة فى الحديث الثانى من أحاديث هذا الباب ما يبين أن المزارعة التى نهى عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هى ما كان يتعامل به أهل المدينة من اشتراط أن يكون لصاحب الأرض ما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع. وبينا أن هذا التفصيل الذى ورد فى الحديث يوضح أن المزارعة المنهى عنها هى ما اشتملت على المخاطرة والغرر. وعلى هذا يحمل حديث النهى عن المزارعة الذى رواه ثابت بن الضحاك رضى اللَّه عنه وكذلك ما رواه مسلم فى صحيحه من حديث جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض وفى لفظ لمسلم
من حديث جابر رضى اللَّه عنه قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ. وفى لفظ لمسلم عن جابر رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة. وقد جاء فى بعض ألفاظ حديث جابر عند مسلم ما يؤكد أن المنهى عنه من كراء الأرض هو ما اشتمل العقد فيه على المخاطرة والغرر وما فيه مفسدة فقد أخرج مسلم من حديث جابر رضى اللَّه عنه قال: كنا نخابر على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَنصِيبُ من القِصرىِّ ومن كذا فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فَليَزْرعْهَا أو فَليُحرثِها أخاه والا فليدعها اهـ والمراد بالقصرى فى الحديث: هو ما بقى من الحب فى السنبل بعد الدياس، وقد روى البخارى مسلم كذلك من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "من كانت له أرض فَليَزرَعها أو ليُحرِثْها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه" قال المجد ابن تيمية رحمه الله بعد أن أخرج هذا الحديث فى المنتقى: وبالإجماع تجوز الإجارة ولا تجب الإعارة فَعُلِم أنه أراد الندب اهـ قال الشوكانى رحمه الله فى نيل الأوطار: استدل المصنف رحمه الله بهذا على ما ذكره من الندب لأن العارية إذا لم تكن واجبة بالإجماع من غير فرق بين المزارعة وغيرها لم يجب على الإنسان أن يزرع أرضه بنفسه أو يعيرها أو يعطلها بل يجوز له أمر رابع وهو الإجارة لأنها جائزة بالإجماع والعارية لا تجب بالإجماع فلا تجب عليه وإذا انتفى الوجوب بقى الندب اهـ واللَّه أعلم.
[ما يفيده الحديث]
1 -
جواز كراء الأرض بأجر معلوم.
2 -
أن المزارعة المنهى عنها هى ما اشتمل عقدها على المخاطرة والغرر.
3 -
أنه ينبغى حمل المجمل على المبين والمطلق على المقيد.
4 -
وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: احتجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأعطى الذى حجمه أجره، ولو كان حرام لم يعطه" رواه البخارى.
[المفردات]
احتجم: تقدم تعريف الاحتجام فى ص 207 و 208 من الجزء الثالث.
الذى حجمه: جاء فى لفظ مسلم من حديث ابن عباس: حجم النبى صلى الله عليه وسلم عبدٌ لبنى بياضة وجاء فى حديث البخارى مسلم عن أنس: حجم أبو طيبة الخ. وأبو طيبة كان مولى لمحيصة بن مسعود من بنى حارثة وعبد بنى بياضة كان يقال له: أبو هند. وفى لفظ لمسلم: دعا النبى صلى الله عليه وسلم غلاما لنا الخ.
أجره: أى قيمة عمله ولا معارضة فإن قول أنس: غلاما لنا يعنى الأنصار وكونه من بنى بياضة أو بنى حارثة
يدل على تكرر الاحتجام إذ أن بنى بياضة غير بنى حارثة.
ولو كان حراما لم يعطه: أى ولو كان أجر الحجام محرما لم يعطه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجرة على عمله هذا لأنه صلى الله عليه وسلم لا يعطى شيئا محرما صلوات اللَّه وسلامه عليه.
