المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب من تصح يمينه، وما تصح به اليمين - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٤

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب من تصح يمينه، وما تصح به اليمين

‌كتاب الأيمان

"اليمين" و"الحلف" و"الإيلاء" و"القَسَم": ألفاظ مترادفة على معنى واحد، ورد بها الكتاب العزيز.

وأصل "اليمين" في اللغة: اليد اليمنى، وأطلق على الحلف يميناً؛ لأن العرب كانوا إذا تحالفوا أخذ كل واحد منهم بيمينه يمينَ صاحبه.

وقيل: لأنها تحفظ الشيء على الحالف كما تحفظ اليد اليمنى الشيء.

وهي في الشرع: عبارة عن تحقيق ما يحتمل المخالفة، أو تأكيده، بذكر اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته.

وزاد بعضهم: لا في معرض اللغو والمناشدة.

قال الرافعي: ولا حاجة إلى ذلك:

أما اللغو؛ فلأنه يشبه أن يقال: لغو اليمين يمين، لكن لا [تتعلق به الكفارة]، ويدل عليه قوله تعالى:{بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] أثبت اليمين مع اللغو.

وأما المناشدة فلا تتحقق المناشدة بذكر الله تعالى، وإنما يسأل من غير التحقيق؛ فقوله:"المخالفة أو تأكيده" يخرج بقوله: "تحقيق ما".

‌باب من تصح يمينه، وما تصح به اليمين

ذكر الشيخ- رحمه الله في هذا الباب ركنين من أركان اليمين، وهما: الحالف، والمحلوف به، وأفرد للركن الثالث، وهو: المحلوف عليه- الباب الثاني؛ لطوله كما فعل في أركان البيع.

قال: تصح اليمين من كل بالغ، عاقل، مختار، قاصد إلى اليمين، أي: سواء كان مسلماً أو كافراً؛ لعموم قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} إلى آخرها [البقرة: 225]، أخبر الله- تعالى- أنه يؤاخِذ باليمين،

ص: 402

وأوجب فيه الكفارة؛ فثبت أن لها حكماً في الشرع.

قال: فأما الصبي فلا تصح يمينه؛ للخبر المشهور، ولأنه قول يتعلق به وجوب حق؛ فلا يصح من الصبي كالبيع.

قال: ومن زال عقله بنوم أو مرض لا تصح يمينه: أما النائم؛ فللحديث المشهور، وأما المريض؛ فبالقياس عليه، وفي معناهما: من شرب دواء له إليه حاجة، فزال عقله.

واعلم أن كلام الشيخ ها هنا يدل على أن النوم والإغماء يزيلان العقل، وقد تقدم الكلام على ذلك في كتاب الطلاق، ونَبَّه- رضي الله عنه بما ذكره من عدم صحة يمين النائم على عدم صحة يمين المجنون من طريق الأَوْلى؛ من حيث إن النائم قد اختُلِفَ في أنه مكلف أم لا، ولم يختلف في المجنون.

قال: ومن زال [عقله] بمحرم صحت يمينه، وقيل فيه قولان، وتوجيههما قد سبق في كتاب الطلاق.

قال: ومن أكره على اليمين لم تصح يمينه؛ لما روى واثلة بن الأسقع وأبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [لَيْسَ عَلَى مَقْهُورٍ يَمِينٌ".

ولأنه قول حمل عليه بغير حق؛ فلم يصح منه كالمسلم إذا أكره على كلمة الكفر.

وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب حكاية قول: إن يمينه تنعقد، وإليه ذهب أبو حنيفة.

قال: ومن لم يقصد اليمين، فسبق لسانه إليها، أي: على العادة: كقول الإنسان: لا والله، وبلى والله، أو قصد اليمين على شيء، فسبق لسانه إلى غيره- لم تصح يمينه؛ لقوله تعالى:{لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225].

ص: 403

قال: وذلك لغو اليمين الذي لا يؤاخذ به؛ لأن اللغو في كلام العرب غير المعقود عليه؛ كما حكاه الشافعي، ويؤيده ما رواه بإسناده عن عائشة- رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال:"لَغْوُ الْيَمِيْنِ قَوْلُ الْإِنْسَانِ: لَا وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ".

ولأن ما سبق إليه اللسان من غير قصد لا يؤاخذ به؛ كما لو سبق لسانه إلى كلمة الكفر.

وفي الرافعي أن ابن كج حكى عن ابن سريج أنه أبدى احتمالاً في لغو اليمين أن يحلف على حق يعتقد أنه صادق فيه فيتبين أنه كاذب: فلا مؤاخذة فيه بإثم ولا كفارة. وما قاله مستمد مما حكاه ابن الصباغ عن الشافعي: أن جماع اللغو هو الخطأ.

ثم لتعلم أن مجمل الكلام في لغو اليمين ما إذا كانت اليمين بالله تعالى، أما إذا كانت بالطلاق أو العتاق، وادعى أنه لم يقصد اليمين- فلا يقبل قوله في الحكم؛ لتعلق حق الآدمي بهما؛ بخلاف اليمين بالله تعالى فإنه لا يتعلق بها حق آدمي.

قال ابن الصباغ: وينبغي إذا كان الحلف على ترك وطء زوجته ألا يصدق إيضاً، وهذا ما حكاه المتولي والرافعي.

ووجه الإمام عدم القبول في الطلاق والعتاق بأن الظاهر يكذبه ومن كذبه الظاهر لا يصدق، واللفظ صريح في وضعه.

قال: وتصح اليمين على الماضي والمستقبل، أي: إذا كان ممكناً.

أما صحتها على المستقبل إذا كان ثابتاً، فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم [قال:] "وَاللهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً، وَاللهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً"، وقال في الثالثة: "إِنْ

ص: 404

شَاءَ اللهُ تَعَالَى"، فلما حلف واستثنى ثبت أن للحالف حكماً في الشرع.

وأما إذا كان نفياً؛ فلقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226].

وأما صحتها على الماضي- نفياً كان أو إثباتاً- فلقوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا} [التوبة: 74]، ولقوله:{وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14].

وأما إذا كان المحلوف عليه غير ممكن، كما إذا حلف: ليصعدن السماء، أو ليقلبن هذا الحجر ذهباً، وما جانس ذلك- فهل ينعقد يمينه؟ فيه وجهان، وهما جاريان فيما لو حلف: لا يصعد السماء، ولا يقتل ميتاً، كذا حكاه المتولي.

والأصح في "التهذيب" فيما إذا حلف ألا يفعل عدمُ الانعقاد، والمذكور منهما في "الحاوي": انعقاد اليمين كما في اليمين الغموس.

وعلى هذا: فهل تجب الكفارة في الحال أو قبيل الموت؟ فيه وجهان، أشبههما، وبه أجاب الغزالي والروياني: الأول. وهذا فيما إذا لم يقيد الفعل بزمان، أما إذا قيده فقال: لأصعدن السماء غداً، فتجب الكفارة في الحال، أو عند مجيء الغد؟ الحكم فيه كما لو حلف: ليأكلن هذا الرغيف غداً، فأكله في يومه، وسنذكره.

قال: فإن حلف على ماضٍ وهو صادق فلا شيء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل اليمين في جَنبة المدعَى عليه، ولا يجوز أن تجعل عليه إلا مع صدقه.

وروي عن عمر- رضي الله عنه أنه طلع المنبر، وفي يده عصا، وقال:"يأيها الناس، لا يمنعنَّكم الأيمان [من حقوقكم]؛ فوالذي نفسي بيده إن في يدي عصا".

قال: وإن كان كاذباً، أي: عالماً بكذبه حالة اليمين- أثم؛ لكذبه وتجرئه على

ص: 405

عظمة الله تعالى.

قال: وعليه الكفارة؛ لعموم قوله- تعالى-: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وهذا حالف؛ فلزمته الكفارة.

ولأنه قد وجد اليمين بالله والمخالفة مع القصد والاختيار [؛ فلزمته الكفارة] كاليمين على المستقبل.

ولأنها يمين تتعلق بالحنث المستقبل؛ فوجب أن تتعلق بالحنث الماضي؛ كاليمين بالطلاق والعتاق؛ [فإنه لو حلف: لقد دخل الدار، ولم يدخلها- لزمه الطلاق والعتاق]، وهذا وفاق؛ قاله الماوردي.

أما إذا كان جاهلاً بكذبه مثل أن حلف: ما زيد في الدار، وكان في الدار، لكنه نسي، ثم ذكر، أنه حلف على مبلغ علمه أن الذي في الدار زيد، فإذا هو عمرو- فلا إثم عليه، وفي وجوب الكفارة خلاف يأتي مثله من بعد، إن شاء الله تعالى.

قال: وهذه اليمين هي اليمين الغموس، أي: التي تغمس صاحبها في الإثم، أو يستحق بسببها الغمس في النار، وهي بفتح الغين.

واستدل الأصحاب على ذلك بما روى [عن] عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ:"جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْكَبَائِرُ؟، قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟، قَالَ: ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟، قَالَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ"[قال الشعبي: واليمين الغموس]: التي يقتطع بها مال امرئ مسلم وهو فيها كاذب.

وفي الاستدلال بذلك نظر؛ من حيث إن الدعوى تشمل ما إذا حلف على مال أو غير مال، وما إذا حلفه الحاكم أو غيره، كما صرح به البندنيجي.

