المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ذكر من اسمه يحيى - قلائد الجمان في فرائد شعراء هذا الزمان - جـ ٧

[ابن الشعار]

الفصل: ‌ ذكر من اسمه يحيى

[907]

‌ ذكر من اسمه يحيى

يحيى بن أحمد بن موسى، أبو زكريا الضرير المقرئ،

الموصلىٌّ الدار والسكنى.

وكان من قرية من قرى العراق تدعى برفطا.

هاجر إلى الموصل واستقرَّ مقامه بها إلى حين وفاته فى شهر رمضان سنة ثمانى عشرة

وستمائة. ورأيته بها شيخاً طويلاً أسهر اللون ساكناً بالمدرسة العتيقة. وكان شاعراً

قارئاً للقرآن العزيز فاضلاً.

وحدَّثنى الصاحب الوزير أبو البركات المستوفى الإربلى بها - رضى الله عنه - قال:

اخبرت عنه انَّه كان يضرب بالعود، وينادم الأكابر، ويشرب الخمر. ورد إربل غير مرَّة،

ولم أستنشده من أشعاره إلى أن ورد فى سلخ ذى الحجة سنة عشر وستمائة، فأنشدنى لنفسه

من قصيدة يمدح بها أتابك نور الدين أبا الحارث أرسلان شاه بن مسعود بن مودود - صاحب

الموصل -: [من البسيط]

/180 ب/ دين الصَّوارم والعسَّالة الذبل

عز تدين له الأعناق فى القلل

إركب على صافنات العزم متَّخذاً

مواطناً فى ذرى العلياء للنق

ومنها فى المديح:

كل الملوك اكتست من فخركم حللاً

كما اكتسى آدم من سيِّد الرُّسل

اتى اخيراً وحاز السَّبق قاطبةً

كذلك القيل نور الدِّين فى المثل

وقال من قصيدة أولها: [من الكامل]

منح القضيب رشاقة وتأودُّا

رشا بوجنته الضَّلالة والهدى

آلت محاسنه إليَّة قادر

لتتيِّمن مفوَّها ومبلَّدا

رحلت إليه من الصدور قلوبنا

فكأنَّها بدن تحث بها الحدا

لمَّا رات انوار كنه جلاله

خرَّت إليه مع الجوارح سجَّدا

ص: 207

وقال يمدح أتابك نور الدين أرسلان شاه صاحب الوصل: [من الطويل]

اتعلم ما يلقاه فى كلِّ معلم

محب يروِّى ساحة الربع بالدَّم

يثير له التَّذكار نار صبابة

تزيد على حرِّ الجحيم المضرَّم

/181 أ/ سرى طائر عن سانح عن يمينه

يبشَّره بعد الفراق بمقدم

الا يا ابنة الرومىِّ هل لك موعد

فبعض الأمانى راحة للمتَّيم

إذا كان فيك الغدر طبعاً تكلَّفى

وصالاً وإن لم تعلمى فتعلَّمى

فباتت ولى إخلاص نيَّة مؤمن

وبانت ولى فيها عقيدة مسلم

فلا همَّتى فيها تهم بريبة

ولا ناظرى فيها يبوء بماثم

واحلم عنها عفَّة بعد قدرة

كحلمك نور الدِّين عن كلِّ مجرم

مليك تخاف الأرض سطوة باسه

ويفتك باللَّيث الهصور الغشمشم

اجار فما فوق البسيطة خائف

واغنى فما فى الأرض خلق بمعدم

راينا عياناً منه بعد سماعنا الأ

حاديث ما لم توضح العين للفم

جرئ كموسى صامت مثل صالح

تقى كيحيى ناطق كابن مريم

ايا معطى الخيرات فى كلّ لزبة

...

ومخمد انفاس الجواد المطهَّم

وصلت فما الغيث الرَّوى بممطر

وصلت فما اللَّيث الكمىٌّ بمقدم

خلقت لعزم واقتدار وهَّمة

وعقل وذى رأى وًبأس مصمَّم

فانسيتنا قساًوعمراً وحاجباً

وكعباً وقيس الرأى وابن مكدَّم

/181 ب/ايا خير من يرجى لكشف ملمة

واكرم مسؤول وافضل منعم

تهنَّ بعيد الفطر ما ناح طائر

على فنن يشدو بطيب التَّرنم

ولازلت فى عزٍّ مقيم ونعمة

مدى الدَّهر ما لاحت طوالع انجم

فدونكها عذراء كالمسكً نشرها

ثنى دونها الطلَّاب سوم المقوَّم

وعش فى نعيم دائم وسعادة

محدَّدة اركانها لم تهدم

وقال أيضاً يمدحه: [من الكامل]

احيا الصَّبابة باخل بوصاله

وامات صبر الصَّبِّ يوم زياله

ص: 208

قمر يجود على الورى بصدوده

طبعاً ويبخل عامداً بوصاله

يهتزٌّ من مرح الشَّبيبة عطفه

فالبان يخجل منه من تمياله

ما سلَّ سيف لحاظه فى جحفل

إلَّا اغتنى عن سيفه ونباله

لبس العيون من الملاحة حلَّةً

ما خاطها إلَّا بديع جماله

لو كان يعدى خلقه من خلقه

لمحت محاسنه قبيح فعاله

قمر بدا من تحت ليلٍ مظلمٍ

... من فوق غصن فى كثيب وماله

اهوى استماع البحر خيفة هجره

واراه حلواً إذ خطرت بباله

/182 أ/ ويزيدنى كلفًا به إعراضه

وصدوده بوصاله ومطاله

يا فتنة العشَّاق رفقا بامرئ

لم يبق منه سوى خيال خياله

هى صبوة عذريٍّة لا يرتجى

لسليمها الإبلال من بلباله

ولقد قتلت الدَّهر خبراً والورى

... وبلغت مجداً جلَّ عن اشكاله

حتَّى حللت بربع ملك ماجد

اسمى نجوم المجد دون مناله

فى ربع نور الدِّين والملك الَّذى

فاق الملوك ببأسه ونواله

ملك نرى صيد الملوك ببابه

حزباً لما ترجوه من إفضاله

التارًك الابطال فى يوم الوغى

... صرعى إذا اشتبك الوغى بمحاله

حبر يحير الحبر حسن جداله

بحر ينيل النَّيل قبل سؤاله

[ما امَّه ذو عسرة إلَّا انثنى

عنه ينول من كرائم ماله] (1)

كرم يبخِّل حاتماً وشجاعة

تلهى ابا الأشبال عن اشباله

وتريه اعقاب الأمور بصيرة

... شهد الورى بجلالها وجلاله

مولاى نور الدِّين يا من ربعه

حرم يفوز مخيِّم بظلاله

حزت الصِّفات من الشَّجاعة والنَّدى

والعدل حتَّى فقت عند كماله

امن الغنىُّ بك انتقاص غنائه

واجرت ذا الأقدار من إقلاله

/182 ب/ وغدا الرَّعايا فى حماك بغبطة

لا يرهبون الدَّهر مع اهواله

يا ايُّها الملك الَّذى فاق الورى

والدَّهر طوع يمينه وشماله

ص: 209

وفتي تنقَّل في العلا حتِّي غدت

وحش الفلا والطير بعض عياله

وغذا الوري أضيافه فيمرهم

في سلمه أولاك يوم نزاله

أنت الذي أغنيتني وحميتني

من صرف دهر كنت من اقتاله

فلشكرنك عبدك القنُّ الِّذي

إفضال طولكً مخبر عن حاله

فتهنَّ بالعيد الَّذي وافاك يا

خير الوري بالسَّعد من إقباله

واسلم ودم في نعمة وسعادة

ما ناح قمري بأعلى ضاله

[908]

يحي بن أحمد، بن يوسف بن أحمد، أبو زكريا الواعظ الحسني.

من أهل غرناطة.

ذكر الصاحب الوزير أبو البركات المستوفي في تاريخه - رحمة الله تعالى - وقال: ورد إربل وعقد بها مجالس الوعظ. وكان له من العامة قبول عظيم. وكان يجيء الناس أكثر مجالسة ويتكفَّفهم.

وصلة الفقير إلى رحمة الله تعالى أبو سعيد كوكبوري /183 أ/ بن علي [بن] بكتكين بصلة، وأراد السفر فأمر العامة أن يطلبوا من السلطان أن يقيم عندهم فأجابهم إلى ذلك في خامس جمادى الآخرة من سنة تسع عشرة وستمائة.

ثم قال: أنشدني لنفسه من قصيدة طويلة التزم في أثناثها الإتيان بكلمات منثورة ذكرها لي، تبين إنها كتبت بلون غير المداد، يقول فيها:[من البسيط]

يا دوحة البان من شرقيِّ كاظمة

سقاك من عبوات السحب هتَّان

لساكنيك علينا خدمة ولناً

عليهم بالوفا عهد وأيمان

كم أعذل القلب في تذكاره لهم

دنوا فلمًّا دنا وملي بهم بانوا

ص: 210

هم علَّموني الهوي ما كنت أعرفه

حتَّي إذا ولجوا باب الهوي خانوا

هم الَّذين بسخر اللَّحظ قد سفكوا

دم الهمام وشرع الحب إذ عان

فإن وضعت يدي بالصدر اكتم ما

بالقلب غادره صبر وكتمان

[909]

يحيى بن إبراهيم بن محمد، أبو تراب بن أبي إسحاق البراز البغدادي.

من أهل الكرخ.

ذكره الشيخ /183 ب/ أبو عبد الله محمد بن سعيد الدبيثي، وقال: سكن اللَّوزيّة من محال الجانب الشرقي، وتفقه على مذهب الشافعي رضي الله عنه على أبي الحس بن الخلّ، وسمع منه ومن أبي الفرج عبد الخالق بن أحمد بن يوسف، وأبي الفتح عبد الملك بن أبي القاسم الكروخي، وأبي بكر محمد بن عبيد الزاغوني، وأبي الوقت السجزي وغيرهم، وروى عنهم.

وسافر إلى الشام، وأقام بدمشق مدَّة، وحدّث بها وعاد إلى بغداد وأقام بها إلى أن توفي يوم الأربعاء ثالث عشر شعبان سنة أربع عشرة وستمائة. كتبنا عنه بعد عوده من الشام. وكان سماعة صحيحاً، ويفهم ما يقرأ عليه.

قال وسألته عن مولد، فقال: في السادس والعشرين من شعبان سنة ستٍّ وعشرين وخمسمائة؛ هذا آخر كلامه.

أنشدني أبو الفتح محمد بن بدل بن أبي المعمر التبريزي بإربل، رحمة الله

ص: 211

تعالي -في سنة خمس وعشرين وستمائة، قال: أنشدني أبو تراب لنفسه: [من الوافر].

/184 أ/ أحنُّ إليك من فرط اشتياقي

لكي القاك من قبل التلافي

عدوُّك هالك يهوي سريعاً

إلي النَّيران لم ينفعه راقي

ومن يهواك يكف ولا يبالي

ومن يشناك يهلك وهو باقي

إذا جئنا عطا شي يوم نشرٍ

لتسقينا فأنت هناك ساقي

[910]

يحيي بن إسحاق، الأمير، أبو زكريا الميورقيُّ.

صاحب ميورقة وودَّان.

كان مشهوراً بالبأس والشجاعة بطلاً من الأبطال، مقداماً في الحروب جواداً سخياً أدبياً بليغاً شاعراً فضيحاً. لم يقع إلى من شعره غير بيت مفرد من قصيدة وهو:

[من الخفيف]

[911]

يحيى بن أسعد بن يحي بن موسى، أبو المفضل - المذكور أبوه فى أوّل الكتاب في حرف الهمزة – السنجاري الأصل، الفارقيُّ المولد، الدنيسرىُّ الدار.

ذكره أبو حفص عمر بن الخضر بن اللَّمش التركي فى كتابه "حلية السريين من

ص: 212

خواص الدنيسريين". وقال: من أهل القرآن، قرأه بالقرآت على أبي سعد سعد الله بن غنائم النحوي الحموي بها، وقرأ على شيخنا أبي الحسن النيلي بدنيسر جملةً من كتب القراءات، وله عناية بالتجويد، وحسن الأداء في القراءة.

وهو سامي الهمة في التشاغل بعلومٍ منها: الفقه والنحو والطلب وغيرها.

وله في النظم والنثر والترتيب والإنشاء تصرُّف.

ثم قال: أنشدني لنفسه إملاءً بدنيسر موعظةً: [من الكامل]

واخجلتي يوم الحساب وقوله

ما كنت تصنع والزمان موسَّع

أو لم نعمِّرك الطَّويل ونستر السِّـ

ـتر الجميل ألم يكن لك مرجع

/185 أ/ لو لم تكن لك في القرون من الألى

عبر أما في ذكرهم ما يقنع

أو لم تكن [لك] اعين فترى بها

أو لم يكن لك للمواعظ مسمع

ماذا أقول ولي ذنوب نكَّست

رأسي حياء فهو لا يترفَّع

واحسرتا لو كان يغني حسرة

واويلتا لو أنَّ ويلاً ينفع

ضَّيعت أيَّامي لغير إفادة

ترجى فقلبي بالهموم مروَّع

وجوانحي من حرِّ شوقي في لظىً

وجد به تحني عليه الأضلع

ما لي سوي الظَّنِّ الجميل وسيلة

فهو الجواد وجوده لا يمنع

قال: وأنشدني لنفسه متغزلاً: [من الكامل]

يخفي الهوي ودموعه تبديه

صبٌّ صبابه وجده تصبيه

وتميته أشواقه فإذا بدا

من نحو رامه بارق يحييه

وإذا النَّسيم سري إليه بنشركم

نشر الَّذي من حبكّم يطويه

فتردّه زفراته من خرِّها

عنه وباعث شوقه يدنيه

يغريه عاذله وأين سلُّوه

منه وطوع غرامه ناهيه

ص: 213

/185 ب/ فهو السَّليم بوجده فلذا إذا

هبَّ النَّسيم كأنَّه راقيه

رقَّ العدول لحاله من سقمه

وبكي وحسبك عاذل يبكيه

آس إذا هبَّ النَّسيم من الحمي

هيهات عزَّ من الأسي آسيه

ومهفهف عبث الصَّبا بقوامه

ما فيه من عيب لمستجليه

سكرت لواحظه بخمر السَّحر من

فتراتها ودلاله ساقيه

سلًّت سيوف التَّيه من إعراضه

لحظاته فمحبُّة في التَّيه

يا بدر إن طال المطال فعد علي

بعد البعاد تحيَّة تحييه

أين المفر ولا مفر لعاشق

حكمت عليه يد السَّقام وفيه

قال: وأنشدني لنفسه إملاء: [من الخفيف]

أيُّ شيء أحلي من الحبِّ جهراً

لذَّة العشق أن تهتَّك ستراً

رحم الله من وش بي فإنِّي

استلذُّ الهوي وإن كان مرَّاً

ليت شعري ماذا تقول وشاتي

أنا مغري بحبِّهم أنا مغري

وإذا ما الحبيب كان علي الحـ

ـبِّ معيناً لم تخش زيداً وعمراً

/186 أ/ وحياة الهوي وحقِّ زمان الـ

ـوصل والجاريات يسراً وعسراً

لو اطقت المزيد في الحبِّ لازدد

ت ولكنني تحمَّلت وقراً

يا مني النَّفس يا نهاية آما

لي بمن قد كسا جفونك سحراً

بالَّذي صان ذا الجمال عن الرَّيـ

ـبه بالطَّائفين شعثاً وغبراً

لا تدع مهجتي تذوب من الشو

ق غراماً فأنت بالحال أدري

ففؤادي من التهاجر مفؤو

دو عيناي بعد بعدك سهري

لست من يستطيع صبراً علي البـ

ـين من ذا يطيق للبين صبراً

قال: وأنشدني أيضاً لنفسه: [من مجزوء الطويل]

الذُّ الهوي ما ذلَّ فيه عزيزه

واقتله للعاشقين غريزه

وافتكه طرف كحيل إذا رنا

تبلبل الباب البرايا رموزه

ص: 214

قال: وأنشدني لنفسه إرتجالاً: [من مجزوء الوافر]

فديتك كفَّ عن ظلمي

ففي الأيَّام معتبر

جني طرفي علي قلبي

فكان جزاءه السَّهر

[912]

8/ 186 ب/ يحيي بن إسماعيل بن موسى بن إبراهيم بن منصور بن العاص، أبو زكريا الموصلي.

المذكور والده في الجزء الأول من الكتاب.

أخبرني أنه ولد في الليلة المسفرة عن صباح يوم الجمعة سلخ جمادى الآخرة سنة ستمائة بالموصل؛ وهو شاب ذو نوادر ومضحاكات ومفكاهةٍ ومداعباتٍ وأزجالٍ وموشحات، وأشعار في الزكالش هزليات.

غلب عله نوع المداعبة والهزل فشهر به، واستمر ني نهجه وله معرفة بأحوال الساسانيَّة، وكلام أهل التلَاّريَّة، ومقالات المنجمين والطرقيّة. وعنده قحة في مخاطباته وقلة حياء ومصادفة وجرأة في الكلام الرديء الفاحش؛ إلَاّ إن فيه ذكاءً وله طبع في الشعر.

ومما أنشدني لنفسه يمدح بدر الدين لؤلؤ بن عبد الله - صاحب الموصل - ويذكر الخلعة التى جاءته من أمير المؤمنين الإمام المستنصر بالله أبي جعفر المنصور بن محمد، /187 أ/ والسيف والسِّنجق، وأن يخطب له على المنبر ويضرب الدينار باسمة ومؤازرته ومعاضدته له:[من البسيط]

الحمد لله نال السُّول طالبه

وقام في المنبر البدريِّ خاطبه

وأشرقت غرَّة الدُّنيا وابتهج الـ

ـملك المؤَّبد واهتزَّت مناكبه

وشرِّف السِّنجق الميمون حين غذا

تلوي علي ملك الدُّنيا عصائبه

ص: 215

أبي الفضائل سلطان الرَّعَّية بد

ر الدِّين ذي الشرف العالي مناقبه

سمعاً دعوت أمير المؤمنين إلي

حق تجلَّت لرائيه كواكبه

واخترت أروع صفَّي الله جوهره

يسمو به الدَّهر حقاً فهو صاحبه

البسته حلُّةً جاءت من الملأ الأ

علي تهادي فزفتها سحائبه

وصارماً أبداً تغنو الرِّقاب له

كأنما القدر الجاري مضاربه

قلَّدت أمر عباد الله خيرهم

فأصبح الملك قد عزت مطالبه

فالآن قرَّت عيون العالمين بما

أوتو اوأمَّ سبيل الحق راكبه

يا معشر النَّاي أوفوا بالنذور فذا الـ

ـوفت الَّذي خطه في اللوح كاتبه

هذا الّذي ظهرت بالله آيته

هذا الَّذي تفتح الدُّنيا كتائبه

/187 ب/ ملك له علم الإقبال منتشر

والسعد رافعه والله ناصبه

ينبئك عن أصله أفعاله وكذا الا

فعال تهدي إلي من ظل ناسبه

بيض مناقبه صفر مواهبه

خضر مواطئه حمر قواضبه

هذا الَّذي يختم الملك العقيم فما

من بعده ملك إلَاّ عواقبه

هذي البداية فانظر كيف تخطبه الـ

ـبلاد طرَّاً وأطواراً تجاذبه

فلا فتي الفلك الدَّوَّار يخدمه

ما ذرَّ شارقه وانحطَّ غاربه

وأنشدني لنفسه: [من الخفيف]

ومتي شئت أن تنال من النمو

صل حظّاً فقل بغير مخافة

إنَّني شاعر أتيت من الشا

م وقصدي مقرُّ دار الخلافة

وأظهر النَّصب ترتفع وتجرُّ الـ

ـمال من جمعهم بحرف الإضافة

وأنشدني مشوَّه الخلق ضعيف العينين: [من السريع]

/188 ب/ قالوا: نري الكوذين دون الوري

فرداً بلاصيت ولا صوت

فقلت: كفوا ليته لم يزل

بشخصه عندي إلي الفوت

أقل ما في وجهه أنَّه

يفزع منه .....

