المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب جامع الأيمان - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٤

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب جامع الأيمان

‌باب جامع الأيمان

أورد الشيخ- رحمه الله في هذا الباب ما يتعلق به الحنث، وما يحصل به انحلال اليمين، وهو الركن الثالث، كما ذكرناه.

والحنث في أصل اللغة: الإثم والحرج، ويطلق- أيضاً- بمعنى "الميل"، والمراد به ها هنا: نقض اليمين والرجوع عنها.

قال- رحمه الله إذا قال: والله لا سكنت داراً، وهو فيها، وأمكنه الخروج منها، فلم يخرج- حنث؛ لأن اسم "السكنى" [يقع] على الابتداء والاستدامة؛ ألا ترى أن القائل يقول: سكنت الدار شهراً؟! وإذا كان الاسم يتناول الجميع حنث؛ لوجود المخالفة.

ولا فرق في ذلك بين أن يطول مكثه بعد اليمين أو لا، ولا بين أن يخرج أهله وأثاثه ويبقى وحده أو لا.

واستدل الماوردي في كتاب العدد على أنه إذا نقل قماشه وأقام، يسمى ساكناً بقوله- تعالى- حكاية عن إبراهيم:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ} الآية [إبراهيم: 37]؛ فأخبر بإقامتهم مع خلوهم من مالهم ورحلهم؛ فثبت أن الاعتبار بالبدن دون الرحل والمال.

ولو لم يتمكن من الخروج؛ لقيد أو حبس أو زمانة، ولم يجد من يحمله- لم يحنث، وكذا لو خاف على نفسه أو ماله.

وخرج أبو علي بن أبي هريرة قولاً في الصور الأول: أنه يحنث من الناسي، قال الماوردي: وليس بصحيح.

وحكى الرافعي الخلاف فيما إذا مرض، وعجز بعد الحلف، وجعله كالمكره، وكذلك البغوي.

ولو وجد الزمن من يخرجه، فلم يأمره بإخراجه- حنث.

والمقام لجمع القماش، ونقل الأهل، ولبس ثياب الخروج يحصل به الحنث عند العراقيين، وحكى الإمام عنهم القطع به.

ص: 437

وفي "الحاوي" الجزم بأنه لا يحنث بلبس ثياب الخروج.

والذي ذكره المراوزة: أنه لا يحنث بالجمع؛ لأن المشتغل بأسباب الخروج لا يعد ساكناً في الدار.

ولو احتاج إلى أن يبيت في الدار ليلة لحفظ المتاع ففيه احتمالان للقاضي ابن كج، والأصح عنده: أنه لا يحنث.

وهذا التردد يناظر ما حكاه الماوردي فيما لو أقام لغلق أبوابه وإحراز ما يخاف على تلفه من أمواله، وكان لا يقدر على استنابة أمين فيه؛ فإنه لا يحنث على الصحيح من المذهب، ويحتمل وجهاً آخر: أنه يحنث، أما إذا قدر على الاستنابة فإنه يحنث. هذا آخر كلامه.

وقال مجلي: الذي ذكره الأصحاب إجراء الخلاف من غير تقييد.

وحكم المقام لأجل الصلاة إذا ضاق الوقت، وعلم أنه إذا خرج قبل الصلاة فاتته- حكم ما لو مُنِع من الخروج؛ إقامة للمنع الشرعي مقام الحسي، حكاه الماوردي.

قال: وإن خرج منها بنية التحول لم يحنث، أي: وإن بقي أهله وقماشه؛ لأنه خرج بنية الانتقال فليس بساكن في الموضع، وبقاء رحله وأهله لا يمنع من ذلك، واستدل له الماوردي في كتاب العدد بقوله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] فأخبر أن بيوت المتاع غير مسكونة، ولأنه يجوز أن يريد السكنى وحده دون أهله وماله، وإذا جاز أن يريده، فإذا نواه فقد [حصل] معه الانتقال.

قال: وإن رجع إليها لنقل القماش، لم يحنث، أي: وإن قدر على الاستنابة؛ لأنه لا يعد سكنى. وحكم الرجوع لعيادة مريض أو زيارة أو عمارة- حكم الرجوع لنقل القماش، لكن إذا لم يقعد، بل فعل ذلك مارّاً، وإن قعد عند المريض حنث، قاله في "التهذيب"، ويجيء مثله في غيره.

ولو خرج في الحال، ثم اجتاز بها؛ بأن دخل من باب وخرج من باب- فالصحيح:

ص: 438

أنه لا يحنث؛ لأن الذي وجد عبور لا سكنى. ولو تردد فيها ساعة بلا غرض حنث.

قال الرافعي: ولك أن تقول: قوله: لا أسكن، إن كان المراد: لا أمكث، فهذا ظاهر، وإن كان المراد: لا أتخذها مسكناً، فإذا دخلها مجتازاً، أو دخل فيها ساعة- فينبغي ألا يحنث؛ لأنها لا تصير مسكناً بذلك.

واعلم أن تقييد الشيخ الخروج بنية التحول، وكذلك ابن الصباغ- يشعر بأنه إذا خرج لا بنية التحول، وترك أهله وقماشه نه يحنث، ومما يؤيده أن مجلياً وابن الصباغ رداً على من ألزمنا أنه لا يقال: سكن، إلا أن يكون معه أهله وماله؛ ولهذا إذا نزل بأهله وماله في بلدٍ يقال: سكنه، ولا يقال له ذلك دونهم؛ فإنه إنما يقال له ذلك؛ لأن الظاهر من حاله أنه إذا ترك أهله وماله في بلد آخر، لا يقصد السكنى، والأمر في مسألتنا محمول على قصد التحول.

لكني لم أر لأحد تصريحاً بذلك، والذي ذكره غيرهما مجرد الخروج من غير تقييد بما ذكراه.

قال: وإن حلف لا يساكن فلاناً، فسكن كل واحد منهما في بيت من دار كبيرة، أو خان، أي: صغيراً كان أو كبيراً، وانفرد كل واحد منهما بباب وغلق- لم يحنث، أي: سواء كان البيتان متلاصقين أو مفترقين؛ لأنه لا يعد مساكناً له، وجزم المراوزة بأنه في الدار يحنث، وفي الخان وجهان.

أما إذا كانت الدار صغيرة، حنث، وإن كان لكل واحد منهما باب وغلق؛ لمقاربتهما، وكونهما في الأصل مسكناً واحداً.

وحكى الرافعي أن منهم من أطلق وجهين في [سكنى] الدار من غير نظر إلى الصغر والكبر، ورأى الأصح: حصول المساكنة. وإذا قيل به، فلو كان أحدهما في الدار والآخر في حجر مفردة المرافق وبابها في الدار- فالذي حكاه الماوردي: أنه يحنث، وطرد ذلك فيما لو كان لها باب خارج الدار، وبابها إلى الدار مفتوحاً، دون ما إذا كان مسدوداً.

ص: 439

وقال الرافعي في الصورة الأولى: الأصح: أنه لا مساكنة. وهو الذي أورده البغوي في حجرتين مفردتي المرافق في الدار. ولو كانت الحجرة في الفندق ومجازها من الفندق، فلا مساكنة. ولو عدمت الأبواب في الدار الكبيرة والخان حنث، قال الرافعي: ويشبه ألا يشترط في الخان أن يكون على كل بيت منهما بابٌ وغَلَقٌ؛ كالدُّورِ في الدرب.

ثم هذا كله إذا لم يقيد المساكنة بموضع، لا بلفظه ولا بنيته.

أما إذا قيدها ببيتٍ، أو دار ونحوه، فيحنث بمساكنته في ذلك الموضع دون غيره.

وفي طريقة الصيدلاني: أنه إذا [قيدها بنية]، وكانا يسكنان بيتاً واحداً من دار متحدة المرافق، فأراد أنه لا يساكنه في ذلك البيت- حملت اليمين عليه. أما إذا لم يكن كذلك، ولا جرى ذكر تلك المساكنة فلا يقبل قوله، وتحمل اليمين على الدار.

ولو نوى ألا يساكنه في البلد؛ فهل لنيته أثر، حتى إذا سكن هو وإياه في البلد يحنث؟ فيه وجهان:

أحدهما: أن لها أثراً، ولم يحك ابن الصباغ والمتولي والماوردي سواه.

والثاني: لا؛ لأن اللفظ لا ينبئ عنه، ومجرد النية لا أثر [لها]. فإن قلنا بهذا: فلو نوى ألا يساكنه في المحلة، وهي مفتوحة السكة، ففيه تردد، وإن كانت مسدودة السكة قال الإمام: فيظهر القطع بإتباع نيته.

فروع:

لو حلف لا يساكنه، وأطلق، وكانا في موضعين؛ بحيث لا يعد أحدهما مساكناً للآخر، وأقاما على ذلك- لم يحنث.

وفي "التتمة" رواية قول ضعيف: أنه لابد من مفارقة أحدهما المكان الذي هو فيه، سواء كان داراً أو حجرة أو درباً أو محلة. ولا خلاف أنه لا يجري في البلد. صرح به الإمام.

ص: 440

ولو حلف: لا يساكنه في بيت واحد، وكانا فيه، فتحولا، أو أحدهما في أول حال الإمكان- لم يحنث.

وقال أبو الفياض البصري: اليمين تنعقد على فعل الحالف وحده؛ فإن خرج المحلوف عليه لا يبر الحالف، حكاه عنه مجلي، وحكاه عنه الماوردي فيما إذا قال: لا سكنت، وأجراه فيما لو قال: لا سكن معي؛ فإنه إذا خرج الحالف لا يبر، وأنه فرق بينه وبين المساكنة، ثم قال: وهذا وإن كان له وجه فهو ضعيف.

ولو لم يتحولا، ولكن شرع في بناية حائل بينهما من طين أو غيره، وكان لكل من الجانبين مدخل، أو اتحد المدخل- فلا يحنث على وجهٍ؛ لاشتغاله برفع المساكنة، وهذا ما رجحه في "التهذيب". والأصح عند الجمهور، وبه جزم الماوردي: الحنث؛ لحصول المساكنة- إلى أن يتم البنيان- من غير ضرورة.

نعم، لو خرج أحدهما، فبنى الحائط، ثم عاد وسكن- لم يحنث الحالف، هكذا أطلقوه، ولم يجعلوا ذلك كالبيتين من الدار، وكان الفرق أن البيتين من الدار وإن افرد كل واحد منهما بباب وغَلَقٍ، فساحة الدار مشتركة بينهما في الاستطراق، وها هنا لا مشاركة في شيء أصلاً، وبهذا يظهر أن البيتين من الدار لو لم يشتركا في الاستطراق كان الحكم كذلك.

ولو حلف: لا يساكن زيداً وعمراً، بر بخروج واحد منهما.

ولو قال لا ساكنت زيداً ولا عمراً، لم يبر بخروج واحد منهما، قاله الماوردي.

ولو حلف: لا يساكن فلاناً شهر رمضان، فالحنث يتعلق بالمساكنة معه في جميع الشهر، ولا يحنث بالمساكنة ساعة، وهذا ما أجاب به إمام العراقيين أبو بكر الشاشي، حكاه الرافعي في فروع الطلاق.

فائدة: إذا قال: والله، لا آويت عند فلان، أو: في داري، فمتى مكث في الموضع المحلوف عليه زماناً، حنث؛ فإن الإيواء هو السكون في المكان، حكاه البندنيجي، ثم قال: وأما البيتوتة فليس لأصحابنا فيها نص، والذي يجيء على المذهب: أنها عبارة عن السكون في المكان أكثر من نصف الليل، وهو قول العراقيين.

ص: 441

قال: وإن حلف: لا يدخل هذه الدار، وهو فيها، فلم يخرج- ففيه قولان:

أصحهما: [أنه لا] يحنث؛ لأن الدخول هو الانفصال من خارج إلى داخل، وهو لا يوجد في الاستدامة؛ [ولهذا لا يقال]: دخلت [الدار] شهراً، وإنما يقال: دخلها منذ شهر، وهذا ما حكاه في "التهذيب".

والثاني: يحنث؛ لأن الاستدامة بمنزلة الابتداء في التحريم بالنسبة إلى ملك الغير؛ الا ترى أنه لو دخل داراً مغصوبة لا يعلمها، ثم علم، فاستدام، أثم؟! كذلك استدامة الدخول تنزل منزلة ابتدائه.

وعلى هذا: لو خرج عقيب اليمين لم يحنث، ولو خرج، ثم رجع لنقل القماش، حنث؛ لأنه دخل، بخلاف ما ذكرناه في السكنى؛ لأن السَّكن لا يحصل بمجرد الدخول.

ويجري مثل هذا الخلاف فيما لو حلف: لا يخرج من هذه الدار، وهو خارج عنها.

واعلم أن من الأصحاب من لم يثبت للشافعي في هذه المسألة قولاً سوى الأول، وحكى الخلاف وجهين، وأول ما حكي عن الشافعي من الحنث على حكاية مذهب الغير.

فرع: لو نوى بالدخول الاجتياز، وأقام- حنث على الأصح.

قال الإمام: ومن أصحابنا من قال: لا يحنث؛ لأن اللفظ إذا لم يصادف المقصود تجردت النية، والنية المجردة لا تلزم شيئاً.

قال: وإن حلف: لا يلبس ثوباً، وهو لابسه، فاستدام، أو: لا يركب دابَّة، وهو راكبها، فاستدام- حنث؛ أي: إذا تمكن من نزع الثوب والنزول عن الدابة؛ لأن استدامته الركوب واللبس يسمى به: راكباً ولابساً؛ ولهذا يقال: لبست الثوب شهراً، وركبت الدابة يوماً.

ويلتحق بهذا القسم ما إذا حلف: لا يقعد، وهو قاعد، فلم يقم، أو: لا يقوم، وهو

ص: 442

قائم، فلم يجلس، أو: لا يستقبل القبلة، وهو مستقبلها، فلم يتحول عنها؛ على ما حكاه في "التهذيب".

قال: إن حلف: لا يتزوج، وهو متزوج، أو: لا يتطيب، وهو متطيب، أو: لا يتطهر، وهو متطهر؛ فاستدام- لم يحنث؛ لأن الاستدامة في هذه الأشياء لا تجري مجرى ابتدائها في الاسم؛ ولهذا لا يقال: تزوجت شهراً، بل: منذ شهر، ولا: تطيبت- ولا: تطهرت- شهراً.

قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من حكى في الطيب وجهاً آخر، وليس بشيء.

وحكى في "الحاوي" الوجهين، ووجهاً ثالثاً عن أبي الفياض: أنه إن بقي أثر الطيب، فاستدامه- حنث؛ وإن بقيت الرائحة، لم يحنث.

فروع:

لو حلف: لا يجامع، وهو مجامع؛ فلم ينزع، أو: لا يصوم، وهو صائم؛ فلم يفطر، أو: لا يصلي، وهو في الصلاة، وكان ناسياً، ولم يبطلها- ففي حنثه وجهان، حكاهما البغوي، وبناهما على أنه إذا حلف: لا يصلي، هل يحنث بمجرد الصلاة أم لا؟

ولو حلف: لا يغصب، لم يحنث باستدامة المغصوب في يده.

ولو حلف: لا يسافر، وهو في السفر، فوقف، أو أخذ في العَوْدِ في الحال- لم يحنث، وإن سافر على وجهه حنث، قاله في "المهذب" و"التهذيب".

قال الرافعي: وهو محمول على ما إذا قصد السفر لجهة، وإلا فنفس العود سفر.

والمذكور في "الحاوي": أن استدامة الجماع واستدامة الغصب، كاستدامة اللبس، وأن في حنثه إذا توقف في السفر وأقام بمكانه وجهين.

قال: وإن حلف: لا يدخل داراً، فصعد سطحها- أي: من خارج- لم يحنث، أي: سواء كان محجوراً عليه أو غير محجور عليه، وهو ظاهر نصه في "المختصر"؛ لأن السطح حاجز يقي الدار من الحر والبرد، ويحرزها؛ فهو كحيطانها، ولو وقف على عتبة الدار في سمك الحائط لم يحنث، كذلك إذا وقف على السطح. وقال أبو ثور: إنه يحنث. قال مجلي: وبه قال بعض أصحابنا، وهو خطأ؛ لما ذكرناه، ولأن

ص: 443

الدار حرز لما فيها يقطع سارقه، وما فوق السطح ليس بمحرز، ولا قطع على سارقه؛ فلما خرج السطح عن حكم الحرز في القطع، وجب أن يخرج عن حكم الدار في الحنث.

قال: وقيل: إن كان محجراً حنث؛ لأنه يحيط به سور الدار؛ ولهذا لو صلى على ظهر الكعبة وهو على هذه الهيئة تصح صلاته، وإذا كان كذلك أشبه ما لو حصل في الدار، وهذا أظهر؛ على ما حكاه القاضي الحسين في "الفتاوى" في ضمن مسألة، وهي ما إذا قال: من كانت من نسائي في الدار فهي طالق.

وحكى الماوردي عن أبي الفياض: أن السترة إن كانت عالية بحيث يحجر مثلها لو كان في العرصة حنث، وغلا فلا.

ثم محل الخلاف فيما إذا كان التحجير من جميع الجوانب، أما إذا كان من جانب واحد، فلا يحنث، وإن كان من جانبين أو ثلاثة، ففيه خلاف مرتب.

تنبيه: عدول الشيخ عن لفظ "التحصير" إلى "التحجير" يعرفك أن الحكم خاص بالتحجير، دون ما إذا كان محصراً بالقصب أو الخشب الضعيف، كما حكاه الماوردي. على أن القاضي أبا الطيب في أول كتاب الحجر قال: إنه يقال للدار المحوطة: محجرة؛ لأن بناءها يمنع من الاستطراق إليها. فإن كان الشيخ قصد ذلك لم [يكن احترز] به عن شيء؛ لأن ذلك حقيقة في المتخذ من الخشب وغيره.

فرع: لو حلف: لا يخرج من الدار، فصعد السطح- حنث، قاله ابن الصباغ وقال البغوي: إن لم يكن محوطاً حنث، وإن كان محوطاً فوجهان.

ولو حلف على الخروج، فصعد السطح، فهل يبر؟ فيه وجهان. حكاهما أبو الحسن العبادي وغيره:

اختيار الشيخ أبي محمد منهما: أنه لا يبر.

وأشبههما- وهو اختيار القاضي الحسين-: أنه يبر.

قال: وإن كان فيها نهر، فحصل في النهر الذي فيها- أي: بسباحة أو في سفينة- أو صعد شجرة تحيط بها حيطان الدار- حنث؛ لتحقق الدخول.

ص: 444

ولو حصل في موضع من الشجرة، وهو أعلى من حيطان الدار- لم يحنث، ولو كان يحيط به سترة السطح فحكمه حكم ما لو كان على السطح، حكاه البندنيجي وغيره، وهكذا [الحكم فيما لو كانت الشجرة خارج الدار وأغصانها في الدار وفوقها على ما حكاه] الماوردي.

فروع:

لو حصل في الطاق المعقود خارج الباب، فهل يحنث؟ فيه وجهان، أصحهما، وهو الذي أورده الغزالي: المنع، ولو دخل الدهليز خلف [الباب] وبين البابين حنث؛ لأنه من الدار. وحكى [الفوراني نصّاً] للشافعي: أنه لا يحنث، وأوله بعضهم على الطاق، ونزل المتولي الدرب المختص بالدار أمام الباب إذا كان داخلاً في حد الدار، ولم يكن في أوله باب- منزلة الطاق؛ فإن كان عليه باب فهو من الدار، مسقفاً كان أو غير مسقف.

ولو حلف: لا يخرج من الدار، وفي الدار شجرة، فرقى غصناً منها، والغصن خارج عنها- ففي حنثه وجهان، أصحهما: نعم، حكاه الرافعي في فروع الطلاق. والله أعلم.

قال: وإن حلف: لا يدخل دار فلان هذه، فباعها، فدخلها- حنث؛ لأنه عقد اليمين على [عين] تلك الدار، ووصفها بإضافة تطرأ وتزول؛ فغلب الأقوى، وهو التعيين، ولأنه قد اجتمع في اليمين الإضافة والتعيين؛ فكان الحكم للتعيين؛ كما لو قال: والله لا كلمت زوجة فلان هذه، و: صديقه هذا، وزالت الزوجية والصداقة، ثم كلمه؛ فإنه يحنث. وفي "النهاية" وغيرها حكاية قول مخرج:[أنه لا] يحنث، وكأن قائله اعتمد الإشارة والإضافة، وربط اليمين بهما؛ فلا يحصل الحنث بأحدهما. وناصر المذهب يغلب الإشارة، ويجعل الإضافة معها كالتأكيد الذي لا يعتني به؛ لتعرضها للزوال، كما ذكرناه. ثم هذا عند الإطلاق، فلو نوى الحالف اعتبار الملك والإشارة، قال الإمام: فلفظه منزل على نيته.

