المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القاعدة الثالثة الحق يقبل من أي جهة جاء - فقه الخلاف وأثره في القضاء على الإرهاب

[يوسف الشبيلي]

الفصل: ‌القاعدة الثالثة الحق يقبل من أي جهة جاء

‌القاعدة الثالثة الحق يقبل من أي جهة جاء

الحق يقبل لكونه موافقًا للدليل، فلا أثر للمتكلم به في قبوله أو رفضه؛ ولهذا كان أهل السنة يقبلون ما عند جميع الطوائف من الحق، ويردون ما عندها من الباطل، بغض النظر عن الموالي منها أو المعادي.

قال تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة 213) .

وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ". . . «اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» . (1)

قال ابن القيم رحمه الله: فمن هداه الله - سبحانه - إلى الأخذ بالحق حيث كان ومع من كان، ولو كان مع من يبغضه ويعاديه، ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه، فهو ممن هدى الله لما اختُلف فيه من الحق.

وقال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة 8) ، ومن العدل فيهم قبول ما عندهم من الحق.

(1) رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 16

وهكذا أدبنا القرآن الكريم حين ساق كلام بلقيس- وقت كفرها - ثم وافقها عليه؛ قال تعالى-حكاية عنها-: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل 34) .

ولما دلّ الشيطان أبا هريرة رضي الله عنه إلى آية الكرسي لتكون له حرزًا من الشيطان، وذلك مقابل فكه من الأسر، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أما إنه قد صدقك وهو كذوب» . (1)

وقد قبل عليه الصلاة والسلام الحق من بعض اليهود ففي سنن النسائي عن قتيلة - امرأة من جهينة - «أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنكم تنددون وإنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة ويقولون ما شاء الله ثم شئت» .

(1) رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 17

بل يقبل الحق وإن جاء على لسان البهائم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكني إنما خلقت للحرث فقال الناس: سبحان الله تعجبا وفزعا أبقرة تكلم؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أومن به وأبو بكر وعمر» قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبه الراعي حتى استنقذها منه فالتفت إليه الذئب فقال له من لها يوم السبع يوم ليس لها راع غيري فقال الناس سبحان الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر» .

وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: اقبلوا الحق من كل من جاء به، وإن كان كافرًا-أو قال فاجرًا- واحذروا زيغة الحكيم، قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: إن على الحق نورًا.

ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ولكنّ الحق يقبل من كل من تكلم به ". (1)

(1) مجموع الفتاوى 5 / 101.

ص: 18

ولا شك أن رسوخ مثل هذه المعاني في أذهان المسلمين من أكبر الدوافع إلى الإذعان للحق والرضوخ له مهما كان قائله، ويجعل المسلم مستسلمًا للحق دومًا، قابلًا له، وهذا من شأنه أن يقضي على التعصب المقيت الذي يحمل صاحبه إلى المنابذة والإصرار على الباطل، لا لشيءٍ إلا لأن القائل بالحق ليس من جماعته أو حزبه أو لربما بلده، وهذا هو عين الإرهاب الفكري حيث يصبح المرء أحادي النظرة، نابذًا لآراء جميع مخالفيه، غير مستعدٍ لأن يتمعن في مقولتهم فضلًا عن أن يقبلها.

إن من شأن التربية القرآنية أن تزيل كل الحواجز التي تقف بين المسلم وقبول الحق، فإن قبول الحق متى بان خير من التمادي في الباطل، ولا غضاضة ولا منقصة عليه في ذلك، فإذا كان سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه قد قبل ذلك الحق من اليهودي، فكيف بآحاد المسلمين ممن يلوح له الحق على لسان من هو خير من ذلك اليهودي.

ص: 19