الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر من اسمه نصر الله
[858]
نصر الله بن أسعد بن نصر الله بن عامر بن ابي البركات بن المجلِّي، أبو الفتح البلديُّ.
تفقه على مذهب الإمام الشافعي- رضي الله عنه بالموصل، وتأدّب ثم صار إلى الصاحب كمال الدين أبي الكرم محمد بن علي بن مهاجر الموصلي يكتب له الإنشاء، وصحبه إلى أن مات.
شاهدته بحلب مرةً واحدة، وهو شاب أسمر، قد نزل بعارضيه الشيب. وسألته عن ولادته، فقال: ولدت ببلد فيسنة خمس وتسعين وخمسمائة.
وأنشدني لنفسه من قصيدة يمدح بها الملك الناصر داود بن عيسى بن أبي بكر بن أيوب: [من الطويل]
إليك قطعنا البيد يا ابن المعظَّم
…
على كلِّ حرف كالحنية مرزم
وخضنا بلاداً طال بالماء عهدها
…
ولما تطاها غير عاد وجرهم
عليها فتيُّ كالقسيِّ من السرُّي
…
نشاوى من الإدلاج ميل المعمَّم
إلى الملك داود بن عيسى الَّذي غدت
…
محبته فرضَّا على كل ِّ مسلمد/17 ب/ وهي قصيدة طويلة، ولم ينشدني منها غير ما أوردته، لأنه لم يكن في الوقت سعة لأعلق عنه شيئًا سواها.
وقال يرثي المعين أبا القاسم علي بن الصاحب كمال الدين محمد بن علي بن مهاجر وقد استشهد على أيدي التتار الملاعين- خذلهم الله تعالى- بسنجار:
لعَّل عصيَّ الدَّمع يومًا يساعد
…
ليرتاح محزون ويسعد واجد.
وهب أنَّ عاصيه اجاب مساعداً
…
أما النَّوم عن أجفان عيني شارد
وهب أنَّ عيني عاود الغمض جفنها
…
أما الدَّمع منها في النُّحور قلائد
ترجَّ ولكنَّ الفتى ليس مدركا
…
بحكم يرجِّيه الذي هو فاقد
أبا قاسم إنِّي عليك مولَّه
…
طوال اللَّيالي ساهر الجفن ساهد
أبيت على جِّمر تضمَّنه الحشا
…
وليس له إلا زفيري واقد
/18 أ/ ولم لا وقد كنت المعين على الرَّدى
…
وكلُّ بهذا القول مثلي شاهد
سموت إلى العلياء حتَّى بلتها
…
بعزمٍ له الآراء زند وساعد
ولم ترض في الدُّنيا مقامًا فحزتها
…
غلى جنَّة فيها مقامك خالد
ولم ترض أبناء الزَّمان خوادمًا
…
وخدًّامك الحور الحسان النَّواهد
ويوم قتال الترك حاميت دوننا
…
وجاهدت لمَّا لم يكن من يجاهد
وذدت عن الإسلام بالبيض والظُّبا
…
فللَّه حام من ظباك وذائد
وأمسيت محمود السجايا ممدَّحًا
…
... تشابه مولود كريم ووالد
فما أنا بالناسيك في لبقرب والنَّوى
…
وغن كان يسلي من سواي التَّباعد
فكفَّ ملامي لائمي عن مفجَّع
…
ترقُّ له ممَّا يلاقي الحواسد
ولا تطلب السُّلوان منه وخلِّه
…
يكابد من أشجانه ما يكابد
ومنها:
سقى جدثا أضحى بسنجار كعبة
…
سحائب تحدوها غليه الرَّواعد
وروَّاك من كفِّ الوزير غمائم
…
إذا ضنَّت الأنواء هن موارد
وهي أكثر من هذا.
[859]
/18 ب/ نصر الله بن علي بن نصر الله بن عليِّ بن عبد القاهر بن المجلى، أبو الفتح بن أبي الحسن الموصليُّ، المعروف بابن السمين.
كان فقبهًا حنفيًا حافظًا للقرآن الكريم، درس فقه الإمام أبي حنيفه- رضي الله.
عنه- بالمدرسة البرسقية بالموصل، جوار باب المشرعة على دجلة.
سألته عن ولادته، فقال: ولدت في ثامن رمضان سنة سبع وثمانين وخمسمائة، وذكر أنه ممن يجتمع نسبه بنسب الأمير شرف الدولة أبي المكارم مسلم بن قريش العقيلي. وكان رجلا شديد صفرة اللون مائلاً إلى السمرة.
اجتمعت به غير مرّة وسألته إنشاد شيء من شعره فأنشدني كثيراً منه، إلاّ أنًّه لم يكن في ذلك الوقت فسحة مجاًل لأعلقه عنه، ثم توجهت إلى البلاد الشاميّة، وخبرت أنًّه توفي- رحمه الله تعالى-
ومما أنشدني لنفسه وظفرت به في بعض التعليقات قوله: [من الطويل]
/19 أ/ سلام وإن لم يشف حرَّ أوامي
…
تحيَّة مشتاق ورجع سلام
سلام كما مرَّ النَّسيم بنشركم
…
يضوع بوجدي ناهض وغرامي
على عيشة ولَّت بكم فكأنَّها
…
بعيني وإن طالت حديث منام
ألا قاتل الله الفراق فكم رمى
…
صحيح فؤاد بعدكم بسقام
وأغطش ليل الوصل بعد أبيضاضه
…
وأيَّامنا محفوفة بظلام
[860]
نصر الله بن محمد بن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن أبي الفرج بن الحسن بن عليِّ، أبو البركات الأنصاريُّ، المعروف بابن الحنبليِّ.
من أهل دمشق وأشهر بيت بها. الشيخ الفقيه الأديب.
فقيه محسوب مع الفقهاء، وشاعر معدود من جملة الشعراء، جيد المقاصد، حسن المصادر والموارد. سافر إلى بلاد اليمن واتصل بخدمة الملك العزيز أبي الفوارس طغتكين بن أيوب بن شاذي- سلطان اليمن- واختص به، واكتسب منه مالاً طائلاً ورزقاَ واسعًا، ثم عاد إلى دمشق، وتوفي بها قبل سنة عشر وستمائة.
ومن شعره فيه يمدحه سنة/19 ب/ ثمان وثمانين وخمسمائة: [من الوافر]
سقى بردى وواديها سحاب
…
ملثُّ القطر هطَّال رباب
وروَّى النَّيربين فبيت لهيا
…
بغيثٍ لا يغبُّ له انسكاب
إلى الشَّرف المنيف فما حوته
…
جواسق كلُّ ما فيها عجاب
معاهد لذَّتي ومقر ومقرُّ أنسي
…
وإخوان بهم طابت وطابوا
ومنها:
يكاد القلب من فرط اشتياقٍ
…
يطير لها كما طارت عقاب
فكم من ليلة نادمت فيها
…
رشًا في مثله عذب العذاب
له من خصره فينا انعطاف
…
ومن أردافه عنَّا انجذاب
أرى ما أعوزتنا الرَّاح يوما
…
فريقته لنا عنها مناب
خلوت به ولا أرب سوى ما
…
يطارحه من الوجد العتاب
ومنها:
وكعبة لذَّة تجلو عجوز الـ
…
ـكروم لنا بها خود كعاب
بليل عاد كالبازيِّ لونًا
…
بها وبراحها وهو الغراب
/20 أ/ تغازلني عيون العين فيه
…
ويرفع بالحواجب لي الحجاب
قصرت على الغنا ما طال منه
…
إلى أن شاب وانتقل الخضاب
غنينا بالغناء عن الغواني
…
ولم نلمم بما تحوي الثِّياب
وأسفر صبحنا يحكي محيَّا الـ ـ
…
ـعزيز الملك أطلعه الإياب
هو الملك الجواد بما حواه
…
إذا ما ضنَّ بالغيث السَّحاب
جميل الذِّكر ذو رأي سديد
…
يهون به إذا فعل الصَّواب
يدلُّ عليه في الجلَّى سناه
…
وهل للبدر في الظُّلم احتجاب
واروع لا يخاف هجوم خطبٍ
…
عليه لا يعيب ولا يعاب
إذا ما عدَّدوا الأملاك طرّاً
…
غدا ترب السُّها وهم التراب
تخرُّ الصِّيد من رهب لديه .. وتعنو حين يرتفع الحجاب
ماثر لو أردت لها حسابًا
…
تقاصر عن إحاطتها الحساب
فداؤك كل ذي عرضٍ مهيب
…
لراجيه وعرض لا يهاب
وهي قصيدة طويلة وهذا القدر منها كاف.
[861]
نصر الله بن محمد بن بابا، أبو الفتح بن أبي بكرٍ الأسعرديُّ من أهل ديار بكر.
كان شاعراً متسعًا في القوافي، قوي النفس، طويل الباع في نظم القريض صاحب قدرة على إنشائه، سمّى نفسه "مادح الرحمن" لأنه استفرغ جميع شعره في الله- عز وجل والثناء عليه والتوحيد له سبحانه وتعالى. ولم يتعرض لمدح أحد من العالم البتة، وديوان أشعاره كبير الحجم.
أقام بالبلاد الشامية زمانًا طويلاً، وكتب الناس كثيراً من شعره، ورووه عنه، وسمع الحيص بيص الشاعر، ونزل دمشق وكتب عنه من شعره العماد أبو حامد محمد بن محمد بن حامد الكاتب الأصفهاني، وأثبت ذكره في كتابه "ذيل الخريدة وسيل الجريدة" وأورد له أبياتًا في التوحيد والزهد والاعتبار، وغير ذلك.
أنشدني الشيخ الخطيب أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن أبي بكر بن إسماعيل القرطبي ثم الدمشقي بها- رحمه الله تعالى- من /22 أ/ لفظه- وذكر لي أنَّ جميع ديوان شعره، سمعته عليه، قال: أنشدني أب الفتح- مادح الرحمن- لنفسه، من قصيدة أولها في التوحيد- عّز جل-:[من الكامل]
عُّز توحَّد قبل كلِّ موحَّد
…
وعلا بمجدٍ بعد كلِّ ممجَّد
ودوام مولًى لا يدوم بقاؤه
…
لمَّا يلد أحداً ولمَّا يولد
ملك محامده بعيد نيلها
…
وعطاؤه سهل قريب المورد
تفني الصِّفات ولا تحيط بوصفه
…
أيحيط ما يفنى بما لم ينفد
ويكلُّ فهم العقل عن إدراكه
…
ويعود عنه بحيرة وتلدُّد
رب كريم ما يخيب سائلاً
…
... فاضرع إليه بذلَّةٍ وتعبُّد
واطلب عظيمًا من عظيم جلاله
…
وارغب إليه وزده حمداً تزدد
وانظر إلى أكوانه من فوقنا
…
وقيامهنَّ وما دعمن بأعمد
ونرانها بكواكب كمواكبٍ
…
يهدي بها الرَّحمان لبَّ المهتدي
إنَّ الصَّنائع بدؤها من صانعٍ
…
إذ كلُّ تشييد فعال مشيِّد
وبوسعها يومي إلى فهم الورى
…
أنَّ التَّوسُّع من وفيِّ الموعد
/22 ب/ وبقهر صانعها تذلُّ ولطفه
…
ببديع إتقانٍ بها وتأيُّد
وطلوعها ستًا مقابل ستَّة
…
... وسعافها عن لؤلؤٍ وزبر جد
وبشمسها وهلالها في عرضها
…
ما بين منحدرٍ بها أو مصعد
وبريِّسيها المشتري وعطاردٍ
…
وكبيرها زحلٍ عقيد الأسعد
وبحمرة المرِّيخ في أكنافها
…
... وبياض زهرتها البهيِّ الموقد
وبشعرييها جنبتي جوزائها
…
وبجديها وسهيلها والفرقيد
وبما تجمع في الثُّريَّا عبرة
…
من شبه عنقود وحقَّه عسجد
وبأنجمٍ في فيحها كمارقٍ
…
تردي بشهب النَّار كلَّ ممرَّد
وبفجرها الموفي على أكنافها
…
كالوجه يطلع من بجادٍ أسود
حكم تدل على حكيمٍ قادر
…
وقنادل تطفى بيوم الموعد
تزري ببطليموس في أحكامه
…
... ومقاله بالظَّنَّ لا عن مسند
إن قال عقل أوَّل وجدت به
…
نفس وأفلاك بغير تقصُّد
كلُّ بدا من غيره بضرورةٍ
…
فالعقل يدفع ذلك الظَّن الرَّدي
إذ كل عقل فاعل عن قوَّةٍ
…
... عقلاً ونفساً بالدَّوام السَّرمد
/21 أ/ لو صحَّ ذلك لم تكن أفلاكها
…
معلومةً كلَاّ ولم تتعدًّد
أو قال من غرب تسير نجومها
…
فالحسن يقطع حدس ذاك الملحد
أو ما تراها طلَّعًا من شرقها
…
... وتغيب في حمأ وثأط حرمد
أو قال مجتمع الكواكب محدث
…
ريحًا تعفِّي أثًر كلِّ موطَّد
فقد اجتمعن وما أثرن تغيُّراً
…
كلَاّ وحرَّكن طاقة غرقد
هيهات بل بإرادة من قادر
…
ما في الوجود وفعل ملك موجد
فيما أتانا عن نبيِّ صادقً
…
وكتاب وحيٍ بالبيان مؤيَّد
وهي قصيدة طويلة، وفيما ذكرنا منها فيه كفاية وغنى.