والحديث دالٌّ على اليمين التي يقتطع بها مال امرئ مسلم، وعند عدم المال ليست الجريمة كالجريمة؛ فلا يقاس عليها ما هو دونها.

ص: 406

تنبيه: المراد بكونه صادقاً فيما ذكرناه: أن تكون يمينه موافقة لما قصده [وإن كان مخالفاً لظاهر لفظه؛ إذا كان ما قصده] من مجاز اللفظ، ولم يكن المستحلف له حاكماً، فمن ذلك ما إذا حلف: ما [أكل ولا شرب] في يومه، وأراد: بمكة، أو: على ظهر الكعبة- لا حنث عليه.

وكذا لو حلف: ما كاتبت فلاناً، ولا عرفته، ولا أعلمته، ولا سألته حاجة، ونوى بالمكاتبة: مكاتبة العبد، وبالتعريف: ما جعله عريفاً، وبالإعلام: ما شق شفتيه، وبالحاجة: الشجرة الصغيرة التي تسمى حاجة- لا حنث عليه، وإن كان قد فعل ما دل عليه اللفظ ظاهراً.

وكذا لو حلف: ما أكلت دجاجة، ونوى الكُبَّة من الغزل، ولا فروجة، ونوى الدراعة، ولا شربت ماء، ونوى منيّاً- لا حنث عليه.

وكذا لو حلف: ما في بيته حصير، ونوى الحبس أو اللبد، ولا فرش، ونوى صغار الإبل، ولا بارية، ونوى المدية التي يبري بها، أي: يقطع- لا حنث عليه، ونظائر ذلك.

ولو قال: نسائي طوالق، ونوى أقاربه دون زوجاته، أو: جواريَّ أحرار، ونوى سفنه- لم تطلق زوجاته، ولم تعتق جواريه في الباطن، ويؤاخذ بذلك في الظاهر؛ لتعلق حق الآدمي.

أما إذا كان المستحلف له الحاكم، فتعتبر موافقة يمينه؛ لما دل عليه ظاهر اللفظ الصادر من الحاكم؛ إذا كان اعتقاد الحاكم والحالف واحداً فيما وقع فيه التحليف.

أما إذا اختلف اعتقادهما: بأن كان الحاكم حنفيّاً يرى شفعة الجوار، فحلف الشافعي على عدم استحقاق الشفعة عليه، وكان المدعي جاراً، وقد اشترى المحلف ما ثبتت فيه الشفعة له على مذهب أبي حنيفة-[فله أن] يحلف على عدم

ص: 407

استحقاق الشفعة عليه؛ لأنه لا يعتقد وجوبها عليه؛ فإذا حلف كان صادقاً.

وعن بعضهم: أنه إذا حلف كان حانثاً في يمينه؛ كذا قاله ابن الصباغ قبل كتاب الرجعة، وسنعود إلى ذلك- إن شاء الله تعالى- في باب اليمين في الدعاوى.

قال: وإن حلف على مستقبل؛ فإن كان على أمر مباح، أي: كدخول دار، وأكل طعام، ولبس ثوب، وغير ذلك- فقد قيل: الأولى: ألا يحنث؛ لقوله- تعالى-: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، وقوله- عليه السلام:"وَإِنِّ وَاللهِ، إِنْ شَاءَ الله لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ"؛ فخصص رسول الله صلى الله عليه وسلم الحل بما إذا كان الفعل خيراً من الترك، ومفهومه يدل على أنه إذا لم يكن خيراً لا ينبغي أن يحلها، وهذا ما قال به أبو علي الطبري، ومال إلى ترجيحه ابن الصباغ.

قال: و [قيل]: الأولى: أن يحنث؛ ليبين أنه بيمينه لم يغير حكم الله- تعالى- ولينتفع المساكين بإخراج الكفارة.

وفيه وجه ثالث: أنه يتخير بين الوفاء والحنث، ولا ترجيح كما كان قبل اليمين.

ولو حلف ألا يفعل مباحاً، كما إذا حلف لا يلبس الناعم، ولا يأكل الطيب من الطعام، وما في معنى ذلك- فالمذهب، على ما حكاه البندنيجي واختاره الشيخ أبو حامد والشيخ أبو محمد: أن حلها أفضل؛ لقوله- تعالى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، قال: ويشهد له صدر سورة "التحريم"؛ فإنه- تعالى- قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، ثم استحثه على الفعل بقوله:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2].

وفيه وجه آخر محكي عن صاحب "التقريب" وغيره، واختاره القاضي أبو الطيب والصيدلاني: أن المقام عليها أفضل؛ لما روي عن عمر- رضي الله عنه أنه قيل له: لو ألنت طعامك وشرابك؟ فقال: "إني أعلمكم بدقيق العيش، ولباب البر، وصغار المعز، ولكني سمعت الله- تبارك وتعالى يقول لأقوام: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ

ص: 408

الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20].

وقال ابن الصباغ بعد حكاية الخلاف: إن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس؛ فمنهم من يكون له ذلك أعون على نفسه، وأمكن له في طاعته، وأقطع للدنيا عنه؛ فيكون في حقه طاعة.

وفي "الحاوي" حكاية وجه: أن الحل مباح.

وفي "التهذيب" حكاية وجه: أنه إن حلف على التأبيد، الأولى: أن يحنث نفسه، وإن كان مؤقتاً [فلا يحنث نفسه]، ولو حلف على الامتناع مما يقتضي الشرع الامتناع عنه؛ لعارض بعد أن كان مباحاً، كما إذا حلف لا يدخل بلداً فيه بدع وأهواء- فقد حكى الإمام عن العراقيين حكاية خلاف فيه:

فمنهم من يقول: يؤثر له في وجه ألا يدخل.

ومنهم من يقول: اليمين تستحب على الهجوم.

ثم قال: والوجه القطع أنا لا نحمله على أن يدخلها، ويبقى المكروه مكروهاً كما كان، والتردد الذي حكاه العراقيون في غاية الفساد.

والمذكور في "تعليق" البندنيجي حكاية الخلاف فيما إذا حلف لا يسلك طريقاً مخوفاً، ولا يدخل بلداً فيه الجور والظلم- في أن الحل مباح، أو الأفضل المقام

ص: 409

على اليمين؟ وهو قريب مما حكاه الإمام.

قال: وإن حلف على فعل مكروه، أي: كالالتفات في الصلاة ونظائره، أو ترك مستحب: كترك التطوعات، ونظائر ذلك- فالأولى: أن يحنث؛ لقوله- عليه السلام لعبد الرحمن بن سمرة: "إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا- فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثم ائت بالذي هو خير".

فإن قيل: فقد روي في خبر الأعرابي أنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلوات، فقال له:"خمس صلوات في اليوم والليلة"، فقال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ"، ولم ينكر عليه حلفه؛ فلو كان مكروهاً لأنكر عليه.

والجواب: حمل ما جرى من الأعرابي على لغو اليمين، أو على أن مراده: لا يزيد في عدد الفرائض، ولا ينقص منها، وذلك لا يقتضي الإنكار.

فرع: المدعى عليه إذا أنكر ما ادعى عليه به؛ أو كان المدعى كاذباً- فله أن يحلفه، وله ألا يحلف، وهو الأفضل؛ قاله ابن الصباغ وغيره، واستدل له بأن عثمنا امتنع من الحلف حين رد عليه المقداد اليمين بين يدي عمر- رضي الله عنهم وعلل عدم الحلف بخشية أن يوافق قدر بلاء؛ فيقال: بيمين عثمان.

قال مجلي: وحديث عمر يدفع هذا؛ لأنه لو كان الأفضل تركه لما حث على فعله.

تنبيه: حيث قلنا: الأولى ألا يحنث، تكون اليمين طاعة، والخروج عنها مكروهاً، وحيث قلنا: الأولى أن يحنث تكون اليمين مكروهة، والمقام عليها مكروهاً، ولا يستثنى من ذلك إلا الحلف على المباح.

ص: 410

فائدة: اليمين عندنا لا تأثير لها في تغيير الأحكام، صرح بذلك الإمام وغيره.

فإن قيل: وطء الزوجة ليس بواجب على الزوج فيما عدا الوطأة الأولى إن قيل به، ومع هذا لو حلف:[أن] لا يطأها أكثر من أربعة أشهر، صار الوطء واجباً؛ فقد غيرت اليمين حكم المحلوف عليه؟

قلنا: مراد الأئمة بما أطلقوه من أن اليمين لا تغير حال المحلوف عليه: أن اليمين لا تجعل المباح حراماً، ولا توجب فعل المحرم؛ كما صار إليه أبو حنيفة فيهما، ويمين المولى كذلك.

قال: ويكره أن يحلف الرجل بغير الله- عز وجل لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللهِ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ"، ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر:"إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكِمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفَاً فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ فَلْيَصْمُتْ".

فإن قيل: لم لا حملتم النهي على التحريم، وقد ورد في الحديث ما يدل عليه؛ قال- عليه السلام:"مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ"، [وفي رواية]:"فَقَدْ أَشْرَكَ".

ص: 411

قلنا: [لأجل ذلك ذهب بعض الأصحاب- على ما حكاه الإمام- إلى أنه معصية، والجمهور على خلافهن وحملوا قوله- عليه السلام: "فقد كفر" أو "أشرك"] على من حلف واعتقد فيما حلف به من التعظيم ما يعتقده في الله، سبحانه وتعالى.

