المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب عدد الطلاق [والاستثناء فيه] - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٤

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب عدد الطلاق [والاستثناء فيه]

بسم الله الرحمن الرحيم

‌باب عدد الطلاق [والاستثناء فيه]

الاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ بـ "إلا" وأخواتها.

وأصله من: ثنيت الشيء: إذا أَمَلْتُه، فكأنه يميل اللفظ إلى خصوصه.

قال: إذا خاطبها بلفظ من ألفاظ الطلاق- أي: الصريح منها والكناية- ونوى به طلقتين أو ثلاثاً- أي: إذا كان حرّاً- وقع، ووجهه ما روي أن ركانة ابن عبد يزيد قال:[يا] رسول الله، إني طلقت امرأتي شهيبة البتة، والله ما أردت إلا واحدة، فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. دل هذا الحديث على أنه لو نوى ما زاد على الواحدة، لوقع، وإلا لما كان لاستحلافه فائدة.

ولأن اللفظ يحتمل العدد؛ بدليل أنه يجوز أن يفسر به، وهو أن يقول: أنت طالق طلقتين، أو ثلاثاً أو: بائن طلقتين، أو ثلاثاً، وما احتمله اللفظ إذا نواه- وقع؛ كالطلاق بالكناية.

قال: إلا قوله: أنت واحدة، فإنه لا يقع به أكثر من طلقة؛ لأن [لفظ الواحدة] لا يحتمل ما زاد عليها، فلو أوقعنا زيادة عليها، لكان إيقاعاً للطلاق بالنية دون اللفظ.

وفي الذخائر: أن القاضي الحسين زيف هذا القول.

وفي الجيلي: أنه الأصح.

قال: وقيل: يقع به ما نوى؛ إذ يحتمل أن يريد: أنت طالق واحدة مع واحدة، أو مع اثنتين.

ويحتمل أن يكون معنى قوله: [أنت] واحدة أنك تتوحدين مني بالعدد الذي أوقعته عليك.

وفي التهذيب: أنه الأصح.

وفي النهاية: [أنه] الذي قطع به الأئمة في طرقهم؛ حملاً للواحدة على التوحد والتفرد.

وقال الغزالي: إن خطر بباله معنى التوحيد، فالمنوي يقع وجهاً واحداً وإن لم

ص: 3

يقصد ذلك، ولكن نوى بهذا اللفظ: الثلاث؛ فهذا فيه احتمال، وما ذكره أبداه الإمام من عند نفسه.

ولو قال: أنت طالق واحدة، ففيه الوجهان السابقان.

ووجه ثالث يحكي عن اختيار القفال: أنه إن قسط منه الاثنتين أو الثلاث على جميع اللفظ، لم يقع ما زاد على الواحدة؛ وإن نوى الطلقتين أو الثلاث بقوله: أنت طالق، وقع ما نواه، ولغا ذكر الواحدة؛ وهذا منه تفريع على أن نية الاستثناء لا تعتبر بعد الفراغ من اللفظ، وهو الصحيح.

أما إذا قلنا: إنها تصح بعد الفراغ، لم يبق فرق، بين الحالتين.

فرعان:

إذا قال: أنت طالق واحدة، وقال: أردت أنها [ملفقة] من ثلاث طلقات- فالصحيح من المذهب وقوع الثلاث.

ومن أصحابنا من قال: لا يقع إلا طلقة؛ لأن اللفظ لا ينبئ عما قاله، ولا يحتمله، والنية إنما تؤثر مع اللفظ المحتمل.

ولو قال: أنت باثنتين أو بثلاث، ونوى العدد، وقع، ثم إن نوى طلقتين أو ثلاثاً فذاك، وإن لم ينو شيئاً وقع الملفوظ [به]؛ لأن ما أتى به صريح في العدد، كناية في الطلاق، وقد وجدت معه النية.

وإن نوى واحدة، فوجهان:

أحدهما: يقع ما تلف به، وهو ما حكاه في "التتمة".

والثاني: لا يقع إلا واحدة؛ لأنه قد يريد ثلاثة أثلاث طلقة، أو نصفي طلقة.

قال: وإن قال: أنت طالق واحدة في اثنتين، ونوى طلقة مقرونة بطلقتين، [أو مع طلقتين]، طلقت ثلاثاً؛ لأن لفظ "في" يستعمل بمعنى "مع"، قال الله تعالى:{ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} أي: مع أمم، وقال تعالى:{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29]، أي: مع عبادي.

واعلم أن هذه المسألة مصورة في النهاية [بما] إذا كانت الزوجة مدخولاً بها.

ص: 4

أما إذا لم تكن مدخولاً بها؛ فيتجه أن يجيء في وقوع ما زاد على الواحدة الخلاف الذي يأتي من بعد، عند قوله: طلقة مع طلقة، وسنبين مأخذه.

قال: وإن لم ينو شيئاً، وهو [ممن] لا يعرف الحساب، وقعت طلقة؛ لأن اللفظ المأتي به على سبيل الإيقاع، ليس إلا واحدة.

قال: وإن نوى موجبها عند أهل الحساب، لم يقع إلا طلقة.

أما وقوع [الطلقة؛ فلقوله]: أنت طالق.

وأما [عدم] وقوع الزائد عليها؛ فلأن [ما] لا يفهم من معنى اللفظ والبيان، لا يثبت عند الإبهام، وإنما يثبت عند التحقيق والتفصيل؛ [وهذا] هو الذي عليه الأكثر.

قال: وقيل: يقع طلقتان، وإليه ذهب الصيرفي؛ لأنه موجبه في الحساب وقد قصده، ويجري مثل [هذا] الخلاف فيما إذا قال: طلقت امرأتي مثل ما طلق زيد، وهو لا يدري كم طلق زيد؟ وكذا يكون الحكم لو نوى عدد [طلاق زيد، ولم يتلفظ، وشبه الأصحاب الوجهين بما إذا أتى العجمي] بلفظ الطلاق، وقال: أردت بها ما يريده العربي، وهو لا يعرف معناه.

قال: وإن كان يعرف [الحساب] ونوى موجبها [عند أهل] الحساب، وقعت طلقتان؛ لأن ذلك موجبها في الحساب.

قال: وإن لم تكن له نية، وقعت طلقة على ظاهر النص؛ لأنه يحتمل الحساب، ويحتمل الظرف؛ فلا يزاد على المستيقن، وهو طلقة، وما زاد مشكوك فيه.

قال: وقيل: يقع طلقتان؛ لأنه الاستعمال المشهور في الأعداد، والرجل عارف به، واختلف الأصحاب في هذا القول:

فمنهم من يثبته للشافعي.

ومنهم من ينفيه عنه، ويثبته لأبي إسحاق.

ص: 5

وحكى الشيخ أبو محمد والفوراني قولاً ثالثاً: أنه يقع الثلاث؛ لتلفظه بها.

قال الرافعي: ويجيء هذا القول فيمن لا يعرف الحساب إذا لم ينو شيئاً؛ وكذلك الإمام، لكنه [قال]: لست أثق بهذا القول.

ولو نوى بقوله: في اثنتين الظرف قبل [ولم يقع] جعله ظرفاً.

فإن قيل: كان يتجه أن يكون في قبول ذلك منه ظاهراً قولٌ: أنه لا يقبل، مبني على أنه [إذا] لم يرد شيئاً يقع طلقتان؛ لأن ذلك صرحي في إيقاعهما، وما كان صريحاً في شيء لا ينصرف عنه بالنية.

ومثل هذا السؤال يأتي عند قول الشيخ: أنت طالق، أنت طالق وقد مضى التنبيه على مثله في كتاب الخلع فيما إذا نوى بالخلع الطلاق؛ فإن الشيخ جزم بأنه يكون طلاقاً وإن كان قد حكى فيما إذا لم ينو [أنه] يكون صريحاً في الخلع على قول، لكن حكينا ثم: أن بعض الأصحاب التزم موجب هذا السؤال؛ حتى لم يجعل الخلع طلاقاً بالنية؛ إذا قلنا: إنه صريح في الفسخ.

ويقرب منه ما إذا قال: أنت طالق نصف طلقتين، وأوقعنا به طلقتين؛ لأجل الإشاعة، فقال أردت بالنصف: طلقة؛ فإنه هل يقبل منه في الظاهر؟ فيه وجهان:

فإن لم يقبل منه، أوقعنا طلقتين أيضاً.

وإن قبلنا، أوقعنا طلقة، ولم أر لأحد مثله هنا.

فالجواب أن من قال هنا وفي الموضع الآتي: إن ذلك صريح، إنما قاله عند عدم النية لا مطلقاً، ويؤيده أن الإمام جعل ذلك وما ناظره قسماً ثالثاً بين الكناية والصريح، وإذا كان كذلك اندفع السؤال.

قال: وإن قال: أنت طالق طلقة مع طلقة، طلقت طلقتين:

أما إذا كانت مدخولاً بها؛ فلأن الطلاق وجد محلّاً ينفذ فيه، لكن في كيفية وقوعهما وجهان:

أظهرهما: أنهما يقعان معاً؛ لأن المعية تقتضي الضم والمقارنة، فصار كما لو قال: أنت طالق طلقتين.

ص: 6

وعلى هذا فوقت وقوعهما تمام الكلام.

والثاني: يقعان على الترتيب؛ لِتَرتُّب اللفظين.

وأما إذا كانت غير مدخول بها، فإن قلنا بالوجه الأول، وقعت [- أيضاً-] طلقتان؛ لما قدمناه، وإن قلنا بالثاني، لم يقع إلا واحدة كما لو قال: أنت طالق طلقة فطلقة، ويحكى هذا عن المزني في المنثور، وإليه أشار الشيخ بقوله: وقيل: إن كانت غير مدخول بها، لم يقع إلا طلقة، [وفي المدخول بها- أيضاً- وجه أنه لا يقع عليها إلا طلقة] كما لا يلزم به في الإقرار إلا درهم واحد؛ وهذا ما اختاره القاضي ابن كج والحناطي.

ولو قال: أنت طالق طلقة فوق طلقة، أو تحت طلقة، فالذي ذكره الإمام والغزالي: أن هذه الصلات تقتضي الجمع كالمعية [فالجواب فيها كالجواب في الطلقة] مع الطلقة.

وفي "التتمة" ما يقتضي الجزم بأنه لا يقع في غير المدخول بها إلا طلقة؛ لأن وصف الطلاق بالفوقية والتحتية محال؛ فيلغو اللفظان، ويصير كما لو قال أنت طالق طالق.

قال: وإن قال للمدخول بها: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، [وبعدها طلقة، طلقت ثلاثاً؛ لأن الجمع يصادف الزوجية، ولو اقتصر على قوله: قبلها طلقة] وقعت طلقتان.

وفي كتاب القاضي ابن كج: أنه لا يقع إلا طلقة واحدة؛ لجواز أن يكون المعنى: قبلها طلقة مملوكة، أو بائنة.

والأول هو الصحيح المشهور، لكن في كيفية وقوع الطلقتين وجهان:

أحدهما- وبه قال ابن أبي هريرة-: أنه يقع أولاً المنجزة التي بدأ بها في اللفظ، ثم يتعقبها الطلقة المتضمنة، ويلغو قوله: قبلها كما لو قال: أنت طالق أمس.

والثاني: أنه يقع أولاً الطلقة المتضمنة، ويتلوها الطلقة المنجزة؛ لأن المعنى يقتضي ذلك، ويحكى هذا عن القاضي أبي الطيب؛ وهذا أرجح عند ابن الصباغ

ص: 7

وغيره، وليس المراد أن الطلقة المتضمنة تتقدم على تمام اللفظ، بل يقعان بعد تمام اللفظ، لكن تقع المتضمنة أولاً، وتقع المنجزة في لحظة عقيبها؛ كذا حكاه الرافعي.