ص: 216

وأنشدني أيضاً فيه يهجوه: [من البسيط]

تتقلَّب الدَّهر تقليباً عجبت له

حتَّي لقد صار في الآته عبر

وكان عهدي بالكوذين من خشب

نقي وجه يدقُّ الثَّوب ينقصر

وقد إذا يوسف الكوذين هامته

تدقُّ الوجه منه أسود حجر

وأنشدني لنفسه يخاطب بدر الدين لؤلؤ ين قرب الشيطان الشاعر الإربلي؛ ويحي هذا كان ينعت بالنجم: [من البسيط]

قل للمليك الَّذي مازال معتصماً

يجب بالرُّحب والإكرام داعيه

حاشاً مقرَّك والأملاك تحرسه

أن تبعد النَّجم والشَّيطان تدنيه

/188 ب/ وأنشدني لنفسه في حسين بن عمر بن العصار الشيرجي. وكان كبير الأنف جداً: [من الكامل]

قل للحسين الشَّيرجيِّ عدمته

قاضي الفسوق وحجَّة المتمرِّد

شبَّهت أنفك كر دكوه بعينها

والفرق بينهما جليُّ المقصد

إنَّ الملاحد أصبحوا في قلعةٍ

ورأيت أنفك قلعة في ملحد

وأنشدني لنفسه يخاطب بدر الدين لؤلؤ: [من الطويل]

أمولاي بدر الدِّين نعماك لم تكل

إلي رحلة وسط الشِّتاء ولا الصَّيف

ملكت وملء الأرض جدب وروعة

فاطعمت من جوع وآمنت من خوف

وأنشدني قوله: [من مجزوء الرجز]

/189 أ/ يا من يخاف العسر أو

يخشي من المكاره

اقصد ابا الفتح ودر

تفز بباب داره

فالأمن في يمينه

واليسر في يساره

ص: 217

وأنشدني لنفسه: [من البسيط]

وصائم جاءني والكأس مترعة

وسط النهار تحاكي جذوة النَّار

فقال لمَّا رآها في فمي: غربت:

الله أكبر هذا وقت إفطاري

وأنشدني لنفسه يهجو: [من الطويل]

وقالوا: يري مسعود شخصك منكراً

فأوضح لنا ما قاله ببيان

فقلت: صحيح ذاك مازال ظهره

إلي فيا لله كيف يراني

[913]

يحي بن أبي بكر بن مكي، أبو زكريا الكاتب التميميُّ

من أهل بجَّانة من بلاد المغرب.

كان يكتب لبعض بني عبد المؤمن المستولين يومئذ على البلاد المغربية. وكان من الأفاضل في زمانه أدباً وكتابةً وقولاً للشعر، وحفظة للأشعار؛ ذا حظٍّ جزيل من علم اللغة والعربية.

حدثني /189 ب/ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن يوسف الفرَّياني بحلب، قال: اتفق أن اجتمع جماعة من غلمان صاحب المغرب وخواصه يرمون بالنُّشاب فبينما هم في ذلك إذ أقبل الأمير حينئذ، ثم قصد القرطاس فأزاله من مكانة، ووضع يده عوضه، وقال للرماة: أيّكم أصاب يدي دفعت إليه ألف دينار فأشار إليه بعض الحاضرين، وقال: أعيذك أيها الأمير من السوء، هذا لا يمكن وإنما نجعل موضع يد الأمير الهدف ويرمى فأزال يده من ذلك فابتدر أحد الغلمان ورمى فأصاب الهدف الذي وضع، فدفع إليه الأمير ألف دينار، فقال أبو زكريا بديهاً في ذلك الوقت وكان حاضراً ذلك كلّه، وأنشدناه:[من البسيط]

يا خامس الخلفاء الرَّاشدين عسى

شكواك تقبض في الأيدي وتفترض

علمتها البسط للجدوى لسائلها

حتى من السَّهم يصمي ليس ينقبض

لم يقصد السَّهم إلَاّ كي يعرفنا

هذا الإمام الذي في كفِّه الغرض

ص: 218

/190 أ/ وأنشدني، قال: أنشدني أبو زكريا أيضاً من شعره: [من الطويل].

بكيت فما أغنى البكاء ولا أجدي

فكيف وقد أهدي لي البين ما اهدي

وما فرقة الأحباب إلَاّ زريَّة

تبيد الفتى سقماً وتقتله رجدا

هم أورثوا قلبي الصَّبابة والجوى

وهم أورثوا عيني المدامع والسُّهداً

أيا هند لا كان الفراق ويومه

فقد طال ما شقَّ القلوب وما هدَّا

نسير وما ندري لفرقتنا مدًى

سوى أنَّ هذا البين ما بيننا جدَّا

أيا هند إنِّي غير راض بسلوة

ولا نافض ودّا ولا ناقضٍ عهداً

ولو كان لي بدٌّ عن البعًد والنَّوى

أقمت ولكن لم أجد عنهما بدّا

أيا هند لو أبصرت شوقي ولوعتي

لجدَّدت لي حبّاً واسقعت لي ودَّا

أعندك أنِّي في بحور من الأسى

غريق ولم أبلغ لغايتها حدَّا

فهاتيك حالي والدِّيار قريبة

إذا ما أزددت عن داركم بعداَ

[914]

يحيي بن الحسن بن الحسين بن عليِّ بن محمد – ويلَّقب البطريق – ابن نصر بن حمدون بن ثابت بن /190 ب/ مالك بن ليت بن عامر بن غنم بن فهر بن دلجة بن بشر بن معاوية بن بدر بن ثعلبةً بن حبال بن نصر بن سواة بن سعد بن مالك بن ثعلبة بن دوادن بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معدِّ بن عدنان، أبو الحسين، وأبو زكريا الأسدُّي.

ص: 219

كانت ولادته ومنشأه بالحلّة المزيديّة.

كان عالماً فقيهاً قدوةً في مذهب الشيعة إماماً من أئمتهم، سمع الحديث الكثير، وسافر [إلي] البُلدان، وسمع عليه أهلها عدَّة كتب من تصنيفه وتصنيف غيره؛ ثم عاد إلى الحلة المزيدية فكانت وفاته بها في سنة إحدى وستمائة.

وقد ذكره الشريف أبو عبد الحميد فخار بن معد بن أحمد بن محمد الحلي الموسوي في مشايخه، وقال: لقي أبو زكريا يس بن الحسن بن الحسين بن علي بن البطريق الأسدي الحلي الفقيه العماد الطبري تلميذ أبي علي بن الطوسي، وقرأ عليه ولقي غيره.

وعلة سنُّه حتى بلغ ثمانين سنةً، وصنَّف كتباً حسنةً، ومضى /1914 أ/ إلى واسط، وأقام عشرين سنة، ثم عاد إلى الحلة فمكث بها قليلاً، ثم فارقها وقدم إلى الموصل، ثم إلى حلب واستوطنها مدّةً ثم رحل عنها. وكان حسن المذهب، طيب المعاشرة، هذا آخر كلامه.

صار إليّ من تصنيفه كتاب كبير لقبه بـ "العمدة من صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار علي بن أبي طالب وصيّ المختار وعلى الأئمة من ذريته الأطهار"، وصنف كتاباً آخر وسمة بـ"مستدرك المختار في مناقب المختار" استخرجه من المسانيد الصحاح المؤلَّفة. تكلم على الأحاديث ومعاني الآيات، وفصَّله فضولاً، وأضاف إلى ذلك مقطعاتٍ حساناً من شعره في مدح الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - صلوات الله عليه وسلامة.

وكان شاعراً أديباً؛ وهو والد أبي الحسن علي بن يحي بن الحسن بن البطريق الذي مرَّ شعره متقدّماً في مكانه.

ومن شعره ما أنشد ني الشريف النقيب الأجل العالم السيد الأطهر /191 ب/ جمال آل رسول اللص صلي الله عليه وسلم فخر الدين أبو الوفا عبيد الله بن علي بن زيد بن محمد بن عبيد الله الحسيني الموصليُّ بها رضي الله عنه قال: قرئ على يحيى بن الحسن الأسدي

ص: 220

لنفسه، وأنة أسمع في مدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهة: -

[من الطويل]

إذا حرفوا نصّا عليك نحبَّراً

فهل حرَّفوا ما في الكتاب المنزَّل

وأني سأبدي فيك ما نبذا العدا

بظهر من الوحي العزيز المرتَّل

ومن مسند الآثار عن سيد الورى

نبي الهدى المنعوت بالمتزمِّل

أبا حسن إنَّي إليك ممسَّك

وبعد إله العرش أنت معوَّلي

وأنشدني أيضاً، قال: أخبرنا لنفسه قراءة عليه يمدحه - صلوات الله عليه: -

[من الكامل]

وإذا المدائح زينَّت فخر امرئ

كان المديح بفخرك الممدوحا

وإذا المناقب زينَّت بمدائح

جعلت مناقبك المديح مديحاً

/192 أ/ أنت الَّذي ردَّ الإله بقوله

شاطي الفرات على البريَّة يوحى

أنت الَّذي مذ لم نزل في فضلة

برسالة الرُّوح المؤيِّد يوحى

وأنشدني عنه قوله يمدحه - كرم الله وجهة – [من الوافر]

إمام للمعاند والوليَّ

ومولى للموافق والقليِّ

له فرض الولاء بيوم خم

بوحي الله في النص الجليِّ

فحسبك من مفاخرة قديماً

غدا نوراً على العرش العليِّ

وحسبك من مناقبه حديثاً

وصيُّ للنبيِّ الأبطحيِّ

وأنشدني عنه أيضاً فيه عليه السلام: [من البسيط]

جاهدت فيك بقولي واللِّسان له

فضل على السيف والعسَّالة الذبل

لولا اللِّسان لما سلَّ الحسام ولا الـ

ـتقت جموع الوغى في معرك حفل

فالقول تخدمه الأسياف إن سعدت

أربابها وبهم شوق إلى العمل

به عرفنا مقادير السَّعيد من الشَّـ .... ـقيِّ لا بالظباة البيض والأسل

/192 ب/ وأنشدني عنه فيه - كرم الله وجهة: -[من الكامل]

ص: 221

تثني مقاصده الرَّدى عن قصده

ومقاصد الرَّحمان غاية قصده

أبداً رضا الجبَّار في سطواته

وكذا رضا المختار في إفرنده

نهضت به رتب الكمال بسؤدد

أعيا على من رام فيه بجهده

وأنشدني عنه أيضاً - صلوات الله عليه وسلامة -: [من الطويل]

مناقب في دين عليها طلاوة

ومنها لجيد المكرمات تمائم

قلائد في بيت الدِّيانة والهدى

ومنها لفخر المكرمات مكارم

[915]

يحي بن الحس بن أحمد بن مراون بن عليَّ بن سلامة بن مروان، أبو زكريا الطنزي – بالنون والزاي -

من طنزة، بلدة فوق الجزيرة العمرية من ديار بكر.

وقد أوردت من شعر جدّ أبية مروان بن علي في كتابي المتقدّم الملقب بـ "تحفة الكبراء المذيل محلى معجم الشعراء".

وكانت /193 أ/ ولادة أبي زكريا - هذا - في سنة ثلاث وسبعين وخمسائة بطنزة. ونشأ بها وانحدر إلى الموصل، وتفقه بها على الشيخ أبي المظفر محمد بن علوان بن مهاجر الموصلي الفقيه الشافعيّ مدَّة بالمدرسة الأتابكية العتيقة. وحفظ كتاب التنبيه للامام أبي إسحاق الشيرازي على ظهر قلبه. وقرأ شيئاً من مسائل الخلاف والفرائض على الإمام أبي المجد إسماعيل بن هبة الله بن باطيش الموصلي، ولازمة مدَّة، وتميزَّ فيما قرأ عليه.

وانحدر إلى بغداد وأقام بالمدرسة النظاميَّة يسمع درس الشيخ أبي علي يحيي بن الربيع بن سليمان بن حرَّاز ألعدوي الواسطي مدّرس النظامية. ثم انتقل بعد مديدة إلى دار الذهب وسمع بها الدرس من أبي عبد الله محمد بن أبي القاسم بن فضلان، وكان المدرس بها يومئذ. واستدلَّ بين يديه ولازم الاشتغال وتمهَّر في المسائل الخلافية وعلم المذهب والفرائض.

ص: 222

ثم أصعد من بغداد في سنة خمس وستمائة، /193 ب/ وأقام بالموصل مديدةً يسرة، ثم توجَّه إلى بلده فولي القضاء والتدريس بها. فكان يقضي ويدّرس ويفتي وبقي على ذلك مدَّة. ثم صرف عن القضاء بسبب تغير وزير كان بديار بكر؛ ثم أعيد عن قريب.

وكان قد فقهت نفسه، ورقَّ طبعه، ينظم الشعر الرقيق. وكان اجتماعي بالقاضي أبي زكريا بحلب في شهر ربع الآخر سنة أربع وأربعين وستمائة بالمدرسة النوريّة المعروفة بالنفَّرية.

وأنشدني لنفسه: [من الكامل]

من لي بطيفك أن يكون مسامري

يا غائباً لم يخل منه خاطري

لهفي على ذاك الزَّمان وطيبة

أيَّام كنت مصاحبي ومعاشري

تالله لو يرجى له من عودة

أو يفتدى لفديته بالنَّاظر

هل أنت يا أملي على طول المدى

أنسيتني أم هل فديتك ذاكري

أقسمت بالبيت العتيق ومن دعا

بفنائه من محرم ومجاور

إن عاد شملي جامعاً بأحبَّتي

من بعد طول قطيعة وتهاجر

/194 أ/ قضيت عمري للأحبَّة شاكراً

وغفرت زلَاّت الزَّمان الغادر

أنشدني أيضا لنفسه إملاءً: [من الكامل].

إن كان صدُّك عن قلًى وملال

أو كان عن تيه وفرط دلال

فلقد علمت بأنَّني راض بما

ترضاه لي يا منتهى أمالي

قسماً بوجهك إنَّه لي كعبة

حجِّي لها متتابع متوالي

لولاك لم أخضع لواش كاشحٍ

كلَاّ ولا أغضبت فيك رجالي

لكن حبَّك قد تملَّك مهجتي

كرهاً فلا الوي إلى عذَّالي

يا قامة الغصن الرَّطيب وفرحة الصّ

ـبِّ الكئيب أما مللت مطالي

هب أننَّي راض بصدِّك والقلي

لم لا تجود تكرُّماً بوصالي

مولاي أنت جعلتني غرضاً لما

أرمى الغداة به من الأقوال

وتركتني بين الرَّجال يسومني

من كنت لا أرضى لحمل نعالي

ص: 223

[916]

يحيي بن حميد بن ظافر بن عليَّ بن الحسين بن عليَّ بن القائد أبي عليٍّ يعرف بمؤيَّد الحقَّ بن صالح بن عليَّ بن سعد بن كريم بن محمد بن الحسن بن الحارث بن عليَّ /194 ب/ بن سعد ين مسعود بن اليعقوب بن حارثه بن الأعصم بن غنم بن أسد بن سالم بن سعد بن الحارث بن صخر بن الحارث بن صخر بن الحارث بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن الأزد عامر بن حارثة بن أمرئ القيس بن ثعلبة – وهو غسان – بن الغوث بن مالك بم زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قطحان، أبو زكريا بن أبي طي الأزدي.

من أهل حلب، هكذا كتب نسبه من خط يده.

كانت ولادته في آخر سنة خمس وسبعين وخمسمائة.

وتوفي بها يوم الأحد الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وستمائة.

وكان أبوه نجاراً - وكذلك جدُّه - واشتغل أبو زكريا بصنعة النجارة مع أبية برهةً من الزمان ثم تركها وحفظ القرآن العزيز، وتعلَّم الكتابة، ومال إلى طلب العلم والأدب، ولقي العلماء ومجالس الفضلاء؛ فقرأ فقه الإمامية على أبي جعفر محمد بن علي بن شهر اشوب السروي المازندراني.

ص: 224

/195 أ/ وقرأ الخلاف علي أبي الثناء محمود بن طارق الحلبي الفقيه الخفي.

ثم انتقل إلى تعليم الصبيان وإقراء القرآن الكريم، فلزم ذلك إلى سنة سبع وتسعين وخمسمائة، ثم جذبه الوزير نظام الدين أبو المؤيد محمد بن الحين الطغرائي وزير الدولة الظاهرية يومئذ إلى تعليم ولده، فلزمه إلي سنة ستمائة.

ثم ترغ عن ذلك، ولزم بيتة وطلب مشايخ الأدب، فقرأ على أبي محمد القاسم بن القاسم الواسطي، وأبي البقاء يعيش بن علي بن يعيش النحوي الحلبي، وأبي القاسم أحمد بن هبة الله بن الجبراني الحلبي، وأبي الحرم مكي بن رياَّن الحري الحاكي وغيرهم.

ثم عمل الشعر وصار أحد شعراء دولة الملك الطاهر غياث الدين غازي بن يوسف بن أيوب، وارتفعت منزلته عنده، وولاّه نقابة الفتيان في سنة تع وستمائة؛ فكان نقيب حضرته.

ثم أحبَّ التصنيف، وصنَّف كتباً في التواريخ وتغير القرآن الكريم والآداب والفقه /195 ب/ والأصول كثيرة منها: التاريخ الكبير الذي وسمة بـ "معادن الذهب في تاريخ حلب" وهو كتاب جمع فيه أخبار الملوك والعلماء، واحتوى علي أخبار الشام التي لا يوجد مجموعة في كتاب قديم ولا حديث، وابتدأ به من أول الفتوح إلى سنة تسع وثمانين وخمسمائة، وأوصل فيه الدول وأخبارها القديمة في الإسلام والحديثة؛ وهو كتاب نافع ومفيد، وكتاب "التنبيه على محاسن التشبيه" أتى فيه بجميع فنونه وما قال العلماء فيه؛ وهو كتاب حسن في بابه، وكتاب في "محاسن الغلمان" يحتوي على ألف وتسعمائة غلام. جمع فيه من جيد الأشعار اللطيفة المعاني ما لا يوجد مجموعاً في كتاب، وقدَّمه للملك الظاهر فأعجب به وأثابه عليه أحسن ثواب، وكتاب "لمح البرهان في تفسير القرآن"، وكتاب "البيان في أسباب نزول القرآن" وكتاب "غريب القرآن".

/196 أ/ مختصر، وكتاب "المجالس الأربعين في فضائل الأئمة الطاهرين"، وكتاب "خلاصة الخلاص في آداب الخواص"، وكتاب "حوادث الزمان" تاريخ علي حروف المعجم، وكتاب "تاريخ العلماء"، وكتاب "أسماء الشعراء"، وكتاب "شفاء الغليل في

ص: 225

ذم الصاحب والخليل"، وكتاب "الحاوي" ذكر فيه رجال الشيعة وعلماءهم وفقهاءهم وشعراءهم وأئمتهم المصنفين في مذاهبهم، وهو مرتب علي حروف الهجاء. وغير ذلك من التصانيف الكثيرة، وبلغت مصفاته أكثر من خمسين صنفّاً.

