المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ ‌كتاب الطلاق

‌كتاب الطلاق

ص: 189

1 -

عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أبغض الحلال إلى اللَّه الطلاق" رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم، ورجح أبو حاتم إرساله.

[المفردات]

الطلاق: قال الحافظ فى الفتح: الطلاق فى اللغة حل الوثاق، مشتق من الإِطلاق وهو الإِرسال والترك، وفلان طلق اليد بالخير أى كثير البذل، وفى الشرع: حل عقد التزوج فقط، وهو موافق لبعض أفراد مدلوله اللغوى. قال إمام الحرمين: هو لفظ جاهلى ورد الشرع بتقريره، وطَلقَت المرأة بفتح الطاء وضم اللام، وبفتحها أيضًا وهو أفصح اهـ.

أبغض الحلال: أى أكره المباح.

[البحث]

قال الحافظ فى التلخيص: أبغض المباح إلى اللَّه الطلاق" أبو داود وابن ماجه. والحاكم من حديث محارب بن دثار عن ابن عمر بلفظ: "الحلال" بدل "المباح" ورواه أبو داود والبيهقى مرسلا ليس فيه ابن عمر ورجح أبو حاتم والدارقطنى فى العلل والبيهقى المرسل. وأورده ابن

ص: 189

الجوزى فى العلل المتناهية بإسناد ابن ماجه وضعفه بعبيد اللَّه بن الوليد الوَصَّافى وهو ضعيف، ونكنه لم ينفرد به فقد تابعه معروف بن الواصل، إلا أن المنفرد عنه بوصله محمد بن خالد الوهبى، ورواه الدارقطنى من حديث مكحول عن معاذ بن جبل بلفظ:"ما خلق اللَّه شيئًا أبغض إليه من الطلاق" وإسناده ضعيف ومنقطع أيضًا اهـ وسبب ضعف حديث مكحول عن معاذ عند الدارقطنى أنه من رواية حميد ابن مالك اللخمى عن مكحول عن معاذ، وحميد بن مالك ضعيف، تكلم فيه أبو زرعة وأبو حاتم وابن عدى والأزدى. ومكحول عن معاذ منقطع لأنَّ مكحولا لم يلق معاذا رضى اللَّه عنه قال البيهقى: مكحول عن معاذ منقطع، وقال ابن الجوزى فى التحقيق: مكحول لم يلق معاذا.

ص: 190

2 -

وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أنه طلق امرأته وهى حائض فى عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسأل عُمَرُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقال: "مُرْهْ فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم ان شاء أمسك بعدُ وإن شاء طلق قبل أن يَمَسَّ، فتلك العدة التى أمر اللَّه عز وجل أن تُطَلَّقَ لها النساء" متفق عليه، وفى رواية لمسلم:"مُرْه فليراجعها ثم لِيُطَلِّقْهَا طاهرا أو حاملا" وفى رواية أخرى للبخارى: "وحُسِبَتْ تطليقةً" وفى رواية لمسلم، قال ابن عمر: "أمَّا أنت طلقتها واحدة أو اثنتين فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم-

ص: 190

أمرني أن أراجعها ثم أُمهِلَهَا حتى تحيض حيضة أخرى ثم أمهلها حتى تطهر، ثم أُطَلقَها قبل أن أمَسَّهَا، وأما أنت طلقتها ثلاثًا، فقد عصيت ربك فيما أمرك به بن طلاق امرأتك" وفى رواية أخرى قال عبد اللَّه بن عمر: فَرَدَّهَا علَىَّ ولم يرها شيئًا، وقال "إذا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّق أو لِيُمْسِكْ".

[المفردات]

أنه: أى ابن عمر رضى اللَّه عنهما.

امرأته: هى آمنة بنت غِفَار وقيل اسمها النوار وقيل اسمها آمنة ولقبها النوار.

وهى حائض: أى فى وقت حيضها.

فى عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أى فى زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

عن ذلك: أى عن حكم طلاق المرأة وهى حائض.

مره فليراجعها: أى اطلب منه أن يَرُدّها.

ثم ليتركها: أى ليستمر بها فى عصمته وليدعها على ما هى عليه من قيام الزوجية بينهما وليمسكها.

حتى تطهر: أى إلى أن ينقطع الحيض عنها وتحل لها الصلاة.

ثم تحيض: أى ثم يجيئها الحيض مرة أخرى.

(ثم تطهر): أى ثم ينقطع عنها الحيض مرة أخرى وتحل لها الصلاة.

ثم إن شاء أمسك بعد: أى ثم إذا رغب فى بقائها زوجة أبقاها واستمر بها فى عصمته.

ص: 191

وإن شاء طلق قبل أن يمس: أى وإذا رغب فى فراقها طلَّقها وهى فى طهر لم يجامعها فيه.

فتلك العدة التى أمر اللَّه عز وجل أن تُطَلَّق لها النساء: أى فهذا هو المراد من قول اللَّه عز وجل {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أى إذا أردتم طلاق النساء فطلقوهن مستقبلات عدتهن، وهى لا تطلق مستقبلة عدتها إلا إذا طلقها فى طهر لم يجامعها فيه.

وفى رواية لمسلم: أى من طريق سفيان عن محمد بن عبد الرحمن "مولى آل طلحة" عن سالم عن ابن عمر عن عمر رضى اللَّه عَنهما.

ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا: أى ثم ليفارقها حالة كونها طاهرا يعنى ولم يمسها فى هذا الطهر أو حالة كونها حبلى.

وفى رواية أخرى للبخارى: أى من طريق عبد الوارث عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما.

وحُسِبَتْ تطليقة: أى وَعُدَّت هذه التطليقة التى حصلت وقت الحيض تطليقة واحدة من الثلاث التى جعلها اللَّه تعالى للزوج على زوجته.

وفى رواية لمسلم: أى من طريق زهير بن حرب عن إسماعيل عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما.

ص: 192

وفى رواية أخرى: هى لأبى داود من طريق أبى الزبير عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما.

ولم يرها شيئًا: أى ولم يحتسبها تطليقة.

[البحث]

قوله "ثم ليتركها" هذا لفظ مسلم، أما لفظ البخارى فهو:"ثم ليمسكها" وقد ساق البخارى رحمه الله حديث ابن عمر أيضًا من طريق شعبة عن أنس بن سيرين قال: سمعت ابن عمر قال: طلق ابنُ عمر امرأته وهى حائض، فَذَكَرَ عُمَرُ للنبى صلى الله عليه وسلم فقال:"لِيُرَاجِعْها" قلت: تُحْتَسَبُ؟ قال: فَمَهْ؟ وعن قتادة عن يونس بن جبير عن ابن عمر قال: "مره فليراجعها" قلت: تُحْتَسَبُ؟ قال: أرأيت إن عجز واسْتَحْمَقَ؟ وقال أبو معمر: حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: حُسِبَتْ عَلَىَّ بتطليقة اهـ وساق مسلم رحمه الله حديث ابن عمر بعدة ألفاظ فأخرجه من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر باللفظ الذى ساقه المصنف، وهو نفس الطريق الذى أخرجه به البخارى ثم قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة وابن رُمْح "واللفظ ليحيى" قال قتيبة حدثنا ليث وقال الآخران: أخبرنا الليث ابن سعد عن نافع عن عبد اللَّه أنه طلق امرأة له وهى حائض تطليقة واحدة فأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض عنده حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر من حيضتها، فإن أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها. فتلك العدة التى أمر اللَّه أن يُطَلَّقَ لها النساء. وزاد