ص: 445

واعلم أن ضابط هذا النوع أن يعلق اليمين بشيء بعينه مضافاً إلى غيره.

ولو حلف: لا يدخل دار فلان، فباعها، ثم دخلها- لم يحنث، وكذا لو حلف: لا كلمت عبد فلان، أو زوجته. وضابط هذا النوع ان يعلق اليمين بشيء [غير] معين، مضافاً إلى غيره؛ إضافة ملك لا إضافة تعريف.

ويتفرع على ذلك فروع:

أحدها: لو دخل داراً موقوفة عليه، إن قلنا: إن الملك له، حنث، وإلا فلا، وكذلك الحكم فيما لو دخل داراً وقفها.

الثاني: لو كان فلان مكاتباً، فدخل داراً له- قال البندنيجي: إن قلنا: إنه يملك، حنث، وإن قلنا: لا يملك، لم يحنث.

وظاهر المذهب: أنه يحنث؛ لأنها في حكم ملكه؛ بدليل أنه يتصرف فيها دون سيده.

الثالث: لو كانت له دار حالة اليمين، فباعها، ثم اشترى أخرى فدخلها- حكى الرافعي عن الصيدلاني: أنه عن قال: أردت الدار الأولى، لم يحنث، وإن قال: أردت أي دار تكون في ملكه، حنث. وسكت عن حالة الإطلاق.

وقد حكى العبادي في "الزيادات": أنه لا يحنث على أظهر الوجهين، والمذكور في "التهذيب": مقابله.

قال: وإن حلف: لا يدخل دار فلان، فدخل ما يسكنه بكراء أو عارية- لم يحنث؛ لأن الإضافة إلى من يملك تقتضي الملك حقيقة؛ بدليل أنه لو قال: هذه الدار لفلان، ثم قال: أردت أنه يسكنها- لم يقبل، وكان إقراراً له بالملك، وإذا اقتضى الإقرار الملك حقيقة تعلقت به اليمين المطلقة.

ويروي عن القاضي الحسين: أنه إن حلف على ذلك بالفارسية حمل على المسكن.

قال الرافعي: ولا يكاد يظهر فرق بين [اللغتين]، وفي "الجيلي": أن في

ص: 446

زماننا الفتوى على الحنث وإن لم يكن مالكاً؛ إذ لو قيل للحالف: أي دار أردت؟ لا يشير إلا إلى الدار التي يسكنها.

وما قاله مستمد من جعل لفظ "الحرام" صريحاً في الطلاق، كما صار إليه متأخرو الأصحاب، ومن أن المعتبر في الأيمان عرف اللافظ، لا عرف اللفظ، على ما سنذكره فيما إذا حلف: لا يدخل بيتاً.

وقد حكى الرافعي في آخر هذا الباب عن الروياني: أن الفتوى على ذلك، لكن قاله فيما إذا حلف: لا يدخل حانوت فلان.

قال: إلا أن ينوي ما يسكنها، أي: فحينئذٍ يعمل بقوله؛ لأن الشرع ورد باستعماله في ذلك على سبيل المجاز؛ فأثرت فيه النية، قال الله- تعالى-:{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] والمراد: بيوت الأزواج.

وإنما قلنا: إن ذلك على طريق المجاز؛ لأنه يجوز ان يقال بعد قول القائل: هذه دار فلان: لا، وإنما يسكنها. ولو كانت حقيقة لما صح مثل ذلك.

واعلم أن كلام [ابن] يونس في هذا الموضع يقتضي أنا إنما نعمل مبا نواه إذا كان الحلف بالله- تعالى- أما إذا كان بالطلاق والعتاق، فيدين.

وهذا فيه نظر؛ لأن الحالف إنما يدين فيما ينفعه إذا كان على خلاف الظاهر، أما ما فيه تغليظ عليه فيقبل منه في الظاهر، وهذا مما فيه تغليظ عليه.

قال: وإن حلف: لا يدخل مسكن فلان، فدخل ما يسكنه بكراء أو عارية- حنث؛ لأنه قد وجد السكون حقيقة، ولهذا لا يصح نفيه عنه.

ولو دخل مسكنه المغصوب، ففي "المهذب": أنه يحنث.

وحكى الغزالي في الحنث وجهين.

ولو دخل ملكاً له: فإن كان يسكنه حنث، وإلا فثلاثة أوجه، حكاها الإمام ومن تابعه، ثالثها: إن كان قد سكنه ساعة ما، حنث، وإلا فلا.

وهذا كله [إذا أطلق، أما لو أراد بيمينه مسكنه المملوك لم يحنث بغيره بحال، هكذاي حكاه الرافعي، وكان يتجه أن يجيء فيه ما حكيته عن ابن يونس في المسألة قبلها.

ص: 447

قال: وإن حلف: لا يدخل هذه الدار، فصارت عرصة، فدخلها، لم يحنث؛ لزوال اسم الدار.

وفي "النهاية" عند الكلام فيما إذا حلف: لا يأكل هذه الحنطة حكاية وجهين في حصول احلنث، كما قلنا فيما إذا حلف: لا يأكل هذه الحنطة بغير اسمها، وجزم القول بالحنث فيما إذا حلف: لا يدخل هذه الدار، فصارت عرصة، فدخلها، ثم قال بعدذ لك: إنه يخرج على ما لو قال: لا ألبس هذا الثوب، وكان قميصاً، ثم تخرق، وسوى منه رداءً أو إزاراً، وسنذكره من بعد، إن شاء الله تعالى.

ولو جعلت الدار حانوتاً أو بستاناً أو غير ذلك، لم يحنث بدخوله.

ولو انهدم بعضها، فإن كانت مع ذلك تسمى داراً خربة، حنث بدخولها، وإن بقيت [بحيث] يقال: هذه رسوم دار فلان، فلا يحنث، كذا قاله الإمام في "التهذيب": إنه إذا كان الأساس باقياً، فدخلها حنث.

قال: وإن أعيدت بنقضها فدخلها، فقد قيل: يحنث؛ لأنها عادت كما كانت، وهذا هو الأصح، وقيل: لا يحنث؛ لأنها غير تلك الدار، فلم يحنث؛ كما لو أعيدت بغير تلك الآلة.

ويتجه من حيث القياس أن يكون الحكم فيما لو حلف: لا يستند إلى هذا الجدار، فهدم، ثم أعيد واستند إليه- كما ذكرناه، لكن القاضي أبا الطيب في كتاب الصلح جزم بالحنث فيما إذا أعيد بنقضه، وبعدمه فيما إذا أعيد بغيره، وحكى بعده: أنه لو حلف: لا يكتب بهذا القلم، وهو مبري، فانكسر؛ فبراه، فكتبه به- أنه لا يحنث؛ لأنه لا يسمى قلماً إلا إذا كان مبريّاً، وتسميته قلماً قبل البراية مجاز.

تنبيه: النقض- بكسر النون-: البناء المنقوض والمهدوم، قاله الجوهري.

قال النواوي: والمشهور- ولم يذكر الليث والأزهري وصاحب "المحكم" غيره-: أنه بضم النون.

قال: وإن قال: والله لا دخلت هذه الدار من بابها، فحول بابها إلى موضع آخر- أي: ودخل منه- فقد قيل: لا يحنث، وهو ظاهر النص، أي: في "المختصر"، وهو

ص: 448

المحكي عن الإمام أيضاً، وبه قال ابن أبي هريرة؛ لأن الإضافة اقتضت تعريف الباب الموجود وقت اليمين؛ فأشبه ما لو حلف: لا يدخل دار زيد، فباعها، ثم دخلها.

وقيل: يحنث، وهو الأظهر، وبه قال أكثر الأصحاب؛ لأن المفتوح ينطلق عليه الاسم، واليمين تتعلق بتلك الصفة حال دخوله، لا حال اليمين؛ بدليل ما لو حلف: لا يدخل دار فلان، فدخل داراً ملكها بعد اليمين؛ فإنه يحنث.

ثم محل الخلاف في "المهذب" و"التهذيب" ما إذا سد الباب الأول، وغيرهما أطلق، وهو البندنيجي، والمحاملي كلامه يدل على جريانه مع فتح الأول.

ثم الخلاف يجري فميا لو قال: والله لا ادخل من باب هذه الدار، ولو قال: والله لا أدخل من هذا الباب، فدخل من الباب الجديد- لم يحنث، سواء كان عليه الباب الخشب، أو لم يكن، وإن دخل من القديم حنث، ومن أصحابنا من قال: إنه لا يحنث إذا دخل من القديم بعد نقل الباب من عليه. وليس بشيء؛ لأن الخشب لا يدخل فيه، وهذا ما حكاه العراقيون.

واعلم أن من قال بعدم الحنث بالدخول من الباب القديم بعد نقل الباب الخشب يجوز أن يكون مأخذه: أنه راعى الخشب دون الممر، ويجوز أن يكون راعاهما جميعاً.

فإن كان مأخذه الأول لزمه أن يقول بأنه إذا دخل من الباب الذي عليه الباب الخشب- أن يحنث، كما حكاه المراوزة وجهاً. [وإن كان الثاني لم يحنث بالدخول من الباب الثاني، وإن كان الباب الخشب عليه، كما حكاه المراوزة وجهاً] آخر، والله أعلم.

وقد انتظم من مجموع ما ذكرناه عن الطريقين ثلاثة أوجه.

فرع: إذا قلنا: الاعتبار بالباب الخشب، فلو قال: والله لا أدخل من هذا الباب، فنقل الباب إلى دار أخرى، فدخلها منه- قال في "التتمة": حنث. قال الرافعي: والظاهر خلافه، إلا أن يريد الحالف: أنه لا يدخل منه حيث نصب.

آخر: لو حلف: لا يدخل هذه الدار، فنزل إليها من سطح غير محوط- فهل

ص: 449

يحنث؟ فيه وجهان، حكاهما الغزالي وغيره.

قال: وإن حلف: لا يدخل بيتاً- أي: وأطلق- فدخل بيتاً من شعر أو أدم، حنث على ظاهر النص، أي: في "المختصر"- سواء كان الحالف بدويّاً أو حضرياً، قريباً من البادية أو بعيداً عنها، وهذا ما ذهب إليه أكثر المتأخرين على ما حكاه الماوردي، ووجهه- على ما قال أبو إسحاق-: أن بيت الشعر والخيمة يسمى بيتاً في البادية، وإذا ثبت للشيء [اسم عرف] في موضع ثبت له في جميع المواضع؛ كما لو حلف: لا يأكل الخبز، فأكل خبز الأرز؛ فإنه يحنث، وإن كان لا يتعارفه؛ لأنه ثبت له عرف في طبرستان.

قال البندنيجي: وهذا أصل لأبي إسحاق يستعمله في كثير من المواضع.

وقال غيره: إنما يحنث؛ لأن عرف الشرع قد ثبت بتسمية بيوت الشعر بيوتاً؛ قال الله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً} [النحل: 80].

واعترض على ما قاله أبو إسحاق: بأن من حلف ببغداد أنه لا يركب دابة لا يحنث بركوب الحمار، وإن كان أهل مصر يسمونه دابة، ولو كان ثبوت العرف عند قوم يقتضي التعميم لحنث.

وأما مسألة الخبز فلم يكن الحنث فيها بهذا السبب، [بل] لأن المتخذ من الأرز يسمى خبزاً في جميع البلاد؛ لأن كل بلد يطلقون اسم الخبز على ما يخبزونه عندهم.

واعترض على ما قاله غيره بأنه لا يحنث بدخول المساجد- على ما سنذكره- مع أن الله- تعالى- سماها بيوتاً.

والتعليل الصحيح- على ما قاله أبو الطيب-: أن اسم "البيت" يقع على بيت الشعر والأدم حقيقة في اللغة؛ لأنه موضوع لكل ما جعل ليسكن فيه، وذلك جعل ليسكن فيه، وتسميته خيمة أو مِضْرَباً، إنما هو اسم نوع، وإذا كان كذلك حنث بدخوله؛ لأن اليمين تحمل على الحقائق.

فإن قيل: قد تركتم الحقيقة للعرف فيما إذا حلف: لا يأكل البيض، فأكل بيض السمك؛ فإنه لا يحنث، وفيما إذا حلف لا يأكل الرءوس، فأكل رءوس العصافير

ص: 450

والسمك- فإنه لا يحنث، فهلا كان هذا مثله؟!

فالجواب: أن هناك عرفاً مستمراً على خلاف اللغة؛ فإنهم لا يطلقون اسم "البيض" علىب يض السمك وإن كثر عندهم، ولا اسم "الرءوس المشوية" على رءوس الطير والسمك مع كثرتها، واسم البيت المتخذ من الشعر والجلود ونحوهما لا يفهم من اللفظ عند الاستعمال؛ لفقدها وقلتها عند أهل القرى؛ فلم يتحقق عرف على خلاف اللغة، وكان ذلك كمسألة خبز الأرز، والله أعلم.

قال: وقيل: إن كان حضريّاً لم يحنث- أي: إذا كان لا يعرف بيوت البادية، كما صرح به البندنيجي، ووجهه: أن المتعارف عند أهل الحضر والمفهوم من اسم "البيت" هو المبني؛ فنزلت اليمين عليه، وهذا ما ينسب إلى ابن سريج.

ومقتضى ما ذكره البندنيجي من التصوير- مع ما ذكرناه من التوجيه-: أن البدوي إذا كان لا يعرف بيوت الحاضرة؛ فدخل البيت المبني- أنه لا يحنث، وقد جزم فيه بالحنث.

وروى المراوزة وجهاً آخر: أن الحضري القريب من البادية يحنث بدخول بيت الشعر والأدم، دون البعيد عنها.

وفي كلام ابن الصباغ إشارة إليه؛ حيث قال: الذي نص عليه الشافعي: أنه يحنث، سواءً كان بدويّاً أو قرويّاً قريباً من أهل البادية.

فائدة: قال الإمام: البدوي إذا وطن البلد، وصار يناطق أهله بما يتعارفون- فحكمه حكم القروي. والقروي إذا تبدَّى وصار يناطق أهل البادية بلغتها، فهو كالبدوي.

فروع:

لو حلف على ذلك بالفارسية، فقال: أندر خاناه بشومْ، فالذي حكي عن القفال: أنه لا يحنث ببيت الشعر والأدم والخيام؛ لأن العجم لا يطلقون الاسم عليها، بل المبني، وإن اعتبر اللفظ فاللفظ أعجمي لا يراد به الخيام، وعلى ذلك جرى الإمام والروياني وغيرهما. وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه لا فرق فيه بين العربية والفارسية، ويكون

ص: 451

الحكم كما سبق.

ولو دخل الحالف دهليز دار أو صحنها أو صفتها، لم يحنث على الأظهر. وعن القاضي أبي الطيب: الميل إلى أنه يحنث، ولو [دخل] غرفة فوق البيت لم يحنث، حكاه البندنيجي.

قال: وإن حلف: لا يدخل بيتاً، فدخل مسجداً- لم يحنث؛ لأن البيت موضوع لما جعل للإيواء والسكنى، والمسجد لم يجعل لذلك، ولأنه لا ينطلق عليه اسم البيت إلا بنوع من التقييد؛ فلم تنصرف اليمين المطلقة إليه. وحكى المتولي وجهاً: أنه يحنث؛ لقوله- تعالى- {وَطَهِّرْ بَيْتِي} [الحج: 26] وقوله- تعالى-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] ووجهه الإمام بأنه كان يحنث بدخوله قبل أن يجعل مسجداً، والتحبيس والصرف إلى جهة الخير لا يغير الاسم.

ويجري مثل هذا الخلاف فيما إذا دخل الكعبة. ولو دخل البيع والكنائ، وبيت الحمام، والغار في الجبل- لم يحنث؛ لما ذكرناه.

وفي "الرقم" للعبادي: أن ابن سريج خرج في الجميع لنفسه قولين. وفي "النهاية": أبدى ذلك من عند نفسه [قولين] فيما إذا دخل الحمام، واليبت الذي فيه الرحى.

واعلم أن الحنث بدخول الدار والبيت وغير ذلك مما حلف عليه، لا يحصل بإدخال يده أو رجله أو رأسه، ولا بإدخال رجليه وهو قاعد خارجها، وإنما يحصل إذا وضعهما في الدار، واعتمد عليهما، أو حصل في الدار متعلقاً بشيء، وكذلك في اليمين على الخروج.

قال: وإن حلف: لا يأكل هذه الحنطة، فجعلها دقيقاً أو سويقاً، أي: قلاها وطحنها، أو خبزاً، فأكله- لم يحنث؛ لأن اسم الحنطة قد زال، وكذلك صورتها؛ فزال تعلق الاسم بها؛ كما لو قال: لا أكلت من هذه الحنطة، فزرعها وأكل حشيشها، أو: لا آكل هذه البيضة، فصارت فرخاً، فأكله- فإنه لا يحنث، وهذا بخلاف ما لو حلف: لا يأكل لحماً، فشواه؛ فإنه يحنث؛ فلأن اسم اللحم وصورته لم يزولا؛ كما أنه يحنث إذا أكل الحنطة المسلوقة.

ص: 452

وقال أبو العباس بن سريج: يحنث في مسألة الحنطة؛ كما لو حلف: لا يأكل هذا الحمل، فذبحه وأكله.

وفرق الأصحاب بأن الحمل لا يؤكل، [و] القمح يمكن أكله، وبأن الحمل ممنوع من أكله في حال الحياة من غير يمين، فلم يدخل تحت اليمين، والحنطة غير ممنوع من أكلها؛ فتعلق بها اليمين.

ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يقول: لا آكل هذه الحنطة، أو: منها.

وقال الصيدلاني: إذا قال: لا ىكل منها، حنث بأكل كل ما يتخذ منها، ولو حلف: لا يأكل هذه الحنطة، فجعلها دقيقاً أو سويقاً أو خبزاً، فأكله- حنث. قال الإمام: وفاقاً.

ولو قال: والله لا آكل حنطة، ولم يشر إلى شيء، فإذا اتخذ من الحنطة دقيقاً أو شيئاً غيره، وأكله- لم يحنث. هكذا وقفت عليه في "الرافعي" وغيره.

وفي "النهاية" فيما إذا حلف: لا يلبس قميصاً، ولم يعين شيئاً، فأخذ قميصاً وفتقه، وخاط من فتوقه رداءً- حكاية وجهين في حنثه بلبسه، وقد يظهر أن المسألة مشابهة لمسألة الحنطة، ويطلب الفرق بينهما.

فرع: لو حلف: لا يأكل من لحم هذا الحمل، فصار كبشاً، أو: لا يأكل هذه البسرة، فصارت رطبة، و: هذه الرطبة، فصارت تمرة، فأكلها، أو: لا يكلم هذا الصبي، فصار شابّاً، أو: هذا الشاب، فصار شيخاً، فكلمه- لم يحنث؛ كما في مسألة الحنطة. وقال ابن أبي هريرة بحنثه، بخلاف مسألة الحنطة؛ لأن الانتقال في الحنطة بصنعه، وفيما ذكرناه بلا صنعة؛ فلا يمتنع الحنث به. وأبطل ما ذكرناه في البيضة إذا صارت فرخاً.

قال: وإن حلف: لا يأكل الخبز، فشرب الفتيت- لم يحنث؛ لأنه ليس بأكل، ولو أكل ما يسمى خبزاً حنث، سواء كان من بر أو شعير أو ذرة أو أرز أو باقلاء، وسواء كان ذلك معروفاً في بلده أو لم يكن.

ص: 453

وكذلك يحنث بأكل خبز البلوط على ما حكاه في "التتمة"، ويحنث بأكل الأقراص والزعفران وخبز المَلَّة، وسواء ابتلعه بعد المضغ أو بلعه على هيئته.

ولو أكله حرشاً ففي حنثه وجهان في "التهذيب"، وهذا ما يوجد لعامة الأصحاب على طبقاتهم، على ما حكاه الرافعي.

وحكى الغزالي عن الصيدلاني: أه لا يحنث بأكل خبز الأرز إلا بـ "طبرستان"، وهو موافق لأحد وجهين نقلهما أبو الفرج.