ومنهم من حمل لفظ "الشرك" على أنه أشرك بين الله وبين غيره في التعظيم.

فإن قيل: قد أقسم الله- تعالى- في كتابه العزيز بالنجم وبالسماء وبالليل وبالتين والزيتون، وغير ذلك، وأقسم النبي صلى الله عليه وسلم بـ "أبيه"؛ حيث قال في قصة الأعرابي:"أَفْلَحَ- وَأَبِيهِ- إِنْ صَدَقَ"، وقال لأبي القيس الدارمي:"وَأَبِيكَ، لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخْذِهَا لَأَجْزَأَكَ"، وهذا يدل على جواز الحلف بالمخلوقات.

قلنا: أما ما ورد في الكتاب العزيز فذكر "الرب" فيه مضمر، ومعناه: ورب السماء، ورب النجم؛ كما جاء في آية أخرى:{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23]، ولأنه ليس فوق الله تعالى أحد يعظم تعظيمه، فأقسم ببعض مخلوقاته الدالة على قدرته وحكمته؛ تعظيماً لذاته- سبحانه وتعالى بخلافنا.

وأما ما ورد منه- عليه السلام فيجوز أن يكون قبل ورود النهي؛ فيكون النهي ناسخاً، ويجوز أن يكون بعده فيكون ناسخاً للنهي، والظاهر: الأول؛ لأنه أخبر أن الله- تعالى- ينهانا أن نحلف بآبائنا، وذلك يدل على أنه كان مباحاً، ثم طرأ النهي عليه.

ويؤيد ذلك: أنه روي أن عمر- رضي الله عنه قال: "والله، ما حلفت بها بعدُ ذاكراً ولا آثراً" يعني: حاكياً عن غيره، وقيل: ناسياً.

ومنهم من حمل ما جرى منه- عليه السلام على أنه لم يقصد به اليمين كما يقول الواحد منا: لا والله، وبلى والله؛ فيكون من لغو اليمين.

وكما يكره أن يحلف الرجل بغير الله- عز وجل يكره لغيره تحليفه به.

وقال في "الحاوي" في باب موضع اليمين، من كتاب الأقضية: ولا يجوز أن يحلف أحد بطلاق ولا عتاق ولا نذر؛ لأنها تخرج عن حكم اليمين إلى إيقاع فرقة،

ص: 412

وإلزام غرم، وهو مستبدع، فلو بلغ الإمام أن حاكماً يستحلف المسلمين بالطلاق والعتاق عزله عن الحكم؛ لأنه جاهل.

قال: فإن حلف بغيره كـ "النبي" صلى الله عليه وسلم و"الكعبة"، أي: وغير ذلك من سائر المخلوقات- لم تنعقد يمينه.

أما في "الكعبة" فبالإجماع، وأما في غيرها فبالقياس عليها؛ بجامع ما اشتركوا فيه من الخلق.

واعلم أن الشيخ إنما ذكر هذين المثالين، ولم يقتصر على أحدهما، ولم يذكر ما سواهما؛ لما سأذكره، وهو أن الإمام أحمد- رضي الله عنه ذهب إلى أنه إذا حلف بالنبي، أن يمينه تنعقد؛ مستدّلاً بأنه أحد ركني الشهادة؛ فهو كاسم الله تعالى. فذكر الشيخ- رحمه الله "الكعبة" مع "النبي"؛ ليقاس عدم انعقاد اليمين بـ "النبي" على "الكعبة" التي سلم عدم الانعقاد بها؛ بجامع ما اشتركا فيه من تعلقهما بأركان الإسلام، وإذا ثبت أن ذلك لا تنعقد به اليمين فغيره من طريق الأولى.

فرع: يكره الاستكثار من اليمين بالله- تعالى- من غير حاجة؛ قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] أي: لا يحلف به في حق ولا باطل فيبتذل اسمه.

وعلى هذا التأويل يحسن الاستدلال بالآية على المدعي.

وفي "الحاوي": أن معنى قوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} : أن يجعل يمينه علة يَعْتَلُّ بها في برِّه، وعلى هذا لا يحسن التمسك بها.

قال: وإن قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني، لم تنعقد يمينه؛ أي: وكذا ما في معناه، كما لو قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من الله تعالى ورسوله، أو: من القرآن، أو: من الكعبة، أو: من الإسلام، أو: مستحل الخمر والميتة؛ لما روى بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حَلَفَ إِنَّهُ بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ كَاذِباً، فَهُوَ كَمَا قَالَ

ص: 413

- وفي رواية: فَقَدْ قَالَ- وَإِنْ كَانَ صَادِقاً فَلَنْ يَرْجِعَ إِلَى الإِسْلَامِ [سَالِماً] " ووجه الدلالة منه: أنه- عليه السلام ذكر حكم قوله، ولم يذكر أن الكفارة من موجباته، ولو كانت تجب به لذكرها، [ولأنه قول] عري عن اسم الله- تعالى- وصفته؛ فلا تنعقد به اليمين؛ كما لو حلف [بسائر المخلوقات، ولأن الكفارة في مواقع الإجماع إنما وجبت على من حلف] بلفظ معظم له حرمة، وخالفه وهتك حرمته، وهذا اللفظ غير معظم ولا حرمة له؛ فلم يكن يميناً.

وفي "الجيلي" حكاية عن "فتاوي" القفال والروياني: أنه إذا قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من الله تعالى ورسوله، أو: برئت من القرآن، أو: آياته آية آية، أو: حرفاً حرفاً- فهو يمين يلزمه به الكفارة.

قال: ويستغفر الله- تعالى- ليجبر الخلل الحاصل. واستدل له الجيلي بما روى البخاري ومسلم أنه- عليه السلام قال: "مَنْ حَلَفَ، وَقَالَ فِي حَلِفِهِ: اللَّاتِ والعُزَّى- فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله".

واعلم أن قوله- عليه السلام: "فَهُوَ كَمَا قَالَ" إنما ذكره في معرض تعظيم ذلك؛ لأنه يصير به كافراً.

قال الأصحاب: إلا أن يقصد الرضا باليهودية وما في معناها إذا فعل ذلك الفعل؛ فإنه يكون كافراً في الحال.

وقوله: "فلن يرجع إلى الإسلام سالماً" أي: إنه يكون حانثاً بهذا القول.

وقيل: أراد به: إن كان كاذباً في الاعتقاد فقد قال لغواً، وإن كان صادقاً في

ص: 414

الاعتقاد فقد كفر.

قال: وإن حلف باسم لله- تعالى- لا يسمى به غيره؛ كقوله: والله، والرحمن، والقدوس، والمهيمن، وعلام الغيوب، وخالق الخلق، والواحد الذي ليس كمثله شيء، وما أشبه ذلك، أي: كقوله: والأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والقيوم- انعقدت يمينه، أي: سواء أطلق أو قصد الله- سبحانه وتعالى أو قصد غيره.

أما إذا قال: والله؛ فلما روى ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وَاللهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً".

وأما إذا حلف بغيره؛ فلأن هذه الأسماء لا يسمى بها غير الله تعالى فانصرفت إليه، وانعقدت اليمين كقوله: والله، وفيه وجه: أنه إذا نوى غير الله- تعالى- يُدَيَّن في الباطن.

وضعف في "الحاوي" الجزم به في "المهيمن" و"القيوم".

وفي "الرافعي": أن الأشبه: أن قوله: والله، كقوله: بالله، وقد يقول المتلفظ به: أردت: والله المستعان، ثم ابتدأت: لأفعلن. وليس في ذلك إلا لحن في الإعراب، وسيأتي له نظائر.

واعلم أنه يلتحق بأسماء الله تعالى الحلف بما هو عبارة عن الله- سبحانه وتعالى كقوله: ومقلب القلوب، والذي نفس محمد بيده، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة وتردَّى بالعظمة، ورب العالمين، والذي أصلي له وأصوم؛ لأنه لا يعبر بذلك عن غير الله تعالى.

وفي كتاب القاضي ابن كج: أن الحلف بالأسماء ليس بصريح إلا باسم واحد، وهو: والله. وهو غريب.

ثم لا فرق في انعقاد اليمين بين أن يقول: "واللهِ" بالجر، أو:"واللهَ" بالنصب، أو:"واللهُ" بالرفع، ولا بين أن يتعمد أو لا يتعمد؛ لأن الخطأ في الإعراب لا يمنع انعقاد اليمين.

وحكي عن القفال فيما إذا رفع أنه لا يكون يميناً إلا أن ينوي به اليمين.

ص: 415

فائدة: قال المحاملي في "المجموع": الاسم الأعظم، قيل: إنه "الله".

وقال البندنيجي: إن أكثر أهل العلم قال به.

تنبيه: [القدوس: الطاهر] عما لا يليق به، وهو صفات الحدوث.

والمهيمن، قيل: الشهيد، وقيل: الشاهد المصدق، وقيل: الرقيب الحافظ، وقيل: الأمين.

قال: وإن حلف باسم له يسمى به غيره مع التقييد: كالرب، والرحيم، والقادر، والقاهر، ولم ينو غيره- انعقدت يمينه، أي: سواء نوى به اليمين أو أطلق، وكذلك قوله: والناصر، والملك، والعظيم، والعزيز؛ لأن إطلاق اللفظ يدل عليه. وقيل: إن لم يكن له نية لا تنعقد يمينه. وليس بشيء.