ص: 193

ابن رمح فى روايته: وكان عبد اللَّه إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم: أمَّا أنت طلقت امرأتك مرة أو مرَّتين فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرنى بهذا، وإن كنتَ طلقتها ثلاثًا فقد حرمتْ عليك حتى تنكح زوجا غيرك، وعصيت اللَّه فيما أمرك من طلاق امرأتك. قال مسلم: جوَّد الليثُ فى قوله: تَطليقة واحدة. حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن نمير حدثنا أو حدثنا عبيد اللَّه عن نافع عن ابن عمر قال: طلقتُ امرأتى على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هى حائض فذكر ذلك عمرُ لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "مره فليراجعها ثم ليدعها حتى تطهر ثم تحيض حيضة أخرى فإذا طَهُرَت فليطلقها قبل أن يجامعها أو يُمْسِكْها، فإنها العدة التى أمر اللَّه أن يُطَلَّقَ لها النساء" قال عبيد اللَّه: قلت لنافع: ما صنعت التطليقة؟ قال: واحدة اعتَدَّ بِها. وحدثناه أبو بكر بن أبى شيبة وابن المثنى قالا: حدثنا عبد اللَّه بن إدريس عن عبيد اللَّه بهذا الإسناد نحوه ولم يذكر قول عبيد اللَّه لنافع قال ابن المثنى فى روايته: فَلْيُرْجِعْها" وقال أبو بكر: "فليراجعها" وحدثنى زهير بن حرب حدثنا إسماعيل عن أيوب عن نافع أن ابن عمر طلق امرأته وهى حائض فسأل عمرُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم فأمره أن يَرْجِعَها ثم يمهلها حتى تحيض حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر ثم يطلقها قبل أن يمسها. فتلك العدة التى أمر اللَّه أن يُطَلَّقَ لها النساء. قال: فكان ابن عمر إذا سئل عن الرجل يطلق امرأته وهى حائض يقول: أمَّا أنت طَلَّقتها واحدةً أو اثنتين. أن رسول اللَّه

ص: 194

-صلى الله عليه وسلم أمره أن يَرْجِعَها ثم يمهلها حتى تحيض حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر ثم يطلقها قبل أن يمسَّها. وأما أنت طلقتها ثلاثا فقد عصَيْتَ ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك وبانت منك. حدثنى عبد بن حميد أخبرنى يعقوب بن إبراهيم حدثنا محمد وهو ابن أخى الزهرى عن عمه أخبرنا سالم بن عبد اللَّه أن عبد اللَّه بن عمر قال: طلقت امرأتى وهى حائض، فذكر ذلك عمر للنبى صلى الله عليه وسلم فَتَغيَّظَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم قال:"مره فليراجعها حتى تحيض حيضة أخرى مُسْتَقْبَلَةً سوى حيضتها التى طلقها فيها، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضتها قبل أن يمسها، فذلك الطلاق للعدة كما أمر اللَّه" وكان عبد اللَّه طلقها تطليقة واحدة فَحُسِبَتْ من طلاقها، وراجعها عبد اللَّه كما أمره رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم. وحدثنيه إسحاق بن منصور أخبرنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا محمد بن حرب حدثنى الزُّبيدى عن الزهرى بهذا الإسناد غير أنه قال: قال ابن عمر: فراجعتها وحَسَبْتُ لها التطليقةَ التى طَلَّقْتُهَا. وحدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وزهير بن حرب وابن نمير "واللفظ لأبى بكر" قالوا: حدثنا وكيع عن سفيان عن محمد بن عبد الرحمن (مولى آل طلحة) عن سالم عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهى حائض فذكر ذلك عُمَرُ للنبى صلى الله عليه وسلم، فقال:"مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا، وحدثنى أحمد بن عثمان بن حكيم الأوْدِىُّ حدثنا خالد بن مَخْلَد حدثنى سليمان "وهو ابن بلال" حدثنى عبد اللَّه بن دينار عن ابن عمر أنه طلق

ص: 195

امرأته وهى حائض، فسأل عمر عن ذلك رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"مره فليراجعها حتى تطهر، ثم تحيض حيضة أخرى ثم تطهر، ثم يطلق بعد ذلك أو يمسك" وحدثنى على بن حُجْر السعدى حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن سيرين قال: مكثت عشرين سنة يحدثنى من لا أتهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثًا وهى حائض فأُمِرَ أن يراجعها فجعلت لا أتَّهِمُهُم ولا أعرف الحديث حتى لقيت أبا غَلَّاب يونس بن جبير الباهلى وكان ذا ثَبَتٍ فحدثنى أنه سأل ابن عمر فحدثه أنه طلق امرأته تطليقة وهى حائض فأُمر أن يَرْجِعَها قال: قلت: أفَحُسِبَتْ عليه؟ قال: فمه أوَ إن عجز واستحمق. وحدثناه أبو الربيع وقتيبة قالا: حدثنا حماد عن أيوب بهذا الإِسناد ونحوه غير أنه قال: فسأل عمرُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم فأمره، وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد حدثنى أبى عن جدى عن أيوب بهذا الإسناد وقال فى الحديث: فسأل عمر النبىَّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأمره أن يراجعها حتى يطلقها طاهرا من غير جماع وقال: يطلقها فى قُبُل عدتها. وحدثنى يعقوب بن إبراهيم الدورقى عن ابن علية عن يونس عن محمد بن سيرين عن يونس بن جبير قال: قلت لابن عمر: رجل طلق امرأته وهى حائض فقال: أتعرف عبد اللَّه بن عمر فإنه طلق امرأته وفى حائض فأتى عمر النبىَّ صلى الله عليه وسلم فسأله فأمره أن يرجعها ثم تستقبل عدتها. قال: فقلت له: إذا طلق الرجل امرأته وهى حائض أتَعتَدُّ بتلك التطليقة؟ فقال: فمه أوَ إن عجز واستحمق؟

ص: 196

حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قال ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت يونس بن جبير قال: سمعت ابن عمر يقول: طلقت امرأتى وهى حائض فأتى عمر النبى صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "ليراجعها، فإذا طهرت فإن شاء فليطلقها" قال: فقلت لابن عمر: أفاحْتَسَبْتَ بها؟ قال: ما يمنعه؟ أرأيت إن عجز واستحمق؟ . حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا خالد بن عبد اللَّه عن عبد الملك عن أنس بن سيرين قال: سألت ابن عمر عن امرأته التى طلَّق فقال: طَلَّقْتُهَا وهى حائض فَذُكِرَ ذلك لِعُمَرَ فذكره للنبىَّ صلى الله عليه وسلم فقال: "مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلقها لطهرها" قال: فراجعتها ثم طلقتها لطهرها. قلتُ: فاعْتَدَدْت بتلك التطليقة التى طلقت وهى حائض؟ قال: ما لِى لا أعْتَدُّ بها وإن كنت عَجَزْتُ واسْتَحْمَقْتُ. حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قال ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أنس بن سيرين أنه سمع ابن عمر قال: طلقت امرأتى وهى حائض فأتى عمر النبىَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "مره فليراجعها ثم إذا طهرت فليطلقها" قلت لابن عمر: أفاحْتَسَبْتَ بتلك التطليقة؟ قال: فمه؟ وحدثنيه يحيى ابن حبيب حدثنا خاند بن الحارث ح وحدثنيه عبد الرحمن بن بشر حدثنا بهز قالا: حدثنا شعبة بهذا الإِسناد غير أن فى حديثهما: "ليرجعها" وفى حديثهما قال: قلت له: أَتَحْتَسِبُ بها؟ قال: فمه وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج

ص: 197

أخبرنى ابن طاوس عن أبيه أنه سمع ابن عمر يُسْألُ عن رجل طلق امرأته حائضا فقال: أتعرف عبد اللَّه بن عمر؟ قال: نعم قال: فإنه طلق امرأته حائضًا فذهب عمر إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فأمره أن يراجعها قال: لم أسمعه يزيد على ذلك "لأبيه" وحدثنى هارون بن عبد اللَّه حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج أخبرنى أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن "مولى عزة" يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع ذلك: كيف ترى فى رجل طلق امرأته حائضا؟ فقال: طلق ابنُ عمر امرأته وهى حائض على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسأل عمرُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إن عبد اللَّه بن عمر طلق امرأته وهى حائض فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: "ليراجعها" فردها، وقال:"إذا طهرت فليطلق أو ليمسك" قال ابن عمر: وقرأ النبى صلى الله عليه وسلم {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وحدثنى هارون بن عبد اللَّه حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن أبى الزبير عن ابن عمر نحو هذه القصة. وحدثنيه محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرنى أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن (مولى عروة) يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع بمثل حديث حجاج. وفيه بعض الزيادة. قال مسلم: أخطأ حيث قال: عروة. إنما هو مولى عزة. اهـ وقراءة "فطلقوهن فى قبل عدتهن" شاذة ليست قرآنا ولا تجوز القراءة بها. وقول مسلم: وفيه بعض الزيادة لعله يشير إلى ما جاء فى رواية أبى الزبير عن ابن عمر قوله فى هذا الحديث: فردها