وكان هذا الرجل يأخذ نفسه بالتصنيف والجمع والتأليف ويختلق أسماءً وألقاباً لكتب فيضعها ويضيفها إلى نفسه وينتحلها. ولم يكن إلاّ صاحب دعاوى ومخاريق وأباطيل ويوهم أنه قد صنَّف وليس عنده ممّا /196 ب/ ذكر علم ما، ولا وجدت شيئاً من مصنَّفاته إلَاّ اليسير.

وحدثني الصاحب الإمام أبو القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة الفقيه الخفي بحلب - أيّده الله تعالى - قال: كان إبن أبي طيّ كذاباً كثير الكذب والتحريف؛ وانَّ هذه الكتب التي عدّدها وادعاها، وعمل لها فهرستاً، تمويهاً وتوهيماً لم أقف منها على شيء؛ إلا أنَّه كان يقول قد صنفت الكتاب الفلاني في العلم الفلاني فنسأله إحضاره فيحتج بحجة ما ويغالطنا ويوهم أنه فرغ. وكلّ ما يتلفظ به ويدعيه زور وكذب فإذا صح له ذلك وصدًق في تصنيفه فيكون قد أغار على بعض الكتب، فيقدم فيه أو يؤخر، أو يزيد قليلاً أو يختصر، ويختلق له اسماً غريباً وينتحله. هكذا كانت شيمته. وكان قد جعل التصنيف بضاعته، ورأس ماله وصناعته.

ومن شعره ما أنشدي أبو الفتح نصر الله بن أبي العزّ بن أبي طالب الصفَّار الشيباني الدمشقي بها في المحرم سنة/197 أ/ أربعين وستمائة، قال: أنشدني يحيي بن أبي طي الحلبي بها، لنفسه ما كتبة إلى الملك الظاهر غياث الدين غازي بن يوسف ني أوّل قصَّة:[من الوافر]

غياث الدِّين يا مولى الموالي

وغيث ذوي المفاقر والعيال

ومن أصبحت من نعمي يديه

سعيد الجدِّ ذا جاه ومال

أتى شهر الصِّيام ولي عليه

حقوق من عطائك والنوال

فخذ يا موجدي بيدي يديه

بما عودت من كرم الخلال

فلم أذكرك شكّاً في اهتمام

يقصِّر منك عن نظرٍ لحالي

ولكن خفت أن تعطي ابتداءً

فتحرم منطقي شرف السُّؤال

ص: 226

وأنشدي أيضاً قال: أنشدني أبو زكريا لنفسه: [من السريع]

كم ليلة بتُّ بها وحدي

ملازماً بالهمِّ والوجد

أقلِّب الطَّرف بأرجائها

ومدمعي يجري على الخدِّ

كأنَّها في طولها إذ بدت

شعرك يا من زاد في الصَّدِّ

/197 أ/ وأنشدني، قال: أنشدني يحيي بن أبي طيّ لنفسه: [من الكامل]

صمت الأراك ولم يبح بسريرة

فطفي ببرد الثَّغر منه أوارا

والعود باح بسرهَّ لوشاتهً

فرقاً فأورده الكلام النَّارا

وأنشدني، قال: أنشدني يحيي بن حميد لنفسه: [من المتقارب]

تذَّكرت أيَّامنا بالحمى

وطيب زمان لنا قد مضى

وندماننا رشأيُّ اللِّحاظ

كالبدر وجهاً إذا ما أضا

إذا عبَّ في كأسه خلته

هلال الشُّعاع إذا أومضا

وأنشدني، قال: أنشدني قوله: [من السريع]

يا قمراً زاد غرامي به

لمَّا بدا ليل عذاريه

قلت لعذَّالي عليه انظروا

ورداً وريحاناً بخدَّيه

يحميهما أن يقطفها صارم

قد سلَّه من غنج عينية

وأنشدني أبو العباس /198 أ/ أحمد بن يوسف بن عبد الله المؤدّب الحلبي، قال: أنشدني أبو زكريا بن أبي طيّ من شعره في الشقق: [من الكامل].

وكأنَّما شفق السَّماء وقد بدا

في صحن خدِّ الشَّرق للمتأمِّل

خجل بدا في خدِّ روميٍّ وقد

منح العتاب على لسان المرسل

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه في المعنى بديهة: [من البسيط]

كأنَّما الشقق الشرقي حين بدا

خد لأغيد روميٍّ به خجل

أو صفحة من لجين موِّهت ذهباً

أو درِّة مسَّها في سحرة بلل

وحدَّثني الصاحب الإمام أبو القاسم بن أبي جرادة، قال: استعار مني يحيي بن أبي طيّ النجار كتاب "الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة" الذي /198 ب/ ألفتة

ص: 227

وجمعته في نسب أجدادي وأخبارهم - رحمهم الله تعالى - فبقي عنده مدَّة يطالعه، ثم سيره بعد ذلك إليّ فتصفحته فوجدت في أثنائه ورقةً بخطّ يده متضمنةً هذه الأبيات من شعره.

قال الفقير إلى رحمة الله تعالى، الراجي رحمة رّبه؛ المبارك بن أبي بكر بن حمدان بن أحمد الموصلي مؤلف هذا المجموع: أعارني هذا الكتاب المذكور الصاحب الإمام أبو القاسم - فح الله في أجله - فكتبت منه فوائد خطيرةً، ونكتاً جليلة، أودعتها كتابي الذي ذيلته على معجم الشعراء لأبي عبيد الله المرزباني، ونقلة الأبيات المذكور من خطّ /199 أ/ ناظمها وقد صدَّرها بهذه الألفاظ المسجوعة وهي: "ولما وقفت على هذا النسب الأصيل، والحسب النبيل، والفخر الجليل، قلت:

[من الكامل]

نسب عليه من الغزالة بهجة

تعشي ومن فلق الصَّباح بهاء

لا يحتوي إلَاّ على متوطِّد

شرفاً تخر لفضله العظماء

أو أروع وسم الزَّمان بنانه

بفضائلٍ تعنو لها الجوزاء

رب اللَّواء أبو جرادة عامر

لهم به بين الأنام لواء

ولهم بخاتم مجدهم وكمالهم

عمر الكمال على الأنام علاء

بحر العلوم وأين عذب مذاق ذا

من طعم ذاك إذا تمطِّق ماء

قسماً أقول وان تقدَّمة الألى

من قومه واتى به الأجزاء

فلقد سما وعلا بكلِّ فضيلة

لا يستطيع لحاقها القدماء

فالسَّيف من نفس الحديد نجار

وله على جنس الحديد سناء

/199 ب/ ومحمد من نسل آدم قد أتى

وله عليه الفخر والعلياء

ومن شعره أيضاً في أهل البيت - صلوات الله عليهم وسلامة أجمعين: -

[من الكامل]

أنا في إسار غدائر ونواظر

من كل أبيض ذي قوامٍ ناضر

ريَّان من مرح الصِّبا فكأنَّما

رويت معاطفه بغيثٍ باكر

خمري ريقٍ لؤلؤيَّ ضواحك

مسكيِّ صدغ صارميِّ محاجر

لله ليلتنا بكاظمةٍ وقد

سمحت به الأيَّام بعد تهاجر

ص: 228

وقد اضطعجنا والنُّجوم كأنَّها

في الأفق لؤلؤ ثغره في ناظري

والبدر سار في السَّماء كأنَّه

من وجهة باد بنور باهر

والشِّعريانً كأنَّما أحداقها

أحداق عاذل حبِّه المتكاشر

وسهيل الوقَّاد يخفق دائباً

خفقان أحشائي عليه وخاطري

والليل يرفل في فضول غلائلٍ

رقَّت كشوقي أو كدمعي القاطر

والريِّح تنشر عرفها بنسيمها

نشري مديح أخي النَّبي الطاهر

/200 أ/ خير الأنام ومن يذّل مهابةً

من بأسه قلب الهزبر الخادر

صنو النَّبي وصهره ووزيره

وظهيره في كل يوم تشاجر

ومبير عتبة والوليد وشبية

والعامريِّ وذي الخمار الكافر

ومزعزع الباب المشيد وقالع الًـ

ـحجر الشَّديد عن القليب الدَّاثر

ومغيض تيَّار الفرات وقد طما

ورمى البلاد بكلِّ موجٍ زاخر

سل عنه إن أنكرت سورة مريم

والصف والشورى وسورة غافر

وأسأل حديث الشمس عنه فإن تجد

رشداً والَاّ سل حديث الطَّائر

والسَّطل والمنديل فيه معجز

والجان أبين للَّبيب الخابر

وحديث يوم الدَّوح أعظم موقعاً

عند اللَّبيب وكلِّ لحب خابر

إذ قام في يوم الغدير محمَّد

وبكفِّه كفُّ الإمام الطًّاهر

من كنت مولاه فذا مولًى له

في كلِّ أمرٍ باطن أو ظاهر

يا ربِّ وال من الأنأم وليَّة

واخذل لخاذله الأذلِّ الصاغر

وخرج يوماً إلى بستان السلطان الملك الظاهر غياث / 200 ب/ الدين غازي بن يوسف بن أيوب بحلب - رحمة الله تعالى - وتنوَّق في إحسان عمارته، وغرس فيه أنوار الغروس. وكان بَّوابة رجلاً اسمه مالك، فمنعه من دخوله، فكتب على بابه:

[من السريع]

قل لغياث الدِّين يا مالكا

راح لأرواح الورى مالكاً

بنيت فردوساً فلم أنت قد

صيرت فيها خازناً مالكا

وقال في هذا البستان أيضاً: [من الكامل]

إن كنت ترغب في النَّعيـ .... ـم وفي معاقرة السُّرور

ص: 229

فعليك بالقصر الغبا

ثيَّ الأغر المستنير

قصر علا عن أن يحيـ

ـط بوصفه فكر الخبير

فاق الخورنق حسنه

وعلا علي حسن السَّدير

/120 أ/ فكأنَّه في الدَّوح في الـ

ـميدان في الرَّوض البهير

كسري لدي الغلمان في الإ .... يوان في بسط الحرير

وقال في قبة الورد في البستان المذكور، وهي قبة بين يديها سطران من شجر الجوز الطَّوال، وبين ذينك السطرين نهر تحفّ به روضتان ومن غربيها نهر:

[من السريع]

كقبَّة الورد الَّتي حسنها

تقصر عنه .......

كأنَّها والدَّوح من حولها

تميس في أعصانها الملد

مملَّك من فوق كرسيِّه

خفَّت به طائفة الجند

والنَّهر من غربيِّها سائحاً

كصارم جرِّد من غمد

وقال يمدح الإمام علي بن أبي طالب – صلوات الله عليه وسلامه: -

/201 ب/ حبُّ عليٍّ شرف

لمن به يلتحف

وبغضه النِّفاق والـ

ـكفر الَّذي يقترف

ميِّز محبيه فهم

إذا الأنأم انكشفوا

جواهر خالصة

ومن سواهم خزف

وقال أيضاً: [من الخفيف]

يا أبا جعفر تجاف قليلاً

كم تسامي بمنخر مبخوس

أنت من معشر كرام ولكن

أنت فيهم قوائم الطاووس

وله يصف فوارة: [من الكامل]

لله ليلتنا

والبركة الـ .... ـفيحاء والشطُّ

ص: 230

والماء فيها مرسلاً غدقاً

جعداً كأنَّ متونه الشمط

وكأنَّما الفوَّار فيها راقص

قد جلَّلته ذوائب شمط

وقوله فيها أيضاً: [من مجزوء الرمل]

وترى الفوَّار يحكي

في علوٍّ وانحدار

غادةً قامت تثنَّي

لك من تحت الإزار

[وقال في راجح الحلي الشاعر: [من مجزوء الخفيف]

قيل لي راجح هجا

ك فلم لا تجيبه

قلت من كلُّه عيو

ب بماذا أعيبه]

[917]

يحيي بن خالد بن محمد نصر بن صغير بن خالد بن داغر، أبو جعفر بن أبى البقاء بن القيسرانيِّ، الكاتب المنشئ.

من أهل حلب.

كانت ولادته بها في ذي القعدة سنة سبع وثمانين وخمسمائة.

من بيت مشهور بالرئاسة والجلالة والفضل والكتابة والأدب والشعر، فإن والده كان كاتباً؛ له الخطّ الرائق المليح يضرب بجودته المثل، واستوزره الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن زنكي بن آقسنقر سلطان الشام رضي الله عنه وارتفعت منزلته لديه، وتقدَّم في دولته.

وأبي جعفر من أعيان أهل حلب في الفضل وأماثلهم وصدورهم المقدَّمين، وأفاضلهم وصاحب ديوان الإنشاء، ورأس كتاب الرسائل، وكاتب السّر والمعتمد عليه

ص: 231

في دولة السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن محمد بن غازي بن يوسف – خلَّد الله ملكه - وقبله لأبيه الملك العزيز، وجدِّه الملك الظاهر / 202 ب/ - رحمهما الله تعالى -

وذكر لي أنَّه حفظ القران العزيز، وسمع شيئاً من الحديث على أبي حفص عمر بن محمد بن طبرزد البغدادي، وأخذ طرفاً من علم العربية على الشيخ أبي الحرم مكي بن ريان الماكسي النحوي حين ورد حلب، وقال شعراً سهلاً كتابياً، وترسل ترسلاً فاق به على كتاب زمانه، واستظهر كثيراً من الأشعار؛ وله يد في حلّ التراجع والغوص على معانيها وكشف مشكلاتها، والبديهة الحاضرة في إنشاء الرسائل. وربّما أنشأ الرسالة في المعنى المقترح عليه إرتجالاً من غير روية كأنه يحفظها من قبل وذلك لذكائه المفرط، وفطرته السليمة.

ثم إنَّه من المتمولين وذوي اليسار وأرباب النعم وعنده تواضع وحسن محاضرةٍ وفكاهة.

ومما أنشدني لنفسه من حفظة يهنئ السلطان الملك العزيز غياث الدين محمد بن غازي - رحمة الله تعالى -بالصوم: [من الكامل].

/203 أ/ إسعد بأيَّام الصَّيام وشهره

وأبشر بأنفس مغنم من أجره

يا مالكاً شرفت بنا أقدارنا

لما أستكانت بالخضوع لقدره

لازلت فيه حائزاً ما رمته

من صنع الطاف الإله وبره

تنمى لك الحسنات مثل هلاله

وترى محاق السَّيَّئات كبدره

ويزيد قدرك رفعة تسمو على الأ

قدار فينا مثل ليلة قدره

وختمته بسعادة توفي بشا

ئرها على البشرى بموسم فطره

وأنشدني لنفسه ما كتبة إلى بعض من أهدى إليه تفاحا، ثم أنقذ له بعد ذلك رماناً:[من الطويل]

أيا ماجداً فاق الورى كلَّهم مجداً

وأهدى إلى عافية أنفس ما يهدى

أراك توخَّاني ببرَّك عامداً

وتبعث لي ما يبعث الشُّكر والحمدا

منحت خدوداً ثم أرسلت بعدها

نهوداً فواها لو بعثت لها قدَّا

ص: 232

إذا كنت لا ابغي لرقِّي مالكاً

سواك ولا ألوك في طاعةٍ جهدا

وأنشدني لنفسه متغزلاً: [من السريع]

/203 ب/ يا قمراً يختال في حلَّة

وقيت من عيني بعين الله

سيف بألحاظك لم سلَّه

على دم العشَّاق من سلَّه

وورد خدَّيك علي فتنتي

أظنُّه دلُّك قد دلَّه

بعثت خطّاً منك مضمونة

يضرم من نار الهوى شعلة

تلثم لي الأرض وأنِّي إلى

لثم ثناياك لذو غلَّه

قبِّل فمي تحيي بها مهجتي

فالأرض ما تصنع بالقبله

فالشوق بي نحوك لو بعضه

حلَّ برضوى لم يطق حملة

ووصلة الوحشة بي لم تدع

بين جفوني والكرى وصلة

فهل مزار منك يدنو لنا

يا ليت شعري والمنى ضلَّه

واهاً ليوم فيه يقضى لنا اجـ

ـتماع شمل بك واهاً له

وأنشدني لنفسه، وكان الملك العزيز قد توجّه إلى قنسرين، فخرج أبو جعفر بعده قاصداً خدمته، وأمسي عليه المساء فبات بقريةٍ للصاحب كمال الدين/ 204 أ/ أبي القاسم عمر بن احمد بن هبة الله بن أبي جرادة الفقيه الحنفي، وتسعى القرية قذار، فكتب إليه منها:[من الوافر]

كمال الدِّين يا من طال فرعاً

وطاب أرومةً وزكا نجارا

ويا بحرً خضّماً لا يفيد الـ

ـعفاة بدرِّه إلاِّ كباراً

ويا مولى أرى إنفاق عمري

إذا فارقت خدمته خسارا

مسيري عن جنابك عاض أنسي الـ

ـذي أدناه قربك لي نفاراً

وغادر لي فؤاداً مستهاماً

وقلباً من فراقك مستطاراً

واحشاءً مقلقلة وعيناً

مؤرَّقة وأنفاساً حراراً

ولمَّا لم أطق للبين حملاً

وأضرم في حشاي الشوق ناراً

أتيت (قذار) استشفي ثراها

واستجدي سكوناً واصطبارا

وآخذ عنكم أثراً فيهدي

إلي قلبي هدوّاً أو قرارا

فزادتني بذكراكم غراماً

وظلت بها مساءً وابتكارا

ص: 233

(أمرُّ علي الديار ديار ليلي

أقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا)

/204 ب/ وأذري أدمعاً لو انبتتها

جنيت من القلوب بها ثمارا

ورحت أرى بنفسي من تنائي

مزاركم فتوراً وانكسارا

أسير هواكم وأودُّ أن لا

يفك الدَّهر لي منه إسارا

فلا أخلت معالمك اللَّيالي

ولا أقصت لك الأيَّان دارا

ولا زالت عراصك آهلات

تفيض ندًي وتزداد اخضرارا

وأنشدني لنفسه فيما يكتب على حلقة باب دار: [من الطويل]

علوت على باب علا الباس رُّبه

نوالاً وإحساناً فحسبي بذا فخرا

أنا العروة الوثقًى من الفقر للورى

فمن صافحتني كفُّه أمن الفقرا

وأنشدني لنفسه ما يكتب على مفتاح: [من الطويل]

إذا عدَّ أهل الفخر غرَّ مناقب

سما كل ذي طول بها من يطاوله

فخرت بأن صافحت راحة مالكً

مفاتيح أرزاق العباد أنامله

وأنشدني أيضاً: /205 أ/ لنفسه حين فتح الملك العزيز محمد بن غازي بن يوسف – رحمه الله تعالى – شيزر، وكان صاحبها يومئذ شهاب الدين أبو المحاسن يوسف بن مسعود، عاصياً عليه فلما ومل إليها لم يمكنه العصيان بها، ونزل وسلَّمها طائعاً. وصارت مضافة إلي مملكة الملك العزيز غياث الدين:[من البسيط]

يا مالكاً خافت الأملاك سطوته

وعمَّ إحسانه الدَّاني مع القاصي

لمَّا رأت شيزر رايات نصرك في

أرجائها ألقت العاصي إلي العاصي

والعاصي هذا المشار إليه اسم نهر يمرّ تحت قلعة شيزر.