ولو قال: وربي، فإن كان من قوم يسمون السيد في عرفهم ربّاً، لم يكن حالفاً في الظاهر، ويكون حالفاً في الباطن؛ إذا أراد به الله، سبحانه وتعالى.

وإن كان من قوم لا يسمون "الرب" في عرفهم إلا الله- تعالى- كان حالفاً في الظاهر؛ اعتباراً بالعرف [في الحالين]، قال الله- تعالى-:{أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} [يوسف: 41] يعني: سيده، وقال حكاية عن إبراهيم:{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99] يعني الله- تعالى- فكان الرب في إبراهيم ويوسف مختلفاً في المراد؛ لاختلافهم في عرفهم، قاله في "الحاوي".

قال: وإن نوى به غيره لم تنعقد يمينه؛ لأنه قد يستعمل في حق غيره؛ فيقال: رب الدار، ورحيم القلب، وقادر على المشي، وقاهر العدو، وإذا احتمل إذا عملت فيه النية.

واعلم أنه يلتحق بهذا النوع لفظ: الجبار، والبارئ، والحق، والمتكبر، وكذا "الخالق"، و"الرازق" عند الأكثرين؛ لأنهما قد يستعملان في [حق] غيره؛ كما ورد به الكتاب العزيز؛ قال الله- تعالى-:{وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} [العنكبوت: 17]، وقال تعالى:{وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء: 5] وألحقهما الإمام والغزالي بالنوع الأول.

ص: 416

وكذا ألحق الغزالي بهذا النوع قوله: [و] العليم، والحكيم. [وصاحب "التهذيب" ألحق به "السميع" و"البصير"].

قال الرافعي: ويشبه أن يعدَّا من النوع الذي يليه، ويدل عليه أن "العالم" في "التهذيب" مندرج فيه.

وألحق القاضي أبو الطيب الطبري "الرحيم" بـ "الرحمن"، وغلط فيه.

وروى ابن كج عن بعض التصانيف أن الحلف بأي اسم كان من الأسماء التسعة والتسعين الذي ورد [به] الخبر صريح، ولا فرق بين بعضها وبعض.

قال: وإن حلف بما يشترك فيه هو وغيره: كالحي، والموجود، والغني، والسميع، والبصير، أي: وما أشبه ذلك كالمؤمن، والكريم، والعالم- لم ينعقد يمينه، إلا أن ينوي به الله تعالى؛ لأنها تستعمل في حقه- سبحانه- وفي حق غيره استعمالاً واحداً؛ فأشبه كنايات الطلاق، وهذا ما حكى الموفق بن طاهر أن صاحب "التقريب" وأبا يعقوب حكياه عن شيوخ الأصحاب وقطعوا به، وإليه صار صاحب "التهذيب" فيما عدا "السميع" و"البصير"؛ فإنه ألحقهما بالنوع قبله.

والذي أجاب به الشيخ أبو حامد ومن تابعه وابن الصباغ، وبقية العراقيين، وتابعهم الإمام:[أنه لا] يكون يميناً؛ لأن [اليمين] إنما تنعقد إذا حلف باسم معظم، والأسامي التي تطلق في حق الخالق والمخلوق إطلاقاً واحداً ليس فيها تعظيم ولا لها حرمة؛ فلا تنعقد بها اليمين، واستثنى الماوردي من ذلك ما يكثر استعماله في الله- تعالى- وقل استعماله في المخلوقين، وقال: إنه يكون حالفاً به في الظاهر دون الباطن.

قال: وإن قال: الله لأفعلن كذا، لم يكن يميناً، أي: إذا نوى به غير اليمين أو

ص: 417

أطلق؛ لأن العادة لم تستقر بالحلف كذلك، ولا يعرفه إلا الخواص من الناس، ووجهه ابن الصباغ بأن اليمين تتعلق بحرف القسم، وليس في هذه حرف قسم، ولا فرق في ذلك بين النصب والخفض والرفع.

وجزم في "الوسيط" فيما إذا خفض وأطلق أنه يكون يميناً، وهو ما حكاه في "التهذيب" عن صاحب "التلخيص"، وحكاه ابن الصباغ عن أبي جعفر الأستراباذي، وطرده فيما إذا نصب. وفي "البيان" حكاية مثله فيما إذا رفع.

وأبو جعفر، قال مجلي: قد حكى الشيخ أبو إسحاق أنه من أصحابنا، وقال أبو نصر: هو المعري من أهل الظاهر.

واعلم أن جريان القول بأنه يمين في حالة الخفض أولى عند الرافعي؛ لإشعاره بالعلة الخافضة، ويليه النصب، ثم الرفع.

وفي "النهاية": أنا إذا قلنا: إنه لا يكون يميناً في حال الخفض، فها هنا وجهان، والأول أرجح عند المعظم.

قال: إلا أن ينوي به اليمين، أي: فيكون يميناً، ولا فرق بين أن ينصب أو يخفض أو يرفع.

واستدل للنصب [بما روي أنه- عليه السلام قال لعبد الله بن مسعود: "اللهَ قَتَلْتَ أَبَا جَهْلٍ؟ "، وللخفض] بما روي أنه- عليه السلام قال: "اللهِ، مَا أَرَدْتُ إِلّا وَاحِدَةً؟ " على ما حكاه القاضي الروياني، وحكاه العمراني [بالرفع].

ص: 418

وللرفع بقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: 87] قيل: الضمة فيه [هي] اليمين، ولحديث ركانة على ما حكاه العمراني.

وفي "العدة": أن الفوراني حكى أنه إذا قال: اللهُ، لأفعلن كذا، بالرفع، لا يكون يميناً، وإن قال بالنصب ففيه وجهان.

قال: وإن قال: بالله، لأفعلن كذا، وأراد: بالله أستعين لأفعلن كذا- لم يكن يميناً؛ لأن ما قاله محتمل، أما إذا نوى اليمين أو أطلق فإنه يكون يميناً؛ لأن الباء هي الأصل في القسم؛ كما حكاه أهل اللغة، وقد ثبت لها عرف الشرع فحملت على القسم؛ قال الله- تعالى-:{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} [التوبة: 74] وعلى ما حكاه الشيخ جرى صاحب "التهذيب" والقاضي الروياني وغيرهم، واستبعده الإمام وقال: إن ذلك عظيم لا يعتد بمثله أصلاً، ولا آمن أن يكون الخلل في نقله من ناسخ. وادعى أنه لو زعم أنه نوى غير اليمين لا يقبل منه فيما يتعلق بحق الآدمي من إيلاء وغيره، وهل يُدَيَّن؟ قطع القاضي بأنه لا يدين.

وفي بعض التصانيف ذكر وجهين فيه، وحكاهما الشيخ أبو محمد أيضاً، هذا هو المشهور، وحكى القاضي ابن كج أن من الأصحاب من لم يفرق بين قوله: بالله، بواحدة من أسفل، وبين قوله: تالله، باثنتين من فوق.

قال الرافعي: وهذا يقتضي إثبات خلاف في كونه يميناً عند الإطلاق؛ كما هو مذكور في قوله: "تالله".

قلت: النص في قوله: "تالله" ها هنا وفي الإيلاء: أن يكون يميناً، والنص في القسامة: ألا يكون يميناً، وقد اختلف الأصحاب في ذلك على ثلاثة طرق:

أحدها: طرد القولين في المسألة، وأصحهما على ما حكاه الإمام: أنه يمين.

والثاني: تقرير النصين، والفرق: أنه يثبت في القسامة حقّاً لنفسه من قصاص أو دية؛ فلا يقنع منه إلا بلفظ قوي مشهور في اليمين، وفي الإيلاء وغيره: الامتناع من الفعل، والإقدام عليه يدل على قصد اليمين.

ص: 419

والثالث- وهو الأظهر، وبه قال أبو الطيب وأبو حفص وأبو إسحاق-: القطع بأنه يمين، وحملوا نصه في الإيلاء على تصحيف الياء المنقوطة باثنتين من أسفل إلى المنقوطة باثنتين من فوق. ومنهم من حمله على ما إذا قال له الحاكم: قل: والله، فقال: تالله.

وفي "الحاوي": أن أبا إسحاق المروزي قال: إنما تكون يميناً في خواص الناس الذين يعرفون أن التاء من حروف القسم، ولا تكون يميناً في العامة الذين لا يعرفون ذلك، وإذا عرف ذلك فلعل القائل بأنه لا فرق بين الباء والتاء يقول بأنه في التاء المنقوطة باثنتين يكون حالفاً، وألحقه بالباء المنقوطة بواحدة من تحت، وذلك لا يدل على إجراء خلاف في الباء.

واعلم أن محل الخلاف في المنقوطة باثنتين من فوق عند الإطلاق، أما إذا قصد غير اليمين فلا يكون يميناً قولاً واحداً.

قال: وإن حلف بصفة من صفات الذات لا تحتمل غيره، وهي: وعظمة الله، وجلال الله، وعزة الله، وكبرياء الله، وبقاء الله، وكلام الله، والقرآن- انعقدت يمينه؛ وكذا قوله: ومشيئة الله، وإرادة الله، وسمع الله، وبصر الله؛ لأن هذه الصفات لم يزل موصوفاً بها، ولا يجوز وصفه بغيرها؛ فصار كاليمين بأسمائه.