وقال في مناجاته ودعائه لله- جل جلاله وتقدست أسماؤه: [من مجزوء الكامل]
مولاي رِّبي خالقي
…
ملكي مجيري يا معيني
يا من لطائف برِّه
…
تشفي الفؤاد من الشُّجون
/21 ب/ لولاك تعطف بي قلو
…
ب الخلق ب لم يقبلوني
فارحم وجد لي بالرِّضا
…
والنَّصر في دنيا ودين
فلأنت أهل للعطاء
…
ولست بالملك الضَّنين
إنِّي أرى حسناك لي
…
... يا ربِّ في كلِّ الفنون
وأرى يقيني في علاك
…
... جميع ما أخشى يقيني
وقال أيضًا، وقد أشار عليه إنسان بمدح بعض الملوك الوزراء، ورغبه فيما لديهم فأنشد:[من الكامل]
يا مالكي أعجزت شكري بالَّذي
…
أوليتني في عود أمري والبدي
وتفيدني إن شئت رزقًا واسعًا
…
تغني يدي عن أن تمدَّ إلى يد
أنت الَّذي وفَّقتني ومنحتني
…
وجعلتني بثناء مجدك أرتدي
وفتحت لي من وصف عزمك مشربا
…
في ورده فكري يروح ويغتدي
إن حار فهمي فهو معذور ومن
…
... يحوي القديم بهالك متجدِّد
/23 أ/ صمد إذا طرت الهموم بخاطري
…
داويتها بمديحه المتمجِّد
ولعلَّ رحمته وما آيستها
…
تردي الرَّوائع عن فؤادي المكمد
ويصون ماء الوجه عن إهراقه
…
... ويعيد لي فينان عيش أرغد
فيداه أوسع منحةً من غيرها
…
وجداه أنفع نجعةً للمجتدي
قال: امتدح غير الإله مناصح
…
فرشدت حين عصيت قول المرشد
أأروم غيرك يا إلهي مادحًا
…
للخلق فضَّ فمي إذاً بالجلمد
فلكم لطفت بضعف عبدك منَّة
…
أجهدتها شكري ولمَّا تجهد
ثمَّ الصَّلاة على الرَّسول إلى الورى
…
... طرّاً وخير العالمين محمَّد
"صلى الله عليه وسلم".
وقال وقد خذله بعض أصدقائه، ففرَّ إلى الله تعالى:[من الخفيف]
يا إلهي عبيدك البائس الأضعـ .... ـف يبغي إليك منك فرارا
غير أنِّي تخذت وجهك يا مو
…
لاي لي من حوادث الدَّهر جارا
[ومقر بذنبه ليس بالجا
…
حد ما قدَّمت يداه اختيارا]
/23 ب/ لم أجد لي من الأنام مجيراً
…
فاستخرت المهيمن القَّهارا
فأنا اليوم جار من ليس في الأرض
…
بجارٍ أعزَّ منه جوارا
يا إلهي وأنت أكرم من سا
…
... قت إلينا القرائح الأشعارا
إن أكن مذنبًا هجومًا فما زلـ
…
... ـت لمن تاب راحمًا غفَّارا
أو أكن قد ظلمت نفسي فقدمًا
…
كنت مولاي ماحيًا ستَّارا
فاعف عنِّي فأنت أرحم لي منِّـ
…
ـي يا ربِّ منَّةً وانتصارا
كيف ما تصرف الحوادث عنِّي
…
وإلهي يصرِّف الأقدارا
مالك المالكين مولًى إذا ما
…
فكَّر القلب في تعاليه حارا
وصلاة الإله تترى على أحـ
…
ـمد ما طارد الظَّلام النَّهارا
وقال أيضًا على وزن قصيدة عدي بن زيد التي أولها:
أيُّها الشَّامت المعيِّر بالدَّهر ..........................
فعارضها بقوله: [من الخفيف]
/24 أ/ دع خداعًا يغريك فيه الغرور
…
وتفكَّر فيما إليه تصير
فمتاع الدَّنيا قليل وخير الـ
…
... ـفوز خير هو المحلُّ النَّضير
أي عيشٍ يلذُّ للمرء والآ
…
خر قبر ومنكر ونكير
وقيام من بعده وحساب
…
وصراط وجنَّة وسعير
إنَّ قومًا قد هدِّدوا بجحيم
…
وبيوم أهواله تستطير
لجدير أن يهجروا الغمض واللَّذَّ
…
ة والأمن فالحياة غرور
أجميل لعاقل أن يلاقي اللَّـ
…
ـه يوم الجزاء وهو فقير
أفينسي ما قد جناه وقد أحـ
…
ـصي عليه النَّقير والقطمير
أفيرضى بأن يعيش بعيشٍ الأ
…
تن مغزاه منكح وشعير
أو ما شاهد الَّذي أمسك الما
…
ء وأوقاته مضت تبذير
بينما هم يقبِّلون ثغور الـ
…
ـبيض أفضت إلى التَّراب الثُّغور
مال عن مالك جذيمة كرها
…
لاختيار وهو الشجير السَّمير
وكذا الفرقدان سوف يروَّعن
…
ببينٍ إذ السَّماء تمور
هكذا الدَّهر لا يديم نعيمًا
…
إنَّما العاقل العمول الصَّبور
/24 ب/ أين كسرى وتبَّع وبنو الأصفر
…
أين النُّعمان أين السَّدير
أين عملاق والألى من بني عا
…
د وأين الزَّبَّاء أين قصير
أين فرعون أين هامان ذو الصَّر
…
ح وأين الأنهار أين السُّتور
كم رحى للمنون دارت على دا
…
راوكم قيصر رمته القصور
ثمَّ ثنَّت بال جفنة فالجفـ
…
ـنة من بعدهم خلاء بور
وكذا مأرب خلاء من الأز
…
د خراب يسفي عليه المور
ثمَّ عاد من بعدهم وثمود
…
لا اقشعرَّت بعد الهلاك الدُّور
وملوك من بعدهم عمروا الأرض
…
فأين العمَّار والمعمور
طحطح الموت عزَّهم فثووا في
…
قعر غبراء والجدود عثور
لم تدافع جنودهم نكبة الـ
…
ـدَّهر ولا جزؤها العشير العشير
سرح الدُّود في العرانين منهم
…
مذ حوتهم صفائح وقبور
هذه [شيمة] الزمَّان فما يبـ
…
ـقى عليه مؤمَّر ووزير
ليس يبقى سوى إلاه عظيمٍ
…
ما تخطى إلى حماه الدُّهور
ملك ثابت الأواحي إذّا ما
…
... زلَّ بالمالك العظيم السَّرير
/25 أ/ كان قبل الأكوان مولى رحيماً
…
وهو بعد الآباد حي قدير
لا شريك له تعالى ولا ضد
…
... نديد ولا شبيه نظير
محسن بالمسيء إن تاب قهَّا
…
... ر لذي الكبرياء ياء فهو الكبير
أحد يستلذ ذكراه ذو اللُّـ
…
ـبِّ وتبيض من ثناه السطور
ملك كلَّما تعمدت مدحيه
…
احتسابا يحار فيه الضَّمير
لا تداني الأوهام تكييف عليا
…
هـ فكيف التَّمثيل والتَّصوير
آخذ باليدين من عثرة الدَّهـ
…
ـر يداه المبسوطتان تمير
صمد أرتجيه يفرج كربي
…
ففؤادي ممَّا يلاقي كسير
ماجد تدهش الخواطر فيه
…
وتظلُّ الأفكار حيرى تدر
يعلم الوهم إن تحرَّك في الفهـ
…
ـم وما تنطوي عليه الصُّدور
يتقيه الوجود جمعًا ومن فيـ
…
ـه ويعيى عن وصفه التَّفكير
لا كمن تسلب الحوادث علياه
…
فيبقى وهو المهان الحقير
واحد ماجد جواد كريم
…
محسن منعم سميع بصير
أول آخر معيد مبيد
…
قادر قاهر مجيب مجير
/25 ب/ قابض باسط رؤوف عطوف
…
... عالم حاكم عفو غفور
يعجز العقل عن دراك تعاليـ
…
ـه كما ضاع في علاه الخبير
علمه مدرك لما ذرَّ في البـ
…
ـرِّ وما غمَّضت عليه البحور
عزَّ ذ الطَّول عن حياز مقالٍ
…
فلجول الأفكار فيه قصور
وانثنت حيرةً وتاهت فما تحـ
…
ـصي ثناء وبان فيها الفتور
من هو الذِّهن عند نعت عظيم
…
خوف بأسائه الجبال تسير
فالزمن مدحه وإن مسَّك الذ
…
لُّ فما دام شدَّة وحبور
قل ولا بأس إن تأخَّر وعد
…
فمتاع الدُّنيا حقير يسير
فله نفحة يفك لها العا
…
ني حنوّا ويطلق المأسور
فكأنِّي بجائزاتك قد جئـ
…
ـن من الله والسُّرور بشير
واتَّئد ويك والثم الأرض ذلاً
…
أفتدري بمن بمدح تشير
ذلك الله ذو المعارج والطَّو
…
ل الَّذي لم تضع لديه الأجور
وصلاة الإله تترى على أحـ
…
ـمد ما بشر الصَّباح المنير
"صلى الله عليه وسلم".
