المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الإيلاء الإيلاء- بالمد في اللغة- مصدر قولهم: آلَى، يُولِي، إيلاء؛ - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٤

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌باب الإيلاء الإيلاء- بالمد في اللغة- مصدر قولهم: آلَى، يُولِي، إيلاء؛

‌باب الإيلاء

الإيلاء- بالمد في اللغة- مصدر قولهم: آلَى، يُولِي، إيلاء؛ فهو مُولٍ: إذا حلف.

والأَلِيَّةُ: بالتشديد، والجمع: أَلايَا؛ كعَطِيَّةٍ وعطايا، ومنه قول الشاعر:

قليلُ الألايا حافظٌ ليمينه وإن صَدَرَتْ منه الأَلِيَّةُ بَرَّتِ

وفي الشرع: الحلف على الامتناع من وطء الزوجة مطلقاً؛ أو مدة تزيد على أربعة أشهر.

وكان طلاقاً في الجاهلية، فغيَّر الشرع حكمه.

والأصل فيه من الكتاب قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} الآية [البقرة: 226].

ومن السنة: ما روي عن عائشة- رضي الله عنها أنها قالت: "آلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَحَرَّمَ، فَجَعَلَ الْحَرَامَ حِلّاً، وَجَعَلَ فِي الْيَمِينِ كَفَّارَةً" أخرجه الترمذي.

قال: كل زوج صح طلاقه، أي: حرٌّ أو عبد، مسلم أو ذمي، وهو قادر على الوطء: صح إيلاؤه؛ للآية.

واحترز الشيخ- رضي الله عنه بذكر الزوج عما لو حلف: لا يطأ فلانة، وهي أجنبية؛ فإنه لا يكون مُولِياً، وإن كانت يمينه موجبة للكفارة؛ لقوله تعالى:{مِنْ نِسَائِهِمْ} ، فقيّد بالزوجية، وليست هذه الصورة في معنى المنصوص عليها؛ لأنه لا يتحقق قصد الإيذاء والإضرار وهي أجنبيّة.

وفيه وجه حكاه المتولي، وهو مروي عن حكاية صاحب "التقريب": أنه إن تزوجها وقد أطلق اليمين، أو بقي من المدة التي حلف على ترك الوطء فيها أكثر من أربعة أشهر إن كان قد قيَّد بمدة- أنه يكون مُولِياً.

ونقل القاضي أبو الطيب الخلاف في المسألة قولين كالقولين فيما لو آلى من

ص: 215

زوجته، ثم أبانها، ثم تزوجها.

والذي عليه أكثر الأصحاب هو الأول.

ولو قال لها: إن تزوجتك فوالله لا أطؤك، لم يكن مولياً عند تزويجها على الصحيح من المذهب.

وبقوله: "صح طلاقه" عمن لا يصح طلاقه: كالصبي، والمجنون، والمكره، والسكران، إن قلنا بعدم وقوع طلاقه؛ لما ذكرناه ثمَّ.

وبقوله: هو قادر على الوطء عمن لا يقدر عليه، كما سيأتي.

تنبيه: لو اقتصر الشيخ على قوله: "من صح

" إلى آخره، وترك لفظ "الزوج"- كما فعل في باب الظهار- لكان أولى؛ لأنه يدخل الرجعيَّة، ولفظ "الزوج" يخرجها إذا قلنا: إن الطلاق الرجعي يقطع الزوجيَّة.

قال: وإن كان غير قادر بمرض صح إيلاؤه؛ لأن الوطء في حقه غير مأيوس منه، وكان الضرار حاصلاً به.

وحكم العِنِّين في صحة الإيلاء حكم من عجز عن الوطء لمرض، قاله في "التتمة".

قال: وإن كان لشَلَلٍ أوْ جَب ففيه قولان.

الشلل: فساد العضو، وشلل الذكر هنا: سقوط قُوَّته.

قال: أحدهما: يصح إيلاؤه. وهو نصه في "الأم"؛ لعموم الآية، وأن عماد الإيلاء: الإيذاء باللسان، وقد تحقق ذلك منه.

والثاني: لا يصح. وهو نصه في "الإملاء"، واختاره المزني؛ لأنه يمين على ترك ما لا يقدر عليه بحال؛ فلم يصح كما لو حلف ألا تصعد السماء، ولأنه لا يتحقق منه قصد الإيذاء والإضرار؛ لامتناع الأمر في نفسه. وهذا هو الأصح على ما اختاره

ص: 216

القاضيان أبو الطيب والروياني، والأول هو الأصح في "الجيلي"، ووراء ذلك طريقان آخران:

أحدهما: القطع بالمنع كما نص عليه في "الإملاء"، قال القاضي الحسين: وهو الأصح. وحمل ما في "الأم" على أنه أراد ما إذا آلى ثم جبَّ ذكره؛ فإنه لا ينقطع الإيلاء على الأظهر من القولين، وهو الذي أجاب به في "التهذيب"، وإن كان الرافعي قد أجرى الطرق فيها- أيضاً- لكن الأظهر منها.