[البحث]
أورد البخارى رحمه الله فى باب ذكر الحجام من كتاب البيوع هذا الحديث عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما بلفظ قال: احتجم النبى صلى الله عليه وسلم وأعطى الذى حجمه، ولو كان حراما لم يعطه. وأورده فى باب خراج الحجام من كتاب الإجارة عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما بلفظ قال: احتجم النبى صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ولو علم كَرَاهِيَةً لم يُعْطِهِ. وأورد البخارى كذلك فى باب ضريبة العبد وتعاهد ضرائب الإماء من كتاب الإجارة عن أنس بن مالك رضى اللَّه عنه قال: حجم أبو طيبة النبى صلى الله عليه وسلم فأمر له بصاع أو صاعين من طعام، وكَلَّم مَوَاليَهُ فخفف عن غَلَّتِهِ أو ضريبته. وأورده فى باب الحجامة من الداء فى كتاب الطب مسلم واللفظ للبخارى عن أنس رضى اللَّه عنه أنه سُئلَ عن أجر الحجام فقال: احتجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة وأعطاه صاعين من طعام، وكلم مواليه فَخَفَّفُوا عنه، وقال: إن أَمْثَلَ ما تداويتم به الحجامة والقُسْطُ البحرى وقال: لا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العُذْرَةِ، وعليكم بالقُسْطِ.
وأورد حديث أنس رضى اللَّه عنه كذلك فى باب خراج الحجام بلفظ: كان النبى صلى الله عليه وسلم يحتجم، ولم يكن يظلم أحدا أجره. وقد أورد مسلم حديث ابن عباس بلفظ: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أجره. وبلفظ قال: حجم النبى صلى الله عليه وسلم عبدٌ لبنى بياضة فأعطاه النبى صلى الله عليه وسلم أجره كلَّم سيده فخفف عنه من ضريبته. ولو كان سحتا لم يعطه النبى صلى الله عليه وسلم. وقوله فى بعض ألفاظ حديث ابن عباس: ولو كان حراما لم يعطه. وفى بعضها: ولو علم كراهية لم يعطه. لا تعارض فيه إذ قد تحمل الكراهة على كراهة التحريم أو على أن نفى التحريم فى بعض الألفاظ لا ينفى الكراهية فعبر عنها مرة أخرى بالكراهية ليدل على أنه لا تحريم فية ولا كراهية. وسيأتى مزيد بحث لهذا فى الحديث الذى يليه إن شاء اللَّه تعالى.
[ما يفيده الحديث]
1 -
جواز أخذ الأجرة على الحجامة.
2 -
جواز التداوى بالاحتجام.
5 -
وعن رافع بن خديج رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كسب الحجام خبيث" رواه مسلم.
[المفردات]
كسب الحجام: أى ما يأخذه أجرا على الحجامة.
خبيث: أى ردئ.
[البحث]
يطلق الخبيث على الحرام وهو غير مراد هنا ويطلق على الردئ وإن كان حلالا كقوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فقد صحيح ابن كثير رحمه الله القول بأن المراد بالخبيث فى هذه الآية هو الردئ كالحشف والشيص من التمر دون إنفاق الجيد منه. ولفظ حديث رافع بن خديج عند مسلم من طريق إبراهيم بن قارظ عن السائب بن يزيد حدثنى رافع بن خديج عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ثمن الكلب خبيث ومهر البغى خبيث كسب الحجام خبيث" كما أخرج مسلم من طريق محمد بن يوسف قال سمعت السائب بن يزيد يحدث عن رافع بن خديج قال سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: "شر الكسب مَهْرُ البَغِىِّ وثمن الكلب كسب الحجام" وإذا كان مهر البغى حراما بلا نزاع فإن عطف كسب الحجام عليه أو إشراكه معه فى اللفظ لا يدل على أنه حرام إذ قد يعطف ما ليس بِمُحَرَّمٍ على ما هو محرم كما يعطف ما ليس بواجب على ما هو واجب وقد يشتركان فى اللفظ كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} ولا شك أن بعض الإحسان واجب وبعضه ليس بواجب بل مستحب. واللَّه أعلم.
