الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الوليمة
1 -
عن أنس بن مالك رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى عَلَى عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة فقال: "ما هذا" قال: يا رسول اللَّه إنى تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب، قال:"بارك اللَّه لك، أوْلِمْ ولَو بشاة" متفق عليه واللفظ لمسلم.
[المفردات]
الوليمة: قال النووى: قال العلماء من أهل اللغة والفقهاء وغيرهم: الوليمة الطعام المتخذ للعُرْس مشتقة من الولم وهو الجمع لأن الزوجين يجتمعان. قاله الأزهرى وغيره وقال الأنبارى: أصلها تمام الشئ واجتماعه، والفعل منها أَوْلَم. قال أصحابنا: وغيرهم: الضيافات ثمانية أنواع، الوليمة للعرس، والخرس بضم الخاء المعجمة ويقال الخرص أيضا بالصاد المهملة للولادة، والإِعذار بكسر الهمزة وبالعين المهملة والذال المعجمة للختان، والوكيرة للبناء، والنقيعة لقدوم المسافر مأخوذة من النقع وهو الغبار ثم قيل: إن المسافر يصنع الطعام وقيل يصنعه غيره له، والعقيقة يوم سابع الولادة،
والوضيمة بفتح الواو كسر الضاد المعجمة الطعام عند المصيبة، والمأدبة بضم الدال وفتحها الطعام المتخذ ضيافة بلا سبب واللَّه أعلم اهـ.
عبد الرحمن عوف: هو أبو محمد عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف ابن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن كعب ابن لؤى القرشى الزهرى. كان اسمه فى الجاهلية عبد عمرو أو عبد الكعبة فسماه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أسلم عبد الرحمن. كان السابقين الأولين إلى الإسلام ومن العشرة المبشرين بالجنة. ولما هاجر إلى المدينة آخى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وقال له سعد بن الربيع رضى اللَّه عنه: أخى أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر مالى فخذه، وتحتى امرأتان فانظر أيتهما أعجب إليك حتى أطلقها لك فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك اللَّه لك فى أهلك ومالك، دلونى على السوق، فدلوه على السوق فاشترى وباع فربح فجاء بشئ من أقط وسمن ثم لبث ما شاء اللَّه أن يلبث فجاء وعليه رَدْعٌ من زعفران فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"مهيم؟ " فقال يا رسول اللَّه تزوجت امرأة قال: "ما أصدقتها؟ " قال وزن نواة من ذهب. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
بارك اللَّه لك. أولم ولو بشاة. قال عبد الرحمن فلقد رأيتنى ولو رفعت حجرا رجوت أن أصيب تحته ذهبا أو فضة يعنى بسبب دعوة النبى صلى الله عليه وسلم له بالبركة وقد شهد عبد الرحمن بن عوف مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها. وكان ممن ثبت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أحد. وقد صح الخبر عن المغيرة بن شعبة أنهم كانوا فى سفر مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قام قبيل الفجر لحاجة وتبعد عن الناس ومعه المغيرة فطلع الفجر قبل أن يرجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأقيمت الصلاة وأمهم عبد الرحمن بن عوف فأدركه رسول اللَّه وقد صلى ركعة وهم فى الثانية قال المغيرة: فذهبت أُوذِنُهُ فنهانى فصلينا الركعة التى أدركنا، ولم يصل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خلف أحد من أمته سوى أبى بكر وعبد الرحمن بن عوف. وقد أمره عمر رضى اللَّه عنه على الحج سنة ثلاث عشرة من الهجرة فى أول سنة ولى فيها الخلافة. وقد اختاره عمر رضى اللَّه عنه فى أهل الشورى. ولما توفى كان فيما ترك ذهب قطع بالفئوس حتى مجلت أيدى الرجال منه وترك أربع نسوة فأخرجت امرأة من نصيبها فى الثمن بثمانين ألفا وقد كانت وفاته سنة اثنتين وثلاثين عن خمس وسبعين سنة رضى اللَّه عنه.
أثر صفرة: أى أثر خلوق والخلوق بفتح الخاء نوع من الطيب مركب فيه زعفران فيبقى أثره أصفر، والظاهر أنه علق فيه من طيب زوجته العروس لما ثبت فى الصحيح من نهى الرجال عن التزعفر ولذلك سأله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن سبب وجود أثر الصفرة عليه.
ما هذا: أى ما سبب وجود أثر الصفرة عليك؟
تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب: أى تزوجت امرأة وسقت صداقها وزن نواة من ذهب وقد تقدم أنها خمسة دراهم أو ثلاثة دراهم وثلث.
بارك اللَّه لك: أى جعل اللَّه لك فى هذا الزواج خيرا كثيرا.
أولِم ولو بشاة: أى اصنع طعام العرس ولو كانت هذه الوليمة مقتصرة على شاة واحدة قال الحافظ فى الفتح: ليست (لو) هذه الامتناعية وإنما هى التى للتقليل.
[البحث]
أورد البخارى رحمه الله فى باب الصفرة للمتزوج عن أنس بن مالك رضى اللَّه عنه أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبه أثر صفرة فسأله رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار قال: "كم سقت لها؟ " قال: زنة نواة من ذهب، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "أولِم ولو بشاة" ثم ساقه فى باب كيف يدعى للمتزوج من حديث أنس رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة فقال:"ما هذا؟ " قال: إنى
تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب. قال: "بارك اللَّه لك أولم ولو بشاة" ثم ساقه فى باب الوليمة ولو بشاة من طريق حميد عن أنس رضى اللَّه عنه قال: سأل النبى صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف -وتزوج امرأة من الأنصار: "كم أصدقتها؟ " قال وزن نواة من ذهب" ثم قال البخارى: وعن حميد قال سمعت أنسا قال: لما قدموا المدينة نزل المهاجرون على الأنصار- فنزل عبد الرحمن بن عوف على سعد بن الربيع فقال: أقاسمك مالى، وأنزل لك عن إحدى امرأتىَّ قال: بارك اللَّه لك فى أهلك ومالك، فخرج إلى السوق فباع واشترى، فأصاب شيئا من أقط وسمن، فتزوج فقال النبى صلى الله عليه وسلم "أولم ولو بشاة" أما مسلم رحمه الله فقد ساقه باللفظ الذى ذكره المصنف إلا أنه قال فيه: "فبارك اللَّه لك" بدل قوله فى اللفظ الذى ساقه المصنف: "بارك اللَّه لك" ثم ساقه مسلم من حديث أنس رضى اللَّه عنه بلفظ: أن عبد الرحمن بن عوف تزوج على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على وزن نواة من ذهب. فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "أولم ولو بشاة" ثم ساقه من حديث أنس رضى اللَّه عنه أن عبد الرحمن بن عوف تزوج امرأة على وزن نواة من ذهب وأن النبى صلى الله عليه وسلم قال له: "أولم ولو بشاة" وفى لفظ لمسلم من طريق إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن قدامة قالا أخبرنا النضر بن شميل حدثنا شعبة حدثنا عبد العزيز ابن صهيب قال سمعت أنسا يقول: قال عبد الرحمن بن عوف: رآنى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلىَّ بشاشة العرس فقلت: تزوجت امرأة من
الأنصار فقال: "كم أصدقتها" فقلت: "نواة" وفى حديث إسحاق "من ذهب" وظاهر قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف: "أولم ولو بشاة" يشعر بأن أقل ما يجزئ فى وليمة العرس شاة، إلا أنه ثبت أن وليمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى عرس صفية كانت بغير لحم كما تقدم فى بحث الحديث الأول من أحاديث باب الصداق، فدل ذلك على أن أمر وليمة العرس على السعة بحسب ما يتيسر للزوج إلا أنه لا يجوز أن تصل إلى حد الإسراف والتبذير وسيجئ زيادة بحث لهذا عند الكلام على الحديث السادس والسابع من أحاديث هذا الباب إن شاء اللَّه تعالى.
