المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الكفاءة والخيار - فقه الإسلام = شرح بلوغ المرام - جـ ٧

[عبد القادر شيبة الحمد]

الفصل: ‌باب الكفاءة والخيار

بسم الله الرحمن الرحيم

‌باب الكفاءة والخيار

ص: 3

1 -

عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "العرب بعضهم أكفاء بعض، والموالى بعضهم أكفاء بعفى إلا حائكا أو حجاما" رواه الحاكم، وفى إسناده راو لم يُسَمَّ، واستنكره أبو حاتم، وله شاهد عند البزار عن معاذ بن جبل بسند منقطع.

[المفردات]

الكفاءة: هى المماثلة، والمساواة، ومنه الحديث:"المؤمنون تتكافأ دماؤهم" والكفء النِّدُّ والمثيل والنظير، والمراد هنا: من يكون أهلا للمرأة وجديرا بها ليتزوجها. وهل الكفاءة فى الدِّين وحده؟ أو فى الدين والنسب؟ أو فى الدين والنسب والمركز الاجتماعى والمال؟

والخيار: أى وإعطاء حق الاختيار فى إمضاء النكاح أو فسخه عند وجود سببه كالأمة تحت العبد فتعتق ويبقى هو عبدا فإن لها الخيار فى إمضاء النكاح أو فسخه كمن يُسلم وتحته أكثر من أربع نسوة فإنه يختار أربعا ويفارق باقيهن.

والموالى: جمع مولى والمراد به هنا العتيق.

بعضهم أكفاء بعض: أى يتزوج الرجال الموالى من النساء

ص: 3

الموليات فالمولى كفء للمولاة.

إلا حائكا: أى إلا خياطا فليس بكفء للعربية وإن كان عربيا.

أو حجاما: أى وإلا حجاما فليس بكفء للعربية وإن كان عربيا.

وله شاهد: أى ولحديث ابن عمر شاهد يسانده.

[البحث]

هذا الحديث وصفه غير واحد من أهل العلم بأنه مكذوب مختلق مصنوع قال الحافظ فى تلخيص الحبير: روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "العرب أكفاء بعضهم لبعض، قبيلة لقبيلة، وحى لحى، ورجل لرجل، إلا حائك أو حجام. الحاكم من حديث ابن جريج عن ابن أبى مليكة عن ابن عمر به، والراوى عن ابن جريج لم يُسم، وقد سأل ابن أبى حاتم عنه أباه فقال: هذا كذب لا أصل له، وقال فى موضع آخر: باطل، ورواه ابن عبد البر فى التمهيد من طريق بقية عن زُرعة عن عمران بن أبى الفضل عن نافع عن ابن عمر. قال الدارقطنى فى العلل: لا يصح، وقال ابن حبان: عمران ابن أبى الفضل يروى الموضوعات عن الثقات، وقال ابن أبى حاتم: سألت أبى عنه فقال: منكر، وقد حدَّث به هشام بن عبيد اللَّه الرازى فزاد فيه بعد أو حجام: أو دباغ قال: فاجتمع عليه الدباغون وهَمُّوا به. وقال ابن عبد البر: هذا منكر موضوع، وذكره ابن الجوزى فى العلل المتناهية من طريقين إلى ابن عمر، فى أحدهما على بن عروة وقد رماه ابن حبان بالوضع، وفى الآخر محمد بن

ص: 4

الفضل بن عطية وهو متروك، والأول فى ابن عدى والثانى فى الدارقطنى، وله طريق أخرى عن غير ابن عمر، رواه البزار فى مسنده من حديث معاذ بن جبل، رفعه: العرب بعضها لبعض أكفاء، والموالى بعضها لبعض أكفاء، وفيه سليمان بن أبى الجون قال ابن القطان: لا يعرف، ثم هو من رواية خالد بن معدان عن معاذ ولم يسمع منه. (تنبيه) روى أبو داود والحاكم من طريق محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة مرفوعا: يا بنى بياضة أنكحوا أبا هند، وأنكحوا عليه، قال: وكان حجاما. إسناده حسن اهـ وسيأتى فى الحديث الثانى من أحاديث هذا الباب أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت قيس أن تتزوج أسامة بن زيد وهو مولى كما سيأتى فى الحديث الثالث. أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بنى بياضة أن يتزوجوا من بنات أبى هند وأن يُزَوِّجوا أبا هند وهو حجام وسيأتى تحقيق ذلك عند الكلام على الحديث الثانى والثالث من أحاديث هذا الباب إن شاء اللَّه تعالى. وكان أهل الجاهلية يحرصون على أن لا يتزوج عربى مولاة، واستقر هذا فى نفوس الناس، كما كانوا ينفرون من بعض الصناعات كالحياكة والحجامة والجزارة والصياغة، ويسقطون نسب العربى إن احترفها. مع أن هذه الصناعات لا تغير حقائق النسب، فحقائق الأشياء لا تغيرها العناوين إذ لو كتب على "كيس السكر" هذا ملح لا يصير ملحا بهذه الكتابة كما لو كتب على كيس الملح: هذا سكر لا يكون حلوًا بهذه الكتابة. والنسب إنما يكون للآباء لا للأمهات، ولما كان الإسلام