وقال أيضًا: [من الطويل]
/26 أ/ إذا أنا لم أخلص لرِّبي قصائدي
…
... فمن يخلص قلبي له أبداً قصدا
أرى الغيَّ تعظيمي سواه ولا أرى
…
... لغير ثنائي فيه نجحًا ولا رشدا
فصيَّرت تعظيمي وذلِّي بوجهه
…
وحمدي ومدحي عند مولاي لي عهدا
أرجِّيه في الدُّنيا معيني وناصري
…
وفي الحشر أرجو أن يبوِّئني الخلدا
جعلت غرامي في مديح جلاله
…
فلم أنعت لبينى ولا سعدى
وظلَّ فمي لمَّا تلوت ثناءه
…
يضوع ولا دانيت مسكًا ولا ندَّا
وحار به فهمي فأرعد خاطري
…
فكلَّ ولا يحصي لأوصافه عدَّا
وأذعن عجزاً عن دراك نعوته
…
وليس عليه غير أن يبلغ الجهدا
وكيف يجوز الوصف مجد معظَّم
…
... ولا حدَّ من آلاوه جازت الحَّدا
وكان ولا كون تبارك مجده
…
قديما كريمًا ماجداً صمداً فردا
ولمَّا انتهى من وصف مدحيه خاطري
…
وطرَّب في أوصافه وضع الخَّدا
رأى أنَّه لمَّا ارتضاه لمدحه
…
حوى الطَّائر الميمون والطاَّئر السَّعدا
تعفَّر شكراً إذ حماه إلهه
…
فلم يلبس المخلوق مدحًا ولا مجدا
علام أما يكفى موارد جوده
…
لمن يبتغي الإرفاد يجعلها وردا
[بلى وصلاة الله ما ذرَّ شارق
…
على أحمد المختار أتعبها وخدا
"صلى الله عليه وسلم"].
[862]
/26 ب/ نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشَّيباني، أبو الفتح بن أبي الكرم الوزير الكاتب المنشئ المعروف بابن الأثير.
هو وأخواه أبو السعادات المبارك، وأبو الحسن علي أبناء محمد الأثير، كلُّ منهم كان فاضلاً إمامًا في العلم كثير الجاه والحرمة. وكان أصلهم من باعيناثا من أعمال الجزيرة العمريّة.
وأبو الفتح استظهر القرآن العزيز، وشدا طرفًا من الأدب وعلم العربية وسمع الحديث النبوي على أخيه أبي السعادات. وأخذ معرفة الحساب على الإمام أبي العباس أحمد بن عبد الرحمن بن وهبان الأنصاري الجزري، وجالس الشيخ أبا الحرم مكيّ بن ريّان النحوي المقرئ الماكسي بالموصل، وقرأ عليه شيئًا. وحفظ من أشعار الجاهلية والعربية وأشعار المحدثين والأحاديث النبوية والأمثال والِّسير صدراً وافراً. وعانى فن الترسُّل وصرف همته إليه طول عمره فبرَّز فيه تبريز المفلقين حتى أعجز المتقدمين وسلك فيه طريقة لم يسلكها أحد قبله. وكان رب البلاغة وناظم شذورها، العارف بنوعيّ منظومها ومنثورها.
قد ألقى إليه البيان فاضل زمامه، وبلغ في الكتابة أقصى مرامه، وملك أعنَّتها.
وحازها، وعرق حقيقتها ومجازها. به ختم ديوان الإنشاء وإليه انتهت صناعة الترسل، فهو شيخ الكتّاب ورئيسهم، وإمام البلغاء ونفيسهم، وبقية الزمان في وقته، ونقّاد الشعر ومعرفة جيّده من رديئه، وصحيحه من سقيمه.
اشتهرت بين الناس فضائله وسارت في الآفاق رسائله، وصنّف مصنفات جميلةَ مفيدةً جيدةً في علمي المعاني والبيان، وأنشأ رسائل أودعها أبكار معانٍ مخترعة أفرد لهن منها كتابًا، وسيأتي ذكر مصنفاته في موضعها من الكتاب- إن شاء الله تعالى-.
وفارق الجزيرة مسقط رأسه في رجب سنة تسع وسبعين وخمسمائة، وقدم/28 ب/ الموصل. وأقام بها في خدمة الأمير مجاهد الدين أبي منصور قايماز بن عبد الله الزيني- رضي الله عنه وربما كان يكتب له الإنشاء.
ثم سافر إلى الشام في ربيع الأوّل سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فوصله القاضي الفاضل أبو علي عبد الرحيم بن علي البيساني بخدمة السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب- رحمه الله تعالى- في جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين- وأقام عنده إلى شوال من السنة.
ثم طلبه ولده الملك الأفضل نور الدين أبو الحسن علي فخيّره الملك الناصر بين المقام في خدمته وبين المضي إلى ولده، وقال له: إذا اتصلت بولدي فالذي قررناه لك باقٍ عليك. فاتصل بالملك الأفضل في شوال من السنة المذكورة، فتولَّى وزارته وكتابته، وعلّق به جميع أموره، فلما توفي الملك الناصر استقلّ بوزارة ممالكه جميعها، فجمع بين تدبيري السيف والقلم.
وكانت إليه الوزارة وكتابة الإنشاء /27 أ/ فلم يزل معه على تصرفات أموره، إلى أن انتزع الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب دمشق من الأفضل، فأخرج الملك العادل أبا الفتح منهما في صندوق مقفل عليه خوفًا من العامّة لئلا يهلكوه [لما] في نفوسهم من ظلمه وحماقته وما عاملهم به من قبيح الفعال، لأنه كان- لما تولّى عليهم- غير محمود الطريقة، ولا مرضي السيرة.
وأقام بسميساط فاستأذن الملك الأفضل في الانصراف إلى وطنه فأذن له فانفصل عنه في ذي القعدة سنة سبع وستمائة.
ثم سافر إلى حلب فلم يلتفت إليه صاحبها، فامتد إلى سنجار فمكث بها مدةً، ثم جاء إلى الموصل وإلى إربل وأقام بها قليلاً، وعاد منها إلى سنجار فاستقرّ قراره بها برهةً من الزمان.
ثم استدعاه بدر الدين أبو الفضائل لؤلؤ بن عبد الله- صاحب الموصل- سنة ثماني عشرة وستمائة ليكتب له الإنشاء في ديوانه، فقدمها ونزل بالرباط المنسوب إليهم الذي أحدثه/27 ب/ أخوه أبو السعادات، ورتّب له جاريًا ورزقًا. وصار رأس الكتاب ومنشئ الدولة. وأنفذه عدّة مرات رسولاً إلى الديوان العزيز، فكان يكرم ويبجّل وينظر بعين الاحترام.
وكان مدَّة مقامه بالموصل مشتغلاً بالتصنيف، وجماعة من الناس يختلفون إليه ويقتبسون من فوائده، إلَاّ أنَّه كان كثير الحماقة متناقض الأحوال، متهوراً في أموره، سفيه اللسان جبّاهًا لمن يخاطبه ولو كان ملكًا أو سلطانًا، ممقوتًا إلى الناس، شرس الأخلاق، سريع الغضب، متكبراً في نفسه، ذا عجبٍ عظيم، وصلف زائد يتجاوز فيهما الحدّ، قليل المبالاة بالخلق لا يرى في العالم إلَاّ نفسه، فيبخس الناس حقوقهم، ويحطُّهم من أقدارهم، ويرمقهم بعين الإهمال. ومما يستدلُّ على رقاعته وتهوره أن َّ القاضي الفاضل هو الذي رفعه وقدّمه في الدولة الناصرية الصلاحية.
وكان يبلغ عصره فضلاً وفهمًا وترسلاً، وأوحد زمانه جاهًا وعلمًا ودينًا، وبه يضرب المثل /29 أ/ في الكتابة وصنعة الإنشاء، يحطُّه عن منزلته وينقصه من مرتبته فكان إذا أجرى ذكره في بعض مصنفاته، يقول: حدثني عبد الرحيم بن علي البيساني، وقال عبد الرحيم لم يزد شيئًا. فانظر إلى هذا الجهل والحمق من هذا الرجل فما كان يستحق منه أن يوفيه حقّه من العلم والحرمة أن يكنّيه فضلاً عن أن يذكره بلقبه، وأيضًا من حيث أنه كان السبب في تقديمه وإيصاله.
وكان على ما أعطي من الإقتدار في الترسل والبراعة لم يكن صاحب بديهة وارتجال في الإنشاء والكتابة. وكان بطيء القريحة، جامد الخاطر، بل إنّه كان جيد الرويّة، صحيح الفكرة.
وإذا رام إنشاء كتاب يتهيأ له، ويشرع في عمله، ثمَّ يغلق حينئذ عليه باب داره،
ولم يمكّن أحداً من الوصول إليه، ويتخلّى بنفسه، ويديم الفكر ويكتب ثم يخرق ما يكتبه ويعاود النظر فيه زمانًا طويلاً، فإذا تمَّ له الغرض من المعنى المطلوب اعتبره /29 ب/ أيضًا، وأنفذه فيكون ارتفاع الكتاب في مدَّة يوم وليلة أو أكثر، فيأتي كأحسن شيء يوضع ويضع.
شاهدته مراراً لا أحصيها كثرةً، وحضرت مجلسه أيام كان أخوه أبو الحسن حيًا.
وكان شيخًا طويلاً، بهي المنظر، حسن الهيأة واللباس، نقي الشيبة، نظيف الثياب، عليه أبهة ذوي الرئاسة والجلالة.
وكنت أعاين من زعارة أخلاقه ونزاقته، وضيق عطنه ما يبغض به نفسه إلى كل من يسمع به، فكيف من يراه ويحادثه! وربما كنت أساله عن معنى بيت شعر أو تاريخ وفاة بعض الفضلاء فيجيبني من غير انزعاج ولا غضب بأحسن جواب. وكان في بعض الأوقات يستدعي مني الكلام، ويسألني عن الأمر الذي سمت نفسي إلى عمله وألزمتها به، فأذكر له ذلك فيستحسنه ويقول لي: ما قصرت، فأدعو له.
استجزته فأجزني جميع مصنفاته ورواياته وما يدخل تحت الإجازة، وكتب ذلك لي بخط يده في صدر /30 أ/ إجازتي. وسألته عن ولادته، فقال: ولدت يوم الخميس العشرين من شعبان سنة ثمان وخمسين وخمسمائة بالجزيرة العمريّة وخبرت أنَّه انحدر إلى مدينة السلام في رسالة عن صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ بن عبد الله، فتوفي بها يوم الإثنين سلخ ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين وستمائة. ودفن بالجانب الغربي بمشهد الإمام موسى بن جعفر- عليه السلام رحمه الله تعالى.
ومن تصانيفه كتاب "الوشي المرقوم في حلّ المنظوم"، وكتاب "الرسالة المخترعة في المعاني المبتدعة" وكتاب "التوصُّل إلى علم الترسُّل" وكتاب "المثل السائر فيما يحتاج إليه الكاتب والشاعر"، وكتاب "الاستدراك" وهو مما استدركه على الشيخ أبي محمد سعيد بن المبارك بن الدهان النحوي في رسالته التي ترجمها: ب" الرسالة السعدية في المآخذ الكنديّة من المعاني الطائية"، /30 ب/ وكتاب ديوان رسائله في نحو عشر مجلدات، وغير ذلك من المصنَّفات.
وكان قصير النفس في عمل الشعر لا طائل له في نظمه يعمل منه البيت والبيتين أو الثلاثة/ لم تكن بتلك القوة، ولا من رائق الشعر وجيّده.
ومما اشتهر من شعره، قوله وقد فارق الموصل متوجهًا إلى الشام، وانفصل عن خدمة الأمير مجاهد الدين قايماز بن عبد الله الزيني، وذلك في سنة سبع وثمانين وخمسمائة في ربيعها الأوّل عند حصار الجزيرة أتابك مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، وأنفذها فقرئت على الأمير مجاهد الدين- رحمه الله تعالى- قالها في اقتضاء الحال:[من المنسرح].