قال الرافعي: وينبغي أن يكون جيلان كطبرستان. وفي "تعليق" البندنيجي أن للآكل: أن يلوك الشيء بفيه ويزدرده. ومقتضى ذلك: أنه إذا لم يلكه وبلعه لا يحنث عند الحلف على الأكل؛ فقد تحصلنا في حنثه على خلاف، وقد حكاه الرافعي في فروع الطلاق؛ حيث قال: لو علق الطلاق على الأكل ففي الحنث بالابتلاع وجهان أوردهما المتولي، والأظهر: المنع؛ لأنه يصح أن يقال: ابتلع، وما أكل.

واعلم أن قول الشيخ: فشرب الفتيت لم يحنث، يوهم أنه إذا أكل الفتيت حنث؛ إذ لو لم يكن كذلك لم يكن لتخصيص شربه فائدة. والذي يظهر: أنه لا يحنث بأكل ما يعهده من الفتيت، وهو الخبز اليابس الذي يدق؛ فإنه استجد له اسم آخر كالدقيق.

نعم، يحمل ما قاله على الخبز إذا فت فشربه بالماء؛ فإنه لا يحنث بشربه، ولو أكله لحنث، وعليه يدل إيراد لامحاملي، وهو موافق لما قيل في اللغة: عن الفتيت والفتوت- بفتح الفاء فيهما- هو: الخبز المفتوت؛ فإن الفت: الكسر.

فرع: لو حلف: لا يأكل العنب أو الرمان، واحتوى فوه على المحلوف عليه ومصه، ولم يزدرد من الثفل شيئاً- لم يحنث.

وأبدى الإمام فيه احتمالاً فيما إذا [حلف]: لا آكل السكر أو الفانيذ، فوضعه في فيه، ولم يمصه حتى ذاب وابتلع الذائب- فإنه لا يحنث عند الأكثرين.

ومن الأصحاب من قال: هو أكل. وهو متجه؛ فإن الذي فعل ما وصفناه لا يقال: شرب السكر، وإنما يقال: وضع وازدرد الرضاض؛ فهو أكل.

قال: وغن حلف: لا يشرب السويق، فاستفه- لم يحنث؛ لأنه ليس بشرب؛ فلو

ص: 454

كان خاثراً بحيث يتناوله بالملعقة، فحساه.

قال الرافعي: فيه خلاف، والأشبه: أنه لا يحنث، وهو ما قطع به الشيخ أبو نصر.

وهذا الخلاف أبداه الإمام احتمالاً.

وإن حلف: لا يأكله، فاستفه، أو بله وتناوله بإصبعه أو ملعقة- حنث.

قال: وإن حلف: لا يأكل سويقاً، أو: لا يشربه، فذاقه- لم يحنث؛ لأنه ليس بأكل ولا شرب.

ص: 455

واستدل ابن الصباغ والشيخ في "المهذب" على المسائل الثلاث بأن الأفعال أجناس كالأعيان، ولو حلف على جنس [من] الأعيان لا يحنث بجنس آخر، كذلك إذا حلف على جنس من الأفعال لا يحنث بجنس آخر.

واعلم أن الذوق المتفق عليه: أن يدرك الطعم، ويزدرد من المذوق المقدار الذي يزدرده الذائق، والمختلف فيه ما سنذكره.

وقد حكم الشيخ بأنه لا يحنث بالذوق عند حلفه على الأكل أو الشرب على الإطلاق، وهذا يدل على [أن ما يزدرده الذائق] لا يحنث به، وقد صرح به الإمام حكاية عن القاضي والأصحاب، ثم قال: وقد قال الأصحاب فيمن حلف: لا يأكل-: إن الحنث يحصل بالقليل والكثير، ثم قال: فينتظم من مجموع ذلك مسلكان:

أحدهما: أن المقدار الذي هو على حد الذوق ليس أكلاً ولا شرباً، وإنما يحصل الأكل والشرب بعد ذلك.

والثاني: أن يقال: الزائد على حد الذوق لا يعتبر فيه القصد، وهو أكل أو شرب، والقدر الذي يحصل الذوق به يختلف الأمر فيه بالقصد: فإن قصد به الأكل ولم يقع درك طعمه فهو أكل أو شرب، وإن قصد به درك الطعم فهو ذائق، وليس بآكل ولا شارب.

وفي "التهذيب": أنه متى ذاق ووصل الطعام إلى حلقه، حنث عند الحلف على الأكل، وكذلك في الشرب، والله أعلم.

قال: وإن حلف: لا يذوق شيئاً، فمضغه ولفظه- فقد قيل: يحنث، وهو الأصح؛ لأن الذوق معرفة الطعم، وقد حصل.

قال: وقيل: لا يحنث؛ لأنه لا توجد حقيقة الذوق ما لم يزدرده؛ ولهذا لا يفطر به الصائم.

تنبيه: لفظه: رماه من فيه، وفاؤه مفتوحة، والمرمي يسمى: لفاظة، بضم اللام.

قال: ولو أكله أو شربه، حنث.

وفيه وجه حكاه الرافعي: أنه لا يحنث بهما، وأبداه المحاملي احتمالاً في الشرب.

ص: 456

ولو أوجره في حلقه، لم يحنث، وكذا لو كان الحلف على الأكل والشرب.

قال الشيخ في "المهذب": لأنه لم يأكل ولم يشرب ولم يذق، بخلاف ما لو قال: لا طعمت هذا الطعام، [فأوجر] في حلقه؛ فإنه يحنث؛ لأن معناه: لا جعلته لي طعاماً، وقد جعله طعاماً له.

قال: وإن حلف: لا يأكل سمناً، فأكله في عصيدة وهو ظاهر فيها- حنث؛ لأنه فعل المحلوف، وزاد عليه؛ فأشبه ما لو حلف: لا يدخل على زيد، فدخل عليه وعلى عمرو؛ فإنه يحنث.

تنبيه: العصيدة: معروفة، وسميت بذلك؛ لأنها تعصد، أي: تُلْوَى، ومنه يقال للاوي عنقه: عاصد.

والمراد بالظهور ها هنا: أن يكون ممتازاً في الحس، على ما صرح به الإمام. ولو لم يكن ظاهراً فيها لم يحنث، وكذا لو شربه لم يحنث، وفيه وجه: أنه يحنث بالشرب، وهو ضعيف.

قال: وإن أكله مع الخبز حنث، على ظاهر المذهب- أي: سواء كان جامداً أو مائعاً- لما ذكرناه.

وقيل: لا يحنث- وهو قول الإصطخري- لأنه لم يفرده بالأكل؛ فاشبه ما لو حلف: لا يأكل ما اشتراه [زيد، فأكل ما اشتراه] زيد وعمرو.

ثم هذا الوجه يجري في المسألة الأولى، وقد حكى ابن يونس أن قول الشيخ: وقيل: لا يحنث، عائد إلى المسألتين، وهو موافق لما نقله القاضي والعراقيون عن الإصطخري على ما حكاه الإمام. قال البندنيجي: وهذا الخلاف يجري في كل ما حلف: لا يأكله، فأكله مع غيره؛ كما إذا حلف: لا يأكل الخبز، فأكله مع اللحم، أو لا يأكل اللحم، فأكله مع الخبز.

واستبعد الإمام مذهب الإصطخري فيما إذا أكله مع الخبز؛ فإنه لا يؤكل إلا كذلك، ولا يتعاطى وحده فيبلع. وحكى مجلي أن أبا إسحاق قال: إن كان السمن جامداً، فأكله مع غيره- لم يحنث، وإن كان ذائباً، فأكله مع غيره، حنث. وقد تحصل

ص: 457

بهذا ثلاثة أوجه.

فرع: لو استعمل السمن في الدقيق، وعصد على النار، وبقى أثره: كالطعم واللون، واستجد ذلك المختلط اسماً، وكان لا يفرد إرادة المختلط بالاسم- ففي حصول الحنث بأكله وجهان حكاهما الإمام.

آخر: إذا حلف: [لا يأكل] الخل، فإن شربه لم يحنث، وإن أكله مع الخبز حنث؛ لأنه يؤكل كذلك، ولو اتخذ منه سكباجاً: فإن كان الخل فيها ظاهراً حنث، وإن لم يكن ظاهراً، لم يحنث.

قال ابن الصباغ: ويتصور ذلك بأن يأكل من لحم السكباج دون مرقها.

وسوى المسعودي في الظهور بين طعمه ولونه.

هذا هو المشهور، وحكى صاحب "التقريب": أن من أصحابنا من قال: لا يحنث، وإن كان الخل ظاهراً؛ لأن الاسم قد تغير باتخاذ المرقة، ولا يقال لمن أكل سكباجاً: أكل الخل، بخلاف السمن المتميز الجاري على العصيدة.

قال: وإن حلف: لا يشرب من هذا الكوز، فجعل ماءه في غيره، فشربه- لم يحنث؛ لأن الشرب يكون من الكوز عرفاً؛ فتعلقت اليمين به، ولم يوجد.

قال: وإن حلف: لا يشرب من هذا النهر، فشرب ماءه في كوز- حنث؛ لأن الشرب من النهر عرفاً يكون بشرب شيء من مائه؛ فتعلقت اليمين بمائه.

وفي "الرافعي" حكاية وجه فيما إذا شرب من ساقية تأخذ الماء منه: أنه لا يحنث.

قال: وإن حلف: لا يأكل لحماً، فأكل شحماً أو كلية أو ثرباً أو كرشاً أو كبداً، أو طحالاً أو قلباً- لم يحنث؛ لأن هذه الأشياء مخالفة للحم في الاسم والصفة، ويجوز نفى الحقائق عنها، واسم الحقائق لا ينتفي عن مسمياتها، ولأنه صلى الله عليه وسلم سمى الكبد والطحال: دمين.

وقيل: إنه يحنث بذلك، إلا في الشحم، حكاه ابن يونس؛ لأنها في حكم اللحم، وقد تقام مقامه.

وفي "النهاية" رواية قول عن ابن سريج: أنه يحنث بالكرش والأمعاء والكبد

ص: 458

والطحال والرئة، واستغربه، وحكى في القلب وجهين:

أحدهما: كمذهب العراقيين.

والثاني- وهو اختيار الصيدلاني-: أنه يحنث. ثم قال: والكلية عندي في معنى القلب.

وهل يحنث بأكل لحم الرأس والخد واللسان والأكارع؟ فيه طريقان:

أصحهما: أنه يحنث، على ما حكاه البغوي والرافعي.

والثاني: طرد الوجهين.

ويجريان- أيضاً- في المخ والعين.

وفي "المهذب" و"التهذيب": أنه لا يحنث بأكل العين إذا حلف على اللحم، وفي حنثه إذا حلف على الشحم وجهان]. ويحنث بأكل كل لحم يحل أكله من النعم أو الوحش أو الطير؛ لأن اسم "اللحم" ينطلق على الجميع، وهل يحنث بأكل ما يحرم أكله من اللحوم؟ فيه وجهان عن ابن سريج:

أحدهما- وهو الذي رجحه الشيخ أبو حامد والروياني-: أنه لا يحنث؛ لأن الحالف يقصد بيمينه الامتناع عما يعتاد أكله.

والذي رجحه القفال والمتولي وغيرهما: مقابله؛ كما يحنث باللحم المغصوب.

وهذا الخلاف [قريب] من الخلاف فيما لو حلف: لا يشرب ماء، فشرب ماء البحر المالح، أو: لا يأكل طعاماً، فأكل دواء؛ لكونه غير معتاد.

تنبيه: الكلية والكلوة- بضم الكاف- لغتان، ولا يقال بكسرها، والجمع: كليات، وكلي.

الثرب- بفتح المثلثة وإسكان الراء-: شحم رقيق يغشى الأمعاء والكرش، حكاه النواوي.

وفي "الجيلي": أنه المبعد وبه يندفع سؤال التكرار، وعلى الأول يكون المراد: بيان أنه لا فرق بين ثخين الشحم ورقيقه.

الكرش: بكسر الراء، ويجوز إسكانها مع فتح الكاف وكسرها، وهي للمجتر من

ص: 459

الحيوانات كالمعدة للإنسان.

الطحال: بكسر الطاء.

قال: وإن أكل من الشحم الذي على الظهر- أي: الأبيض الذي لا يخالطه حمرة- حنث؛ لأنه لحم سمين؛ ولهذا يكون أحمر عند الهزال.

وقال القفال: هو شحم؛ فلا يحنث به كشحم البطن، واستدل له بقوله تعالى:{حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146].

وقال أبو زيد: إن كان الحالف عربيّاً فهو شحم، وإن كان عجميّاً فهو لحم؛ لأنهم يتعارفونه كذلك.

ويجري الخلاف فيما لو أكل سمين الجنب، وما تعلق اللحم به وتخلله من البياض.

قال: وإن أكل الألية، لم يحنث؛ لأنها في معنى الشحم في البياض والذوبان؛ فألحقت به، وهذا هو الأصح في "المحاملي".

قال: وقيل: يحنث؛ لأنها في معنى اللحم في الصلابة، ونباتها في اللحم؛ فألحقت به.

وقيل: ليست بلحم ولا شحم؛ لأنها مخالفة لهما في الاسم والصفة؛ فصارت كالكبد والطحال، وهذا هو الأصح في "التهذيب"، وعليه بنى الشيخ جوابه فيما بعد. ويجري هذا الخلاف في سنام الإبل، مع أنه لو حلف: لا يأكل الألية، لم يحنث بالسنام، وكذلك على العكس.

قال: وإن أكل السمك، لم يحنث؛ لأنه لم يفهم من إطلاق اسم "اللحم"، ولا يستعمل في العرف مع عموم وجوده؛ فلا تتعلق اليمين به، وإن سماه الله- تعالى- لحماً؛ كما لا يحنث بالجلوس في الشمس إذا حلف: لا يجلس في ضوء سراج، وإن سماها الله- تعالى-: سراجاً، ولا يحنث إذا علق على جبل شيئاً وقد حلف: إنه لا يعلقه على وتد، وإن سمى الله- تعالى- الجبال: أوتاداً.

ولأن ذلك ليس بلحم [في] الحقيقة؛ ولهذا يقال: ما أكلت لحماً، وأكلت

ص: 460

سمكاً، والحقيقة لا تنتفي، وإذا كان كذلك فاليمين إنما تنزل على الحقائق.

وفي "البيان": أن بعض أصحابنا الخراسانيين قال: إنه يحنث. وقد حكاه ابن يونس، ولم يعزه لهم.

قال: وإن حلف على الشحم، فأكل سمين الظهر أو الألية- لم يحنث، أي: على الأصح؛ لما ذكرناه، ويجيء فيه الخلاف المتقدم.

فرعان ذكرهما البغوي وغيره:

أحدهما: لو حلف: لا يأكل ميتة، لم يحنث بأكل ما ذكي، وهل يحنث [بأكل السمك والجراد؟ فيه وجهان:

أصحهما: أنه لا يحنث؛] كما لو حلف: لا يأكل دماً، فأكل الكبد والطحال.

الثاني: لو حلف: لا يأكل لحم البقر، فأكل لحم الجاموس، حنث، وفي حنثه بأكل لحم بقر الوحش وجهان، وهما جاريان فيما لو حلف: لا يركب حماراً، فركب حمار وحش.

قال: وإن حلف: لا يأكل الرءوس، لم يحنث إلا بما يباع منفرداً- أي: عن الأبدان، وهي رءوس الإبل والبقر والغنم؛ لأن اسم "الرءوس" يقع على كل الرءوس حقيقة، إلا أن الذي يتعارف الناس بأكله هذه الثلاثة؛ فإنها التي تميز عن الأبدان وتقصد بالأكل، فيحنث بأكلها دون غيرها من رءوس الطير والحيتان؛ لاختصاص هذا الاسم لها عرفاً، وتناول الإطلاق لها دون غيرها.

وروى صاحب "التقريب" قولاً: أن اسم "الرأس" يحمل على رأس الطير والحوت؛ تمسكاً بحقيقة اللغة.

قال الإمام: ولم أره لغيره.

وفي "ابن يونس" حكاية وجه: أنه يحنث بأكل كل ما يسمى رأساً.

وروى عن ابن سريج قولاً: أنه لا يحنث برأس الإبل.

وروى [أن] ابن أبي هريرة ذهب إلى أنه لا يحنث [إلا] برأسالغنم.

ومن الأصحاب من قال: إن كان في بلد لا يباع فيه [إلا رءوس] الغنم فلا

ص: 461

يحنث إلا بها.

فتحصلنا على ست مقالات، والظاهر منها الأول.

قال: فإن كان في بلد تباع فيه رءوس الصيد منفردة، أي: لكثرتها واعتياد أكلها- حنث بأكلها؛ لأنها كرءوس الأنعام في حق غيرهم.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون الحالف من أهل تلك البلد أو غيره.

وقيل: لا يحنث ما لم يكن من أهل تلك الناحية.

قال: وإن كان في بلد لا تباع فيه، فقد قيل: يحنث؛ كما لو حلف: لا يأكل الخبز، فأكل خبز الأرز، وهو ممن لا يعتاد أكله، وهذا أقرب إلى ظاهر النص، ويؤيده: أن رأس [الإبل] لا يعتاد أكله إلا في بعض المواضع، والحنث يحصل به.

قال: وقيل: [لا] يحنث؛ لأنه لا يطلق عليه اسم "الرءوس" فيه.

قال الرافعي: وهذا أرجح عند الشيخ أبي حامد والروياني.

وفي "تعليق" البندنيجي: أن الخلاف كالخلاف في الحضري إذا حلف: لا يدخل بيتاً، فدخل بيتاً من بيوت البادية، ومقتضى هذا أن يكون الصحيح الحنث.

وفي "الجيلي" حكاية وجه آخر: أنه إن كان بـ "بغداد" وأمثالها حنث، وإلا فلا، وأن ذلك يجري في رأس الأفراس، وحكم رءوس الحيتان حكم رءوس الصيد.

ثم هذا كله عند الإطلاق، أما لو كان قد قصد ألا يأكل ما يسمى رأساً، حنث بأكل ما يسمى رأساً، وإن قصد نوعاً خاصّاً لم يحنث بغيره؛ على ما حكاه المتولي.

قال: وإن حلف: لا يأكل البيض؛ لم يحنث إلا بما يفارق بائضه، أي في حال حياته: كبيض الطير والنعام والدجاج؛ لأنه الذي يفهم من لفظ "البيض" عند الإطلاق.

وروى المحاملي وجهاً- على ما حكاه الرافعي عنه-: أنه لا يحنث إلا ببيض الدجاج.

وعن أبي إسحاق وجه: تخصيص الحنث بالدجاج والأوز.

وروى الجيلي وجهاً: أنه لا يحنث ببيض النعام أهل الأمصار، ويحنث به أهل البادية.

ص: 462

قال الإمام: والطريقة المرضية: أنه لا يحنث إلا بما يفرد بالأكل في العادة، دون بيض العصافير والحمام وغيرهما.

فتحصلنا على خمس مقالات، والظاهر من المذهب الأول.

قال: فإن أكل بيض السمك والجراد، لم يحنث؛ لأنه لا يؤكل منفرداً؛ فلم تنزل اليمين عليه.

قال الجيلي: وهذا لا يستقيم؛ فإن أهل بلادنا جيلان، وأهل بغداد وواسط وغيرهم يأكلون بيض السمك منفرداً؛ فيحنث بأكله، كما سبق.

وألحق البندنيجي بيض السمك والجراد بالبيض الموجود في جوف الدجاجة يطبخ ويشوى معها.

وفي "الرافعي" وغيره حكاية وجه في الحنث به.

فرع: لو حلف: لا يأكل بيضاً، وحلف: ليأكلن مما في كم فلان، فإذا هو بيض- فالطريق في خلاصه: أن يستعمل البيض الذي في الكم في ناطف، ويأكل منه.

وقد سئل القفال عن ذلك، فلم يظهر له هذا الطريق، وظهر للمسعودي طالبه، وعرضه عليه؛ فاستحسنه.

قال: وإن حلف لا يأكل أدماً، حنث بأكل الملح واللحم؛ لأنه يؤتدم به، وقد روي أنه- عليه السلام قال:"سَيِّدُ الإِدَامِ المِلْحُ، وَسَيِّدُ إِدَامِ الدُّنْيَا وَالآخِرَة ِاللَّحْمُ".

ص: 463

وفي "التتمة": أنه إنما يحنث بالملح إذا كان بدويّاً؛ لأنهم يسمون الملح: أدماً، أما إذا كان من غيرهم ففي حنثه وجهان.