وأنشدني، قال: كتب إليّ /205 ب/ من ينتمي إلى قول الشعر بهذه الأبيات:

[من البسيط]

ما كلُّ من قال مدحاً فيك يكتسب

وان أقلَّ فمود بعض ما يجب

ما فوق مديح المادحين له

إن لم أقل فيك قال الجود والحسب

مولاي ما البدر محتاج إلى مدح

كماله في المعالي شاهد عجب

فقت الكرام فأنت الغيث إذ بخلواً

واللَّيث إن جبنوا والسَّهل إذ صعبوا

ص: 234

لقُّبوك شهاب الدِّين فاختصروا

لو انصفوك لقالوا السبعة الشُّهب

سمعت عنك حديث الجود يسنده

ذوو الرَّجاء ولا مين ولا كذب

وعاقتي عنك غيث لم يزل كندى

يديك يهمي على الدُّنيا وينسكب

لولاه ما فاتني حجٌّ إليك ولا الـ

ـتزام ذيلك إن نابتني النُّوب

وقد بعثت أخي عمداً لتكرمه

فكن به محسناً دامت بك الرُّتب

قال: فكتبت إليه الجواب عنها بهذه الأبيات على الوزن والقافية: [من البسيط]

/206 أ/ يا فاضلاً قد سقانا من بلاغته

مدامةً فبنها من شربها طرب

ويا أخاً سمح الدَّهر البخيل به

والفضل مذ كان في أبنائه نسب

قد هاج نظمك لي شوقاً إليك غدت

بحر أنفاسه الأحشاء تلتهب

وشب فيَّ غراماً زاد ني كلفاً

وددت منه بأنِّي جارك الجنب

فلو عرفنا مكاناً أنت فيه لزر

ناه ولو سحبت أذيالها السُّحب

بل لو منحناك دنيانا وما ملكت

أيماننا لفعلنا بعض ما يجب

فقد بلغت من الإحسان منزلةً

نصيب من رام فيها شأوك النَّصب

وأملى علي من إنشائه هذه الرسالة، ثم وصلها شيء من شعره؛ وهي جواب أبيات كتبها إليه الصاحب الإمام كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله الخفي العقيلي - أدام الله أيامه -:

"يقبل اليد الشريفة المولوية القاضوية الإمامية العالمية المالكية الكمالية أعلاها الله ورفعها / 206 ب/ وأولاها بطسةً وأوسعها، ونظم فيها أشتات المكارم وجمعها

وينهي أولاً أشواقه التي هي في كل الأوقات متزيدة، وغرامه الذي قلبه منه في نار موصدة، ووحشته لذلك المحيَّا الذي محاسنه للقلوب مستبعدة، ورغبته إلي الله تعالي في أن يجعل أيام الاستسعاد بلقائه غير مستبعدة.

وثانياً ورود الكتاب الكريم علي يدي مملوك المولى عّز الدين، فأقبل المملوك عليه، وتناوله من يديه، ووضعه علي عينيه، وهزَّ طرباً عطفيه، ووقف من فحواه علي بديع المقال، ورأي السحر الحلال،

ص: 235

وعرف كيف تتفاوت قيم الرجال، واجتلى تلك العقيلة التي فتنت العقول، وفعلت بالألباب ما لا تفعله الشَّمول، وحكمت لقائلها بالبلاغة على كل من يقول شعراً، وبالتفصيل على كل من ينظم درّاً.

وجرأه الحسد علي التعرض للجواب، ولو ساعده التوفيق لكان إقراره بالعجز عن مجاراتها هو /207 أ/ عين الصواب، ثم أطمعه في التصيُّد من بحرها علمه بأن المولى غريم كريم لا يناقش في الحساب. ويتقن أنَّ الله - سبحانه - يؤتي الحكمة من يشاء من عباده، وأنَّة قد أجزل مها إرفاد المولى فلا عار على أوليائه في استرفاده:

[من الطويل]

ويعجبني فقري إليك ولم يكن

ليعجبني لولا محبتُّك الفقر

فظل المملوك منكراً، وقال مقصراً معتذراً - ثم اتّبع ذلك بهذه الأبيات -:

[من الخفيف]

يا نسيم الصَّبا أثرت غراماً

في فؤادي فزدتني أسقاماً

يا نسيم الصَّبا لقد شفَّ قلبي

منك وجد عصيت فيه الملاما

فتعمد مسرَّتي واعدلي

ذكر مولًى أهدى إلى السَّلاما

خصَّني منه منعماً بكتاب

حين وافي قبَّلته إعظاما

ففضضت الختام عنه كأنِّي

عن رحيق إذا فضضت الختاما

ولثمت النِّقس الذي ضمَّخت بالـ

ـمسك منه الأنامل الأقلاما

وترشفته فدار على الافـ

ـهام منه ما أطرب الأفهاما

/207 ب/ قساًما خميلة جادها الطَّـ

ـلُّ فشقَّت ازهارها الأكماما

لا ولا روضة بحزن بكي المز

ن عليها فاتبعته ابتساما

لا ولا الدُّر نظَّمته عقوداً

في نحور ايد تجيد النظاما

عند ذي اللُّب منه أحسن مرأى

حين يبدو له وأسنى مراما

رقمته كفُّ الكمال فحاز الـ

ـحسن في طِّيه كمالاً تماما

ص: 236

تلك كفٌّ ما جارت الغيث في حلـ

ـبة جود إلَاّ وجاءت أماما

يا كمال الدِّين الذي عصم اللّـ

ـه به المسلمين والإسلاما

يا أبا القاسم الِّذي قسم الإ

نعام فينا وأجزل الأقساما

يا سليل العديم كم لك عندي

من يدٍ آمنتني الإعداما

انا والله في ودادك مغرًى

مغرم ما أفيق منه غراما

لو تطلعت في ضميري وجدت الـ

ـحبَّ قد مازج الحشا والعظاما

غمرتني نعماك حتَّى لقد

غادرتني استكفف الانعاما

وصفت لي أخلاقك الغر حتَّى

ملت سكرا وعفت [حتى] المداما

وحلت لي منك الشَّمائل حت

رحت منها متيَّماُ مستهاما

/208 أ/ إن تصف لي من التألمَّ والوحشة

والشوق ما حماك المناما

فلقد هاج لي اشتياقك نيرا

ن اشتياق اورت بقلبي ضراما

وعزيز علي أني في غيـ

ـر تدانيك أنفق الأيَّاما

ولو استطعت جئتكم ات علي الأنعام

ركضا بل فوق ظهر النعامي

فأبق ما شئت في اعتلاء مداه

لا يسامي وقدره لن يساما

تسترق الأحرار جوداً وتحتـ

ـلُّ من المجد غارباً وسناماً

وتمتلَّي مسرَّةً بسليليـ

ـك ونجمي افقيك دمت وداما

لترى المجد ماجدا وأخاه الـ

ـنجم بدراً ينوِّر الإظلاما

فالإمارات منهما شاهدات

لهما ان سيعلوان الأناما

وهما الأزكيان أصلاً وفرعاً

وهما الأعدمان لؤما وذاما

وهما سرُّ أسرةٍ يصلون اللَّـ

ـيل بالصُّبح سجَّداً وقياما

بوجوه مثل المصابيح نوراً

وأكفٍّ بها نباري الغماما

وغنوا دهرهم شعارهم التَّقـ

ـوي وماتوا ما استحقبوا آثانا

فتذَّكر فراستي وارع لي حـ

ـيّاً وميتاً بالصِّدق فيهال ذماما

ص: 237

/208 ب/ اغتفر لي إطالة عذرها أنَّـ

ـي بكراك ما أملُّ الكلاما

وإذا أبت فالقني لترى منِّـ

ـي حساما قد قلدوه حساما

وأنشدني لنفسه، وكان قد عزم على الخروج إلى قريته المعروفة بالتيارة:

[من مجزوء الكامل]

عرجِّ بنا نحو التّياره

نقضي بها حقَّ الزِّياره

ونهزُّ أغصان السُّرو

ربها ونستجلي ثماره

ونشنُّ فيها للخلا

عه غارةً في إثر غاره

فقلوبنا شوقاً إلي

تلك المعالم مستطاره

قد حلَّ فيها الحسن فهـ

ـي لسيل واديه قراره

ومتي حللت بدارها

حللت إذن بداره

تلهيك أقمار تري

لوجهها فيها استناره

ويشوق طرفك منظر

فاقت محاسنه العباره

وتسوف ما ينسيك طيـ

ـب شميم نجد والعراره

/209 أ/ وهناك ورد العيش عذ

ب لا تلم به مراره

والجوُّ اركن والغما

م علي الرُّبي مرخ إزاره

والرَّوض أوحي والزما

ن علي معاطفه نضاره

والطير في أشجارها

يبدي لمسمعك اشتجاره

فاعنم بها طب الحيا

ة فإنما هي مستعارة

وادر بها راحا تريـ

ـح من الهموم المستثاره

صفراء تحسبها علي

كفَّ المدير لها شراره

واجسر علي اللَّذات فالـ

ـفطن اللَّبيب أخو الجساره

فالدَّهر يعدل تارة

في أهله ويجور تاره

وأنشدني لنفسه يستدعي صديقاً له ينعت بالعفيف أبي طالب بن صفر:

[من الكامل]

قل للعفيف أخي النَّدي

ربِّ القوافي والمدائح

يا ماجداً قد أفحمت

أوصافه منا القرائح

ص: 238

/209 ب/ يا من لسان الحمد في

تيِّار بحر نداه سابخ

يا من يخفُّ لنقصه

عن نظمه الحلِّيُّ راجح

يا ذا الَّذي مازال طر

في بالوداد إليه طامح

وعناق قلبي نحوه

أبداً علي الأيَّام جامح

مولاي لقَّيت الأيا

من من زمانك والسوانح

وحماك سعدك أن يلـ

ـمَّ بك الأشائم والبوارح

عندي وحقِّك صحن ششـ

ـبرك بصافي الدُّهن طافح

وعليه من سنبوشج

تاج تكلِّله الشرائح

حسب أقتراحك طعمه

ومشمُّه كالمسك فائح

قد احكم الطاهي صنا

عنه فأفحم كل مادح

وعصابة نبل إذا

عاينتهم غر جحاجح

تري منهم عيناك فر

سان الصحائف والصفائح

يترقبون إذا عزمـ

ـت طلوع بدرٍ منك لائح

فهلمَّ تدل لهم من الأ

نس المعجَّل كلَّ نازح

/210 أ/ وأعلم بأنَّ لهم إذا

لم تأت السنة قوادح

وأنشدني لنفسه ما كتبه إلي العفيف أيضاً: [من المجتث]

قل للعفيف أبي طا

لب حليف العلاء

يا سيَّد الأدباء

وواحد الفضلاء

يا ذا المحلَّ الَّذي جا

ز قنَّة الجوزاء

غمرتني بأياد

جلَّت عن الإحصاء

لولاكم لم أر خـ

ـلاًّ صحيح عقد الإخاء

ملكت طرفي وسمعي

سلبت لبَّي ورائي

بكاعب عذارء

كالكواعب العذراء

جاءت إلي تهادي

كالغادة الحسناء

ص: 239

لها سنيً يخجل البد

ر في دجي الظَّلماء

تصبي السَّميع وتلهمي الرَّ

أي لها والرَّائي

حلَّت بقلبي محل الشَّ

ـفا علي الإشقاء

/210 ب/ وأشبهت بين جفنـ

ـيَّ لذَّة الإعفاء

وأرشفتني بروداً

عذباً علي الإطماء

فرحت أسحب منها

ملابس السَّراء

قرير عين وقلب

فسيح خطو الرَّجاء

بقيت لي يا أباطاً

لب سعيد البقاء

فصرت منك وادي

علي كريم الوفاء

حلو الشَّمائل عذب الأ

خلاق مرَّ الإباء

فأنت كهف اعتمادي

وأنت كنز اقتنانئي

وأنت سيفي اسطو

به علي أعدائي

ومن يجازيك نظماً

من سائر الشُّعراء

كمن يروم بجهل

منه منال السماء

ورمت نظم جواب

فلم أطق من عبائي

وقد بعثت عزاناً

تمشي علي اسحياء

في خفية واستتار

من أعين الرُّقباء

/211 أ/ تكلَّلف الخطو من خو

فهاك علي إعياء

خرقاء كفٍّ ولين الصَّـ

ـناع من خرقاء

فأولها منك صفحاً

يا سيِّد الكرماء

ولا تقل لي قدك أتـ

ـئب من الغلواء

وأنشدني لنفسه ما كتبه إليه أيضاً جواب شعر ورد عليه منه: [من الخفيف]

عشت من طارق الَّردي في أمان

ونبت عنك أسهم الحدثان

ووقانا إلاه فيك فأنت الرُّ

وح الرُّوح والمني والأماني

وتولَاّك بالسَّلامة والصَّحَّـ

ـة حتَّي تطول عمر الزَّمان

ساحباً فضل بردة العيش تستنـ

ـفد عمر القران والأقران

ص: 240

رافلاً في ملابس الفخر عالي الذَّ

كر والقذر أهل الأوطان

آمن الظَّهر والمفاصل والرِّجـ

ـليس والرُّكبتين من ضربان

تصرع الأسد قوةًّ وتفوت الـ

ـضُّمير السَّابحات في الأرسان

/211 ب/ يا عفيف الدَّين الَّذي حلَّ بالو

دمن القلب في أعز مكان

وأديبا أطاعه الشَّعر حتَّى

زاد فيه حسنا على حسان

وحوى العلم والفصاحة حتَّى

سحبا ذيله على سحبان

علم الله أنَّ شوقي إلى وجـ

ـهك من دونه لظى النَّيران

وتمادى أيَّام بعدك في قر

بك شيء ما كان في حسباني

واصطباري يشح عنك به قلـ

ـبي وعيني تجود بالهملان

وسروري بذي اليتيمة قد أعـ

ـجر وصفي فكلَّ عنه لساني

أسفرت حين أقبلت فاجتلى طر

في وسمعي منها عروس البيان

وترشفتها فبتُّ كأنَّي

رحت منها معاقراً للدَّنان

وتصفَّحتها فخيِّل لي أنِّـ

ـي منها نزيل روض الجنان

ثم كرَّرتها ورددَّتها حتَّـ

ـي اشتفى خاطري وقرَّ جناني

قسما ما سوالف الغيد زانت

ـها عقود الجمان والعقيان

وثغور الرِّياض ضاحكةً غـ

ـبَّ بكاء السماء في نيسان

زارها وافد الصَّبا فتبارت

فيه فرسان ضمَّر الضَّيمران

/212 أ/ عند أهل التَّمييز في الحسن إلَاّ

دون ألفاظها الحسان المعاني

لا تسمني الجواب عنها فإقرا

ري بعجزي إليك مدُّ بناني

يا أخي يا عفيف إنَّ اعترافي

لك في الشَّعر ظاهر البرهان

لا تقس خاطري بخاطرك الخطَّ

ـار أين الثماد والرَّافدان

أنت روح الأخوان في خفَّة الرُّو

ح فرفَّه خواطر الإخوان

واعفني من جواب شعرك إنَّ الشَّـ

ـعر آباه مثل ما ياباني

وابق فينة ودون قدرك أهل الشَّـ

ـعر حتَّي حبيب وابناهاني

ص: 241

وكتب إليه أيضاً عن شعر له إليه وأنشدنيه: [من الخفيف]

يا عفيف الدَّين الَّذي جلَّ في نظ

ـم المعاني ونثرها عن مثال

يا صديقاً ما حاد مذ كان عن حسـ

ـن فعال أو عن صواب مقال

قد لعمري أصفيتني الودَّ وأستنـ

شطت بالنُّصح خاطري من عقال

وتماَّكت رقَّ حمدي ومن شأ

ن المعالى أقتناء حمد الموالي

بسلاف أدار فكرك في سمـ

ـعي منها ما دبَّ في أوصالي

/212 ب/ فعلت بي وأنة أدرى بما تفـ

ـعله بالعقول بنت الدَّوالي

وتوهَّمتها أتتني من الجـ

ـنَّة لمَّا طافت بسكر حلال

وتلقيت كلَّ ما أعربت عن

ـه بحسن القبول والإقبال

وتخلَّصت حين واجهني رأ

يك بالنُّصح من خبيث السَّعالي

وتعوَّضت عنه عوَّضك اللَّـ

ـه بخير الأعواض والأبدال

لا سقى الله صوبه لا ولا

جاد ثري ضمَّ شبهه ببلال

ثمَّ من بعد ذاك أطرقتني با

ب الأماني بزخرف الأقوال

يا عفيف الدَّين أعفني من أمور

أنا من همَّها خليُّ البال

إنَّ حظَّي لم احظ منه بإسعاً

دوفألي بوعده ما وفى لي

لي دين على الزَّمان وقدا

نًسني منه بالمطال المطال

وبقلبي منه وما بحت بالشكـ

ـوي جراح بطيئة الإندمال

لا اروم القصاص منه ومن يبـ

ـغي قصاصاً من جائرٍ مغتال

ورجائي في السِّلم منه فإن سا

لمني فهو منتهى أمالي

يا أخي يا عفيف حسبي بذكر أسـ

ـمك راحا وراحة من لاكلال

/213 أ/ عدَّ عن هذه المني إنَّما العيـ

ـش منام ونحن طيف خيال

لآ عدمنا منك أهتماماً به جئـ

ـت المعالي من الطَّريق العالي

وكتب إليه أيضاً جواب أبيات: [من السريع]

مالدُّرُّ زانته يدا ناظم

والرَّوض غبَّ العارض السَّاكب

ص: 242

[والوشي من كفَّ صناع ولا الـ

ـمك علي سالفتي كاعب]

أبهي لعين اليوم من روضة

زخرفها فكر ابي طالب

الألمعى الأريحي الَّذي

سدَّت سجاياه فم العائب

متى تعرَّفنا بمعروفه

وفضلة الرَّاهن والرَّاتب

أودعها من درَّ ألفاظه

لألئاً لم تدن من ثاقب

يضيء فيها للمعاني سنيً

يعشي ضياء الكوكب الثاقب

ووصف أشواق غدا قلبه

من برحها فى نصب ناصب

فاعتلقت طرفي بما أبدعت

فيها بنان النَّاظم الكاتب

ورحت مسروراً بها باسطاً

إلى مجانيها يد الراغب

إيه عفيف الدَّين يا من به

عزّ جنابى وا حتمى جانبى

/213 ب/ يا ذا النُّهى والفضل والمنطق الـ

ـفصل الَّذي أعيا علي الخاطب

كم لك عندي من يد شكرها

يعجز حصر الحافظ الحاسب

أقسم بالله يمينً امرئ

لا أفك الفول ولا كاذب

وأنَّك من قلبي في منزلٍ

ناءٍ على المصحوب والصَّاحب

وأنَّك اليوم لأشهى إلى

نفسي من عود الصَّبا الذَّاهب

وأنَّ مراك له في الحشا

لذَّة برد الماء للشارب

ولو اطعت الشوق ما كنت عن

جنابك الممرع بالغائب

بقيت ما شئت البقا آمناً

فى الدَّهر من حادثة اللَاّزب

تهدى لى الشِّعر الَّذى نظمه

يرخص سعر الذَّهب الذَّائب

وتجتني شكري الَّذي نثره

على معاليك من الواجب

وكتب إليه أيضاً جواب أبيات: [من السريع]

