الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الأولى الاختلاف منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم
النوع الأول: الاختلاف المذموم
ويكون في حالات:
الحال الأولى: الاختلاف في مسائل العقيدة المتفق عليها عند أهل السنة والجماعة:
فهذا اختلاف مذموم لأن العقيدة ثابتة بنصوص قطعية في الكتاب والسنة وقد أجمع عليها الصحابة فلا يصح أن يكون فيها اختلاف بين المسلمين.
الحال الثانية: الاختلاف في الأدلة القطعية:
والمقصود بها المسائل التي تكون قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، مثل وجوب الصلاة والصيام والزكاة، وقطع يد السارق، ورجم الزاني، ووجوب الحجاب وتحريم الخمر، ونحو ذلك.
فالاختلاف في هذه المسائل غير سائغ لأنه لو قبل الخلاف فيها لما بقي شيء من مسائل الدين إلا وأصبح قابلًا للأخذ والرد.
الحال الثالثة: الاختلاف الناشئ عن تعصبٍ أو هوى لا عن حجةٍ وبرهان:
فقد ذم الله تعالى الذين يجادلون في آياته بغير حجة ولا برهان، فقال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} (غافر: 56) .
وقوله:"سلطان " أي حجة وبرهان.
الحال الرابعة: مخالفة ما أجمعت عليه الأمة:
ففي هذه الحالات الأربع يكون الاختلاف مذمومًا، وهو ما يطلق عليه الشارع الافتراق، كما في حديث الافتراق المشهور الذي رواه عوف بن مالك رضي الله عنه وغيره من الصحابة قال: قال صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وإحدى وسبعون فرقة في النار. والذي نفسي بيده لتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل من هم يا رسول الله، قال الجماعة» ، (1) وفي رواية قال:«من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» ، وفي رواية قال:«هم السواد الأعظم» .
(1) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي عن أكثر من خمسة عشر صحابيًا بأسانيد بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف، ولذا عده بعضهم من الأحاديث المتواترة.
والمتأمل في هذا الحديث يلحظ الفارق بين فقه الصحابة وفقه من بعدهم، فالصحابة رضوان الله عليهم كانت عنايتهم بمعرفة الفرقة الناجية وصفاتها للتشبه بها، ولهذا سألوا النبي عن صفة تلك الفرقة، وكان السائل عمر بن الخطاب كما جاء مصرحًا به في رواية جابر، أما من بعدهم فقد شغلوا بالفرق الهالكة، والعلم بالفرق المنحرفة أمر مطلوب شرعًا، ولذلك كان حذيفة رضي الله عنه يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه.
ويقول الشاعر:
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه
…
ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه.
إلا أن الواجب على المسلم أن يعرف من طرق أهل الضلال الأصول التي ينطلقون منها والمناهج التي يسلكونها ومعرفة أسباب زيغها وانحرافها والرد عليها وبيان فسادها أما التعمق في أقاويلها وتفصيلاتها والفروق الدقيقة بينها فلم يُكلفنا الله به.
وهنا نأتي إلى مسألة هامة تتعلق بهذا الحديث، قد اتخذها بعض الضالين متكئًا للتكفير، وإخراج جميع المخالفين عن الملة، وهي:
هل هذه الفرق المذكورة في الحديث كافرة أو لا؟ .
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من بيان عدة أمور:
أولًا: المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «وستفترق هذه الأمة» هنا أمة الإجابة (1) لا أمة الدعوة، (2) ففرق اليهود والنصارى لا تدخل في عد هذه الفرق.
ثانيًا: قوله عليه الصلاة والسلام: «كلها في النار إلا واحدة» ، هذه الجملة دليل على أن هذه الفرق ضالة مجانبة للحق ومستحقة للوعيد بالنار وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
ثالثًا: الحديث لا دلالة فيه على التكفير أو أن هذه الفرق مخلدة في النار لأن الوعيد بالنار لا يقتضي الخلود فيها، فالكلام في البدع كالكلام في الكبائر وقد توعد النبي صلى الله عليه وسلم بالنار على كثير من الذنوب التي لا يختلف أهل الحق على عدم التكفير بمجردها كالقتل وإباق العبد من مواليه المسلم والرغبة عن الآباء.
ومما يؤيد ذلك: أنه عليه الصلاة والسلام جعل هذه الفرق من الأمة حيث قال: «ستفترق أُمتي على ثلاث وسبعين فرقة» فجعل الاثنتين وسبعين فرقة من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا يعني أنهم مسلمون في الجملة، والأصل أن المسلم باقٍ على إسلامه فلا يخرج منه إلا بيقين.
(1) أمة الإجابة: كل من انتسب إلى الإسلام وإن كان مرتكبًا للبدعة (وإن كانت مكفرة) .
(2)
أمة الدعوة:كل من كُلف باتباع النبي صلى الله عليه وسلم من الثقلين سواء آمن به أولم يؤمن به، فكل من كان موجودًا من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مكلف باتباعه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وكذلك سائر الاثنتين وسبعين فرقة من كان منهم منافقًا فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقًا بل كان مؤمنًا بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافرًا في الباطن وإن أخطأ في التأويل كائنًا ما كان خطؤه. وقد يكون في بعضهم شعبة من شُعب النفاق ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار. ومن قال: إن الاثنتين وسبعين فرقة كل واحد منهم يُكفر كفرًا ينقل عن الملة فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم، بل إجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة فليس منهم من كفر كل واحد من الاثنتين وسبعين فرقة وإنما يكفر بعضهم بعضا ببعض المقالات ". (1)
(1) مجموع الفتاوى 7 / 218.
النوع الثاني من الاختلاف: الاختلاف المحمود
وهو الاختلاف في المسائل الظنية، مثل الاختلاف في وقوع طلاق الثلاث واحدة، والقنوت في صلاة الفجر، ورفع اليدين في الصلاة، وما يجب تغطيته من المرأة، ونحو ذلك.
فمثل هذه المسائل يسوغ فيها الخلاف إذا لم يكن عن تعصب وهوى وإنما عن اجتهاد وتحرٍ لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد» (1) ، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم على اختلافهم في الاجتهاد في صلاة العصر في غزوة بني قريظة. (2)
(1) متفق عليه من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(2)
متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"ما تنازعوا فيه مما أقروا عليه وساغ لهم العمل به من اجتهاد العلماء والمشايخ والأمراء والملوك كاجتهاد الصحابة في قطع اللينة وتركها: واجتهادهم في صلاة العصر لما بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة وأمرهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة فصلى قوم في الطريق في الوقت وقالوا: إنما أراد التعجل لا تفويت الصلاة. وأخرها قوم إلى أن وصلوا وصلوها بعد الوقت تمسكا بظاهر لفظ العموم فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين. . . وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها ; على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولى ولما سئل عن ذلك قال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي. وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم. وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية كسماع الميت صوت الحي وتعذيب الميت ببكاء أهله ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم
ربه قبل الموت مع بقاء الجماعة والألفة. . . ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ". (1)
(1) مجموع الفتاوى 19 / 122.