ص: 5

من أهم مقاصده تحقيق حقائق الأشياء ووضع الأمور فى نصابها، والقضاء على كل أخلاق أهل الجاهلية فقد قضى اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم أن تتزوج زينب بنت جحش زيد بن حارثة وهو مولى ثم يتزوجها بعده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كما روى البخارى فى صحيحه من حديث عائشة رضى اللَّه عنها أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس -وكان ممن شهد بدرا مع النبى صلى الله عليه وسلم تبنى سالما، وأنكحه بنت أخيه هِنْدًا بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهو مولى لامرأة من الأنصار" كما روى البخارى ومسلم من حديث عائشة رضى اللَّه عنها قالت دخل النبى صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنى أريد الحج وأنا شاكية فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "حجى واشترطى أن محلى حيث حبستنى" وكانت تحت المقداد. ولفظ البخارى فى كتاب النكاح: وكانت تحت المقداد ابن الأسود. قال الحافظ فى الفتح فى قوله "وكانت تحت المقداد بن الأسود: وهذا القدر هو المقصود من هذا الحديث فى هذا الباب فإن المقداد وهو ابن عمرو الكندى نسب إلى الأسود بن عبد يغوث الزهرى لكونه تبناه فكان من حلفاء قريش، وتزوج ضباعة وهى هاشمية فلولا أن الكفاءة لا تعتبر بالنسب لما جاز له أن يتزوجها لأنها فوقه فى النسب اهـ هذا وقال ابن سعد فى الطبقات: أخبرنا عفان ابن مسلم قال أخبرنا حماد بن سلمة قال أخبرنا ثابت أن المقداد بن عمرو خطب إلى رجل من قريش فأبى أن يزوجه فقال له النبى صلى الله عليه وسلم:

ص: 6

"لكنى أزوجك ضباعة ابنة الزبير بن عبد المطلب" والمقداد ينتهى نسبه إلى بهراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. قال الحافظ فى الفتح: ولم يثبت فى اعتبار الكفاءة فى النسب حديث اهـ

ص: 7

2 -

وعن فاطمة بنت قيس رضى اللَّه عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لها: "انكحى أسامة" رواه مسلم.

[المفردات]

فاطمة بنت قيس: هى فاطمة بنت قيس بن خالد الأكبر بن وهب بن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر بن مالك بن النضر، القرشية الفهرية أخت الضحاك بن قيس الفهرى رضى اللَّه عنهما. وكانت فاطمة رضى اللَّه عنها تحت أبى عمرو بن حفص بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم فطلقها فلما حلت خطبها معاوية بن أو سفيان وأبو جهم فاستشارت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى ذلك فأشار عليها أن تتزوج مولاه وابن مولاه أسامة بن زيد بن حارثة فاستنكرت أن تتزوج مولى فحضها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتزوجته واغتبطت به.

انْكِحِى أسامة: أى تزوجى أسامة بن زيد بن حارثة رضى اللَّه عنهما.

ص: 7

[البحث]

روى مسلم فى صحيحه من طريق أو سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال: واللَّه مالكِ علينا من شئ، فجاءت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال:"ليس لك عليه نفقة" فأمرها أن تعتد فى بيت أم شَرِيكٍ، ثم قال:"تلك امرأة يغشاها أصحابى، اعتدِّى عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك، فإذا حَلَلْتِ فآذنينى" قالت: فلما حللت ذكرتُ له أن معاوية بن أبى سفيان، وأبا جَهْمٍ، خَطَبَانى، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أما أبو جَهْمٍ فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاويةُ فَصُعْلُوكٌ، لا مال له، انكحى أسامة بن زيد" فكرهته ثم قال: "انكحى أسامة" فنكحته فجعل اللَّه فيه خيرا، واغتبطت به. وفى لفظ لمسلم من طريق أبى بكر بن أبى الجَهْم بن صُخَيْر العدوى قال: سمعت فاطمة بنت قيس تقول: إن زوجها طلقها ثلاثا فلم يجعل لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة. قالت: قال لى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا حَلَلْتِ فآذنينى، فآذنته فخطبها معاوية وأبو جهم وأسامة بن زيد فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أما معاوية فرجل تَرِبٌ لا مال له، وأما أبو جهم فرجل ضرَّاب للنساء ولكن أسامة بن زيد" فقالت بيدها هكذا: أسامة أسامة؟ فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "طاعة اللَّه وطاعة رسوله خير لكِ" قالت: فتزوجتُه فاغْتَبَطْتُ. وفى لفظ لمسلم من

ص: 8

طريق أبى بكر بن أبى الجهم قال: سمعت فاطمة بنت قيس تقول: أرسل إلىَّ زوجى أبو عمرو بن حفص بن المغيرة عَيَّاشَ بن أبى ربيعة بطلاقى وأرسل معه بخمسة آصع تمر وخمسة آصع شعير فقلت: أما لى نفقة إلا هذا ولا أعتد فى منزلكم؟ قال: لا. قالت: فشددت علىَّ ثيابى وأتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "كم طلقك؟ " قلت: ثلاثا. قال: "صدق، ليس لك نفقة، اعْتَدِّى فى بيت ابن عمك ابن أم مكتوم، فإنه ضرير البصر، تلقى ثوبك عنده، فإذا انقضت عدتك فأذنينى" قالت: فخطبنى خطَّابٌ، منهم معاوية، وأبو الجهم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن معاوية تَرِبٌ، خفيف الحال، وأبو الجهم منه شدة على النساء" أو يضرب النساء أو نحو هذا "ولكن عليكِ بأسامة بن زيد" ثم ساق مسلم من طريق أبى بكر بن أبى الجهم قال: دخلت أنا وأبو سلمة بن عبد الرحمن على فاطمة بنت قيس فسألناها فقالت: كنت عند أبى عمرو بن حفص ابن المغيرة -فخرج فى غزوة نجران- وساق الحديث وفيه: قالت: فتزوجته فَشَرَّفَنى اللَّه بابن زيد وكرَّمَنى اللَّه بابن زيد.

[ما يفيده الحديث]

1 -

جواز نكاح القرشية من مولى.

2 -

أن المسارعة إلى طاعة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تجلب لصاحبها خير العاجلة والآجلة.

ص: 9

3 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "يا بنى بياضة أنكِحُوا أبا هند وانْكِحُوا إليه" وكان حجاما". رواه أبو داود والحاكم بسند جيد.

[المفردات]

بنى بياضة: هم من الخزرج وبياضة هو ابن عامر بن زُريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضْب بن جُشَم بن الخزرج.

أنكِحُوا: أى زَوَّجُوا.