وألحق القاضي الحسين في باب موضع اليمين حلف المسلم بالتوراة والإنجيل أو بآية منسوخة من القرآن- بالحلف بالقرآن، وقال بانعقاد اليمين؛ لأنه كلام الله ومن صفات الذات.

وألحق في "التتمة" قوله: "والقرآن" بالنوع الثاني، وقال: لأنه [قد] يستعمل في الصلاة، قال الله تعالى:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 79] وقد يستعمل في الخطبة، قال الله- تعالى-:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204] وهو به أشبه.

وحكى فيما إذا قال: والمصحف، [فهو يمين، وكذا لو قال: وحرمة هذا المصحف؛ لأن احترامه لما هو مكتوب فيه] وإن أراد: الورق والجلود، لم يكن يميناً.

ص: 420

تنبيه: جلال الله: عظمته، وكبرياؤه: استحقاقه صفات المدح، ويقال: جل الشيء، أي: عظم، وأجللته: عظمته، والجلال: اسم، و"الجلالة": مصدر.

قال الأصمعي: لا يقال "الجلال" إلا لله تعالى.

قال الواحدي: معناه: لا يقال ذلك بعد الإسلام، أي: لا يستحقه إلا الله تعالى.

قال: وإن كان يستعمل في مخلوق، وهو قوله: وعلم الله، وقدرة الله، وحق الله، ونوى بالعلم: المعلوم، وبالقدرة: المقدور، وبالحق: العبادات- لم تنعقد يمينه؛ لأن ذلك محتمل؛ فأثرت فيه النية؛ ألا ترى أنه يقال في الدعاء: اغفر لنا علمك فينا، أي: معلومك، ويقال: انظر إلى قدرة الله، أي: مقدوراته، ويقال: الصلاة والزكاة والعبادات من حقوق الله- تعالى- على العباد، وإذا كان كذلك لم تنعقد اليمين بما نواه؛ لأنه مخلوق كسائر المخلوقات.

وفي "الحلية" للشاشي حكاية ثلاثة أوجه فيما إذا قال: وحق الله، وقدرة الله، وأراد غير اليمين:

أحدها- وهو ظاهر كلام الشافعي: أنه لا يكون يميناً.

والثاني- وهو قول أبي إسحاق-: أنه لا يكون يميناً في حقوق الله- تعالى- ويكون يميناً في حقوق الآدميين.

والثالث- وهو قول ابن أبي هريرة-: أنه لا يكون يميناً بالإرادة إلا إذا عزاه إلى أمر، ويحتمل أن يكون يميناً إذا لم يعزه إلى أمر.

وفي "النهاية": أنه إذا قال: وقدرة الله، وعلم الله، وكبرياء الله، وعزة الله، وكلامه، وما في معنى ذلك مما يدل على الذات، أو على صفة أزلية من صفات الذات- كان في كونه حالفاً عند إرادة غير اليمين طريقان:

إحداهما: أنه يقبل منه في الباطن، وهل يقبل في [الظاهر؟] فيه وجهان. وقال: إن هذه [هي الطريقة] المشهورة.

والثانية: أنه لا يقبل في الظاهر، وهل يدين؟ فيه وجهان.

وحكى في قوله: وعظمة الله، أن الأصح: أنه بمثابة الحلف بصفات الله، وأن من

ص: 421

الأصحاب من نزله منزلة قوله: وحق الله، وأنه لا اتجاه له.

وفي "الوسيط": أن قوله: وحق الله، كناية، وهو ما حكاه المزني في "المنثور". ويروي عن أبي إسحاق، على ما حكاه الرافعي.

وقال الإمام: إنه الذي صار إليه أئمة المذهب، وأبعد بعض الأصحاب فألحق ذلك بالصفات.

وفي "الرافعي": أن الذي حكاه الشيخ فيه هو المنصوص والذي يوجد للجمهور.

قال: وإن لم ينو شيئاً انعقدت يمينه؛ لأن الله تعالى لم يزل موصوفاً بها، ولا يجوز وصفه بضدها؛ فكان كالحلف بالكبرياء والعظمة.

فرع: إذا قال: "وحقُّ الله" بالرفع، أو "قدرةُ الله"- قال في "التتمة": إن نوى اليمين فهو يمين، وإن أطلق فلا. وإن قال بالنصب، وأطلق، فوجهان، المذكور منهما في "التهذيب": المنع؛ كما لو كان بالرفع.

قال: وإن قال: "لعمر الله"، فهو يمين إلا أن ينوي به غير اليمين على ظاهر المذهب.

اعلم أن تقدير الكلام: فهو يمين عند الإطلاق على ظاهر المذهب إلا أن ينوي به غير اليمين؛ فلا يكون يميناً وجهاً واحداً.

ووجه كونه يميناً أنه قيل: معناه: بقاء الله، وقيل: حياته، وقيل: حقه، وقيل: علمه، والكل من صفات الذات؛ فكان يميناً عند الإطلاق؛ كما لو صرح بذلك.

ولأن عرف الشرع والاستعمال قد ثبت له؛ قال الله- تعالى-: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، وقال الشاعر:

وكل أخٍ مفارقُهُ أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان

وإذا كان كذلك التحق بالحلف بالله- تعالى- وهذا ما ذهب إليه ابن سريج وأبو الطيب بن سلمة، واختاره صاحب "الإفصاح"، وصدر به الإمام كلامه.

وأما كونه لا يكون يميناً عند إرادة غير اليمين؛ كما إذا قصد به العبادات

ص: 422

والمفروضات؛ فلأنه قد يستعمل بمعنى ذلك وقد اقترنت به النية، فقبل قوله، [و] لم تنعقد يمينه كسائر المخلوقات.

قال: وقيل: ليس بيمين إلا أن ينوى به اليمين، هذا مقابل ظاهر المذهب في الكتاب، والمنقول في "المجموع" للمحاملي و"التعليق" للبندنيجي: أن هذا ظاهر المذهب، وهو ما حكاه البغوي، وفي "المهذب" و"الشامل": أنه ظاهر النص. ووجهه: أنه لم يأت بحرف القسم، وإنما يكون ما أتى به يميناً بتقدير حرف محذوف، وكأنه قال:"لعمر الله ما أقسم به"؛ فكان مجازاً، والمجاز لا ينصرف إليه الإطلاق وتؤثر فيه النية، ولأنه لم يَرِد بها يمين في حقنا، وإنما أقسم الله- تعالى- بها كما أقسم بيوم القيامة والشفق وغير ذلك، وذلك لا يكون يميناً؛ فكذلك هذا، واستعمال العرب في الشعر لا يثبت به العرف، وإنما يثبت به الجواز، وذلك لا يحصل المطلوب.

وقد ظهر لك أنه إن نوى اليمين كان يميناً وجهاً واحداً، وإن نوى غير اليمين فلا يكون يميناً وجهاً واحداً، وإن أطلق فوجهان، والنقل مختلف في ظاهر المذهب منهما.

وفي "النهاية" حكاية عن شيخه: أنه فرق بين أن يقول: لعمر الله؛ فيكون كناية، وبين أن يقول: وعمر الله؛ فيلتحق بالإقسام بالصفات؛ موجهاً ذلك بأن [اللام] ليست من حروف القسم، بخلاف الواو.

قال الإمام: وهو حسن، وهو قضية ما ذكرناه من التوجيه بعدم حرف القسم.

واعلم أن من جملة ماي قسم به قول الإنسان: وإيم الله، وايمن الله، لأفعلن كذا، والحكم فيه- كما صرح به مجلي وغيره- كالحكم في قوله: لعمر الله، وقد ذكرناه؛ لأنه جاء في "البخاري" أنه- عليه السلام قال في أسامة:"وَايْمُ اللهِ إِنَّهُ لَخَلِيقٌ بِالإِمَارَةِ"، وقد اختلف في اشتقاق ذلك:

ص: 423

فقيل: مشتق من "اليمن" والبركة، وهو قول سيبويه، وألفهما ألف وصل.

وقيل: من "اليمين"؛ لأن أصله: أَيْمُن، و"أيمن" جمع "يمين"، وإلى هذا ذهب الفراء.

وقد ذكر الجوهري في "الصحاح" أن "ايمن الله"- بضم الميم والنون، وفتح الألف- وضع للقسم، والله عز وجل أعلم.

قال: وإن قال: أقسمت بالله، أو: أقسم بالله- انعقدت يمينه، أي إذا نوى اليمين، أو أطلق؛ لأنه قد ثبت له عرف الشرع؛ قال الله- تعالى- {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} [الأنعام: 109] وقال- عز من قائل-: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] وهو في الاستعمال كثير، وما ثبت له عرف الشرع والاستعمال كان يميناً بإطلاقه؛ كقوله:"والله".

وذكر المسعودي وجهاً: أنه ليس بيمين عند الإطلاق.

وذكر القاضي ابن كج وأبو بكر الطوسي وغيرهما: أنه ظاهر النص في كتاب الأيمان، [وأنه] نص في الإيلاء [على أنه يمين، فتصرف متصرفون في النصين بالنقل والتخريج، وفرق فارقون بين الإيلاء] وغيره من الأيمان بما سنذكره من بعدُ، والأصح عند الإمام، وبه أجاب الصيدلاني: أنه ليس بيمين، واستغرب ما حكاه العراقيون.

والأكثرون ذهبوا إلى أنه يمين؛ لأنه لو قال: بالله لأفعلن، كان يميناً عند الإطلاق، وفيه إضمار معناه: أقسم بالله، فإذا صرح بالإضمار كان أولى.