[و] في الذخائر نسبة الوجه الأول إلى أبي الطيب، والثاني إلى أبي إسحاق، وحكاية وجه آخر في المهذب نسبه إلى ابن أبي هريرة، وهو أنهما يقعان معاً، وتظهر فائدة الخلاف فيما لو قال ذلك لغير المدخول بها، فإن قلنا بالأول، وقعت طلقة، وإن قلنا بالثاني، فهل تقع طلقة أو لا يقع شيء أصلاً؟ فيه وجهان بناهما القاضي الحسين على الخلاف في مسألة الدور، فإن صححنا الدور، لم يقع الطلاق ها هنا، وإلا وقعت طلقة بقوله: أنت طالق، وألغينا قوله: قبلها، ولم يرتض الإمام هذا البناء، وقال: المعنى المانع من الوقوع هنا: أنه أوقع طلقة مسبوقة بطلقة، ولا يتصور في غير المدخول بها وقوع طلقة مسبوقة بطلقة، وإذا لم يقع طلقة مسبوقة بطلقة، وجب ألَّا يقع شيء، وإلا لكان الوقوع غير ما أوقعه، وهذا المعنى لا يختلف بين أن نصحح الدور، أو لا نصححه.

قلت: وهذا المأخذ يشابه ما حكاه البغوي عن فتاوى القاضي: أنه إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة رجعية: أنها لا تقع وفي التهذيب-[على المذهب] وإن كان قد أبدى من عند نفسه احتمالاً في الوقوع.

قال الإمام: ووجه وقوع الواحدة ها هنا أن مقصوده توزيع الطلقتين على زمانين لا أن تصير طلقة وصفاً لطلقة؛ فكذلك نحكم بوقوع طلقة فيما إذا قال: أنت طالق طلقة بعدها [طلقة]، ولا نقول: لا يقع؛ لأنه وصف الطلقة الموقعة باستعقاب أخرى، فإذا لم تقع أخرى، لم يحصل الوصف.

وربما فرق بين الطريقين بأنه لو قال: أول ولد تلدينه فهو حر، فولدت ولداً عتق، وإن لم تلد غيره.

ولو قال: ثاني ولد تلدينه [فهو] حر، لم يكن بد من أول.

وعلى الوجه الأول يقع طلقتان؛ حكاه الشيخ أبو علي، ويصير كما لو قال: أنت طالق طلقتين.

ص: 8

فرع: لو قال: أنت طالق طلقة قبلها وبعدها طلقة، طلقت ثلاثاً؛ إذا كانت مدخولاً بها؛ لأن الطلقة الواحدة تتوزع على ما قبلها وبعدها فيكمل النقصان [بها].

وفي "التتمة": أن هذا على طريقة من يقول: يقع الطلاق على الترتيب الذي أوقعه، أما على طريقة من يقول: يلغو قبله يقع عليها طلقتان، ويصير كما لو قال: طلقة بعدها طلقة، وقد حكاه أبو علي في الشرح وجهاً.

قال: وإن قال- أي: للمدخول بها-: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، وادعى أنه أراد [قبلها][طلقة] من نكاح آخر، أو من زوج آخر؛ فإن كان ذلك، قبل [منه]- أي: مع يمينه- لأنه يحتمل ما يدعيه، والأصل عدم وقوع الطلاق.

وإن لم يكن، لم يقبل- أي: في الحكم- بل يقع طلقتان، ويُدَيَّن؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر.

ولو ادعى أنه أراد طلقة في هذا النكاح؛ فهو كما لو قال لها [ذلك] في تفسير قوله: أنت طالق أمس؛ على ما حكاه الرافعي، وسيأتي الكلام فيه مستفيضاً إن شاء الله تعالى.

ولو قال: أنت طالق طلقة بعدها طلقة، وقال: أردت بالبعدية: أن أوقع عليها بعد ذلك طلقة، لم يقبل في الحكم، [و] لكن يدين فيما بينه وبين الله عز وجل.

فإن قيل: قد حكى الشيخ في كتاب الأيمان فيما إذا قال الحالف: أقسمت بالله أو: أقسم بالله، وادعى أنه أراد بالأول الخبر عن ماضٍ، وبالثاني الخبر عن مستقبل- خلافاً في قبول ذلك منه في الحكم، وكان يتجه أن يجيء مثله ها هنا.

فالجواب عن المسألة الأولى: أن مسألة الأيمان مصورة فيما إذا لم يظهر ما قاله بالبينة، وحيث جرى الخلاف فيه عند عدم البينة، لم يجر ها هنا؛

ص: 9

لأن الأبضاع مما يحتاط فيها، والطلاق يحرمها، والشبهة في المحرم كحقيقة التحريم، واليمين لا تحرم المحلوف عليه.

أما إذا ظهر ما قاله بالبينة، فالحكم كما ذكرناه هنا.

وعن المسألة الثانية: أن قوله: أقسم بالله، يحتمل الوعد بالقسم، وإنما حمل على الإنشاء في الحال عند العراقيين من غير نية؛ لعرف الشرع، فإذا ادعى أنه أراد الوعد، كان اللفظ مساعداً له؛ فقبل، والصيغة المأتيُّ بها في الطلاق لا تقتضي [الوعد بالتطليق في المستقبل، فإذا ادعى ذلك، كان ما ادعاه] مخالفاً لمقتضى اللفظ؛ فلم يقبل.

فرع: لو قال: يا مطلقة أنت طالق، وكان قد طلقها قبل ذلك، فقال: أردت بذلك [تلك] الطلقة [هل] يقبل قوله، أو تقع طلقة أخرى؟ فيه وجهان محكيان في الرافعي عن فتاوى الفراء قبل القسم من كتاب الطلاق.

[فائدة]: قال ابن يونس: في هذا الفصل مسألتان، نقلهما صاحب "التلخيص":

إحداهما: إذا قال: أنت طالق طلقتين، فماتت قبل أن يقول: طلقتين- لا يقع الطلاق، وكذا لو ماتت قبل قوله: إن شاء الله.

وخالفه بعض الأصحاب، وما قاله من الحكم صحيح، لكن قد يظهر أن مأخذ عدم الوقوع في المسألة الأولى مغاير لمأخذ المسألة الثانية؛ لأن من قال بعدم الوقوع في [المسألة] الأولى- اعتبر اللفظ بجملته، وقد خرجت عن أن تكون محلّاً للطلاق في بعضه؛ فبطل بجملته. ومن قال بعدم الوقوع في الثانية، اعتبر صدر الكلام، وجعل ما بعده تابعاً له؛ فأعمل الاستثناء، ولم يوقع الطلاق.

وليس الأمر كذلك؛ بل لعدم وقوع الطلاق في المسألة الثانية مأخذان:

أحدهما: هذا.

والثاني: المأخذ المذكور في المسألة الأولى بعين ما قرر.

ص: 10

وفي المسألة الأولى القول الثالث الذي تقدمت حكايته في الباب الأول: أنه يقع طلقة واحدة.

وقال إسماعيل البوشنجي: الذي تقتضيه الفتوى: أنه إن نوى الثلاث أو الطلقتين بقوله: أنت طالق، وكان قصده أن يحقق باللفظ المنوي- وقع المنوي، وإن لم يقصد لم يقع إلا واحدة.

واعلم أن حكم إسلام الزوجة وردتها إذا لم تكن مدخولاً بها قبل قوله: طلقتين أو ثلاثاً حكمُ الموت، وكذا لو أخذ واحد على فيه، ومنعه من أن يقول: طلقتين أو ثلاثاً، [والله- عز وجل أعلم].

قال: وإن قال: أنت طالق هكذا وأشار بأصابعه الثلاث، وقع الثلاث؛ [لأن الإشارة بالأصابع الثلاث في باب العدد بمنزلة النية.

فإن قال: أردت بعدد الأصبعين] المقبوضين- قبل [منه]، [أي: مع النية- بيمينه] لأنه يحتمل الإشارة بهما.

وقال الشيخ أبو حامد: لا يقبل في الحكم؛ لأن الظاهر خلاف ما يدعيه، نعم: يدين.

ولو قال: أردت واحدة، [لم] يقبل منه في الحكم، ويدين؛ لأن الإشارة تصريح في [باب] العدد.

وقال صاحب "التقريب": كناية، فيقبل؛ كذا حكاه [عنه] في "التهذيب".

قلت: ومقتضى ذلك ألا نوقع بها الثلاث من غير نية عند الإطلاق، ويؤيده ما سنذكره في الفرع بعده.

وفي الجيلي حكاية ذلك عن ابن سريج.

ولو قال: أنت طالق، وأشار بأصابعه، ولم يقل: هكذا- لم يلزمه العدد؛ لأنه قد يشير ولا يريد العدد.

نعم لو قال: أردت العدد، لزمه.

ص: 11

ولو قال: أنت هكذا، وأشار بأصابعه الثلاث، ولم يقل: طالق، ففي التعليق للقاضي الحسين: أنه لا يقع.

وفي الجيلي حكاية وجه عن بحر المذهب: أنه يقع طلقة.

ووجه آخر: أنه يقع الثلاث وإن لم ينو، وادعى أنه الأصح.

وفي فتاوى القفال: أنه إن نوى بقلبه الطلاق، طلقت ثلاثاً، وإن لم ينو أصل الطلاق، لم يقع شيء.

ولو قال: أنت، وأشار بأصابعه الثلاث، ونوى الطلاق- لم يقع شيء؛ لأن قوله: أنت ليس من ألفاظ الطلاق، فلو أوقعنا [به] الطلاق لكان بالنية دون اللفظ.

[وأيضاً: فلو قال لامرأته: (ثلاث طلقات، ولم يشر إليها، لم يقع؛ فكذا هنا؛ حكاه القاضي الحسين قبيل كتاب اختلاف الحكام والشهادات، وشبه به ما إذا قال لامرأته: أنت طالق طلقة ثلاث طلقات، فإنه يقع عليها طلقة، ولا يقع الثلاث- كما قال الشافعي- لأنه إذا قال: أنت طالق طلقة كان طلاقاً مستقلّاً بنفسه، وقوله: ثلاث طلقات لم يكن معطوفاً على اللفظ الأول؛ فأشبه ما ذكرناه).

فرع: إذا قال: أنت طالق، وأشار بأصبعه، ثم قال: أردت به الأصبع دون الزوجة، لم يقبل في الحكم، وهل يدين؟ فيه وجهان:

اختيار الشاشي منهما: أنه لا يدين.

قال: وإن قال: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث، طلقت طلقتين؛ لأن إلى للغاية، وما كان كذلك فيجوز دخوله فيما قبل، ويجوز ألا يدخل؛ فلم نوقع ما بعد الغاية بالشك، وتقع الأولى والثانية؛ لأنه أوقع ما بين الأولى والثالثة، وهي الثانية، ومن ضرورة وقوع الثانية أن يتقدمها أُولى؛ فوقعت طلقتان.

وقيل: يقع طلقة؛ لأن من لابتداء الغاية، وإلى [لانتهاء الغاية]، والابتداء والانتهاء لا يدخلان في الحكم، كما لو قال: بعتك من هذا الحائط إلى هذا الحائط؛ فإنه لا يدخل الحائطان في البيع؛ وهذا الوجه ما صدر به الشيخ كلامه في كتاب الإقرار فيما إذا قال: له عليَّ من درهم إلى عشرة؛ فإنه يلزمه ثمانية،

ص: 12

وإن كان الأصح عند الشيخ أبي حامد والعراقيين: أنه يلزمه تسعة، وهو يشابه الوجه الأول [هنا].

وفي الجيلي حكاية وجه آخر: أنه يلزمه الثلاث، وقاله ابن الصباغ تخريجاً من [عند نفسه، وعلله بأنه قد وجد منه التلفظ بالثلاث؛ فلا سبيل إلى إلغائها، وهو] يشابه الوجه الثالث في الإقرار الذي قال صاحب التهذيب فيه: إنه الأصح.

ولو قال: أنت طالق ما بين الواحدة والثلاث، ففي الجيلي: أنه وقع طلقة.

وقيل: تعود الأوجه الثلاثة.

فرع: لو قال: أنت طالق حتى تتم الثلاث ففيه وجهان:

أحدهما: أنه ثلاث.

والثاني: يرجع إليه، فإن لم ينو شيئاً، وقعت واحدة.

قال الرافعي في كتاب الطلاق قبل القسم الثاني منه: ويقرب منه ما إذا قال: [أنت طالق] حتى أكمل ثلاثاً، أو: أوقع عليك ثلاثاً.

قال: وإن قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق [ولم تكن له نية]، وقعت طلقة؛ وكذا لو قال: أنت طالق، وطالق، وطالق؛ لأنه أوقع الأولى قبل الثانية؛ فوجب وقوعها، وإذا وقعت بانت بها، فلم يقع ما بعدها.