أبا هند: قال ابن السكن: يقال اسمه عبد اللَّه، وقال ابن مندة: يقال: اسمه يسار ويقال: سالم. وقال ابن إسحاق: هو مولى فروة بن عمرو البياضى من الأنصار، وفروة هو ابن عمرو بن وَذَفَة بن عبيد بن ابن عامر بن بياضة، وقد روى عن أبى هند ابن عباس وجابر وأبو هريرة رضى اللَّه عنهم -وكان أبو هند حجاما وقد تقدم تعريف الحجامة فى الصوم وفى الحج.

ص: 10

وانكحوا إليه: أى وزوجوه من بناتكم.

[البحث]

أخرج الدارقطنى هذا الحديث من ثلاثة طرق فقال: نا عبد اللَّه ابن سليمان بن الأشعث نا عيسى بن محمد النحاس، نا ضمرة بن ربيعة عن إسماعيل بن عياش، عن محمد بن الوليد الزبيدى وابن سمعان عن الزهرى عن عروة عن عائشة أن أبا هند مولى بنى بياضة كان حجاما فحجم النبى صلى الله عليه وسلم فقال النبى صلى الله عليه وسلم:"من سره أن ينظر إلى من صور اللَّه الإيمان فى قلبه فلينظر إلى أبى هند" وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنكحوه وانكحوا إليه" نا عبد اللَّه بن محمد بن عبد العزيز نا عبد الأعلى بن حماد نا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن أبا هند حجم النبى صلى الله عليه وسلم فى اليافوخ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا بنى بياضة أنكحوا أبا هند وانكحوا إليه. نا محمد بن مخلد نا محمد بن إسحاق الصغانى نا أحمد بن أبى الطيب نا إسماعيل بن عياش نا محمد بن الوليد الزبيدى عن الزهرى عن عروة عن عائشة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من سره أن ينظر إلى من نَوَّرَ اللَّه الإيمان فى قلبه فلينظر إلى أبى هند" وقال: "أنكحوه وانكحوا إليه". وكان حجاما اهـ وقد أخرج الحديث أيضا ابن السكن والطبرانى من طريق الزهرى. وقد وصف المصنف هنا حديث أبى هريرة بأن سنده جيد ووصفه فى التلخيص بأن إسناده حسن.

ص: 11

وإسماعيل بن عياش فى حديث عائشة يحدث عن الشاميين، وهو قوى فيهم.

[ما يفيده الحديث]

1 -

جواز تزويج العربية من المولى.

2 -

يجوز أن يتزوج العربى مولاة.

ص: 12

4 -

وعن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: "خُيِّرَتْ بَرِيرَةُ على زوجها حين عَتَقَتْ" متفق عليه فى حديث طويل، ولمسلم عنها:"أن زوجها كان عبدا" وفى رواية عنها "كان حرا" والأول أثبت، وصح عن ابن عباس عند البخارى أنه كان عبدا.

[المفردات]

خيرت بريرة على زوجها: أى جعل لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخيار فى البقاء تحته أو فسخ النكاح.

حين عتقت: أى حين حررتها عائشة رضى اللَّه عنها.

ولمسلم عنها: أى ولمسلم عن عائشة رضى اللَّه عنها من حديث عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنها.

أن زوجها كان عبدا: أى أن زوج بريرة عندما عتقت بريرة كان عبدا مملوكا واسمه مغيرة.

وفى رواية عنها: أى وفى رواية أخرى عن عائشة رضى اللَّه عنها.

ص: 12

من طريق الأسود بن يزيد عنها عند النسائى وقول لعبد الرحمن بن القاسم عند مسلم وقول الحكم ابن عتيبة عند البخارى كما سنحقق ذلك فى بحث الحديث إن شاء اللَّه.

كان حرا: أى أن زوج بريرة عند تحريرها من الرق كان حرا وليس مملوكا.

والأول أثبت: أى والحديث الذى يثبت أن زوج بريرة كان عبدا أقوى من الحديث الذى يثبت أن زوج بريرة كان حرا.

وصح عن ابن عباس: أى من طريق القاسم بن محمد عنه عند البخارى.

[البحث]

تقدم فى كتاب البيوع حديث عائشة رضى اللَّه عنها فى قصة بريرة بطوله وهو الحديث العاشر من كتاب البيوع. أما الطرف الذى ساقه المصنف هنا من حديث عائشة رضى اللَّه عنها فقد أورده البخارى فى كتاب الطلاق فى باب الحرة تحت العبد من طريق القاسم ابن محمد عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كانت فى بريرة ثلاث سنن: عَتَقت فَخُيِّرَتْ، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"الولاء لمن أعتق، ودخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبرمة على النار فَقُرِّبَ إليه خبز وأدْمٌ من أدْم البيت فقال: "ألم أر البرمة؟ فقيل: لحم تُصَدَّق به على بريرة

ص: 13

وأنت لا تأكل الصدقة، قال:"هو عليها صدقة ولنا هدية" وقد ساقه مسلم بقريب من هذا اللفظ وساقه من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة بلفظ قالت: كان فى بريرة ثلاث قضيَّات، أراد أهلها أن يبيعوها ويشترطوا ولاءها فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال:"اشتريها وأعتقيها فإن الولاء لمن أعتق" قالت: وعَتَقت فَخَيَّرَهَا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها، قالت: وكان الناس يتصدقون عليها وتهدى لنا فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: "هو عليها صدقة وهو لكم هدية فكلوه" وفى لفظ لمسلم من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها اشترت بريرة من أناس من الأنصار واشترطوا الولاء فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الولاء لمن ولى النعمة" وخيَّرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكان زوجها عبدا، وأهدت لعائشة لحما فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "لو صنعتم لنا من هذا اللحم؟ " قالت عائشة: تُصُدِّقَ به على بريرة فقال: "هو لها صدقة، ولنا هدية". أما ما أشار إليه المصنف رحمه الله من أنه صح عن ابن عباس عند البخارى أن زوجها كان عبدا فقد أورده البخارى فى كتاب الطلاق فى باب خيار الأمة تحت العبد من طريق قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: رأيته عبدا. يعنى زوج بريرة. ثم ساقه من طريق أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال: ذاك مُغِيث عبد بنى فلان -يعنى زوج بريرة- كأنى أنظر إليه يتبعها فى سكك المدينة يبكى عليها. ثم ساقه من طريق آخر عن