قل لعفيف الدَّين ذى المجد

ملكت رقَّ الشُّكر والحمد

ببنت فكر لك أرسلتها

سافرة في طالع السَّعد

/214 أ/ ألفاظهاً احلي من الشَّهد

ونشرها اذكي من الندِّ

ص: 243

جلوتها منك بخطٍّ غدا

فيه شفاء الأعين الرمد

فقمت لمَّا أقبلت قائلاً

لا عدم المهديُّ والمهدي

أمهرتها ودِّي وافرشتها

صدري بل أوطأتها خدَّي

أعدت علي الهم ويا طالما

قد كنت استعدي ولا معدي

وسَّرت القلب وقد كان من

قبل نجيَّ الهمِّ والوجد

تفديك نفسي يا أبا طالب

من أوحد من عصره فرد

أخلاقك السَّهلة معسولةً

في هزلكً المهلي وفي الجدَّ

وذكرك الموصول بالحمد

في حالتي قربك والبعد

دان لك الشَّعر فأزريت بالـ

ـنظم علي الحلَّي والكندي

لا غرو أن أفحمتني مثل ما

أفحمت من قبلي ومن بعدي

كيف أجاريك إلي غايةٍ

فضلت لا يحصر بالعدَّ

وذلك الشَّخص الثَّقيل الَّذي

يصحَّف اللَّفظ علي عمد

لم يكن التَّصحيف من شأنه

وإنَّما الفخر له معدي

/214 ب/ حرَّره بالهجر فقد صار من

تصحيفه في غاية البرد

وأبق علي الدَّهر تنال المني

في عيشك المقتبل الرَّغد

وله أيضاً: [من الخفيف]

يا عقيق الدَّين الَّذي نلت بالو

دَّله في الزمان جاهاً ورفعه

يا صديقاً له الوفاء إذا ما

خاننا الأصدقاء دين وشرعه

حبَّذا أنت من فتي سهَّل الدَّهـ

ـر لنا خلقه وكرم طبعه

وحبانا منه بذي أدب زا

ن به أصله الكريم وفرعه

وأمتنان في كلِّ حالاته يو

سع في بذله ويبذل وسعه

قد علًمنا حقيقةً أنَّ مطلو

بك تقليدنا أياديك خدعه

وأمرنا مسكا تجيد لنا طبـ

ـخ الَّذي اخترته وتحكم صنعه

وتهيَّأ فأنقل خطاك إلي عبـ

ـدك إذ تنقضي الصَّلاة بسرعة

لأحيَّي منك المحيَّا الَّذي أجـ

ـلو علي العين منه أيمن طلعه

يا أبا طالبٍ بقيت علي الأيَّـ

ـام في عزَّةٍ عليها ومنعه

ص: 244

كيف لي أقطع الزمان وأيَّا

مي بمرآك كلها يوم جمعه

/215 أ/ والعفيف هذا؛ هو أبو طالب عقيل بن الحسن بن عقيل بن صقر من أهل حلب، ومن بيت مشهور بها. شيخ حسن طويل أسمر اللون، ممتع الحديث، فكه المجلس جيد ني نفسه؛ عده مروءة وفية تودد وحسن عشرة لمعارفه وأصدقائه.

وكان يخدم متصرفاً للأمراء، ثم لزم بيته وواظب على الصلوات الخمس ويترامى إلى نظم القريض، ويتعاطي فيه. يفعل ذلك مزاحاً وانبساطاً، وله ذوق قريب ني قوله وتركيب أوزانه، ويقول شعراً ملحوناً، نازل الطبقة، وكانت بيه وبين أبي جعفر بن القيسراني الكاتب المنشئ صحبة قديمة، وصداقة وكيدة.

وكان أبو طالب يحبّ أن يكاتب أبا جعفر بالأشعار ويجاوبه عنها ويداعبه ويماجنه بالأبيات النادرة؛ ولولا سقوط شعر أبي طالب واللحن الذي يقع ني أثنائه، لأوردت منه شيئاً في كتابي هذا. وكنت أفردت له ترجمةً بذاتها لما كان بيني وبيه من أكيد الصحبة والاجتماع؛ لكنَّه من الهذيان / 215 ب/ الذي لا يعتدُّ به. ومن أصلح ماله من النظم توله من أبيات كثيرة، كتبها إلى بعض أصدقائه:[من مجزوء الخفيف]

نقذ الورق والورق والورق

ففؤادي قد احترق

لا تدعني أصيح مثـ

ـل السمامين طق طلق

وكانت وفاة العفيف أبي طالب ليلة الجمعة خامس عشر ذي القعدة سنة خمسين وستمائة، ودفن بمقبرة الجبيل شمالي القلعة بكرة يوم الجمعة بتربة مخصومة بهم - رحمة الله تعالي - وسألته عن ولادته، فقال: ولدت في سنة خمس وسبعين وخمسمائة بحلب.

ثم نرجع إلى ذكر أبي جعفر بن القيسراني. كتب المخلص عبد الله بن محمد بن عبد الرحيم التميمي إلى أبي جعفر عند عوده من دمشق، واتفق وصوله إلى حلب قبل عيد الأضحى بيومين وذلك سنة تسع وأربعين وستمائة.

/216 أ/ دم يا أبا جعفر مالاً لذي أمل

يرجو نداك وعش للفضل والجود

ما عدَّ غيرك إلا واغتدت غرراً

أفعالك البيض في أفعاله السود

اناي ارتحالك عنَّا كلَّ صالحه

نادى إليها وأقصى كلَّ مقصود

ص: 245

لا ردَّ دونك باب الخير فاتحه

فباب فضلك عنَّا غير مردود

فأجابه أبو جعفر بهذه الأبيات 0 وأنشدنيها: [من البسيط]

أمخلص الدَّين قد أوليتني مننا

ما شكر أيسرها عندي بمحمود

وقف منك على نظمٍ أدار على

سمعي وفهمى ولبَّي بنت عنقود

لقد ملكت به ودِّي الصَّريح كما

أوردتني منه بحراً غير مورود

منحتني منه جوداً ما برحت إلى

نفائس من حلاه ثانياً جيدي

والله يعلم أشواقي إليك وما

جنت يد البعد من همِّى وتسهيدي

وما نثرت بذاك القطر من دررٍ

عليك في كلَّ نادٍ منه مشهود

ويوم القي محيَّاك الجميل فذا

ك اليوم عيدي من حسن به عيدي

بقيت للفضل تبديه فأنت له

كالماء للعود بل كالنَّار للعود

/216 ب/ ومن نثره ما كتبة إلى الصاحب الإمام كمال الدين أبي القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة الفقيه الحنفي المدَّرس العقيلي - أسعده الله تعالى - من حمص عند توجهه إلى خدمة السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن محمد بن غازى - خلَّد الله ملكه – بدمشق، يعرّفه بوصوله:

"أدام الله نعمة المجلس السامي كمال الدين؛ ولا زالت محامده مفروضة، ومننه على الأعناق مفضوضة، والمسار على سمعة وقلبه الشريف معروضة، ولا برحت يده بالإحسان مبسوطة، وأيدي الحوادث عنه مقبوضة.

الخادم ينهي أنَّه سطر خدمته هذه من حمص وقد هبَّ عليه من /217 أ/ حمص، وقدم عليه من نسيم الاقتراب من الخدمة الشريفة السلطانية ما أحيا روحه، وبعث إليه مسيحة، وهاج أشواقه وتباريحه، واستشعرت نفسه سعادة المثول بأبوابها، واستنار جبينه لما سيباشره من ترابها، وتيقن أعتاب دهره عند تقبيله عتباتها، ونجاح سعيه بوقوفه في مواقف عبيدها وأهل موالاتها، والله تعالى يقرب له ميقات الاستسعاد بمرأى عظمتها التي تخشع لها البصار، وتخضع لها

ص: 246

الأقدار، ويستسرّ لأنوارها الأقمار، وتتوجه الوجوه والنيات إلى كعبة كرمها، ويحلّ الرجاء بأرجاء حرمها، وتترفع الأقدار باستنزال ديم فضلها ونعمها ليسترجع الخادم بصره وبصيرته منها بنطره، ويشم لما حلَّ حالة من سماء إحسانها ديمة ثَّرة، ويرد بحر كرمها الذي يقذف بدر الأنعام من معدنها، وتأخذها بقوة، ويأمر قومة أن يأخذوا بأحسنها، ويشافه /217 ب/ بالدعاء والإخماد والإبتهال إلى الله تعالى، في أن يمدّ ظلّ سلطانها على العباد والبلاد، وأن يمتع الخليقة منه بتلك الخليقة، التي هي ألذّ في الأجفان وأندى على الأكباد، ويفوز بخدمة المجلس التي هي مادة أنسه، وراحة نفسه، ومشاهدة محيّاه الذي له فيه مغًنى عن قمره وشمسة، فإنَّ مسألة الشوق إليه قد أخذت بحقّها، ومسافة الصبر قد الجأته إلى أضيق طرقها. وكيف به لو أعارته الريح إليه جناحاً؟ أو لو زويت له الأرض فغدا على خدمته غدّواً ورواحاً؟ وسطرها ونفسه تعد، ويده من حجلة التأخر ترتعد. وما يدري بماذا يعتذر؟ ولا ماذا ينظر وينتظر؟ غير أنَّ نفسه واثقة بأنَّ سلطاننا - خلّد الله ملكه - شريف الطبع، كريم الصنع. لا يناقش في هذا الحساب، ولا ينافس إلَاّ في الثواب، وأنَّة إلى عادته في الأحسان أجنح، وأنَّ سجاياه الشريفة أندى وأسجح، ملكَّه الله الليالي خولاً، والأيام /218 أ/ عبيداً، وجدّد له في كل يوم جديد ملكًا جديداً، وأغنى الدنيا به عمَّن سواه كما أغنى جار البحر عن [أن] يتيمم صعيداً، وحرس نعمة المولى وأبقاها، وضاعف له أسباب السعادة وأولاها، وعطف على مكارم أخلاقه أعنَّة الثناء وثناها - إن شاء الله تعالى –".

ومما كتبة إلى السلطان الملك الناصر صلاح الدين عزَّ نصره - بعد عوده من مصر، وقد بلغة عتب منه بانقطاع كتبة عنه:

"أعز الله سلطان المقرّ الأشاف الأعظم السلطاني، وزاده اقتداراً وأعقبه ظفراً وانتصاراً، وأوسع الدنيا بملكه افتخاراً، وحاطه بمعقباته

ص: 247

الحافظات ليلاً ونهاراً، وجعل ملائكة نصره أعواناً وأنصاراً؛ ولا زالت الأقدار لأوامره معليةً، ولبعيد آماله مدنية، ولعقائل الممالك إليه مهدية /218 ب/ والى طاعته في كل مراد ومرام متهديّةً.

يقبل الأرض خدمةً يعتقدها فرضاً، ويلثم العتبات الشريفة التي لا يرضى لها السماء أرضاَ، وينهي مواصلته أيام مولانا بأدعيته التي يرضى وظائفها، وينشر صحفائها. واستفتاحه أبواب القبول بدوامه على ذلك واستمراره، ومحافظته عليه في أناء ليلة وأوقت نهاره. والله تعالى يسمع ويجيب إنَّه سميع مجيب، ويقسم بالله العظيم، وبحق نعمة مولانا وحقوقها عظيمة، وكفارتها معلومة أنَّ المملوك لم يؤخر مطالعاته عن الأبواب العالية إلَاّ استصغاراً لنفسه عن هذا المقام، وإجلالاً لعظمة مولانا التي تتضاءل عندها همم الملوك العظام، وتهيبا أن يخاطب مقرّ الشرف والعظمة بما يستمدُّه من خاطر بهمّ بعده عن الخدمة الشريفة مكدود، وقلب مُحلأ عن موارد السعاداتً مطرود، وجنان تبهره أنوار تلك العظمة /219 أ/ التي إذا حاول من قلمه سجوداً، بآيات حمدها قال جبينه أنا أحقّ منه بالسجود.

وعنده والله من الأسف لبعده عن الخدمة الشريفة ما لا تتخيلله الأوهام، ومن الأشواق إلى تعفير وجهة في مواطئ أقدام مولانا ما لا يطيق حصره (ولو أنما في الأرض من شجرةٍ أقلام)

ولئن أخَّره سوء حظّه، فإنه يتذمَّم إلى حلم مولاناً وعفوه بأنَّ له في ولاء الدولة القاهرة القدم المتقدمة، وعقيدة الإخلاص المستحكمة، وأنَّه مملوكها الذي ما نشأ إلَاّ في خدمة أبوابها، ولا شام غيث إحسان إلَاّ من سحابها، ولا فغر إلَاّ بالدُّعاء لأيامها فمًا، ولا أجرى في غير طاعتها قلماً ولا قدماً، ولا عرف غير سلطان الله تعالى وسلطانها

ص: 248

منعماً. وآماله فيها تتأكد على الدوام، وتزداد اشتداداً على تراخي الأيام، والله سبحانه يبلغه من خدمة مولانا ما يبلغه رضاه، ويفوز منه بسعادتي دنياه وأخراه. ويخلد ملك مولانا، ويضر الإسلام /219 ب/ بنصره، ويجعل أمره ني عباده وبلاده من أمره، ويسعد ممالك الآفاق بما يطلعه عليها من أنوار بدره وأضواء فجره، يغني آمال الأولياء بما يفذفه لقريبها من درّ بحره، ويبعه إلى بعيدها من متراكم قطره، والأمر أعلى - إن شاء الله تعالى –".

ومما كتبه إلى السطان الملك الأشرف شاه أرمن مظفَّر الدين أبي الفتح موسى بن أبي بكر بن أيوب - رحمة الله تعالى - وكان قد أبلَّ من مرض ناله - على لسان السطان الملك العزيز غياث الدين أبي المظفر غازي بن يوسف بن أيوب - رحمة انه تعالى:

"يقبل الأرض بالمقَّر الأشرف العالي المولويّ السُّطاني الملكي الأشرفي الشاهي - أعز الله سلطانه - ولا زالت 220 أ/ الأيام مستبشرةً بعافيته، والآمال صحيحةً بصحته، الإسلام مستعلياً بسلامته، والأقدار متقاصرةً عن نيل قدرته، والدنيا مقبلة أبداً بإقبال دولته، والتوفيق موافقاً لمماليك وأهل مودَّته، والحياة معرضةً، عن أعدائه وأضداده وحسدته. خدمةً يجدّدها علي اختلاف أحواله وطاعةً يتسربل منها ملابس إقباله، وينهي مواصلته أيام مولانا بالدعاء واختياله ني حلل السَّراء، واختصاصه بعظم الهناء، لما منَّ الله تعالى علي الإعلام والمسلمين والدنيا والدين من عافية مولانا التي أشرقت الآفاق بأنوارها، وسلامته التي عمَّت القلوب بمسارها، وصخته التي صحت بها زواجر الإقبال، واعتدال مزاجه الشرف الذي قضي للزمان وأهله بالاعتدال. ووقاية الله - تعالي - ذلك الجسم الذي هو من لطفه مجسم وإشراق شمس تلك العزَّة أضاء بها شقَّ الأمل الذي /220 ب/ كان أظلم فالحمد لله على هذه النعمة التي لا يدانيها الشكر، ولا يقوم بحقّها الوصف والنشر، وهو المحمود على لطفه

ص: 249

بالمملوك حيث لم يبلغه خبر التياث مزاج مولانا إلا مقترنا بخبر عافيته، وكمال سلامته؟ ولولا ذلك لتفرقت أفلاذ كبده، وبرز قلبه إشفاقًا من جلده وجلده.

وهو من كل الكرم أكرم، والله تعالى يصرف عن مولانا كل مكروه، وينّور بعافيته القلوب والوجوه، ويضفي على جسمه شعار الصحة، ويخصه بالعمر الجديد المديد الفسحة، ويهدي إلى خاطره الشريف ما يهديه إلى خواطر أوليائه وممالكيه من الفرحة، ويبلغ المملوك عنه أطيب الأنباء، ويجعل الناس كلهم فداءً له من الأولياء والأعداء. والمملوك يسأل تشريفه بأوامر مولانا ونواهيه، والله تعالى يوزعه شكر أياديه، ويوفقه لحيازة مراضيه - إن شاء الله تعالى –".

[918]

يحيي بن سعيد بم المبارك بن عليّ بن عبد الله بن سعيد بن محمد بن نصر بن عاصم بن عباّد بن عصام بن الفضل بن ظفر بن غلَاّب بن حمد بن شاكر بن عياض بن حصن بن رجاء بن أبي بن شبل بن أبي اليسر كعب الأنصاري – صاحب رسول الله صلي الله عليه وسلن – بن عمرو بن المنهال بن عديِّ بن طريف بن عبيد بن شرَّاد بن زيد بن حامد بن لبيد بن الأشجع بن الحارث بن ربيعة بن ضبَّة بن جندب بن مرثد بن جشم بن ثعلبه بن عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث بن مالك بن زبد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان الأزدي.

ص: 250

نقل هذا السب من خط تلميذ أبية، أبي الدُّر ياقوت بن عبد الله الكاتب الموصليّ - رحمة الله تعالى -

أبو زكريا بن أبي محمد النحويُّ، المعروف والده بابن الدَّهَّان.

كانت ولادة يحيى قبل موت أبية بثمانية أيام. وكان موت أبية /221 ب/ يوم الأحد غرَّة شوال من سنة تسع وستين وخمسمائة بالموصل.

وكانت وفاة يحيى هذا - بها أيضاً – في سنة ست عشرة وستمائة، ودفن على أبيه بمقبرة المعافى بن عمران الزاهد – رضي الله عنه – ونشأ وأحبَّ الاشتغال بالعلم والأدب، ولم يزل راغباَ في تحصيله، مائلاً إليه بكلَّيته

وصحب الشيخ أبا المحرم مكيّ بن رياّن الماكسي النحوي تلميذ والده، ولازمة إلى أن توفي ودرس عليه أدباً كثيراً، واستفاد منه علماً وافراً؛ نحواً وعربية وعروضاً ولغةً وأشعاراً قديمة حتى تميَّز وبرع في ذلك على أقرانه. وكان يرجع إلى جودة فهم وذكاء وفطنة، ونسخ بحطّه كتباً كثيرة أدبية.

وكان فقيراً مملقاً متعذراً عليه القوت، واتصل بالأتابك عزّ الدين أبي الفتح مسعود بن أرسلان شاه بن سعود بن مودود - رحمة الله تعالي - صاحب الموصل، وولاّء التقدمّ في الرباط، وصار شيخ الشيوخ به، وحظي لديه، واكتسب منه رزقاً صالحاً، وولاّه بدر الدير أبو الفضائل لؤلؤ بن عبد الله خازناً /222 أ/ لخزانة كتب المدرسة التي أنشأها على دجلة، وألَّف عدة مجاميع باسم الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاء تحتوي على أشعار رقيقة غزليّة. وكان الناس يتجنبونه لما يرون في من المتكُّبر والتيه وشراسة الخلق والفظاظة. وكان مع ذلًك شاعراً سهل الشعر، صاحب قصائد ومقطعات.