هذا والأصل تحريم التزعفر على الرجال كما تقدم لما رواه البخارى من حديث أنس رضى اللَّه عنه قال: نهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل. اهـ إلا أن أثر الصفرة التى كانت على عبد الرحمن بن عوف ربما كانت علقت فيه من طيب زوجته كما أشرت فى مفردات هذا الحديث واللَّه أعلم.
[ما يفيده الحديث]
1 -
استحباب وليمة العرس.
2 -
استحباب الدعاء للمتزوج بالبركة.
3 -
استحباب تكثير الوليمة للقادر ما لم يصل إلى حد الإسراف والتبذير.
4 -
جواز خروج الرجل وعليه أثر العرس.
5 -
أن النكاح لا بد فيه من صداق.
2 -
وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا دُعِى أحدكم إلى وليمة فليأتها" متفق عليه، ولمسلم:"إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عُرسًا كان أو نحوه".
[المفردات]
دُعِىَ أحدكم إلى وليمة: أى إذا طَلَب المتزوج أو نائبه من أحدكم الحضور لتناول الطعام فى وليمة العرس.
فليأتها: أى فليجئ إليها ولا يتخلف عنها.
ولمسلم: أى من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
إذا دعا أحدكم أخاه فليجب: أى إذا طلب أحد المسلمين من أخيه المسلم أن يحضر دعوة لديه فليحضر ولا يتخلف. والدَّعوة بفتح الدال ما كانت فى الطعام. وبكسر الدال ما كانت فى النسب قال النووى وعكسه تيم الرباب فقالوا: الطعام بالكسر والنسب بالفتح قال: وأما قول قطرب فى المثلث: إن دعوة الطعام بالضم فغلطوه فيه اهـ وقال الحافظ فى الفتح: وأما الدعوة فهى أعم من الوليمة وهى بفتح الدال على المشهور وضمها قطرب فى مثلثته وغلطوه فى ذلك على ما قال النووى، قال ودعوة النسب بكسر الدال وعكس
ذلك بنو تيم الرباب ففتحوا دال دعوة النسب كسروا دال دعوة الطعام اهـ وما نسبه لبنى تيم الرباب نسبه صاحبا "الصحاح" و"المحكم" لبنى عدى الرباب. فاللَّه أعلم اهـ من الفتح.
عُرسا كان أو نحوه: أى سواء كانت الدعوة لطعام العرس أو ما أشبهه كطعام العقيقة ونحوها. والعُرس بسكون الراء وضمها الزواج. والعروس اسم للزوجين عند أول اجتماعهما يشمل الرجل والمرأة فيقال للمرأة حينئذ العروس كما يقال للرجل حينئذ العروس ومنه حديث أنس عند البخارى ومسلم: أصبح النبى صلى الله عليه وسلم عروسا بزينب. وبعض الناس يخص العرس بالمرأة أما الرجل فيقال عند زواجه "العريس".
[البحث]
حض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على إجابة دعوة الداعى سواء كانت دعوة عرس أو غير عرس لما فى ذلك من تأليف القلوب، وتقوية الروابط، وسل الضغائن، وهذا من أهم مقاصد الإسلام لتكوين المجتمع المترابط المتعاطف المتحاب. وقد جعل الإسلام من هذه المناسبات الطيبة سببا من أسباب إزالة ما قد يكون بين الشخص وغيره من التباغض.
فقد روى البخارى من حديث عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لو دعيت إلى كُراع لأجبت ولو أهدى إلىَّ
ذراع لقبلت" كما روى مسلم من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعيتم إلى كراع فأجيبوا" كما روى البخارى من حديث أبى موسى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "فُكُّوا العانى، وأجيبوا الداعى، وعودوا المريض" كما روى البخارى من حديث البراء بن عازب رضى اللَّه عنهما قال: أمرنا النبى صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتِّباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم، ونصر المظلوم، وإفشاء السلام، وإجابة الداعى، ونهانا عن خواتيم الذهب وعن آنية الفضة، وعن المياثر والقَسِّيَّة، والإستبرق والديباج. وأورده فى كتاب الأدب فى باب إفشاء السلام بلفظ: ونهى عن الشرب فى الفضة ونهانا عن تختم الذهب، وعن كوب المياثر وعن لُبْس الحرير والديباج والقَسِّىِّ والإستبرق. كما روى البخارى ومسلم من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها" وفى لفظ لمسلم عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ائتوا الدعوة إذا دعيتم" وسواء كانت هذه الدعوة دعوة عرس أو غيره قال البخارى: باب إجابة الداعى فى العُرْس وغيرها ثم ساق من طريق نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها" قال: كان عبد اللَّه يأتى الدعوة فى العرس وغير العرس وهو صائم. وقد رواه مسلم باللفظ الذى ذكره المصنف ثم ساق من حديث ابن عمر قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: من دُعى إلى عرس أو نحوه
فليجب" غير أن الشريعة الإسلامية أكدت إجابة دعوة العرس تأكيدا شديدا فخصته بمزيد من التوكيد فقد روى مسلم فى صحيحه من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: "إذا دعى أحدكم إلى وليمة عرس فليجب" وفى لفظ لمسلم من طريق خالد بن الحارث عن عبيد اللَّه عن نافع عن ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعى أحدكم إلى الوليمة فليجب. قال خالد فإذا عبيد اللَّه يُنَزِّلُه على العُرس اهـ فيتحتم على من دعى إلى وليمة العرس أن يحضرها حتى ولو كان صائما ما لم يعلم أن حرمات اللَّه تنتهك على وليمة هذا العرس فإنه لا يجيب. وسيأتى مزيد بحث لهذا فى الحديث الثالث والرابع من أحاديث هذا الباب إن شاء اللَّه تعالى. وقد قال النووى: ونقل القاضى اتفاق العلماء على وجوب الإجابة فى وليمة العرس اهـ.
[ما يفيده الحديث]
1 -
وجوب إجابة الداعى لوليمة العرس.
2 -
لا ينبغى التخلف عن دعوة الداعى فى العقيقة ونحوها.
3 -
حرص الإسلام على تأليف القلوب.
3 -
اغتنام الفرص لإزالة أسباب الجفاء ونحوها بين المسلمين.
3 -
وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "شر الطعام طعام الوليمة يُمْنَعُها مَنْ يأتيها، ويُدْعَى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى اللَّه ورسوله" أخرجه مسلم.
[المفردات]
شر الطعام: أى بئس الطعام.
طعام الوليمة: أشار الحافظ فى الفتح إلى أن الوليمة إذا أطلقت حملت على طعام العرس بخلاف سائر الولائم فإنها تقيد.
يُمْنَعُها من يأتيها: أى لا يُدعَى لها الفقراء والمساكين الذين لو دُعُوا لسارعوا إلى الإجابة لحاجتهم.