وقد حكى الرافعي فيه وجهاً من غير تفصيل.

تنبيه: الأدم- بضم الهمزة وإسكان الدال- والإدام، بكسر الهمزة وزيادة ألف: لغتان بمعنى واحد، وهو: ما [يؤتدم به].

قال: وإن أكل التمر، لم يحنث؛ لأنه لا يؤتدم به في العادة؛ [وإن أكل] فقوت أو حلاوة.

قال: وقيل: يحتمل أن يحنث، وقد جزم به غيره، وهو ما حكاه في "التهذيب" وطرده في سائر الثمار؛ لما روي أنه- عليه السلام أعطى سائلاً خبزاً وتمراً، وقال:"هَذَا أُدُمُ هَذَا".

وضابط ما يحنث به: كل ما يؤتدم به، سواء كان مما يصطبغ به:[كالخل والدبس والشيرج والسمن والمُرِّيِّ]، وما جانس ذلك.

وإنما ذكر الشيخ- رحمه الله الملح واللحم دون ما عداهما؛ لأن أبا حنيفة خالف في اللحم وما في معناه مما لا يصطبغ به؛ فأراد أن يذكر ما يقيم الدليل على الحنث بأكله ليقيس ما عداه عليه؛ بجامع ما اشتركا فيه، من كونهما لا يصطبغ بهما.

فرع: لو حلف: لا يأكل قوتاً، حنث بأكل ما يقتات من الحبوب، ويحنث بأكل الزبيب والتمر واللحم إن كان ممن يقتاتها، وفي غيرهم وجهان.

قال: وإن حلف [لا يأكل] رُطَباً أو بُسْراً، فأكل منصِّفاً- حنث؛ لاشتماله على كل واحد منهما. وقال أبو سعيد الإصطخري وأبو علي الطبري: إنه لا يحنث؛ لأنه لا يسمى رطباً ولا بُسْراً.

ص: 464

وقيل: إن كان أكثره رطباً حنث في يمين الرطب، وإن كان كثره بُسْراً حنث في يمينه على البسر دون الرطب؛ نظراً إلى الأغلب، كذا حكاه ابن يونس، وحكاه الجيلي بعد ذكره المسألة الثانية في الكتاب.

وهذا [إذا] أكل جميع المنصِّفة، أما إذا أكل الرطب دون البسر؛ حنث به الحالف على الرطب، وإن أكل البسر دون الرطب، حنث به الحالف على البسر، ولم أر حكاية مذهب الإصطخري وأبي علي فيه.

تنبيه: المنصف- بضم الميم، وفتح النون، وكسر الصاد المشددة- قال أهل اللغة: أول ثمر النخل: طلع وكافور، ثم خلال- بفتح الخاء المعجمة، واللام المخففة- ثم بلح، ثم بسر، ثم رطب، ثم تمر؛ فإذا بلغ الإرطاب نصف البسرة قيل: منصفة؛ فإن بدا من ذنبها ولم يبلغ النصف قيل: مذنبة، بكسر النون.

ويقال في الواحدة: بسرة، بإسكان السين، وضمها، والكثير: بسر- بضم السين- وبُسُرات وبُسَرات، وأبسر النخل: صار ثمره بسراً، والله أعلم.

قال: وإن حلف: لا يأكل لبناً، فأكل شيرازاً أو دُوغاً حنث؛ لأنه يسمى: لبناً.

قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من توقف في الشيراز؛ لأن له اسماً يختص به.

وقال الروياني: يحتمل ألا يحنث إلا بالحليب؛ لأن الاسم في العرف يقع عليه، والمنقول: أنه يحنث بالرائب والمجمد والمخيض، وفي المخيض وجه.

تنبيه: الشيراز- بكسر الشين المعجمة-: لبن يغلى؛ فيثخن جداً، ويصير فيه حموضة وينقب.

[والدوغ- بضم الدال]، وإسكان الواو، وبالغين المعجمة-: لبن نزع زبده، وذهب مائيَّته فثخن.

قال: وإن أكل جبناً، أو لوراً، أو مصلاً، أو كشكاً، أو أقطاً- لم يحنث؛ لأنها لا تسمى لبناً، وكذا لا يحنث بالسمن، وهل يحنث بالزبد؟ قال ابن الصباغ وغيره: إن كان اللبن ظاهراً فيه حنث، وإن كان مستهلكاً فلا.

ص: 465

وحكي وجه: أنه لا يحنث من غير تفصيل.

وذهب أبو علي بن أبي هريرة والطبري إلى أنه يحنث بكل ما يتخذ من اللبن.

تنبيه: اللور- بضم اللام، وإسكان الواو-:[بين] الجبن [و] اللبن الجامد، وفيه نقب.

والمصل- بفتح الميم-: ماء اللبن النيء.

وقيل: هو الذي أخرج منه الزبد.

وقيل: ماء الأقط حين يطبخ ويعصر، فعصارته هي المصل، كذا حكاه الجيلي، والذي حكاه النواوي الأخير.

والكشك: معروف، وفي "ابن يونس": أنه قد يتخذ من الشعير، وأنه يعجن [في الأكثر بالماء، وقد يعجن] باللبن الحليب، وهذا ما نعرفه.

والأقط: مذكور في باب زكاة الفطر.

فروع:

لو حلف على الزبد لم يحنث بأكل السمن، وكذا لو حلف على السمن فأكل الزبد، على الأصح.

ولو حلف على السمن أو الزبد، فأكل اللبن- لم يحنث على الأصح في "التهذيب".

ولو حلف على السمن لم يحنث بأكل الدهن، وكذا لو حلف على الدهن فأكل السمن، على الأصح.

قال: وإن حلف لا يأكل فاكهة، فأكل الرطب أو العنب أو الرمان- حنث؛ لأنه يسمى فاكهة؛ بدليل أنه يسمى الذي يبيعه فاكهانيّاً، وموضع بيعه: دار الفاكهة؛ فوجب أن يحنث به كسائر الفواكه من المشمش والتفاح والتين والموز والخوخ والسفرجل والنبق والتوت والأترج والنارنج والليمون، وغير ذلك.

فإن قيل: قد عطف الله- تبارك وتعالى "النخل" و"الرمان" على "الفاكهة" في

ص: 466

قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] ولو كان "النخل" و"الرمان" من جملة "الفاكهة" لما عطفهما عليها؛ لأن العطف يقتضي المغايرة.

فالجواب: أن العطف لا يقتضي المغايرة؛ بدليل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] وهما من الملائكة، وقوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] ومعلوم أنهم من النبيين. وإذا جاز العطف على ما اندرج المعطوف فيه؛ لعمومه، فالعطف على ما لا يندرج فيه المعطوف من طريق الأولى، وإنما قلنا: إن "النخل" و"الرمان" لم يندرجا فيما ذكره الله- تعالى- أولاً؛ لأن لفظة "فاكهة" نكرة، وهي في سياق الثبوت؛ فلا تعم.

ثم لا فرق في حصول الحنث بأكل الفاكهة بين رطبها ويابسها؛ فيحنث بأكل التمر والزبيب والتين والمشمش والخوخ اليابس كالحنث بالرطب، على [ما] دل عليه كلام الغزالي، [وهو مصرح به] في "التهذيب".

وفي "التتمة": أن إطلاق اسم "الفاكهة" للرطب دون اليابس.

وفي "الجيلي": أن الماوردي فصل فقال: إن تغير الاسم بعد اليبس: كالتمر في يبيس الرطب، والزبيب في يبيس العنب- لا يحنث، وإلا فيحنث، وهذا آخره يوافق ما حكيناه عن الغزالي، وأوله لا اختصاص له بهذا المحل.

فروع:

هل يحنث بأكل البطيخ؟ فيه وجهان، أصحهما- وهو المذكور في "الشامل"-: أنه يحنث؛ لأن له نضجاً وإدراكاً كالفواكه، ولا يحنث بالقثاء والخيار؛ لأنهما من الخضروات، وأبدى بعضهم في القثاء تردداً. وهل يحنث باللبوب: كلب الفستق والبندق؟ فيه وجهان، أصحهما: الحنث؛ لأنهما يعدان من يابس الفواكه.

قال: وإن حلف: لا يشم الريحان، فشم الصيمران- حنث؛ لانطلاق الاسم عليه حقيقة.

تنبيه: لا يشم: شينه مفتوحة على المشهور، وحكى الجوهري وغيره ضمها،

ص: 467

ويقال على الأول: شممت- بكسر الميم الأولى- أشم: بفتح الشين، وعلى الثاني: شممت- بفتح الميم- أشم، بضم الشين.

الريحان: بفتح الراء.

الصيمران: بفتح الضاد المعجمة، وإسكان الياء المعجمة بنقطتين من تحت، وضم الميم، وفتح الراء غير المعجمة، وهو: الريحان الفارسي.

قال: وإن شم الورد والياسمين لم يحنث؛ لأنه لا يسمى ريحاناً، بل مشموماً، وكذا لا يحنث بشم البنفسج والنرجس والزعفران؛ لما ذكرناه؛ فلو حلف على المشموم، حنث بذلك، ولا يحنث بالمسك والكافور والعنبر؛ لأنه لا يسمى: مشموماً، بل طيباً.

وهل يحنث بشم البنفسج والورد بعد الجفاف؟ فيه وجهان، ولا يحنث بشم دهنهما وجهاً واحداً.

قال: وإن حلف: لا يلبس شيئاً، فلبس درعاً، أو جوشناً، أو خفّاً، أو نعلاً، أو خاتماً- حنث؛ لتحقق مسمى اللبس. ولا يحنث بالنوم على شيء من الفرش، ولا بطرح الثوب على رأسه. وفي التدثير وجهان، أظهرهما: المنع.

ووجه الحنث: أن التلفيف في الدثار قريب من الارتداء.

تنبيه: الدرع من الحديد: مؤنثة عند الجمهور، وحكى الجوهري وغيره فيها التأنيث والتذكير. وأما درع المرأة فمذكر بالاتفاق.

الجوشن: بفتح الجيم والشين.

والنعل: مؤنثة.

والخاتم: بفتح التاء وكسرها، والخاتام، والخيتام، أربع لغات.

قال: وقيل: لا يحنث؛ لأن إطلاق اللبس ينصرف إلى الثياب عرفاً؛ فكأنه حلف: لا يلبس ثوباً؛ فعلى هذا: لا يحنث إلا بما يحنث به عند الحلف على لبس الثوب [، والذي يحنث به عند الحلف على لبس الثوب] القميص، والسراويل، والإزار، والرداء، والقباء، والعمامة، والجبة، ونحوها.

ولا فرق فيه بين المخيط وغيره، ولا بين أن يكون من قطن، أو كتان، أو صوف، أو إبريسم، ولا بين أن يلبس الثوب على الهيئة المعتادة أو على خلافها؛ كما لو

ص: 468

ارتدى أو ائتزر بالقميص، أو تعمم بالسراويل؛ لتحقق اسم اللبس.

والحكم فيما لو حلف: لا يكتسي، كالحكم فيما لو حلف: لا يلبس، قاله الجيلي.

قال: وإن حلف على رداء: إنه لا يلبسه، ولم يذكر الرداء في يمينه، أي: بل قال: لا ألبس هذا الثوب، كما صوره في "المهذب"، والبندنيجي، والماوردي، وغيرهم، فقطعه قميصاً، ولبسه، أي: على أي هيئة كان- حنث؛ لأن اليمين على لبسه ثوباً؛ فحمل على العموم؛ كما لو قال: والله لا لبست ثوباً.

قال الماوردي: وهذا قول الجمهور من أصحابنا، وجعله البندنيجي المذهب.

قال: وقيل: لا يحنث؛ لأنه حلف على لبسه وهو على صفة؛ فلم يحنث بلبسه وهو على غيرها؛ كما لو حلف: لا يلبسه وهو رداء، وهذا ما ذهب إليه المزني والمتقدمون من الأصحاب؛ على ما حكاه الماوردي، وطردوه فيما إذا لبسه رداءً لكن على خلاف العادة. ومثل هذا الخلاف يجري فيما لو قال: لا لبست هذا الثوب، وكان قميصاً أو سراويل، فغير صفته أو لبسه على خلافالعادة. أو: لا ألبس هذا القميص، أو هذا السراويل، فغيره عن صفته ولبسه، أو لبسه على غير عادة لبسه.

وادعى الرافعي: أن الخلاف فيما إذا لبسه على غير عادته أظهر وأولى؛ لتعلق اليمين بعين ذلك القميص.

وقال أبو إسحاق المروزي: إن كانت يمينه على الثوب حنث بلبسه على جميع الأحوال، فإن اشتمل به [أو] ارتدى، أو تعمم، أو قطعه قميصاً أو سراويل- حنث، وإن كان يمينه على قميص لم يحنث إذا غيره فجعله سراويل، أو ارتدى به ولم يتقمص.

وفرق بأن اسم "الثوب" عام ينطلق على كل ملبوس؛ [فلا] يزول عنه اسم "الثوب" وإن تغيرت أوصافه، واسم "القميص" خاص يزول إذا غير سراويل.

قال الماوردي: ومن حكى عن أبي إسحاق غير هذا حرف عليه.

أما إذا ذكر "الرداء" في يمينه؛ بأن قال: لا ألبس هذا الرداء، ففي حنثه- أيضاً- الخلاف.

ص: 469

قال الرافعي: لكن يشبه أن يكون الراجح الوجه الذاهب إلى أنه لا يحنث، وما قاله مستمد مما إذا حلف: لا يأكل هذه الحنطة، فجعلها دقيقاً.

وإن قال: لا ألبسه وهو رداء، فقطعه قميصاً ولبسه، لم يحنث.

قال الماوردي: وهذا مما اتفق عليه أصحابنا.

ولو قال: لا ألبس هذا، من غير تعرض لصفته ولا لصفة لبسه- فهذا يحنث على أي حال لبسه، وعلى أي صفة لبسه مع تغير أحواله وأوصافه؛ اعتباراً بعقد اليمين على عينه دون صفته.

قال الماوردي: وهذا مما اتفق أصحابنا عليه.

وفي ابن يونس تصوير مسألة الكتاب بهذه الصورة.

وما قاله الماوردي يوافق ما أورده الأصحاب فيما لو أشار إلى حنطة، وقال: والله لا أكلت هذه؛ فإنه يحنث بأكلها على أي صفة كانت.

فرع: لو جعل القميص المحلوف عليه رداءً، وقلنا: إنه لا يحنث بلبسه- فلو أعاده كما كان ففي حنثه بلبسه وجهان تقدما في مسألة الدار إذا أعيدت بنقضها.

قال: وإن حلف: لا يلبس حلياً، فلبس خاتماً، أي: من فضة أو ذهب، أو مخنقة [من] لؤلؤ، [أي]: ولبس معه غيره- حنث؛ لأنه يسمى حلياً؛ قال الله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [الحج: 23]، ولأنه لو لبس المنطقة والطوق والسوار حنث؛ فكذلك الخاتم.

وفي "التهذيب" حكاية وجه في المنطقة. وكما يحنث بالمخنقة اللؤلؤ يحنث بمثلها من الجواهر النفيسة: كالياقوت، والزبرجد، و [العقيق] ونحو ذلك؛ على ما حكاه البندنيجي.

وهل يحنث إذا لبس الخرز والسُّنُح؟ ينظر: إن كان ممن عادته التحلي به كأهل السواد، حنث، وإن كان من غيرهم ففي حنثه خلاف ذكر مثله في مسألة الرءوس.

تنبيه: المخنقة، بكسر الميم: مأخوذة من الخناق، بضم الخاء وتخفيف النون، والمخنق- بفتح الخاء والنون المشددة-: موضع "المخنقة" من العتق.

ص: 470

اللؤلؤ: معروف، وفيه أربع لغات قرئ بهن في السبع: بهمزتين، بغير همز، بهمز أوله دون ثانيه، وعكسه.

[قال جمهور أهل اللغة: اللؤلؤ: الكبار، والمرجان الصغار.

وقيل عكسه].

فرع: إذا حلف: لا يلبس خاتماً، فلبسه في غير الخنصر- لمي حنث إذا كان رجلاً؛ كما إذا حلف: لا يلبس قلنسوة، فجعلها في رجله، وهذا ما نص عليه في "الجامع الكبير".

وإن كان امرأة حنثت؛ لاقتضاء العرف ذلك.

والذي حكاه الروياني: أنه يحنث من غير تفصيل.

وقال مجلي في مسألة القلنسوة: ينبغي أن تتخرج على وجهين؛ كما [ذكرنا] فيما إذا حلف: لا يلبس قميصاً فارتدى به.

قال: وإن من عليه رجل، فحلف: لا يشرب له ماء من عطش، فأكل له خبزاً، أو لبس له ثوباً، أو شرب له ماء من غير عطش- لم يحنث؛ لأنه لم يتحقق مدلول اللفظ، ويمين الحالف تنعقد على مدلول لفظه، دون ما في معناه؛ بدليل ما لو حلف: لا يتزوج، فتسري؛ فإنه لا يحنث، ولا فرق في ذلك بين ألا يقصد الحالف شيئاً، أو يقصد ألا ينتفع بشيء من ماله؛ كذا قاله المحاملي في "المجموع"، ووجهه بأن يمينه إنما تناولت الامتناع من شرب الماء، ولم تتناول غير الشرب لا حقيقة ولا مجازاً؛ فلو حنَّثناه بذلك لحنثناه بما لا يتضمنه اللفظ، لا حقيقة ولا مجازاً، ولا سبيل إلى ذلك.

تنبيه: المن، والمنة، والامتنان: تعديد الصنيعة على جهة الإيذاء والتبجح الذي يكدرها.

قال أهل اللغة: وذلك مشتق من "المن"، وهو: القطع والنقص، ومنه سمى الموت: منوناً؛ لأنه يقطع الأعمار، وينقص الأعداد، فسميت المنة؛ لأنها تنقص النعمة وتكدرها.

ص: 471

فرع: لو حلف: لا يلبس ثوباً من به عليه، فوهبه ثوباً، فباعه بثوب آخر، ولبسه- لم يحنث، ولو باعه ثوباً بمحاباة فلبسه، لم يحنث.

وإن حلف: لا يلبس له ثوباً، فوهبه منه، أو اشتراه، أو لبس ما اشتراه له- أي: بطريق الوكالة- لم يحنث؛ لأنه لبس ثوباً له حالة اليمين.

قال: وإن حلف: لا يضربها، فنتف شعرها، أو عضها- لم يحنث؛ لأن اسم "الضرب" لا يتناول ذلك؛ بدليل صحة نفي الضرب عنه، وإذا لم يتناوله الاسم حقيقة لم يحنث؛ لأن الأيمان تنزل على الحقائق.

وعن المزني توقف في العض؛ لحصول الصدمة والإيلام، وكأنه ضرب بالسن، حكاه الرافعي في كتاب الطلاق. ولو لكمها، أو لطمها، أو رفسها؛ فوجهان، [أصحهما في "الرافعي": أنه يحنث. ولو ضربها ضرباً غير مبرح، حنث عند العراقيين.

وفي "النهاية" في كتاب الطلاق في ضمن فصل أوله: "إذا قال لامرأته: أنت طالق إذا قدم فلان": أن الذي ذهب إليه معظم الأصحاب: أنا نشترط في الضرب الإيلام، وإن لم يكن ضرباً مبرحاً شديداً.

وذهب طوائف من المحققين إلى أن الألم ليس بشرط، ولو ضربها ميتة لم يحنث.

قال الرافعي [في كتاب الطلاق: وأثبت الروياني خلافاً فيه؛ فإنه بعد أن ذكر المسألة وحكمها قال: وغلط من قال غيره. ولو ضربها مجنونة أو نائمة، حنث.

قال:] وإن حلف: لا يهب له، فتصدق عليه- حنث؛ لأن الهبة عبارة عن تمليك في حال الحياة بغير عوض، وقد تحقق منه؛ فحنث.

وفي "التتمة" حكاية وجه: [أنه] لا يحنث.

ووجهه بأن الهبة والصدقة تختلفان اسماً ومقصوداً وحكماً:

ص: 472

أما الاسم؛ فلأن من تصدق على فقير لا يقال: وهب منه.

وأما المقصود؛ فلأن الصدقة المراد منها: التقرب إلى الله- تعالى- والقصد من الهبة اجتلاب المودة.

وأما الحكم؛ فلأن الصدقة عليه صلى الله عليه وسلم حرام على أحد القولين؛ كما حكاه ابن الصباغ ها هنا، والهدية ليست بحرام قولاً واحداً.