أنشدني الصاحب الوزير أبو البركات المستوفي الإربليَّ بها رضي الله عنه قال: أنشدني أبو زكريا يحيى بن سعيد بن المبارك النحوي ابن الدّهان لنفسه:

[من الطويل]

وقائلة أصبحت في النَّاس شاعراً

وقد كان يخلو من أماثلك العصر

ص: 251

فقلت لها: يا ويب غيرك قرَّضي

ملامك عنَّي واهدي أنَّى لك العذر

فإنَّي وان الفيت حني هابطا

لذو همَّة من دون قمتها النسر

وما جلُّ فخري بالقريض ونظمه

ولست أمراً أسرى فضائله الشَّعر

ولكنَّني شرفت نثري بمدحه

فأحببت أن يسمو به النَّظم والنَّثر

ومن كان بكرا للفضائل واجداً

لها فخليق أن تزف له البكر

/222 ب/ وأنشدني أبو محمد عبد الله بن عمر بن سعدي البوازيجي الأنصاري بحلب - رحمة الله تعالى - قال: أنشدني أبو زكريا يحيى بن معيد بن الدهَّان النحوي بالموصل لنفسه ما كتبة إلى الأمير بدر الدين أبي الفضائل لؤلؤ بن عبد الله - صاحب الموصل - على ظهر كتاب أهداه له يتقاضى رسماً كان له عليه في النيروز:

[من المنسرح]

مولاي يا سيَّد الملوك ويا

أعظم من يلتجيه ملهوف

قد حان رسمي فانعم عليَّ به

فأنت بين الأنام موصوف

ونقلت من خطه شعره من صدر كتاب ألغه وسمّاه "نتائج القرائح" خدم به الملك القاهر عّز الدين أبا الفتح /233 أ/ مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود صاحب الموصل - رحمة الله تعالى -: [من السريع]

هل لغرامي فيك من آخر

أم هل على صدَّك من ناصر

يا رَّبة الخدر الَّتي أصبحت

فاتكة بالأسد الخادر

رقَّي لمن أصبح في وجده

بحبكّم كالمثل السَّائر

ولا تظُّني بي سلواً فما

يخطر غيرك في خاطر

واهاً لقلبي كيف ملَّكته

غزيرةً ساحرة النَّاظر

خلية عن فرط وجدي بها

راقدةً عن جفني السَّاهر

تبدي إذا ما طلعت طلعهً

غراء مثل القمر الباهر

فإن تثنت فلها قامة

تقد قدَّ الغصن الناضر

وافرة الحسن فواحسرتا

واحربا من حسنها الوافر

قاسيةً لم ترث لي من جوى

قلبي ولا من دمعي الهامر

كأنمَّا ما علمت أننَّي

عبد الجواد الملك القاهر

ص: 252

القيل عزِّ الدِّين ربِّ العلا

معطي اللُّهي حلف النَّدى الغامر

/223 ب/ نجل الملوك الصِّيد خير الورى

الزَّاري على الأوَّل والآخر

مولاي يا ابن الأكرمين استمع

مديح نحويكّم الشاعر

فإن يكن قصَّر فيه فما

له سوى عفوك من غافر

لا زلت في عزٍّ منيع الذُّرى

تكفُّ كفَّ الزَّمن الجائر

ليس لما تجبر من كاسرٍ

ولا لما تكسر من جابر

وقال أيضاً: [من البسيط]

قالوا: إلى م تعاني الحبَّ قلت لهم

ما دمت حيّاً ودام الحسن في النَّاس

كم تبت يوماً فيثني همتَّي رشا

له عذار على الخدَّين كالآس

إذا كلفت بمن تهوى وكان له

وجه مليح فما بالحب من باس

وقال أيضاً: [من البسيط]

مازلت أطلب من دهري لقاءكم

حتَّى إذا ما تدانى الشَّمل واجتمعا

مدَّت إلينا صروف المحادثات يداً

أوهت قوى الوصل حتى صار منقطعا

فما أكتسبت سوى حزن أكابده

عمري فليت التَّداني لم يكن وقعا

وقوله يتذكر /224 أ/ الصَّبا ويتأسَّف عليه: [من الوافر]

وعهدي بالصِّبا زمناً وقدِّي

حكى ألف ابن مقلة في الكتاب

فصرت الآن منحنيا كأنَّي

أفتِّش في التُّراب على شبابي

[919]

يحيي بن سعيد بن محمد بن سعيد بن أحمد بن إبراهيم بن الحارث بن سليم بن أبي تمامٍ القاضي، أبو المجد بن أبي الوفاء التكريتيُّ.

من ربيعة، قاضي ماردين.

ص: 253

حدثني الصاحب الإمام أبو القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة الفقيه الحنفي، وقال: قاضي ماردين؛ هو يحيي بن سعيد، قدم حلب رسولاً في سنة ثلاث عشرة وستمائة، ونزل بخانكاه الملك الصالح نور الدين إسماعيل بن محمود بن زنكي بن آقسنقر رضي الله عنه واجتمعت به وسمعت عليه شيئاً من الحديث، وأملى عليّ من شعره.

وهو شيخ حسن مفت فقيه من بيت الحديث والفقه، سمع ببغداد شهدة بنت الأبري، والرضي أبا الخير أحمد بن إسماعيل /224 ب/ بن يوسف بن محمد بن العباس القزويني، وبالموصل خطيبها أبا الفضل عبد الله بن أحمد بن محمد عبد القاهر بن الطوسي، وصدر الدين شيخ الشيوخ أبا القاسم عبد الرحيم بن إسماعيل بن أحمد بن محمد النيسابوري. وكان مدرساً بمدرسة أبي الكرم محمد بن علي بن مهاجر الموصلي.

سألته عن ولادته، فقال: في ثاني عشر جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وخمسمائة بتكريت، وبلغتنا وفاته ونحن بحلب في ذي الحجة من سنة عشرين وستمائة، وتوفي بماردين؛ وقيل توفي ليلة الاثنين تاسع ذي القعدة.

وقد ذكره الإمام أبو المجد إسماعيل بن هبة الله بن باطيش الفقيه الشافعي الموصلي في كتاب "طبقات الفقهاء الشافعية". وقال: ولد القاضي أبو المجلد بتكريت، وتفقه بها مدَّة وتوجه إلى الموصل وتفقه بها مدَّة على الشيخ أبي المظفر محمد بن علوان بن مهاجر الفقيه المدّرس بها يومئذ. وأعاد له الدرس بالمدرسة الفخرية على دجلة مدَّة طويلة.

ثم توجَّه إلى ماردين وأقام بها وولي التدريس /225 أ/ والقضاء بها زماناً طويلاً، وتعين فيها للتدريس والفتوى والقضاء. وكانت له المناظرة بجامعها. وكان حسن السيرة، جميل الطريقة، عفيفاً في ولايته.

ثم قال: وذكر لي من أثق به؛ أنه لما عزم على الحج صعد المنبر يوم الجمعة، وقال: يا أهل ماردين قد ولية عليكم القضاء مدَّة طويلة، فأسألكم بالله: إنَّ من كانت له علي مظلمة أن يقوم يطالبني بها فإن كانت من مال قضيتها، وإن كانت بسبب السلطان

ص: 254

تداركتها منه، وإن عجزت عن ذلك تضرعت عليه في عفوها عنّي. فضجَّ الناس بالبكاء وارتفعت أصواتهم بالأيمان المؤكدة أنَّه ليس فينة من له منك شكوى ولا يتخلفك مكروه؛ فنبلغ ذلك صاحب ماردين فعظمت مكانته عنده؛ وحجَّ في تلك السنة. وكان هو الرسول إلى ديوان الخلافة وغيره من الملوك عن صاحب ماردين، هل اآخر كلامه.

أنشدني الصاحب الإمام أبو القاسم بن أبي جرادة بحلب - أيده الله تعالى - قال: أنشدنا / 225 ب/ القاضي يحيى بن سعيد بن أبي تمام التكريتي لنفسه هذه الأبيات يرثي بها أخاه فخر الدين أبا الفخر وقد توفي بتكريت في سنة أربع وثمانين وخمسمائة:

[من الطويل]

أيا نازلي أرض العراق لقيتما

رشاداً ولا لاقاكما الدَّهر ذاعر

ولا زلتما في غبطة وسلامة

تجيء بكم في القادمين بشائر

إذا جئتما تكريت في اللَّيل اهدياً

سلامي إلى قبر سقته بواكر

ثواه فتًى لا يخلف الدَّهر مثله

إلى أن ينادي في البرية حاشر

أبى الدَّهر أن يحيا أبو الفخر بعدما

تولَّت من الدَّهر الخؤون مفاخر

بجانبها الغربي غيَّب بدره

ولا غزو أن الغرب [للبدر] ساتر

سقى الله قبراً ضمَّ عقلاً وعفَّة

غماماً ملثّاً قطره متواتر

ولا زال مخضر الجوانب مونقاً

تمدُّ إليه من بعيد نواظر

وقولاً له إنَّي فقيد لفقده

كأن فؤادي عند ذكراه طائر

وانك إن غيبِّت عن عين ناظري

فلست بعيدا أن تراك البصائر

كفى بي حزناً أنَّ فقدك سالبي

رقادي وأنَّ الجفن مني لماطر

/226 أ/ إذا مات أهل الفضل واندرس العلا

وضمَّ سراة العالمين مقابر

وصار أخو الآداب والعقل والحجى

وراجي حياة عمره متقاصر

فلا حبِّرت للكاتبين محابر

ولا نصبت للخاطبين منابر

ولو أنَّ بالمقدار حولاً وقوة

لما حكمت في العالمين مقادر

ولكَّنه الكأس المدار على الورى

ليشربه بالموت باد وحاضر

وأنشدني أيضاً قال: أنشدني القاضي أبو المجد قوله: [من الطويل]

إذا كان عودي ناظراً وشبيبتي

لها رونق في نفسها وبهاء

ص: 255

وما نلت ما أمَّلته من وصالكم

فمن لي إذا أستولى علىَّ فناء

وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه وكتبها إلى صديق له: [من الطويل]

وإنَّي لمشتاق إليك وأنَّني

لأعلم أنَّ الشوق لي منك أكثر

لأنَّ الَّذي اشتاقه منك حاضر

بقلبي ومن تشتاقه ليس يحضر

وأنشدني، قال: أنشدني قوله: [من المنسرح]

/226 ب/ لو أنَّ كتبى إليك واصلة

بقدر شوقي ما أحصي عددا

لأنَّ ظنَّي أنَّى متى ولعت

بى كفُّ دهري كون لي عددا

وأنشدني، قال: أنشدني له: [من الوافر]

ألا يا كعبة الإحسان طرّأ

ومن هو في معانيه جماعة

لئن قصَّرت في قصدي وحجي

إليك فشرط حجِّي الإستطاعة

وأنشدني، قال: أنشدني أبو المجد بن أبي الوفاء لنفسه: [من الوافر]

دكرتك والحجيج له ضجيج

علي عرفات في يوم الوقوف

وأرسلت الدُّعاء وظلت أرجو

إجابته من البرِّ العطوف

ومازالت ضلوعي في أجيجٍ

وما برحت دموعي في وكوف

إلي أن قيل لي في

نلت المنى وأمنت من أمر مخوف

وأنشدني قال: أنشدني القاضي يحيي بن سعيد من شعره: [من الكامل]

/227 أ/ ضحك الرَّبيع وغنَّت الأطيار

وتمايلت بيد الصَّبا الأشجار

وجرت علي زهر الرَّياض نسائم

نسجت رقيق ثنائها الأسحار

وأنشدني/ وقال: أنشدني لنفسه: [من المنسرح]

سقتك دار السَّلام غادية

صوب نداها تجود مزنته

فيك إمام الهدي ومن خجلت

شمس الضُّحي مذ بدت أسرَّته

من طبَّق الأرض بالسَّماح ومن

علت علي النَّيِّرين همَّته

هو الإمام الَّذي به انتصر الدِّ

ين وقامت للدين حجَّته

ص: 256

أحمد من أحمد عواقبه

وسرَّت العالمين سيرته

لازال في نعمة مؤَّبدة

محروسة بالدَّوام دولتة

ما فارق العبد تربها مللاً

لكن لتهدي الدُّعاء بلدته

[920]

يحيي بن سليمان بن شاؤول، أبو زكريا الحريزيُّ اليهوديُّ.

من أهل طليطلة.

كان شاعراً قوي القريحةـ غزير المادة؛ له شعر كثير في المدح والهجاء. وكان رديء اللسان، خبيث الطوية؛ ما مدح أحداً إلَاّ وعاد /227 ب/ وهجاه.

وصنَّف مصنفات باللسان العبري كثيرة منها كتاب "المقامات" ومقامة مفردة سمّاها "الروضة الأنيقة" باللسان العربي.

وكان ذا قدرة في الشعر. وكان يعمل قصائد أنصاف أبياتها الأول بالعبري، والأنصاف الأواخر بالعربي. وكان قد طاف البلدان رجال في أقطارها؛ ثم سكن بآخرة حلب، ولم يزل بها إلى أن مات ليلة الأربعاء لليلة بقيت من ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وستمائة.

وقد ذكره الصاحب الوزير أبو البركات المستوفي - رحمة الله تعالى - وقال: ورد إربل في العشر من محرم من سنة سبع عشرة وستمائة، وحدثني أنَّ اسمة بالعبرانية يهوذا، وإنما نقله إلى العربية. وكان طويلاً من الرجال أشيب.

سألته عن مولده، فقال: عمري إلى هذه السنة خمس وخمسون سنة، فانظر متى يكون مولدي؛ ثم حسب معي فأخطأ في تنزيله. يسكن بين ظهراني الفرنج، وكلامه مغربي /228 أ/ قريب عهدٍ بالخروج من بلده، تراه كأنه يعتريه سهر. وكنت أخبرت بوروده وأثنى عليه رجل من اليهود.

ص: 257

وأنشدني، قال: أنشدني الحريري لنفسه في التاريخ المقدّم ذكره: [من الطويل]

أما أنَّة لولا مححَّبة الخدر

لما فضحت أيدي المدامع من سرِّي

وليل طرقت الحيَّ في بردة الدُّجى

منمنم برد الأفق بالأنجم الزُّهر

سريت إليها حين هوَّم قومها

كمثل حباب إستدار على خمر

تحيط بها بيض الصوارم والقنا

وأسد من الأبطال دامية الظفر

وثغر المنايا باسم عن أسنَّة

ويسفر عن خدٍّ من السَّيف محمرِّ

وقد برزت في حلة ذهبيَّة

كما اشتبكت زهر النُّجوم على البدر

جنيت بها في جنَّة الحسن زهرهاً

بمخصبة الأرداف مجدبة الخصر

لثمت بها هيفاء ريميَّة الطُّلي

مداميَّة الألمى حبابيَّة الثَّغر

ثم قال أبو البركات: هذا منقول من قول المعتمد محمد بن عبّاد – ملك الأندلس -: [من الطويل]

/228 ب/ وكم ليلهٍ قد بتُّ انعم جنحها

بمخصبة الأرداف طيَّبة النَّشر

عاد شعر الطليطلي:

وبنتا يفرش الوصل ليلاً وفوقنا

لحاف فراش مزَّقته يد الهجر

وقد لاح وجه الصُّبح حسناً كأنَّه

بشاشة وجه الملك ذي النَّائل الغمر

تبسَّم للقصَّاد جوداً وكفُّه

تبسَّم فيها النَّصل عن مبسم الثَّغر

وللسف في يمناه لمح كأنَّه

شهاب بها ينقضُّ أو قدر يجري

بحدَّيه أثار النَّجيع كأنَّها

شقائق نعمانٍ على ضفَّتي نهر

مليك يلوذ الملك منه بأصيد

صقيل فرند الحمد والعرض والبشر

عليه يمين أن تجود يمينه

يبذل اليد العذراء والفتكة البكر

ص: 258

بعزم يهدُّ الطود هدّاً ونجده

تهزُّ قدود السُّمر في كلل حمر

قال أبو البركات إلى هاهنا أنشدني ولم أسمعها منه. وأنشدته عنه قوله:

[من الطويل].

وذي قلم إن صال يوماً بكفِّه

نسيت به فعل الردينيَّة السُّمر

/229 أ/ بياض معانيه بسود سطوره

يريك صباح الوصل في ليلة الهجر

لبيب فما تدري أرأياً لحادث

يدِّبر أم سهماً إلى غرض بيري

يقسِّمه جود يفيض ودهمَّه

فمن منهل غمر ومن جبلً وعر

رميت بامالي إليه وإنَّما

حملت بها المرعى الجديب إلى القطر

وأنشدني أيضاً قال: أنشدني الحريزي لنفسه يمدح السلطان الملك الأشرف شاه أرمن مظفر الدين أبا الفتح موسى بن أبي بكر بن أيوب - رحمة الله تعالى -:

[من الكامل]

بسيوف عزمتك القضاء يصول

ومضاء بأسك في يديه نصول

لفرند سيفك من بهائك رونق

بكليهما ماء الجلال يجول

قد حزت بأسك مع ندى لكليهما

أبداً سيوف تنبري وسيول

فلقد ثنيت اللَّيث وهو فريسة

ولقد تركت الغيث وهو نحيل

ولئن ذكرت على العدا يوم الوغى

من ذكر كم نفس الكماة تسيل

/229 ب/ ما لي وشرح خلالكم فخلالكم

كالصُّبح لا بيغى عليه دليل

لكنَّ وصفك مفحم أهل النُّهى

سَّيان فيه عالم وجهول

قال العدا ما لليود د وللندى

فأجبتهم أخطاكم التَّحصيل

ما شقَّ موسى بحر جود للورى

إلَاّ ليعبر فيه إسرائيل

وأنشدني أبو الفتح محمد بن أبي الخير بن أبي المعمرَّ بن إسماعيل التبريزي بإربل - رحمة الله تعالى - قال: أنشدني أبو زكريا يا بن سليمان الحريري لنفسه:

[من الكامل]

أرض سقت غيطانها أعطانها

وزهت على كثبانها قضبانها

سلبت فؤادي حورها ونحورها

وسطت بنا ولدانها ولدانها

ص: 259

ثملت بكأس عقارها أزهارها

حتَّى أغتدى حيرانها ريحانها

ولثن جلا آثارها آدارها

فلقد حوى إحسانها نيسانها

والشمس بالحمل المنير تزينَّت

لمَّا رأت ما زانها ميزانها

/230 أ/ وكواعب سلت صوارم لحظها

فكأنَّما أجفانها أجفانها

ولقد تلألأً درُّها بنحورها

وزها بجيد قيانها عقيانها

فتكت بالباب الكماة فسيفها

من طرفها وسنانها وسنانها

لم تبق شخصاً بالبسيطة سالماً

إلَاّ سبى إنسانها إنسانها

خود نفور نافرت أقراطها

رحلت بها خلانها خلانها

فاشرب بأرضٍ غازلتها مزنة

فكأنَّما هتَّانها فتانها

فتعاشقت وتعانقت أفنانها

وتصافحت وتناوحت أغصانها

تصاخبت وتجاوبت أطيارها

وتداولت وتبادلت ألحانها

وتنسَّمت وتبسَّمت أيامها

وتهلَّلت ووتكلَّلت أزمانها

بمديرها ومنيرها ومجيرها

ومعيوها حسناً جلاه عيانها

بحكيمها وعميمتا وكريمها

وزعيمها عقدت له تيجانها

دوح المنى عذب الجنى عالي السَّنى .. سحب الغنى يروى بها ظمانها

فتجدَّدت ببهائه أيَّامها

وتوطَّدت بعلائه أركانها

جادت يداه حيا نداه على النفر س وما أنجلى حتى أنجلى حرما نها

/230 ب/ ليث الشرى غيث الورى نجم السُّرى

نار القرى تعشو لها ضيفانها

فجماله أعماله ونواله

أمواله سؤاله خزَّانها

شهم غدا هدى الهدى إن أوقدا

نار النَّدى قلب العدا قربانها

بجنابه نشر الهدى راياته

فحكى قلوب عداته خفقانها

عزم سما، باري السّماء ماضي الشَّبا

مهما الظُّبا ليس الدُّمى غربانها

يا كاملاً بل فاضلاً يا فاعلاً

ما قصَّرت عن فعلة أعيانها

أنعم بعيد بل سعيد في مزيـ .... ـد من أيادد أينعت أفنانها

لك في المآثر دولةً بل صولة

بل جولة حاًز المدى فرسانها

ص: 260

[921]

يحيي بن عبد الله المَّرج بن درع بن الحسن بن الخضر بن حامد، أبو زكريا بن أبي القاسم التغلبي

قاضي تكريت، والمدرس بالمدرسة النظاميَّة.