ص: 14

أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: كان زوج بريرة عبدا أسود يقال له مغيث، عبدا لبنى فلان كأنى أنظر إليه يطوف وراءها فى سكك المدينة. كما ساقه البخارى فى باب شفاعة النبى صلى الله عليه وسلم فى زوج بريرة من طريق خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبدا يقال له مغيث، كأنى أنظر إليه يطوف خلفها يبكى ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبى صلى الله عليه وسلم لعباس:"يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بُغْض بريرة مغيثا؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "لو راجعتِه؟ " قالت: يا رسول اللَّه تأمرنى؟ قال: "إنما أنا أشفع قالت: لا حاجة لى فيه. اهـ وقوله فى الحديث: "عبدا لبنى فلان" قيل: هم بنو المغيرة كما جاء عند الترمذى من طريق سعيد بن أبى عروبة عن أيوب. وقيل عبد لآل أبى أحمد وقال ابن عبد البر: مولى لبنى مطيع. أما قول المصنف: وفى رواية عنها كان حرا" فقد أخرجها النسائى من طريق الأسود عن عائشة رضى اللَّه عنها بلفظ: فأعتقتها فدعاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فخيرها من زوجها قالت: لو أعطانى كذا كذا ما أقمت عنده فاختارت نفسها وكان زوجها حرا" وجاء فى لفظ للبخارى فى كتاب الفرائض من طريق حفص بن عمر عن شعبة عن الحكم: قال الحكم: وكان زوجها حرا. وفى لفظ للبخارى من طريق منصور عن إبراهيم عن الأسود أن عائشة أرادت أن تشترى بريرة وساق الحديث ثم قال الأسود: وكان زوجها حرا. قال البخارى: وقول الحكم مرسل وقال: قول الأسود منقطع كما أخرج مسلم من طريق شعبة قال سمعت

ص: 15

سمعت عبد الرحمن بن القاسم قال: سمعت القاسم يحدث عن عائشة أنها أرادت أن تشترى بريرة للعتق فاشترطوا ولاءها فذكرت ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: اشتريها وأعتقيها فإن الولاء لمن أعتق، وأُهْدِى لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لحم فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: هذا تُصُدق به على بريرة فقال: "هو لها صدقة وهو لنا هدية" وخُيِّرَتْ فقال عبد الرحمن: وكان زوجها حرا قال شعبة: ثم سألته عن زوجها فقال: لا أدرى. قال الحافظ فى الفتح عن حديث الأسود بن يزيد عن عائشة أن زوج بريرة كان حرا قد اختلف فيه على راويه هل هو من قول الأسود أو رواه عن عائشة أو هو قول غيره كما سأبينه، قال إبراهيم بن أبى طالب أحد حفاظ الحديث وهو من أقران مسلم فيما أخرجه البيهقى عنه: خالف الأسود الناس فى زوج بريرة أهـ وبمقتضى قواعد أهل العلم يكون حديث الأسود شاذا لمخالفته الثقات على حد قوله:

وإن يخالف ثقة فيه الملا

فالشاذ. . . . . . . . .

قال الحافظ فى الفتح: فتكون الرواية المنفردة شاذة والشاذ مردود اهـ. واللفظ الذى ورد فى مسلم بأن زوجها كان حرا هو من قول عبد الرحمن بن القاسم وقد تردد فيه. فلا يقوى على معارضة هذه الأخبار الصحيحة الصريحة المتفق عليها عند الشيخين بأنه كان عبدا ولذلك قال المصنف رحمه الله: "وفى رواية عنها كان حرا" والأول أثبت.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن الأمة إذا كان زوجها عبدا وعتقت دونه تخير بين البقاء

ص: 16

على النكاح أو فسخه

2 -

وأن بيع الأمة المزوجة لا يكون طلاقا.

3 -

وأن عتق الأمة المزوجة لا يكون طلاقا ولا فسخا.

4 -

وأنه لا كراهية فى بيع أحد الزوجين المملوكين دون الآخر بخلاف التفريق بين الأخوين المملوكين أو الأمة وولدها.

ص: 17

5 -

وعن الضحاك بن فيروز الديلمى عن أبيه رضى اللَّه عنه قال: قلت يا رسول اللَّه إنى أسلمت وتحتى أختان؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "طلق أيتهما شئت" رواه أحمد والأربعة إلا النسائى وصححه ابن حبان والدارقطنى والبيهقى وأعله البخارى.

[المفردات]

الضحاك بن فيروز الديلمى: قال فى التقريب: الضحاك بن فيروز الديلمى الفلسطينى مقبول من الثالثة وأشار إلى أنه أخرج له أبو داود والترمذى وابن ماجه.

فيروز الديلمى: قال بن سعد فى الطبقات: فيروز بن الديلمى وهو من أبناء أهل فارس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن مع سيف بن ذى يَزَن فنفوا الحبشة عن اليمن وغلبوا عليها، فلما بلغهم أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفد فيروز بن الديلمى على النبى صلى الله عليه وسلم فأسلم وسمع منه

ص: 17

وروى عنه أحاديث فمن أهل الحديث من يقول: حدثنا فيروز بن الدَّيْلَمِى، وبعضهم يقول: الدَّيْلَمِى وهو واحد يعنون فيروز بن الديلمى وقال ابن سعد: وكان فيروز يكنى أبا عبد اللَّه. وقال: قال عبد المنعم بن إدريس: وقد انتسب ولده إلى بنى ضَبَّةَ وقالوا: أصابنا سباء فى الجاهلية، وكان فيروز فيمن قتل الأسود بن كعب العنسى باليمن الذى كان تنبًا باليمن، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"قتله الرجل الصالح فيروز بن الديلمى" ومات فيروز باليمن فى خلافة عثمان بن عفان رحمه الله.