ولو وهب لولده رجع فيما وهبه، وإن تصدق عليه كان في رجوعه خلاف، واختيار القاضي الحسين: أنه يحنث بالتصدق على الغني دون الفقير.

وهذا كله في الصدقة المتطوع بها، أما الصدقة الواجبة فلا يحنث بها، وعن القفال: أنه يحنث.

وكما يحنث بالصدقة يحنث بالهدية والنحلة والعمري والرُّقْبَى؛ لما ذكرنا [من أن] الهبة اسم لجنس ما يملكه من غيره في حال الحياة بغير عوض، وذلك مشتمل على أنواع: فالهدية لنظيره، والهبة لكل أحد، والنحلة لولده، والعمرى في حال حياته، وكذا الرقبى.

وفي "الرافعي" حكاية وجه عن ابن كج: أنه لا يحنث بذلك، وهو ضعيف.

ولو وقف عليه، وقلنا:[إنه] لا يملك، لم يحنث، وإن قلنا: إنه يملك، [حنث، قال المتولي: على الظاهر. وفي هذا إشارة إلى خلاف فيه.

ولو قدم إليه طعاماً، فأكله: فإن قلنا: إنه لا يملكه، لم يحنث، وإن قلنا إنه يملكه،] ففيه تردد. وقد حكى المتولي في الحنث وجهاً. وقال الغزالي: الوجه القطع بأنه لا يحنث؛ لأنه لم يجر لفظ "التمليك"، وبعده عن اسم الهبة.

قال: وإن أعاره أو وصى له، لم يحنث.

أما عدم حنثه بالإعارة؛ فلخروجها عن حد الهبة، وكذلك الوصية، ولأن التمليك فيها يحصل بعد الموت، والميت لا يحنث.

وعن أبي الحسين بن القطان: أنه يحنث بالوصية.

قال: وإن وهب له، فلم يقبل- لم يحنث؛ لأن العقود الفاسدة لا تدخل تحت

ص: 473

مطلق الأيمان؛ فكيف ما لم يتم من العقود؟! وهذا ما ذهب إليه الشيخ أبو حامد.

وروى عن ابن سريج: أنه يحنث؛ لأن المحلوف عليه ما في وسعه، وهو الإيجاب، وذلك يمسى في العرف: هبة؛ بدليل أنه يقال: وهبه له فلم يقبل.

قال الغزالي: ويلزم أبا العباس أن يطرده في كل عقد؛ لأنه يقال: باع فلمي قبل، ونحو ذلك، ثم قال: ولا شك أنه يطرده.

قال المتولي: وهذا الخلاف يجري فيما إذا أعمره أو أرقبه. ولم يصححه، وعلى ذلك جرى الرافعي.

قلت: ومقتضى ما قالا أن يجري في الهبة الفاسدة، ولم أره.

[قال: وإن قبل ولم يقبض، لم يحنث، لأن المقصود من الهبة نقل الملك، ولم يتحقق، وهذا هو المذهب في "التهذيب"].

قال: وقيل: يحنث؛ لأن العقد قد وجد، وصدق اسم "الهبة" عليه، وهذا ما حكاه البندنيجي، وقال فيه قولاً واحداً، وفي "التتمة": أنه الأظهر.

فرع: لو حلف: لا يتصدق، فتصدق فرضاً أو تطوعاً- حنث، ولا فرق بين أن يتصدق على غني أو فقير.

ولو وقف، ففي "التتمة" إطلاق القول بأنه يحنث؛ لأن الوقف صدقة، وبناه غيره على أقوال الملك: فإن قلنا: إنه لله- تعالى- حنث، وإن قلنا: إنه للواقف، لم يحنث، وإن قلنا: إنه للموقوف عليه، ففيه وجهان، وهما جاريان فيما إذا وهب، والأصح في "التهذيب" في الهبة: عدم الحنث.

قال: وإن حلف: لا يتكلم، فقرا القرآن – لم يحنث، أي: سواء كان في الصلاة أو خارجاً عنها؛ لأن الكلام في العرف ينصرف إلى كلام الآدميين.

وكذا لا يحنث بالتكبير والتسبيح؛ لأن اسم الكلام عند الإطلاق ينصرف إلى كلام الآدميين في محاوراتهم.

وفيه وجه: أنه يحنث؛ [لأن الجنب] غير ممنوع منها؛ فهي كسائر الكلام، وهذا

ص: 474

ما ادعى ابن الصباغ أنه القياس.

والدعاء في معنى التسبيح.

وترديد الشعر وإنشاده، أطلق البندنيجي القول بأنه لا يحنث به، وجزم الرافعي القول بأنه يحنث به.

فرع: لو حلف: لا يسمع كلام زيد، فسمعه يقرأ القرآن- لم يحنث، قاله الجيلي.

قال: وإن حلف: لا يكلمه، فكاتبه، أو راسله، أو أشار إليه، أي: إما برأسه، أو بعينه، أو بيده- لم يحنث في أصح القولين.

أما عدم الحنث بالإشارة؛ فلقوله- تعالى-: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} إلى قوله: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 29]، فلو كانت الإشارة كلاماً لما كانت تفعلها وقد نذرت ألا تتكلم.

وأما عدم الحنث بغيرها؛ [فلأنه يصح] نفي اسم الكلام عنه؛ فإنه إذا قيل: كلم فلان فلاناً، يقال: لا، بل كاتبه، أو راسله؛ فثبت أن الاسم لا يتناوله حقيقة، والأيمان تنزل على الحقائق، وهذا الدليل يستدل به- أيضاً- على عدم الحنث بالإشارة.

ولا فرق على هذا بين إشارة الناطق والأخرس، وحيث أقيمت إشارة الأخرس مقام النطق في المعاملات، فذلك للضرورة.

والقول الثاني- وهو القديم-: أنه يحنث، واستدل له بقوله- تعالى:{آيَتُكَ أَلَاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَاّ رَمْزاً} [آل عمران: 41] وبقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} [الشورى: 51]، فاستثنى الرسالة والرمز من التكليم، وذلك يدل على أنهما منه.

ومن الأصحاب من قطع بالقول الأول، وحمل ما نقل عن القديم على ما إذا نوى في يمينه المكاتبة والمراسلة والإشارة.

ومنهم من خصص الخلاف في الكتابة بحال الغيبة، وقال: إذا كان معه في المجلس لا يحنث إذا كتب إليه رقعة، ويظهر جريانه في الرسالة أيضاً.

ص: 475

فروع:

أحدها: إذا قال عقيب حلفه على الكلام: تنح عني، حنث؛ على الأصح، وفيه وجه: أنه لا يحنث.

قال صاحب "البيان": وهو كالوجه المحكي فيما إذا قال لزوجته: إن كلمتك فأنت طالق، فاعلمي ذلك، وقد حكيناه أيضاً.

الثاني: يحرم على الْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ للحديث، وإذا كتب إليه أو أرسل فهل يخرج من مأثم الهجران؟ فيه وجهان، ووجه الخروج: أن القصد بالتكليم: إزالة ما بينهما من الوحشة، وذلك يزول بالمكاتبة والمراسلة، وهذا الخلاف فيما إذا كاتبه أو راسله فيما ليس بشر، أما إذا كاتبه في شر فإنه لا يخرج عن مأثم الهجران وجهاً واحداً؛ لأن ذلك يزيده.

الثالث: إذا قيل له: كلم فلاناً اليوم، فقال: والله لا كلمته- كانت يمينه على الأبد، إلا أن ينوى اليوم، ولو كان ذلك بالطلاق والعتاق لم يقبل في الحكم، قاله ابن الصباغ وغيره.

وفي "التمة": أن اليمين المطلقة محمولة على ذلك اليوم؛ على الصحيح؛ كما لو حلف: لا يدخل الدار، فدخل أول دهليزها؛ ولهذا قال الشافعي: لو قال رجل لآخر: تعالَ تغد معي؛ فقال: والله، لا أتغدى- انعقدت يمينه بالأكل معه في تلك الحالة؛ حتى لو أكل بعده أو مع غيره في يوم آخر- لم يحنث.

وما قاله ابن الصباغ يناظر ما أجاب به القاضي الحسين؛ حيث سئل عن امرأة صعدت السطح بالمفتاح، فقال الزوج: إن لم تلق المفتاح من السطح فأنت طالق، فلم تلقه ونزلت- من أنه لا يقع الطلاق، ويحمل قوله: إن لم تلقه، على التأبيد، واستدل له بأن الأصحاب قالوا فيمن دخل على صديقه، فقال: تغد معي، فامتنع، فقال: إن لم تتغد معي فامرأتي طالق، فلم يفعل- لم يقع الطلاق، ولو [تغدى] بعد ذلك يوماً

ص: 476

من الدهر انحلت اليمين.

قال الرافعي في الفروع المذكورة آخر الطلاق: ورأى صاحب "التهذيب" حمل الطلاق على الحال في المسألة الأخيرة؛ للعادة.

قال: وإن قال: لا صليت، فأحرم بها؛ حنث؛ لأنه يسمى مصلياً.

وقيل: لا يحنث حتى [يأتي بالركوع]؛ لأنه إذا ركع فقد أتى بمعظم الركعة؛ فيقوم مقام الجميع، وهذا ما حكي عن ابن سريج، ومن الأصحاب من قال: لا يحكم بالحنث حتى يفرغ من الصلاة؛ لأنها قد تفسد قبل التمام؛ فيخرج عن أن يكون مصلياً.

وعلى هذا: إذا فرغ من الصلاة: هل يحكم بالحنث حينئذ، أو نسنده إلى أول الصلاة؟ فيه وجهان، ثم ما الأصح من هذا الخلاف؟ الذي اختاره الشيخ أبو حامد الأول؛ لأنه بمجرد الدخول في الصلاة يحصل الاسم؛ قال صلى الله عليه وسلم في حديث المواقيت المروي عن جبريل:"صلَّى بِيَ الظُّهْرَ حِيْنَ زَالَتِ الشَّمْسُ" وأراد: [أحرم بالصلاة، وإذا] تناول ذلك الاسم وجب أن يحنث به.

وعلى هذا: لو أفسد الصلاة بعد الشروع حنث، وكذلك إذا أفسدها بعد الركوع على الوجه الثاني، وليس ذلك لأن اللفظ يقع على الصحيح والفاسد، ولكن لوجود مسمى الصلاة قبل الإفساد.

وقد يتوهم أن كلام القاضي الحسين في "الفتاوى" يقتضي أن الوجه الثالث هو ظاهر المذهب؛ لأنه قال فيما إذا قال لزوجته: إن قرأت سورة البقرة في صلاة الصبح فأنت طالق، فقرأها، ثم فسدت الصلاة في الركعة الثانية- لم يقع الطلاق على ظاهر المذهب؛ لأن الصلاة عبادة واحدة؛ فبفساد آخرها فساد أولها، وذلك يدل على اعتبار التحلل، وليس كذلك؛ فإن قوله: صلاة الصبح، ينزل منزلة قوله: لا اصلي صلاة، وهو لو قال ذلك لم يحنث إلا بالتحلل؛ فكذلك ها هنا.

ص: 477

فروع:

إذا صلى على جنازة لم يحنث على الوجه الثاني.

ولو لم يجد ماء ولا تراباً، وصلى، حنث، إلا أن يريد الصلاة المجزئة.

ولو قال: لا أصلي صلاة، لم يحنث حتى يفرغ، هكذا حكاه الرافعي.

وفي "الجيلي": أنه لا يحنث- على أصح الوجهين- حتى يصلي صلاة هي ركعتان، وعزى ذلك إلى حكاية الروياني في "الحلية".

وهذا الوجه مذكور في "تعليق" أبي الطيب مع حكاية وجه آخر: أنه يحنث في هذه الصورة بركعة واحدة.

ولو حلف: لا يصوم، أطلقالعراقيون القول بأنه يحنث بالشروع فيه، وحكى المراوزة فيه الوجهين: الأول والأخير.

قال: وإن حلف: لا مال له، وله دين- أي: مؤجل- فقد قيل: يحنث؛ لأنه ينفذ تصرفه فيه بالاعتياض والحوالة والإبراء، [ويعد غنيّاً] به عرفاً، وهذا ما حكاه الغزالي، وهو الأصح، وبه قال أبو إسحاق.

قال: وقيل: لا يحنث؛ لأن المالية صفة الموجود، ولا موجود ها هنا، وهذا ما ينسب إلى [ابن] أبي هريرة.

وقال في "الحاوي" في كتاب الزكاة: إنه صرح بأنه غير مملوك له.

وادعى الإمام أن هذا هوس لا يعتد به، وكيف لا يكون مملوكاً وقد ثبت عوضاً في البيع مع استحالة تعريته عن العوض المملوك؟!

وقال في كتاب الفلس: الدين وإن سميناه ملكاً فليس شيئاً محصلاً، لكنه استحقاق التوصل إلى محصل الملك في عينٍ.

أما لو كان حالّاً، حنث.

وفي "التتمة" حكاية وجه مخرج من قوله القديم: لا زكاة في الدين: أنه لا يحنث.

واعلم: أن إطلاق الشيخ الخلاف فيه من غير أن يقيده بأن يكون الدين على موسر- يدل على أنه لا فرق في جريان الخلاف بين الموسر والمعسر.

ص: 478

وقد أجراه المتولي، لكنه حكى أن الصحيح من المذهب: أنه لا يحنث، وكذلك فيما إذا كان جاحداً، ولا يخفى أن ذلك فيما إذا لم يكن له بينة، وجزم الغزالي في المعسر بالحنث أيضاً، والوجهان المذكوران في الكتاب جاريان- كما قال الماوردي في كتاب الزكاة- فيما إذا حلف من عليه دين: أن لا شيء عليه لأحد، هل يحنث؟ فأبو إسحاق يقول: يحنث، وابن أبي هريرة يقول: لا يحنث.

فروع:

هل يحنث إذا كان له عبد آبق، أو ضال، أو مسروق قد انقطع خبره، أو مكاتب، أو وقف عليه، وقلنا: إنه ملكه، أو منفعة ملكها بإجارة أو وصية؟ فيه خلاف، وبالحنث أجاب الغزالي في الآبق، وبعدمه في ملك المنفعة، وادعى الإمام إجماع الأصحاب عليه. والأصح- في المكاتب-:[عدم الحنث، والوقف ملحق به، ومنهم من قطع في المكاتب] بعدم الحنث.

ولو كان قد جنى عليه جناية عمد، ولم يعف ولم يقتص، قال في "البيان": يحتمل أن ينبني على أن موجب العمد ماذا؟ إن قلنا: القود، لم يحنث، وإن قلنا: القود أو المال، حنث.

قلت: وعلى هذا القول لا ينبغي أن يتخرج فيه خلاف مرتب على الخلاف في الدين، وأولى بألا يحنث؛ لأن الدية في جناية العمد تجب حالة، والدين الحال يحنث به وجهاً واحداً.

نعم، إن صححنا ما حكاه المتولي اتجه ذلك، ويحنث بالأجرة قبل استيفاء المنفعة.

وعن أبي الحسن: أنه لا يحنث. وغلطه القاضي ابن كج.

ولو حلف: لا ملك له، حنث بالآبق والمغصوب، وكذا بالدين على الصحيح في "التتمة".

ولو كان له زوجة فهل يحنث؟ قال في "التمة": لنا أصل، وهو: أن النكاح فيه

ص: 479

ملك أو هو عقد على الحل؟ إن أثبتنا فيه ملكاً حنث.

ولا خلاف أنه يحنث بكل مال زكاتيّاً كان وغير زكاتي؛ لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]. ومعلوم أن هذا يتناول النبات والمواشي والعقار والنقود.

قال: وإن حلف: ما له رقيق، أو: ما له عبد، وله مكاتب- لم يحنث في أظهر القولين؛ لأنه كالخارج عن ملكه؛ بدليل أنه يملك أكسابه ومنافعه، دون السيد، بخلاف أم الولد، وسوى الجيلي بينها وبين المكاتب.

وحكى في "التهذيب" الخلاف فيها وجهين، وبناهما على الوجهين في أن من سرقها هل يقطع.

قال: ويحنث في الآخر؛ لقوله- عليه السلام: "المُكَاتَبُ قِنٌّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ".

قال الجيلي ويمكن بناء القولين على جواز بيع المكاتب.

وقال أبو علي الطبري: لا يحنث؛ قولاً واحداً، وما ذكر عن الشافعي فذلك قول ألزمه نفسه وانفصل عنه؛ فلا يجعل قولاً له.

وأما الحديث فمن أصحابنا من قال بموجبه، وجعله مملوكاً لا مالك له كستارة الكعبة.

ومنهم من يقول: هو مملوك لنفسه ولا يعتق؛ لأنه لم يكمل ملكه؛ كما إذا اشترى عبداً فإنه يملكه، ولا ينفذ عتقه فيه.

فإن قيل: أليس لو أعتقه نفذ عتقه فيه، وذلك يدل على أنه ملك للسيد؟

فالجواب: أن عتق السيد ينزل منزلة الإبراء عن نجوم الكتابة؛ ولذلك تبعه أولاده وأكسابه؛ فلا دلالة على الملك، وهذا الخلاف الأخير وحكاية الخلاف في أنه مملوك لمن، محكي في "الشامل".

واعلم: أن ما ذكرناه من الخلاف يجري فيما إذا قال: رقيقي أحرار، وله مكاتب، وغير مكاتب، والمذكور منه في "التهذيب" في كتاب النفقات: أنه لا يعتق.

ص: 480

أما إذا لم يكن له إلا مكاتب عتق وجهاً واحداً، حكاه في "التهذيب" أيضاً في كتاب الطلاق.

فروع:

أحدها: لو كانت له أمة، وحلف: لا عبد له – لم يحنث على المذهب.

قال مجلي: وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يحنث؛ لأنهن يدخلن تحت الاسم كما يدخلن تحت اسم "الرقيق".

الثاني: حكى البندنيجي، عند الكلام فيما إذا قال: من يُسَرِّيني بكذا، من كتاب الأيمان-أنه لو قال: عبدي حر، وله أمة أو خنثى مشكل – لم يحنث؛ فلو زال الإشكال وحكم بأنه ذكر فعلى وجهين.

قلت: ويتجه أن يجيء مثلهما في مسألة الكتاب.

الثالث: حكى البندنيجي في الموضع: لو قال: رقيقي أحرار، وله خنثى قد زال الإشكال فيه، وحكم بأنه أنثى أو ذكر – عتق، وإن كان على الإشكال فقد قال المزني: يحنث. ونقل الربيع: أنه لا يحنث، فمن الأصحاب من غلط الربيع، ومنهم من غلط المزني.

قلت: ويتجه أن يجيء مثل ذلك في مسألة الكتاب أيضاً.

قال: وإن حلف: لا تسربت، فقد قيل: لا يحنث حتى يحصِّن الجارية، ويطأها وينزل.

وقيل: يحنث بالتحصين والوطء، أي: من غير إنزال.

وقيل: يحنث بالوطء وحده.

السرية- بضم السين – "فُعْلِيَّة" من "السر"، وهو الجماع، سمي: سرًّا؛ لأنه يفعل سرًّا، وقالوا: سرية –بالضم – ولم يقولوها بالكسر؛ ليفرقوا بين الزوجة والأمة؛ كما قالوا للشيخ الذي أتت عليه دهور: دهري –بالضم – وللملحد: دهري- بالفتح وكلاهما نسبة إلى "الدهر".

وقال أبو الهيثم: هي مشتقة من"السر"، وهو السرور؛ لأن صاحبها يسر بها. [قال

ص: 481

الزهري: وهذا القول أكثر، وبه] قال الأزهري.

وقال الجوهري: هي مشتقة من "السِّر" وهو: الجماع، أو من "السر" وهو الإخفاء؛ لأنه يخفيها من زوجته، ويسرها – أيضاً- من ابتذال غيرها من الإماء.

وقيل: هي مشتقة من" السَّراة" وهو: الظهر.

وقيل من السري، وهو الرفيع النفيس.

ويقال: تسررت جارية، وتسريت؛ كما قالوا: تظننت وتظنيت من "الظن".

والتحصين: أن يمنعها من الخروج والتبذل والانكشاف الذي تفعله غير السرية. إذا فهم ذلك فالخلاف المذكور مأخذه الاختلاف في أن ذلك مشتق من ماذا؟ فالقول الأول، وهو الذي نص عليه الشافعي في "الإملاء": مأخذه قول من قال: إن ذلك مشتق من "السرور"، وهو لا يحصل إلا بما ذكرناه، واستدل له ابن الصباغ بأنها تسمى: سرية بما ذكرناه بالإجماع؛ فمن ادعى ثبوت الاسم لها قبل ذلك احتاج إلى الدليل.