ويُدْعى إليها من يأباها: أى ويدعى لحضورها الأغنياء الذين لا يحتاجون إليها ولا يحرصون عليها.
ومن لم يجب الدعوة: أى ومن امتنع عن حضور وليمة العرس لغير عذر يمنعه عنها.
فقد عصى اللَّه ورسوله: أى فقد ارتكب إثما، وأذنب ذَنْبًا.
[البحث]
هذا الحديث أخرجه مسلم عن أبى هريرة، مرفوعا كما رأيت، وقد أخرجه البخارى ومسلم واللفظ للبخارى عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه موقوفا بلفظ: عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه أنه كان يقول: شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء ومن ترك الدعوة فقد عصى اللَّه ورسوله. ولفظ مسلم: عن أبى هريرة أنه كان يقول: بئس الطعام طعام الوليمة يدعى إليه الأغنياء ويترك المساكين فمن لم يأت الدعوة فقد عصى اللَّه ورسوله. وقوله فى لفظ البخارى: ومن ترك الدعوة، هو بمعنى: ومن لم يجب الدعوة فى
الرواية الثانية، وكون هذا الحديث روى عن أبى هريرة موقوفا ومرفوعا فإن ذلك لا يضر. قال النووى: ذكره مسلم موقوفا على أبى هريرة ومرفوعا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد سبق أن الحديث إذا روى موقوفا ومرفوعا حكم برفعه على المذهب الصحيح لأنها زيادة ثقة. ثم قال النووى: ومعنى هذا الحديث الإِخبار بما يقع من الناس بعده صلى الله عليه وسلم من مراعاة الأغنياء فى الولائم ونحوها وتخصيصهم بالدعوة وإيثارهم بطيب الطعام ورفع مجالسهم وتقديمهم وغير ذلك مما هو الغالب فى الولائم واللَّه المستعان اهـ. وقال الحافظ فى الفتح: وأول هذا الحديث موقوف ولكن آخره يقتضى رفعه. ذكر ذلك ابن بطال قال: ومثله حديث أبى الشعثاء أن أبا هريرة أبصر رجلا خارجا من المسجد بعد الأذان فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم. قال: ومثل هذا لا يكون رأيا. ولهذا أدخله الأئمة فى مسانيدهم انتهى. اهـ.
وقوله فى الحديث "ومن لم يجب الدعوة فقد عصى اللَّه ورسوله" صريح فى وجوب إجابة من دعى إلى وليمة العرس، وقد أشرت فى بحث الحديث السابق إلى أن من علم أن هذه الوليمة تقترن بالمعاصى فإنه لا يجب عليه الإجابة لها. لكن من علم من نفسه قدرة على إنكار المنكر وتغييره فإنه يحضر لذلك. وقد قال البخارى (باب هل يرجع إذا رأى منكرا فى الدعوة؟ ) ورأى ابن مسعود صورة فى البيت فرجع ودعا ابنُ عمرَ أبا أيوب فرأى فى البيت سترا على الجدار فقال ابن عمر: غَلَبَنَا عليه النساء، فقال: من كنتُ أخشى عليه فلم
أكن أخشى عليك. واللَّه لا أطعم لكم طعاما. فرجع اهـ قال الحافظ فى الفتح (قوله ورأى ابن مسعود صورة فى البيت فرجع) كذا فى رواية المستملى والأصيلى والقابسى وعبدوس وفى رواية الباقين (أبو مسعود) والأول تصحيف فيما أظن فإننى لم أر الأثر المعلق إلا عن أبى مسعود عقبة بن عمرو، وأخرجه البيهقى بن طريق عدى بن ثابت عن خالد بن سعد عن أبى مسعود أن رجلا صنع طعاما فدعاه فقال: أفى البيت صورة؟ قال: نعم. فأبى أن يدخل حتى تكسر الصورة. وسنده صحيح وخالد بن سعد هو مولى أبى مسعود عقبة ابن عمرو الأنصارى ولا أعرف له عن عبد اللَّه بن مسعود رواية، ويحتمل أن يكون ذلك وقع لعبد اللَّه بن مسعود أيضا لكن لم أقف عليه اهـ وقال الحافظ فى الفتح: إن كان هناك محرم وقدر على إزالته فأزاله فلا بأس، وإن لم يقدر فليرجع، وإن كان مما يكره كراهة تنزيه فلا يخفى الورع، ومما يؤيد ذلك ما وقع فى قصة ابن عمر من اختلاف الصحابة فى دخول البيت الذى سترت جدره، ولو كان حراما ما قعد الذين قعدوا ولا فعله ابن عمر فيحمل فعل أبى أيوب على كراهة التنزيه جمعا بين الفعلين، ويحتمل أن يكون أبو أيوب كان يرى التحريم والذين لم ينكروا كانوا يرون الإباحة. وقد فصل العلماء ذلك على ما أشرت إليه، قالوا: إن كان لهوا مما اختلف فيه فيجوز الحضور، وإن كان حراما كشرب الخمر نظر فإن كان المدعو ممن إذا حضر رفع لأجله فليحضر اهـ هذا والمأدبة إن كانت لقوم
مخصوصين فهى النَّقَرى بفتح النون والقاف وإن كانت عامة فهى الجفلى بفتح الجيم والفاء. والعرب كانوا يمتدحون المأدبة إذا كانت عامة ويعدون ذلك فى مفاخرهم ومنه قول الشاعر:
نحن فى المشتاة ندعو الجَفَلَى
…
لا ترى الآدِبَ منا ينتقر
[ما يفيده الحديث]
1 -
وجوب إجابة الدعوة لوليمة العرس.
2 -
استحباب أن تكون الدعوة عامة للفقراء والأغنياء.
3 -
الحض على تطييب قلوب الفقراء.
4 -
كراهية قصر الدعوة فى وليمة العرس على الأغنياء.
4 -
وعنه رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا دُعِى أحدُكم فليجب، فإن كان صائما فليصل، وإن كان مفطرا فَلْيَطْعَمْ" أخرجه مسلم أيضا، وله من حديث جابر نحوه وقال:"إن شاء طَعِمَ، وإن شاء تَرَكَ".
[المفردات]
وعنه: أى وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه.
فَلْيُصَلِّ: أى فَلْيَدْعُ يعنى بالبركة والتوفيق للداعى.
فَلْيَطْعَم: أى فلْيَأكُلْ من الوليمة.
وله: أى ولمسلم.
نحوه: أى نحو حديث أبى هريرة.
إن شاء طعم وإن شاء ترك: أى فليحضر الوليمة فإن رغب فى الأكل فليأكل وإن لم تكن له حاجة للأكل فلا يأكل ولا شئ عليه ما دام قد أجاب الدعوة.
[البحث]
فى هذا الحديث إشعار بأهمية إجابة الدعوة وأن الصوم ليس عذرا فى التخلف عنها. بل يحضر الصائم ويدعو، وقد روى مسلم من طريق نافع عن عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أجيبوا هذه الدعوة إذا دُعيتم لها" قال: وكان عبد اللَّه يأتى الدعوة فى العرس وغير العرس ويأتيها، وهو صائم. ولفظ حديث جابر عند مسلم الذى أشار إليه المصنف هو من طريق محمد بن المثنى ومحمد بن عبد اللَّه بن نمير بسنديهما عن جابر رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا دُعِى أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك" ولم يذكر ابن المثنى "إلى طعام".