وفي القديم حكاية قول على ما حكاه في المهذب وغيره: أنه يقع الثلاث.

وفي الشامل و"التتمة": أن الطبري حكاه وجهاً؛ لأنه إذا لم ينقطع بعض الكلام عن البعض، كان شبيهاً بقوله: أنت طالق ثلاثاً.

والفرق على الجديد: أن قوله: ثلاثاً تفسير لقوله: أنت طالق، وأما العطف والتكرار، فليس متعلقاً بالأولة.

وفي الرافعي: أن القول المحكي عن القديم أن حكمها في وقوع الطلاق حكم المدخول بها، حتى يأتي فيه التفصيل الذي يذكر من بعد، وهو الأشبه.

ص: 13

فرع: لو قال: أنت طالق إحدى عشرة طلقة، طلقت ثلاثاً.

ولو قال: واحدة ومائة، [طلقت طلقة واحدة].

ولو قال: إحدى وعشرين طلقة، ففيه وجهان:

أحدهما: تطلق ثلاثاً:

والثاني: واحدة؛ حكاه في التهذيب.

قال: وإن قال ذلك للمدخول بها، فإن نوى العدد، وقع؛ لأن اللفظ تأكد بالنية، ولا يفتقر في قبول قوله إلى يمين؛ إذ في ذلك تغليظ عليه، ولكن هل يتعلق التحريم بالأخيرة أو بالمجموع؟ فيه خلاف تقدمت حكايته.

قال: وإن نوى التأكيد- أي: تأكيد الأولى بالطلقتين الأخيرتين- لم يقع إلا طلقة؛ لأن التأكيد في الكلام معهود في جميع اللغات، والتكرار أعلى درجات التأكيد، وكثيراً ما وقع ذلك في كلامه، عليه السلام.

قال الإمام: ويُبْغَى به شيئان:

أحدهما: الاحتياط: إيصال الكلام إلى فهم السامع؛ إن فُرض ذهول وغفلة.

والثاني: إيضاح القصد إلى الكلام، والإشعار بأن لسانه لم يسبق إليه.

وإذا كان التأكيد معهوداً، والتكرير أقوى درجاته، صح التفسير به، لكن مع اليمين.

ولو نوى بالثانية تأكيد الأولى، وبالثالثة الاستئناف، [وقعت طلقتان.

وكذا لو نوى بالثانية الاستئناف]، وبالثالثة تأكيد الأولى، فهل يقبل ذلك منه؟ فيه وجهان:

أصحهما: أنه لا يقبل.

قال في الذخائر: وعلى هذا تقع الثلاث، وكذلك الرافعي أيضاً.

قلت: وفي وقوع الثلاث على الجزم نظر؛ من حيث إن هذه النية التي ادعاها إذا لم تكن معتبرة- لما فيها من الفصل بين المُؤَكِّد والمؤكَّد- فينبغي أن يكون الحكم كما لو قال ذلك، ولم ينو به شيئاً، وسيأتي الخلاف فيه، بل بطريق الأولى؛ لأنه عند الإطلاق لم يقصد عدم الإيقاع، وهنا قصده.

ص: 14

ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنا عند الإطلاق إنما لم نوقع عليه الثلاث- على رأي- لأن اللفظ الثاني والثالث صالح للتأكيد، كما هو صالح للإنشاء، فلو أوقعنا عليه الثلاث لكان إيقاعاً بالشك؛ وهنا لما أظهر لنا أنه لم يرد التأكيد المعتبر بنية تأكيد الأولى بالثالثة- بطل أحد الاحتمالين الذي لأجله لم نوقع الطلاق؛ فتعين الآخر، وهو إيقاع الثلاث.

قال: وإن لم ينو شيئاً، ففيه قولان:

أصحهما: أنه يقع بكل [لفظة] طلقة، وهذا هو المنقول في الأم؛ لأن اللفظ الثاني والثالث مثل الأول، وقد وقع بالأول الطلاق؛ فوجب أن يقع بهما أيضاً.

والثاني: لا يقع إلا طلقة واحدة، وهو المنقول عن الإملاء؛ لأن ذلك يحتمل التأكيد ويحتمل الاستئناف، فلا نوقع ما زاد على الواحدة بالشك؛ وهذا كله فيما إذا والى بين الألفاظ الثلاثة، ولم يفصل بينها، أما لو وقع بينها [فصل] بأن ذكرها في مجالس، أو في مجلس واحد، وسكت فوق سكتة التنفس، [ونحوه، وقعت للثلاث].

[وأبدى الرافعي في كتاب الإقرار فيها احتمالاً نذكره ثم، إن شاء الله تعالى] فلو ادعى إرادة التأكيد، لم يقبل في الحكم، ولكن يدين؛ وهذا بخلاف ما إذا أقر في مجلس بألف، [ثم في] مجلس آخر بألف، وقال: أردت إعادة الأول، وليس عليَّ [إلا] ألف واحد؛ حيث يقبل؛ لأن الإقرار إخبار، والمخبر عنه لا يتعدد بتعدد الخبر، والطلاق إيقاع وإنشاء، فإذا تعددت كلمة الإيقاع تعدد الواقع.

ويخالف- أيضاً- ما إذا قال لزوجته: والله لا أجامعك مرتين، وأطلق في المرتين، أو قيده بمدة واحدة، وادعى إرادة التأكيد؛ فإنه لا فرق في قبول ذلك بين أن يتحد المجلس أو يختلف، ولا بين أن يطول الفصل [أو لا].

ص: 15

وفي النهاية حكاية وجه فيه: [أنه] إذا طال الفصل لا يقبل، وتكون اللفظة الثانية يميناً أخرى.

وأجرى الخلاف فيما إذا كرر تعليق الطلاق ببعض الصفات على ما حكاه في آخر كتاب الإيلاء، وسنذكره [فيه] إن شاء الله تعالى.

ولو قال: أنت طالق، طالق، طالق، فعن القاضي الحسين القطع بأنه لا يقع عند الإطلاق غلا طلقة واحدة؛ لأنه لم يوجد كلمة الاستئناف، وهي قوله: أنت؛ فحمل المطلق على التكرار.

والجمهور على أنه لا فرق بين اللفظين.

ولو قال: أنت طالق واحدة ألف مرة، ولم ينو العدد، لا يقع إلا طلقة؛ لأن ذكر الواحدة يمنع لحوق العدد؛ قاله في "التتمة".

قال: وإن أتى بثلاثة ألفاظ، مثل أن قال: أنت طالق، وطالق، فطالق، وقع بكل لفظة طلقة؛ لأن المغايرة بينها بالعطف تسقط حكم التأكيد، فإن ادعى أنه أراد التأكيد، لم يقبل في الحكم؛ لأنه [يخالف الظاهر]، ويدين؛ قاله في المهذب.

وقال مجلي: إن الأصحاب خالفوه في ذلك.

واعلم أن الحكم بوقوع الثلاث هنا مفرع على النص فيما إذا قال: أنت طالق، فطالق [في] أنها تطلق طلقتين.

أما إذا قلنا بالقول المخرج مما إذا قال: له على درهم فدرهم: إنها لا تطلق سوى طلقة واحدة؛ فيتجه ها هنا: ألَّا يقع إلا طلقتان.

ثم تمثيل الشيخ الثلاثة ألفاظ بما ذكره فيه نظر؛ لأن ما ذكره [فيه] تغاير بين حروف العطف، وأما تغاير الألفاظ، فمثل قوله: أنت مطلقة، أنت مسرحة، أنت مفارقة، وفي ذلك وجهان:

أحدهما: أنه بمنزلة تغاير الحروف.

ص: 16

والثاني: أنه بمنزلة اللفظ الواحد إذا كرره.

وأرجحهما على ما يقتضيه كلام الرافعي: الأول.

ثم الفرق بين تغاير الألفاظ والحروف على الوجه الثاني: أن الحروف هي العاملة، وبها يعرف الاستئناف والعطف، وليس كذلك تغاير الألفاظ.

ولو قال: أنت طالق، وطالق، وطالق، أو: طالق، فطالق، فطالق، [أو طالق] ثم طالق، ثم طالق وقع بالأولى والثانية طلقتان؛ لتغاير اللفظين، ويرجع في الثالثة إليه، فإن أراد الاستئناف، أو التأكيد، قبل.

وإن أطلق فعلى القولين السابقين في الفصل قبله.

وإن قال: قصدت [بالثانية] تأكيد الأولى، لم يقبل؛ لاختصاص الثاني بالواو المقتضية للعطف، وموجب العطف التغاير.

وإن قال: قصدت بالثالثة تأكيد الأولى، لم يقبل؛ [كما لا يقبل] تأكيد الأولى بالثانية، [وبل أولى؛ لتخلل][الفصل]؛ هكذا حكاه الرافعي هنا، و [حكى] في كتاب الإقرار في نظير المسألة عن النهاية وجهين:

أظهرهما: ما ذكره هنا، ثم قال: وهكذا الحكم في الطلاق، [وسنعيد الكلام في هذا في باب الطلاق، إن شاء الله تعالى].

ولو قال: أنت طالق، وطالق، لا بل طالق، وقال: كنت شككت في الطلقة الثانية، واستدركت بقولي: لا بل طالق لأحقق إيقاع الثانية- حكى العراقيون عن نصه في الإملاء: أنه يقبل، ولا يقع إلا طلقتان، ولم يحك في الشامل سواه، وحكاه الإمام عن رواية صاحب التقريب، ونقل أنه قال: جعل الأصحاب المسألة على قولين:

أحدهما: هذا، [وهو بعيد].

والثاني- وهو القياس، وظاهر نصه في المختصر-: وقوع الثلاث.

ص: 17

ثم حكى عنه فيما لو قال: بل طالق، من غير كلمة لا طريقين:

أحدهما: أنها على القولين.

والثاني: القطع بوقوع الثلاث.

قلت: ومقتضى قبول قوله: أنه إذا [أطلق يكون في وقوع الثالثة] خلاف؛ كما تقدم في الفصل السابق، وعليه يدل قوة كلام الرافعي.

ولو قال: أنت [طالق] طلقة، بل طلقتين، وقع الثلاث.

وفي المهذب والحلية حكاية وجه: أنه يقع طلقتان، وأبداه الإمام احتمالاً.

ولو قال: أنت طالق طلقة فطلقتين، ثم قال: أردت إعادة تلك الطلقة الأولى في الطلقتين، فالمذهب: أنه لا يقبل منه، ويقع الثلاث.

وقيل: تقع طلقتان؛ حكاه القاضي الحسين في آخر كتاب الطلاق.

قال: وإن قال: أنت طالق نصف تطليقة، أو: نصفي طلقة، طلقت طلقة:

أما في المسألة الثانية؛ فلأن نصفي الطلقة طلقة:

وأما في [المسألة] الأولى؛ فلأن الطلاق لا يتبعض؛ لأن العبد على النصف من الحر، وجعل له طلقتان، ولو كان يتبعض، لكان له تطليقة ونصف، وإذا لم يتبعض كان إيقاع بعضه [بمنزلة إيقاع] جميعه، كما لو طلق بعض المرأة.

ولأن مقتضى ما أوقعه التحريم، ومقتضى ما لم يوقعه: بقاء الحل، والفرج إذا دار بين التحريم والإباحة، يغلب التحريم.

نعم: هل يفتقر وقوعها إلى النية؟

المذهب المشهور: أنه لا يفتقر.

وفي الرافعي: حكاية وجهين عن رواية أبي الحسن العبادي، حكاهما عند الكلام في صرائح الطلاق.

وإذا وقعت الطلقة، فهل تقع بطريق التعبير بالبعض عن الكل، أو يقع

ص: 18

البعض ثم يسري؟ فيه خلاف منقول في الذخائر، في ضمن المسألة الرابعة في ربط الطلاق بالطلاق، والأول منها هو الذي حكاه الإمام، وقال: لا [تتخيل التسرية] في ذلك، والذي دل عليه كلام الشيخ في مواضع من الكتاب الثاني.

وفي ابن يونس حكاية وجه في المسألة الثانية: أنه [يقع] طلقتان، وإليه أشار الغزالي بقوله: الصحيح: أنه يقع واحدة.