وتحتى أختان: أى ولى زوجتان أختان.

طلق أيتهما شئت: أى فارق واحدة منهما أية واحدة بحسب اختيارك ورغبتك فيمن تفارق ومن تبقى.

[البحث]

قال الحافظ فى تلخيص الحبير: حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لفيروز الديلمى وقد أسلم على أختين: "اختر إحداهما" الشافعى وأحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه وابن حبان من حديثه وصححه البيهقى وأعله العقيلى وغيره اهـ وهذا الحديث من رواية أبى وهب الجَيْشَانى عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال البخارى: لا نعرف سماع بعضهم من بعض اهـ وقد أخرجه الدارقطنى من طريق الشافعى نا ابن أبى يحيى

ص: 18

عن إسحاق بن عبد اللَّه عن أبى وهب الجيشانى عن أبى خراش عن الديلمى أو ابن الديلمى قال: أسلمت وتحتى أختان فسألت النبى صلى الله عليه وسلم فأمرنى أن أمسك أيتهما شئت اهـ قال فى التقريب: أبو وهب الجيشانى بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها معجمة المصرى قيل اسمه دَيْلَم بن هوشع وقال ابن يونس: هو عبيد بن شرحبيل، مقبول من الرابعة وأشار إلى أن من رجال أبى داود والترمذى وابن ماجه. وأبو خراش مجهول. واللَّه أعلم.

ص: 19

6 -

وعن سالم عن أبيه رضى اللَّه عنه أن غيلان بن سلمة أسلم وله عشر نسوة فأسلمن معه فأمره النبى صلى الله عليه وسلم "أن يتخير منهن أربعا" رواه أحمد والترمذى، وصححه ابن حبان والحاكم، وأعله البخارى وأبو زرعة وأبو حاتم.

[المفردات]

عن أبيه: هو عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنهما.

غَيْلَانَ بن سلمة: هو غيلان بن سَلَمَة بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف. قال ابن سعد فى الطبقات: وكان غيلان بن سلمة شاعرا وفد على كسرى فسأله أن يبنى له حصنا بالطائف فبنى حصنا فى الطائف ثم جاء الإسلام فأسلم غيلان

ص: 19

وعنده عشر نسوة فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "اختر منهن أربعا وفارق بقيتهن" فقال: قد كنَّ ولا يعلمن أيتهن آثر عندى وسيعلمن ذلك اليوم فاختار منهن أربعا وجعل يقول لمن أراد منهن: أقبلى، ومن لم يرد يقول لها: أدبرى. حتى اختار منهن أربعا وفارق بقيتهن اهـ وتوفى غيلان رضى اللَّه عنه فى خلافة عمر رضى اللَّه عنه.

وله عشر نسوة: أى وتحته عشر زوجات.

أن يتخير منهن أربعا: أى أن يُبْقى أربع نسوة من العشر التى كن تحته ويفارق ست نسوة منهن.

[البحث]

قال الحافظ فى التلخيص: حديث أن غيلان: أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: "اختر أربعا وفارق سائرهن" الشافعى عن الثقة عن معمر عن الزهرى عن سالم عن أبيه نحوه، ورواه ابن حبان بهذا اللفظ وبألفاظ أخر، ورواه أيضا الترمذى وابن ماجه كلهم من طرق عن معمر، منهم ابن علية وغندر ويريد بن زريع وسعيد وعيسى بن يونس، كلهم من أهل البصرة، قال البزار: جوده معمر بالبصرة، وأفسده باليمن فأرسله، وقال الترمذى: قال البخارى هذا الحديث غير محفوظ، والمحفوظ ما رواه شعيب عن الزهرى

ص: 20

قال: حدثت عن محمد بن سويد الثقفى أن غيلان أسلم الحديث. قال البخارى: وإن حديث الزهرى عن سالم عن أبيه فإنما هو أن رجلا من ثقيف طلق نساءه، فقال له عمر: لترجعن نساءك أو لأرجمنك. وحكم مسلم فى التمييز على معمر بالوهم فيه، وقال ابن أبى حاتم عن أبيه وأبى زرعة: المرسل أصح. وحكى الحاكم عن مسلم أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة، قال: فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة، وقد أخذ ابن حبان والحاكم والبيهقى بظاهر هذا الحكم فأخرجوه من طرق عن معمر من حديث أهل الكوفة وأهل خراسان وأهل اليمامة عنه. قلت: ولا يفيد ذلك شيئا فإن هؤلاء كلهم إنما سمعوا منه بالبصرة وإن كانوا من غير أهلها، وعلى تقدير تسليم أنهم سمعوا منه بغيرها فحديثه الذى حدث به فى غير بلده مضطرب، لأنه كان يحدث فى بلده من كتبه على الصحة، وأما إذا رحل فحدث من حفظه بأشياء وهم فيها، اتفق على ذلك أهل العلم به كابن المدينى والبخارى وأبى حاتم ويعقوب بن شيبة وغيرهم، وقد قال الأثرم عن أحمد: هذا الحديث ليس بصحيح، والعمل عليه، وأعله بتفرد معمر بوصله وتحديثه به فى غير بلده هكذا، وقال ابن عبد البر: طرقه كلها معلولة اهـ.

ص: 21

7 -

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: رَدَّ النبى صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبى العاص بن الربيع بعد ست سنين بالنكاح الأول ولم يُحْدِثْ نكاحا"

ص: 21

رواه أحمد والأربعة إلا النسائى وصححه أحمد والحاكم.