[ما يفيده الحديث]
1 -
وجوب إجابة الدعوة لوليمة العرس.
2 -
وأن الصوم ليس عذرا فى التخلف عن إجابة دعوة العرس.
3 -
الحض على كل ما يؤلف بين قلوب المسلمين.
4 -
ينبغى للداعى للوليمة أن يحمل من أجاب ولم يأكل على المحمل الحسن.
5 -
وعن ابن مسعود رضى اللَّه عنه قال: "قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "طعام أول يوم حق، وطعام يوم الثانى سنة، وطعام يوم الثالث سُمْعَةٌ، ومن سمَّع سمَّع اللَّه به" رواه الترمذى واستغربه، ورجاله رجال الصحيح وله شاهد عن أنس عند ابن ماجه.
[المفردات]
حق: أى ليست بباطل.
سنة: أى معروف.
سمعة: أى رياء.
ومن سمَّع سمَّع اللَّه به: أى ومن عمل رياء فضحه اللَّه.
واستغربه: أى اعتبره غريبا أى ضعيفا.
وله شاهد عن أنس عند ابن ماجه: أى ولحديث ابن مسعود عند الترمذى شاهد يقويه وهو من رواية أنس عند ابن ماجه.
[البحث]
هذا الحديث أورده الترمذى من طريق زياد بن عبد اللَّه البكائى عن عطاء بن السائب وقال الترمذى: لا نعرفه إلا من حديث زياد بن عبد اللَّه البكائى وهو كثير الغرائب والمناكير اهـ وقال الحافظ فى الفتح: قلت: وشيخه فيه عطاء بن السائب وسماع زياد منه بعد اختلاطه فهذه علته اهـ وقال فى التقريب: زياد بن عبد اللَّه بن
الطفيل العامرى البكائى بفتح الموحدة وتشديد الكاف أبو محمد الكوفى، صدوق ثبت فى المغازى وفى حديثه عن غير ابن إسحاق لين، من الثامنة، ولم يثبت أن وكيعا كذبه، وله فى البخارى موضع واحد متابعة، وأشار إلى أن مسلما كذلك أخرج له فقول المصنف:"رجاله رجال الصحيح" صحيح لكن ليس معنى كون رجال الحديث رجال الصحيح أن يكون الحديث صحيحا، لأن بعض رجاله قد يكون حدث له اختلاط ويثبت أنه روى هذا الحديث بعد الاختلاط، كما أن الرجل قد يكون من رجال الصحيح إذا روى عن شخص معين ولا يخرج له صاحب الصحيح إذا روى عن شخص معين أو قوم معينين. وزياد البكائى وعطاء بن السائب من هذا القبيل. وقال الحافظ فى تلخيص الحبير: وعن ابن مسعود رواه الترمذى بلفظ: "طعام أول يوم حق، والثانى سنة، والثالث سمعة" واستغربه، وقال الدارقطنى: تفرد به زياد بن عبد اللَّه عن عطاء بن السائب عن أبى عبد الرحمن السلمى عنه. قلت: وزياد مختلف فى الاحتجاج به، ومع ذلك فسماعه من عطاء بعد الاختلاط. وعن أنس رواه البيهقى من رواية أبى سفيان عنه، وفى إسناده بكر بن خنيس وهو ضعيف، وذكره ابن أبى حاتم والدارقطنى فى العلل من حديث الحسن عنه ورجحا رواية من أرسله عن الحسن. وعن وحشى بن حرب وابن عباس رواهما الطبرانى فى الكبير وإسنادهما ضعيف اهـ.
أما قول المصنف: وله شاهد عن أنس عند ابن ماجه فهو سبق قلم
فإن ابن ماجه لم يخرجه من حديث أنس وإنما أخرجه من حديث أبى هريرة من طريق عبد الملك بن حسين النخعى الواسطى وهو ضعيف أيضا، قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن عبادة الواسطى ثنا يزيد بن هارون ثنا عبد الملك بن حسين أبو مالك النخعى عن منصور عن أبى حازم عن أبى هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الوليمة أول يوم حق، والثانى معروف، والثالث رياء وسمعة" قال فى الزوائد: فى إسناده أبو مالك النخعى وهو ممن اتفقوا على ضعفه، وقد رواه الترمذى فى جامعه من حديث عبد اللَّه بن مسعود اهـ.
6 -
وعن صفية بنت شيبة رضى اللَّه عنها قالت: "أولم النبى صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بِمُدَّيْنِ من شعير" أخرجه البخارى.
[المفردات]
صفية بنت شيبة: هى أم حُجَيْر صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبى طلحة بن عبد العزى، بن عثمان بن عبد الدار ابن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى العبدرية، قال الحافظ فى التقريب: لها رؤية وحدثت عن عائشة وغيرها من الصحابة وفى البخارى التصريح بسماعها من النبى صلى الله عليه وسلم، وأنكر الدارقطنى إدراكها اهـ وأشار فى التقريب إلى أنها قد أخرج لها الجماعة.
بعض نسائه: أى إحدى زوجاته قال الحافظ فى الفتح: لم أقف على تعيين اسمها صريحا. وأقرب ما يفسر به أم سلمة اهـ.
بمدين من شعير: أى بنصف صاع من شعير.
[البحث]
أورد البخارى هذا الحديث فى باب من أولم بأقل من شاة قال: حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن منصور بن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قالت: أولم النبى صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير، وقد أشار الحافظ فى الفتح إلى أن بعض أهل العلم اعتبر هذا الحديث مرسلا إما بدعوى أن صفية تابعية وليست بصحابية وإما بدعوى أنها ما حضرت القصة لأنها كانت بمكة طفلة أو لم تولد بعد، وقد جزم ابن سعد وابن حبان بأن صفية تابعية ثم قال الحافظ: لكن ذكر المزى فى "الأطراف" أن البخارى أخرج فى كتاب الحج عقب حديث أبى هريرة وابن عباس فى تحريم مكة قال: "وقال أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مثله قال: ووصله ابن ماجه من هذا الوجه. قلت: وكذا وصله البخارى فى التاريخ. ثم قال المزى: لو صح هذا لكان صريحا فى صحبتها لكن أبان بن صالح ضعيف. كذا أطلق هنا ولم ينقل فى ترجمة أبان بن صالح فى التهذيب تضعيفه عن أحد بل نقل توثيقه عن يحيى بن معين وأبى حاتم وأبى زرعة وغيرهم. وقال الذهبى فى مختصر التهذيب: ما رأيت
أحدا ضعف أبان بن صالح، وكأنه لم يقف على قول ابن عبد البر فى "التمهيد" لما ذكر حديث جابر فى استقبال قاضى الحاجة القبلة من رواية أبان بن صاالح المذكور: هذا ليس صحيحا لأن أبان بن صالح ضعيف. كذا قال: وكأنه التبس عليه بأبان بن أبى عياش البصرى صاحب أنس فإنه ضعيف باتفاق، وهو أشهر أكثر. حديثا ورواة من أبان بن صالح ولهذا لما ذكر ابن حزم الحديث المذكور عن جابر قال: أبان بن صالح ليس بالمشهور. قلت: ولكن يكفى توثيق ابن معين ومن ذكر له، وقد روى عنه أيضا ابن جريج وأسامة بن زيد الليثى وغيرهما، وأشهر من روى عنه محمد بن إسحاق، وقد ذكر المزى أيضا حديث صفية بنت شيبة قالت: طاف النبى صلى الله عليه وسلم على بعير يستلم الحجر بمحجن وأنا انظر إليه" أخرجه أبو داود وابن ماجه. قال المزى: هذا يضعف قول من أنكر أن يكون لها رؤية فإن إسناده حسن. قلت: وإذا ثبتت رؤيتها له صلى الله عليه وسلم وضبطت ذلك فما المانع أن تسمع خطبته ولو كانت صغيرة اهـ هذا وقد قال البخارى: "باب من أولم على بعض نسائه أكثر من بعض" ثم ساق من طريق ثابت قال: ذُكر تزويج زينب بنت جحش عند أنس فقال: ما رأيت النبى صلى الله عليه وسلم أولم على أحد من نسائه ما أولَم عليها أولَمَ بشاة" وهو ظاهر الدلالة على أن الوليمة بحسب ما يتيسر.