ص: 198

علىَّ ولم يرها شيئًا. وقد أخرجها أبو داود. وحذفها مسلم رحمه الله. قال أبو داود: روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة وأحاديثهم كلها على خلاف ما قال أبو الزبير اهـ. وقال ابن عبد البر: قوله "ولم يرها شيئًا" منكر لم يقله غير أبى الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه اهـ وقال الخطابى: قال أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا اهـ ونقل البيهقى فى المعرفة عن الشافعى أنه ذكر رواية أبى الزبير فقال: نافع أثبت من أبى الزبير والأثبت من الحديثين أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا. وقد وافق نافع غيره من أهل الثبت اهـ وقال النووى فى شرح مسلم: أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها فلو طلقها أثم ووقع طلاقه ويؤمر بالرجعة لحديث ابن عمر المذكور فى الباب، وشذ بعض أهل الظاهر فقال: لا يقع طلاقه لأنه غير مأذون له فيه، فأشبه طلاق الأجنبية والصواب الأول وبه قال العلماء كافة ودليلهم أمره بمراجعتها ولو لم يقع لم تكن رجعة. فإن قيل المراد بالرجعة الرجعة اللغوية وهى الرد إلى حالها الأول لا أنه تحسب عليه طلقة قلنا: هذا غلط لوجهين: أحدها أن حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية يقدم على حمله على الحقيقة اللغوية كما تقرر فى أصول الفقه. الثانى: أن ابن عمر صرح فى روايات مسلم وغيره بأنه حسبها عليه طلقة. واللَّه أعلم. وأجمعوا على أنه إذا طلقها يؤمر برجعتها كما ذكرنا اهـ وقال الحافظ فى الفتح: قال النووى: شذ بعض أهل الظاهر فقال: إذا طلق الحائض لم يقع الطلاق لأنه غير مأذون فيه فأشبه طلاق الأجنبية. وحكاه الخطابى عن الخوارج والروافض وقال ابن عبد البر: لا يخالف فى ذلك إلا

ص: 199

أهل البدع والضلال. يعنى الآن قال: وروى مثله عن بعض التابعين وهو شذوذ، وحكاه ابن العربى وغيره عن ابن علية يعنى إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذى قال الشافعى فى حقه: إبراهيم ضال، جلس فى باب الضوال يضل الناس، وكان بمصر، وله مسائل ينفرد بها، وكان من فقهاء المعتزلة. وقد غلط فيه من ظن أن المنقول عنه المسائل الشاذة أبوه وحاشاه فإنه من كبار أهل السنة اهـ هذا والادعاء بأن طلاق الحائض لا يقع لأنه بدعة وأن قوله عليه الصلاة والسلام:"من أحدث فى أمرنا ما ليس منه فهو رد" يدل على عدم وقوع طلاق الحائض، هذا الادعاء مردود لأنه يلزم على ذلك أن من طلق امرأته ثلاثًا بلفظ واحد أنه لا يقع شئ لأنه -لا شك- طلاق غير مسنون فهل يقول بذلك أحد من أهل الفقه بالإسلام؟ وإن كان قال به بعض أهل الأهواء والشذوذ، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفقنا اللَّه وإياكم للاستمساك بسنته، ونسأله جل وعلا أن يحشرنا فى زمرته وأن يسقينا من حوضه صلى الله عليه وسلم.

هذا وقوله فى الحديث "فمه" قال فى النهاية: أى فماذا؟ للاستفهام فأبدل الألف هاء للوقف والسكت اهـ وقال الحافظ فى الفتح: أصله فما وهو استفهام فيه اكتفاء أى فما يكون إن لم تحتسب؟ ويحتمل أن تكون الهاء أصلية، وهى كلمة تقال للزجر أى كف عن هذا الكلام فإنه لابد من وقوع الطلاق بذلك، قال ابن عبد البر: قول ابن عمر "فمه" معناه فأى شئ يكون إذا لم يعتد بها؟ إنكارا لقول السائل: أيعتد بها؟ فكأنه قال: وهل من ذلك بدٌّ؟ وقوله: أرأيت إن عجز واستحمق؟ أى إن عجز عن

ص: 200

فرض فلم يقمه أو استحمق فلم يأت به أيكون ذلك عذرا له؟ . وقال الخطابى: فى الكلام حذف أى أرأيت إن عجز واستحمق أيسقط عنه الطلاق حمقُه أو يبطله عجزه؟ وحذف الجواب لدلالة الكلام عليه اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

لا يجوز طلاق المرأة وهى حائض.

2 -

يقع طلاق الرجل إذا طلق امرأته وهى حائض.

3 -

يجب على من طلق امرأته وهى حائض أن يردها إذا لم يكن طلاقه هذا مكملا للثلاث.

4 -

أن الطلاق الذى أمر اللَّه به هو أن يكون فى طهر لم تجامع المرأة فيه.

5 -

أن طلاق الحامل ليس من الطلاق البدعى.

6 -

أن جمع تطليقتين أو ثلاث بلفظ واحد معصية للَّه عز وجل.

7 -

أن من طلق امرأته ثلاثًا بلفظ واحد بانت منه امرأته ووقع عليه الثلاث.

8 -

مشروعية الطلاق فى الإسلام.

ص: 201

3 -

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: كان الطلاق على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر طلاقُ الثلاث واحدةٌ، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا فى أمر كانت لهم فيه أناةٌ. فلو أمضيناه عليهم فَأمْضَاهُ عليهم" رواه مسلم.

ص: 201

[المفردات]

استعجلوا فى أمر كانت لهم فيه أناة: أى أسرعوا وأكثروا فى شأن كانت لهم فيه مهلة وبقية استمتاع لانتظار المراجعة.

فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم: أى فلو قضينا عليهم بظاهر ألفاظهم وألزمناهم بذلك، فألزمهم بذلك.

[البحث]

قال مسلم فى صحيحه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع "واللفظ لابن رافع" قال إسحاق أخبرنا وقال ابن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما وساق الحديث باللفظ الذى ذكره المصنف ثم قال مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا رَوْح بن عبادة أخبرنا ابن جريج ح وحدثنا ابن رافع "واللفظ له" حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرنى ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أنما كانت الثلاث تُجْعَلُ واحدةً على عهد النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وثلاثا من إمارة عمر فقال ابن عباس: نعم. وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن أيوب السختيانى عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هَاتِ من هَنَاتك ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبى بكر واحدة؟ فقال: قد كان ذلك فلما كان فى عهد عمر تتابع الناس فى الطلاق فأجازه عليهم اهـ وقول أبى الصهباء لابن عباس: "هات من هناتك" أى أخبارك وأمورك المستغربة، وهو يشعر بأن هذا الأمر وهو