وأجاب "من" قال بخلافه عن ذلك: بأن مجرد قوله: بالله، صريح في عقد اليمين لغة به؛ فإذا أتى بالإضمار كان متردداً؛ لأن قوله: أقسمت، يصلح للماضي وهو موضوع له، ويصلح للحال، وقوله: أُقسم، يصلح للحال والاستقبال وهو موضوع له؛ فإذا فسر اللفظ بالماضي والاستقبال قبل؛ لموافقته موضوع اللفظ، وكم من مضمر يقدره النحوي واللفظ دونه أوقع! وهذا بمثابة قولهم: ما أحسن زيداً، صريح في التعجب، [وتقديره: شيء حسن زيداً، وهذا التقدير لو صرح به لأفسد معنى

ص: 424

التعجب] أصلاً، وقد تحصلنا في المسألة على ثلاثة أقوال عند الإطلاق.

وحكى صاحب "التقريب" عن بعض الأصحاب: أنه فرق بين قوله: أقسمت، فلم يجعله صرحياً، وبين قوله: أقسم، فجعله صريحاً، وضعفه الغزالي [وغيره].

قال: ون قال: أردت بالأول، أي بقوله: أقسمت، الخبر عن ماض، وبالثاني، أي بقوله: أقسم، الخبر عن مستقبل-[قبل] فيما بينه وبين الله- تعالى- أي: إن كان صادقاً؛ للاحتمال.

قال: وهل يصدق في الحكم؟ قيل: لا يصدق؛ لأن ما يدعيه خلاف ما يقتضيه اللفظ في عرف الشرع وفي عرف العادة، اللهم إلا أن يعلم تقدُّم القسم منه، فيقبل منه في قوله: أقسمت، بلا خلاف؛ كما قلنا في نظيره من الطلاق، ولا يجيء في قوله: أقسم.

قال: وقيل: إن كان في الإيلاء لا يصدق، وهو ما نص عليه في "الإملاء". لأنه تعلق به حق آدمي؛ فلم يقبل منه خلاف الظاهر.

قال: وإن كان في غيره صدق، وهو ما نص عليه مطلقاً في الأيمان والنذور من "الأم"، ونقله المزني؛ لأن حق الله- تعالى- مبني على المسامحة والمساهلة، واللفظ يحتمله.

والقائل الأول حمل هذا النص على القبول في الباطن.

قال: وقيل: فيه قولان، أي: بالنقل والتخريج:

أحدهما: لا يصدق؛ لأن هذا اللفظ قد ثبت له عرف اليمين في الشرع والاستعمال؛ فلا يصدق في دعوى خلافه؛ كصريح الطلاق.

والثاني: يصدق؛ لأن "أقسمت" يصلح للماضي حقيقة، و"أُقسم" يصلح للمستقبل حقيقة.

وهذه الطريقة هي أشهر الطرق على ما حكاه الرافعي، وقال: إن الأصح من القولين: أنه يصدق؛ وكذلك قاله في "التهذيب"، وهو ما حكاه المراوزة.

وفي "الشامل": أن الطريقة الثانية أولى، وأنه لا معنى لذكرهم أنه لا يقبل في

ص: 425

الحكم؛ لأنه ليس للحاكم ولا لغيره المطالبة بموجب اليمين.

واعلم: أن الحكم في قوله: حلفت بالله، أو: آليت بالله، أو: أحلف بالله، أو أُولِي بالله- كالحكم في القسم، صرح به البندنيجي وغيره. وأنه لو قال: أقسمت، أو: أقسم، مقتصراً على ذلك- لا يكون يميناً، سواء نوى اليمين أو لم ينو.

قال: وإن قال: أشهد بالله، فقد قيل: هو يمين، أي: عند قصد اليمين أو الإطلاق؛ لأنه قد ثبت له عرف الشرع، قال الله [-تعالى-:{قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] أي: نحلف؛ ولذلك قال] تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2]، وقال تعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6]، واللعان يمين، وإذا ثبت له عرف الشرع حمل عند الإطلاق والقصد عليه؛ كقوله: بالله.

قال: إلا أن ينوي بالشهادة غير القسم، أي: بأن أراد: الإيمان بالله- تعالى- والشهادة بوحدانيته، فلا يكون يميناً؛ لاحتمال ما ادعاه، وهذا ما ذهب إليه أبو إسحاق.

قال: وقيل: ليس بيمين إلا أن ينوي به القسم. ووجهه: أن اللفظ متردد؛ فإنه ورد في الشرع بمعنى "اليمين"، وبمعنى "الشهادة"؛ فلا يتخلص لأحدهما إلا بالنية، وهذا ما ذهب إليه أبو الطيب بن سلمة، وهو ما حكاه الإمام عن العراقيين، ونفى أن يكون غيره، واستحسنه.

والحكم فيما لو قال: شهدت بالله، كالحكم فيما لو قال: أشهد، عند العراقيين.

والحكم فيهما عند المراوزة كالحكم فيما لو قال: أقسمت، أو: أقسم؛ كما حكاه الإمام.

فرع: الملاعن إذا كان [كاذباً]، وقد أتى بلفظ الشهادة- هل تلزمه الكفارة؟ فيه وجهان عن رواية صاحب "التقريب".

قال الرافعي: والأظهر الوجوب، وقرب الإمام الخلاف من الخلاف في أن المولي هل تلزمه الكفارة إذا وطئ، ووجه الشبه: أن الإيلاء لاقتضائه الفراق جعل في قولٍ خارجاً عن الأيمان المحضة؛ فكذلك اللعان لاقتضائه الفراق.

ص: 426

وذكر أن التصوير- فيما زعم- أنه نوى اليمين، أو أطلق وقلنا: المطلق يمين. ثم قال: ويمكن ان يقال: الوجهان جاريان في الكفارة وإن رَوَّى؛ فإن الألفاظ المعروضة في مجلس الحكم [والتورية لا أصل لها في الأيمان الجارية في مجلس الحكم، قال الرافعي: ولك أن تقول: إنما لا تؤثر التورية في الأيمان المعروضة في مجلس الحكم] في الأحكام الظاهرة، والكفارة حكم بينه وبين الله- تعالى- ويشبه أن يقال: لا تلزمه إذا لم يقصد اليمين.

قال: وإن قال: أعزم بالله، لم يكن يميناً، أي: عند قصد غير اليمين أو الإطلاق؛ لأن العرف لم يطرد بجعله يميناً، ولا ورد به الشرع.

قال: إلا أن ينوي به اليمين، أي: فيكون يميناً؛ لاحتمال أن يريد الإخبار عن عزمه؛ بقوله: أعزم، ويحلف بقوله: بالله.

قال: وإن قال: على عهد الله وميثاقه وذمته وأمانته وكفالته، لا فعلت كذا، فليس بيمين.

عهد الله: وصيته لعباده بالمفروضات.

وميثاقه: الكتاب الذي تكتبه الملائكة عليهم.

وذمته: إلزام المفروض في ذممهم.

وأمانته هي: الفروض؛ فإنها أمانة له على العباد، وقد فسر بذلك قوله- تعالى-:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية [الأحزاب: 72].

وكفالته: تقبلهم هذه الآيات بنفوسهم، وذلك محدث، وظاهر اللفظ منصرف إليه؛ فلا ينعقد به اليمين عند الإطلاق؛ كالقسم بسائر المخلوقات.

قال: إلا أن ينوى به اليمين، أي: بأن ينوي بالعهد: استحقاقه لإيجاب ما أوجبه علينا وتعبدنا به؛ فيكون يميناً لاحتماله.

وقال أبو إسحاق: إنه يكون يميناً عند الإطلاق؛ لأنه ثبت لها عرف العادة بعد الشافعي، كذا حكاه البندنيجي.

قال ابن يونس: وليس بشيء.

ص: 427

تنبيه: كل لفظ من هذه الألفاظ إذا انفرد كان الحكم فيه كما ذكرناه، صرح به البندنيجي، وإن اجتمع مع غيره- كما يقتضيه ظاهر كلام الشيخ- ونوى اليمين؛ فالمنعقد يمين واحدة، والجمع بين الألفاظ تأكيد.

قال المحاملي: لأن هذه الألفاظ ليست بأكثر من ألفاظ اليمين الصريحة، ولو كرر تلك الألفاظ، فقال: والله الطالب الغالب الضار النافع المدرك المهلك، لا فعلت كذا؛ لم تلزمه إلا كفارة واحدة؛ فهذه الألفاظ بذلك أولى.

قلت: قد يظهر أنها ليست أولى؛ لأن قوله: الطالب الغالب، ليس معه أداة من أدوات اليمين، وإنما ذاك صفة للمقسم به أولاً، وهو الله- تعالى- وفي مسألتنا قد وجد في كل لفظة أداة اليمين؛ ولذلك قال الرافعي: ولك أن تقول: إن قصد بكل لفظ يميناً، فليكن كما لو حلف على الفعل الواحد مراراً.

ثم العم أن كلام المحاملي يقتضي أن حلفه بـ "الطالب الغالب" يمين صرحية، وهو قضية كلام ابن الصباغ في هذا الموضع أيضاً، وسماعي من أقضى القضاة جمال الدين أبي الحسين يحيى، خليفة الحكم بمصر- رحمه الله تعالى- أن الحلف بـ "الطالب الغالب" لا يَسُوغ، وكان يذكر أن ينقله عن أئمة المذهبن ويوجهه بأن الله- تعالى- وإن كان طالباً غالباً فأسماؤه توقيفية، ولم ترد تسميته بذلك.