[المفردات]

أبو العاص بن الربيع: هو أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصى. وأم أبى العاص بن الربيع هى هالة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى فهو ابن أخت خديجة رضى اللَّه عنها وابن خالة زوجته زينب بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورضى اللَّه عنها، وقد أسلمت زينب رضى اللَّه عنها عند بعثة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع سائر بناته صلى الله عليه وسلم ورضى اللَّه عنهن. وقد أبَى أبو العاص أن يسلم وشهد بدرا مع المشركين، فأسره عبد اللَّه بن جبير بن النعمان الأنصارى، فلما بعث أهل مكة فى فداء أساراهم قدم فى فداء أبى العاص أخوه عمرو بن الربيع وبعثت معه زينب بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورضى اللَّه عنها وهى يومئذ بمكة بقلادة لها كانت لخديجة بنت خويلد رضى اللَّه عنها وأدْخَلَتْهَا بها على أبى العاص بن الربيع حين بنى بها فبعثت بها

ص: 22

فى فداء زوجها أبى العاص فلما رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم القلادة عرفها ورَقَّ لها وذكر خديجة وترحم عليها وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا إليها متاعها فعلتم؟ " قالوا نعم يا رسول اللَّه، فأطلقوا أبا العاص وردوا على زينب قلادتها وأخذ النبى صلى الله عليه وسلم على أبى العاص أن يأذن لها بالهجرة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فوعده بذلك. ووفى، وقد خرج أبو العاص فى تجارة لقريش إلى الشام، ولما علم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن عير قريش هذه قد أقبلت من الشام بعث زيد بن حارثة رضى اللَّه عنه فى سبعين ومائة راكب إلى ناحية العيص فى جمادى الأولى سنة ست من الهجرة فأخذوا العير وأسروا ناسا ممن كان فى العير منهم أبو العاص، فأطلقه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورد عليه ما أُخذَ منه، فرجع إلى مكة وأدى إلى كل ذى حق حقه. ثم أسلم وهاجر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرد عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زينب.

بالنكاح الأول: أى بالعقد الأول الذى كان فى مكة.

ولم يحدث نكاحا: أى ولم يعقد له عقدا جديدا.

[البحث]

كان الأمر فى أول الإسلام أنه إذا أسلم أحد الزوجين استمر

ص: 23

عقد النكاح بينهما حتى حرم اللَّه المسلمات على الكافرين فى ذى القعدة من السنة السادسة للهجرة، وقد هاجرت زينب رضى اللَّه عنها بعد موقعة بدر. وأسلم أبو العاص فى السنة السادسة للهجرة، فتكون المدة من هجرة زينب رضى اللَّه عنها إلى إسلام أبى العاص حوالى ثلاث سنوات، ولم يكن يومها قد حرمت المسلمة على الكافر، فلا حاجة إذن لعقد جديد، وقد جاء فى هذا الحديث بأن ردها على أبى العاص كان بعد ست سنين وفى رواية لأبى داود: ردها عليه بعد سنتين. قال الترمذى: لا يعرف وجه هذا الحديث اهـ وهذا الحديث رواه داود بن الحصين عن عكرمة وقد قال ابن المدينى: ما روى داود عن عكرمة فمنكر، وقال سفيان بن عيينة: كنا نتقى حديثه. وقال الحافظ فى التقريب: داود بن الحصين الأموى مولاهم أبو سليمان المدنى ثقة إلا فى عكرمة ورمى برأى الخوارج. وسيجئ فى الحديث الذى يلى هذا الحديث: أن النبى صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبى العاص بنكاح جديد" قال الحافظ فى الفتح: وقد ورد فى أصل المسألة حديثان متعارضان: أحدهما أخرجه أحمد من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثنى داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبى العاص، وكان إسلامها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول ولم يحدث شيئا. وأخرجه أصحاب السنن إلا النسائى وقال الترمذى: لا بأس بإسناده، وصححه الحاكم، ووقع فى رواية بعضهم "بعد سنتين" وفى أخرى

ص: 24

"بعد ثلاث" وهو اختلاف جمع بينه على أن المراد بالست بين هجرة زينب وإسلامه، وهو بَيِّنٌ فى المغازى فإنه أسر ببدر فأرسلت زينب من مكة فى فدائه فأطلق لها بغير فداء وشرط النبى صلى الله عليه وسلم عليه أن يرسل له زينب فوفى له بذلك، وإليه الإشارة فى الحديث الصحيح بقوله صلى الله عليه وسلم فى حقه:"حدثنى فصدقنى، ووعدنى فوفى لى" والمراد بالسنتين أو الثلاث ما بين نزول قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} وقدومه مسلما فإن بينهما سنتين وأشهرا. الحديث الثانى أخرجه الترمذى وابن ماجه من رواية حجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبى العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد. قال الترمذى: وفى إسناده مقال. ثم أخرج عن يزيد بن هارون أنه حدث بالحديثين عن ابن إسحاق وعن حجاج بن أرطأة ثم قال يزيد: حديث ابن عباس أقوى إسنادا. اهـ وقال الحافظ فى الفتح أيضا: وحكى الترمذى فى "العلل المفرد" عن البخارى أن حديث ابن عباس أصح من حديث عمرو بن شعيب وعلته تدليس حجاج ابن أرطأة، وله علة أشد من ذلك وهى ما ذكره أبو عبيد فى كتاب النكاح عن يحيى القطان أن حجاجا لم يسمعه من عمرو بن شعيب وإنما حمله عن العرزمى، والعرزمى ضعيف جدا، وكذا قال أحمد بعد تخريجه، قال: والعرزمى لا يساوى حديثه شيئا. قال: والصحيح أنهما أُقِرَّا على النكاح الأول اهـ.

ص: 25

8 -

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضى اللَّه عنهم أن النبى صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبى العاص بنكاح جديد" قال الترمذى: حديث ابن عباس أجود إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب.

[المفردات]

بنكاح جديد: أى بعقد جديد.