يا راكبًا يقطع الفلاة ولا
…
يلفته عن مراده سأم
عج بمحلِّ الندى ومن عمَّت الآ
…
فاق من جود كفِّه ديم
إن ذكرت في الدّثجى مناقبه الـ
…
ـغر أنارت من وصفها الظلم
مجاهد الدِّين من به أنحسرت
…
عن البرايا الآفات والنِّقم
/31 أ/ وقل له أين خدمتي لك يا مولاي
…
أين الحقوق والذِّمم
أين الَّذي شاع عنك من
…
حفظك الودَّ [و] العهود والعصم
أين المواعيد بالعطاء وبا
…
لإحسان أين السماح والكرم
تلك أحاديث الليل ذابت مع الشَّـ
…
ـمس وذاك الميثاق منفصم
نسيت ما كان في الرِّباط من الأ
…
يمان أم غال عهدها القدم
شاطرتني الملك بالوعود وإذ
…
أنت ولا صاحب ولا حشم
فحيث عادت دنياك عدت عن الـ
…
ـوعد وما هكذا جرى القسم
ومما ضمنه كتابه الملقَّب بالمثل السائر، قوله:[من مجزوء الرجز]
ثلاثة تنفي التَّرح
…
كأس وكوب وقدح
ما ذبح الزِّق بها
…
إلَاّ وللهمِّ ذبح
وهذا أنموذج من رسائله ما كتبه إلى الأصدقاء جوابًا وابتداءّ من مصر والشام /31 ب/ وغيرهما من البلاد بعد سفره من الموصل، فمن ذلك كتاب كتبه عن بعض.
أصدقائه جوابًا عن كتابه وهو:
"وصل كتاب فلانٍ، جعل الله أقلامه للبيان طليعة، وللبنان وشيعة، وللإحسان شريعة. ولا زالت تروض نبيض حكمها صفحة القرطاس، وتدير بها على الخواطر ما تديره الحميّا في الكأس، وتخرج منها شرابًا مختلفًا ألونه فيه شفاء للناس، فتأنق لي حتى حسبته روضةً فمددت يدي لاقتطاف زهرها، وارتشاف ثمرها، وأعطيت النفس ما شاءت من حظ سمعها وبصرها. ثم إنّي عدت على نفسي منبهًا، ورجعت في التشبيه الذي كنت مشبِّهًا، وقلت: أين حوك الدِّيم من حوك القلم؟ وأين زهر الروض الذي يمضي أوانه وتحول ألوانه، من زهر اللفظ الذي تبقي أفوافه، ويترفع عن منال /32 أ/ الأيدي قطافه:[من الكامل]
تنسى الرِّياض وما يروِّض فكره
…
أبداً على مرّ اللَّيالي يذكر
ولمًّا وقفت عليه، أهدى إلي أرج طيبٍ، وجلا عليَّ وجه حبيب، وزارني على أنس مزاره في حسنٍ غريب، فقلت: أهلاً بمن عمر مجلسي من زور هنائه، وألبسني ثوبًا من سناه وسنائه. ثم حيّيته تحية التعظيم، وصافحته مصافحة التسليم، وجلست منه مجلس التعلم، وأجلسته مجلس التعليم:[من البسيط]
لا يستقى من جفير الكتب رونقه
…
[كلَاّ ولم تستقي من بحره الكتب
ومما جدته منه أنَّه ألقى بين جوارحيّ جسداً، وخصًّ منها عينًا وقلبًا ويداً، فلليد منه على العين بفضّ ختمه، وللعين منه على القلب بنقل مسطوره إلى فهمه.
ولقد أقدم مرسله عليَّ بمقدمه، واراني وجهه الكريم في مرآة قلمه، وفي نجوى الكتب على بعد الدار، تمثيل لروية الأبصار،
فليشف بها/32 ب/ غلَّتي، وليستدم بها خلَّتي، وليعلم أنَّ في انقطاعها واتصالها فراقًا من غير فراق، ولقاءّ من غير تلاق:[من الطويل]
وكم من فراقٍ واجتماع على النَّوى
…
يرجِّيهما هجر الكتاب ووصله
وانا أرجو دوام الاجتماع بكتابه، إلى أن يقدر الله الاجتماع بإيابه- إن شاء الله تعالى-".
ومن ذلك كتاب كتبه عن نفسه إلى بعض أصدقائه جوابًا عن كتابه/
"تألّق برق من جانب المجلس السامي/ حاطه الله بروحه وأمينه، وحباه بسعادتي دنياه ودينه، وأتاه بما يقترحه من المطلب قبل حينه، وجعل خليقة المكارم من خلقه وطينتها من طينه. فرفعت طرفي إلى لوامع أنواره، وبسطت يدي إلى مواقع أقطاره، وقلت: هذا بشير الرحمة، ورائد النعمة، وهو برق ترجى عقائقه، ولا تخشى صواعقه.
ومن صفاته انه يضيء على صفحات /33 أ/ الأفهام، ويتوضَّح من ألسنة الأقلام، ويبشِّر بقوت الأرواح قوت الأجسام. وذلك هو الكتاب الكريم الذي يأتي بخصب الآمال كما أتى أخوه بخصب الأمحال. غير أنَّ هذا يشام بعيون القلوب، ويجود ما حلّت من عقدة مزنه يد الجنوب.
ولما تأمّلته أخذت بسنة الخبر، في الصلاة عند نزل المطر. وليست الصلاة إلَاّ الدعاء لمن أرسله، وبسط سحابه واسبه. ثم تناولته فكنت أول من حمل غمامًا بيده، وآواه إلى مورده وعلى ربّه منه، فإنّه لا يزال له شائماً، وإليه حائمًا. فلينعم المجلس بتصريف مخايله، وليسق به الخواطر فإنها من خمائله ورأيه اسمى- إن شاء الله تعالى-".
ومن كتاب كتبه عن نفسه إلى بعض أصدقائه جوابًا عن كتابه:
/33 ب/ "تضوعَّعتْ نفحهٌ من تلقاء المجلس السامي؛ رعى الله عهده وسقاه، وصان ودّه ووفاه ، ويسّر لي إلقاء العصا بلقاه. فعطرت الطريق التي سايرتها ، والريح التي جاورتها، وأتت فأفرشتها خدّي ، وضممتُ عليه ودّي ، وجعلتها ردعٌا لجنبي ، وَلَطْيمَة ً لدرني ، وسخاًبا لعقدي.
وعملت أنها ليست بنفحة طيب ، ولَكنها كتاب حبَيب ، فإنَ مناشق الأرواح غير مناشق الأجسام ، ولا يستوي عَرْفُ الطِّيبِ وَعَرْف الأقلام.
ثم مددت يدي إلى الكتاب ، وبعد أنْ صافحت يد موصله كما صافحت عبقة مندَله ، وقلتُ. أهلَا بمن أدنى من الحبيب مزاراً ، وأهدى لعيني قرّةً ولقلبي قرارا ، ولو أنصفت لقلت. أهلاً بمن سرى في الأسرار ، وجرى من الأبصار مجرى الأنوار ، وجمع لي برويته بين الأوطان والأوطار. ومع هذا القول فإني لم اُؤد حقّ الترحيب بمن أسعف بالطِّلاب ، وطلع على الآمال المًمحلة طلوع السحاب.
وإذا كان هذا الحامل الكتاب ، فما ظنُّك بالكتاب؟ ! ولمَّا وقفت عليه ، أحدث لي نشوة /34 أ/ طرب ، ونشوة أرب. فغنَّتني هذه بترجيع مثانيها وأعنتني هذه بمعسول أمانيها؛ وعند أخذت في خلع العذار ، وسكرت من غير معاقرة. وإنَّ من البيان لخمراً يسكر من غير تحَريم ، وليست بذات لغو ولا تأثيم؛ فهي من سُلاف الألباب ، لا سلاف الأعناب ، ومن بنات الخواطر ، لا بنات الدساكر. ولا يجلبها من معدنها ، ويرخصها على غلاء ثمنها إلَاّ البيان الفلاني الذي يستخرجها ويخرجًها ، ويصرفها ويمزجها.
وإنّي لأجدُ لخمرة ألفاظه طعاماً زائداً على الطعم ، وليس ذلك لطيب العصر ولا عتق الكرم:[من الكامل]
شَيٌ به يَسبي العَقَولَ سوى الذي
…
يُدعى الجَمَال وَلَستُ أدري مَا هُو؟
وقد أعدت الجواب ولم أستعر له نظماً ملفَّقًا ، ولا جلبت إليه حُسنًا منمقًا. بل أخرجته على رسله ، وغنيت بصقال حُسنه عن صقله ، فجاء كما تراه غير ممشوط ولا مخطوط؛ فهو يرفل في أثواب بذلته ، وقد حوى الجمال بجملته. والحسن ما وَشَّته يدُ التصوير ، ولا ما حشته يد التزوير.
وقد منح الله لساني من ذلك ما حسده عليه /34 ب/ الروض الموشّح ، والسِّمط المرصّع والقمر وهو ابن عشر وأربع. فَخُذ ما أدّته إليك حقيقة النظر ، ودع ما نقلته أحاديث الخبر ، ووازن بين حسن البداوة والحضر واعلم أنَّ هذا السيل من غير ذلك المطر؛ فما كُلّ من قال بماش ٍ في أثري ، ولا رام عن وتري ، ولا آخذ في وصدري ، فإن النبوة غير الكعانة ، ولا يستوي الحق والباطل في المكانة: من البسيط
وَلَيْسَ كُلُّ ذَوَات المخْلَبِ السَّبُعُ
ولا أستثني من هذا القول أحداً سوى المجلس ، فإنه في الفضل شقيقي ، كما أنه في الودِّ صديقي؛ فنحن رضيعا بيان ، وإن لم نكن رضيعي لبان ، وتوأما وداد ، وإم لم نكن توأمي ميلاد فكلانا يقتدح من زناد صاحبه ، ويأخذ من مذاهبه وحسبي فضلاً أن أحذو على مثاله ولو وقرت قلمي وقاره، وأسلبت على كلمي أستاره ، لأكبرت أن ألقاه بهذا القول ، وعلمت أنه أوتي علي بسطةّ في الطول لكني أردت أن أستعير من فضله ما أتجمل به في محضري ، وأموّه به يوم مفخري؛ والا ّفالسماء نائية على المتطاول ، وأين الثريا من/35 أ/ يد المتناول.
فلصفح عماقلتُهً، وليسمح بما ترشحت له وما نلته، ورأيه أسم إن شاء الله تعالى ".
ومن كتاب كتبه عن نفسه إلى بعض الأصدقاء ابتداءً:
…
من الكامل
وَأقَمتَ في قَلبي وَشَخصُكَ سَاَئر
…
لا تَبعُدَن من ظاعنٍ وَمُقٍيمِ
أصدتُ هذا الكتاب إلى مجلس فلان الدين ، أعلاه الله وأسماه ، وصان من عيِر الليالي والأيام حماه ، وأبعد في اكتساب العلياء مرماه ، ولا جعله في الَعمل لآخرته ممن يستوي يوماه؛ عن قلب مأنوس بلقائه ، وطرف مستوحش لفراقه. فهذا مروّع بإظلامه ، وذاك ممتّع بإشراقه غير أن لقاء القلوب لقاء غيب تمثله خواطَر الأفكار ، وتتناجى به من وراء الأستار وذلك أخو الطيف الملم في المنام ، والذي يموّه بلقاء الأرواح على لقاء الأجسام. وما تمثله بنقع حرّ الأشواق /35 ب/ الظماء ، ولكنَّه تعلّهَ المتيمِّم بالصعيد عن عدم الماء ، ولئن أقمت بعده في دار زطن ، وفي أهل وسكن؛ فليس الانس بكثرة الناس ، بل ببهجة الإيناس ، وإذا لم تكن سكّان القلوب سكان الديار ، فلا فرق بينهما وإن كانت آهلة وبين القفار: من الطويل
وما حاجِر
إلَاّ بلَيلَي وَاهلهَا
…
إذا لَم تَكُن لَيلَى فَلَا كَانَ حَاجِرُ
فمن جفَّت على النوى شُؤُنُهُ، والتقت على البين جفونه ، فإنَّ عهده ذميم ، وودّه سقسم. وأرى المنزل وهي جماد أرعى منه ذماما ، وأخلق بالمحافظة ليالي وأياما. ألا ترى أنهَّا لا ترضى في غرامها إلآ سقامها ولا تقنع في وفائها إلآ بعفة .... ؛ فتباً لشوقي إن رقت عنه قساوة الأحجار وزادت بإثرها على ما عنده من الآثار.