قال: وإن قال: أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقة، فقد قيل: يقع طلقة؛ لأن الأجزاء المذكورة مضافة إلى طلقة، والواحدة لا تشتمل على تلك الأجزاء؛ فتلغو الزيادة، ويصير كأنه قال: أنت [طالق] نصفي طلقة أو: ثلاثة أثلاث طلقة.

وقيل: تقع طلقتان؛ لأن ثلاثة أنصاف طلقة: طلقة ونصف؛ فنكمل النصف.

وعلى هذا القياس: [قوله:] خمسة أرباع طلقة، أو نصف وثلثا طلقة.

وحكى الحناطي وجهاً ثالثاً: أنه يقع ثلاث طلقات، ويجعل كل نصف من طلقة.

وضابط هذا الخلاف: أنا هل ننظر إلى المضاف، أو إلى المضاف إليه؟ وعليه يخرج ما لو قال: ثلاثة أنصاف [طلقتين] فمن نظر إلى المضاف أوقع الثلاث، ومن نظر إلى المضاف إليه أوقع طلقتين.

وكذا لو قال: خمسة أنصاف طلقتين، وعلى هذا فقس.

قال: وإن قال: [أنت طالق] نصف طلقتين، فقد قيل:[تقع] طلقة، وهو الأصح عند الغزالي والرافعي؛ لأن نصف الطلقتين طلقة، وحمل اللفظ عليه صحيح ظاهر؛ فلا نوقع الزيادة عليها من غير يقين، ولا ظهور.

وقيل: [يقع طلقتان]، ويحكى هذا عن اختيار أبي إسحاق؛ لأنه أضاف النصف إلى طلقتين، وقضيته: النصف من هذه، والنصف من هذه؛ ألا ترى أنه لو قال: [لفلان نصف هذين العبدين، كان إقراراً بالنصف من كل واحد منهما؛ وعلى

ص: 19

هذا لو قال]: أردت طلقة واحدة يدين، وهل يقبل [منه] ظاهراً؟ فيه وجهان.

والفرق- على الوجه الأول- بينه وبين مسألة العبدين: ما قاله الإمام: أن العبدين شخصان، لا يتماثلان؛ فإضافة النصف غليهما إضافة إلى كل واحد منهما، والطلقتان مضاهيتان العدد المحض، والنصف إذا أضيف إلى اثنين يتوجه حمله على واحد.

ولو قال: ثلاثة أنصاف الطلاق، ففي "التتمة": أنه يقع ثلاث طلقات.

ونقل الحناطي وجهين في أنه: [هل] يقع واحدة أو ثلاثاً.

قال: وإن قال: نصف طلقة، ثلث طلقة، سدس طلقة، طلقت طلقة؛ لأن هذه أجزاء الطلقة، ولم يزد عليها.

فلو زادت، بأن قال: نصف طلقة، ثلث طلقة، ربع طلقة، ففي [أمالي] أبي الفرج: أنه على الوجهين فيما إذا قال: ثلاثة أنصاف طلقة.

قال: وإن قال: نصف طلقة، وثلث طلقة، وسدس طلقة، طلقت ثلاثاً؛ لأنه أضاف كل جزء [إلى] طلقة، وعطف البعض على البعض؛ فاقتضى ذلك تغاير الطلقات.

وفرق الأصحاب بين هذه المسألة والتي قبلها بأنه إذا لم يدخل الواو، لم يكن بعضها معطوفاً على بعض؛ فلم يقصد تغايرها؛ فلم تحتمل طلقات، بل احتملت طلقة واحدة؛ فوقعت.

قال ابن الصباغ: وهذا التعليل ليس بصحيح؛ لأن العطف إنما دخل في الألفاظ دون الطلقات؛ لأنه لو كانت الطلقات غير متغايرة، لكان يرد عليها بلام التعريف، فيقول: نصف طلقة، وثلث الطلقة، وسدس الطلقة، وهذه العلة موجودة إذا لم يعطف بعضها على بعض.

وينبغي أن يكون الفرق أن الثلث والسدس إذا لم يعطف على النصف، لم يقع؛ لأنه ليس فيه لفظ الإيقاع، ولا عطف على ما فيه لفظ الإيقاع، كما لو قال: أنت طالق طلقة طلقة، لم يقع إلا واحدة.

ص: 20

قال مجلي: وهذا الفرق يئول إلى ما قيل أولاً.

وفرق الرافعي: بأنه إذا لم يدخل الواو كان الكل بمنزلة كلمة واحدة، وإذا أدخلها فلكل واحدة حكمها؛ ولهذا لو قال: أنت طالق [طالق] لم يقع إلا واحدة، ولو قال: أنت طالق وطالق، وقعت طلقتان.

قلت: وما استشهد به من قوله: أنت طالق طالق قد يظن أنه ذكره [بناءً] على مذهب القاضي فيه، والمذهب خلافه؛ فلا يحسن الاستشهاد به، وليس كذلك، بل مراده:[أنه] لو نوى [بذلك طلقة] واحدة، قبل، ولم يقع سواها؛ بخلاف ما لو قال: طالق وطالق؛ فإنه لا يقبل منه إرادة طلقة واحدة، بل نوقع عليه طلقتين.

واعلم أن الإمام حكى في مسألة الفصل أن من أصحابنا من قال: إذا نوى صرف هذه الأجزاء إلى طلقة واحدة، قبل ذلك منه.

وقال في "الوسيط": إن منهم من رد جميع ذلك إلى طلقة واحدة، وجعل تكراره للتأكيد، وصدر به في الوجيز كلامه، فإن كان ما حكاه الغزالي محمولاً على ما قاله الإمام، وإلا فهو وجه ثالث في المسألة، وقد رأيت في كلام الإمام- أيضاً- إشارة إليه، عند الكلام فيما إذا أوقع بين نسائه سدس طلقة، وثلث طلقة ونصف طلقة.

ولو قال: أنت [طالق] نصف وثلث وسدس طلقة، طلقت طلقة.

ولو قال: أنت طالق: نصف ثلث سدس، وقعت [طلقة] بقوله: أنت طالق.

ولو قال: أنت طالق نصفاً، وثلثاً، وسدساً [فإن أراد به: نصفاً من طلقة، وثلثاً من طلقة، وسدساً] من طلقة- وقعت ثلاث تطليقات، وإن لم يكن [له] نية وقعت واحدة.

فرع: لو قال: أنت نصف طلقة، فهل يكون مثل قوله: أنت طلقة؟ وفيه وجهان:

ص: 21

أحدهما: أنه صريح.

والثاني: أنه كناية.

قال: وإن قال لأربع نسوة: أوقعت بينكن طلقة، أو طلقتين، أو ثلاثاً، أو أربعاً- أي: وأطلق- وقع على كل واحدة طلقة؛ لأنه إذا وزع ذلك عليهن أصاب كل واحدة منهن طلقة، أو بعض طلقة؛ وتكمل.

وفي الذخائر أن أبا علي حكى في الإفصاح: أنه يقسم كل طلقة بين الجميع، والأصح الأول؛ لبُعْد ما قاله عن الفهم؛ ألا ترى أنه لو قال لعبده: اقسم هذين الدرهمين على هؤلاء الأربعة، لم يفهم المأمور منه قسمة كل درهم عليهم.

نعم: لو نوى ذلك، عمل به، ووقع بقوله طلقتين: على كل واحدة طلقتان، وبالثلاث ثلاث، وكذلك بالأربع.

ولو ادعى أنه أراد إيقاع ذلك على بعضهن دون بعض، فيدين، وهل يقبل في الحكم؟ فيه وجهان:

أظهرهما: أنه لا يقبل؛ لأن ظاهر اللفظ يقتضي الشركة؛ لقوله: عليكن.

والثاني: يقبل، وهو الأظهر عند الفوراني؛ لأنه إذا كانت المطلقة فيهن كان الطلاق بينهن.

ولأن [مثل] هذا اللفظ يطلق للحصر في الجملة، كما يقول من يتهم واحداً من الجمع بالسرقة: السرقة بين هؤلاء، يريد الحصر فيهم، ولا يريد التشريك بينهم.

وفي "الذخائر" بعد حكاية ما ذكرناه عن العراقيين والخراسانيين: أن من العراقيين من قال: الوجهان في التديين، وأما في الحكم فلا يقبل وجهاً واحداً.

وفي "التتمة" جزم بعدم القبول في الحكم فيما إذا أوقع طلقة [واحدة]، ثم قال: أردت إشاعتها بين اثنتين.

وفي "الشامل" حكاية وجه فيه [أيضاً]: أنه يقبل، وعزاه إلى أبي حفص بن الوكيل.

وفي "الرافعي" تخريج وجه في جريان هذا التفصيل [فيما] إذا [قال]:

ص: 22

أوقعت عليكن.

ثم ما حكيناه من الخلاف عند المراوزة فيما إذا لم يعطل بعض المطلقات، مثل أن أوقع عليهن أربع طلقات، ثم ادعى أنه أوقع على هذه طلقتين و [على] هذه طلقتين.

أما لو قال: [أوقعت] الأربع على هذه، ففي قبوله- أيضاً- وجهان مرتبان.

وحيث قلنا بعدم [القبول فذاك] في حق من نفى عنها، أما من أوقع عليها فيقبل.

ولو أوقع بين ثلاث منهن ثلاث طلقات، وقال: أردت إيقاع طلقتين على هذه، وقسمة الأخرى على الباقيات، حكى الرافعي في قبول ذلك وجهين:

أظهرهما: أنه يقبل، و [به] قطع الشيخ أبو علي، وأطال في توجيهه.

والثاني- عن رواية أبي الحسين بن القطان-: أنه لا يقبل، ويجب استواؤهن.

قلت: وفي عدم القبول نظر في هذه الصورة؛ بل يتجه أن يقبل ذلك منه قولاً واحداً من غير يمين؛ [لأن فيما ادعاه] تغليظاً عليه، واللفظ يحتمله.

ووجه ما قلته: أن عند عدم الإرادة يقع على كل واحدة [منهن] طلقة، فإذا ادعى ما ذكرناه، فقد ادعى أنه أوقع على واحدة منهن طلقتين، [وعلى كل واحدة من الباقيات طلقة.

نعم: لو صور المسألة بما إذا أوقع بينهن أربع طلقات] وقال: أردت إيقاع طلقتين على هذه، وطلقتين على الباقين- اتجه جريان الخلاف فيها؛ لأنه يصرف بذلك عن كل واحدة [من الباقيتين طلقة؛ لأن مقتضى الاشتراك أن يقع على كل واحدة] منهن طلقة وربع، ويكمل.

وقد صور الإمام محل الخلاف بمثل ذلك، وقال: من قبل منه إخراج بعضهن من قسمة الطلاق، [فلا شك أنه] يقبل ها هنا أيضاً.

ص: 23

ومن لم يقبل إخراج بعضهن، فهل يقبل التفاوت في القسمة؟ هذا محل التردد.

فروع:

إذا قال: أوقعت بينكن نصف طلقة، وثلث طلقة، وسدس طلقة، إن قلنا عند مخاطبة الواحدة بذلك: تقع واحدة، فكذلك ها هنا؛ وإن قلنا: يقع الثلاث فكذلك [يقع] ها هنا: على كل واحدة ثلاث.

قال الإمام: ويحتمل أن يجعل كما لو قال: أوقعت بينكن ثلاث طلقات، والقسمة المستوية في ذلك لا توجب إلا طلقة طلقة إذا قال: أوقعت بينكن طلقة، وطلقة، وطلقة.

قال الرافعي: يجوز أن يقال: هو كما لو قال: ثلاث طلقات؛ فتطلق كل واحدة طلقة.

ويجوز أن يقال: تطلق كل واحدة ثلاثاً.

[و] إذا قال لثلاث منهن: أوقعت عليكن طلقة، فإن كل واحدة تطلق طلقة، ثم قال للرابعة: أشركتك معهن، ونوى الطلاق؛ فينظر:

إن أراد طلقة؛ لتكون كواحدة منهن، [طلقت] طلقة؛ وإن أراد أن تشارك كل واحدة منهن في طلقتها، طلقت ثلاثاً؛ وإن أطلق، ولم ينو واحدة، ولا عدداً، فوجهان:

أظهرهما: أنها تطلق واحدة.

والثاني: طلقتين؛ لأنه جعل الواحدة شريكة الثلاث، وفي مقابلتهن، وقضية ذلك أن يصير ما لحقهن مقسوماً بينهن، وقد لحقهن ثلاثً؛ فيلحقها نصفها، وهو طلقة ونصف، ويكمل.

