الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الرابعة وجوب عرض أقوال الناس على الشرع
ما يقوله سائر الناس من الكلام في المطالب الشرعية لا بد من عرضه على الكتاب والسنة، فإن وافق الكتاب والسنة فهو حق يقبل، وإن خالفها فهو باطل يرد.
ولهذا كان الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم ينهون أتباعهم عن تقليدهم في كل شيء، يقول أبو حنيفة: إذا خالف الحديث قولي فاضرب بقولي عرض الحائط، ويقول مالك: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر، يقصد النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي، ويقول أحمد: لا تقلدني ولا تقلدن أبا حنيفة ولا مالكًا ولا الشافعي وخذ من حيث أخذوا. (1)
(1) انظر رسالة: «القول المفيد في حكم التقليد» للشوكاني، أصول الفقه الإسلامي، ص 1130.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ذم الله - تعالى - في القرآن من عدل عن اتباع الرسل إلى ما نشأ عليه من دين آبائه وهذا هو التقليد الذي حرمه الله ورسوله وهو: أن يتبع غير الرسول فيما خالف فيه الرسول وهذا حرام باتفاق المسلمين على كل أحد ; فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق والرسول طاعته فرض على كل أحد من الخاصة والعامة في كل وقت وكل مكان ; في سره وعلانيته وفي جميع أحواله، وهذا من الإيمان قال الله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65)
وقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (النور: 51)
وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36)
وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) .
وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) .
وقد أوجب الله طاعة الرسول على جميع الناس في قريب من أربعين موضعا من القرآن وطاعته طاعة لله: وهي: عبادة الله وحده لا شريك له وذلك هو دين الله وهو الإسلام وكل من أمر الله بطاعته من عالم وأمير ووالد وزوج ; فلأن طاعته طاعة لله، وإلا فإذا أمر بخلاف طاعة الله فإنه لا طاعة له وقد يأمر الوالد والزوج بمباح فيطاع وكذلك الأمير إذا أمر عالما يعلم أنه معصية لله والعالم إذا أفتى المستفتي بما لم يعلم المستفتي أنه مخالف لأمر الله فلا يكون المطيع لهؤلاء عاصيا وأما إذا علم أنه مخالف لأمر الله فطاعته في ذلك معصية لله" اه. (1)
(1) مجموع الفتاوى (19 / 260) .
وهذه القاعدة ذات أثر كبير في حماية المجتمع من الغلو في المتبوعين، ورفعهم فوق منزلتهم التي جعلهم الله عليها، فإن العصمة ليست لأحد من البشر إلا لأنبياء الله ورسله، وبعضهم قد يجعل لمتبوعه قداسة من حيث لا يشعر، فيذعن لقوله، ويسلم لأمره، حتى وإن تبين له أنه على خلاف الحق، وبهذا تظهر الآراء الشاذة والأفكار المنحرفة التي قد تجر ويلات على الأمة الإسلامية برمتها، وما ذاك إلا بسبب التقليد الأعمى، والغلو المذموم في القادة والمتبوعين، وشأن المسلم أن يدور مع الحق حيث دار، وأن يتحرى وجه الصواب في كل مسألة يقدم عليها، ولا سيما في المسائل التي تعم فيها البلوى، وتأخذ طابعًا عموميًا للأمة المسلمة، فينبغي أن يكون صدور الفتوى فيها من هيئات شرعية تأخذ بالاجتهاد الجماعي، كالمجامع الفقهية ولجان الفتوى التي يكون على رأسها علماء ثقات، لأن الرأي الجماعي أحرى بإصابة الحق بإذن الله من الرأي الفردي.
ولهذا كان علماء الأمة يحذرون من زلة العالم، فإن العالِم إذا زل، زل بزلته عالَم، وفي حديث ثوبان رضي الله عنه مرفوعًا:«وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين» . (1)
(1) رواه أحمد من حديث ثوبان رضي الله عنه.
والأئمة المضلون: هم علماء وقادة السوء الذين يحلون ويحرمون على خلاف حكم الله، وقد سمى الله طاعتهم في ذلك عبادة، فقال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" وكثير من المتفقهة وأجناد الملوك وأتباع القضاة والعامة المتبعة لهؤلاء يشركون شرك الطاعة وقد «قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما قرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} فقال: يا رسول الله، " ما عبدوهم فقال ما عبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم» (1) ، فتجد أحد المنحرفين يجعل الواجب ما أوجبه متبوعه والحرام ما حرمه والحلال ما حلله والدين ما شرعه إما دينا وإما دنيا وإما دنيا ودينا، ثم يخوف من امتنع من هذا الشرك وهو لا يخاف أنه أشرك به شيئا في طاعته بغير سلطان من الله وبهذا يخرج من أوجب الله طاعته من رسول وأمير وعالم ووالد وشيخ وغير ذلك " (2) .
(1) الحديث رواه أحمد والترمذي من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
(2)
مجموع الفتاوى (1 / 98) .
وإذا تتبعنا أسباب انحراف الفرق الضالة نجد أن من أهم تلك الأسباب الغلو في المتبوعين حتى أصبح كلامهم مقدمًا على كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فأصبح الولاء والبراء معقودًا على الانقياد لذلك المتبوع من عدمه، فمن قبل أقوال ذلك المتبوع فهو المسلم الذي تجب موالاته، ومن ردها فهو الضال الذي تجب معاداته، وهذا بلا شك هو الوقود الذي يشعل نار الفتنة بين الأحزاب والطوائف، ويذكي روح التعصب والتطرف بين الأفراد والجماعات.