وإني لأخجل من هذا القول ، وقد وجدتُ على مصطبراً ، ولم يذهب إلى الفراق سمعاً ولا بصراً ، ولكن يقوم عُذري في ذلك بأمل اللقاء ، الذي يمدّ غرس الحياة بالأسقاء ، ولا يمسك ذماء النفس كالأماني ومواهبها ، والآمال ومطالبها.
وأنا أرجم /36 أ/ أ، يتاح لأيّام الاجتماع يوم معادها ، وتردّ أروحها إلى أجسادها ، لأخاصم أيام الفراق إلى رّبها ، وآخذ منها
بذنبها، وأجزي سيئات الأشواق، بأعمالها وأعطيها كتابها بشمالها:
[من الطويل]
وما أنا من أن يجمع الله بيننا
…
كأحسن ما كنَّا عليه بايس
وقد علم أنَّه ليس للشوق زاد في ايام البعاد، إلاّ ما تهديه إليه اليد عن الفؤاد، وذلك هو الكتب التي في نجواها لقاء لمن شطَّت محلَّته، وفي قطرات أقلامها ريُّ لمن اضطرمت غلَّته، فليجمع شملي بشملنا إلى أن يقدّر الله جمع الشمل بأهلها، وليعلم أنها هدية تحل محل مرسلها، وتطوق الأعناق بمنّة موصلها. والله لا يخلي من خبره إلاّ بنظره، ولا من كتبه إلاّ بقربه، إن شاء الله تعالى
…
والسلام".
ومن ذلك كتاب كتبه إلى بعض الإخوان جوابًا:
/36 ب/ "وصل كتاب حضرة سيدنا، لا زالت أقلامه متنقلة من منبت أجم، إلى منبت حكم، ومن استسقاء قطر، إلى استسقاء بحر، ومن مجاورة ليث غاب، إلى مجاورة ليث خطاب. فأطرب إذا غرّب، وأزهر إذا أسفر، فعلمت أنَّ من البلاغة ألحانًا، ومن الكلام ورداً وريحانا.
ولقد غدوت من حسنه البديع في فصل ربيع، فكلما شاقتني سطوره قلت روض سنح، وكلما غنتني الفاظه قلت حمام صدح، وكلما سقتني معانيه قلت غدير طفح. فما أدري ما أصف، ولا عندما أقف، غير أنّي وجدته قد حوى أسرار البيان جزالة ولطفًا، وعرّف منها ما لم يألف البلغاء له عرفًا وأنسى ما تقدّم من أساليبها فعصف بها عصفًا، {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا} .
وما أقول إلاّ أنه الآية الموسويّة التي أتت تقلب الأعيان، وتنقل العصا إلى صورة الثعبان، فلمثله تسجد سحرة الكلام، وتؤمن باية.
قلمه التي تلقفت آيات الأقلام. وها أنا قد/37 أ/ سجدت له، وإن لم أكن ساحراً بقلمي، لكنّي زدت به غرامًا، فسجدت له إعظامًا، وقد يسجد لحكمة البيان كما يسجد لحكم القرآن، ومما أعتده لنفسي فخاراً، واتخذه لفضلي مناراً، أنُّي إذا فاتتني مضاهاة مكانها فلم يفتني العلم بمزيّة إحسانها، والعلم بالفضيلة فضيلة، ومن لم ينل زهر الخميلة كفاه نظر الخميلة.
وقد أصدرت كتابي هذا جوابًا عن إصدار كتابه، لا جوابًا عن فصل خطابه، فإنَّ موازنة المداد بالمداد أيسر من موازنة الفؤاد بالفؤاد. وليس من أعمل يداً كمن أعمل فكراً، ومعادن القلوب كمعادن الأرض، تخرج تبراً وصفراً. فليرض مني بما عندي، ولا يكلفني فوق وجدي، فما كلّ هاتفة ورقاء، ولا كل ناظرة زرقاء:[من البسيط]
وإنَّما يبلغ الإنسان غايته
…
ما كلُّ ماشية بالرَّحل شملال
ومن ألقى سلاحه فقد استسلم، ونصف العلم قول لا أعلم.
إن شاء سيدنا أن يجعل لساني خطيبًا، وخاطري قليبًا، فليتحفني /37 ب/ بفضله كأسه، ولمّدني بشيء من أفواف قلمه وقرطاسه ..
والسم إن شاء الله تعالى".
كتاب كتبه إلى الملك المحسن يمين الدين أبي العباس أحمد بن يوسف بن أيوب يهنئه بالحج، وأرسله إليه عند عوده إلى دمشق. وهذا الكتاب جواب عن كتاب ورد منه:
"ورد الكتاب الكريم عن مجلس مولا [نا] الملك المحسن، قرنه الله بأصحاب اليمين، ورفعه إلى المقام الأمين، وجعله ممن صدق يقينه، وثقلت موازينه. وعلت يده وكلمته ودينه. ولا زال مستمسكًا في إخلاص عمله بالسبب الأقوى، آخذاً بأدب الذين آمنوا وتناجوا بالبرّ والتقوى.
فتأرَّجت أنفاس نجد من عنوانه، وجاءت بخزاماه حوذانه وحرَّكت/38 أ/ إلى تلك الأرض كلَّ عزم فاتر، وأذكرت
بالأذان الذى يأتونه رجالاً وعلى كلّ ضامر، فتناوله المملوك بعد أن بدأ بالتطهير، واتخذ يوميه عيداً فأعلن فيه بالتكبير. ثم فضَه فوجد آثار مرسله؛ فهذه يستمدّ منها بركة المطاف والأركان، وهذه يستمدَ منها بركة المطاف والأركان، وهذه يستمدّ منها سجىة الفضل والإحسان. وكلاهما مأمول من مثل مولانا الذى أفاض ألطاف عباداتة كما أفاد ألطاف إفاداته.
ولقد فخر هذا العام بحجَّه على ما قبله، وازدان بفضله حتى حسدت الأعوام فضله، فلو كان ذا نطق لنشر أفواف كلمه، وخطب بالثناء على مولانا ومقدمه، وعَّرف أهل الموقف أنهَّم غفر لهم ببركات قدمه.
وما يقول المملوك أنَّه أدرك بالحج فضلة لم يدركها سوى أنَّه سلك طريقاً لم يسلكها، ولكنه أدّى فرضاً وزاد بنوافل بِّره فأوجب فرضاً فكلَّ أيامه أيام حجَّ فى طهارة يده ولسانه وقلبه، وتعظيم حرمات الله التى /38 ب/ هى خير له عند ربّه
ومذ سار مولانا عن دمشق اضحت عاريه اللباس خالية من الناس، واجده من الوحشه بقدر ما وجده الحرم من الإيناس. واما الآن فقد راجعتها بشاشتها، وردت إليها حشاشتها. فلها الهناء بالمولى الذى تتنزل من بلدها منزلة الروح من جسدها ، ويحلّ من قطافها محل الرءووس من أبدانها:[من الخفيف]
إنَّما النَّاس حيث أنت وما الَّنا
…
س بناس فى موضع منك خالى
وأما المملوك فأنَّ المولى جمع عليه فراقين ، وأثار له اشتياقين؛ فأحدهما بعده عما يتوقعه من خبره، وما جعل الله له من قلبين فيحمل من الفراق والأشواق لوعة خطبين. ولما ورد عليه الكتاب الكريم أعاد عهد أنسه، وأمسك بقية نفسه ، ومحا بحسنى يومه إساءه أمسه؛ فما يدرى
أصحيفه مسطورة أم رحمة منشورة، لكنه تحقق منها معنى
النشأة وارتجاعها، بما أعادته من الحياة الذاهبة بانقطاعها.
/39 أ / والمملوك يسال أن يتعهده المولى بأمثالها، ويتعتدُّ بها من عطاياه وأفضالها، فإنها فى هبات قلمه، أرغ منه فى هبات نعمه، وللآراء العالية مزيد العلو إن شاء الله تعالى
وله كتاب كتبه إلى الملك الأفضل أبى الحسن على بن يوسف بن أيوب – رضى الله عنه – يتضمن التهيئة بمولود:
أصدر هذه الخدمة إلى الجناب الشريف وقد جاءت البشرى بفرع نما من نجره، ولؤلؤة خرجت من بحره، فعبقت الأسماع بهذا الخبر الريج، واهتزت له الآمال وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، واستدلَّ الناس بطيب
الأصيل على طيب الثمر، وتفرسٌّوا فيه ما تفرسوا فى الهلال من القمر، ولو نطق يوم مولده بلسان، أو كان ذا روح وجثمان؛ لا فتخر على الأيام الأولى /39 ب/ ولآخرة، وبرز فى أثواب زينته الفاخرة:[من الخفيف]
وإذا ما الأيَّام اصبحن خرساً
…
كظمًا فى الفخار قام خطيبا
ولئن سبقته أيام جعلت عيداً للصيام، ونحر النعام، فهذا اليوم عيد لنحر العدا، وإبقاء سنُّه البأس والنًّدى
والله يجرى مولانا على عادة فضله، وينمى فرعه الكريم حتى يستظَّل بظلَّه، ويمضى الأمور بعقده وحله، ولولا إشفاق المملوك من التلفظ بكلمه تنتقل على لسانه، لدعا له بخلافه ملك مولانا ووراثه سلطانه. لكنه يدعو لمولانا وله بالخلود، وان لا يملك العدوّ ولا يرث سوى ميراث الحسود – إن شاء الله تعالى
فصل من هذا الكتاب فى هذا المعنى:
المملوك يهنئ مولانا بالجوهرة التى خرجت من معدنه، والبارقة التى تلألأت من خلال مزنه؛ ولقد تشوقت تيجان الملك /40 أ/
زمنها واقترابه، وظمئت رياض الآمال صوب سحابها وانسكتبه".
فصل في كتاب في هذا المعنى:
"كتبت هذه الخدمة وقد جاءته البشرى بطلعة هلال سفرت، ومخيله سحاب ظهرت، ويرجو أن يصير هذا الهلال بدرا كاملا، وهذا السحاب غماما هاطلا، وقد اهتزّ السيف والقلم جذلا بمولده، وتفاخر في السبق إلى منال يده، وبشّرت منه المكارم بكائها، والعيون والقلوب بمالئها".
وله أيضا فصل في كتاب في هذا المعنى:
" المملوك يهنئ مولانا بالشبل الخارج من عرينه، واعضب المنتضى في يمينه، وقد اهتز ت أسرة الملك لارتقابه"، ومدت الجياد عيونها إلى وقت ركابه، ورجع له جيش العدو قبل أوان غزوه واقترابه".
/40 ب/ وهذه رسالة أنشأها حين توفي الإمام الظاهر بأمر الله أمير المؤمنين أبو نمصر محمد بن أحمد، وبويع ولده المستنصر بالله أبو جعفر المنصور بالخلافة- رضوان الله عليهما (! ) -:
" ما الليل والنهار لا يعتذران وقد عظم حادثهما، وما للشمس والقمر لا يخسفان وقد فقد ثالهما:[من الطويل]
فيا وحشة الدنيا وكانت أنيسة
…
ووحدة من فيها لمصرع واحد
وذلك الواحد هو سيدنا ومولانا الظاهر بأمر الله أمير المؤمنين، الذي كانت ولايته رحمه للعالم، واختير من أرومة النبي الذي هو سيد بني آدم.