[ما يفيده الحديث]
1 -
أن كسب الحجام ليس من أجود المكاسب.
2 -
وأنه ينبغى للحجام أن لا يحرص على الاكتساب من عمل الحجامة.
3 -
ينبغى إعطاء العامل أجرته على عمله -مهما كان- ما دام ليس بمحرم.
4 -
جواز أخذ الأجرة على المعالجة بالطب.
6 -
وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: قال اللَّه عز وجل: ثلاثة أنا خَصْمُهُم يوم القيامة، رجل أعطى بى ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره" رواه مسلم.
[المفردات]
قال اللَّه عز وجل: يعنى فى الحديث القدسى.
ثلاثة أنا خصمهم: أى ثلاثة أنواع من الناس يناقشهم اللَّه يوم القيامة عن جريمتهم ويشدد عليهم. وهو سبحانه -خصم لكل ظالم يوم القيامة قال الحافظ فى الفتح: قال ابن التين: هو سبحانه وتعالى خصم لجميع الظالمين إلا أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح اهـ.
أعطى بى: أى حلف باسمى وعاهد أو أعطى الأمان باسمى قال الحافظ فى الفتح: كذا للجميع على حذف المفعول والتقدير: أعطى يمينه قوله أى عاهد عهدا وحلف عليه باللَّه ثم نقضه اهـ.
ثم غدر: أى ثم نقض ونكث.
باع حرا فأكل ثمنه: أى باع إنسانا على أنه عبد مع أنه فى الواقع ليس رقيقا ولكنه استرقه ظلمًا وحصل على ثمنه، وليس المراد خصوص أكل الثمن بل المراد الحصول عليه سواء اشترى به طعاما أو لباسا أو منزلا أو غير ذلك وإنما خص الأكل بالذكر لأنه المقصود الأغلب من الحصول على المال.
فاستوفى منه: أى فحصل من الأجير على العمل الذى استأجره من أجله واستخدمه.
ولم يعطه أجره: أى ولم يوفه ما يستحق على عمله من الأجرة.
[البحث]
قول المصنف رحمه الله: "رواه مسلم" وهم لأن هذا الحديث من رواية البخارى وليس من رواية مسلم فقد رواه البخارى فى باب إثم من باع حرا من كتاب البيوع من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه بلفظ: عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: قال اللَّه: ثلاثة أنا خَصْمهم يوم القيامة: رَجُلٌ أعْطَى بِى ثُمَّ غَدَرَ ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره" وكذلك أخرجه البخارى فى كتاب الإجارة فى باب إثم من منع أجر الأجير عن أو هريرة رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: قال اللَّه تعالى وساق الحديث بنفس اللفظ الأول. وقد بحثت عن هذا الحديث فى مسلم فلم أعثر عليه. وقد أورد المجد ابن تيمية رحمه الله فى المنتقى هذا
الحديث بزيادة: "ومن كنت خصمه خصمته" ثم قال: رواه أحمد والبخارى. ولا شك أن هذه الزيادة ليست فى البخارى قال الحافظ فى الفتح: زاد ابن خزيمة وابن حبان والإسماعيلى فى هذا الحديث: "ومن كنت خصمه خصمته" والحديث ظاهر الدلالة على شدة حرص الإسلام على الوفاء بعهد اللَّه وعلى المحافظة على حرية الناس وعلى المحافظة على حقوق العمال بما لم يخطر على بال "الشيوعيين" الذين يسلبون العمال حريتهم وحقوقهم ويجعلونهم كالآلة الصماء بعد أن يستخدموهم فى أثارة القلاقل والفتن والاضطرابات بين الشعوب.
[ما يفيده الحديث]
1 -
أن الغدر بعهد اللَّه من أكبر الكبائر.
2 -
وأن استرقاق الأحرار من أكبر الكبائر كذلك.
3 -
وأن من أكبر الكبائر عدم إعطاء العامل أجرته ولاسيما بعد استخدامه.