قال الرافعي: لو قيل بناءً [على] هذا التوجيه: يلحقها ثلاث طلقات، لم يكن بأبعد منه.

وعلى قياس المسألة: لو طلق اثنتين، ثم قال للأخيرتين:[أشركتكما معهما]

ص: 24

ونوى الطلاق، وأطلق- فتطلق كل واحدة طلقة؛ على قياس الوجهين [معاً].

ولو طلق إحدى امرأتيه ثلاثاً، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، ونوى الطلاق، ولم ينو العدد، أجاب أبو بكر الشاشي بأنها تطلق واحدة، وتوقف البوشنجي فيه، وقال: قد أوقع على الأولى ثلاثاً، والتشريك أن يكون لها مثل ذلك.

قال: ولو قال: أوقعت بينكن خمس تطليقات، وقعت على كل واحدة طلقتان؛ [لأن التقسيط على السواء يقتضي أن يقع على كل واحدة طلقة] وربع؛ فيكمل؛ وهكذا الحكم في الست والسبع والثماني.

ولو قال: أوقعت بينكن تسع تطليقات، وقع على كل واحدة ثلاث طلقات؛ بطريق التكميل.

وقد فهم مما تقدم التفصيل الذي يمكن أن يذكر في هذا الفصل.

قال: وإن قال: أنت طالق ملء الدنيا، أو: أطول الطلاق، أو: أعرضه، طلقت طلقة إلا أن يريد به الثلاث.

الدنيا: بضم الدال على المشهور، وحكي كسرها، [وجمعها: دنا]، وهي من: دنوت؛ لدنوها وسبقها الدار الآخرة، وينسب إليها: دُنْيَوِيٌّ، ودُنْيِيٌّ ودُنْياوِيٌّ.

وفي حقيقة الدنيا قولان للمتكلمين:

أحدهما: أنها الهواء، والجو.

والثاني: كل المخلوقات: من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدار الآخرة، وهو الأظهر.

والدليل على ما ذكره الشيخ: أن ليس فيما ذكره [ما] يقتضي العدد، وقد تتصف الطلقة الواحدة به.

وكذا الحكم فيما لو قال: ملء السماء والأرض والبلد، أو مثل الجبل العظيم، أو أعظم من الجبل.

ولو قال: ملء السماوات، أو: الأرضين، أو: البيوت الثلاث، طلقت ثلاثاً.

ص: 25

ولو قال: عدد التراب، قيل: تقع طلقة؛ حكاه الإمام وغيره؛ لأن التراب شيء واحد.

وقال البغوي: وقيل: تقع الثلاث، وهو الأصح عندي؛ كما لو قال: عدد ذر التراب أو: أنواعه.

ولو قال: أنت طالق بعدد كل شعرة على جسد إبليس، قال إسماعيل البوشنجي: قياس مذهبنا: أنه لا يقع شيء؛ لأنا لا ندري هل على جسد إبليس شعر أم لا؟ والأصل العدم.

وعن أصحاب أبي حنيفة: أنها تطلق طلقة، كذا حكاه الرافعي عنه في باب الشك في الطلاق، وفيما قاله نظر.

ولو قال: أنت طالق وزن درهم، أو درهمين، أو ثلاثة، وكذا سائر الأوزان، [ولم ينو]- لم يقع إلا طلقة؛ صرح به الرافعي وغيره.

وفي تعليق القاضي الحسين: أنه إذا قال: أنت طالق مثقالاً، يقع عليها طلقة، ولو قال: مثقالين فكذلك؛ لأنه أراد بذلك الصنج التي يوزن بها الدنانير.

ولو قال: ثلاثة مثاقيل يقع طلقتان، ولو قال: خمسة مثاقيل تقع طلقة.

ولو قال: ثمانية مثاقيل، طلقت ثلاثاً.

ولو قال: عشرة مثاقيل طلقت واحدة؛ حكي ذلك عن اختيار القفال.

ومن أصحابنا من قال: الاعتبار بالوزن، فلو قال: أنت طالق مثقالاً، أو درهماً، يقع طلقة، ولو قال: مثقالين، يقع طلقتان، ولو قال: ثلاثة مثاقيل، يقع الثلاث وكذلك خمسة مثاقيل.

ولو قال: يا مائة طالق، أو: أنت مائة طالق، طلقت ثلاثاً.

ولو قال: أنت طالق كمائة، قال ابن الصباغ: عندي أنها تطلق ثلاثاً.

وفي "التتمة" حكاية وجهين:

أحدهما: موافق لاختيار ابن الصباغ.

والثاني: أنها تطلق طلقة.

ص: 26

قال: وإن قال: أنت طالق كل الطلاق، أو أكثر الطلاق، طلقت ثلاثاً، لأن الثلاث كله وأكثره، والمراد بالأكثر ها هنا أكثر ما يملك الزوج إيقاعه من الطلاق على وزان قولنا: أكثر الحيض، وأكثر النفاس، وأكثر مدة الخيار كذا، والمراد أقصى ما يثبت الشرع له هذا الحكم كذا.

واعلم أن بعض المشتغلين بالفقه يستشكل وقوع الثلاث بقوله: أنت طالق أكثر الطلاق؛ فإن لفظة [ففيه] أكثر تستدعي أن يبقى بقية، كما إذا قال: لفلان أكثر هذه الدار؛ فإنه لا يتناول كلها، وإذا كان كذلك فينبغي أن تطلق طلقتين؛ إذ به يتحقق هذا الوصف.

وجوابه ما ذكرناه.

ويمكن أن يجاب عنه بوجه آخر: وهو أنه لو قال لها: أنت طالق أقل الطلاق طلقت طلقة، ولو قال لها: أوسط الطلاق، وأراد في العدد طُلِّقَتْ طلقتين، وقد صرح بذلك القاضي الحسين [فيما إذا] قال: أكثر الطلاق، [و] لو أوقعنا به طلقتين، لزم أن نسوي بين [قوله: أوسط، وبين قوله: أكثر] والتفاوت بينهما ظاهر.

وفي التعليق للقاضي- أيضاً-: أنه إذا قال: أوسط الطلاق، وأراد الأوسط في الطلاق دون الأطول؛ فلا يقع إلا واحدة، وقد أجاب بعضهم [عن هذا] السؤال بأن قوله: أكثر الطلاق، أراد به: الأكثر بالنسبة إلى طلاق العبد؛ فإن العبد يملك طلقتين، والحر ثلاثاً؛ فهو على وِزَان- قولك: هذا أكثر من هذا، وهذا فيه نظر؛ من حيث إنه لو كان ذلك المراد، لزم أن يقع بقوله: أنت طالق أقل الطلاق طلقتان، وليس الأمر كذلك كما نقلناه، والله أعلم.

فرع: لو قال: أردت بقولي: أكثر الطلاق: أكثر الثلاث يتجه في هذه الصورة أن يقبل قوله باليمين؛ لأن اللفظ يحتمل ذلك، وتقع طلقتان؛ لأن وصف الأكثر بهذا التفسير يصدق بالزيادة على النصف ولا سبيل إلى إيقاع ما دون الطلقتين؛ لما تقدم [من] أن الطلاق لا يتبعض؛ ولا إلى إيقاع ما زاد عليهما؛ لأنه في محل الشك،

ص: 27

فيقع طلقتان، اللهم إلا أن يريد زيادة على طلقتين، فحينئذٍ يقع الثلاث؛ وهذا أبديته تفقهاً، ولم أره منقولاً، فليتأمل.

ولو قال: أنت طالق [أكثر الطلاق، أو أكمله أو أتمه،] أو أشده، أو أغلظه- لم يقع إلا واحدة.

قال: وإن قال: أنت طالق أو لا؟ لم يقع شيء؛ لأن ذلك استفهام لا إيقاع.

وفي الرافعي في كتاب الإقرار: أنه إن قال ذلك في معرض الإنشاء وقع؛ كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً لا تقع عليك، وإن قاله في معرض الإخبار لم يقع.

ولو قال: أنت طالق واحدة؛ أو لا شيء، قال ابن الصباغ: الذي يقتضيه قياس قول أبي العباس: أنه لا يقع شيء؛ لأن قوله: واحدة صفة للطلاق الموقع، وصفة الشيء ترجع إليه؛ فصار كقوله أنت طالق أو لا شيء؟.

ولو قال: أنت طالق أوَّلاً بتشديد الواو، وهو يعرف العربية، وقع الطلاق؛ لأن معناه: أنت [طالق] أول في الطلاق وكذلك لو قال: أن طالق لا؛ لأن حرف لا وحده ليس موضوعاً للاستفهام؛ فكان المقصود منه رفع مقتضى الكلام.

قال: وإن قال: أنت طالق طلقة لا تقع عليك، طلقت طلقة؛ لأنه أوقع الطلاق، ثم أراد رفعه بالكلية، والطلاق لا يرتفع بعد وقوعه.

وقولنا: بالكلية نحترز به عما إذا قال: أنت طالق إن دخلت الدار؛ فإنه رفع للطلاق، ولكن ليس بالكلية، [بل] في الحال.

قال: وإن قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً، وقع الثلاث.

نقدم على [الكلام في] هذا الفصل مقدمة ينبني عليها أكثر الأحكام التي تأتي، [وهي أن] الاستثناء صحيح في الجملة، وهو في اللسان معهود، وفي الكتاب والسنة موجود، ثم هو على قسمين:

استثناء يمنع وقوع العدد.

واستثناء يرفع الأصل:

ص: 28

فالأول عبارة عما وراء المستثنى منه، وله ثماني صيغ:

[إلا وهي أم الباب- وغير، وسوى، وخلا، وعدا، وحاشا، وليس، ولا يكون، والاستثناء] ضد المستثنى عنه؛ [وإن كان المستثنى عنه] إثباتاً فهو نفي، وإن كان نفياً فهو إثبات؛ وهذا القسم إنما يستعمل، ويصح بشرطين:

أحدهما: ألَّا يكون مستغرقاً، فإن كان فهو باطل بالإجماع؛ على ما حكاه الإمام فخر الدين، وإذا بطل بقي المستثنى عنه بحاله.

والثاني: أن يكون متصلاً باللفظ، وقد قصد اللافظ الاستثناء من أول كلامه على الأصح- أعني: في الأخير- فلو انفصل، أو خلا عن القصد، لم يؤثر، وسكتة النفس، والعي لا تمنع الاتصال.

قال الإمام: والاتصال المعتبر ها هنا أبلغ مما يراعى بين الإيجاب والقبول؛ فإن الإيجاب والقبول صادران من شخصين، والمقصود ألا يتخللهما ما يشعر بإعراضه عن الجواب، والاستثناء والمستثنى منه صادران من شخص واحد، وقد يحتمل بين كلام شخصين ما لا يحتمل بين أبعاض [كلام شخص واحد]؛ ولذلك لا ينقطع الاتصال بين الإيجاب والقبول بالكلام اليسير [على الأصح، وفي الاستثناء ينقطع.

وحكى القاضي ابن كج وجهاً آخر: أن الكلام اليسير] الأجنبي بين المستثنى والمستثنى عنه لا يقدح.

وفي خلو أول الكلام عن قصد الاستثناء وجه: أنه لا يضر؛ إذا وجد في أثنائه.

ولو وجد قصد الاستثناء بعد تمام المستثنى منه، لم يؤثر على الأصح.

وادعى أبو بكر الفارسي فيه الإجماع.

وحكي عن أبي إسحاق أنه يؤثر.

والقسم الثاني من الاستثناء: ما يرفع الأصل: كقوله لزوجته: أنت طالق إن شاء الله، وسيأتي الدليل على اعتباره، إن شاء الله تعالى.

قال مجلي: وفي تسمية هذا القسم استثناء تساهل؛ إذ حقيقة الاستثناء ما كان بأحد الصيغ الثمانية المقدم ذكرها، وليس هذا كذلك؛ فإن هذه الصيغة [[صيغة

ص: 29

تعليق] الطلاق على الشروط: كقوله: إن دخلت الدار، ونحو ذلك، وإذا انتظمت هذه الصيغة] تعلق الطلاق بالمشيئة؛ فلا يقع إلا بعد حصول الشرط، وهو المشيئة كالطلاق المعلق على دخول الدار، لا يقع قبل [دخول الدار].