إمام من أئمة المسلمين، ومن خيارهم.

كان فاضلاً عالماً كاملاً فقيهاً، شافعي المذهب قارئاً مفسراً نحوياً لغوياً عروضيا شاعراً أديباً مترسلاً، جامعاً لأشتات الفضائل، قيّماً يفتق المسائل /231 أ/ اشتغل بتكريت على والده بحفظ القرآن العزيز والأدب، وشيء من الفقه. وبالحديثة على أبي محمد عبد الرحمان بن محمد البلخيّ.

ثم انحدر إلى بغداد فصحب الشيخ أبا النجيب السهروردي، والشيخ يوسف بن محمد الدمشقي والرضي أبا الخير أحمد بن إسماعيل القزويني، وقرأ إصلاح المنطق على الشيخ أبي محمد عبد الله بن محمد بن الخشاب النحوي، واشتغل مدَّة مقامه ببغداد؛ ثم عاد إلى تكريت.

وكان قد برز في علم الفقه والأدب، وولي قضاء تكريت مدَّة طويلة مع حسن سيرة واشتهار بالفضل والعفَّة والديانة والتفنن في العلوم. وكان يدرس ويفتي ويحكم؛ ثم استدعي من ديوان الخلافة إلى بغداد، وولي تدريس المدرسة النظامية، وذكر الدرس بها في يوم الأربعاء ثاني عشر ربيع الآخر من سنة سبع وستمائة.

ورد إليه النظر في الوقوف التي تختص بالمدرسة النظامية أيضاً، واستناب ولده الأكبر في تولي الوقف ولم يزل على التدريس بالنظامية /231 ب/ إلى سنة أربة عشرة وستمائة فصرف عنها؛ وولي مكانة محيي الدين أبو عبد الله محمد بن يحيي بن فضلان البغداديُّ الفقيه الشافعي، فسكن القاضي رباط شيخ الشيوخ إلى أن توفي به، ولم يزل مقبلاً على الاشتغال بالعلم والعبادة على أحسن طريقة، وأجمل سيرة.

وكانت وفاته عشية الاثنين ثامن شهر رمضان سنة ست عشرة وستمائة. ودفن يوم الثلاثاء غربيها بمقبرة الشونيزية - رحمة الله تعالى -

ص: 261

وكانت ولادته بتكريت في مستهل المحرم منة إحدى وثلاثين وخمسمائة، وتخرج به عالم كثير من التلامذة.

وكان شيخاً كيساً لطيفاً في محاورته، ظريفا في مجالسته، حسن الإيراد مليح العبارة، ذا وقار وسكينة وهيبة؛ وله من التصانيف كتاب "تفسير القران العزيز" ينيف على عشرين مجلداً، وكتاب "الحقير الناقع على مذهب إبن شافع" وكتاب /232 أ/ "اللُّهنة في إزالة اللكنة" في النحو، وكتاب "التقريب في بضاعة الأديب" في صناعة الشعر، وكتاب في "العروض والقوافي"، وكتاب "الاختصاص في التاريخ الخاص" يدخل في ست مجلدات قصره على ذكر مشايخه الذين قرأ عليهم وتلامذته الذين قرأوا عليه، وأتبعه بذكر أقاربه وأهلة وأشعار ورسائل ومكاتبات إلى أصدقائه في المنظم والنثر وغير ذلك.

ومن شعره ما أنشدني ولده شرف الدين أبو محمد عبد الو هاب بن يس التكريتي بالموصل في سنة اثنتين وعشرين وستمائة - رحمة الله - من لفظة وحفظة، قال: أنشدنا والدي لنفسه هذه الأبيات كتبها في صدر رسالة طويلة أنفذها إلى بعض الكبراء:

[من الطويل]

ألمَّ وغربيب المدُّجنَّة مغدف

خيال سليمى طارقاً يتعسَّف

نفانف لا يقطعن بالعيس كلَّما

مضى نفنف منها تعرَّض نفنف

/232 ب/ هجولاً تناصيها الهواجل ما بها

أنيس سوى جنٍّ تجول وتعرف

وربد وعور هادجات ونعب

وبوم إذا ما جنَّه اللَّيل يهتف

وقد هاج صرٌّ والسَّماء عرية

عشَّية ليل يومه ظلَّ ينطف

فساور عول البيد غير مخادرٍ

وناكر هول اللَّيل لا يتخوَّف

على حين حلَّ الحيُّ منها بواحف

ومن دونها مجهولة ليس تعرف

والت سليمي حلفةً ما تحلّها

بأن لا تزال الدَّهر تجفو وتصدف

ونائي القلي شرُّ البعادين مطلباً

لأن المطايا قطعة لا تكلَّف

فجاب الفلا بعد الفلا متعسَّفاً

ومن أين يدرى ما الفلا والتعسُّف

إلى مدنف مضًنى ليهنا رقاده .. وقد كاد يضنه الضَّنى والتَّأسف

ص: 262

براه الهوى حتَّى تنكَّر شخصه

على النَّاس لولا أنه يتعرَّف

وما كان طمَّاحاً إلى وصل غادة

ولا شفَّه قدماً قوام مهفهف

ولكن سليمى حين مرَّت كأنهاًؤ

غزال بمنظور الصّريمة أهيف

ومنها قوله:

تكلَّف حبّا ثمَّ صار سجَّية

وأوّل أحوال المحب التكَّلف

/233 أ/ وطال على ذي الهمَّ حتَّى كأنَّما

بلا وسط ليل على اللَّيل يعطف

وأنشدني أيضاً من لفظة وحفظة وأملاه عليّ، قال: أنشدني والدي الإمام يحيي بن عبد الله لنفسه: [من البسيط]

لأبد للمرء من ضيق ومن سعة

ومن سرور يؤاتيه ومن حزن

والله يطلب منه شكًر نعمته

مادام فيها ويبغًي الصبر في المحن

فكن مع الله في الحالين معتنقاً

فرضيك هذين في سرٍّ وفي علن

فما على شدَّة يبقى الزمان فكن

جلداً ولا نعمة تبقي على الزَّمن

وأنشدني أيضاً قال: أنشدني والآي وقد سئل عن حركة الأمر، فقال:

[من الرجز]

لألف الوصل ضروب تنحصر

في الفتح والضَّم وأخري تنكسر

فالفتح فيما كان من رباعي

نحو أجب يا زيد صوت الدَّاعي

/233 ب/ والضَّمُّ فيما ضمَّ بعد الثاني

من فعلة المستقبل الزَّمان

والكسر فيما منه ما تخلَّى

إن زاد عن أربعة أو قلاًّ

وأنشدني أبو نصر عبد الرحيم بن يحيي التكريتي ببغداد، قال: أنشدني والدي من شعره: [من المتقارب]

تأمل إذا قلت ماذا تقول

فإنَّ لكل مقام مقالا

ولا تأت ما لست من أهله

فإنَّ لكلَّ رجالً ل نعالا

وسل إن سألت الَّذي يستطاع

لتعطي وإلَاّ أضعتً السُّؤالا

وحاذ قريبك قبل البعيد

فإن من الأهل داء عضالا

ص: 263

وأنشدني الشيخ العلامة الإمام الزاهد أبو سالم محمد بن طلحة بن محمد الفقيه الشافعي المدرس النصيبي العدوي يثغر حلب إملاء من لفظة وحفظة في شوال سنة /234 أ/ اثنتين وأربعين وستمائة - أسعده الله تعالى - قال: أنشدني القاضي تاج الدين أبو زكريا يحيى بن عبد الله بن المفّرج التغلبي التكريتي - رحمة الله تعالى - لنفسه ببغداد: [من الهزج]

تعلَّم من ذوي الحكمـ

ـة وأعمل بفتاويهم

فقد قالوا لمن يرغـ .... ـب في مثل مساعيهم

إذا سدت على قومـ

ـك علماً لا تقم فيهم

فإنَّ الحي لا يطر

بهم صوت مغنيهم

وأنشدني الشيخ العالم أبو المجد إسماعيل بن هبة الله بن باطيش الموصلي الفقيه الشافعيُّ يحلب - أيده الله تعالى - قال: أنشدني /234 ب/ القاضي الإمام أبو زكريا يس بن عبد الله التكريتي لنفسه من جملة مقطعاته: [من الكامل]

لي في الربوع وما بهن أنيس

قلب ودمع مطلق وحبيىس

هذا يد الأشواق تحلب درَّه

ولذاك من حرِّ الفراق وطيس

شكواي لو نفعت شكاتي فرقة

أضنت وشوقي في الحشا موسوس

داءان ما اجتمعا لحيٍّ فانثنى

حياً ولو د داواه جالينوس

وقال أيضاً: [من المتقارب]

عزائم صبري فرَّقتها

وألفت بيني وبين السُّهاد

وصيَّرتني مثلاً للأنام

أداول ما بين حضر وبادي

فشهر وصالك طيف الخيال

ويوم صدودك يوم التَّنادي

وحسبك أنَّي على ما علمت

إلى ما حكمت لسهل القياد

فقتلي حياتي إذا شئته

وعلمي بأنَّك راضٍ مرادي

وقال أيضاً: [من البسيط]

هل لي على أن أسحَّ الدَّمع أعوان

هذا الغوير وما بالدَّار سكَّان

/235 أ/ ما أو حش الربع بعد الطاعنين وان

تأنَّست فيه أطيار وغزلان

ص: 264

ترى يكون لعود الدَّار آهلة

يوم وهل لاجتماع الشَّمل إَّبان

واخيبة السَّعي ما عندي سمحت به

وعزَّتي في الَّذي أبغيه وجدان

قف ساعة أيَّها الحادي فقد نشأت

للقلب منِّي صبابات وأحزان

واسأل أثيلة سفح المنحني بهم

فربمَّا اخبرت عنهم متي بانوا

قل للشَّموت توقَّع فرقةً أمماً

إن نمت هوناً فصرف الدَّهر يقظان

فالمرء ما عاش تطويه وتنشره .. من الزَّمان مسرَّات وأحزان

يا راقداً وبقايا اللَّيل قد طويت

إلي متى أنت بعد الصُّبح وسنان

حيران غيِّك أمسى فيك مهتدياً

والرُّشد عندك أضحى وهو حيران

تصرَّم العمر فاستدرك بقيَّته .. وفي التدارك إن حاولت إمكان

[922]

يحيي بن عبد الرزاق بن يحيي بن عامر بن شجاع بن كامل، أبو البقاء الكنانيُّ المقدسي الخطيب

كانت ولادته بأودلا قرية من قرى نابلس في جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة. ونشأ ببيت /235 ب/ المقدس - حمى الله حوزته - ونزل عقربا من الغوطة. وتولّي خطابتها سنين كثيرةً. وكان أبوه قبله خطيبها.

واستظهر الخطيب أبو البقاء القرآن المجيد، وقرأ طرفاً من الفقه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وسمع الحديث النبوي كثيراً وقرئ عليه ببغداد ودمشق وديار مصر. وأجاز لمن سمع منه، وله مشايخ يكثر تعدادهم. وأنشأ خطباً، ونظم شعراً. وكانت له منزلة لطيفة عند ملوك الشام بني أيوب ينفذونه إلي البلاد وأطرافها رسولاً.

وتوفي بدمشق حين حاصرها معين الدين بن شيخ الشيوخ نيابةً عن الملك

ص: 265

الصالح نجم الدين أبي الفتح أيوب بن محمد بن أبي بكر بن أيوب - سلطان الديار المصرية - وكان بها يومئذ الملك الصالح إسماعيل بن أبي بكر بن أيوب متغلباً ثامن عشر محرم سنة ثلاث وأربعين وستمائة. ودفن بجبل قاسيون - رحمة الله تعالي _.

أنشدي أبو عبد الله محمد بن يحيي بن عبد الرزاق الدمشقي يحلب في المدرسة /236 أ/ العصرونيَّة في ربيع الآخر سنة خمس وأربعين وستمائة، قال: أنقذ الملك الأمجد أبو المظفر بهرام شاه بن فرخشاه بن شهشاه بن أيوب - صاحب بعلبك - والدي ني رسالة إلى مدينة السلام في سنة اثنتين وعشرين وستمائة بهنيء الظاهر بأمر الله أبا نصر محمداً بتوليته الخلافة ويعّزي بوفاة والده الناصر لدين الله بعد إنشاء خطبة وتقديم كلام منثور، وقال: سمعتها من لفظ والدي وهو يوردها غير مرَّة، وأتبعها بهذه الأبيات:[من السريع]

جئت أعزَّي وأهنَّي معاً

بالسَّالف الماضي والباقي

هماً إمامان فمذ غاب ذا

بدا لنا ذاك بإشراق

هم أمناء الله في أرضه

لبيعه أو أخذ ميثاق

دام إمام الأرض فيها لنا

ورحمة الله علي الَّراقي

[923]

يحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمد بن علىٍّ، أبو الحسين المصريُّ، المعروف /236 ب/ بالجزار.

ص: 266

لم أسمع شعره إلَاّ من الصاحب الإمام أبي القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة الفقيه بحلب - أدام الله سعادته - لأنَّه لمَّا عاد قافلاً من ديار مصر إلى حلب في سنة ثمان وثلاثين وستمائة. وكان سافر إليها رسولاً من قبل السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد بن غازي بن يوسف – خلَّدا الله ملكه – فاقام يها نحو ستة أشهر؛ فدخلت إليه مهنئاً بالقدوم والسلامة، وتجارينا في الأحاديث والمذاكرة.

ثم سألته عن من شاهد ولقي بتلك الديار من الشعراء الذين يشار إليهم ني الشعر المستجاد؛ فذكر لي جماعة كثيرة منهم هذا الجزّار الشاعر، وأثنى علي شعره، وتمكنه من استنباط المعاني اللطاف ووصفه بالشاعر البارع، وأنَّة لم يكن له نظير في زمانه، وذكره ذكراً جميلاً.

ثم أشار إلى بعض غلمانه فأتاه بكتاب فدنعه إليّ؛ ؟ وهو مجلد لطيف الحجم من أشعار الجزار سمَّاه /237 أ/ "تقطيف الجَّزار" قد كتبه ناظمه خدمةً له وسمعه منه جميعه. يشتمل علي أغراض غريبة، ونكت طريفة من مديح وهجاء ومجون وهزل، وأغراض مختلفة النعوت والأوصاف ناستطرفته جداً، واقتضبت من أثنائه ما ينبغي أن يسطر ويثبت؛ فمن ذلك قوله يمدح أمير المؤمنين المستنصر بالله أبا جعفر المنصور بن محمد بن أحمد رضي الله عنه:[من الكامل]

بمدائح المستنصر بن محَّمد

نافست كلَّ مرجز ومقصَّد

ص: 267

خير الخلائف من بني العبَّاس قد

ورث الخلافة سيَّدا عن سيَّد

الله شرِّفه وشرَّف بيته

وحمي به دين النبَّي ومحمَّد

سل عنه آيات الكتاب تجد له

نبأ عظيما في العلا والسؤدد

وإذا غدا القاري ورجَّح مدحه

أغناه عن ترجيح لحن المنشد

من معشر للدِّين والدُّنيا بهم

شرف يروح به الفخار ويغتدي

ولكم أتينا فيهم من آية

ولكم أتانا من حديث مسند

/237 ب/ ما شكَّ في تفضيلهم إلَاّ امرؤ

بالغيَّ ضلَّ عن السَّبيل الأرشد

وكذاك أنَّ الشمس يطرف جفنه

للعجز عنها كلُّ طرفٍ أرمد

ومنها يقول:

يا أبن الأئمَّة دعوةً من مادح

نادى نداك على مدًى مستبعد

أملي يقربني إليك مع النوى

يا من بذيل رجائه علقت يدي

أرجو نداك مع الخمول وربَّما

كان الحيا حظَّ الحضيض الأوهد

واحسرتا لو أنَّ لي سبباً إلى

ذاك الحمى لأكون أوَّل منشد

ولئن أرى وجهي يعفَّر في ثرىً

كالمسك مبثوثاً بفرق الفرقد

ولقد بعثت بها قصيداً لفظها

كالدُّرِّ إذ وافى بسلك منضّد

وجعلتها يوم الحساب ذخيرتي

فاشهد بها عند ابن عمَّك في غد

وقال يمدح صدر الدين ابن القرميسيني: [من السريع]

بان اصطباري والكرى منذ بان

بدر دجًى يحمله غصن بان

شاهده القلب وان كان

قد غيِّب واستوحش منه العيان

/238 أ/ لاقيت من بعد فراقي له

وجداً شجاعا بسلو جبان

ما ضره لو كان ن للصبِّ من

خوف تجَّنيه عليه أمان

واحرَّ قلباه وللعين في

خدَّيه من حسنهما جنَّتان

ص: 268

في صدغه الآس وفي خدهِّ الـ

ـورد وفي مبسمه الأقحوان

أسكنته قلبي وفيه لظًي

والحور لا تسكن إلَاّ الجنان

له من الَّصدر مكان وللـ

ـصدر من العلياء أعلي مكان

العالم العامل والفاضل الـ

ـفاصل حكماً بوجيز البيان

والناظر اليقظان اغنته عن

سود جفون اللَّحظ بيض الجفان

والكامل الفضل السَّريع النَّدى

الوافر العرض البسيط البنان

عودِّ بسط الكفِّ حتَّى لقد

عجبت منها عند قبض العنان

وخلقه ينبئك بالحسن عن

أسرار أخلاق لديه حسان

ذو طلعة كالبدر في التمِّ بل

كالشِّمس لولا هالة الطَّيلسان

لو جمع الرَّحمن شملي به

تفرَّقت عني صروف الزَّمان

وقال فيه أيضاً يمدحه: [من الرجز]

/238 ب/ أقبل مثل البدر في تمامه

تحفُّه الهالة من لثامه

ومزَّقت انواره ثوب الدُّجى

مذ اطلع الأنجم بابتسامة

وماس فاشتاقت غصون البان ان

تنقل ذاك اللِّين عن قوامه

أصمي قلوب العاشقين طرفه

ظلما بما فوَّق من سهامه

يا جفنه رفقاً بصب مدنف

سقمك أضحى الأصل في سقامه

وأنت يا أعطافه هل عطفهً

علي مشوق القلب مستهامة

من لي بمن في خدِّه نار حياً

فوق لهيب دام في اضطرامه

كم ليلة أسكرني بريقة

اغنت بكأس الثغر عن مدامه

وبتُّ لا أجزع من حراسه

إذ فرعه أبدي دجي ظلامه

وبيننا طيب عناق طالما

ألزمني شوقي بالتزامه

هذا هو العيش الَّذي وددت أن

لو ساعد الدَّهر علي دوامه

تلك ليال بل لآل شرَّفت

جيد زمان كنَّ في نظامه

كنت بها فًي لذَّة الأمن كما

غدت رعايا الصَّدر في أيامه

ص: 269

الآمر النَّاهي الَّذي عزمته

تخدمها الهمَّة باهتمامه

/239 أ/ والناظر اليقظان وجداً بالعلا

فاعذره إن اعرض عن منامة

صدر به لله سر مودع

تذيعا الحكمة من أحكامه

عزائم ردَّ بها الأيام من

اعو انه والدَّهر من خدّامة

ونقطة قد حصَّه الله بها

توحي إليه الغيب من إلهامة

وسطوة لو نظر اللَّيث بها

لأعمل الحيلة في إحجامه

وقال أيضاً وقد اكتسب بالشعر ثم عاد إلى الجزارة، فعاتبه على ذلك بعض أصحابه:[من الخفيف]