4 -
حرص الإسلام على حقوق العمال.
7 -
وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحَقَّ ما أخذتم: عليه أجرا كتاب اللَّه" أخرجه البخارى.
[المفردات]
أحق: أى أولى وأفضل.
أجرا: أى أجرة يعنى على الرقية به أو تعليمه.
كتاب اللَّه: يعنى القرآن العظيم.
[البحث]
هذا الحديث أورده البخارى فى كتاب الطب من صحيحه فى باب الشرط فى الرُّقْيَةِ بقطع من الغنم" من طريق ابن أبى مُلَيْكَةَ عن ابن عباس أن نفرا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم مَرُّوا بماء فيهم لَدِيغٌ أو سَلِيمٌ، فَعَرَضَ لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من رَاق؟ إن فى الماء رجلا لَدِيغًا أو سَلِيمًا، فانطلق رجل منهم، فقرأ بفاتحة الكتاب -على شاءٍ- فَبَرَأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذتَ على كتاب اللَّه أجرا؟ حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخذ على كتاب اللَّه أجرا: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب اللَّه" وقد قال البخارى فى باب ما يعطى فى الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب: وقال ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم: أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب اللَّه، وقال الشعبى: لا يَشْتَرِطُ المعلِّمُ إلا أن يُعطَى شيئا فَلْيَقْبَلْهُ، وقال الحكم: لم أسمع أحدا كَرِهَ أجر المعلم، وأعْطَى الحسن دراهم عشرة اهـ وقد أورد البخارى فى هذا الباب ومسلم من طريق أبى المتوكل عن أبى سعيد رضى اللَّه عنه قال: انطلق نفر من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فى سَفْرَة سافروها حتى نزلوا على حى من أحياء العرب، فاستضافوهم فَأبَوْا أن يضَيِّفُوهم، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذلك الْحَىِّ، فَسَعَوْا لَه بكل شئ،
فقال بعضهم: لا ينفعه شئ، لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شئ، فَأتَوْهُمْ، فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لُدِغَ، وسعينا له بكل شئ لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شئ؟ فقال بعضهم: نعم واللَّه إنى لأرقِى، ولكن واللَّه لقد استضفناكم فلم تُضَيِّفُونا، فما أنا بِرَاقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جُعْلًا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يَتْفِلُ عليه ويقرأ:"الحمد للَّه رب العلمين" فَكَأنَّمَا نُشِطَ من عِقَالٍ، فانطلق يمشى وما به قَلَبَةٌ قال: فَأوْفُوهُمْ جُعْلَهُم الذى صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقْسموا، فقال الذى رَقَى: لا تفعلوا حتى نَأتِى النبىَّ صلى الله عليه وسلم فَنَذْكُر له الذى كان، فَنَنْظُرَ ما يَأمُرُنَا فقوموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكروا له فقال "وما يُدرِيكَ أنها رُقْيَة" ثم قال:"قد أصبتم اقسموا واضربوا لى معكم سهما" فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وقد أورده البخارى مختصرا فى كتاب الطب فى باب الرقى بفاتحة الكتاب قال: ويُذْكَرُ عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم ثم ساق من طريق أبى المتوكل عن أبى سعيد الخدرى رضى اللَّه عنه أن ناسا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم أتَوْا على حى من أحياء العرب فلم يقرُوهم، فبينما هم كذلك إذ لُدِغَ سَيِّدُ أولئك، فقالوا هل معكم من دواء أو راقٍ؟ فقالوا إنكم لم تَقْرُونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جُعلا، فجعلوا لهم قطيعا من الشاءِ فجعل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بُزاقَه ويتفل، فبرأ، فأتَوا بالشاءِ، فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبى صلى الله عليه وسلم فسألوه فضحك:
وقال: "وما أدراك أنها رُقْيَةٌ؟ خذوها واضربوا لى بسهم" وقد روى البخارى مسلم من حديث سهل بن سعد رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقال: يا رسول اللَّه إنى قد وهبت نفسى لك، فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال: يا رسول اللَّه زَوِّجْنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شئ تصدقها إياه؟ فقال: ما عندى إلا إزارى هذه فقال النبى صلى الله عليه وسلم: إن أعطيتها إزارك جَلَسْتَ لا إزار لك، فالتمس شيئا" فقال ما أجد شيئا، فقال "التمس ولو خاتما من حديد" فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: هل معك من القرآن شئ فقال نعم سورة كذا وسورة كذا يسميها، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "قد زوجتكها بما معك من القرآن" وفى رواية لمسلم: "زوجتكها فعلمها من القرآن" وسيأتى مزيد بحث لحديث سهل بن سعد رضى اللَّه عنه عند الكلام على الحديث التاسع من كتاب النكاح إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه أعلم.