ثم لا سبيل لنا إلى الإطلاع على حصول المشيئة؛ فامتنع وقوع الطلاق؛ لعدم العلم بحصول الشرط؛ وبهذا فارق الاستثناء المستغرق إذا وقع الطلاق ثم رام رفعه بالكلية، فلم يرتفع.

وقال الإمام: لا يبعد عن اللغة تسمية كل تعليق استثناء؛ فإن قول القائل: أنت طالق يقتضي وقوع الطلاق من غير تقييد بقصد، فإذا علقه بشرط فقد ثناه عن مقتضى إطلاقه؛ كما أن قول القائل: أنت طالق ثلاثاً [إلا طلقة] يثني اللفظة عن مقتضاها.

وفي الحلية حكاية وجهين:

أحدهما: أن هذه الصيغة صيغة استثناء تمنع انعقاد [اللفظة، فتصير اللفظة بوجودها] كأن لم تكن.

والثاني: حكاه عن أبي إسحاق: أنه شرط، وينعقد منه على الشرط، ولكن يمتنع الوقوع؛ لعدم الشرط، وأسند ذلك إلى الحاوي.

قال مجلي: ولم أر هذا الخلاف إلا بعد أن وقع لي ما ذكرته من الاستدراك.

ثم هذا القسم يعتبر فيه الاتصال لفظاً، و [اقتران القصد] بأول الكلام كما ذكرناه في القسم الأول؛ قاله الرافعي، وألحق به سائر التعليقات، وهو قضية ما في "التتمة" في كتاب الأيمان.

وقال مجلي: لم أر للشيخ أبي حامد الإسفراييني في التعليق اشتراط قصد، وفيما ذكر نظر؛ فإن الأشبه على قولنا: إنه من قبيل التعليق؛ كقوله: إن دخلت الدار، وتعليق الطلاق على الشرط لا يفتقر إلى قصد، ولم يذهب إليه ذاهب، ولو ذهب إليه قائل لكان باطلاً؛ لأن وقوع الطلاق يتبع الصفات، والإيقاع يترتب في صورة التعليق على وجود الشرط؛ فيتبعه، ولم يشترط وجود النية؛ كما يتبع الوقوع وجود اللفظ المنجز

ص: 30

وإن لم تحصل نية في الإيقاع؛ هذا على قولنا: إنه تعليق، وكذلك يجيء على قولنا: إنه استثناء؛ فإن الاستثناء بصيغ الاستثناء من الأعداد، ولا أعلم خلافاً فيها، ولم أر أحداً من الأصحاب ذهب إلى اشتراط ذلك فيه، والمطلوب منهما واحد، لأن هذا يرفع الجميع، والاستثناء بصيغة يرفع البعض؛ فاستويا في المقصود.

نعم: يشترط القصد إلى إيجاد اللفظ؛ لينفصل عمن عادته التلفظ به؛ كمن يقول: إن شاء الله تعالى عادة في كل شيء؛ على سبيل التبرك؛ هذا آخر كلامه.

[قلت: والجواب عنه: أن مراد الأصحاب في اشتراط النية: أن تكون نية التعليق مقترنة بأول لفظه؛ كما يشترط ذلك في المشيئة، حتى لو لم تكن موجودة عند قوله: أنت طالق، [و] وجدت عند قوله: إن دخلت الدار، وقع الطلاق قبل الدخول على الأصح، وإذا كان كذلك اندفع ما ذكره، والله أعلم].

عدنا إلى مسألة الكتاب: فإذا قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً، طلقت ثلاثاً؛ لما ذكرناه.

ووجهه في الذخائر بأن حقيقة الاستثناء إخراج بعض ما تناوله اللفظ: كقوله: جاءني القوم إلا زيداً؛ فإذا كان مستغرقاً خرج عن حقيقته، وصار رفعاً لما أوقعه من الطلاق، ورفع الطلاق بعد إيقاعه لا يجوز.

فإن قيل: هذا يقتضي ألا يصح الاستثناء مطلقاً، وإن لم يكن مستغرقاً؛ فإنه إذا قال: أنت طالق ثلاثاً، فقد أوقع الثلاث، فإذا قال: إلا طلقتين، أو: إلا واحدة، فقد رفع باستثنائه ما أوقعه؛ فلا يصح؛ لما ذكرتموه.

قال مجلي: وطريق الجواب عنه: أن الاستثناء مع المستثنى منه كالجملة الواحدة، وهو عبارة عما بقي بعد الاستثناء فإذا قال: له علي عشرة إلا درهماً، كان كقوله: له على تسعة، فأفاد مجموع الكلام، وإذا كان مستغرقاً: كقوله: ثلاثاً إلا ثلاثاً، لم يبق للفظ فائدة، وصار تشبيهاً بالعبث؛ كقوله: ثلاثاً لا تقع عليك؛ فافترقا.

ولو [قال]: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين وواحدة، فوجهان:

أحدهما: تقع ثلاث طلقات.

ص: 31

والثاني: طلقة.

وكذا لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة وواحدة وواحدة، فمن جمع أوقع الثلاث؛ لكونه مستغرقاً، ومن فرق أوقع طلقة، وأعمل الاستثناء بين المتقدمتين وصار كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا طلقة وطلقة فإنه يقع طلقة.

وفي الرافعي حكاية وجه في هذه المسألة الأخيرة: أنه يقع الثلاث.

فرع: لو قال: كل امرأة لي طالق إلا عمرة، ولا امرأة له سواها، وقع عليها الطلاق؛ لاستغراق الاستثناء، بخلاف ما لو قال: النساء طوالق إلا عمرة، ولا زوجة له سواها؛ فإنها لا تطلق؛ لأنه لم يضفهن إلى نفسه، حكاه الرافعي عن القفال بعد الكلام في النية في الكناية.

قال: وإن قال: أنت طالق ثلاثاً إلا نصف طلقة، وقع الثلاث؛ لأنه نفى نصف طلقة؛ فيكمل.

وحكى أبو علي من الخراسانيين وجهاً: أنه تقع طلقتان، وجعل استثناء النصف كاستثناء الكل؛ كما أن إيقاع النصف كإيقاع الكل، والظاهر الأول؛ لأن التكميل إنما يكون في طرق الإيقاع؛ تغليباً للتحريم.

ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا نصفاً، يراجع:

فإن قال: عنيت: إلا نصفها، يقع طلقتان.

وإن قال: عنيت نصف طلقة، طلقت ثلاثاً، على الأصح.

وإن قال: لم أرد شيئاً، حمل على استثناء النصف من الجميع.

ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا طلقتين و [نصفا، فإن جعلنا استثناء النصف كاستثناء الكل، فهو كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا طلقتين وطلقة] وإن قلنا بالأصح، ففيه احتمالان للإمام:

أحدهما: يبطل ذكره النصف، ويبقى قوله: ثلاثاً إلا اثنتين.

والثاني: أنه يجعل ذكر النصف كذكر الكل؛ لأنه يؤثر في الإيقاع.

قال: وإن قال: أنت طالق وطالق وطالق إلا طلقة، طلقت ثلاثاً على المنصوص.

ص: 32

وقيل: تقع طلقتان؛ لأن الواو شركت بين الثلاثة؛ فصار كقوله: أنت طالق ثلاثاً، والأول هو الأصح، واختيار ابن الحداد؛ [لأن الجمل المعطوفة تفرد] بالحكم وإن كان الواو للجمع؛ ألا ترى أنه لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق، لا يقع إلا [طلقة] واحدة، ولا ينزل منزلة ما لو قال: أنت طالق طلقتين؟ وإذا كان كذلك رجع الاستثناء إلى ما يليه، وهو مستغرق؛ فيبطل.

وهكذا الحكم فيما لو قال: أنت طالق فطالق ثم طالق؛ حكاه البندنيجي في تعليقه.

قال: وإن قال: أنت طالق ثلاثاً إلا طلقتين، طلقت طلقة؛ عملاً بقضية الاستثناء؛ لأنه أثبت ثلاثاً، ونفى طلقتين؛ فبقيت طلقة.

ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، طلقت طلقتين، لما قلناه.

قال: وإن قال: أنت طالق ثلاثاً إلا طلقتين إلا طلقة، طلقت طلقتين؛ لما تقدم أن قاعدة الاستثناء أنه من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي.

والمعنى: ثلاثاً تقع، إلا اثنتين لا تقعان، إلا واحدة تقع من الاثنتين؛ فتضم إلى الباقية من الثلاث فتقعان.

وأبدى الحناطي وجهاً آخر على سبيل الاحتمال: أن الاستثناء الثاني ينصرف إلى [أول] اللفظ؛ وعلى هذا فيكون الحكم كما لو قال: إلا اثنتين وواحدة.

قال: وإن قال: أنت طالق خمساً إلا ثلاثاً، فقد قيل: تطلق ثلاثاً، وبه قال أبو علي الطبري، وابن أبي هريرة؛ لأن الزيادة على الثلاث لغو، لا سبيل إلى إيقاعها؛ فلا عبرة بذكرها.

وإذا كان كذلك، كان الاستثناء مستغرقاً، فيلغو.

وقيل: طلقتين، وبه قال ابن الحداد، وأكثر الأصحاب، ونص الشافعي في البويطي [يوافقه]؛ حيث [قال: إذا] قال: أنت طالق ستّاً إلا أربعاً، وقع عليها طلقتان، ووجهه: أن الاستثناء لفظي، فيتبع فيه موجب اللفظ، ولا فرق في اللغة بين اثنتين

ص: 33

وبين خمسة إلا ثلاثة.

وما ذهب إليه أبو علي جار في المسألة التي ذكرناها عن النص ونظائرها.

ولو قال: خمساً إلا اثنتين، فإن قلنا: إن الاستثناء يرجع إلى المجموع، طلقت ثلاثاً.

وإن قلنا: يرجع إلى المملوك، طلقت طلقة.

قال: وإن قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا اثنتين)، فقد قيل: يقع الثلاث، ويحكى عن [أبي علي] ابن أبي هريرة، لأن الاستثناء الأل مستغرق لاغ، والثاني مرتب على ما هو لغو، فيلغو أيضاً.

وقيل: [يقع] طلقتان؛ لأنه [لما] عقب الاستثناء بالاستثناء، خرج الأول عن أن يكون مستغرقاً، وكان ذلك استثناء ثلاث إلا اثنتين من ثلاث، وثلاث إلا اثنتين: واحدة؛ فكأنه قال: ثلاثاً إلا واحدة.

وقيل: طلقة؛ لأن الاستثناء الأول فاسد؛ لاستغراقه، فينصرف الاستثناء الثاني إلى أول الكلام، ويصير كأنه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين.

والأصح منهما في الرافعي الثاني؛ حكاية عن الإمام والغزالي.

فرع: لو قال لها: أنت إلا واحدة طالق ثلاثاً، حكي في المهذب عن بعض الأصحاب: أنه لا يصح الاستثناء، ويقع الثلاث، ثم قال: ويحتمل عندي: أنه يصح، ولا يقع إلا طلقتان.

قلت: وهذا موافق لما حكاه ابن الصباغ في كتاب الأيمان فيما إذا قال: له على [إلا] عشرة دراهم مائة درهم: أنه يلزمه تسعون، وعزاه إلى القاضي.

وحكى الرافعي في هذه الصورة وجهاً: أنه لا يصح الاستثناء، وهو موافق للوجه الأول في المسألة الأولى.

قال: وإن قال: أنت طالق ثلاثاً إلا أن يشاء أبوك واحدة فقال أبوها: شئت واحدة، لم تطلق، كما لو قال: أنت طالق إلا أن يدخل أبوك الدار، فدخل.

وعلى هذا لو شاء اثنتين أو ثلاثاً، لم يقع شيء أيضاً؛ لأنه شاء واحدة وزيادة.

وقيل: تقع اثنتان، ويكون تقدير الكلام: إلا أن يشاء أبوك واحدة؛ فلا تقع تلك

ص: 34

الواحدة، ويقع ما سواها؛ وهذا محكي في "التتمة".

وقيل: تقع واحدة، ويكون تقدير الكلام: إلا أن يشاء أبوك واحدة؛ فلا يقع الثلاث، وتقع الواحدة.