[البحث]

تقدم فى بحث الحديث السابق بيان ما فى حديث عمرو بن شعيب هذا من العلل. وقد أخرجه الدارقطنى ثم قال: هذا لا يثبت، وحجاج لا يحتج به، والصواب حديث ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم ردها بالنكاح الأول اهـ.

ص: 26

9 -

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: أسلمت امرأة فتزوجت فجاء زوجها فقال: يا رسول اللَّه إنى كنت أسلمت وعلمت بإسلامى، فانتزعها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر، وردها إلى زوجها الأول" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم.

[المفردات]

أسلمت امرأة: أى وكانت متزوجة.

ص: 26

فتزوجت: أى فتزوجها زوج آخر باعتبار أن الإسلام فرَّق بينها وبين زوجها الأول إذا كان كافرا.

فجاء زوجها: أى حضر زوجها الأول عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

إنى كنت أسلمت وعلمت بإسلامى: أى دخلت فى دين الإسلام قبل أن تتزوج وقد علمت قبل أن تتزوج بأنى أسلمت.

فانتزعها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر: أى فاعتبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زواجها الثانى باطلا وأن زواجها الأول لا يزال قائما فأخذها من زوجها الثانى وقضى ببطلان زواجه منها.

وردها إلى زوجها الأول: أى وأعادها إلى بيت زوجها الأول لأن زواجها الأول لا يزال قائما.

[البحث]

حديث ابن عباس أخرجه الإِمام أحمد فقال: حدثنا الزبيرى وأسود بن عامر قالا: ثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: أسلمت امرأة عك عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتزوجت، فجاء زوجها الأول إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنى قد أسلمت وعَلِمَتْ بإسلامى فنزعها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر وردَّها على زوجها الأول. وأخرجه أبو داود فقال: حدثنا نصر بن على أخبرنى أبو أحمد عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس

ص: 27

وساقه باللفظ الذى ساقه المصنف. وقال ابن ماجه: حدثنا أحمد ابن عبدة ثنا حفص بن جُمَيْع ثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة جاءت إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فتزوجها رجل قال: فجاء زوجها الأول فقال: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. الحديث باللفظ الذى ساقه المصنف وقد أخرجه الحاكم فى المستدرك وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وأقره الذهبى. ووصفه الترمذى بأنه حديث حسن صحيح. وسند هذا الحديث كما رأيت يدور على سماك عن عكرمة وقد قال الحافظ فى التقريب: سماك بكسر أوله وتخفيف الميم ابن حرب بن أوس بن خالد الذهلى البكرى الكوفى أبو المغيرة صدوق وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة وقد تغير بآخرة فكان ربما يلقن اهـ وأشار إلى أنه من رجال مسلم.

ص: 28

10 -

وعن زيد بن كعب بن عجرة عن أبيه رضى اللَّه عنه قال: "تزوج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العالية من بنى غِفار فلما دخلت عليه، ووضعت ثيابها رأى بِكَشْحِهَا بَيَاضًا فقال: "الْبَسى ثيابك، والحَقِى بأهلك" وأمر لها بالصداق. رواه الحاكم وفى إسناده جميل بن زيد، وهو مجهول واخْتُلِفَ عليه فى شيخه اختلافا كثيرا.

[المفردات]

زيد بن كعب بن عجرة: وهو زيد بن كعب بن عجرة بن أمية بن عدى بن

ص: 28

عُبَيْد بن الحارث بن عمرو بن عوف بن غنم بن سواد بن مَرِى بن إراشة بن عامر بن عُبَيْلة البلوى.

عن أبيه: هو كعب بن عجرة رضى اللَّه عنه.

من بنى غفار: غفار قبيلة أبى ذر رضى اللَّه عنه.

بكشحها: الكشح بفتح الكاف وسكون الشين هو ما بين الخاصرة إلى الضلع.

بياضا: أى بَرَصا.

الحقى بأهلك: هو كناية عن طلاقها وفراقها فهو من الألفاظ التى يقع بها الطلاق إذا اقترن بنية ذلك.

بالصداق: أى بالمهر.

جميل بن زيد: وصفه المصنف هنا بأنه مجهول، وقال عنه فى التلخيص فى حديث "أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم": ورواه الدارقطنى فى غرائب مالك من طريق جميل بن زيد عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وجميل لا يعرف.

واختلف عليه: أى اختلف على جميل بن زيد فى شيخه.

[البحث]

قال الحافظ فى تلخيص الحبير فى القسم الرابع فى الخصائص والكرامات: قوله: روى أنه تزوج امرأة فرأى بكشحها بياضا فقال الحقى بأهلك. الحاكم فى المستدرك من حديث كعب بن عجرة وفيه: أنها

ص: 29

من بنى غفار. وفى إسناده جميل بن زيد وقد اضطرب فيه، وهو ضعيف. فقيل عنه هكذا، وقيل عن ابن عمر وقيل عن زيد بن كعب أو كعب بن زيد، وأخرجه ابن عدى والبيهقى وقال الحاكم: اسمها أسماء بنت النعمان، وقلت: والحق أنها غيرها فإن بنت النعمان هى الجونية اهـ ثم قال الحافظ فى التلخيص فى باب مثبتات الخيار: حديث: أنه صلى الله عليه وسلم تزوج بامرأة فلما دخلت عليه رأى بكشحها وَضَحًا فردها إلى أهلها، وقال: دَلَّسْتُمْ علىَّ. أبو نعيم فى الطب والبيهقى من حديث ابن عمر بهذا اللفظ، وقد تقدم فى الخصائص وفيه اضطراب كثير على جميل بن زيد راويه اهـ.