قال: وإن قال: أسألك بالله، أو أقسمت عليك بالله، لتفعلن كذا- فليس بيمين، أي: في حق المتكلم إذا أطلق؛ لأن ظاهر اللفظ ينصرف إلى الشفاعة، ولم يرد الشرع باستعماله في اليمين.

قال: إلا أن ينوى به اليمين؛ أي: فيكون يميناً؛ لأنه يحتمل الاستفتاح؛ فكأنه قال: [أسألك، ثم ابتدأ؛ فقال: بالله لتفعلن كذا، وذلك ينعقد به اليمين؛ كما لو قال:] والله لتفعلن كذا. وروي عن ابن أبي هريرة وجه: أنه ليس بيمين وإن قصد به اليمين، وضعف.

فرع على المذهب: يستحب للمخاطب أن يبر قسم الحالف؛ لما روى البراء بن عازب "أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَر بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ،

ص: 428

وَرَدِّ السَّلَامِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ".

قال: وإن حلف رجل بالله- تعالى- فقال آخر: يميني في يمينك، أو: يلزمني [مثل] ما يلزمك- لم يلزمه شيء، أي: سواء نوى اليمين أو أطلق؛ لأن عماد اليمين بالله- سبحانه وتعالى ذكر اسم معظم مفخم، ولم يوجد.

قال: وإن كان ذلك بالطلاق والعتاق ونوى، لزمه ما لزم الحالف؛ لأن ذلك كناية، والطلاق والعتاق ينعقدان بالكنايات مع النية، [أي]: بخلاف اليمين بالله- تعالى- فإنها لا تنعقد بالكناية مع النية؛ ألا ترى أنه لو قال: لأفعلن كذا، ثم قال: أردت: بالله- لم تنعقد يمينه؟!

واعلم أن معنى قول القائل: يميني في يمينك- على ما حكاه ابن الصباغ-: أنه يلزمني من اليمين ما يلزمك. فإن كان الشيخ قد قصد بقوله: "أو يلزمني ما يلزمك" ذلك، كان ذكره له ليعرفك أنه لا فرق فيما سنذكره بين أن يأتي بهذا اللفظ أو بمعناه. وإن كان قصده: أنه يلزمه من الكفارة أو الطلاق أو العتاق، فهما صورتان متباينتان، لكن في كلام الشيخ المتولي ما يقتضي وقوع الطلاق في الصورة الثانية دون الأولى؛ فإنه قال: إذا قال: يميني في يمين فلان، وكان فلان قد حلف بالطلاق والعتاق- لا يتعلق به حكم؛ لأن لفظ التعليق وجد من غيره، وذلك الغير عبر عن نفسه، لا عنه؛ فلا يمكن جعله كناية عنه.

وعلى هذا: لو قال لامرأته: أشركتك مع امرأة فلان، وكان فلان قد علق الطلاق، وأراد المشاركة في تعليق الطلاق بتلك الصفة- لم يكن له حكم؛ لأن الخطاب كان من ذلك الرجل لامرأته؛ فلا يمكن إثبات حكمه في حق الغير.

فأما إذا أراد المشاركة في الطلاق، يعني: إن وقع الطلاق على امرأة فلان فأنت شريكتها في الطلاق- صح. انتهى.

ص: 429

والذي حكاه صاحب "التهذيب" في كتاب الطلاق يوافق إيراد المتولي في الصورة الثانية؛ فإنه قال: إذا كان رجل قد طلق زوجته، أو حلف بالطلاق وحنث، فقال له رجل: يميني في يمينك، وأراد: أن امرأته تطلق كامرأة الآخر- طلقت، وكذا إن أراد به: متى طلق الآخر امرأته طلقت امرأته؛ فإن المخاطب متى طلق طلقت هذه.

وفي "الذخائر" في هذه الصورة حكاية وجه: أنه إذا طلق لا تطلق امرأة المخاطب.

أما الصورة الأولى فلم يتعرض الرافعي للحكم فيها، وقضية كلام ابن الصباغ توافق ما حكاه الشيخ، وقد حكاه الفوراني وجهاً ذكره متصلاً بكتاب الرجعة.

فرع: لو قال لرجل: يميني في يمينك، ولم يكن ذلك الرجل قد حلف، وأراد: أنه إذا حلف صرت حالفاً مثله- لم يصر حالفاً إذا حلف الآخر، سواء فرض ذلك في الحلف بالله- تعالى- أو في الحلف بالطلاق والعتاق.

قال: وإن قال: أيمان البيعة [- أي بفتح الباء- لازمة لي]، لم يلزمه شيء، أي: سواء نوى أو لم ينو، إلا أن ينوي الطلاق أو العتاق، فيلزمه.

اعلم أن البيعة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمصافحة باليد، فلما ولي الحجاج رتَّبها أيماناً تشتمل على اسم الله- تعالى- وعلى الطلاق والعتاق والج وصدقة المال. ومراد الشيخ بالبيعة ها هنا: بيعة الحجاج؛ فإنها المشتملة على الأيمان. وإنما لم يلزمه شيء عند الإطلاق وعند نية غير الطلاق والعتاق؛ لأن الصريح لم يوجد والكناية تتعلق بما يتضمن إيقاعاً، فأما في الإلزام فلا، وإنما لزمه الطلاق والعتاق بالنية؛ لأن للنية مع الكناية مدخلاً فيهما.

فرع: لو قال: إن فعلت كذا، فأيمان البيعة لازمة لي بطلاقها وعتاقها وحجها وصدقتها- ففي "التتمة": أن الطلاق لا حكم له؛ لأنه لا يصح إلزامه، وفي الصوم والحج والصدقة [يتعلق به الحكم، إلا أن في الحج والصدقة] حكمه حكم اللجاج والغضب، وهذا ما حكاه ابن يونس، لكن من غير ذكر: إن فعلت كذا.

وفي "الشامل"، وغيره: أنه تنعقد يمينه بالطلاق والعتاق من غير حاجة إلى نية؛

ص: 430

لأنه قد نطق به، ويشبه أن يكون ما قاله المتولي أظهر؛ لما سنذكره.

فإن قيل: ينقضه القول بلزومهما فيما إذا نواهما، فيمكن أن يجاب عن ذلك: بأن المراد بنيته الطلاق والعتاق: نية وقوعهما، أما نية إلزامهما فقد يمنع أنها تلزمهما، والله أعلم.

قال: وإن قال: اليمين لازمة لي، لم يلزمه شيء؛ لأن ذلك ليس بلفظ مفخم، ولا معظم؛ فلا تنعقد به اليمين وإن نوى؛ كالحلف بالمخلوقات.

ولو قال: إن فعلت كذا فعليَّ يمين، أو: فلله علي يمين- فكذلك الحكم؛ لأنه لم يأت بنذر ولا بصيغة اليمين، وليست اليمين مما يلزم في الذمة.

وفيه وجه: أنه يلزمه كفارة يمين إذا فعله، وتجعل اليمين التي هي سبب الكفارة عبارة عن المسبب.

قال الإمام: وعلى هذا: فالوجه أن تجعل كناية، ويرجع إلى نيته، ونسب الطبري هذا الخلاف إلى رواية شيخه عن الشيخ سهل.

قال: وإن قال: الطلاق والعتاق لازم لي، ونوى- أي: وقوعهما- لزمه؛ لأنهما يقعان بالكناية مع النية، وهذا اللفظ يحتملهما؛ فكان من جملة كناياتهما، وحكى عن "فتاوى" القفال: أنه لا يقع؛ لأن الطلاق لابد فيه من الإضافة على المرأة، ولم تتحقق.

أما إذا لم ينو فمفهوم كلام الشيخ يدل على عدم الوقوع، وهو في الطلاق موافق لما حكاه الرافعي في الفروع التي ذكرها بعد الكلام في كنايات الطلاق عن البوشنجي.

والمذكور في "فتاوى" العبادي: أن الطلاق يقع، وكذا لو قال: الطلاق واجب علي. ووجَّهه بالعرف، بخلاف ما لو قال: الطلاق فرض علي؛ فإنه لا يقع لأن العرف لم يجر به.

وحكى صاحب "العدة" الخلاف، فقال: لو قال: طلاقك لازم لي، فوجهان، قال أكثر أصحابنا: هو صريح، وبه أجاب القاضي الروياني.

ص: 431

قال: وإن قال: الحلال علي حرام، ولم تكن له زوجة ولا جايرة- لم يلزمه شيء؛ لأن التحريم ليس بيمين، ولا هو مستعمل في تحريم الطعام؛ فلا يجب به كفارة يمين. والأصل: عدم لزوم شيء آخر، ويخالف ما إذا كان له زوجة أو جارية؛ لأن الأبضاع مختصة بالحظر والاحتياط، وللتحريم فيها تأثير بالطلاق والظهار والعتق إذا نوى؛ فجاز أن يؤثر فيها حكماً آخر.

ولا فرق فيما ذكرناه بين أن ينوي مع ذلك أو لا، وفيه شيء سأذكره من بعد.