والوجه الثاني مأخذه قول من قال: إنه مشتق من "السَّريِّ"؛ فكأنه حلف: ألا يجعلها أسرى الجواري، وهذا لا يحصل إلا بالتحصين والوطء.

والوجه الثالث مأخذه قول من قال: إنه مشتق من "السر" أو من "السراة"؛ فكأنه حلف لا يتخذها ظهراً، والجارية لا تتخذ ظهراً إلا بالوطء.

ومن الأصحاب من حكى وجهاً آخر في أنه يحنث بالوطء والإنزال؛ لأن التسري في العرف اتخذا الجارية؛ لابتغاء الولد، وذلك موقوف على الوطء والإنزال.

ويشبه أن يكون مأخذه قول القائل بأنه مشتق من "السرور"؛ لأن السرور يحصل بذلك، وقد قيل: إن هذا الوجه هو المنصوص.

قال: وإن قال: لا رأيت منكراً إلا رفعته إلى القاضي فلان، ولم ينو أنه يرفع إليه وهو قاض، فعزل – أي بعد التمكن من الرفع إليه، ثم رفع إليه، أي: ومات ولم يولَّ، فقد قيل: يحنث؛ لأنه علق اليمين بعين موصوفة بصفة وتمكن من الإتيان بالمحلوف عليه، فلم يفعله حتى زالت الصفة؛ فيحنث؛ كما لو حلف: ليأكلن هذه

ص: 482

الحنطة، فأكلها بعد طحنها.

قال: وقيل: لايحنث؛ لأنه علق اليمين على العين، وذكر "القاضي" [تعرضاً] لاشرطاً؛ فأشبه ما لو قال: لا دخلت دار زيد هذه، فدخلها بعدما باعها؛ فإن يمينه تنحل؛ فكذلك هاهنا.

وشبه ابن الصباغ والمتولي هذا الخلاف بالخلاف فيما إذا حلف: لا يكلم هذا الصبي، فصار شاباً.

لكن الراجح هاهنا – على ما اختاره القاضي الروياني والعمراني – القول الثاني، والراجح في مسألة الصبى عدم الحنث؛ على ما دل عليه كلام الأصحاب، ومقتضاه عدم حصول البر في مسألتنا.

أما إذا لم يتمكن في حال ولايته من الرفع إليه؛ بأن حبس أو مرض، ولم يقدر على الإرسال إليه، أو جاء إلى باب القاضي، فحجب عنه – فإن قلنا: عند التمكن [لا يحنث، فهاهنا أولى، وإن قلنا بحنثه عند التمكن] فالعزل قائم مقام الموت في هذا الغرض.

ولو مات القاضي، والحالة هذه، كان في الحنث القولان في حنث المكره.

ولو لم يرفع إليه، لكنه بادر عند الرؤية إلى الرفع إليه، فمات القاضي قبل الوصول إليه – ففي الحنث طريقان:

أحدهما عن الشيخ أبي حامد: طرد القولين، وطردهما المحاملي – أيضاً – فيما إذا مات الحالف [قبل الوصول إليه.

والمذكور في "التتمة" و"التهذيب": الجزم] بعد الحنث.

ولو نوى أنه يرفع إليه وهو قاض؛ فالحكم كما ذكرناه تفريعاً على الوجه الأول.

قال: وإن قال: لا رأيت منكراً إلا رفعته إلى القاضي، حمل على قاضي ذلك البلد من كان؛ لان التعريف بالألف واللام يرجع إليه.

ص: 483

ومن الأصحاب من جعل الألف واللام للجنس، ولم يخص يمينه بقاضي البلد. وعلى الأول هل يتعين قاضي البلد في الحال فإنه المعهود، أو من ينصب بعده في البلد يقوم مقامه؟ فيه وجهان، ويقال: قولان، أشبههما – وينسب إلى أبي حامد، وهو الذي أورده البغوي، ويقتضيه إيراد الشيخ -: الثاني، حتى لو عزل من كان قاضياً وولى غيره بر بالرفع إليه، ولا يبر بالرفع إلى الأول.

وعلى الأول: هل الاعتبار بحال اليمين أو بحال رؤية المنكر؟ فيه وجهان محكيان في "التتمة".

ولو قال: لا رأيت منكراً إلا رفعته إلى قاضٍ، بر برفعه إلى أي قاض كان.

فروع:

لو كان في البلد قاضيان، وجوزناه، فرفع إلى أحدهما – بر.

ولو رأى المنكر بحضرة القاضي المرفوع إليه، قال في "الوسيط": لا معنى للرفع إليه.

ولو رآه بعد اطلاع القاضي عليه ففيه وجهان:

أحدهما: أنه كان البر بغير اختياره كما لو رآه معه؛ فيكون على القولين.

والثاني: أنه يبر بالإخبار وصورة الرفع، وهذا أظهرن وبه أجاب صاحب "التهذيب"، وهو الذي أورده المتولي فيما إذا رأى المنكر والقاضي يشاهده.

تنبيه: لا يشترط في الرفع إلى القاضي المبادرة عند الرؤية، بل له مهلة مدة عمره وعمر القاضي.

ولا يشترط فيه أن يذهب إليه مع صاحب المنكر، بل يكفي أن يحضر عند القاضي وحده ويخبره، أو يكتب إليه بذلك، أو يرسل رسولاً فيخبره.

قال: وإن حلف: لا يكلم فلاناً حيناً أو دهراً أو حقباً أو زماناً، بر بأدنى زمان؛ لأن "الحين" مبهم ينطلق على القليل والكثير، عند الشافعي، وأقل ما قاله غيره: أنه يوم، على ما حكاه صاحب "التهذيب". واستدل الشافعي بقوله تعالى:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} إلى آخرها [الروم: 17، 18] وأراد: أقل من يوم، وقال

ص: 484

تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] يعني: يوم القيامة، وقال تعالى:{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:1] يعني: تسعة أشهر من مدة الحمل.

وقيل: هي أربعون سنة، إشارة إلى آدم – عليه السلام – أنه صور من حمأ مسنون وطين لازب، ثم نفخ فيه الروح بعد أربعين سنة.

وإذا اختلف المراد في هذه المواضع نزل على القدر المشترك وهو مطلق الزمان. وإنما بر فيما عدا الحين مما ذكرناه بأدنى زمان.

وكذلك إذا قال: أحقاباً؛ لأنها أسماء مبهمة تطلق على قليل الزمان وكثيره، ولم يرد فيها نص فيتبع، والقياس لا مجال له فيها؛ فبر بما ينطلق عليه الاسم.

ولو حلف: لا يكلمه مدة قريبة أو بعيدة بر بأدنى زمان.

ولو حلف: ليقضين حقه إلى أيام، قال جماعة من جملتهم المحاملي: إن ذلك بمنزلة ما لو حلف: ليقضين حقه إلى حين؛ فيبسط على مدة العمر.

وفي "المجرد" للقاضي أبي الطيب: أن في مسألة الأيام يحمل على ثلاثة أيام؛ لأنه لفظ جمع، وعلى هذا جرى الصيدلاني وصاحب "التهذيب".

تنبيه: الحقب – بضم الحاء، وضم القاف وسكونها -: هو الدهر، وجمعه: أحقاب؛ كذا قاله أهل اللغة.

ص: 485

قال: وإن حلف: لا يستخدم فلاناً، فخدمه وهو ساكت – لم يحنث؛ لأن الاستخدام: طلب الخدمة، ولم يوجد.

قال: وإن حلف لا يتزوج، أو لا يطلق، فوكل فيه غيره حتى فعله- لم يحنث؛ لأنه حلف على نفسه، ولم يتحقق.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون ممن جرت عادته بالتوكيل في ذلك أو لا.

ويلتحق بهاتين الصورتين ما لو حلف: لا يعتق؛ فوكل غيره فيه، ففعله.

وحكى المتولي في مسألة التزويج وجهين في الحنث، والمذكور منهما في "التهذيب" الحنث.

وفي "الحاوي": أنه إن كان ممن جرت عادته بالتوكيل كالسلطان، فإذا حلف: ألا ينكح أو لا يطلق، أو لا يعتق، فوكل به – فهل يعتبر حكم عادته؟ فيه وجهان:

أحدهما: أنه لا يعتبر؛ لأنه إذا باشر ذلك لم تستنكره النفوس ولا تستقبحه له.

والثاني: أنه يعتبر؛ لما سنذكره في البيع.

فعلى هذا: لا يحنث قولاً واحداً، وعلى الأول: في حنثه ما سنذكره من الخلاف في البيع.

فرع: لو حلف: لا يتزوج، فتوكل من غيره في التزويج – قال الرافعي: قضية الوجه الصائر [إلى حنثه فيما إذا حلف لا يتزوج، فوكل من قبل له: ألا يحنث، وقضية الوجه الصائر إلى] عدم الحنث: أن يحنث، والأول هو الذي أجاب به الإمام، وحكى قطع الأصحاب به في الطرق، ثم قال: وذكر الصيدلاني ما يخالف هذا صريحاً، وهو أنه قال: لو قال: لا أكلم امرأة تزوجها زيد، فقبل له زيد نكاح امرأة، فكلمها الحالف – حنث. ثم خطأه فيه.

قال: وإن حلف: لا يبيع، أو: لا يصرف، فوكل فيه غيره حتى فعل – لم يحنث في أظهر القولين، وهو المنصوص عليه في "المختصر"،وعليه الأكثر؛ لما قلناه في التزويج.

قال: وفيه قول آخر: أنه إن كان ممن لا يتولى ذلك بنفسه، أي: كالسلطان ومن

ص: 486

قاربه في رتبته، حنث؛ حملاً لليمين على العرف؛ كما حملت على العرف في الحلف على أكل الرءوس. وهذا ما رواه الربيع، وهو مطرد – على ما حكاه المتولي – فيما إذا حلف: لا يزوج ابنته، وهو من ذوي المروءات.

ومن قال بالأول أجاب عن مسألة الرءوس بأن العرف فيها عام؛ فكان حقيقة عرفية نزلت اليمين عليها، والعرف في مسألتنا خاص بالحالف، ومثل ذلك لا تنصرف اليمين إليه؛ ألا ترى أن الملك لو حلف؛ لا يأكل الخبز، لا يلبس الثوب، فأكل خبز الذرة، ولبس عباءة –حنث، وإن لم يكن ذلك عادته؟!

فروع:

قال في "التهذيب": لو حلف: ألا يبيع ولا يشتري، فاشترى لغيره شيئاً بالوكالة- حنث. ووافقه المتولي فيما إذا حلف [لا يبيع] شيئاً، فباع للغير بالوكالة أو الولاية أنه يحنث.

وقال الغزالي: إن أضاف العقد إلى موكله، لم يحنث، وإن لم يضفه ونوى – حنث؛ على أظهر الوجهين.

ولو حلف: لا يحلق رأسه، فأمر غيره فحلقه – فقد قيل: في حنثه القولان، وقيل: يحنث قولاً واحداً، وبه أجاب الماوردي، وطرده في كل ما جرت العادة فيه بالأمر، دون المباشرة من جميع الناس: كقوله: والله لا احتجمت، أو: افتصدت، أو: لا بنيت داري.

وفي "الرافعي": إلحاق الحلف على البناء بالحلف على الضرب، وهو الأشبه؛ لأن ذلك [لا] يختلف باختلاف الناس.

ولو حلف: لا يحلق عانته، فأمر من يحلقها – لم يحنث؛ لأنه لم تجر العادة بأن يفعله الغير.

ولو حلف: لا يبيع، فباع بيعاً فاسداً، لم يحنث، وكذا لو حلف: لا يبيع بيعاً فاسداً، لم يحنث، حكاه الفوراني في كتاب العتق، وحكى خلاف المزني فيه، وعزي الرافعي عدم الحنث إلى الصيدلاني والروياني.

ص: 487

وفي "النهاية" هاهنا: أنه لا وجه عندنا إلا القطع بأنه يحنث كصورة البيع.

وحكى فيما إذا حلف: لا يبيع الخمر، وجهاً: أنه يحنث، وكذلك فيما إذا حلف: لا يبيع مال فلان بغير إذنه، أو: لا يبيع مال زوجته، فباع بغير الإذن، والمذهب: أنه لا يحنث فيهما.

فائدة: قال في "التتمة": إذا حلف: لا يشتري، فأسلم في شيء أو قبل التولية أو التشريك – حنث، بخلاف ما لو صالح من الدين على عين؛ لأن لفظ "الصلح" غير موضوع للتمليك، وإنما هو موضوع للإسقاط والرضا بترك الحق، والتولية والتشريك موضوعان لنقل الملك؛ فأشبها البيع، والذي اختاره –في الصلح – حكاه الإمام عن الصيدلاني واختار خلافه، وقال: لو أخذ طعاماً عن أجرة دار فلست أراه مشترياً، وحكى إن الإقالة وإن قلنا: إنها بيع، لا تندرج تحت اسم "البيع"؛ لأن ذلك من طريق الحكم، وكذلك في القسمة إذا قلنا: إنها بيع.

قال: وإن حلف: ليضربن عبده مائة سوط، فشد مائة سوط، وضربه بها ضربة واحدة، وتحقق أن الجميع أصابه-بر؛ لأن الله تعالى – قال لأيوب – على نبينا وعليه السلام – وقد حلف: ليضربن امرأته مائة خشبة: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44]، ولأن الضرب بالمائة قد حصل؛ فوجب أن يبر في يمينه؛ كما لو فرقه.

ثم المراد بتحقق إصابة الجميع: أن يتحقق وصول ألم الجميع إليه، وإن كان البعض حائلاً بين بدنه وبين البعض الآخر؛ كما لو حال بين بدنه وبين السياط الثوب، ويدل عليه قوله تعالى:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} [ص: 44] والغالب أن قضبان الضغث لا تنبسط، وذلك يدل دلالة ظاهرة على أن المماسة بالجميع ليست بشرط.

وفيه وجه: أنه لابد من ملاقاة الجميع بدنه أو ملبوسه، ولا يكفي التحامل ووصول الألم.

فرع: لو ضربه بعثكال فيه مائة شمراخ، ظاهر كلام البندنيجي والمحاملي وابن الصباغ والبغوي: أنه يبر.

ص: 488

وفي "الوسيط" وغيره: أن ذلك لا يكفي على الصحيح؛ لأنها من جنس الأخشاب، لا من جس السياط.

قال: وإن لم يتحقق – بر؛ لقوله – تعالى-: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] فأثبت الضرب ونفي الحنث من غير اشتراط [أمر آخر]، ولأن عدم الإصابة وعدم حصول البر أصلان متقابلان، لا مزية لأحدهما على الآخر؛ فترجح حصول البر بأن الظاهر الإصابة.

وحكى المراوزة قولاً مخرجاً من نصه فيما إذا حلف: لا يدخل الدار إلا أن يشاء زيد، فمات زيد، ولم يدر هل شاء أم لا، ودخل؛ فإنه يحنث، وهذا ما صار إليه المزني على ما حكاه في "المهذب" وغيره، وقال الجيلي: إن الروياني اختاره.

واعلم أن عدم التحقق يصدق مع وجود الظن بالإصابة ومع الشك فيها، وقد حكى ابن يونس: أن كلام الشيخ شامل لهما، وجعل محل خلاف المزني حالة الشك، وحكى البندنيجي وابن الصباغ النص بعدم الحنث فيما إذا غلب على ظنه حصول الإصابة.

وألحق البندنيجي حالة الشك بما إذا تحقق عدم الإصابة، والحكم فيها: أنه لا يبر.

وصور في "المهذب" و"التهذيب" والرافعي والغزالي المسألة بحالة الشك، وسكتوا عن حالة الظن، ولعل مرادهم: الاصطلاح المتقدم من أن الشك هو التردد، لا على السوية.

واعلم أن النواوي تكلم في هذه المسألة، وقال: إنها مما اضطربت فيها النسخ، والصواب فيها: أن قول الشيخ: "وإن لم يتحقق لم يبر"، وهو الذي ضبطناه عن نسخة المصنف، وحققناه على المتقنين، وكونه لا يبر هو مذهب المزني، ونص الشافعي: أنه يبر، ولا يضر كون المصنف اختار القول المخرج، وترك المنصوص؛ فقد يفعل الأصحاب مثل هذا. وأما قوله: والورع أن يكفر، فمعناه: الأولى ألا يضربه ليبر، بل يكفر عن يمينه. هذا آخر كلامه.

ص: 489

قلت: إن صح ما ذكره عن نسخة المصنف فالوجه أن يحمل قوله: "وإن لم يتحقق"، على حالة الشك؛ فإنه لا يبر فيها عند العراقيين كما حكيناه عنهم، وهو أهون من مخالفة المذهب. وأيضاً: فإن محل خلاف المزني – على ما حكاه ابن يونس، والشيخ في "المهذب"، والرافعي، والغزالي – حالة الشك، وإن كان ابن الصباغ حكاه في حالة غلبة الظن بالإصابة، والله أعلم.

قال: والورع أن يكفر؛ لاحتمال عدم الإصابة.

قال الجيلي: وهذا لم يتعرض له الشيخ في كتاب "المهذب"، ولا أحد سوى صاحب "الحلية"، ولعل وجهه أن يقال: إن إعادة الضرب زيادة في التعذيب.

وفي "التهذيب" حكاية عن النص: أن الورع أن يحنث نفسه.

قال: وإن حلف: ليضربنه مائة ضربة، فضربه بالمائة المشدودة دفعة واحدة، أي: وتحقق أن الجميع أصابه – فقد قيل: يبر؛ لأنه حصل بكل سوط ضربة؛ بدليل أنه يجزئ في حد الزنى، وإذا كان كذلك فقد تحقق البر.

قال: وقيل: لا يبر؛ لأن الكل يسمى ضربة واحدة؛ بدليل ما لو رمى في الجمار سبع حصيات دفعة واحدة؛ فإنه لا يحتسب له سبع حصيات، وصار هذا كما لو قال: مائة مرة؛ فإنه لا يبر ما لم يضربه مائة ضربة، وهذا هو الأظهر، وهو الذي أورده الصيدلاني، والفرق عند قائله بين هذه وبين المسألة الأولى: أنه ثم جعل العدد للأسواط وهي متعددة، وهاهنا جعل العدد للضربات؛ فلابد من تعددها.

وعنده – أيضاً -: أنه لابد من تواليها حتى تقع الضربة بعد الضربة حتى تتنجز الضربات المذكورة، قاله الإمام وغيره.

ص: 490

قال: وإن حلف: لا يأكل هذه التمرة، فاختلطت بتمر كثير، فأكله إلا تمرة – ولم يعرف أنها المحلوف عليها – لم يحنث؛ لاحتمال أنها غير المحلوف عليها والأصل فراغ ذمته من الكفارة.

قال: والورع أن يكفر؛ لاحتمال أنها المحلوف عليها.

وهذا الحكم ثابت فيما لو ضاع من الجميع تمرة، ولم يعرف أنها المحلوف عليها.

قال: وإن حلف: لا أكلت رغيفين، فأكلهما إلا لقمة – لم يحنث؛ لأن اليمين تعلقت بالجميع؛ فلم يحنث بالبعض.

وهكذا الحكم فيما لو حلف: لا يأكل خبز الكوفة، فأكل بعضه، لم يحنث؛ على ما حكاه القاضي أبو الطيب في "المجرد".

واعلم أن تقييد الشيخ الترك بلقمة يحترز به عن الفتات الذي لا يمكن جمعه؛ فإنه يحنث به. وقد أطلق القاضي الحسين القول بأنه إذا أكل الرغيف إلا فتاتاً: فإنه لا يحنث، وحمله الإمام على ما إذا تفتت قطعة تُحَس ويحصل لها موضع. قال: وربما ضبط ذلك بأن تسمى قطعة خبز، فأما ما يَدِقُّ مدركه فلا نظر له في بر ولا حنث. وهذا مقوع به عندي في حكم العرف، وقد حكى ذلك الرافعي في فروع الطلاق.

فرع: لو قال: لا آكل اليوم إلا رغيفاً، ثم فاكهة-حنث. وكذا لو قال: لا أكلت أكثر من رغيف، فأكل خبزاً بأدم – حنث، حكاه الرافعي في الفروع أيضاً.

قال: وإن حلف: [لا أكلت] هذه الرمانة، فأكلها إلا حبة- لم يحنث؛ لما ذكرناه.