[ما يفيده الحديث]
1 -
استحباب وليمة العرس بما تيسر للزوج.
2 -
أنه لا ينكر على من أولم على بعض نسائه بأقل أو بأكثر مما أولم على البعض الآخر.
3 -
أن الشريعة الإِسلامية مبناها التيسير.
7 -
وعن أنس رضى اللَّه عنه قال: أقام النبى صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يُبْنَى عليه بصفية فَدَعَوتُ المسلمين إلى وليمته، فما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمَر بالأنطاع فبُسِطَتْ فألقى عليها التمر والأقط والسمن" متفق عليه، واللفظ للبخارى.
[المفردات]
بين خيبر والمدينة: فى مكان يقال له الصهباء يقع جنوبى خيبر على مسافة بريد أى بمقدار اثنى عشر ميلا.
يبنى عليه بصفية: أى يوضع له خباء ليدخل على صفية فيه وقد ذكر ابن سعد رحمه الله أن أم سليم رضى اللَّه عنها قالت: وليس معنا فسطاط ولا سرادقات فأخذت كسائين أو عباءتين فسترت بينهما إلى شجرة فمشطتها وعطرتها.
فدعوت المسلمين إلى وليمته: أى طلب أنس -بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من المسلمين الذين كانوا عائدين من خيبر
مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يحضروا وليمة عرس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على صفية رضى اللَّه عنها.
فما كان فيها من خبز ولا لحم: أى كانت وليمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على صفية خالية من الخبز واللحم.
أمر بالأنطاع فبسطت: أى أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالأنطاع فَمُدَّتْ والأنطاع جمع نطع قال النووى: وفيه أربع لغات مشهورات: فتح النون كسرها مع فتح الطاء وإسكانها، أفصحهن كسر النون مع فتح الطاء وجمعه نطوع وأنطاع. والمراد به السُّفْرَةُ من الجلد تبسط وتفرش على الأرض ثم يوضع عليها الطعام صيانة له ويسميه بعض الناس (السماط) وأصل المسموط هو اللحم المشوى بجلده. وكان بسط الأنطاع والأكل عليها هو ما جرى عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى اللَّه عنهم.
والأقط: هو لبن يابس غير منزوع الزبد ويسمى فى بعض البلاد (الكشك) كما تقدم فى باب صدقة الفطر.
[البحث]
أورد البخارى هذا الحديث فى باب غزوة خيبر عن أنس رضى اللَّه عنه بعدة ألفاظ: أقربها إلى اللفظ الذى ساقه المصنف هنا هو ما أخرجه من طريق سعيد بن أبى مريم أخبرنا محمد بن جعفر بن أبى كثير قال أخبرنى حميد أنه سمع أنسا رضى اللَّه عنه يقول: أقام
النبى صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبنى عليه بصفية. فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بلالا بالأنطاع فبسِطَتْ فأُلْقىَ عليها التمر والأقط والسمن، فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه؟ قالوا: إن حجبها فهى إحدى أمهات المؤمنين وإن لم يحجبها فهى مما ملكت يمينه. فلما ارتحل وطَّأ لها خلفه ومدَّ الحجاب. وكان قد ساقه بسند آخر عن أنس رضى اللَّه عنه بلفظ: أن النبى صلى الله عليه وسلم أقام على صفية بنت حيى بطريق خيبر ثلاثة أيام حتى أعرس بها، وكانت فيمن ضرب عليها الحجاب. كما ساقه قبل ذلك أيضا بسند آخر عن أنس رضى اللَّه عنه قال: قدمنا خيبر فلما فتح اللَّه عليه الحصن ذُكِرَ له جمال صفية بنت حيى بن أخطب، وقد قُتِل زوجها، وكانت عروسا، فاصطفاها النبى صلى الله عليه وسلم لنفسه، فخرج بها حتى بلغنا سد الصهباء حلَّت، فبَنَى بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم صَنَع حَيْسًا فى نطع صغير، ثم قال لى:"آذِنْ مَنْ حولك" فكانت تلك وليمته على صفية، ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبى صلى الله عليه وسلم يُحَوِّى لها وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب. وساقه فى كتاب الأطعمة بنفس سند حديث سعيد بن أبى مريم عن أنس بلفظ: قام النبى صلى الله عليه وسلم يبنى بصفية فدعوت المسلمين إلى وليمته، أمر بالأنطاع فبُسِطتْ، فأُلْقِى عليها التمرُ والأقط والسمن، ثم قال البخارى: وقال عمرو عن
أنس: بَنَى بها النبى صلى الله عليه وسلم ثم صنع حيسًا فى نطع. وقد ساقه كذلك فى "باب اتخاذ السرارى ومن أعتق جارية ثم تزوجها" من طريق قتيبة حدثنا إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس رضى اللَّه عنه قال: أقام النبى صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاثا يُبْنَى عليه بصفية بنت حيى، فدعوت المسلمين إلى وليمته، فما كان فيها خبز ولا لحم، أمر بالأنطاع فأُلْقِى فيها من التمر والأقط والسمن فكانت وليمته، فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه؟ فقالوا: إن حجبها فهى من أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهى مما ملكت يمينه، فلما ارتحل وطَّى لها خلفه ومدَّ الحجاب بينها وبين الناس. أما مسلم فقد ساقه بالألفاظ التى سقتها عنه فى بحث الحديث الأول من أحاديث باب الصداق، وهى أكثر تفصيلا لوليمة صفية من الألفاظ التى ساقها البخارى رحمه الله.
[ما يفيده الحديث]
1 -
جواز خلو وليمة العرس من اللحم والخبز.
2 -
استحباب أن تكون وليمة العرس بحسب ما يتيسر للزوج.
3 -
أنه يستحب لمن تزوج امرأة ثيبا أن يقيم عندها ثلاثا.
8 -
وعن رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم قال: إذا اجتمع داعيان فأجب أقْرَبَهُما بابا، فإن سبق أحدهما فأجب الذى سبق" رواه أبو داود وسنده ضعيف.
[المفردات]
إذا اجتمع داعيان: أى إذا جاءتك دعوتان لحضور وليمة العرس.
فأجب أقربهما بابا: أى فقدم فى إجابة الدعوة من كان بابه أقرب إلى دارك لأن حقه مقدم على حق الأبعد بابا.
فإن سبق أحدهما: أى فإن كانت دعوة أحدهما لك متقدمة على دعوة الآخر.