فذمته موصولة بذمته، وهو شقيقه في اسمه وخليفته في أمته، ولقد وقف على السنن فأتى بالحسن، وحمدت صحبة الأيام في زمنه فلم يشك أحد
من /41 أ/ الزمن.
ومما عظم الرزء به أنّه أتى عقيب رزء فجعه بفجعه، وكان يستهول أحدهما وهو وتر فبدل الوتر فيه بشفعه. فيا ويح الإسلام فجعأولا بناصره، وفجع الآن بظاهره، وقر بالوقت بينهما حتى كاد يعثر أوله بآخره فلم تفق النفوس من برحائها إلا وافت ما طوى مضضها على مضض، ووقع ذلك منها موضع نكسة عطفت على مرض، ونكأ القرح بالقرح أوجع، وذهاب فرع العلياء بعد أصله ذهاب بالعلياء أجمع.
وكلا هذين الحادثين، رمى الناس بسهم عائر (1)، ليس عليه من صابر، وما كان الله ليسوء دينه بمصاب خليفتين، ولا يجلو ظلمته بصباح سافر. وقد جاء بسيدنا ومولانا المستنصر بالله أمير المؤمنين، فأرضى به كل قلب سخط ولم يرض، وقيل هذا بدل الكلّ من الكلّ لا بدل البعض من البعض. وكان الناس على خطر من انتقاض أمرهم فأتيح لهم إبرامذلك النقض، ونسى ما تقدّم من البرح ودمل /41 ب/ وما أعضل من القرح، وإن كثر الأسف على ليلتين مضتا برامة فقد أسلت عنهما ليلة السفح، والعبد قائم بهذا المقام، وقلبه متقسم للعزاء شطرا [و] للهناء شطرا. فإذا نطق بهذا أسبل دمعا وإذا نطق بهذا أبدى ثغرا، وهو نائب عن مرسله في أخذ البيعة التي يد الله فوقها، والسابق إلى يومها أفضل من المتأخر إلى غدها، وهي التي تجلّت بإثبات حسنتها أقلام السّفرة، وجعلها الله معدودة في بيعة العقبة وبيعة الشجرة. ولها يصح قول القائل:
[من البسيط]
وبيعة من قلوب غير شاردة
…
ما كان في عودها ضعف ولا خور
لولا أنها لعتيق لم يمت حسرا
…
سعد ولا قال: كانت فلتة عمر
وكذلك فإنّ العبد ينهي طاعة مرسلة، التي جعل يومه فيها كأمسه،
وزادها في مباني اللإسلام مبنىّ بها على ستة لا على خمسة. وقد اتخذها معقلا يكنّ في ذراه، وفي الآخرة عتادا صالحا يسرّه ان يراه" (1).
/42 أ/ رسالة أخرى من إنشائه حين توفي الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين أبو العباس أحمد بن الحسن، وبويع بالخلافة للإمام الظاهر بأمر الله أمير المؤمنين أبي نصرمحمد – رضي الله عنهما – وذلك في سنة اثنتين وعشرين وستمائة:
" العبد يقدم عذره قبل قوله، فإن هذا المقام مقام مهابة لا تجد الخواطر فيها سبحا، وإذا بلغ البليغ جهده كان قصاراه أن يسأل صفحا:[من كتاب الكامل]
إن كان لا يرضيك إلا محسن
…
فالمحسنون إذن لديك قليل
عبد الديون العزيز النبوي لؤلؤ يعزي نفسه والمسلمين كافة، بفقد من الإسلام له فاقد، ومن يشك الموجدة بمصابه /42 ب/ إلا إلى واجد سيدنا ومولانا الناصر لدين الله أمير المؤمنين، الذي التقت الأرض منه على محيي ثراها وممسك عراها، وباري سنة العدل والإحسان بها كما أن الله براها، فأي سحاب نضب عنها فيض مواهبه، وأي جبل خفت جنوبها لزوال مناكبه، لكن تلافى الله ذلك بقيام ولي عهده من بعده، والذي انتضاه على طول ترقّب من غمده سيدنا ومولانا الظاهر بامر الله أمير المؤمنين، فعطفت هذه النعمى على تلك البوسى، وآست من كلمها الذي لولاها لما كان يوسى:[من الطويل]
وفي الحي بالميت الّذي الثّرى
…
فلا انت مغبون ولا الدهر غابن
وما من أحد إلا وقد استبدل عزاءه بهنائه، ورأى عمود الإسلام قائما بعد هدم بنائه، وعلم أنّ الدهر أذنب ثم اعتذر وقال: هذة
الشمس طالعة إن غيّب القمر، واشتبه لديه رتق هذا الفتق برتق فتق أبي بكر بعمر. وقد حضر العبد نائبا عن مرسله في إعطاء صفقته بيمينه، وثمرة قلبه آخذا بقوله تعالى:{إن /43 أ/ الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم} (1) ولو حضر هذه البيعة سعد لرأى مطلعها سعدا، ولم يجد من الدخول فيها بدا، ولما غمّ في قطيقته غمّا، ونأى هعن دار قومه بعدا. فهي أخت بيعة الرضوان، وأم الشرائط المشروطة في عقود الإيمان، والمركب الذي النجاة بين صهوته وعنانه، ومظنّة النجاة بين صهوة وعنان، وللسابق في هذا المقام فضيلة سبقه، كما أن للصادق مزية صدقه، وكلاهما مجموع لمرسل العبد في الفوز، بقصب المضمار والانفراد بخالص الإضمار، والذي إعلانه كإسراره، وقليلا ما يستوي حالتا الإعلان والإسرار، ولإن غاب عنه الحضور بنفسه فهو في عداد من حضر، والتعويل إنما هو على صدق النية الذي أثرها هو الأثر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته: ((إنّ وراءكم قوما بالمدينةما سيرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم)) (2). فليعوّل الديوان العزيز من سعيه على القوي الأمين، وغنائه على المعقل الحصين، وليضنّ به وإنما يضن بالضنين
…
والسلام)).
[863]
/43 ب/ نصر الله بن المظفر بن أبي طالب بن حمزة بن عليّ بن الحسين أبو الفتح بن أبي العز بن الصفار الشيباني المعروف بابن شقيشقة (3).
من أهل دمشق.
كانت له عناية بسماع الحديث النبوي، وسمع من الكثير بنفسه، ولقي مشايخه ورجاله الذين كانوا يفدون إلى دمشق من الغرباء وأهلها. واستفاد منهم، واستكثر من الشيوخ حتى بلغت مشيخته ألف شيخ، وحصل من الفوائد شيئا عظيما. ولم يدخل دمشق طالب حديث أوشاعر أو أديب إلاّ ويجتهد في قضاء حوائجه، ويتعصّب له تعصبا تاما، ويثني على فضله عند الناس.
وهو مشكور الطريقة ببلده، فجزاه الله عن مروءته الخير ولمن كان فيه مروءة. وعنده فقه وأدب مقل من قول الشعر.
أنشدني لنفسه بدمشق سنة تسع وثلاثين وستمائة: [من الطويل]
خف الله في صبّ سلبت رقاده
…
وابتلت بالبين المشتّ فؤاده
/44 أ/ ووافيته ملقى على فرش الضّنى .. اسير غرام لا يفك قياده
يرى الفرض فرضا منك يا أحسن الورى
…
وأنت ترى فرضا عليك بعاده
أنشدني لنفسه في غلام جميل الصورة حلاوي: [من السريع]
قل للحلاويّ على الّذي
…
تحار ألباب الورى فيه
إنّ الّذي نأخذ من كفّه
…
هو الّذي نجنيه من فيه
[864]
نصر الله بن نصر الله، بن نصر الله، أبو الفتوح الهيتيّ (1).
من الشعراء العراقيين.
دخل بلاد الشام وامتدح ملوكها، وذوي اليسار منهم، واسترفدهم بأشعاره وكبر وأسنّ، ولم يترك قول الشعر، وانقطع باخرة إللا صاحب حماة الملك المنصور أبي المعالي محمد بن عمر بن شهنشاه بن أيوب، وبها توفي [في الخامس عشر من شوال سنة سبع وثلاثين وستمائة]. (1)
وكان عنده تهوس وخفة تدل على ذلك ما أخبرني من أثق به، أنه كان إذا امتدح رجلا بقصيدة يعنون على رأسها المملوك نصر الله بن نصر الله الهيتيّ، ثم يخالف /44 ب/ الاسم ويكتب على قصيدة أخرى المملوك أبو الفتوح بن أبي الفتوح بن أبي الفتوح، ومرة المملوك نصر الله بن أبي الفتوح بن نصر الله، وتارة أب الفتوح بن نصر الله بن أبي الفتوح الهيتي.
وكان يتعاطى الفصاحة في مقولاته وإنشائه، صاحب منظوم ومنثور. يذهب في إنشائهما مذهب أبي الفتح البلطي. وكان يصنع أبياتا من الشعر جميعها معحمة. وقصيدة خالية من الإعجام، وغير ذلك من هذه الفنون ما تركه أولى من تدوينه. وكانت ولادته بهيت في عاشر محرم سنة خمس وسبعين وخمسمائة.