ص: 202

أن الثلاث تقع واحدة وأن عمر رضى اللَّه عنه هو الذى جعله ثلاثًا أنه من الأمور المستغربة عند المسلمين، علما بأنه قد ثبت عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما أنه كان يفتى بعد موت عمر رضى اللَّه عنه بأن من طلق ثلاثًا بلفظ واحد أنه تقع عليه الثلاث فقد أخرج أبو داود بسند صحيح من طريق مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا فسكت حتى ظننت أنه سيردها إليه فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس؟ إن اللَّه قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} وإنك لم تتق اللَّه فلا أجدلك مخرجا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك. كما تقدم فى بحث الحديث السابق ما رواه مسلم عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أنه قال لمن طلق امرأته ثلاثًا: وأما أنت طلقتها ثلاثًا فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك، وبانت منك" وروى البخارى فى باب من أجاز طلاق الثلاث من حديث سهل بن سعد الساعدى فى قصة المتلاعنين قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول اللَّه إن أمسكتها فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. ثم ساق البخارى من حديث عائشة رضى اللَّه عنها أن رجلا طلق امرأته ثلاثًا فتزوجت فَطَلَّق، فسئل النبى صلى الله عليه وسلم: أتحل للأول؟ قال: "لا حتى يذوق عُسَيْلَتَهَا كما ذاق الأول. وقد اعتبر حديث الباب عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما من الأحاديث المشكلة قال النووى: وأما حديث ابن عباس فاختلف العلماء فى جوابه وتأويله فالأصحّ أن معناه أنه كان فى أول الأمر إذا قال لها: أنت طالق أنت طالق أنت طالق ولم ينو تأكيدا

ص: 203

ولا استئنافا يحكم بوقوع طلقة لقلة إرادتهم الاستئناف بذلك فحمل على الغالب الذى هو إرادة التأكيد فلما كان فى زمن عمر رضى اللَّه عنه وكثر استعمال الناس بهذه الصيغة وغلبت منهم إرادة الاستئناف بها حملت عند الإِطلاق على الثلاث عملا بالغالب السابق إلى الفهم منها فى ذلك العصر اهـ وقد حمل النسائى حديث الباب على ما لو طلق امرأته غير المدخول بها ثلاث تطليقات متفرقات. وقد حاول بعض من فى قلبه مرض على أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخاصة عمر رضى اللَّه عنه أن يلمز الخليفة الراشد بقصة حديث الباب، ويجهل هذا اللامز أو يتجاهل بأن عمر رضى اللَّه عنه كان وقافا عند سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سباقا للأخذ بها منه ومن غيره من ذوى الشذوذ وهو الذى كان ينزل القرآن بتصويب رأيه وهو الذى كان إذا سلك طريقا سلك الشيطان طريقا آخر كما ذكر ذلك عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وسيجئ مزيد بحث لهذا عند الكلام على الحديث الرابع والخامس من أحاديث هذا الباب إن شاء اللَّه تعالى.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن طلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثا.

ص: 204

4 -

وعن محمود بن لبيد رضى اللَّه عنه قال: أُخْبِرَ رَسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان ثم قال:"أيُلْعَبُ بكتاب اللَّه وأنا بين أَظْهُرِكُم" حتى قام رجل فقال: يا رسول اللَّه أَلا أقْتُلُهُ؟ رواه النسائى ورواته مُوَثَّقُون.

ص: 204

[المفردات]

محمود بن لبيد: هو محمود بن لبيد بن عقبة بن رافع بن امرئ القيس بن ريد بن عبد الأشهل الأنصارى رضى اللَّه عنه قال ابن سعد: ولد محمود بن لبيد فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وفى أبيه لبيد بن عقبة جاءت رخصة الإِطعام لمن لا يقدر على الصوم، وسمع محمود بن لبيد من عمر اهـ وقال البخارى: له صحبة وقال فى التقريب: صحابى صغير وجل روايته عن الصحابة اهـ وقد كان محمود من كبار الفقهاء المفتين. وتوفى سنة ست وتسعين عن تسع وتسعين سنة.

ثلاث تطليقات جميعا: يعنى قال لها بلفظ واحد: أنت طالق ثلاثًا.

أيلعب بكتاب اللَّه وأنا بين أظهركم: أى أيهمل العمل بكتاب اللَّه ويستخف بتطبيق أحكامه ويستهزأ بها وأنا حى بينكم؟ .

ألا أقتله: أى أتأذن لى أن أضرب عنقه؟ .

[البحث]

قال النسائى: أخبرنا سليمان بن داود عن ابن وهب قال: أخبرنى مخرمة عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد قال: أُخْبِر

ص: 205

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن رجل طلَّق امرأته ثلاث تطليقات جميعا. فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب اللَّه وأنا بين أظهركم حتى قام رجل وقال: يا رسول اللَّه ألا أقتله؟ اهـ قال المصنف هنا: ورواته موثقون وقال فى الفتح ورجاله ثقات لكن محمود بن لبيد ولد فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم ولم يثبت له منه سماع، وإن ذكره بعضهم فى الصحابة فلأجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد فى مسنده وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شئ صرح فيه بالسماع وقد قال النسائى بعد تخريجه: لا أعلم أحدًا رواه غير مخرمة بن بكير يعنى ابن الأشج عن أبيه اهـ ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم فى عدة أحاديث، وقد قيل: إنه لم يسمع من أبيه، وعلى تقدير صحة حديث محمود فليس فيه بيان أنه هل أمضى عليه الثلاث مع إنكاره عليه إيقاعها مجموعة أو لا؟ فأقل أحواله أن يدل على تحريم ذلك وإن لزم وقد تقدم فى الكلام على حديث ابن عمر فى طلاق الحائض أنه قال لمن طلق ثلاثًا مجموعة: عصيت ربك وبانت منك امرأتك اهـ وقال فى التقريب: مخرمة بن بكير بن عبد اللَّه بن الأشج أبو المسور المدنى، صدوق وروايته عن أبيه وجادة من كتابه قاله أحمد وابن معين وغيرهما وقال ابن المدينى: سمع من أبيه قليلا اهـ.

ص: 206

5 -

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: طلق أبو رُكانة أُمَّ رُكانة فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "راجع امرأتك" فقال: إنى

ص: 206

طلقتها ثلاثًا. قال: "قد علمت راجعها" رواه أبو داود وفى لفظ لأحمد: طلق أبو ركانة امرأته فى مجلس واحد ثلاثًا فحزن عليها فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فإنها واحدة" وفى سندهما ابن إسحاق، وفيه مقال: وقد روى أبو داود من وجه آخر أحسن منه: أن أبا ركانة طلق امرأته سُهَيْمَةَ ألبَتَّة فقال: واللَّه ما أردت بها إلا واحدة فردها إليه النبى صلى الله عليه وسلم.

[المفردات]

أبو ركانة: قوله "أبو ركانة" الظاهر أنه خطأ وصوابه "ركانة" وكذلك قوله: "أم ركانة" وركانة بضم أوله وتخفيف الكاف هو ابن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطلبى من مسلمة الفتح، نزل المدينة ومات فى أول خلافة معاوية رضى اللَّه عنهما.

قد علمت راجعها: أى قد علمت أنك طلقتها ثلاثًا ومع ذلك رُدَّها.

وفى لفظ لأحمد: أى من حديث ابن عباس رضى اللَّه عنهما.

فإنها واحدة: أى إن الثلاث بلفظ واحد تقع واحدة.

وفى سندهما ابن إسحاق وفيه مقال: أى وفى سند أبى داود وأحمد محمد بن إسحاق بن يسار وهو مختلفٌ فيه.

ص: 207

محمد بن إسحاق: هو محمد بن إسحاق بن يسار أبو بكر المطلبى مولاهم المدنى نزيل العراق إمام المغازى قال فى التقريب: صدوق يدلس ورمى بالتشيع والقدر مات سنة خمسين ومائة وقيل بعدها اهـ.

من وجه آخر أحسن منه: أى من طريق أخرى أحسن من الطريق الأولى وهذه الطريق هى طريق نافع بن عجير ابن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب المطلبى. قيل له صحبة أن ركانة إلخ.