لا تلمني يا سيدي شرف الدِّيـ .... ـن إذا ما رأيتني قصَّابا

كيف لا اشكر الجزارة ما عشـ

ـت حفاظاً وارفض الآدابا

وبها أضحت الكلاب ترجِّيـ

ـني وبالشعر كنت أرجو الكلابا

وقال أيضاً: [من الرمل]

يا لقومي أنا من فقـ

ـري في أنحس حاله

/239 ب/ حين آلى الدَّهر انَّـ

ـي لا أري من فيه آله

ضاق صدري وأضرَّت

بي مع الفقر البطاله

وارى الآمال للمر .... ء وإن لذَّت علاله

وأبي قد بات منَّي

يسأل الله الإقاله

ملَّني فقراً وإن كـ

ـان شفيعاً لا محاله

كلَّ يوم أطرق الخَّـ .... ـباز منه بحواله

فرغت دكانه لو

انها دار الوكاله

وقال غي رجل اسمة الوجيه طلب منه فصاً من الكتان ومطلة به: [من الطويل]

طلبت من الكتان فمّا فجات لي الـ

ـوجيه بوعد عوَّض المن بالمين

ص: 270

إذا جئته يدعو عليه لسانه

إذا قلت أين الفص، قال: علي عيني

وقو له في النجم بن عديسة، وقد ادعى الشعر ووالده يعرف بالمعلم:

[من المتقارب]

/240 أ/ ارى النجم نجل عليَّ غدا

يذكَّرنا من مضى قبلة

هو أبن المعلَّم عند الفخار

وعند القريض هو الأبله

وقال أيضاً: [من مجزوء الكامل]

من منصفي من معشر

كثروا علي وكثَّروا

صادقتهم وارى الخرو

ج من الصداقة يعسر

كالخطَّ يسهل في الطرو

س ومحوه متعذر

وإذا أردت كشتطه

لكن ذاك يؤثر

وقال أيضاً: [من السريع]

إن كنت ممن راعني هجركم

أو وصفت ذرعاً بتجنيكم

فلا أدام الله لي سلوةً

وردَّد قلبي عاشقاً فيكم

وقال في أمرد يعرف بابن النعيم: [من السريع]

يا أبن نعيم دام ذَّمي لما

سلكته من قبح منهاج

خالفت من رًّباك في فعله

إذا أنت دخَّال ابن خراَّج

/240 ب/ وقال علي باب بعض الأمراء: [من المتقارب]

أمولاي ما من طباعي الخروج

ولكن تعلَّمته بالخمول

وصرت أروم لديك الغني

فيخرجني الضَّرب عند الدُّخول

ص: 271

وله في مسلماني لا يبرح في يده كتاب: [من الكامل]

قالوا: النُّعيل وان تبيَّن غيُّه

للعالمين وغاب عنهم رشده

يمشى وفي يده كتاب قلَّما

علم أمرؤ في حملة ما قصده

فأجبتهم لا تعجبوا من فعلة

فأبوه من أهل الكتاب وجدُّه

وكتب إلى شرف العلا هاشم بن الأشرف العلوي: [من الكامل]

شرفت بك العلياء يا شرف العلا

لمَّا علوت بها جميع العالم

والكامل الملك ارتضاك لعزمة

أغنته عن سمر وبيض صوارم

فاحرس برأيك مجد دولتة الَّذيً

مذ شدته لا يستطيع لهادم

فاجمع به شمل الفخار فإنَّما

بمحمد كمل الفخار لهاشم

/241 أ/ وكتب إليه وقد أمر له بغلَّة فوجدها قديمة: [من الوافر]

كتبت لنا بذاك البرِّ برًّاً

وقصد في الثَّناء وفي الثَّواب

فكدَّر صفوه الكيَّال حتَّى

بقينا منه في عجب عجاب

وجدناه عتيقا وارتضينا

به إذ [عاد] وهو أبو تراب

وأخبرني الصاحب الإمام أبي القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله العقيلي الفقيه الحنفي المدرس – أيده الله تعالى – بحلب، قال: كنت بالقاهرة جالساً في المنزل الذي نزلت به في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وستمائة. وكان قد أهدي إلي السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن محمد بن أبي بكر رطباً جاءه من قوص هدية مع المفرد الذي يصل ببشارة النيل /241 ب/ وكان الأديب أبو الحسين الجزار حاضرا قد جاء في، وقد قرب رحيلي عن القاهرة يشكو إلي ما يجده من الوحشة لقرب الفراق،

ص: 272

فقدمت للجماعة شيئا من ذلك الرطب، فارتجل أبو الحسين الجزار بيتين وهما:

[من مجزوء الرجز]

أطعمتنا التَّمر الَّذي

للبركات قد حوي

لله ما أطيبه

لو لم تشبه بالنَّوي

وكتب للأمير شرف الدين يعقوب سأله عن المجد وكيل الأمير سيف الدين علي بن قليج: [من الخفيف]

سيدي أنت هل أتأك من المجـ

ـد لذاك الحديث عنَّب جواب

أو تناسى أمري وحاشا معاليه

فيسري إليَّ منه عتاب

/242 أ/ أدركوني فبي من البردوهم

ليس ينسى وفي حشاي التهاب

البستني الأطماع وهما فها جسـ

ـمي عار ولي فريً وثياب

كلما أزرقَّ لون جسمي من البر

د تخيَّلت أنَّه سنجاب

وأنشد الأمير شرف الدين يعقوب، وقد مطلة بوعد:[من الكامل]

يا أيها المولى الَّذي لندى

كفَّيه كلُّ الجود منسوب

لا غرو أن أصبحت تأمر بالـ

ـصبر الجميل وأنت يعقوب

وقال أيضاً: [من الخفيف]

أنا في راحة من الآمال

أين من همَّتي بلوغ المعالي

لي عجز أراح قلبي من الهـ

ـم ومن طول فكرتي في المحال

ص: 273

طاب عيشي والحمد لله إذ كنـ

ـن له حامداً علي كلَّ حال

ما لباس الحريرير مما أرجَّيـ

ـه فيرجي ولا كوب البغال

راحة السرَّ في التخلَّف عن كـ

ـلَّ محل أضحى بعيد المنال

إنَّ عزَّ الإنسان في تركه العـ

ـزَّ لذُّل في مبتدى الأحوال

/242 ب/ يا معيني على الزَّمان أعنِّي

فلقد قلَّ عن سطاه احتمالي

كل يوم أسعي ولكن بلا نفـ

ـع فسيَّان فرغتي واشتغالي

عملي دائم ولي سيرة في الدَّ .... هر تروي كسيرة البطَّال

وقال في صدر الدين بن القرميسيني: [امن الكامل]

والقصر إن عداك في العصر

وقد انتهوا لبداية الحشر

ظلموا فما ابقوا لهم وزاً

ينجي ولا سلموا من الوزو

كفروا صنائعك الَّتي أشتهرت

فيهم فتلك عقوبة الكفر

ظهروا لنورك وهو شمس ضحًى

فتضاءلوا كتضاءل الذَّرً

مكروا وفد الإله بهم

شتَّان بين المكر والمكر

دعهم فلا برح التَّغابن من

حسد يواصلهم إلى الحشر

وأنشد إذا ما زرت تربتهم

متكتَّماً في السِّر والجهر

ماتوا بغيضهم وما ظفروا

بمرادهم واضيعه العمر

تالله ما أخَّرت مدَّتهم

إلَاّ لكسب مثوبه الصَّبر

/243 أ/ زلرأفة ردَّت سطاك بكـ

ـفِّ الحلم عند النِّهي والأمر

ومن العجائب كونهم جهلوا

أنَّ العلوم وديعة الصَّدر

لله درك كلُّ ممتدح

لعلاك قد ضاهى آبا ذر ٍّ

لولا أخاف الله قلت لمن

يروي مديحك أتل يا مقري

حجت لك العافون فازدحموا

كتزاحم الآمال في الفكر

نالوا المنى بمنى جنابك فاخـ

ـتاروا المقام بها عن النَّفر

ص: 274

وقال أيضاً: [من الكامل]

إفعل ما أنت أهله

يا من لديه الفضل كلًّه

يا حاكما عمَّ الرَّعيـ

ـة بعد ظلم الغير عدله

يا من تشرَّفت المحلَّـ

ـة إذا غدا فيها محله

مولاي لا تبد اشتغا

لا عن محبٍّ أنت شغله

ضاقت عليه يا رجيب .... الصدر منذ رحلت سبله

كفرت به الأصحاب إذ

ألأوارقه بالشٍّعر رسله

وتباعدت عن قربه

أخوانه وجفاه أهله

/243 ب/ وإلي متي طمعا يصرِّ

ف جدَّ هذا الوقت هزله

ما بين قوم لا يعـ ـزم عليهم في الدَّهر ذلُّه

وإذا ارتضي الإنسان يو

ما بالخمول فأين فضله

مولاي صدر الدَّين يا

من فرعه زاك وأصله

يا منعماً عم الوري

في الدَّهر نائله وبذله

بك في الزَّمان المسغا

ث من الزَّمان أشتد محله

مولاي دعوة من غدا

متبدِّداً مذ غبت شمله

يدعوك لما أن تنا

قص صبره وازداد خبله

فأجره من زمن يرا

م نداه والمعهود بخله

زمن مدامعه المدا

مه فيه والزفرات نقله

وتباً لعيش قد تنغَّـ

ـص شربه فيه وأكله

ولباسه خلق تبـ .... ـرا كفُّه منه وشلُّه

وغدا دروزا مقناً .... يالغاش والخيَّاط قمله

فهو الصَّحيح وإنَّما

جلدي المفتَّق منه كلُّه

/244 أ/ فأجر غلامك من زما

ن قد اناخ عليه كلُّه

ص: 275

وانظر إليه فرأسه

بالبرد مضرور ورجله

باع العمامة والشمشك

فغلوه عار وسفله

هذا القران به تعكَّـ

ـس نجمه فغدا يضلُّه

فمر الزَّمان فعقده

في أيدي مولانا وحلُّه

وقال يمدح الإسكندرية: [من الوافر]

أرى الإسكندرية ذات حسن

بديع ما عليه من مزيد

هي الثغر الذي يبدي ابتساماً

لتقبيل العفاة من الوفود

إذا وافيتها لم تبق همّا

فقلبك مذيراها من بعيد

حللت [بطاهر] منها كأنَّي

حللت إذا بجنَّات الخلود

فلا بئر معطَّلة وكم قد

رأيت هناك من قصر مشيد

بياض يملا الآفاق نوراً

يبشر برقة بسحاب جود

وأقسم لو رأتها مصر يوماً

لكادت أن تغيب عن الوجود

/244 ب/ وكم قصر بها أضحى كحصن

منيع لا كزرب من جريد

يرص فصوصه بانية رصّاً

يفضَّله علًى نظم العقود

لها سور إذا لاقى الأعادي

يقاتلهم بوجه من حديد

هو الفلك استدار بها وكم قد

رأينا فيه من برج سعيد

أحاط بسورها بحر أجاج

ومنهل أهلها عذب الورود

وحسبك أنَّ صدر الدَّين فيها

وذا من مدحها بيت القصيد

هم السادات لا يرجى ويخشى

سواهم عند وعد أو وعيد

إمام جلَّ قدراً أن يهنىَّ

بشهر أوً بعشر أو بعيد

وله من قصيدة كتبها إليه أيضاً: [من الخفيف]

بذل وجهي إلَاّ لمثلك بذله

واعتزازي إلَاّ بجاهك ذلَّه

ص: 276

يا جوادا سحاب كفَّيه بالجو

د على كل قاصد مستهلَّه

والَّذي لو رآه في دسته الفضـ

ـل بن يحيي لجاء يطلب فضله

لك نيل قد اخجل النَّيل جودا

وغدا دونه الفرات ودجله

ومنها قوله:

/245 أ/ يا أمينا قد زاده الله مجداً

دون هذا الورى وعلى محلَّة

لي نصفيَّة بعد من العمر

سنيناً غسلتها ألف غسله

لا تسلني عن مشتراها ففيها

منذ فصلتها نشاء بجمله

نشَّف الرِّيح صدرها ورآها

كل يوم تشكو هواءً ونزلة

ظلمتها الأيّام حكما فأضحت

في العذاب الأليم من غير زلَّه

كل يوم يحوطها الدَّقُّ

والعصر مراراً وما تقرُّ بعمله

وهي تعتلُّ كلَّما غسَّلوها

ويزيل النَّشاء تلك العلَّة

أين عيشي بها القديم وذاك الـ

ـنتق فيها وخطرتي والشمله

حيث لا في أجنابها رقعة قـ

ـطُّ ولا في أكمامها قطُّ وصله

قال لي الناس حين أطنبت فيها:

بسَّ أكثرت خلَّها وهي بقلة

فسير له صدر الدين بن القرميسيني نصفيَّة وملبوساً فكتب إليه: [من السريع]

أشكر مولانا ونصفيَّتي

تشكره أكثر من شكري

أراحها جدواه من كلِّ ما

يسكن من دقٍ ومن عصر

/245 ب/ كم ليلة كادت مع الماء إذ

يغسلها غسَّالها تجري

وقال يمدح القاضي زين الدين ابن الزبير: [من الكامل]

بانت وقد كلَّفتها توديعي

ما بين فيض جوى وفيض دموع

ص: 277

وتجلَّدت للبين مثل تجلُّدي

والنَّار حشو ضلوعها وضلوعي

ولكم تعلَّلها مواعيد المنى

منِّي عن المرئيِّ والمسموع

قالت: ذممت البين، قلت لها: عسى

أن تشكري عقباه عند رجوعي

وقال أيضاً: [من البسيط]

إني لمن معشر سفك الدماء لهم

داب وسل عنهم إن رمت تصديقي

تبيت أنعامهم مفهم على وجل

إذ شملها بهم يفضي لتفريق

تزداد بالدَّمِّ إشراقاً عراصهم

فكلُّ أيامهم أيَّام تشريق

وقال يمدح الأجل العدل شرف الدين أبا حامد محمد بن علي بن سعيد بن أبي جرادة الحلبي العقيلي: [من مجزوء الرجز]

/246 أ/ لازم قلبي كمده

وبان عنِّي جلده

وطال عمر اللَّيل حـ

ـتَّي قلت قد مات غده

وارحمتا لعاشق

في الحبَّ ذابت كبده

يستنجد الدمع إذاً

لم يلق من يستنجده

إلى متى يقيمه

حكم الهوى ويقعده

ما يصنع العبد إذا جار عليه سيَّده

لا يستطيع البطش في الشِّـ

ـدَّة من غلَّت يده

يا عاذلي عنِّي فكم

سهرت ليلاً ترقده

هيهات أن تدري بما

يلقي العليل عوده

يا بأبي الغصن الَّذي

يعجبني تأوُّده

تغبطه شمس الضحي

والبدر امسي يحسده

ذو مبسم أحسن في

تنضيده منضَّده

وريقه عذب ولـ

ـكن أين منَّي مورده

/246 ب/ وخده مورَّد

يا حبَّذا مورَّده

يصدُّني عن لثمه

إذا رنا مهنَّده

لحظ يسل أبيضاً

علي القلوب أسوده

ص: 278

إلي متا ينالني

من كل دهر نكده

لم يبق في الخلق فتي

يغرُّني تودًّده

قد عدم الَّديق في الـ

ـدُّنيا فمن ذا يجده

إنَّ السَّعيد من غدا

وهو قليل عدده

فربما لارمي الفتي

في الموبقات ولده

وإنَّ مثلي في الوري

لم يخل ممن يحسده

وهكذا من شرف الـ

ـدَّين الأجل يعضده

أي كريم لم يزل

نشكره ونحمده

ولم يخب في الدَّهر من

يؤمُّه ويقصده

تروي حديث الجود عن

بنانه ونسنده

كم مسلم حققه

اأنَّه محمده

/247 أ/ وعزمه لا يتنا

هي في المعالي أمده

فبيته قد نصبت

علي الثريا عمده

لقد زكت أصوله

فينا وطاب مولده

وقد سمت فخراً به

علي البلاد بلده

ذو راحة هان بها

لجنينه وعسجده

وطالما عزَّ بذا الـ

ـهوان من يسترفده

ولفظه الدُّرُّ إذا

حرَّره منتقده

فطرسه بخطِّه

كالرَّوض والغيث يده

فإن حسبت أنَّه

سحر فأين عقده

ذو قلم كالسهم في

نحر العدا يسدده

يهزه كالمشرفـ

ـيِّ هزَّه مجرده

ما درَّ يوماً نفسه

إلَاّ تبدَّت زبده

فلو تراءي لأبن عبَّـ

ـاد لكان يعبده

ما ضلَّ عاف في ديا

جي الخطب وهو مرشده

/247 ب/ كلَاّ ولم يشق فتي

في الدَّهر وهو يسعده

يا أبن الذَّين فضلهم

يتعب من يعدده

ص: 279

ومن غدا بينهم

ليس يرام سؤدده

يا من غدت فروعه

طيَّبةً ومحتده

مولاي يدعوك فتًى

قد خانة تجلًّده

هيهات أن يقوم يو

ماً بالقوافي أوده

ضاع القريض فهو لا

ينشده بل ينشده

ما بال هذا الدَّهر لا

ينجز يوما موعده

مولاي لي حقٌّ ومد

حي قد غدا يؤكَّده

ومن غدوت قصده .. ليس يخيب مقصده

وقال فيه أيضاً: [من البسيط]

هب خاطري العفر إن شحت غمائمه

ما كلُّ وقت يجيد الشِّعر ناظمة

وطالما ركدت ريح الصَّبا سحراً

لدي الأراك ولًم تسجع حمائمه

ورَّبما جاد خدٍّ النور دمع حياً

فوق الغصون وما شقَّت كمائمه

/248 أ/ لا يمكن المرء أن يمشي على سنن

وإن غدا الرشد لا تخفى معالمه

قد يكتم السر من لم يخفه أبداً

عن الرجال وقد يفشيه كاتمة

يسالم الدهر من أضحى يحاربه

كما يحارب من أضحى يسالمه

وقد يكون رفيع القدر جاهلة

كما يكون وضيع القدر عالمة

أشكو إلى الله دهراً ليس ينصفني

وكيف ينصف من ذا الدَّهر حاكمة

كم ذا أذُّل قريضا بتُّ أحمله

جهلاً إلى باب من عزَّت دراهمه

لولا ضرورات دهري كان ما دره

قد استوى اليوم في عيني وحاتمة

بار القريض بمصر اليوم فهو إذا

اعرضته عن شَّاريه وسائمة

لو قدر الله أن آتي الشَّام به .... ما أسلمتني إلى دهري عواصمه

وكنت أدرك ما ارجوه بابن أبي

جرادة حسب آمالي مكارمه

عليك يا شرف الدَّين اعتماد فتى

يشكو لك الدَّهر إذ عمَّت مظالمه

ص: 280