أنشدني الشيخ الأجل العدل السعيد بهاء الدين أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن سعيد بن يحيى بن الخشاب بحلب من لفظه-رضي الله عنه قال: أنشدني أبو الفتوح نصر الله بن نصر الله، بن نصر الله، أبو الفتوح الهيتيّ لنفسه بحلب يمدح الملك الظاهر غياث الدين أبا المظفر غازي بن يوسف بن أيوب بن شاذي-رحمه الله تعالى-:[من الخفيف]
/45 أ/ ضحك البرق إذ بكى الإبريق .... ثمّ جاد السّحاب والرّاووق
وتغنّت ورق الحمائم حتّى
…
اطرب البان بينها التصفيق
كلّ ورقاء في الأصائل يخفيـ
…
ـها عن ناظريها غصن وريق
يا خليليّ نادماني فقد طا
…
ب مدامي وزانه التّرويق
واضربا لي صوتا على العود والنّا
…
ي طروبا يلذ لي ويروق
سالكا مذهب القديم فإنّي .... من مبادئ ألحانه مخلوق
واسقياني صرفا فإنّ مزاجي
…
لاختلاف المزاج ليس يطيق
ما شفائي من الهيام ولا بر
…
د غليلي إلاّ السّلاف رحيق
وإذا ما مرضت ليس يداوي
…
فرط دائي إلاّ الشّراب العتيق
ما مرادي إلا ّ المدام ولا أحـ
…
سد إلاّ ذا سكرة لا يفيق
فهي شمس منيرة ومن الآ
…
يات شمس يضمّها إبريق
لي منها مدى الزّمان صبوح .. كملت لذّتي به وغبوق
ولها في فم النّديم غروب
…
ومن الكأس والبزال شروق
فاسقنيها من كفّ أغيد يحكي
…
ذابل الرّمح قدّه الممشوق
/45 ب/ بابليّ اللّحاظ من جفنه الفا
…
تر عضب ماضي الشّباة رقيق
في رياض كأنّها حلل الدّيـ
…
ـباج قد حاكها الحيا والبروق
ما ترى الأرض كالنّمارق تزهلى
…
بنقوش كأنّها تزويق
وعليها أثواب نور كساها
…
في متون الرّياض زهر أنيق
ورباها قد طرّزت برقوم
…
نسجها من يد الغيوم صفيق
قد تنافى في الشبه لونا وريحا .. فهو نور زاه ومسك فتيق
يشبه الياسمين لون محبّ
…
ناحل الجسم راعه التّفريق
وترى النّرجس المضاعف يحكي .. . حدقا لا يضرّها التحديق
وكأنّ الشقيق رايات غازي
…
أو دما من سيوفه مدفوق
ملك بابه بكفّ رجاء الـ
…
ـخلق علما بجوده مطروق
يطلبون الأرزاق بالقصد كالحـ
…
ـجّاج إذ باب غيره مرتوق
جعلوا حارما لهم ذات عرق
…
وبساتين عمّ عندي العقيق
فتوالى غيث الغياث عليهم
…
بنضار في البروق بريق
همه أن يفرق المال في الآ
…
فاق والجمع ذلك التفريق
فهو الرازق الذي غمر الخلـ
…
ـق فكل من كفه مرزوق
وهو السّابق الذّي أحرز الّبـ
…
ـق فمن رام شأوه مسبوق
وهو ملك دون الخلائق جمعا .. . بالمعلي والمكرمات خليق
وهو بين الملوك بالعدل والفضـ
…
ـل وإيصال جوده مرموق
وهو في الحلم والشّجاعة والإنـ
…
ـصاف وللجود للملوك سبوق
وله مسلكا إلى كلّ برّ .. . وإلى فعل كلّ خير طريق
مستقيم المسعى على منهج العد .. ل جواد وبالرّعايا رفيق
يحذر الله في الرّعية سرا
…
وسواه سكران لا يسفيق
محسن مجمل رؤوف له قل،
…
ـب إذا أغلظ المسيء رقيق
واسع الصّدر ضيّق العذر عفّ الذّ
…
يل رحب الذّراع برّ شفيق
ملك في ذرى الفخار له أصـ
…
ـل طهور في المكرمات عريق
خير أصل لخير ملكت زكت منـ
…
ـه فروع نضيرة وعروق
سؤدد تالد ومجد طريف .. دونه في علوّه العيّوق (1)
طال فوق العلا كقلعته الشّهـ
…
ـباء دامت تحلو له وتروق
/46 ب/ هي بين القلاع مثل غياث الـ .. ـدّين بين الملوك وهو يفوق
وهي كالجسم ووهو روح وبالأر
…
واح تبقى الجسوم لولا الزّهوق
أوحشتها أعطافه مذ نأى عنـ
…
ـها فكلّ منها مشوق
إن خلت منه لا خلت فهي تشتاق
…
إليه كأنّه معشوق
لو تطيق المسيرة سارت من الّو
…
ق إليه لكنّها لا تطيق
فكأنّ الإله دحاها
…
قال: هذي بغيره لا تليق
مدحها يعجز الخواطر فالحا
…
ذق يعنو ويذعن المنطيق
فهو مثل ابتكار مدح غيات الدّ
…
ين صدقا فذكره تصديق
معجزات المديح قد جمعت فيـ
…
ـه وآيات فعله صدّيق
كلّ وصف فيمن سواه مجاز
…
واستعارات وصفه تحقيق
ورث الملك عن أبيه تليدا
…
وسيحوي البلاد وهو حقيق
ويبثٌّ الجيوش فى البرِّ والبحـ
…
... ـر فمنها فى كل ِّ ارض فريق
بأسود على العقارب تضحى
…
وفسيح الفضاء عنهًا يضيق
ترد الحرب ثم َّ تصدر عنها
…
ولها من دم العادى خلوق
/147 أ/ ثم َّتعلو بيض المعاقل بالبيـ
…
ـض ولآ مانع ولا منجنيق
ويحوز المماليك الملك الظَّا
…
هر قهراً وتستفاد الحقوق
وترى الملك بعدها يوسفَّياً
…
ليس يعصيه فى الورى مخلوق
يا مليك الآفاق أحييت أهل الـ
…
ـفضل حتَّى حثَّت إليك النُّوق
وشريت القريض غالاً فقامت
…
لذوى النَّظم فى ظلالك سوق
فاستمع منهم غرائب شعر
…
قد كساها التَّجنيس والتَّطبيق
وتهنَّ الإقبال فى العيد فالنَّصـ
…
ـر يهيِّنيك فيه والتَّوفيق
وابتهج بالتَّشريق فالنَّدب من يفـ
…
ـعل فيه ما يقضى التَّشريق
واجعل النَّحر فيه نحر أعاديـ
…
ـك وكلٌّ إذا عفوت عتيق
فقلوب الأعداء ترجف خوفًا
…
ولها من سطا يديك خفوق
وأنشدنى الشيخ العدل الأمين أبو عبدالله محمد بن عبدالقاهرة بن هبة الله بن النصيبى بحلب – رحمه الله تعالى – قال: أنشدونى /47 ب /أبو الفتوح نصر الله بن نصر الله الهيتى لنفسه مبدأقصيدة: [من الطويل]
حديث غرامى مستفيض
…
... ودمعى ووجدى مطلق ومقيَّد
وحبِّى قديم والتجَّميل محدث
…
وثوب نحولى بالجمال مجدد
ولى خبر يرويه شأنى مسلسلاً
…
وفيه مع المعنى الجلىِّ تعبٌّد
فلو أنَّ موضوع الأسى بحشاشتى
…
مع البعد محمول لما كنت اجهد
ولو أنَّ سعيداً بالمنازل طالع
…
لكان إذا ما قابل الرَّبع يسعد
ألمَّ خيالاً واللَّوائم غفَّل
…
فوافى خيالاّ والعواذل هجَّد
سميرى من السمراء طيف كأنَّه
…
مع الصورة الحسناء معنى مجرَّد
فأهلاً وسهلاً بالحبيب فقربه
…
به غلَّة الصَّبَّ المتيَّم تبرد
وقد كنت جلداً قبل طارقة النَّوى
…
وها أنا من بعد النَّوى أتجلَّد
فصبرى جميل واشتياقى كثِّير
…
وقلبك ياخنساء صخر وجلمد
وجاري دموعي في المآقي موظّف
…
وراتب وجدي في البواقي مخلّد
/48 أ/وتصفير جسمي منه تقطير أدمعي
…
لذلك انفاسي جوى تتصعّد
بنفسي شمس لو رأيى النّاس حسنها
…
تحققّت أن الجمع يسبيه مفرد
لها وجنة كالورد حمراء من دمي
…
وخّد كما شاء الجمال مورّد
وفي الخّد خال مشرف تحت ناظر
…
على عامل لولا الّتقى كان يعبد
لها القّد غصن ماس في دعص رملة
…
أقلّ هلالا بالخطى يتأوّد
وللشّافعي الرّدف منها مثقّل
…
وللحفنّي الطرف منها محدّد
فلو جبرت من كسر قلبي بوصلها
…
مقابلة بالعود والعود أحمد
لقبّلت ثغرا كاللآلئ منظّما
…
به الرّيق شهد والأراكة تشهد
فما الخاسر المغبون إلّا من اشترى
…
به غيره وهو الجمان المنضّد
وما القاعد المفتون إلا أخو الهوى
…
وما القائم المهديّ إلّا محمّد
وأنشدي أيضا من لفظه، قال: أنشدني نصر الله بن أبي الفتوح بن نصر الله الهيتي لنفسه: [من الوافر]
/48 ب/ عصاني طائع الطّرف العصيّ
…
فصرت فداء نرجسه الجنيّ
لأمتحنّ صبري عن شتيت
…
يظمّيني بلا ريق شذيّ
فلا يسقي ويشفي حين يجفو
…
ولا يصفو لأّي هوى غزيّ
سيذكر خلّة لأخ ودود
…
مصون سرّه شكل زكيّ
فكم يقضي ويظلم وهو لاه
…
ويعقل عن مطيع هوى وفيّ
وأنشدني أيضا، قال: أنشدني نصر الله الهيتي قوله في الغزل: [من الطّويل]
غزال له خال شذاه أظنّه
…
جني شقيق يقتضيه ضياء
خلوت به صبحا وزاد تعرضا
…
وكلّ غزال عزّ فهو رخاء
جثا ضاحكا يسقى سلافا فقال لي:
…
أخصّك حثا فالسّلاف شفاء
وأشهر شمسا من مدام وضوؤها
…
يلازمها إن صار منه سماء
يظلمني والكامل الملك عاطف
…
ولا غيّ فيما قاله العلماء
وأنشدني قال: أنشدني لنفسه: [من الكامل]
/49 أ/ما بين رامّة فالعذيب فحاجر
…
أسد تقنّصها أكفّ جاذر
ومن العجائب أنّ آساد الشرى
…
تعنو لسرب في الفلاة نوافر
لا تخدعنّك بالوعود فطالما أخلفن إخلاف الملول الغادر
إنّ الظباء وإن تقادم عهدها
…
وأتت بحسن بواطن وظواهر
لتمجّ أريّا من نيوب أساود
…
وتسلّ تبرأ من جفون محاجر (1)
[865]
نصر الله بن هبة الله بن عبد الباقي بن هبة الله بن الحسين يحيى بن عليّ، أبو الفتح بن أبي العز الكاتب الرسائليّ المعروف بابن بصاقة وبزاقة وبساقة كلّ يقال، الغفاريّ الكنانيّ (2).
ولد بقوص (3) تقريبا في سنة ثمانين وخمسمائة (4)، ونشأ بمصر واستظهر القرآن العزيز، واشتغل بالأدب على جماعة من الأدباء بمصر والشام، وقرأ على الشيخ العالم أبي اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي، وخدم في دولة الملك المعظم شرف الدين عيسى بن أبي بكر بن ايوب – صاحب دمشق وبعده لولده الملك الناصر داود كاتب الإنشاء /49 ب/وتقدّم عندهما، وارتفع شأنه، وعلت منزلته.
ورأيت من يثني على فضله وصناعته في الكتابة وقوانينها، ويقول: هو أكتب اهل زمانه بلا مدافع، واعرفهم بالقواعد والإنشائية وأجودهم ترسّلا، وأحسنهم عبارة،
وأطولهم باعا، بظاهر مدينة حلب المحروسة، بمقام الخليل إبراهيم – صلوات الله عليه- يوم الخميس الثالث عشر من ذي الحجة سنة سبع وأربعين وستمائة، وعلقت عنه قطعا من شعره، ولم يكن في الوقت سعة لأكتب من ترسله وأثبته في هذا المجموع.
ورأيته شيخا لطيفا كيسا فيه دماثة وبشاشة، ثم سافر إلى دمشق، ولم يزل مقيما بها إلى أن توفى يوم الجمعة ثامن جمادى الآخرة سنة خمسين وستمائة- رحمه الله تعالى-.