[البحث]

ذكر الحافظ فى الفتح أن هذا الحديث رواه محمد بن إسحاق صاحب المغازى عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثًا فى مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدًا فسأله النبى صلى الله عليه وسلم كيف طلقتها؟ قال: ثلاثًا فى مجلس واحد فقال النبى صلى الله عليه وسلم. تلك واحدة فارتجعها إن شئت فارتجعها. اهـ وابن إسحاق فيه ما أشرت إليه فى مفردات هذا الحديث. وشيخه داود بن الحصين ثقة إلا فى عكرمة وهذا الحديث عنه عن عكرمة. وقال الحافظ فى التلخيص: حديث: أن ركانة بن عبد يزيد أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال إنى طلقت امرأتى سهيمة ألبتة وواللَّه ما أردت إلا واحدة، فردها عليه، الشافعى وأبو داود والترمذى وابن ماجة واختلفوا هل هو من مسند ركانة أو مرسل عنه وصححه أبو داود

ص: 208

وابن حبان والحاكم. وأعله البخارى بالاضطراب، وقال ابن عبد البر فى التمهيد: ضعفوه. وفى الباب عن ابن عباس رواه أحمد والحاكم وهو معلول أيضًا. اهـ وقال الشوكانى فى نيل الأوطار عن حديث ركانة: فى إسناده الزبير بن سعيد الهاشمى وقد ضعفه غير واحد.

ص: 209

6 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ثلاث جِدُّهُنَّ جِدٌّ وهزلهنَّ جِد: النكاح والطلاق والرجعة. رواه الأربعة إلا النسائى وصححه الحاكم وفى رواية لابن عدى من وجه آخر ضعيف: "الطلاق والنِّكَاح والعتاق" وللحارث بن أبى أسامة من حديث عبادة بن الصامت رفعه: لا يجوز اللعب فى ثلاث: الطلاق والنكاح والعتاق فمن قالهن فقد وَجَبْنَ" وسنده ضعيف.

[المفردات]

جِدُّهُنَّ جِدٌّ: أى التلفظ بن على سبيل القصد والعزم مُلْزِمٌ. والجد بكسر الجيم.

وهَزْلُهُنَّ جِد: أى والتلفظ بن على سبيل المزح واللعب مُلْزِم.

النكاح: أى التزويج.

والطلاق: أى والألفاظ التى يقع بها مفارقة الزوجة.

والرجعة: أى وإعادة الزوجة المطلقة إلى عصمة الزوج.

وفى رواية لابن عدى: أى من طريق أبى هريرة رضى اللَّه عنه

ص: 209

والعتاق: أى وتحرير الأرقاء.

رفعه: أى أسنده إلى النبى صلى الله عليه وسلم.

لا يجوز اللعب فى ثلاث: أى لا يحل التلفظ بالتطليق أو التزويج أو تحرير الأرقاء على سبيل الهزل والمزح دون إرادة ذلك.

فمَن قَالَهُنَّ فَقَدْ وَجَبْنَ: أى فمن تلفظ بهذه الألفاظ على سبيل المزح والهزل فقد لزمه ما قال.

[البحث]

قال الحافظ فى تلخيص الحبير: حديث "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق والنكاح والعتاق" الطبرانى من حديث فضالة ابن عبيد بلفظ: ثلاث لا يجوز اللعب فيهن: "الطلاق والنكاح والعتق" وفيه ابن لهيعة ورواه الحارث بن أبى أسامة فى مسنده عن بشر بن عمر عن ابن لهيعة عن عبيد اللَّه بن أبى جعفر عن عبادة بن الصامت رفعه "لا يجوز اللعب فى ثلاث: الطلاق والنكاح والعتاق. فمن قالهن فقد وجبن" وهذا منقطع. وفى الباب عن أبى ذر رفعه: من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز، ومن أعتق وهو لاعب فعتاقه جائز، ومن نكح وهو لاعب فنكاحه جائز. أخرجه عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد عن صفوان بن سليم عنه، وهو منقطع، وأخرج عن على وعمر نحوه موقوفا. وفى هذا رد على ابن العربى وعلى النووى حيث أنكرا على الغزالى إيراد هذا اللفظ ثم قال النووى: المعروف اللفظ الأول بالرجعة بدل الطلاق، وقال أبو بكر ابن العربى: لا يصح قوله:

ص: 210

ويروى: بدل العتاق الرجعة، قلت: هذا هو المشهور فيه. وكذا رواه أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه والحاكم والدارقطنى من حديث عطاء عن يوسف بن ماهك عن أبى هريرة باللفظ المذكور أولًا. وفيه بدل العتاق الرجعة. قال الترمذى: حسن وقال الحاكم: صحيح وأقره صاحب الإِلمام. وهو من رواية عبد الرحمن بن أردك وهو مختلف فيه. قال النسائى: منكر الحديث ووثقه غيره، فهو على هذا حسن (تنبيه) عطاء المذكور فيه هو ابن أبى رباح صرح به فى رواية أبى داود والحاكم ووهم من ابن الجوزى فقال: هو عطاء بن عجلان وهو متروك. اهـ هذا وقد قال الحافظ فى التقريب: عبد الرحمن بن حبيب ابنْ أردك المدنى المخزومى مولاهم ويقال حبيب بن عبد الرحمن: لين الحديث اهـ.

ص: 211

7 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللَّه تجاوز عن أمتى ما حَدَّثَتْ به أنفُسَهَا ما لم تَعْمَلْ أو تَكَلَّم" متفق عليه.

[المفردات]

تجاوز: أى عفا.

ما حدثت به أنفسها: أى ما وسوست به صدورها وجرى فى خواطرها دون اقتناع به.

ما لم تعمل أو تكلم: أى ما لم يخرج إلى التطبيق العملى أو يفصح به اللسان.

ص: 211

[البحث]

إيراد هذا الحديث هنا للدلالة على أن الإِنسان لو حدثته نفسه بطلاق امرأته فإن اللَّه تعالى لا يؤاخذه بذلك ولا يعتبر ذلك طلاقا، حتى يتلفظ به والمعروف عند اليهود أنه متى نوى اليهودى الطلاق حرمت عليه امرأته بمجرد نيته. وقد وضع اللَّه تبارك وتعالى هذا الإِصر عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ولفظ هذا الحديث عند البخارى من طريق أبى هريرة رضى اللَّه عنه عن النبى قال: "إن اللَّه تجاوز عن أمتى ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم" وقال قتادة: إذا طلق فى نفسه فليس بشئ اهـ قال الحافظ فى الفتح: وقوله "ما حدثت به أنفسها بالفتح على المفعولية وذكر المطرزى عن أهل اللغة أنهم يقولونه بالضم يريدون بغير اختيارها اهـ وقد نقل الحافظ فى الفتح عن الخطابى الإِجماع على أن من عزم على الظهار لا يصير مظاهرا قال: كذلك الطلاق. وكذا لو حدث نفسه بالقذف لم يكن قاذفا اهـ وفى هذا الحديث دليل ظاهر للرد على الذين يدعون أن حقيقة الكلام هى الكلام النفسى وأن الألفاظ هى دليل الكلام وليست هى الكلام وقد استدلوا

ص: 212

لباطلهم ببيت مكذوب منسوب للأخطل النصرانى زعموا أنه يقول فيه:

إن الكلام لفى الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أثبت فى هذا الحديث المتفق عليه أن حديث النفس غير الكلام.

والحمد للَّه فإن مذهب أهل السنة والجماعة قائم على الأدلة الصريحة من كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إذ أنك لا تمر بمسألة فى العقائد عند أهل السنة إلا وتجد دليلها آية أو آيات من كتاب اللَّه أو حديثا أو أحاديث صحيحة صريحة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخلاف مذهب غيرهم فإنك لا تجد لديهم إلا تَخَبُّطًا أو قياسًا غير صحيح أو نحو ذلك مما زعموا أنهم استنتجوه بعقولهم المُخَبَّلة وأرائهم المضللة. والحمد للَّه رب العالمين.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن من نوى أن يطلق امرأته ولم يتلفظ بالطلاق أو لم يعمل عملا ينافى الحياة الزوجية فإنه لا يقع عليه شئ.

2 -

فضل اللَّه تبارك وتعالى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بوضع الإِصر عنهم.

3 -

الرد على من زعم أن حقيقة الكلام هى النفسى.

ص: 213

8 -

وعن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللَّه وضع

ص: 213

عن أمتى الخطأ والنسيان وما اسْتُكْرِهُوا عليه" رواه ابن ماجه والحاكم وقال أبو حاتم: لا يثبت.

[المفردات]

وضع عن أمتى: أى أسقط عن أمتى.

الخطأ: أى إثم ما قد يرتكبونه على غير وجه العمد وما يقعون فيه بدون قصد.