ص: 491

قال الإمام: وقد يقول القائل في العرف: أكلت رمانة، وإن فاتته حبة، لكن من قال: إنه لم يأكل رمانة، لا يعد حائداً عن ظاهر الكلام، فإذن العرف متردد والوضع يقتضي عدم الحنث؛ فلا وجه للحكم بالحنث.

قال: وإن حلف: لا يشرب ماء الكوز، فشربه إلا جرعة- لم يحنث؛ لما ذكرناه. والحكم في الحلف على شرب ماء الصهريج الكبير وما في معناه مما يمكن شربه مع طول الزمان، كالحكم في الحلف على شرب ماء الكوز.

فإن قيل: لو حلف: لا يأكل طعاماً اشتراه زيد، فأكل بعضه- حنث] على أحد الوجهين؛ فهلا جرى مثله هاهنا؟

قلنا: الفرق بينهما ما حكاه الماوردي: أن الماء في الكوز أو الحب مقدار ينطلق على جميعه، ولا ينطلق على بعضه [؛ فلذلك لم يحنث بشرب بعضه]، وشراء زيد الطعام صفة تنطلق على بعضه كما تنطلق على جميعه؛ فلذلك حنث بأكل بعضه.

ثم تصوير الشيخ المسألة بترك الجرعة يحترز به عن البلل الباقي الذي لا يمكن شربه؛ فإنه يحنث وإن بقي.

تنبيه: الجرعة: بكسر الجيم وفتحها؛ قاله ابن السكيت.

ويقال: جرعت الماء، بكسر الراء على المشهور.

وحكى الجوهري أيضاً فتحها.

فرع حكاه الماوردي: لو شك: هل ذهب من الكوز قطرة ماء بعد حلفه أم لا، وشرب الموجود – فهل يحكم بحنثه؟ فيه وجهان.

ص: 492

قال: وإن حلف: لا يشرب ماء النهر، لم يحنث، أي: وإن شرب منه، وهو قول أكثر الأصحاب، ومنهم أبو إسحاق؛ لأن يمينه توجهت إلى شرب جميعه؛ لأنه عقدها على ماء النهر، ولم يطلق؛ فصار النهر مقداراً له كالإداوة.

قال القاضي أبو الطيب: وعلى هذا ينبغي أن يقال: لا تنعقد يمينه؛ كما لو حلف: لا يصعد السماء.

وقد حكى ابن يونس هذه المقالة عن القاضي الحسين، وفي هذا القياس نظر؛ لأنا قد حكينا أنها تنعقد على الأصح.

قال: وقيل: يحنث بشرب بعضه، وهو ما ذهب إليه ابن سريج وابن أبي هريرة؛ لأنه لما استحال شرب جميعه صارت اليمين معقودة على ما لا يستحيل؛ لأن تغير اليمين بعد العقد لا نراه؛ ألا تراه لو قال: والله لا شربت الماء، حنث بشرب ما قل منه، وإن كان دخول الألف واللام يقتضي استيعاب جميعه؛ لأنه لما كان شرب جميعه؛ لأنه لما كان شرب جميعه من المستحيل حمل على شرب ما لا يستحيل، كذلك ماء النهر.

وهذا أصل مطرد عبر عنه الإمام في كتاب الطلاق عند الكلام في الحيض بأن اللفظ إذا تردد على وجه يحتمل الاستحالة ويحتمل إمكاناً، فمن الأصحاب من لا يبعد الحمل على الاستحالة، ومنهم من يوجب الحمل على الإمكان، فمن الأصحاب من لا يبعد الحمل على الاستحالة، ومنهم من يوجب الحمل على الإمكان؛ حتى لا يلغو اللفظ؛ فإن التعرض للاستحالات يكاد أن يكون كالهزل. ومن هذا الأصل ما إذا قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طالق.

وأجاب من خالفهما عن ذلك بأن الألف واللام تستعمل لاستيعاب الجنس تارة، وللمعهود أخرى، وهو حقيقة فيهما، فإذا استحال استيعاب الجنس حمل على المعهود، وهو حقيقة فيه، [وفارق] "ماء النهر":[لأن] الاسم حقيقة في جميعه ومجاز في بعضه، ولا يصار إلى المجاز في الأيمان عند استحالة الحقيقة؛ ألا تراه لو حلف: لأصعدن السماء، وهو مستحيل – لم يحمل على صعود السقف، وقد يسمى: سماء؛ لأنه غير مستحيل، ووجب حمل اليمين في الصعود على الحقيقة دون المجاز؟!

ص: 493

كذلك في شرب ماء النهر.

فروع:

لو قال: لأشربن ماء هذا النهر، فشرب منه – بر عند ابن سريج وابن أبي هريرة، وعلى الأظهر: لا يبر، وهو حانث؛ لعجزه عن شرب الجميع، وعلى هذا: فيلزمه الكفارة على الأصح، لكن في الحال أو قبل الموت؟ فيه وجهان، أشبههما، وبه أجاب الغزالي والروياني: الأول.

لو حلف: لا يكلم الناس، حكى ابن الصباغ وغيره: أنه يحنث بكلام الواحد، [ولو حلف: لا يكلم بني آدم، فقياس ما حكاه ابن الصباغ: أنه يحنث بكلام الاوحد] منهم، وقد صرح به ابن يونس فيما إذا حلف: لا يكلم بني فلان. وحكى الرافعي في فروع الطلاق: أن القياس أنه لا يحنث بكلام الواحد والاثنين إلا إذا أعطيناهما حكم الجمع.

ولو قال لرجلين: والله لا أكلم أحدكما، هل يحنث بكلام أحدهما؟ فيه وجهان في "الرافعي" في الإيلاء.

ولو حلف: لا يأكل هذا الرغيف وهذا الرغيف – لم يحنث إلا بأكلهما؛ كما لو قال: لا كلمت زيداً وعمراً لا يحنث إلا بكلامهما.

وفي "التتمة" فيما إذا قال: لا ألبس هذا الثوب وهذا الثوب – أنهما يمينان؛ لوجود حرف العطف؛ فلكل واحدة حكمها، ومقتضى ذلك أن يحنث إذا أكل احد الرغيفين.

وأبدى الرافعي في مسألة الثوبين توقاً، وقال: لو أوب العطف كونهما يمينين لأوجب في قوله: لا أكلم زيداً وعمراً، ولا آكل اللحم والعنب – كونهما يمينين.

قال: وإن حلف: لا يأكل ما اشتراه زيد، فأكل مما اشتراه زيد وعمرو، أي على الإشاعة، لم يحنث؛ لأنه ما من جزء يشار إليه فيقال: إنه اشتراه زيد دون عمرو، إلا ويقال في مقابله: لا، بل اشتراه عمرو؛ فلم يوجد في شيء منه المحلوف عليه، كذا وجهه المحاملي في "المجموع" ووجهه الماوردي بأن كل جزء من الطعام لم يختص الحالف بشرائه وإن قل، فوجب ألا يقع به الحنث؛ كما لو حلف: لا دخل دار

ص: 494

زيد، فدخل داراً بين زيد وعمرو- لم يحنث، بوفاق أبي حنيفة.

وفي "الإبانة" حكاية وجهين آخرين:

أحدهما: أنه يحنث. قال الإمام: ولست أنكر دخوله تحت الإمكان في مسائل البر والحنث في الأيمان، ولكنه ليس مذهباً للشافعي.

وفي "الرافعي": أن القاضي أبا الطيب اختار هذا الوجه، ويقاربه ما حكاه في فروع الطلاق فيما إذا حلف: لا سرق ذهباً، فسرق ذهباً مغشوشاً – فإنه يحنث على المذهب.

والثاني: إن أكل أكثر من النصف حنث، وإلا فلا. قال الإمام: وهو سخيف.

وحكى في "التهذيب" الوجوه الثلاثة لكن فيما إذا حلف: لا يأكل ما اشتراه زيد، إلا أن ينوي أنه لا يأكل طعام زيد أو من طعامه.

واعلم أن قضية كلام الماوردي [أن] المسألة مصورة بما إذا عقدا على طعامٍ صفقة واحدة، أما إذا عقدا عليه في صفقتين على الإشاعة، فأكل منه – حنث؛ فإنه أجاب عن [استدلال] أبي حنيفة بالشِّرَى في صفقتين مشاعاً: بأن كل جزء من أجزاء الطعام قد اشترى زيد نصفه بعقد تام؛ فوجد شرط الحنث [، وإذا كان بعقد واحد فهو مشترك؛ فلم يكمل شرط الحنث] فافترقا. وهذا منه يدل على تسليم الحكم فيما استدل به أبو حنيفة.

قال: وإن اشترى كل واحد منهما شيئاً، فخلطاه فأكل منه –فقد قيل: لا يحنث حتى يأكل أكثر من النصف، أي: إن كان ما اشترياه متساوياً؛ لأن بما دونه لا يتحقق أنه أكل ما اشتراه زيد؛ فإذا أكل أكثر من النصف فقد تحقق أنه أكل ما اشتراه، وهذا ما ذهب إليه أبو سعيد الإصطخري؛ على ما حكاه ابن الصباغ والمحاملي والبندنيجي والرافعي وغيرهم، ولم يذكر البغوي سواه، وحكى ابن الصباغ أن القاضي أبا الطيب اختاره، وقال الإمام: هذا إشارة إلى أن الاستيقان يحصل عند ذلك، ولا ينبغي أن تستجيز عدَّ هذا من المذهب مع تحقق اليقين دونه.

ص: 495

أما إذا كان متفاضلاً فيعتبر على هذا الوجه أن يزيد ما أكله على المقدار الذي لغير المحلوف عليه، [ثلثاً كان أو ربعاً]، أو غير ذلك من الأجزاء.

قال: وقيل: إن أكل حبة أو عشرين حبة لم يحنث؛ لأن ما من حبة يأكلها إلا ويجوز أن تكون مما اشتراه، كما يجوز أن تكون مما لم يشتره، والأصل فراغ ذمته من الكفارة.

قال: وإن أكل كفاًّ، أي: وكان المشتري من حنطة أو نحوها- حنث؛ لأنا نتحقق أنه أكل من الطعامين؛ فإنه إذا خلط لم يتميز منه الكف، وهذا ما ذهب إليه أبو إسحاق، وهو الأصح عند ابن الصباغ والرافعي.

وقد يؤخذ مما ذكرناه من التقييد [بجريان هذا الوجه] الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة التمر.

وحكى عن ابن أبي هريرة أنه قال: لا يحنث وإن أكل الجميع؛ لأنه [لا] يمكن أن يشار إلى شيء منه أنه مما اشتراه زيد؛ فأشبه ما إذا اشترياه مشاعاً.

قال ابن الصباغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأنا نتحقق أنه قد أكل ما انفرد المحلوف عليه بشرائه متميزاً، وإنما لم نعرفه، بخلاف المسألة قبلها.

وفي "ابن يونس": أن القاضي أبا الطيب اختاره، وفي "الوسيط": أنه إن أكل من المختلط حنث، ولم يحك سواه؛ فإن حمل على ظاهره كان وجهاً رابعاً.

والذي يظهر: أنه محمول على ما إذا أكل منه ما يتيقن به أنه أكل مما اشتراه زيد.

وقال البصريون من أصحابنا: إن كان المأكول مائعاً حنث بأكل القليل منه، وكذا إن كان دقيقاً، وإن كان متميزاً كالتمر، فأكل أكثر من النصف حنث، وإلا فلا.

قلت: وقد يتجه جيران خلاف في المائع أيضاً؛ كما أجرى فيما إذا خلط ما لا يكفيه لوضوئه بمائع؛ فإنا لا نجوز له على رأي أن يستعمل الجميع، بل يبقى قدر المائع، وسيأتي قريب من ذلك في كتاب الرضاع.

تنبيه: قد يظهر لك من كلام الشيخ أنه لو حلف: لا يأكل طعاماً اشتراه زيد، فأكل بعضه-حنث؛ لأنه على القول الأول يحنث إذا أكل أكثر من النصف، ومعلوم

ص: 496

أنا لا نتحقق بذلك أكل جميع ما اشتراه زيد؛ وكذلك على الوجه الثاني، وهذا ما حكاه الماوردي عن ابن أبي هريرة.

وقد حكيت في هذه المسألة من قبل وجهاً عن رواية الماوردي: أنه لا يحنث بأكله، فعلى هذا: لا يجيء الوجه الأول والثاني، وإنما يحنث بأكل الجميع، وقد تحصَّلَ بذلك في المسألة خمس مقالات.

فائدة: تقدم فيما إذا حلف: لا يأكل سمناً، فأكله مع الخبز - أنه لا يحنث عند الإصطخري، وقاسه على ما إذا حلف: لا يأكل ما اشتراه زيد، فأكل ما شاتراه زيد وعمرو؛ فكيف يحسن منه الحكم بالحنث عند أكله أكثر من النصف في مسألتنا؟! وفي ذلك مخالفة لما ذكره ثَمَّ من وجهين:

أحدهما: أنه لم يحنثه في مسألة السمن؛ لأجل أنه لم يأكله منفرداً، ومقتضاه: ألا يحنثه هاهنا؛ للاشتراك.

الثاني: أنه جعل هذه المسألة أصلاً لما ذكره في مسألة السمن، وخالف فيه.

ويمكن أن يجاب عن الثاني على مقتضى هذا النقل: بأن ما قاله ثَمَّ محمول على ما إذا اشتريا على الإشاعة، ولم ينقل عن الإصطخري فيها خلاف، لكن إلحاق مسألة السمن بالمسألة الثانية أشبه؛ من حيث إن السمن متميز عن الخبز، كما أن ما اشتراه زيد متميز عما اشتراه عمرو في نفس الأمر؛ فالقياس عليها أمَسُّ، والذي يظهر أن يكون الصحيح في النقل عن الإصطخري في هذه المسألة ما حكاه الماوردي عنه: أنه لا يحنث وإن أكل الجميع؛ لموافقة ما ذكره ثَمَّ، وقد نسب ما نسب إلى الإصطخري إلى أبي إسحاق، ولم يحك القول الذاهب إلى أنه: إن أكل حبة أو كفًّا، وحكى بدله ما حكيناه عن البصريين، ثم قال: ويشبه أن يكون قول أبي علي بن أبي هريرة، والله أعلم.

فرع: لو اشترى زيد طعاماً، ثم باع بعضه وخلط؛ فأكل منه - حنث، وكذا لو باع بعضه مشاعاً، فأكل منه.

قال: وإن حلف: لا يدخل [هذه] الدار، فدخلها ناسياً، أي: لليمين، أو جاهلاً، أي: بأنها المحلوف عليها - ففيه قولان:

ص: 497

أحدهما- وهو المذهب في "تعليق" البندنيجي، والأصح في "المهذب" و"المجموع" للمحاملي و"تعليق" القاضي أبي الطيب، وكلام ابن الصباغ يدل على ترجيحه -: أنه لا يحنث؛ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]؛ فكان رفع الخطأ موجباً لإسقاط الكفارة عن الخاطئ، ولما روى ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأمتي عن الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"؛ فكان حكم الأيمان داخلاً في عموم هذا التجاوز.

والثاني: أنه يحنث، وبه كان يفتي بعض علماء عصرنا في الناسي؛ لقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89]؛ فكان عقدها موجباً للمؤاخذة بالكفارة على عموم الأحوال: من عمد وخطا، وعلم وجهل. ولأن الكفارة تطهير؛ فأشبهت طهارة الحدث؛ فإذا استوى حكم الحدث في العمد والخطأ والنسيان والذكر وجب أن يستوي حكم الحنث في ذلك.

والقائلون بالأول قالوا: في الآية إضمار، وهو: إذا عقدتم الأيمان وحنثتم، ولا يسلم الحنث.

وفي "الرافعي" حكاية طريقة في الناسي: أنه يحنث، وأن الجاهل قد يرتب على الناسي عند إجراء الخلاف فيه، وأولى بأن يحنث؛ لأن الجاهل الغالط في غروب الشمس يفطر، والناسي لا يفطرن وهذا ما ذهب إليه الإمام.

وحكى الماوردي أن شيخه أبا القاسم الصيمري قال له: ما أفتيت في يمين الناسي بشيء قط.

وحكى عن شيخه أبي الفياض أنه لم يفت فيها بشيء قط، وأنه اقتدى بها، ولا السلف، ولم يفت بها بشيء، لأن استعمال التوقي أحوط من فرطات الإقدام.

ولا فرق في جريان القولين بين اليمين بالله – تعالى – وبين اليمين بالطلاق وغيرهن وقد حكينا في كتاب الطلاق خلاف القفال في ذلك.

قال: وإن أُدخل على ظهر إنسان باختياره حنث؛ كما لو دخل على دابة.

ص: 498

فإن قيل: لو حلف: لا باع، ولا ضرب؛ فأمر غيره بالبيع والضرب – لم يحنث، فهلا كان في الأمر بالدخول كذلك؟

قيل: لأن البيع والضرب وإن كان عن أمره فالفعل موجود من غيره؛ فكان مثال من حلف على دخول الدار، فأمر غيره بالدخول؛ فإنه لا يحنث.

قال: وإن أكره حتى دخل بنفسه، ففيه قولان:

أحدهما: أنه يحنث؛ لأن ما تعلقت الكفارة به [إذا وجد بالاختيار تعلقت به] إذا وجد لا بالاختيار؛ كقتل الصيد.

وأصحهما-على ما اختاره أبو حامد القاضي والشيخ وابن كج والروياني وغيرهم -: أنه لا يحنث، ولا تلزمه الكفارة؛ للحديث السابق، وأيضاً: فإنه لو حلف مكرهاً لا تنعقد يمينه؛ فكذلك المعنى الذي يتعلق به الحنث إذا وجد على وجه الإكراه ينبغي أن يلغو، والجامع: أنه أحد سببي وجوب الكفارة، وعن أبي الطيب بن سلمة: القطع به.

قال: وإن حمل مكرهاً لم يحنث؛ لأنه لم يوجد الفعل منه، ولا الاختيار القائم مقام الفعل.

قال: وقيل: على قولين؛ لأنه لما كان دخوله بنفسه ودخوله باختياره واحداً، وجب أن يكون دخوله مكرهاً بنفسه ومحمولاً واحداً.

ولو حمل بغير إذنه، لكنه كان قادراً على الامتناع، ولم يمتنع – قال الرافعي: فالظاهر: أنه لا يحنث، وهو قضية كلام الماوردي؛ فإنه قال فيما إذا حلف وأدخل بغير أمره: إنه لا يحنث، استصعب أو تراخَى.

ومنهم من جعل سكوته بمثابة الإذن في الدخول، وهذا ما حكاه الإمام عن الأكثرين.

فروع:

إذا قلنا بعدم الحنث فهل تنحل اليمين؟ ينظر: إن كان في صورة لم يتعاطَ الفعل بنفسه؟ لا تنحل وجهاً واحداً، وإن كان في صورة تعاطاه بنفسه، فالأشبه – وعليه يدل

ص: 499

كلام الماوردي -: أنها لا تنحل، وهو ما أجاب به الصيدلاني.

إذا نام، وتدحرج، فدخل الدار – لم يحنث، قاله البغوي، وكذا لو كان المحلوف عليه القراءة، فقرأ وهو نائم، قاله البندنيجي، وحكى أنه لو دخل مجنوناً لم يحنث.

إذا حلف: لا يبيع زيد له متاعاً، فوكَّل في بيعه، وأذن له في أن يوكل، فوكل الوكيل زيداً، فباعه – حنث، سواء علم زيد أنه متاع الحالف أو لم يعلم حكاه العمراني في "الزوائد" عن الطبري.

والظاهر: أن ما قاله محمول على ما إذا قصد التعليق، لا المنع من المخالفة، ويرشد إليه كلام الإمام، وقد تقدم نظيره في كتاب الطلاق، وسنذكر عن صاحب "التهذيب" – وغيره حكاية طريقة تدل على إجراء الكلام على ظاهره.

ولو حلف: ليطؤها الليلة، فوجدها حائضاً أو مُحْرِمة – فعن المزني أنه حكى في التعاور عن مالك: أنه لا حنث عليه، وأن النعمان والشافعي ساعداه. واعترض بأنه ليس التحليل والتحريم من الأيمان في شيء، ومن حلف على أن يعصي، فلم يعص – حنث وإن عصى.

وقيل: إن المذهب ما قاله المزني، وهو اختيار القفال.

وقيل: هو على الخلاف في فوات البر بالإكراه، حكاه الرافعي في الفروع آخر كتاب الطلاق.