[ما يفيده الحديث]
1 -
جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن ولا سيما عند الحاجة.
2 -
جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن دون أن يشترطه المعلم ولاسيما عند الحاجة.
8 -
وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أعْطُوا الأجِيرَ أجْرَه قبل أن يَجِفَّ عَرَقُه" رواه ابن ماجه، وفى الباب
عن أبى هريرة عند أبى يعلى والبيهقى، وجابر عند الطبرانى، وكلها ضعاف".
[المفردات]
أعْطُوا: نَاوِلُوا.
الأجير: أى العامل المستخدم بأجرة.
أجره: أى أجرته وحقه الذى يستحق على العمل لكم.
قبل أن يجف عرقه: أى فور انتهائه من عمله وبسرعة، ولا تماطلوه أو تؤخروا أجرته متى طلبها.
وفى الباب: أى وفى هذا المعنى من إعطاء الأجير أجره قبل أن يجف عرقه.
أبى يعلى: هو صاحب المسند والمسند الكبير الإمام الحافظ الثقة محدث الجزيرة أحمد بن على بن المثنى بن يحيى بن عيسى ابن هلال التميمى الموصلى، ولد فى الثالث من شوال سنة 210 هـ وقد سمع من على بن الجعد ويحيى بن معين ومحمد بن المنهال الضرير وشيبان بن فروخ وسمع ببغداد من أحمد بن حاتم الطويل، وبالموصل من محمد بن حبان صاحب الصحيح وبالبصرة من أبى أمية أيوب بن يونس ومشايخه كثيرون جمعهم سِفْر باسم معجم شيوخ أبى أبى يعلى.
وقد روى عنه أبو حاتم ابن حبان وحمزة بن محمد الكنانى
وأبو بكر الإسماعيلى وخلق سواهم. وقد عاش 97 سنة وتوفى فى اليوم الرابع عشر من جمادى الأولى سنة 307 هـ رحمه الله.
وجابر: أى وفى الباب عن جابر رضى اللَّه عنه.
كلها ضعاف: أى وحديث ابن عمر عند ابن ماجه وأبى هريرة عند أبى يعلى والبيهقى وجابر عند الطبرانى كلها ضعيفة.
عند الطبرانى: أى فى الصغير.
[البحث]
قال الحافظ فى تخليص الحبير: حديث: "أعْطُوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" ابن ماجه من حديث ابن عمر وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والطبرانى فى الصغير من حديث جابر وفيه شرقى بن قطامى وهو ضعيف. ومحمد بن زياد الراوى عنه. وأبو يعلى وابن عدى والبيهقى من حديث أبى هريرة وقد ذكره البغوى فى المصابيح فى قسم الحسان، وغلط بعض المتأخرين من الحنفية فعزاه لصحيح البخارى. وليس هو فيه. وإنما فيه من حديث أبى هريرة مرفوعا:"ثلاثة أنا خصمهم" فذكر فيه: "ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره" اهـ وقد قال ابن ماجه: حدثنا العباس بن الوليد الدمشقى ثنا وهب بن سعيد بن عطية السلمى ثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبد اللَّه بن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" قال فى الزوائد: إسناد المصنف ضعيف. وهب بن سعيد
وعبد الرحمن بن زيد ضعيفان اهـ وبهذا يتبين أن قول الصنعانى رحمه الله فى سبل السلام فى سبب ضعف الحديث لأن فى حديث ابن عمر شرقى بن قطامى ومحمد بن زياد الراوى عنه هو وهم من الصنعانى رحمه الله إذ أن شرقى بن قطامى ومحمد بن زياد الراوى عنه هما فى سند حديث جابر عند الطبرانى وليسا فى سند حديث ابن عمر عند ابن ماجه كما رأيت. وشرقى بن قطامى قال فى ميزان الاعتدال: ضعفه زكريا الساجى وقال إبراهيم الحربى: كوفى تكلم فيه، وكان صاحب سمر يعنى لم يكن صاحب حديث له عشرة أحاديث فيها مناكير اهـ.