فأجب الذى سبق: أى فيتعين عليك إجابة صاحب الدعوة المتقدمة.
[البحث]
هذا الحديث عند أبى داود من رواية هناد بن السرى عن عبد السلام بن حرب عن أبى خالد الدالانى عن أبى العلاء الأودى عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم. وعبد السلام بن حرب وإن كان ثقة لكن له مناكير. وضعفه ابن سعد وقال الذهبى فى تذكرة الحفاظ: قال يعقوب بن شيبة: هو ثقة وفى حديثه لين. وأبو خالد الدالانى هو يزيد بن عبد الرحمن الأسدى الكوفى قال فى التقريب: صدوق يخطئ كثيرا وكان يدلس اهـ وهو هنا قد عنعن. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به، وقال ابن عدى: حديثه لين، وقال شريك: كان مرجئا. وظاهر هذا السياق يشعر أن هذا الحديث موقوف على الصحابى الذى لم يسم. وقال الحافظ فى تلخيص الحبير: حديث: "إذا اجتمع داعيان فأجب أقربهما إليك بابا فإن أقربهما إليك بابا أقربهما إليك جوارا،
وإن سبق أحدهما فأجب الذى سبق" أبو داود وأحمد عن حميد بن عبد الرحمن عن رجل من الصحابة. وإسناده ضعيف، ورواه أبو نعيم فى معرفة الصحابة من رواية حميد بن عبد الرحمن عن أبيه به. وله شاهد فى البخارى من حديث عائشة قيل: يا رسول اللَّه إن لى جارين فإلى أيهما أهدى؟ قال: "إلى أقربهما منك بابا" اهـ.
9 -
وعن أبى جُحَيْفَةَ رضى اللَّه عنه قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا آكل مُتّكئًا" رواه البخارى.
[المفردات]
لا آكل متكئا: أى لا آكل وأنا مائل على أحد شِقَّىَّ أو معتمدا على الأرض بيدى اليسرى وقد قرر الأطباء أن الآكل مائلا على أحد شقيه لا يكاد يسلم من ضغط يناله فى مجارى طعامه فلا يسيغه ولا يسهل نزوله إلى معدته. مع ما فى هذا الاتكاء عند الأكل من صفة المتكبرين. وقد زعم الخطابى أن الاتكاء هنا لا يراد به ذلك فقط بل يشمل من جلس على الطعام متربعا. ويرد زَعْمَ الخطابى ما جاء فى الحديث الصحيح المتفق عليه: فجلس وكان متكئا، فقال: ألا وقول الزور. ففرق الحديث بين الجلوس والاتكاء.
[البحث]
أورد البخارى رحمه الله هذا الحديث فى كتاب الأطعمة فى باب الأكل متكئا من طريق شيخه أبى نعيم حدثنا مسعر عن على بن الأقمر سمعت أبا جحيفة يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنى لا آكل متكئا" ثم ساق من طريق شيخه عثمان بن أبى شيبة أخبرنا جرير عن منصور عن على بن الأقمر عن أبى جحيفة قال: كنت عند النبى صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده: "لا آكل وأنا متكئ" قال الحافظ فى الفتح: وكان سبب هذا الحديث قصة الأعرابى المذكور فى حديث عبد اللَّه بن بسر عند ابن ماجه والطبرانى بإسناد حسن قيل: "أهديت للنبى صلى الله عليه وسلم شاة، فجثا على ركبتيه يأكل، فقال له أعرابى: ما هذه الجلسة؟ فقال: "إن اللَّه جعلنى عبدا كريما، ولم يجعلنى جبارا عنيدا".
[ما يفيده الحديث]
1 -
كراهية الاتكاء عند الأكل.
2 -
أن الاتكاء عند الأكل ليس من صفات الصالحين.
10 -
وعن عمر بن أبى سلمة رضى اللَّه عنه قال: قال لى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا غلام سَمِّ اللَّه، وكُل بيمينك، وكُلْ مما يليك" متفق عليه.
[المفردات]
عمر بن أبى سلمة: هو ربيب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمُرَبَّى فى حجره صلى الله عليه وسلم عمر بن أبى سلمة (عبد اللَّه) بن عبد الأسد بن هلال بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم ابن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى القرشى المخزومى رضى اللَّه عنه. والصحيح أنه ولد قبل الهجرة بسنتين وأمه أم سلمة أم المؤمنين زوج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو الذى زوجها رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو من صغار الصحابة.
وقد أمَّره على رضى اللَّه عنه على البحرين. وتوفى سنة ثلاث وثمانين على الصحيح.
سَمَّ اللَّه: أى قل بسم اللَّه أو قل بسم اللَّه الرحمن الرحيم فهو أمر بالتسمية قبل الأكل.
وكل بيمينك: أى وليكن أكلك بيدك اليمنى لا بيدك اليسرى.
وكل مما يليك: أى وليكن تناولك مما فى القصعة من الطعام من أدنى مكان منها لك ولا تأخذ من الطعام الذى أمام غيرك من الآكلين معك.
[البحث]
روى البخارى ومسلم واللفظ للبخارى هذا الحديث عن عمر بن أبى سلمة رضى اللَّه عنهما قال: كنت غلاما فى حَجْر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم-
وكانت يدي تطيش فى الصحفة فقال لى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا غلام سمِّ اللَّه، وكل بيمينك، وكل مما يليك" زاد البخارى: فما زالت تلك طِعْمَتى بعد. كما روى البخارى ومسلم واللفظ للبخارى أيضا من حديث عمر بن أبى سلمة وهو ابن أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم قال: أكلت يوما مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طعاما، فجعلت آكل من نواحى الصحفة، فقال لى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"كل مما يليك" ولفظ مسلم: عن عمر بن أبى سلمة أنه قال: أكلت يوما مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فجعلت آخذ من لحم حول الصحفة فقال رسول اللَّه: "كل مما يليك" كما روى مسلم عن حذيفة رضى اللَّه عنه قال: كنا إذا حضرنا مع النبى صلى الله عليه وسلم طعاما لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرة طعاما فجاءت جاريةٌ كأنها تُدْفَعُ، فَذَهَبَتْ لتضع يدها فى الطعام. فأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابى كأنما يُدْفَعُ، فأخذ بيده فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن الشيطان يستحل الطعامَ أن لا يذكر اسمُ اللَّه عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيده، والذى نفسى بيده إن يده فى يدي مع يدها" كما روى مسلم من طريق الضحاك يعنى أبا عاصم عن ابن جريج عن أبى الزبير عن جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه عنهما أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول: إذا دخل الرجل بيته فذكر اللَّه عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عَشَاء، وإذا دخل فلم يذكر اللَّه عند
دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر اللَّه عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء" وفى لفظ لمسلم من طريق روح بن عبادة عن ابن جريج عن أبى الزبير عن جابر بن عبد اللَّه أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول -بمثل حديث أبى عاصم- إلا أنه قال: وإن لم يذكر اسم اللَّه عند طعامه، وإن لم يذكر اسم اللَّه عند دخوله. كما روى مسلم من حديث جابر رضى اللَّه عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تأكلوا بالشمال، فإن الشيطان يأكل بالشمال" وهو الحديث الثالث عشر من أحاديث هذا الباب. كما روى مسلم من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله" كما روى مسلم من حديث سلمة بن الأكوع أن رجلا أكل عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال:"كل بيمينك، قال: لا أستطع. قال: "لا استطعت، ما منعه إلا الكبر" قال: فما رفعها إلى فيه. وقال البخارى: "باب التيمن فى الأكل وغيره" ثم ساق من حديث عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كان النبى صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع فى طُهوره وتنعله وترجله. وفى لفظ: وفى شأنه كله. وسيأتى مزيد بحث لهذا عند الكلام على الحديث الثانى عشر والخامس عشر من أحاديث باب الأدب من كتاب الجامع إن شاء اللَّه تعالى.