والنسيان: أى وما يرتكبونه وهم ذاهلون عما يفعلونه.

وما استكرهوا عليه: أى وما يفعلونه وهم مكرهون على فعله ممن يقدر على تنفيذ ما تهددهم به، وما أجبروا على فعله دون إرادة منهم بل رغم أنوفهم.

[البحث]

هذا الحديث قد روى بعدة أسانيد قال ابن أبى حاتم: إنه سأل أباه عن أسانيده فقال: هذه أحاديث منكرة كلها موضوعة، وقال عبد اللَّه بن أحمد فى العلل: سألت أبى عنه فأنكره جدا وقال: ليس يروى إلا عن الحسن عن النبى صلى الله عليه وسلم اهـ والظاهر من نصوص الشريعة أن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر وفى ذلك يقول اللَّه عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا

ص: 214

مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنية ولكل امرئٍ ما نوى" وغير العاقل المختار لا نية له فيما يقول أو يفعل وكذلك الغالط والناسى والمكره على الشئ. قال البخارى فى صحيحه: وقال على: "ألم تعلم أن القلم رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق وعن الصبى حتى يدرك وعن النائم حتى يستيقظ" قال الحافظ فى الفتح: وصله البغوى فى "الجعديات" عن على بن الجعد عن شعبة عن الأعمش عن أبى ظبيان عن ابن عباس أن عمر أتى بمجنونة قد زنت وهى حبلى فأراد أن يرجمها فقال له على: أما بلغك أن القلم قد وضع عن ثلاثة. فذكره. وتابعه ابن نمير وكيع وغير واحد عن الأعمش، ورواه جرير بن حازم عن الأعمش فصرح فيه بالرفع، أخرجه أبو داود وابن حبان من طريقه وأخرجه النسائى من وجهين آخرين عن أبى ظبيان مرفوعا وموقوفا لكن لم يذكر فيهما ابن عباس جعله عن أبى ظبيان عن على ورجح الموقوف على المرفوع اهـ وقد قال النسائى فى باب من لا يقع طلاقه من الأزواج: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدى قال: حدثنا حماد بن سلمة عن حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق. وسيأتى آخر الباب وهو الحديث الرابع عشر من أحاديث هذا الباب.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن الطلاق إنما يقع من الشخص إذا كان متأهلا للأحكام الشرعية

ص: 215

2 -

وأن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر.

ص: 216

9 -

عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: إذا حرَّم الرجلُ امرأته ليس بشئ، وقال:"لقد كان لكم فى رسول اللَّه أسوة حسنة" رواه البخارى. ولمسلم عن ابن عباس: إذا حرم الرجل امرأته فهو يمين يكفرها.

[المفردات]

إذا حرم الرجل امرأته: أى قال هى علىَّ حرام أو محرمة أو نحو ذلك ليس بشئ: أى لا يكون ذلك طلاقا.

وقال: أى ابن عباس مستدلا على ما ذهب إليه.

أسوة حسنة: أى قدوة صالحة.

فهو يمين يكفرها: أى فإنه يلزمه فى ذلك كفارة يمين فقط وهى إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام وليس ذلك بطلاق.

[البحث]

قد يفهم من قول المصنف: ولمسلم عن ابن عباس: إذا حرم الرجل امرأته فهو يمين يكفرها. أن مسلم تفرد بهذا اللفظ وليس الأمر كذلك فقد أخرج البخارى أيضًا عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما هذا الحديث بلفظ: إذا حرم

ص: 216

الرجل امرأته فإنما هى يمين يكفرها" وقد قال المصنف فى تلخيص الحبير: وفى الصحيحين عن ابن عباس فى الحرام بيمين يكفرها اهـ وهذا فهم من ابن عباس رضى اللَّه عنهما واستنباط من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} والصحيح أن سبب نزول هاتين الأيتين هو أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حرم على نفسه العسل ابتغاء مرضات بعض نسائه صلى الله عليه وسلم والظاهر الفرق بين تحريم الطعام والشراب وتحريم الزوجة إذ أن من قال على طعام أو شراب مباح هو حرام لا يكون حراما بتحريمه لكن لو حلف أن لا يتناوله فكفارته هى كفارة اليمين بخلاف الزوجة فإنه قد يحرمها على نفسه بالطلاق والظهار وقد أشار البخارى رحمه الله إلى هذا الفرق فقال: باب من قال لامرأته: أنت علىَّ حرام وقال الحسن: نيته، وقال أهل العلم: إذا طلق ثلاثًا فقد حرمت عليه، فسموه حراما بالطلاق والفراق، وليس هذا كالذى يحرم الطعام لأنه لا يقال للطعام الحل حرام، ويقال للمطلقة حرام وقال فى الطلاق ثلاثًا "لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" وقال الليث عن نافع قال: كان ابن عمر إذا سئل عمن طلق ثلاثًا، قال: لو طلقت مرة أو مرتين؟ فإن النبى صلى الله عليه وسلم أمرنى بهذا، فإن طلقتها ثلاثًا حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك" اهـ وسبب نزول صدر سورة التحريم قد ثبت فى الصحيحين أنه من أجل أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حرَّم شرب العسل على

ص: 217

نفسه، أما كون سبب النزول هو تحريم مارية فليس بصحيح، والعجيب قول الحافظ فى الفتح: وقد أخرج النسائى بسند صحيح عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها. فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها فأنزل اللَّه تعالى الآية {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وهذا أصح طرق هذا السبب اهـ ومن العجيب كذلك أن الصنعانى نقل فى سبل السلام حديث النسائى هذا ثم قال: وهذا أصح طرق سبب النزول. اهـ وقد ذكر القرطبى رحمه الله فى سبب النزول ثلاثة أقوال: الأول أنها نزلت فى قصة شرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العسل عند بعض نسائه "زينب بنت جحش أو حفصة بنت عمر رضى اللَّه عنهم" وقول عائشة وبعض نسائه رضى اللَّه عنهن له صلى الله عليه وسلم: أكلت مغافير وقوله صلى الله عليه وسلم "شربت عسلا ولن أعود إليه" فنزل: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وقد سقت ألفاظ هذا الحديث عند الشيخين فيما تقدم قريبا عند الكلام على الحديث السادس من أحاديث باب القَسْم. والثانى أنها نزلت فى المرأة التى وهبت نفسها للنبى صلى الله عليه وسلم قال القرطبى: وقول ثالث: إن التى حرم مارية القبطة، وقد كان أهداها له المقوقس ملك الإِسكندرية، وساق أثر أنه صلى الله عليه وسلم واقعها فى بيت حفصة فلما علمت حفصة بذلك حرَّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مارية على نفسه. ثم قال القرطبى: أصح هذه الأقوال أولها، وأضعفها أوسطها قال ابن العربى: أما ضعفه فى السند فلعدم عدالة رواته وأما ضعفه فى معناه فلأن رد

ص: 218

النبى صلى الله عليه وسلم الموهوبة ليس تحريما لها، لأنَّ من رد ما وُهبَ له لم يحرم عليه. إنما حقيقة التحريم بعد التحليل، وأما من روى أنه حرم مارية القبطية فهو أمثل فى السند وأقرب إلى المعنى لكنه لم يدون فى الصحيح، وروى مرسلا اهـ قلت: وليس قوله: أمثل فى السند أنه مقدم على ما رواه البخارى ومسلم فى سبب النزول بل المعنى أنه أمثل من سند القول الثانى أنها نزلت فى تحريم الموهوبة. وكذلك قوله: أقرب للمعنى فهو أقرب كذلك من القول الثانى. أما القول الأول فى سبب النزول فهو متفق عليه كما ذكرت قريبا. هذا وقد قال القاضى عياض فى قصة مارية هذه: إن هذه القصة لم تأت من طريق صحيح.

ص: 219

10 -

وعن عائشة رضى اللَّه عنها أن ابنة الجَوْن لما أُدْخِلَتْ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ودنا منها قالت: أعوذ باللَّه منك فقال: "لقد عُذت بعظيم الْحَقِى بأهلكِ" رواه البخارى.