ومحل الخلاف عند الإطلاق، فلو قال: أردت المعنى الثاني أو الثالث، قُبِلَ.

ولو قال: أردت المعنى الأول، وفرعنا على الوجه الثاني أو الثالث، فهل يقبل منه، حتى لا يقع شيء؟ فيه وجهان:

أظهرهما: القبول.

ولو قال: أنت طالق واحدة إلا أن يشاء أبوك ثلاثاً؛ فإن شاء ثلاثاً، لم يقع شيء؛ جواباً على الوجه الأول، وهو الصحيح.

وإن لم يشأ [شيئاً]، أو شاء واحدة أو اثنتين، وقعت واحدة؛ كذا حكاه الرافعي، ولم يتعرض للتفريع على ما عدا القول الأول.

ويظهر أنا إذا فرعنا على القول الثالث: أنها تطلق ثلاثاً.

وعلى القول الثاني: أن الحكم مثل الأول.

ص: 35

والحكم فيما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا أن يشاء [زيد أو] تشائي كما لو قال: إلا [أن] يشاء أبوك.

قال: ولو قال: أنت طالق إن شاء الله تعالى، أو: أنت طالق إلا أن يشاء الله لم تطلق:

أما في] المسألة الأولى؛ فلما روى عن معاذ: أنه- عليه السلام قال له في حديث طويل: "إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فله استثناؤه، ولا طلاق فيه".

ولقوله- عليه السلام: "مَنْ أَعْتَقَ أَوْ طَلَّقَ، وَاسْتَثْنَى، فَلَهُ ثُنْيَاهُ".

ولأنه لما جاز تعليق جميع الأيمان من عتق، وطلاق، وغيره بالشروط، والصفات، كان تعليقها بمشيئة الله تعالى كذلك، وإذا جاز تعليقه بمشيئة الله تعالى، لم يقع.

وقد وجهه [بعض] الأصحاب بشيئين:

أحدهما- وهو طريقة المتكلمين من أصحابنا-: أنه إنما لم يقع؛ لأن هذا يقتضي مشيئة جديدة، ومشيئة الله- تعالى- قديمة، وإذا [لم] تتصور الصفة،

ص: 36

لا يقع الطلاق؛ كما لو قال لامرأته: إن شاء زيد فأنت طالق؛ فإنه يقتضي مشيئة جديدة من زيد، لا المشيئة الماضية.

والثاني- هو طريقة الفقهاء-: أنه لم يقع؛ لأنه علق الطلاق بالمشيئة، ونحن ما تحققنا المشيئة؛ فالطلاق لا يقع؛ لأن الأصل بقاء النكاح؛ كما لو قال [لها]: أنت طالق إن شاء زيد [ثم مات] زيد، ولم تتحقق مشيئته، لا يحكم بوقوع الطلاق؛ كذلك ها هنا.

واختار الحليمي التوجيه الثاني، واعترض على الأول بأن قضيته: أن يقع ثلاث طلقات فيما إذا قال: أنت طالق ثلاثاً في الأصل إن شاء الله تعالى، ثم قال: أنت طالق، [فإنا قد عرفنا] مشيئة الله- تعالى- حيث وقع الطلاق.

قال الرافعي: ولك أن تقول: إنما يلزم ذلك أن لو كان المعنى إن شاء الله أن تطلقي.

أما إذا كان المعنى: إن شاء الله أن تطلقي ثلاثاً؛ فلا يلزم.

ثم قال: والظاهر الثاني؛ لانصراف اللفظ إلى جملة المذكور.

ثم مشيئة الله تعالى وإن كانت قديمة، لكنها تتعلق بالحادث، ويصير الحادث عند حدوثه مراداً؛ فقوله: إن شاء الله تعليق بذلك التعليق المتجدد؛ هذا هو المشهور، والمنصوص عليه في المختصر وغيره.

ومن مقتضى التوجيه الأول: أن يكون في وقوع الطلاق في الحال قول كما في التعليق على صعود السماء، ونظائره على ما سيأتي، وقد حكى عن رواية صاحب التقريب و [رواية] الشيخ أبي علي، لكن أخذه بعضهم من نص مروي في الظهار: أنه لو قال: أنت علي كظهر أمي إن شاء الله: أنه يكون مظاهراً، ووجهه: أنه استثناء رفع الطلاق أصلاً ورأساً؛ فأشبه الاستثناء المستغرق.

وفرق الأصحاب بينه وبين الاستثناء المستغرق: بأن الاستثناء المستغرق كلام متناقض غير منتظم، وها هنا التعليق منتظم، والصفة المعلق عليها قد تعلم، وقد

ص: 37

تجهل، وإذا جهلت لم يحكم بنزول الطلاق.

و [فرقوا] بينه وبين الظهار بأن الظهار إخبار، والإخبار عن الواقع لا يتعلق بالصفات، بخلاف الإنشاء؛ وهذا القائل ذهب إلى أنه لو قال: على عشرة إن شاء الله تعالى تلزمه العشرة، ولا يعمل الاستثناء.

ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يقول: أنت طالق إن شاء الله، أو: إن شاء الله فأنت طالق.

وألحق في الشامل بهما إذا قال: إن شاء الله أنت طالق وذكر الحناطي في هذه اللفظة وجهاً آخر.

ولو قال: أنت طالق متى شاء الله، أو: إذا شاء الله، فهو كقوله: إن شاء الله.

فرع: من زيادات العبادي: إذا قال: أنت طالق اليوم طلقة إن شاء الله، [وإن لم يشأ فثنتين]، فلم يطلقها حتى مضى اليوم، طلقت طلقتين؛ لأن الله لو شاء واحدة، لأجراها على لسانه.

وأما في المسألة الثانية؛ فلأن عدم المشيئة غير معلوم؛ كما أن المشيئة غير معلومة.

ولأن الوقوع بخلاف مشيئة الله- تعالى- محال؛ فأشبه ما إذا قال: أنت طالق إن جمعت بين السواد والبياض؛ فإنه لا يقع.

وعن صاحب التقريب: أنه يقع؛ لأنه ربط الوقوع بما يضاده؛ لأن الوقوع بخلاف مشيئة الله تعالى محال؛ فكان كما إذا قال: أنت طالق طلاقاً لا يقع عليك.

وقرب الخلاف في المسألة من الخلاف في مسألة دور الطلاق من جهة أنه لو وقع الطلاق، لكان بمشيئة الله تعالى، ولو شاء الله عدم وقوعه لما وقع؛ لأن التعليق بعدم المشيئة قد يعكس، فيقال: إذا لم يقع لم يشأ الله وقوعه، وإذا لم يشأ [وقوعه، فقد] حصلت الصفة؛ فيجب أن يقع، لكن لو وقع لما وقع؛ لما تبين؛ فإن الشرط والجزاء متضادان لا يجتمعان؛ كما [أن] في مسألة الدور وقوع طلقة

ص: 38

في الحال وثلاث قبلها متضادان، وليس هذا كالتعليق باجتماع السواد والبياض؛ فإن التضاد هناك بين السواد والبياض، لا بين الشرط والجزاء.

قال: وإن قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فالمذهب أنه يقع، وكذلك حكاه في التهذيب، وهو اختيار ابن سريج، وادعى القاضي الحسين في التعليق: أنه القياس وإن كان قد حكى عند الكلام في تعليق الطلاق بمشيئتها: أنه لا يقع، وأنه لا فرق بين قوله: إن شاء الله، وبين قوله: إلا أن يشاء الله.

وحكي عن بعض أهل العلم أنه يقع، ووجهه: أنه أوقع الطلاق، وجعل المخرج عنه المشيئة، وأنها غير معلومة؛ فلا يحصل الخلاص، وصار كما لو قال: أنت طالق إلا أن يشاء زيد، فمات زيد، ولم تعلم مشيئته؛ فإنه يقع الطلاق.

وقيل: لا يقع؛ لأن هذه الصيغة- أيضاً- تعليق بعدم المشيئة؛ لأنها توجب حصر الوقوع في حال عدم المشيئة؛ فكان كالمسألة قبلها؛ وهذا ما حكاه القفال عن النص، واختاره، ورجحه الإمام والغزالي.

وفرق [بينه] وبين المسألة المستشهد بها- إن سلم الحكم فيها- بأنه إذا أوقع الطلاق عليها، وعلق منع الوقوع بمشيئة زيد، فيتصور وقوع الطلاق عليها من [غير] مشيئة زيد إذا لم يعلم بالتعليق، أو علم وسكت، ولو علم وشاء ألا يقع، لا يقع.

فأما إذا علق منع الوقوع بمشيئة الله تعالى؛ فلا يتصور وقوع الطلاق عليها [دون مشيئة من جهة الله تعالى؛ لأنه] ما من شيء في الكون يتصور وجوده إلا بمشيئة الله تعالى.

قال: وإن قال: أنت طالق إن شاء زيد، فمات زيد، أو جن-[أي]: قبل المشيئة، وكذا لو غاب- لم تطلق؛ لعدم وجود الشرط.

قال: وإن خرس فأشار، لم تطلق؛ لأن مشيئته كانت بالنطق عند التعليق، فتعلق بها، ولم توجد؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين في التعليق، وينسب إلى اختيار الشيخ أبي حامد.

ص: 39

[وقيل: يقع]، وهو الصحيح في المهذب والرافعي؛ لأنه [في] حال بيان المشيئة من أهل الإشارة، والاعتبار بحال البيان؛ ولهذا لو كان عند التعليق أخرس، ثم صار ناطقاً، [كانت] مشيئته بالنطق.

ولو سكر وأشار في حال سكره، فعلى الخلاف في أنه [هل] يسلك به مسلك الصاحي أم لا؟

ولو شاء وهو صبي، أو معتوه، فهل يقع؟ فيه وجهان:

والأصح في تعليق القاضي الحسين في باب ما يقع به الطلاق: أنه لا يقع.

ولو قال: [أنت طالق إن شاءت الملائكة] لم يقع؛ لأن لهم مشيئة، وحصولها غير معلوم؛ فصار كما لو قال:[أنت طالق] إن شاء الله.

ولو قال: أنت طالق إن شاء الحمار، فهو كما لو قال: إن طرت.

ولو قال: أنت طالق إن شئت أنا، فهو تعليق، فمتى شاء وقع.

ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء زيد، فمتى وجدت المشيئة في مدة العمر، لم تطلق، وإن لم توجد حتى مات، وقع الطلاق قبل عجزه عن المشيئة إذا اتصل العجز بالموت.

وقال القاضي الحسين في التعليق: عندي أن هذا لا يصح؛ لأنه أوقع الطلاق، وعلق منع الوقوع بمشيئة زيد، فإذا مات زيد [فيحكم بوقوع الطلاق من حين لفظه، وفي الحال يحال بينه وبينها، كما لو قال: إن كنت حاملاً فأنت طالق، وبان أنها حامل.

ولو مات زيد] ولم تعلم مشيئته ففي وقوع الطلاق وجهان:

الذي ذهب إليه الجمهور منهما، على ما حكاه الإمام، والأكثر، على ما حكاه الرافعي: أنه يقع، وهو ما حكاه القاضي الحسين في التعليق، وهو موافق لقول من قال بالوقوع فيما إذا قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، ويؤيده ما حكاه الغزالي في الأيمان عن نص الشافعي فيما إذا قال: لا أدخل الدار إلا أن يشاء زيد، ثم دخل، ومات [زيد] ولم يعرف أنه شاء أم لا؟ أنه يحنث.

ص: 40

والثاني- وهو الصحيح الذي رجحه الإمام-: أنه لا يقع.

تنبيه: حكى الرافعي: أن قول القائل: أنت طالق إلا أن يشاء الله، أو: إلا أن يشاء زيد، معناه: إلا أن يشاء وقوع الطلاق، كما أن قوله: إن شاء الله، معناه: إن شاء وقوع الطلاق؛ وحينئذ فالطلاق تعلق بعدم مشيئة الطلاق، لا [بمشيئة] عدم الطلاق، وعدم مشيئة الطلاق تحصل بأن يشاء عدم الوقوع، وبألَّا يشاء شيئاً أصلاً؛ وعلى التقديرين يقع الطلاق، وإنما لا يقع إذا شاء زيد أن يقع.

وذكر بعضهم: أن معناه: أنت طالق إلا أن يشاء زيد ألا تطلقي.