ومما أنشدني لنفسه إملاء من لفظه: [من الطويل]
وحقّكم لم يلهني بعد بعدكم
…
ظهور مذاك أو صدور مجالس
/50 أ/ ولا راقني في الناس إحسان محسن
…
ولا أنست روحي بودّ مؤانس
رماني زماني الفظّ عن قوس عذره
…
بسهم فراق مطلقا غير حالس
وعوضّت عن يومي المنير بقربكم
…
باليل من البعد المبرح دامس
فأضحى عدوّي عند ذلك راحمي
…
وكأن صديقي يوم ذلك منافسي
سأصبر حتى يحدث الله لطفه
…
على خير ما كنا عليه بآيس
وأنشدني أيضا لنفسه ما كتبه إلي بعض الملوك: (1)[من الخفيف]
لو شرحت اّلذي وجدت من الوجد
…
عليكم أمللتكم ومللت
فلهذا خفّفت عنكم وأقصر
…
ت ولو شئت أن اطيل أطلت
غير أن العبيد تحمل عن قل
…
ب الموالي وهكذا قد فعلت
وأنشدني لنفسه أيضا، وفيه لزوم السين:[من الكامل]
يا من غدا من كلّ عار عاريا
…
ومن المروة والفتوّة كاسيا
/50 ب/ ورأيته في العلم بحرا زاخرا
…
ووجدته في الحلم طودا راسيا
عجبي لمثلك كيف ينسى ذاكرا
…
وأعجب لمثلي كيف يذكر ناسيا
بعد المدى ورزقت قلبا لينا
…
يشكو [الضنى] ورزقت قلبا قاسيا
هبني أسأت كما ظننت فكن لجر
…
ح إساءتي بجميل صفحك آسيا
فقد افتقدت من المعارف كلّهم
…
فعساك تصبح للفقير مواسيا
وأنشدني أيضا لنفسه يتغزل: [من المنسرح]
مالك في الخلق عاشق مثلي
…
فكيف تختار في الهوى قتلي
إن انكرت مقلتاك سفك دمي
…
فلي بخديك شاهدا عدل
لكنني غير طالب قودا
…
منك ولا راغبا إلى عقل (1)
ولا ليوم الحساب أدخره
…
بل أنت منه في أوسع الحل
يا فرغ القلب عد على دنف
…
فؤاده في هواك في شغل
وعدتني أن تزورني فعسى
…
تقصر عمّا أطلت من مطل
مرارة الهجر ذقتها فمتى
…
تذيقني من حلاوة الوصل
/51 أ/ يا عاذلي في هواه دع عذلي
…
فلست أصغي فيه إلى العدل
أمرت بالصبر عن تذكّره
…
من لي بأن أستطيعه من لي
لكن هواه غطى على بصري
…
ومسمعي والفؤاد في خبل
وأنشدني لنفسه لغزا في الإبرة: [من الطويل]
وعارية لا تشتكي البرد في الشتا
…
على أنها منهوكة الجسم بالبرد
ترائبها مصقولة غير أنها
…
من العور لا الحور الحسان من الخلد
إذا زال عنها سمها زال نفعها
…
وحال ذوات السم في ذاك بالضد
تصدّت لجمع الشّمل بعد شتاته
…
ولا حظيت فيه بأجر ولا حدّ
إذا كسيت ثوبا كسته لغيرها
…
بلا منّة منها عليه ولا كدّ
أنزه طرفي في سنّي ملابس
…
تجود بها من غير وعد ولا قصد
تفضّل فقد اوضحت بعض امورها
…
بتكملة الإيضاح يا معدن الرفد
وأنشدني أيضا لنفسه لغزا في المشط: [من الطويل]
/51 ب/وأصفر ذي وجهين بالنار ما اكتوى
…
ولا وسمت خدّاه أولي الأمر
ولا أشك في الصيرفي فحكّه
…
ولا حار بين الصّفر منه أو الصّفر
يلوح له نشر ولكنه يرى
…
ولا ينتشي بالضّد من عادة النّشر
يعض بأسنان وليس له فم
…
ويثغر أحيانا وليس بذي ثغر
يخلص بين الأهل مهما تشاجروا
…
فيقضي لعقد العسر بالحلّ واليسر
بعدّة أميال بعد ميسره
…
وإن كان ملقى لا يسير ولا يسري
رأي الزّهد رأيا فاغتدى متخللا
…
على جسمه العاري بمسح من الشّعر
فبح باسمه إني عنيت بكتمه
…
ولا تخفه يا مبدع النّظم والنّثر
وأنشدني أيضا لنفسه في الساعات المدّبرة بالماء: [من الطويل]
ومخبرة بالعلم وهي جهولة
…
بما أخبرت من علمه ليس تعلم
إذا رويت باحت بمكنون سرها
…
وإن ظمئت فالسّر منها يكتم
تضجّ وتشكو الرجم في كل ساعة
…
ولكنها مرجومة ليس ترحم
/52 أ/ وتبدي أنينا مشعر بتأّلم وليس بها ضرّ ولا تتألم
ويفهم عنها ما تقول وإنها
…
لعجماء لا توحي ولا تتكلم
وكتب غلى الشيخ العلامة سيف الدين أبي الحسن علي بن علي الآمدي، يشفع إليه في عماد الدين السلماسي، في أن يقرئه شيئا من كتبه وهو "رموز الكنوز". وكان قد تحدث معه في ذلك مشافهة:[من البسيط]
يا سيدا جّمل الله الزمان به
…
واهله من جميع العجم والعرب
العبد يذكر مولاه بما سبقت
…
وعوده لعماد الدّين عن كثب
ومثل مولى من جاءت مواهبه
…
عن غير وعد وجدواه بلا طلب
فأص فمن بحرك الفياض مورده
…
وأغنه من كنوز العلم لا الذّهب
واجعل له نسبا يدلي إليك به
…
فلحمة العلم تعلو لحمة النّسب
/52 ب/ولا تكله إلى كتب تنبّئه
…
ف (السيف أصدق أنباء من الكتب)(1)
وأنشدني لنفسه لغزا في القلم: [من الطويل]
وما ناقص بالنّقص صار مذكّرا
…
وكان له التأنيث وهو متمم
عجبت له يزداد فضلا بنقصه
…
فيصبح عمّا في الضمير يترجم
ويفهم ما يوحى إليه مسارعا فيعرب عنه وهو أطرش أبكم
ويسعى إذا استسعيته وهو مطرق
…
لغير حياء لابس وهو محرم
شعار بني العباس أضحى شعاره
…
وليس له
…
خراسان مسلم
صموت إذا امسى سليما لسانه
…
نطوق إذا أجررته متكلّلم
والكن مهما حطّ عنه لثامه
…
ولكن فصيح عندما يتلثّم
ترى باقلا منه إذا كان حاسرا
…
وتنظر قسّا منه وهو معمم
وإن عبته بالجّهل فألمّ بأنّه
…
مع الجهل
…
بشرب الماء أعلم (1)
تحلّيت في إظهاره وهو مضمر
…
وحمت على إيضاحه وهو مبهم
فلم أبده بالذّكر إلا مصحّفا
…
لعلمي وإن لم أبد أنك تفهم
/53 أ/ وكتب إليه بعض أصدقائه من الشام. وكان أبو الفتح قد سافر إلى البلاد العراقية، وأقام ببغداد وانقطعت أخباره بها يتشوقه ويحثّه على المجيء إلى البلاد الشامية بهذه الأبيات:[من الطويل]
وذي عزمات لا تكلّ سيوفه
…
وإن صار لا يخشى الردى في المنازل
وإن لاح برق من بريق سيوفه
…
فمن بعده رعد كثير الزلازل
وقال وقد طالت عليه سنونه
…
وما عاش إلا بالعوالي العوامل
{إذا جاء نصر الله والفتح} عاجلا
…
وعاينتنا بين القنا والقنابل (2)
فإنّي أثير الحرب من كل جانب
…
وأظهر فعلي في العدا والعوازل
فأجابه أبو الفتح بهذه البيات على الوزن والقافية: [من الطويل]
/53 ب/ أتاني كتاب منك يا ذا الفضائل
…
فليس له في حوزها من مماثل
فشبهته لفظا وخطا تسمّحا بسمط اللآلئ أو بروض الخمائل
وقبّلته بل كدت أمحو سطوره
…
لفرط اشتياقي بالدموع الهوامل
وقفت على المعنى الذي قد رمزته
…
وقوف المعنّى في الرّسوم المواثل
وأقسم يا مولاي لو كنت قادرا
…
على بعضنا بالكتب أو بالرسائل
وله في كتاب إلى الملك المعظم شرف الدين عيسى بن ابي بكر بن أيوب –صاحب دمشق – وقد غاب عن القدس: [من السريع]
يا ملكا ما زال إنعامه
…
في الناس معقولا ومحسوسا
غبت عن القدس فأوحشته
…
وإن غدا باسمك مأنوسا
وكيف لا توحش ارجاءه
…
وأنت روح القدس يا عيسى
ومن كلامه المنثور قوله:
/54 أ/ "قتيل الجفون الفواتر، في سبيل حبه، كقتيل السيوف البواتر في سبيل ربه، إلا هذا يغسل بدموعه، وهذا يزمّل بنجيعه، وهذا في حال حياته ميت يرمق، وهذا في حال مماته حي يرزق".
[866]
نصر الله بن يوسف بن أبي الفتح الكنانيّ، أبو الفتح.
من اهل الديار المصرية.
وقع إلى إربل من بلاد الشام متصرفا على عهد مليكها العبد الفقير إلى الله تعالى أبي سعيد كوكبوري بن علي بكتكين- رحمه الله تعالى- واستوطنها إلى أن مات بها في ذي الحجة سنة سبع عشرة وستمائة. وكان يكتب خطا حسنا، وينظم شعرا مطبوعا.
انشدني الوزير الصاحب شر فالدين أبو البركات المبارك بن أحمد المبارك بن موهوب المستوفي الإربلي بها – رضي الله عنه – في سنة خمس وعشرين وستمائة، قال:
أنشدني أبو الفتح نصر الله بن يوسف بن أبي الفتح الكناني المصري لنفسه:
[من الكامل]
/54 ب/ ما هذه البدع التي قد أحدثت
…
خصّت بها دون الورى الكتّاب
قامت قيامتهم ولم يك وقتها .... وأتالهم قبل الحساب عذاب
ما كان ذا إلا توهّم ما سعى
…
بالنّصح وهو بنصحه كذّاب
"ما فاتهم في كلّ ما وعدوا به
…
في الحشر إلا راحم وهّاب"
هذا البيت لأبي الفتح بن التعاويذي البغدادي مضمّن (1)
وأنشدني أيضا، قال: أنشدني نصر الله بن يوسف لنفسه: [من الكامل]
كم ذا أعلّل تجي أمل
…
وقّف الرجاء ببابه الرّحب
وحدثني الأمير الكبير العالم ركن الدين أبو شجاع أحمد بم قرطايا بن عبد الله الإربلي – أسعده الله – من لفظه وحفظه بإربل، قال: كان /55 أ/ لأبي الفتح نصر الله بن يوسف بن أبي الفتح الكناني صديق يهودي، فضمن من إنسان غريما ببدنه، فهرب ذلك المكفول إلى بعض البلاد، فطولب اليهودي به وبإحضاره، فعمل اليهودي محضرا، إن الغريم قد سكن في بلد رجل خارجي ولا يمكنه الوصول إليه، ولا يقدر على إحضاره، وطلب من ابي الفتح ومن جماعة أخر أن يضعوا خطوطهم بذلك، فوضعوا. فبلغ الديوان العزيز قصتهم فاعتقل أبو الفتح بهذا السبب. وكان بين [فخر الدين أبي الفضل أحمد خواندزه](2) – ولد الوزير مؤيد الدين أبي الحسن محمد بن محمد بن عبد الكريم القميّ – وبين أبي الفتح معرفة، فكتب إليه بهذه /55 ب/ الأبيات، وأنشدنيها الأمير ركن الدين عن قائلها ابي الفتح:[من الطويل]
أمولاي فخر الدين حلمك واسع
…
وعدلك مبسوط وما زلت تنصف
ابن لي يابن الكرمين قضيتي
…
فقد أشكلت والآمر عندك يعرف
ابيت وقد وكّلت بي والذي جنى
…
ينام قرير العين لا يتكلّف
وما بيننا إلا يسي مودّة
…
إذا ازدحمت بين المودّات تضعف
فقد ذكذرتني ليلتي بين شاعر
…
شكا فيه من يشكو الصديق ويعطف
"وما ضرني إلا الذين عرفتهم
…
جزى الله خير أكلّ من لست اعرف"
هذا البيت مضمّن.