[المفردات]

عذت بعظيم: أى استَجَرْتِ بكبير.

الحقى بأهلك: أى قد فارقتك فاذهبى إلى دار أبيك.

[البحث]

قد تقدم الكلام على حديث عائشة رضى اللَّه عنها هذا عند بحث الحديث الحادى عشر من أحاديث باب الصداق. والمقصود من ذكر

ص: 219

هذا الحديث هنا هو أن هذا اللفظ إذا أريد به الطلاق كان طلاقا بالنية. أما إذا قال الرجل لزوجته: الحقى بأهلك ولم يرد طلاقا فإنه لا يكون هذا القول طلاقا لما ثبت فى الصحيحين من حديث كعب بن مالك رضى اللَّه عنه فى قصة الثلاثة الذين خلفوا وهم كعب بن مالك ومُرارة بن الربيع العَمرى وهلال بن أمية الواقفى، قال كعب: حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسولُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم يأتينى فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت: أُطلِّقُهَا أم ماذا أفعل؟ قال: لا. بل اعتزلها ولا تَقْرَبْها، وأرسل إلى صاحِبَيَّ مثلَ ذلك، فقلت لامرأتى: الحقى بأهلك فتكونى عندهم حتى يقضى اللَّه فى هذا الأمر. الحديث وهو دليل ظاهر على أن كلمة "الحقى بأهلك" قد تكون طلاقا وقد لا تكون طلاقا والذى يحدد ذلك هو نية المتكلم بها.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن كلمة "الحقى بأهلك" قد تستعمل كناية عن الطلاق إذا أريد بها ذلك.

2 -

أن الألفاظ التى تحتمل الطلاق وغيره لا تكون طلاقا إلا بالنية.

ص: 220

11 -

وعن جابر رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد مِلْكٍ" رواه أبو يعلى وصححه الحاكم، وهو معلول، وأخرج ابن ماجه عن المسور بن

ص: 220

مخرمة مثلَه، وإسناده حسن لكنه معلول أيضًا.

[المفردات]

لا طلاق إلا بعد نكاح: أى لا يملك الرجل حق تطليق المرأة ويعتبر طلاقه طلاقا إلا بعد أن يكون قد عقد عليها.

ولا عتق إلا بعد ملك: أى ولا يملك الإِنسان تحرير رقيق إلا إذا كان يملكه فمن عتق رقيقا وهو لا يملكه فلا قيمة لعتقه.

[البحث]

قال الحافظ فى تلخيص الحبير: حديث: لا طلاق إلا بعد نكاح ولا عتق إلا بعد ملك. هذا الحديث أخرجه الحاكم فى المستدرك وصححه من حديث جابر وقال: أنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه فقد صح على شرطهما من حديث ابن عمر وعائشة وعبد اللَّه ابن عباس ومعاذ بن جبل وجابر، انتهى. أما حديث ابن عمر فرواه نافع عنه بلفظ: لا طلاق إلا بعد نكاح، وإسناده ثقات، أخرجه ابن عدى عن ابن صاعد، قال ابن صاعد: غريب لا أعرف له علة. قلت: وقد بين ابن عدى علته. وأما حديث عائشة فمن رواية الزهرى عن عروة عنها قال ابن أبى حاتم فى العلل عن أبيه: حديث منكر، قلت: وسيأتى له طرق فى الكلام على حديث المسور، وقد رواه الحاكم من طريق حجاج بن منهال عن هشام الدستوائى عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة مرفوعا، وأما حديث ابن عباس فمن رواية عطاء بن أبى رباح عنه

ص: 221

أخرجه الحاكم من رواية أيوب بن سليمان الجزرى عن ربيعة عنه، وفيه من لا يعرف، وله طريق أخرى عند الدارقطنى من طريق سليمان بن أبى سليم عن يحيى بن أبى كثير عنه، وسليمان ضعيف، وأما حديث معاذ فمن رواية طاوس عن معاذ وهو مرسل، وله طريق أخرى عند الدارقطنى عن سعيد بن المسيب عن معاذ وهى منقطعة أيضًا وفيها يزيد بن عياض وهو متروك. وأما حديث جابر فمن رواية محمد بن المنكدر، وله طرق عنه بينتها فى تعليق التعليق، وقد قال الدارقطنى: الصحيح مرسل ليس فيه جابر وأعله ابن معين وغيره بشئ آخر سيأتى، ومن رواية أبى الزبير، رواه أبو يعلى الموصلى وفى إسناده مبشر بن عبيد وهو متروك قلت: وفى الباب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال الترمذى: هو أحسن شئ روى فى هذا الباب وهو عند أصحاب السنن بلفظ: ليس على رجل طلاق فيما لا يملك -الحديث- ورواه البزار من طريقه بلفظ: لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك، وقال البيهقى فى الخلافيات: قال البخارى: أصح شئ فيه وأشهره حديث عمرو بن شعيب، وحديث الزهرى عن عروة عن عائشة وعن على ومداره على جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن على وجويبر متروك، ورواه ابن الجوزى فى العلل من طريق أخرى عن على وفيه عبد اللَّه بن زياد بن سمعان وهو متروك، وفى الطبرانى من طريق عبيد اللَّه بن أبى أحمد بن جحش عن على وقد سبق فى باب الفئ والغنيمة، وعن المسور بن مخرمة

ص: 222

رواه ابن ماجه بإسناد حسن وعليه اقتصر صاحب الإِلمام لكنه اختلف فيه على الزهرى فقال على بن الحسين بن واقد عن هشام بن سعد عنه عن عروة عن المسور، وقال حماد بن خالد عن هشام بن سعد عن الزهرى عن عروة عن عائشة، وفيه عن أبى بكر الصديق وأبى هريرة وأبى موسى الأشعرى وأبى سعيد الخدرى وعمران بن حصين وغيرهم، ذكرها البيهقى فى الخلافيات. وروى الحاكم من طريق ابن عباس قال: ما قالها ابن مسعود وإن كان قالها فزلة من عالم فى الرجل يقول: إن تزوجت فلانة فهى طالق، قال اللَّه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ولم يقل: إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن، ورواه عنه بلفظ آخر، وفى آخره: فلا يكون طلاق حتى يكون نكاح، وهذا علقه البخارى. وقد أوضحته فى تعليق التعليق ثم قال الحافظ: ومقابل تصحيح الحاكم قول يحيى بن معين: لا يصح عن النبى صلى الله عليه وسلم: لا طلاق قبل نكاح، وأصح شئ فيه حديث ابن المنكدر عمن سمع طاوسا عن النبى صلى الله عليه وسلم مرسلا. وقال أبو داود الطيالسى: نا ابن أبى ذئب حدثنى من سمع عطاء عن جابر نحوه ورواه ابن أبى شيبة عن وكيع عن ابن أبى ذئب عن عطاء وابن المنكدر عن جابر، واستدرك الحاكم من حديث وكيع وهو معلول. ورواه أبو قرة فى سننه عن ابن جريج عن عطاء عن جابر مرفوعا. وقال ابن عبد البر فى الاستذكار: روى من وجوه إلا أنها عند أهل العلم بالحديث معلولة. اهـ وقوله قال ابن صاعد: غريب لا أعرف له

ص: 223

علة. قلت: وقد بين ابن عدى علته ثم يبين صاحب التلخيص هنا هذه العلة وبينها فى فتح البارى حيث قال: ولحديث ابن عمر طريق أخرى أخرجها ابن عدى من رواية عاصم بن هلال عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رفعه: لا طلاق إلا بعد نكاح. قال ابن عدى: قال ابن صاعد لما حدث به: لا أعلم له علة. قلت: استنكروه على ابن صاعد ولا ذنب له فيه. وإنما علته ضعف حفظ عاصم اهـ