قال: وإن حلف: ليأكلن هذا الرغيف غداً، فأكله، أي: أو بعضه في يومه، حنث؛ لأن البر مقيد بزمان؛ فوجب أن يكون شرطاً فيه كالمقيد بالمكان، وإذا كان شرطاً، وقد فوته باختياره، حنث، ومتى يحنث؟ فيه وجهان:

أحدهما- وهو ما جعله الإمام المذهب -: بأكل شيء من الرغيف.

والثاني: في الغد، وهو ما حكاه الماوردي.

فعلى هذا: في أي وقت يحكم بحنثه؟ فيه وجهان:

أحدهما: إذا مضى منه وقت إمكان الأكل، وهو الأصح في "التهذيب".

والثاني: قبيل الغروب.

وتظهر ثمرة الخلاف – على ما حكاه الإمام – في أن الاعتبار بحالة الحنث في

ص: 500

صفة الكفارة، أو بحالة الأداء؟ ولو صام وقد حكمنا بالحنث أجزأه، ولو لم نحكم بالحنث لم يجزئه؛ فإن الصوم لا يقدَّم على وجوبه.

فإن قيل: إذا أخرتم الحنث إلى الغد فلا يعتبر، والأكل في اليوم وإن كان اختياراً فإنه اختيار في غير الوقت المعتبر، ونظير هذا ما لو صب الماء قبل دخول وقت الصلاة، لا يتعلق بصبه حكم، بخلاف بعد الوقت.

قال الإمام: حق هذا السؤال أن يستمسك به في تضعيف ذلك الوجه.

ولو أخر أكله إلى بعد الغد: فإن كان عامداً حنث، وإن كان ناسياً أو مكرهاً ففي حنثه القولان في نظائرها.

فإن قلنا: لا يحنث، قال في "الحاوي": لا يلزمه فعل المحلوف عليه بعد فوات وقته.

قال: وإن تلف في يومه، أي: أو في بعضه، فعلى القولين في المكره؛ لأنه [فات] بغير اختياره.

المنصوص من القولين هاهنا – على ما حكاه في "التهذيب" – والأصح في "النهاية": أنه لا يحنث.

وإذا قلنا بالحنث فمتى يحنث؟ فيه الخلاف السابق.

ولو أتلفه أجنبي فحكمه كما لو تلف.

وألحق الغزالي بذلك موت الحالف قبل الغد، وهو موافق لما حكيناه عن المحاملي فيما إذا حلف: لا يرى منكراً إلا رفعه إلى القاضي فلان، ومات الحالف قبل وصوله إليه، ولإيراد البندنيجي فيما إذا حلف ليقضينه حقه غداً، فماتا أو أحدهما في اليوم، في الحنث قولين، والذي يقتضيه إيراد الماوردي والبغوي وابن كج وغيرهم: القطع بأنه لا يحنث؛ لأنه لم يبلغ زمان البر والحنث.

قال الرافعي: وقضية هذا أن يفرق بين موته وبين تلف الطعام بعد مجيء الغد وقبلا لتمكن من الأكل، ووفى بهذه القضية صاحب "التتمة".

لكن في "التهذيب" وغيره إلحاق موت الحالف بعد مجيء الغد بتلف الطعام.

قال: وإن تلف من الغد أي: بعد تمكنه من أكله، [فقد قيل: يحنث؛ كما لو قال:

ص: 501

لآكلن هذا الرغيف، ولم يقيِّده بمدة، فتلف بعد تمكنه من أكله؛] فإنه يحنث.

قال: وقيل: على قولين، وهو الأشبه، هذا ما ذهب إليه ابن سريج؛ لأن جميع اليوم وقت للأكل، ولم يكن التفويت بفعله، ويفارق المطلق؛ لأنه لم يتعين وقته.

قال الغزالي: وهذا الخلاف يلتفت على أن من مات في أثناء وقت الصلاة، هل يعصي بترك المبادرة؟ والصحيح: أنه لا يعصي؛ لأن الوقت فُسْحة للتأخير. وهذا يوافق قول الشيخ: إن الطريقة الثانية أشبه؛ كما ذهب إليه المحاملي والروياني أيضاً.

لكن الأظهر وإن ثبت الخلاف: أنه يحنث، وإليه مال الأكثرون، وهو الجواب في "التهذيب".

وإذا قلنا بالحنث، فهل هو في الحال أو قبل الغروب؟ فيه الخلاف السابق.

قال: وإن قال: لا فارقت غريمي؛ أي: حتى يوفيني حقي، فهرب منه، أي: قبل وفاء الحق – لم يحنث؛ لأنه حل على فعل نفسه، ولم يوجد منه.

قال في "الحاوي": ووهم ابن أبي هريرة؛ فخرج حنثه بفراق الغريم على قولين من حنث المكره والناسي، وهو خطأ، وهذا يقتضي أن يكون التخريج من ابن أبي هريرة. وحكى الرافعي عن أبوي علي بن أبي هريرة والطبري: أن بعض الأصحاب خرجه على قولي الإكراه، وهذا مخالف لذلك، ولا فرق على المذهب بين أن يتمكن الحالف من التعليق به فلم يفعل، أو لم يتمكن؛ لما ذكرناه من العلة؛ ولأجلها جزم ابن الصباغ بأنه لا يحنث إذا فارقه بإذنه.

وخالف ابن كج في ذلك وقال: إذا فارقه بالإذن كان حانثاً، وعليه يدل كلام الشيخ والماوردي؛ حيث قيدا المسألة بالهرب، ويمكن أن يجاب عن ذلك بما ذكره الإمام: أن الشافعي إنما صور المسألة بالفرار؛ بناء على العادة؛ فإن من يبغي ملازمة غريمه إنما تقع المفارقة منه على هيئة الفرار. وزاد الصيدلاني فقال: إن أمكنه منعه من الذهاب فلم يفعل حنث.

ويقرب منه ما حكاه في "التهذيب" عن شيخه، والإمام عن صاحب "التقريب"،

ص: 502

وبعض المصنفين: أنه إن أمكنه متابعته حنث؛ [لأنه بالمقام] مفارق.

وهذا كله إذا كانا واقفين، فلو كانا يتماشيان، فمشى الغريم، ووقف الحالف لم يحنث؛ على الأصح، وقال القاضي الحسين: إنه يحنث.

ثم المفارقة المعتبرة هاهنا هي المفارقة التي ينقطع بها خيار المجلس مع بقاء الروح، وهي المذكورة في البيع.

ومما يتعلق بهذه المسألة ما إذا حلف: لا فارقني غريمي حتى يوفيني حقي، فإن فارقه الغريم باختياره حنث، سواء أذن في ذلك أو هرب منه.

وعن صاحب "التقريب": أنه إن فر منه خرج على القولين [في المكره، وإن كان ناسياً أو مكرهاً خرج على القولين فيهما].

وحكى صاحب "التهذيب" طريقة؛ قاطعة بأنه يحنث، والاختيار يعتبر في فعل الحالف، لا في فعل غيره.

ونسب الماوردي هذه الطريقة إلى قول البصريين، وهي الطريقة التي وعدنا بذكرها من قبل.

وإن فارقه الحالف لم يحنث؛ على ما حكاه ابن الصباغ، وينبغي أن يجيء فيه ما ذكرناه من قبل، وقد أشار إليه الرافعي.

ولو قال: والله لا افترقت أنا وأنت حتى توفيني حقي، فأيهما فارق صاحبه باختياره حنث الحالف، ولو فر من عليه الحق حنث الحالف قولاً واحداً، قاله البندنيجي وغيره.

ولو قال: لا افترقنا حتى استوفى حقي، أو: لا نفترق، فوجهان:

أحدهما: أنه لا يحنث حتى يفارق كل واحد منهما صاحبه؛ فيذهب هذا إلى كذا، ويذهب هذا إلى كذا.

والثاني- وهو الأظهر-: أن الحكم كالحكم في المسألة قبلها.

فرع على أصل المسألة: لو أعطاه عن حقه عوضاً، أو أبرأه عنه، أو أحاله على

ص: 503

غيره، ثم فارقه - حنث، وفي "الإبانة" حكاية وجه في الحوالة: أنه لا يحنث؛ بناء على أنها استيفاء.

ولو استوفى حقه في الظاهر، ثم وجده من غير جنسه، أو وجد به عيباً يخرج به من انطلاق الاسم عليه، كما إذا كان حقه دنانير مغربية، فأعطاه دنانير مشرقية، أو لم يخرج به من انطلاق اسم الحق عليه، لكن كان أرش العيب كثيراً لا يسمح بمثله - فإن علم بذلك قبل التفرق حنث، وإن علمه بعد التفرق خرج على القولين في المكره، ولو كان الأرش مما يتسامح به لقلته بَرَّ.

فإن قيل: نقصان القدر موجب للحنث فيما قل وكثر؛ فهلا كان نقصان الأرش بمثابته في وقوع الحنث بما قل وكثر؟

قيل: لأن نقصان القدر متحقق يمنع من التماثل في الربا، ونقصان الأرش مظنون لا يمنع من التماثل في الربا؛ فلذلك لم يحنث.

فإن قيل: قد قلتم بالحنث فيما إذا كان أرش العيب كثيراً، وإن كان ما ذكرتموه موجوداً.

قيل: لأن الظن في كثيره أقوى، وفي قليله أضعف فافترقا في بر اليمين وإن استويا في تماثل الربا، كذا قاله الماوردي.

آخر: لو أفلس قبل أن يفارقه، ثم فارقه؛ لأجل الفلس:

فإن كان قبل أن يحكم الحاكم عليه بالمفارقة حنث، وإن كانت المفارقة واجبة؛ لأن أحكام الشرع إذا خالفت عقد اليمين لم تمنع من الحنث؛ كمن غصب مالاً، وحلف: لا يرده على صاحبه، حنث برده عليه، وإن كان رده بالشرع واجباً؛ لأنه رده عليه مختاراً.

وإن كان بعد حكم الحاكم عليه بالمفارقة فهو مكره؛ فيكون في حنثه قولان، كذا حكاه الماوردي.

وفي البندنيجي: أنه إن فارقه قبل ثبوت فلسه، وحجر الحاكم عليه - حنث، وإن كان بعده فقد لزم الحالف أن يفارقه شرعاً، فإذا فارقه فهل يحنث أم لا؟ على قولين: لأنه مكره على فراقه.

ص: 504

قال: وإن حلف – أي: على أمر مستقبل، نفياً كان أو إثباتاً – فقال: إن شاء الله، متصلاً باليمين، أي: ونوى رفع اليمين بها من أول لفظه – لم يحنث؛ لما روى طاوس عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حَلَفَ علََى يَمِينٍ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ – لَمْ يَحْنَثْ"، ولأنه علق الفعل على مشيئة الله – تعالى – وهي غير معلومة. وهكذا الحكم فيما لو قال: إن أراد الله، أو: إن أحب الله، او: إن اختاره الله، أو: بمشيئة الله تعالى، أو: بإرادة الله، أو: باختيار الله، على ما حكاه الماوردي.

وهل نقول: انعقدت اليمين مع الاستثناء؟

منهم من قال: نعم، لكن المشيئة غير معلومة؛ فلا يحكم بالحنث، وهذا ما نقله المحاملي والروياني.

ومنهم من يطلق القول بأنها غير منعقدة، وهكذا فعل صاحب "التهذيب".

ومعنى الاتصال وما يمنعه مذكور في كتاب الطلاق.

واعلم أن قول الشيخ: فقال: إن شاء الله – فيه إشارة إلى أنه لو لم يقل ذلك ولكن نواه بقلبه، لا يحصل المقصود من الاستثناء، وقد صرح بذلك المحاملي والبندنيجي والماوردي وغيرهم.

ووجهه البندنيجي: بان الاستثناء كالنسخ؛ فلهذا لم يصح بالنية، بخلاف ما لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار، ثم قال: نويت شهراً، أو قال لعبده: أنت حر، ثم قال: أردت: إن دخلت الدار – فإنه يُدَيَّن؛ لأنه تخصيص، والتخصيص يجوز بالنية.

ص: 505

ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يؤخر الاستثناء كما ذكره الشيخ، أو يقدمه فيقول: إن شاء الله، والله لأفعلن كذا، أو: لا فعلت كذا، [أو يوسطه فيقول: والله – إن شاء الله – لا فعلت كذا] أو: لأفعلنه، صرح به الماوردي وغيره.

ولو قال: والله لا فعلت كذا، إلا [إن شاء الله أو: إلا] أن يشاء الله – ففيه خلاف قدمناه في كتاب الطلاق، والأصح عند ابن كج في الأولى: أنه استثناء.

قال: وإن جرى الاستثناء على لسانه – على عادته – ولم يقصد به رفع اليمين، لم يصح الاستثناء؛ لأن ذلك لغو الاستثناء، ولما لم ينعقد لغو اليمين لم ينعقد لغو الاستثناء قياساً عليه.

فإن قيل: حكى صاحب "البيان" فيما إذا نوى صوم غد من شهر رمضان، وقال: إن شاء الله – خلافاً في انعقاد نيته عند عدم قصد التعليق؛ فهلا جرى مثله هاهنا؟ فالجواب: أنا أخذنا بالأحوط في الموضعين.

واعلم أن قول الشيخ: ولم يقصد به رفع اليمين، يفهم أنه إذا قصد به رفع اليمين أنها لا تنعقد.

وفي "الشامل" والصورة هذه: أنها تنعقد، وفي ذلك نظر.

ص: 506

قال: فإن عقد اليمين، ثم عَنَّ له الاستثناء، أي: عرض له بعد استكمال اليمين؛ فأتى به – لم يصح الاستثناء؛ لأن عقد اليمين بعد تمامه يثبت حكمه؛ فلا يرفع بعد ثبوته؛ كما لو عَنَّ له ذلك بعد طول الزمان.

وفي "الحاوي" وغيره حكاية وجه: أنه يصح، وقضية كلام ابن الصباغ ترجيحه؛ فإنه قال: حكى عن أبي الحسين بن القطان أنه قال: لا يصح الاستثناء حتى يقصده مع ابتداء اليمين. وأكثر أصحابنا قالوا: لا يحتاج على ذلك. ووجهه بأن لفظ الاستثناء أقوى، نيته، ثم يكون عقيب اليمين، كذلك نيته.

قال: وإن عن له الاستثناء في أثناء اليمين، فقد قيل: يصح؛ لأنه تحققت النية متصلة باللفظ قبل الاستثناء؛ فأشبه ما لو كانت النية من ابتداء اليمين، وهذا ما يقتضي كلام ابن الصباغ: أنه ظاهر المذهب، وأنه الصحيح، وإليه ذهب الداركي، والقاضيان أبو الطيب والروياني.

قال: وقيل: لا يصح؛ لأن الموجب جميع اللفظ؛ فاشترط اقتران النية بجميعه. ونقل ابن الصباغ عن ابن القطان توجيهه بأنه قاسه على نية الجمع بين الصلاتين، وفرق بأن النية تجعل الصلاتين كالصلاة الواحدة، والاستثناء يخالف اليمين، وهذا ما صححه القاضي ابن كج وابن المرزبان.

قال: وإن قال: لا سلمت على فلان، فسلم على قوم هو فيهم، واستثناه بقلبه – لم يحنث؛ لأنه سلم بلفظ عام يحتمل أن يريد به [الكل، ويحتمل أن يردي به] البعض؛ فإذا نوى أحد محتمليه وقع بحسبه.

وفي "الشامل" عند الكلام فيما إذا حلف: لا يدخل على فلان بيتاً، حكاية قولين في الحنث، وكذلك حكاهما البندنيجي، وهما في طريق الخراسانيين أيضاً.

قال: وإن لم ينو شيئاً، أي: لم ينو السلام على فلان، ولا استثناه من السلام – ففيه قولان:

ص: 507

أحدهما – وهو رواية المزني، والأصح في "الجيلي" -: لا يحنث؛ لأن اللف يصح للجميع وللبعض؛ فلا يحنث بالشك، وقد يوَجَّه بأنه لم يسلم عليه خاصة، وهو المفهوم من مطلق لفظه، وهذه مادة ما حكيناه عن الإصطخري في مسألة السمن، وقضية ذلك: ألا يحنث وإن قصد السلام عليه، وقد أبداه صاحب "البيان" احتمالاً.

والثاني: أنه يحنث، وهو رواية الربيع، والأظهر عند الشيخ أبي حامد والرافعي؛ نظراً إلى عموم اللفظ.

ومحل الخلاف إذا علم أنه فيهم، أما لو لم يعلم، أو سلم عليه في ظلمة، وقلنا: إنه يحنث – عند العلم – ففي حنثه القولان في الجاهل.

فرع: لو كان الحالف إماماً في الصلاة، والمحلوف عليه من جملة المأمومين، وسلم عليهم – قال ابن الصباغ: الذي يقتضيه المذهب: أن الحكم ما لو سلم على جماعة وهو فيهم، وصرح به الرافعي نقلاً.

قال: وإن قال: لا دخلت على فلان، فدخل على قوم هو فيهم، واستثناه بقلبه – فقد قيل: يحنث؛ لوجود صورة الدخول، وهذا هو الأصح.

قال: وقيل: لا يحنث؛ كالمسألة قبلها، وهذا ما ذكره البغوي، وعلى هذه الطريقة: يجيء في الحنث القول الآخر، وقد صرح به البندنيجي وابن الصباغ. والفرق على الطريقة الأولى بين هذه المسألة والتي قبلها: أن الاستثناء لا يصح في الأفعال؛ ألا ترى أنه لو دخل على جماعة فيهم زيد، فقال: دخلت عليكم إلا زيداً – لم يكن صحيحاً، والاستثناء في السلام صحيح؛ ألا ترى أنه لو سلم على قوم، فقال: سلمت عليكم إلا زيداً، صح، وهذا إذا كان الداخل عالماً بأنه في الموضع، أما لو دخل الموضع الذي فيه فلان ولم يعلم، ففيه قولا الجاهلِ دخل لحاجة، ولم يعلم بأنه فيه، فهذه الصورة أولى بعدم الحنث؛ [لانضمام قصد الشغل إلى الجهل، ونقل الإمام أن الشافعي نص في هذه الصورة على عدم الحنث].

ولو كان الحالف في بيت، فدخل عليه فلان: فإن خرج الحالف في الحال لم

ص: 508

يحنث، وإن أقام فطريقان:

أحدهما: أن في حنثه قولين ينبنيان على أن الإقامة تنزل منزلة الدخول أم لا؟ فإن قلنا: نعم، حنث، وإلا فلا.

والطريق الثاني: القطع بأنه لا يحنث. ووجهه ابن الصباغ بأنا إذا جعلنا استدامة الدخول كابتدائه كانا داخلين معاً؛ فلا يكون أحدهما داخلاً على الآخر.

فروع:

لو حلف: لا يلبس ثوباً من غزلها، فرقع برقعة كرباس من غزلها - حنث، وعن أبي عاصم العبادي: أنه لا يحنث، وتلك الرقعة تتبع الثوب.

ولو تكوَّر بعمامة من غزلها حنث، إن حلف بالعربية، وإن حلف بالفارسية فلا.

لو حلف: لا يأكل المطبوخ، يحنث بما يطبخ بالنار، أو يغلى، ولا يحنث بالمشوي، والطَّبَاهِجَةِ مشوية.

قال الرافعي: ويحتمل غيره.

لو حلف: لا يأكل المرق حنث بأكل مرق أيِّ لحم كان، وهل يحنث بما يطبخ بالكرش والبطن والشحم؟ فيه وجهان.

لو حلف: لا يأكل من طبيخ زيد، فأكل مما أوقد عليه إلى الإدراك، أو وضع القدر في التنور بعد التسخين -حنث، سواء وجد نصب القدر في الأولى، وتقطيع اللحم، وصب الماء عليه وجميع التوابل، وتسخين التنور في الثانية منه أو من غيره.

ولو أوقد فلان تحت القدر، أو وضعه في التنور مع آخر- لم يحنث؛ لأنه لم ينفرد بالطبخ.

وكذا لو أوقد هذا ساعة وهذا ساعة.

ولو جلس الحاذق بالطبخ على القرب، وكان يستخدم صبيًّا في الإيقاد، ويستقل ويستكثر - فهذا فيه تردد؛ إذ يعزى الطبخ والحالة هذه إلى الأستاذ.

ولو قال: لا آكل مما خبزه فلان، فالاعتبار فيه بالإلصاق بالتنور، دون العجن، وتسخين التنور، وتقطيع الرغفان وبسطها، والله أعلم.

ص: 509