قال فإن كان له زوجة، فنوى طلاقها، أو جارية، فنوى عتقها- وقع الطلاق والعتق؛ لأن الطلاق والعتق سبب تحرم به المرأة والأمة؛ فصح أن يكنى بالحرام عنهما، وهذا هو المذهب، وقد تقدم في كتاب الطلاق حكاية مذهب القفال في لفظ "الحرام" في الطلاق، وحكاية وجه آخر: أنه إذا قلنا: إن لفظ "الحرام" صرحي في إيجاب الكفارة، ونوى به الطلاق لا يقع؛ لأنه وجد نفاذاً في موضعه، ويتجه جريانه في العتق أيضاً؛ لوجود ما ذكر من العلة، والكلام في ذلك محال على ما هو مذكور في كتاب الطلاق.

فرع: ذكر القاضي الحسين في "الفتاوى": إذا كان تحته امرأتان، فقال: حلال الله علي حرام إن خطتُ في هذه الدار، فخاط- يقع على كل واحدة منهما طلقة. ويوافقه ما ذكر الشيخ الحسين في "فتاويه": أنه إذا قال: حلال الله علي حرام، وله أربع [نوسة] زوجات- يطلقن جميعاً، إلا أن يريد بعضهن، لكنه ذكر بعد ذلك أنه لو قال: إن فعلت كذا فحلال الله علي حرام، وله امرأتان، ففعل ذلك الفعل- تطلق واحدة منهما؛ لأنه اليقين، ويؤمر بالتعيين. قال: ويحتمل غيره. فحصل تردد، حكى ذلك الرافعي في كتاب الطلاق.

قال: وإن نوى الظهار، صح الظهار في الزوجة؛ لأن الظهار يقتضي التحريم إلى التكفير؛ فجاز أن يكنى عنه بـ "الحرام".

قال: دون الأمة؛ لأن الظهار من خواص النكاح؛ فكانت نيته لغواً.

[و] قال ابن الصباغ: عندي أن نية الظهار كنية الحريم؛ [لأن] معنى نية

ص: 432

الظهار أن ينوي أنها كظهر أمه في التحريم، وهذه نية التحريم بصفة مؤكدة.

قال: وإن نوى تحريمها، لزمه بنفس اللفظ لكل واحدة منهما كفارة يمين:

أما إذا كانت أمة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم: "أتى منزل حفصة؛ فلم يجدها وكانت قد خرجت إلى بيت أبيها، فدعا أمته مارية إليه؛ فأتت حفصة، فعرفت الحال؛ فغضبت، وقالت: يا رسول الله، في بيتي، وفي يومي، وعلى فراشي؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم يسترضيها: "إِنِّي أُسِرّ إِلَيْكِ سراً فَاكْتُمِيهِ: هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ"؛ فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]: قدر لكم وأوجب عليكم كفارة أيمانكم.

وأما إذا كانت زوجة فبالقياس على الأمة؛ بجامع ما اشتركا فيه من تحريم فرج حلال بما لم يشرع تحريمه به.

وعن رواية صاحب "التقريب" وأبي يعقوب الأَبِيوَرْدِي وغيرهما حكاية وجه: أن الكفارة إنما تجب في الزوجة إذا أصابها، وتكون هذه اللفظة مع نية التحريم بمثابة الحلف على ترك الإصابة.

ولو حلف ألا يصيبها، فإنما يلزمه الكفارة إذا أصاب، وعلى هذا: يصير مُولياً بقوله: أنت علي حرام؛ لوجوب الكفارة لو وطئها، وعلى الأول- وهو المذهب- لا يحرم الوطء إلى التكفير، بخلاف الظهار.

ثم لا فرق فيما ذكرناه بين أن تكون نية التحريم مطلقة، أو مقيدة بيوم أو شهر مثلاً.

وفي "النهاية" وغيرها حكاية وجه فيما إذا نوى تحريماً مؤقتاً: أن [نيته تلغى] أصلاً ورأساً، على ما حكاه في كتاب الظهار.

فرع: لو قال: أردت بقولي: أنت علي حرام، الحلف على الامتناع من الوطء، ففي قبول ذلك وجهان حكاهما الإمام وغيره:

ص: 433

أحدهما: أن اليمين لا تنعقد، وهو الذي صححه أئمة المذهب؛ فإن عماد اليمين- كما ذكرنا- اسم معظم، ولم يوجد.

والثاني: أنها تنعقد، وعلى هذا: ففي جعله يميناً في غير الزوجات والإماء من المطاعم والملابس تردد.

قال: وإن لم ينو شيئاً، ففيه قولان:

أحدهما: لا يلزمه شيء؛ لأنه لو كان صريحاً في إلزام الكفارة لما جاز نقله عما هو صريح فيه: كالطلاق، إذا نوى الزوج به الظهار، أو نوى بالظهار الطلاق.

والثاني: يلزمه كفارة يمين، وهو الأصح، ورجحه ابن الصباغ؛ لما روي عن ابن عباس أنه- عليه السلام:"حرم مارية على نفسه؛ فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} الآيات [التحريم: 1]؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من حرم على نفسه حلالاً أَنْ يَعْتِقَ رَقَبَةً، أَوْ يُطْعِمَ عَشْرَةَ مَسَاكِيْنَ، أَو يَكْسُوَهُمْ"، وهذا عام يشمل الحرة والأمة. والقائلون بها أجابوا عما قاله الأولون: بأنا وإن جعلنا التحريم صريحاً في إلزام الكفارة فليس على طريق القطع، بل يحتمل الطلاق وغيره؛ لأنه مجتهد فيه، والطلاق والظهار صريحان في أنهما على طريق القطع؛ فلا يلتحق الحرام بهما.

ومن هذا القبيل ما لو قال لزوجته المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق؛ فإنا نجعل قوله: أنت طالق، ثانياً- صريحاً في وقوع طلقة ثانية عند عدم النية على الصحيح. ولو قال: أردت به التأكيد، قبلناه قولاً واحداً؛ لكون اللفظ محتملاً له.

ومن أصحابنا من جعل قوله للأمة: أنت علي حرام، صريحاً في إيجاب الكفارة قولاً واحداً؛ لأن النص ورد فيها.

واعلم أن محل الكلام في الأمة إذا كانت حلالاً له، فلو كانت محرمة عليه: كأخته من الرضاع أو النسب، ونوى تحريم عينها، أو أطلق- لم تلزمه الكفارة؛ لأنه صدق في وصفها، وكذا لو قال مثل ذلك للرجعية ولو كانت الأمة معتدة أو مرتدة أو

ص: 434

محرمة أو مجوسية فوجهان:

أحدهما: أن الجواب كذلك؛ لأنها محرمة عليه في الحال.

والثاني: تجب الكفارة؛ لأنها محل الاستباحة، بخلاف الأخت؛ فصارت كما لو كانت حائضاً أو نفساء أو صائمة، وطرد الحناطي الخلاف في هؤلاء. والظاهر الأول.

ويجري الخلاف المذكور في الأمة إذا كانت محرمة أو معتدة، في الزوجة، إذا كانت كذلك.

فروع:

الأول: لو قال: كل ما أملكه حرام عليَّ، وله زوجات وإماء، ونوى التحريم فيهن، أو أطلق، وجعلناه صرحياً- فيكفيه كفارة يمين واحدة، أو تجب لكل واحدة كفارة؟ فيه طريقان:

أحدهما- وبه قال أبو إسحاق، وأبو علي الطبري-: أنه على القولين؛ كما لو ظاهر عن نسوة بكلمة واحدة.

والثاني: القطع بكفارة واحدة؛ كما لو حلف لا يكلم جماعة، فكلمهم، وهذا هو الأصح.

وحكى الصيدلاني وغيره قولاً- أو وجهاً- آخر: [أنه] تجب للزوجات كفارة وللإماء كفارة. وحكى الحناطي وجهاً ضعيفاً: أنه يلزمه للمال أيضاً إذا كان له مال. قال الرافعي: وربما جاء على ضعفه فيما إذا وصف المال وحده بالتحريم.

الثاني: لو قال: أنت حرام، ولم يقل: علي- قال في "التهذيب": هو كناية قولاً واحداً.

الثالث: لو قال: أنت علي كالميتة أو الدم أو الخنزير أو الخمر، وقال: أردت الطلاق أو الظهار- فهو كما لو نوى.

وإن قال: أردت التحريم، فعليه الكفارة، وحكى الحناطي قولاً: أنه لا تجب الكفارة.

ص: 435

وقال الشيخ أبو حامد: إن قلنا: إن لفظ "التحريم" صريح في إيجاب الكفارة، وجبت، وغن قلنا: إنه كناية، فلا يجب شيء؛ لأن الكناية لا ينوى بها الكناية. وإن أطلق فظاهر النص: أنه كالحرام، وعلى ذلك جرى الإمام. ثم قال: ويجوز الا تجعل هذه الألفاظ صرائح، ويختص "الحرام" بكونه صريحاً؛ لورود القرآن به، والذي ذكره على سبيل الاحتمال هو الذي أورده صاحب "التهذيب" وغيره.

وفي "المهذب": أنا إن قلنا: إن لفظ "التحريم" صريح في إيجاب الكفارة، لزمته؛ لأن ذلك كناية عنه، وإن قلنا: إنه كناية، لم يلزمه شيء، لأن الكناية لا يكون لها كناية.

ولو قال: أردت أنها كالميتة في [النفرة والاستقذار،] قبل ولم يلزمه شيء، وكرهه أبو الفرج السرخسي.

***

ص: 436