وقد قال البخارى فى صحيحه: باب لا طلاق قبل نكاح وقول اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} وقال ابن عباس: جعل اللَّه الطلاق بعد النكاح، ويروى فى ذلك عن على وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبى بكر ابن عبد الرحمن وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة وأبان بن عثمان وعلى بن حسين وشريح وسعيد بن جبير والقاسم وسالم وطاوس والحسن وعكرمة وعطاء وعامر بن سعد وجابر بن زيد ونافع بن جبير ومحمد بن كعب وسليمان بن يسار ومجاهد والقاسم بن عبد الرحمن وعمرو بن هرم والشعبى أنها لا تطلق اهـ وقد بين الحافظ رحمه الله فى فتح البارى مَن وصل هذه التعليقات ومراتب أسانيدها عن هؤلاء الأئمة. ووصف أثر ابن عباس "لا طلاق قبل نكاح" بأن أحمد أخرجه -فيما رواه عنه حرب من مسائله من طريق قتادة عن عكرمة عنه وقال: سنده جيد، وأثر على رجاله ثقات إلا أنه من رواية

ص: 224

الحسن البصرى عن على ولم يسمع منه، وما رواه النزال بن سبرة عن على فى سنده ضعف. وأما أثر سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء بن أبى رباح فسنده صحيح. وكذلك أثر عروة بن الزبير سنده صحيح أيضًا. ونقل الحافظ فى الفتح أن الترمذى ذكر فى العلل أنه سأل البخارى: أى حديث فى الباب أصح؟ فقال: حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده وحديث هشام بن سعد عن الزهرى عن عروة عن عائشة، قلت: إن البشر بن السرى وغيره قالوا: عن هشام بن سعد عن الزهرى عن عروة مرسلا قال: فإن حماد بن خالد رواه عن هشام بن سعد فوصله. قلت: أخرجه ابن أبى شيبة عن حماد بن خالد كذلك وخالفهم على بن الحسين بن واقد فرواه عن هشام بن سعد عن الزهرى عن عروة عن المسور بن مخرمة مرفوعا أخرجه ابن ماجه وابن خزيمة فى صحيحه لكن هشام بن سعد أخرجا له فى المتابعات ففيه ضعف. وقد ذكر ابن عدى هذا الحديث فى مناكيره. قال الحافظ: ولما أورد الترمذى فى الجامع حديث عمرو ابن شعيب قال: ليس بصحيح اهـ كما صحح الحافظ فى الفتح أيضًا سند أثر على بن الحسين وأثر شريح وأثر القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق وأثر سالم بن عبد اللَّه بن عمر. أما أثر جابر بن زيد وهو أبو الشعثاء فأخرجه سعيد بن منصور من طريقه وفى سنده راوٍ لم يسم. ثم قال الحافظ: وقد تجوز البخارى فى نسبة جميع من ذكر عنهم إلى القول بعدم الوقوع مطلقا مع أن بعضهم يفصل

ص: 225

وبعضهم يختلف عليه، ولعل ذلك هو النكتة فى تصديره النقل عنهم بصيغة التمريض اهـ واللَّه أعلم. وسيأتى مزيد بحث لهذا فى الحديث الذى يلى هذا الحديث إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 226

12 -

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضى اللَّه عنهم قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك" أخرجه أبو داود والترمذى وصححه ونقل عن البخارى أنه أصح ما ورد فيه.

[المفردات]

نذر: هو ما يوجبه الإِنسان على نفسه من الطاعات.

لابن آدم: المراد به الإنسان المكلف.

[البحث]

تقدم فى بحث الحديث السابق ما ذكره الحافظ فى الفتح أن الترمذى لما أورد حديث عمرو بن شعيب فى الجامع قال: ليس بصحيح. وقال الحافظ فى الفتح: رواه عامر الأحول مطر الوراق وعبد الرحمن بن الحارث وحسين المعلم كلهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده والأربعة ثقات وأحاديثهم فى السنن ومن ثَمَّ صححه من يقوى حديث عمرو بن شعيب وهو قوى لكن فيه علة الاختلاف، وقد اختلف عليه فيه اختلافا آخر فأخرج سعيد بن منصور من وجه آخر عن عمرو بن شعيب أنه سئل عن ذلك فقال:

ص: 226

كان أبى عرض علىَّ امرأة يزوجنيها فأبيت أن أتزوجها وقلت: هى طالق ألبتة يوم أتزوجها ثم ندمت فقدمت المدينة فسألت سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير فقالا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "لا طلاق إلا بعد نكاح" وقد أشار الحافظ رحمه الله إلى أنه لو كان عنده عن أبيه عن جده لما احتاج أن يرحل فيه إلى المدينة ويكتفى فيه بحديث مرسل قال الحافظ: وقد تقدم أن الترمذى حكى عن البخارى أن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أصح شئ فى الباب اهـ أقول: ليس قول أحد الأئمة فى الحديث: إنه أصح شئ فى الباب أن يكون الحديث نفسه صحيحا وإنما المراد أنه أقوى ما ورد فى هذا الباب لا أنه قوى فى نفسه. واللَّه أعلم.

على أن ما نقله الحافظ فى فتح البارى عن الترمذى أنه قال فى جامعه عن حديث عمرو بن شعيب هذا عن أبيه عن جده "ليس بصحيح" يعارض ما ذكره المصنف هنا فى البلوغ حيث قال: والترمذى وصححه. والصواب من ذلك هو ما ذكره الحافظ هنا فى البلوغ من تصحيح الترمذى له فقد قال الترمذى فى جامعه: حدثنا أحمد ابن منيع أخبرنا هشيم أخبرنا عامر الأحول عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك" وفى الباب عن على ومعاذ بن جبل وجابر وابن عباس وعائشة. حديث عبد اللَّه بن عمرو حديث حسن صحيح وهو أحسن شئ رُوِىَ فى

ص: 227

هذا الباب، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، روى ذلك عن على بن أبى طالب وابن عباس وجابر بن عبد اللَّه وسعيد بن المسيب والحسن وسعيد بن جبير وعلى بن الحسين وشريح وجابر بن ريد وغير واحد من فقهاء التابعين اهـ.

ص: 228

13 -

وعن عائشة رضى اللَّه عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق" رواه أحمد والأربعة إلا الترمذى وصححه الحاكم وأخرجه ابن حبان.

[المفردات]

رفع القلم عن ثلاثة: أى لا يؤاخذهم اللَّه بما يقع منهم من مخالفة.

حتى يستيقظ: أى حتى يتنبه من نومه.

وعن الصغير حتى يكبر: أى وعن الصبى حتى يدرك.

وعن المجنون حتى يفيق: أى وعن فاقد العقل حتى يرجع إليه عقله.

[البحث]

تقدم فى بحث الحديث الثامن من أحاديث هذا الباب قول البخارى فى صحيحه: وقال على: ألم تعلم أن القلم رفع عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبى حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ. وقد ذكرت هناك من وصل هذا التعليق، ومن أخرجه،

ص: 228

وما قيل فيه. وغرض المصنف من إيراد هذا الحديث هنا هو أنه لا يقع طلاق هؤلاء لو تلفظوا بالطلاق وهم بهذا الحال من النوم أو الصغر أو الجنون، إذ أن هذه الأحوال تمنعهم من الاختيار وصحة الإرادة. وعدم مؤاخذة هؤلاء لا تقتضى أن ما قد يقع منهم من اعتداء على الغير لا يؤاخذون به ولا يضمن، إنما المراد أنه لا يتوجه إليهم خطاب التكليف، لكن اللَّه تبارك وتعالى قد جعل فى خطاب الوضع ما يحفظ به حقوق العباد من مثل اعتداء هؤلاء. وهو خطاب اللَّه تبارك وتعالى بجعل الشئ سببًا أو علة أو شرطًا أو مانعًا أو صحيحًا أو فاسدًا، فلو أتلفت بهيمة إنسان مالًا لآخر أو أتلف مجنون أو صبى نحو ذلك أو انقلب نائم على شخص فقتله، فإن ذلك كلُّه وإن ارتفع فيه الإثم فإنه لا يرتفع فيه ثبوت الحق لصاحبه بالسببية ونحوها. ولذلك وجبت الكفارة والدية على من قتل خطأ مع أن الإثم مرفوع عنه، لقول اللَّه تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .

ص: 229