أما قوله فى حديث الباب: "وكل مما يليك" فقد بينت
أحاديث صحيحة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إنما يطلب إليه أن يأكل مما يليه إذا كان نوعا واحدا أما إذا كان الطعام أنواعا مختلفة وألوانا شتى فلا حرج على الإِنسان أن يأكل من أى نوع منها وإن كانت لا تليه إذا عرف كذلك أن الآكل معه لا يكره ذلك، فقد قال البخارى "باب من تَتَبَّعَ حوالى القصعة مع صاحبه إذا لم يعرف منه كراهية" ثم ساق من حديث أنس بن مالك رضى اللَّه عنه أن خياطا دعا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه قال أنس: فذهبت مع رسول اللَّه فرأيته يتتبع الدُّبَّاء من حوالى القصعة. قال: فلم أزل أحب الدباء من يومئذ. وقد رواه مسلم بنفس سند البخارى عن أنس رضى اللَّه عنه قال: إن خياطا دعا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه. قال أنس بن مالك: فذهبت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام فقَرَّبَ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خبزا من شعير، ومَرَقًا فيه دُبَّاءٌ وقديدٌ، قال أنس: فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالى الصحفة. قال: فلم أزل أحب الدُّباء منذ يومئذ. وفى لفظ لمسلم من طريق ثابت عن أنس رضى اللَّه عنه قال: دعا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلٌ فانطلقتُ معه، فجئ بِمَرَقَةٍ فيها دُبَّاءٌ فجعل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يأكل من ذلك الدباء ويعجبه، قال: فلما رأيت ذلك جعلتُ ألقيه إليه ولا أطعمه، قال: فقال أنس: فما زلتُ بعدُ يعجبنى الدباء. وقد جاء فى لفظ للبخارى ما يشعر أن هذا الخياط كان غلاما لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقد روى البخارى فى باب (الثريد) من طريق
ثمامة بن أنس عن أنس رضى اللَّه عنه قال: دخلت مع النبى صلى الله عليه وسلم على غلام له خياط، فقدَّم إليه قصعة فيها ثريد -قال: وأقبل على عمله- قال: فجعل النبى صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء، قال: فجعت أتتبعه فأضعه بين يديه، قال: فما زلت بعد أحب الدباء. هذا وسيأتى مزيد بحث للنهى عن الأكل بالشمال فى الحديث الثالث عشر من أحاديث هذا الباب وفى الحديث الخامس عشر من أحاديث باب الأدب من كتاب الجامع إن شاء اللَّه تعالى.
[ما يفيده الحديث]
1 -
وجوب تسمية اللَّه تعالى عند الأكل.
2 -
وجوب الأكل باليمين ما لم يمنعه من ذلك عذر كمرض بها ونحوه.
3 -
وجوب اقتصار الإِنسان على الأكل مما يليه.
4 -
يجوز للإنسان أن يتتبع ما يشتهيه من الصحفة إذا علم أن من يأكل معه لا يكره ذلك.
5 -
استحباب التيمن فى الأمور كلها إلا ما استئنى كدخول بيت الخلاء ونحوه.
11 -
وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم أُتِىَ بقصعة من ثريد فقال: "كلوا من جوانبها، ولا تأكلوا من وسطها، فإن البركة تنزل فى وسطها" رواه الأربعة وهذا لفظ النسائى وسنده صحيح.
[المفردات]
أُتِىَ بقصعة من ثريد: أى قُدِّم لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قصعة من خبز مأدوم باللحم، والقصعة إناء من خشب يوضع فيه الطعام كما تقدم فى مفردات الحديث الثانى من أحاديث باب الغصب.
كلوا من جوانبها: أى ابدعوا الأكل من حافتها.
ولا تأكلوا من وسطها: أى ولا تبدءوا الأكل من وسطها حتى تنتهوا إليه.
فإن البركة: أى فإن بركة اللَّه تعالى على الطعام وخيره.
تنزل فى وسطها: أى تكون فى وسط القصعة وتصل من وسطها إلى حافتها.
[البحث]
قال أبو داود: "باب ما جاء فى الأكل من أعلى الصحفة" حدثنا مسلم بن إبراهيم ثنا شعبة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل أحدكم طعاما فلا يأكل من أعلى الصحفة ولكن ليأكل من أسفلها فإن البركة تنزل من أعلاها. وقال ابن ماجه فى "باب النهى عن الأكل من ذروة الثريد" حدثنا على بن المنذر ثنا محمد بن فُضَيل ثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا وُضِعَ الطعام فخذوا من حافته وَذَرُوا وسطه فإن البركة تنزل
فى وسطه" ورجال سند أبى داود كلهم ثقات. أما سند ابن ماجه ففيه على بن المنذر وهو صدوق رمى بالتشيع، وكذلك محمد بن فضيل صدوق رمى بالتشيع أيضا لكنه من رجال الجماعة.
[ما يفيده الحديث]
1 -
استحباب بدء الأكل من جوانب القصعة.
2 -
أن البركة إذا نزلت على الطعام بدأت بوسطه.
12 -
وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: ما عاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طعاما قط كان إذا اشتهى شيئا أكله، وإن كرهه تركه. متفق عليه.
[المفردات]
ما عاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طعاما قط: أى ما انتقص أو ازدرى أو ذَمَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم طعاما أبدا والمراد الطعام المباح بخلاف المحرَّم فإنه يزدرى ويعاب ويذم وينهى عنه وأشار النووى إلى أن عيب الطعام أن يقال: مالح، حامض، قليل الملح، رقيق، غليظ، غير ناضج ونحو ذلك.
إذا اشتهى شيئا أكله: أى إذا رغب فى أكل شئ من الطعام المقدم له أكَلَهُ.
وإن كرهه تركه: أى وإن لم يشته الطعام المقدم له ولم يرغب فى تناوله كَفَّ عن تناوله وسكت ولم يعبه، مثل ما فعل لما قدم الضب على مائدته صلى الله عليه وسلم.