ص: 30

11 -

وعن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه قال: أيما رجل تزوج امرأة فدخل بها فوجدها بَرْصَاءَ أو مجنونة أو مجزومة فلها الصداق بمسيسه إياها، وهو له على من غره منها. أخرجه سعيد بن منصور ومالك وابن أبى شيبة، ورجاله ثقات. وروى سعيد أيضا عن على نحوه وزاد "أو بها قَرْنٌ، فزوجها بالخيار، فإن مَسّهَا فلها المهر بما استحل من فرجها، ومن طريق سعيد بن المسيب أيضا قال: قضى به عمر فى العِنِّين أن يؤجل سنة" ورجاله ثقات.

[المفردات]

سعيد بن المسيب: هو سعيد بن المسيَّب بن حزن بن أبى وهب بن عمرو بن عائذ أو عابد بن عمران بن

ص: 30

مخزوم بن يقظة المخزومى القرشى، أحد العلماء الأثبات، الفقهاء الكبار وقد ولد سعيد بن المسيب لسنتين مضتا من خلافة عمر رضى اللَّه عنه، ويذكر أنه جلس ثلاثين سنة لم يُؤَذَّن للصلاة إلا وهو فى المسجد. كما يذكر أنه ما فاتته صلاة الجماعة فى مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أربعين سنة. وكان رحمه الله يعتم بعمامة بيضاء على قلنسوة لطيفة ويرخى طرف العمامة من ورائه شبرا، كما كان يعتم أحيانا بعمامة سوداء ولاسيما فى الفطر والأضحى. قال الحافظ فى التقريب: اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل وقال ابن المدينى: لا أعلم فى التابعين أوسع علما منه. مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين.

برصاء: أى مريضة بالبرص وهو داء يشوه الجلد، ويبيضه.

أو مجنونة: أى فاقدة العقل.

أو مجذومة: أى مصابة بالجذام، والجذام كغراب علة تحدث من انتشار السوداء فى البدن كله فيفسد مزاج الأعضاء وهيأتها وربما انتهى إلى تأكل الأعضاء وسقوطها عن تَقَرُّح.

فلها الصداق بمسيسه إياها: أى فلها المهر بسبب دخوله بها.

ص: 31

وهو له على من غره منها: أى قيمة المهر للزوج فى ذمة الذى غشه فيها.

سعيد بن منصور: هو سعيد بن منصور بن شعبة أبو عثمان الخراسانى، نزيل مكة ثقة مصنف قال الحافظ فى التقريب: وكان لا يرجع عما فى كتيه لشدة وثوقه به اهـ وتوفى رحمه الله سنة سبع وعشرين ومائتين وقيل بعدها وقد أخرج له الجماعة.

وابن أبى شيبة: هو أبو بكر عبد اللَّه بن محمد بن أبى شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطى الأصل الكوفى ثقة حافظ صاحب تصانيف وتوفى سنة خمس وثلاثين ومائتين. وقد تقدمت له ترجمة موجزة فى أوائل الجزء الأول.

وروى سعيد أيضا عن على نحوه وزاد: أى وأخرج سعيد بن منصور عن على رضى اللَّه عنه مثل أثر عمر رضى اللَّه عنه.

أو بها قَرْنٌ: قوله أو هى لعطف "بها قرن" على قوله أو مجذومة" فى الرواية الأولى والمراد بالقرن شئ ينبت فى فرج المرأة وحيا الناقة كالسِّن يمنع من الوطء وهو كالأدرة فى الرجال وتسمى القرن أو العَفَلَة. وهى من عيوب المرأة.

فزوجها بالخيار: أى يثبت الخيار لزوجها إن تحقق وجود ذلك فيها.

فإن مسها فلها المهر: يعنى إن دخل بها فلها المهر.

بما استحل من فرجها: أى بسبب استباحة لبعضها.

ص: 32

ومن طريق سعيد بن المسيب أيضا: أى وأخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد بن المسيب كذلك.

فى العِنِّينِ: أى فى الرجل العنين وهو الذى لا يستطيع الوطء لعدم انتشار عضوه، وهو عيب فى الرجل.

أن يؤجل سنة: أى أن يطلب الحاكم من زوجته أن تنتظر سنة إذا طالبت بحقها لَعَلَّهُ أن يزول ما به، إذ يقال: إن هذا المرض قد يحصل فى بعض فصول السنة ويزول فى بعضها.

[البحث]

قال الحافظ فى تلخيص الحبير: قوله: روى عن عمر: أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون، أو جذام، أو برص، فَمَسَّها، فلها صداقها، وذلك لزوجها غرم على وليها. سعيد بن منصور عن هشيم عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب عنه نحوه. وهو فى الموطأ عن يحيى وعند الشافعى عن مالك، وعند ابن أبى شيبة عن ابن إدريس عن يحيى، وفى الباب عن على أخرجه سعيد أيضا اهـ وقال فى التلخيص أيضا: حديث أن عمر أجل العنين سنة، البيهقى من رواية ابن المسيب عنه، قوله: وتابعه العلماء عليه: نقله البيهقى عن على والمغيرة وغيرهما وكذا أخرجه ابن أبى شيبة عنهما وعن ابن مسعود اهـ قال القاضى عياض: اتفق كافة العلماء على أن للمرأة حقا فى الجماع فيثبت الخيار لها إذا تزوجت المجبوب والممسوح جاهلة بهما،

ص: 33

ويضرب للعنين أجل سنة لاختبار زوال ما به اهـ وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والرحمة يوجب الخيار وهو أولى من البيع كما أن الشروط المشروطة فى النكاح أولى بالوفاء من الشروط فى البيع.

[ما يفيده الحديث]

1 -

ثبوت الخيار للزوج أو الزوجة إذا اكتشف بعد الزواج عيبا مُنَفِّرًا فى زوجه.

2 -

أنه إذا دخل الزوج بالزوجة واكتشف العيب بعد الدخول فعليه المهر لها بما استحل من فرجها وله أن يرجع بالمهر على الذى غره منها.

3 -

أن المرأة إذا اكتشفت أن زوجها عنين وطالبت بحقها فى الجماع يؤجل العنين سنة فإن زال ما به وإلا ثبت الخيار لها.

ص: 34