قال المجد ابن تيمية رحمه الله فى المنتقى فى باب الأجير على العمل متى يستحق الأجرة وحكم سراية عمله: وعن أبى هريرة فى حديث له عن النبى صلى الله عليه وسلم: "أنه يُغْفَر لأمته فى آخر ليلة من رمضان، قيل: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أهى ليلة القدر؟ قال: لا. ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله" رواه أحمد، وساق الحافظ عبد العظيم المنذرى هذا الحديث بتمامه فى الترغيب والترهيب بصيغة التضعيف عنده حيث صدره بقوله: ورُوى. ثم قال: رواه أحمد والبزار والبيهقى، قال الشوكانى فى نيل الأوطار: وفى إسناده هشام بن زياد أبو المقدام وهو ضعيف اهـ وكذلك ضعفه البيهقى رحمه الله، ولا شك أن توفية الأجير حقه قد أكدها الإسلام كما مر فى بحث الحديث السادس من أحاديث هذا الباب.
9 -
وعن أبى سعيد رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من استأجر أجيرا فَلْيُسَمِّ له أجرته" رواه عبد الرزاق وفيه انقطاع ووصله البيهقى من طريق أبى حنيفة.
[المفردات]
فَلْيُسَمِّ له أجرته: أى فَلْيُعَيِّنْ له مقدار الأجرة التى يتعاقد معه عليها للعمل له حتى لا تكون أجرته مجهولة.
[البحث]
قال الحافظ فى تلخيص الحبير عند كلامه على حديث: من استأجر أجيرا فليعطه أجره. البيهقى من حديث الأسود عن أبى هريرة فى حديث أوله: "لا يساوم الرجل على سوم أخيه" رواه من طريق عبد اللَّه بن المبارك عن أبى حنيفة عن حماد عن إبراهيم عنه قال: وخالفه حماد بن سلمة فرواه عن حماد بن أبى سليمان عن إبراهيم عن أبى سعيد الخدرى وهو منقطع، وتابعه معمر عن حماد مرسلا أيضا. وقال عبد الرزاق عن الثورى ومعمر عن حماد عن إبراهيم عن أبى هريرة وأبى سعيد أو أحدهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من استأجر أجيرا فليسم له أجرته، وأخرجه إسحاق فى مسنده عن عبد الرزاق وهو عند أحمد وأبى داود فى المراسيل من وجه آخر وهو عند النسائى فى المزارعة غير مرفوع اهـ قال فى مجمع الزوائد: إبراهيم النخعى لم يسمع من أبى سعيد فيما أحسب اهـ.
هذا وتسمية الأجرة للأجير ورضاه بها من الأمور المقررة فى الشريعة الإسلامية وقد أشار القرآن العظيم إلى الإجارة والأجرة والأجير فى قوله فى حق موسى عليه السلام والرجل الصالح الذى رغب فى أن يزوجه إحدى ابنتيه "قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين. قال إلى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين على أن تأجرنى ثمانى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدنى إن شاء اللَّه من الصالحين. قال ذلك بينى وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علىَّ، واللَّه على ما نقول وكيل. فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا. الآية.