[البحث]
أورد البخارى ومسلم هذا اللفظ الذى ساقه المصنف من طريق الأعمش عن أبى حازم عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه. ثم قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وأبو كريب ومحمد بن المثنى وعمرو الناقد (واللفظ لأبى كريب) قالوا: أخبرنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبى يحيى مولى آل جَعْدَةَ عن أبى هريرة قال: ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عاب طعاما قط، كان إذا اشتهاه أكله وإن لم يشتهه سكت. وحدثناه أبو كريب ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبى حازم عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم بمثله اهـ وأبو يحيى مولى جعدة بن هبيرة مدنى ما له عند مسلم سوى هذا الحديث، وقد ذكره الدارقطنى فيما انتقد على مسلم، وانتقاد الدارقطنى هذا مردود فإن مسلما أعرف بالرجال منه، وقد أشرت كثيرا إلى أن الرجل قد يخرج له البخارى أو مسلم حديثا معينا عن شيخ معين ولا يخرج له غيره لما يقوم لديه من صحة ضبطه لهذا الحديث دون سواه، فيأتى بعض الناس ممن دون البخارى ومسلم بمراحل شتى ويهجم عليه بسب تخريجه حديث هذا الرجل. ولا شك أن الذى يهجم على البخارى أو مسلم هو كَشَابٍّ غِرٍّ أمام شيخ
مكتمل مجرب. قال الحافظ فى الفتح: والتحقيق أن هذا لا علة فيه لرواية أبى معاوية الوجهين جميعا، وإنما كان يأتى هذا لو اقتصر على أبى يحيى فيكون حينئذ شاذا، أما بعد أن وافق الجماعة على أبى حازم فتكون زيادة محضة حفظها أبو معاوية دون بقية أصحاب الأعمش، وهو من أحفظهم عنه فيقبل واللَّه أعلم اهـ هذا والكف عن عيب الطعام الذى لا يشتهيه الإِنسان به مصالح شتى من بينها أنه قد لا يشتهيه هو ويشتهيه غيره. واللَّه أعلم.
[ما يفيده الحديث]
1 -
كمال حسن أخلاق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
2 -
كراهة عيب الطعام المباح.
3 -
استحباب سكوت الإنسان عن الطعام الذى لا يشتهيه دون عيبه أو عيب الذى أعَدَّه.
4 -
كمال الآداب الإسلامية وسموها.
13 -
وعن جابر رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا تأكلوا بالشمال فإن الشيطان يأكل بالشمال" رواه مسلم.
[المفردات]
بالشمال: أى باليد اليسرى.
فإن الشيطان يأكل بالشمال: أى فإن إبليس وكل متمرد من الجن أو بنى آدم هو الذى يأكل بيده اليسرى.
[البحث]
تقدم فى بحث الحديث العاشر وجوب الأكل باليد اليمنى ما دام الإِنسان قادرا على ذلك، وفى هذا الحديث تأكيد لهذا المعنى بطريق التنفير من مشابهة الشيطان الذى لا يحب اليمين وإنما يأكل بالشمال، والمؤمنون هم أصحاب اليمين، والكافرون هم أصحاب الشمال. أعز اللَّه أصحاب اليمين من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وأذل أصحاب الشمال وسائر اليساريين أعداء اللَّه. وجعلنا بمنه وكرمه ممن يتلقى كتابه بيمينه، وهو أرحم الراحمين. وقال التوربشتى فى قوله "فإن الشيطان يأكل بالشمال": المعنى: أنه يحمل أولياءه من الإِنس على ذلك الصنيع ليضاد به عباد اللَّه الصالحين ثم إن من حق نعمة اللَّه والقيام بشكرها أن تكرم ولا يستهان بها. ومن حق الكرامة أن تتناول باليمين ويميز بين ما كان من النعمة وما كان من الأذى اهـ ولذلك كان الاستنجاء ونحوه باليد اليسرى. ودخول المسجد بالرجل اليمنى والخروج منه بالرجل اليسرى، واللَّه أعلم.
[ما يفيده الحديث]
1 -
تحريم الأكل أو الشرب باليد اليسرى لغير ضرورة.
2 -
وجوب الابتعاد عن مشابهة الشياطين.
3 -
لا يرضى المسلم أن يكون يساريا وأن يتشبه بالشياطين.
14 -
وعن أبى قتادة رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا
شرب أحدكم فلا يتنفس فى الإِناء" ثلاثا متفق عليه، ولأبى داود عن ابن عباس. نحوه وزاد "وينفخ فيه" وصححه الترمذى.
[المفردات]
فلا يتنفس فى الإِناء: أى فلا يجعل هواء فمه يصيب الشراب الذى فى الإِناء حتى لا يلوثه بما قد يخرج معه من شئ غير محبوب.
نحوه: أى نحو حديث أبى قتادة.
وزاد: أى فى حديث ابن عباس عند أبى داود.
وينفخ فيه: أى لا يتنفس فى الإِناء الذى يشرب منه ولا ينفخ فيه كذلك.
وصححه الترمذى: أى وصحح الترمذى حديث ابن عباس رضى اللَّه عنهما.
[البحث]
قول المصنف "ثلاثا" الظاهر أنه سبق قلم، إذ ليس فى حديث أبى قتادة عند الشيخين لفظ "ثلاثا" فلفظه عند البخارى:"إذا شرب أحدكم فلا يتنفس فى الإناء، وإذا بال أحدكم فلا يمسح ذكره بيمينه. وإذا تَمَسَّحَ أحدكم فلا يتمسح بيمينه" ولفظه عند مسلم: "أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى أن يُتَنَفَّسَ فى الإِناء" أما حديث ابن عباس عند أبى داود الذى أشار إليه المصنف فقد قال أبو داود: "باب فى النفخ فى الشراب" حدثنا عبد اللَّه بن محمد النفيلى ثنا ابن عيينة
عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يتنفس فى الإناء أو ينفخ فيه اهـ والحكمة من النهى عن التنفس فى الإِناء أو النفخ فيه هو صيانة ما قد يبقى فى الإِناء من الشراب عن التلوث بما قد يخرج مع النفس من فضلات الطعام أو غيرها مما قد يضر الذى يشرب بعده ويؤذيه. أما الشرب ثلاثا والتنفس خارج الإناء كل مرة فهو هدى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو من الطب النبوى فقد روى البخارى من طريق ثمامة بن عبد اللَّه قال: كان أنس يتنفس فى الإناء مرتين أو ثلاثا وزعم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يتنفس ثلاثا كما روى مسلم من طريق ثمامة بن عبد اللَّه بن أنس عن أنس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يتنفس فى الإِناء ثلاثا. وفى لفظ لمسلم من طريق أبى عصام عن أنس رضى اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتنفس فى الشراب ثلاثا ويقول: إنه أروى وأبرأ وأمرأ. قال أنس فأنا أتنفس فى الشراب ثلاثا. وقد أشارت الرواية الثانية عند مسلم إلى بعض حِكَمِ الشرب على ثلاثة أنفاس وأنه يفيد الشارب رِيًّا أكثر مما لو شرب دفعة واحدة إذ أنه لو شرب فى نفس واحد فقد يقطع التنفس تمام شربه فلا يروى. كما أنه أبرأ من ألم العطش أو أسلم من مرض ينشأ عن الشرب فى نفس واحد. كما أنه أمرأ أى أسوغ لا تنغيص فيه، بخلاف ما إذا شرب فى نفس واحد فقد يغص ويشرقه، ويَضُرُّ بِهِ، ويولد أدواء ولا سيما فى الكبد. هذا ولا معارضة بين حديث الباب "فلا يتنفس فى الإناء" وبين حديث: كان يتنفس فى الشراب
ثلاثا" فإن النهى عنه هو التنفس فى داخل الإناء والمشروع هو التنفس خارج الإِناء أثناء الشرب.
[ما يفيده الحديث]
1 -
كراهة التنفس فى الإِناء أثناء الشرب.
2 -
استحباب أن يشرب الإِنسان على ثلاثة أنفاس.
3 -
صيانة الإسلام للصحة العامة.
4 -
سمو التعاليم الإِسلامية.