وعلى هذا فلو شاء أن تطلق، تطلق؛ وكذلك ذكره في التهذيب، والصحيح الأول إلا أن يقول المعلق: أردت الثاني.

فروع:

لو قال: أنت طالق إلا أن أشاء، أو [يبدو لي]، قال في التهذيب: يقع في الحال؛ لأنه ليس بتعليق؛ لأنه أوقع الطلاق، وأراد رفعه، إذا بدا له؛ وهذا يوافق أحد الاحتمالين اللذين أبداهما صاحب التقريب فيما إذا قال الناذر: لله علي أن أتصدق بعشرة دراهم إلا أن يبدو لي، ثم بدا له على ما حكاه الإمام عنه في الاعتكاف.

وحكى عن شيخه أن الأوجه إبطال هذا الاستثناء، لكن قد نص الشافعي في الإقرار- على ما حكاه في الإشراف-: أنه لو قال: لفلان على ألف درهم إلا أن يبدو لي، فهو استثناء صحيح، ومقتضى ذلك: ألا يقع الطلاق هنا إذا بدا له؛ كما أبداه الرافعي احتمالاً من عند نفسه؛ قياساً على ما لو قال: إلا أن يشاء الله، وهو ما حكاه في "التتمة" في قوله: إلا أن أشاء أنا؛ على أن الشيخ أبا الطيب خالف هذا النص، ولم يصح الاستثناء على ما حكاه في الإشراف [أيضاً].

وإيراد صاحب الإشراف يقتضي ترجيح النص، ويدل عليه- أيضاً- أنه ذكر في الأصول التي ساقها؛ لبيان القواعد كل قول في عقد إيجاب أو إقرار إذا عقب بالاستثناء، أو بالتخصيص، أو بقوله: إلا أن يبدو لي- أثر فيه هذه المعاني، إلا إذا قال: (يا زانية طلقتك إن شاء الله؛ فإنه قاذف، ولا طلاق على ما حكاه ابن سريج، لأن

ص: 41

قوله: يا زانية اسم فيه خبر عن فعل، والاستثناء لا يرفع الاسم.

ولو قال: أنت طالق لولا أبوك لطلقتك، لم تطلق في الظاهر، ولا في الباطن؛ [إن] أراد أن عدم التطليق لأجل الأب، وإن لم يرد ذلك، وقع في الباطن، وإذا صرح بذلك وآخذناه [به] في الظاهر أيضاً.

ولو قال: أنت طالق لولا [أبوك، فالأصح] أن الحكم كما في المسألة قبلها.

وفي "التتمة" حكاية وجه آخر؛ أنه يقع.

قال: وإن قال: أنت طالق ثلاثاً واستثنى بعضها بالنية، لم يقبل في الحكم؛ لأن اللفظ أقوى من النية، بدليل أنه يقع به الطلاق من غير نية، والنية لا يقع بها الطلاق من غير لفظ، فلو أعملنا النية، لرفعنا القوي بالضعيف، وذلك لا يجوز؛ كنسخ الكتاب بالسنة، نعم: هل يدين؟ فيه وجهان.

قال: وإن قال: نسائي طوالق، واستثنى بعضهن بالنية، لم يقبل في الحكم؛ لأن اللفظ عام، متناول لجميعهن فلا يمكن صرف مقتضاه بالنية، كما لو قال: أنت طالق، وقال: أردت إذا جاء رأس الشهر، ويدين في البطن بخلاف المسألة قبلها على أحد الوجهين، [وبخلاف ما لو قال: ثلاثتكن طوالق، ونوى: إلا فلانة؛ حيث قلنا: لا يدين على أحد الوجهين].

والفرق أن الثلاث نص في العدد المعلوم، واستعمالها في بعض العدد غير معهود؛ بخلاف استعمال اللفظ العام في الخاص؛ فإنه معهود.

وفي "التتمة": أنه لو قال: أربعتكن طوالق إلا فلانة، لم يصح الاستثناء، وكذلك إذا نواه لا يدين.

وفي "الوسيط" نسبة ذلك إلى القاضي.

وفي "التهذيب": أنه يصح.

قال: وقيل: يقبل في [النساء]، وهو ظاهر النص؛ لأن اللفظ يحتمل العموم والخصوص، فإذا ادعى إرادة أحدهما قبل.

ص: 42

قال: وليس بشيء؛ لأنه وإن احتمل الخصوص إلا أن الظاهر العموم؛ فلم يقبل في الحكم دعوى الخصوص، وأيضاً فإن من أخذ من ظاهر كلام الأصوليين أن العموم يخصص، فلابد معه من دليل على الخصوص، ولا دليل يدل عليه؛ فتعين حمله على العموم، وأول النص على أنها لا تطلق في الباطن.

ولا فرق في جريان الخلاف بين ألا يكون ثمَّ قرينة تصدقه، وبين أن تكون، كما إذا خاصم إحدى نسائه، فقالت: تزوجت علي؟، فقال في إنكاره: كل امرأة لي طالق، ثم قال: أردت [غير المخاطبة].

لكن الأظهر عند القفال والمعتبرين: أنه لا يقبل في الظاهر إن لم تكن [ثم] قرينة، ويقبل إن وجدت قرينة؛ وهذا اختيار القاضي [الروياني.

ومن هؤلاء من حمل النص على ما إذا وجدت القرينة.

وفي تعليق القاضي] الحسين أه لو قال: نسائي [طوالق]، وعزل ثلاثاً بالقلب، لم يقبل وجها ًواحداً؛ لأن العموم إنما يصح إرادة الخصوص به بشرط أن يبقى على صيغة العموم، وإذا عزل عن الأربع ثلاثاً، أخرجه عن صيغة العموم.

وفي "الرافعي": [أن] في بعض التعاليق: أن القاضي الحسين فرق بين أن يقول: كل امرأة لي طالق، ثم عزل بعضهن بالنية، وبين أن يقول: نسائي [طوالق]، وعزل ثلاثاً منهن بالنية؛ فإنه لا يقبل في المسألة الأخيرة؛ لأن اسم النساء لا يقع على الواحدة، ولو قال: عزلت واحدة، يقبل.

وذكر تفريعاً على هذا وجهين فيما لو عزل اثنتين، ومثل هذا الخلاف في القبول ظاهر.

أما إذا قال: أنت طالق، وكان يحل وثاقها، وادعى أنه أراد بقوله: أنت طالق من الوثاق- فالظاهر القبول.

ولو قال: أنت طالق، ونوى: إن شاء الله، فالمشهور في كتب كبراء المذهب: أنه لا يدين، ويدين في قوله: أردت عن وثاق، أو: إن دخلت الدار، وإن شاء زيد؛ وهذا ما

ص: 43

أورده صاحب التهذيب، وذكر القاضي الروياني أنه ظاهر المذهب.

وفرقوا بين قوله: إن شاء الله، وبين سائر الصور بأن التعليق [بمشيئة الله تعالى يرفع حكم الطلاق جملة؛ فلابد فيه من اللفظ، والتعليق] بالدخول لا يرفع جملته ولكن يخصصه بحال دون حال، وقوله: من وثاق تأويل، وصرف اللفظ من معنى إلى معنى؛ فكفت فيه النية وإن كانت ضعيفة، وشبه ذلك بأن الفسخ لما كان رافعاً للحكم، لم يجز إلا باللفظ، والتخصيص يجوز بالقرائن كما يجوز باللفظ.

وفي "الوسيط": أن الأقيس: أنه [لا يدين في] قوله: نويت إن دخلت الدار؛ لأنه ليس يحتمله اللفظ، ولا ذكر ما يدل عليه، وليس كما لو قال: أنت طالق، ونوى طلاقاً من وثاق؛ فإن اللفظ كالمجمل من حيث اللغة لولا تخصيص الشرع.

وقسم القاضي الحسين ما يبديه الشخص، ويدعيه من النية، مع ما أطلقه من اللفظ إلى أربع مراتب، ويمكن أن يضاف إليها مرتبة [أخرى] خامسة:

إحداها: أن يكون ما يبديه رافعاً لما صرح به، كما إذا قال: أنت طالق، ثم قال: أردت طلاقاً لا يقع عليك، أو قال: لم أرد إيقاع الطلاق، أو نوى استثناء مستغرقاً- فلا مبالاة بما يقوله لا ظاهراً ولا باطناً؛ وكذا قوله: إن شاء الله على الأصح.

والثانية: أن يكون ما يبديه مقيداً لما تلفظ به مطلقاً؛ كما إذا قال: أنت طالق، ثم قال: أردت عند دخول الدار، ومجيء الشهر- لا يقبل في مثل ذلك قوله ظاهراً، وفي التديين خلاف.

والثالثة: أن يرجع ما يدعيه إلى تخصيص عموم، كقوله: نسائي طوالق، ويريد: إلا فلانة؛ فهذا يدين فيه، وفي القبول ظاهراً خلاف.

والرابعة: أن يكون اللفظ محتملاً للطلاق من غير شيوع وظهور فيه، وفي هذه الدرجة تقع الكنايات، ويعمل فيها بموجب النية.

والمرتبة الخامسة: أن يكون ما يبديه ينقل اللفظ من حال إلى حال، كما إذا نوى الطلاق من الوثاق؛ فإن وجدت قرينة حل الوثاق، قبل في الظاهر على الأظهر، وإن لم تكن قرينة لا يقبل في الحكم ويدين.

ص: 44

قال في التهذيب: وضابط ما يدين [فيه]: أن كل ما لو وصله باللفظ مطلقاً يقبل في الحكم، فإذا نواه بقلبه لا يقبل في الحكم فيما له، ويدين في الباطن إلا في الاستثناء؛ وهذا ما تقدمت الإشارة إليه من قبل.

فروع:

الاستثناء كما يمنع انعقاد اليمين، يمنع صحة التعليق إذا قال: أنت طالق ثلاثاً وثلاثاً إن شاء الله أو: واحدة [وثلاثاً- أو ثلاثاً وواحدة- إن شاء الله].

قال ابن الصباغ: الذي يقتضيه المذهب أنه لا يقع شيء، وتابعه المتولي.

قال الرافعي: وقد ذكرنا الانصراف إلى الأخيرة وحدها، وكأنه يشير إلى ما تقدم في الاستثناء.

قال: ويوافق هذا ما ذكره في التهذيب: أنه لو قال: حفصة طالق، وعمرة إن شاء الله، فيرجع الاستثناء إلى عمرة وحدها، أو إليهما جميعاً؟ فيه وجهان، والأصح [منهما] الأول.

ولو قال: أنت طالق واحدة واثنتين إن شاء الله، ففي النهاية تخريجه على الوجهين: إن جمعنا المفترق لم يقع شيء، وإن لم نفرق وقعت واحدة.

ولو قال: أنت طالق واحدة ثلاثاً إن شاء الله، فعن القفال: أنه لا يقع شيء.

ولو قال: أنت طالق ثلاثاً ثلاثاً إن شاء الله، فكذلك الجواب، وفي معناه ما لو قال: أنت طالق أنت طالق [أنت طالق] إن شاء الله وقصد التأكيد.

ولو قال: يا طالق إن شاء الله، وقع على الأظهر.

وميل الإمام إلى عدم الوقوع.

وقد ذكر الرافعي في كتاب الأيمان فروعاً عن القاضي أبي الطيب، أحببت نقلها [هنا]؛ فإنه أمر بها:

فمنها: لو قال: إن شاء الله فأنت طالق وعبدي حر لا يقع الطلاق، ولا تحصل الحرية؛ وكذا لو قال: إن شاء الله أنت طالق عبدي حر من غير واو؛ لأن حروف العطف قد تحذف مع إرادة العطف، كقولنا: التحيات المباركات.

ص: 45

قال الرافعي: وليكن هذا فيما إذا نوى صرف الاستثناء إليهما جميعاً، فإن أطلق فيشبه [أن يجيء] خلاف في اختصاصه بالجملة الأولى، أو ينصرف غليهما جميعاً.

ولو قال: أنت طالق وعبدي حر إن شاء الله تعالى، [فيجيء خلاف في أنه يختص بالجملة الثانية، أو ينصرف غليهما.

ولو قال: عبدي حر إن شاء الله]، وامرأتي طالق، ونوى صرف الاستثناء إليهما جميعاً، قال ابن كج:[يصح، والله أعلم].

ص: 46