والثاني: حكاه أبو الفرج السرخسي، وهو القطع بالصحة، وحمل ما في "الإملاء" على أنه لا يطالب بالوقاع؛ لعجزه، بخلاف إيلاء القادر.

ولو كان العجز عن الوطء بسببٍ فيها من: رَتَقٍ أو قَرَنٍ، خرج إيلاؤها على القولين في إيلاء المجبوب.

قال ابن الصباغ: لكن إذا صححنا لا تُضرب مدة الإيلاء؛ لأن الامتناع بسبب من جهتها كما إذا آلى عن الصغيرة؛ فإنه لا تضرب المدة حتى تبلغ، وقضية ما ذكره الغزالي في الباب الثاني: أنها تضرب عقيب اليمين؛ فإنه قال: ولا يملك المطالبة إلا إذا فرَّعنا على قول بعيد في صحة الإيلاء عن الرَّتْقاء؛ فإن لها المطالبة بالعُنَّة باللسان.

ثم ما ذكره ابن الصباغ من الاستشهاد بالصغيرة مفرَّعٌ على القول بصحة الإيلاء منها، وهو الجديد.

وفي القديم حكاية قول: أنه لا يصح الإيلاء عنها، وهو جارٍ في المريضة المُضْنَاة؛ لامتناع الجماع كما في الرتقاء، وعلى هذا لا يحسن القياس.

قال: والإيلاء- أي: المتفق عليه-: أن يحلف الرجل بالله- عز وجل أي: أو بصفة من صفاته، يميناً تمنع الجماع في الفرج أكثر من أربعة أشهر.

ولأيِّ معنىً جُعِلَ مُولِياً في اليمين بالله تعالى؟

قيل: لأنه حلف على منع نفسه من وطئها مدة تتضرَّر بها بشيء يلزمه.

وقيل: لأنه حلف على معهود الجاهلية في الإيلاء بأعظم ما يُحْلَفُ به.

وعليهما ينبني ما إذا حلف بغيره، وسنذكره.

ص: 217

واحترز الشيخ بالقيود المذكورة عما سيذكره من بعد.

ثم المراد بالأكثر ها هنا: زمانٌ ما وإن قَلَّ؛ فلا يعتبر إمكان المطالبة؛ فإن المدة إنما تعتمد زمان الضِّرار، والمرأة تصبر عن زوجها أربعة أشهر فحسب، وإن كان الجِبِلَّات تختلف، وفائدة ذلك: الإثم؛ لأن اليمين تنحل بمضيِّ تلك المدة التي لا يُتصوَّر في مثلها المطالبة؛ لأمر آخر، كذا قاله الإمام.

قال: فإن حلف بغير الله- تعالى- بأن قال: إن وطئتك فأنت طالق ثلاثاً، أو: إن وطئتك، فعليَّ صوم أو صلاة أو عَتَاقٌ، أي: وما في معنى ذلك كالحج والصدقة- ففيه قولان:

أصحهما: أنه مُولٍ؛ لأن ذلك يسمى يميناً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: عَلَيْكُمْ؛ لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ حَالِفاً، فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَسْكُتْ"، فنهى عن الحلف بغير الله؛ فدل على أنه يكون حالفاً، وقد قال الشاعر:

وأكذبُ ما يكون أبو المثنى إذا آلى يميناً بالطلاقِ

ولأنه لا يقدر على الوطء إلا بالتزام ما يمنعه عن ذلك، وذلك بقطع رجائها من الوطء؛ فيحصل لها به الضرر؛ فكان كاليمين بالله، عز وجل.

قال: والثاني: أنه ليس بمُولٍ"، وهو القديم؛ لأن المعهود في الجاهلية الحلف بالإله، والشرع إنما غَيَّر حكمه لا صورته، ولأن الإيلاء المطلق إنما هو بالله- عز وجل يدل عليه أنه تعالى قال:{فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]، والعفو إنما يدخل في اليمين بالله- تعالى- والحنث منها.

ص: 218

والخلاف في المسألة عند بعضهم ينبني على الخلاف فيما إذا حلف بالله ثم وطئ: هل يلزمه كفارة أم لا، على ما سيأتي؟

فإن قلنا: نعم، انعقد الإيلاء بهذه الالتزامات؛ لتعلق محذور بالوطء.

وإن قلنا: لا، لم نحمك بانعقاد الإيلاء بها؛ إذ ليس مأخذ الحكم بالصحة على هذا القول لزوم شيء بالوطء، وإنما هو الحلف بأعظم ما يحلف به، ولم يوجد.

وأجري مثل هذا الخلاف فيما إذا ظاهر من زوجته خمسة أشهر، وقلنا بصحته مؤقتاً، وأن العود فيه يكون بالوطء؛ فإنه يصير مولياً مع كونه مظاهراً- على المذهب- وعند الشيخ أبي محمد: لا يكون مولياً.

فإن قيل: إذا لم توجبوا الكفارة بالوطء بعد الحلف بالله- تعالى- لم يطرأ ما يمتنع الزوج بسببه عن الوطء، وكان ينبغي ألا ينعقد الإيلاء بالله تعالى- أيضاً- لأن رجاءها باقٍ بحاله كما قبل الحلف.

قلنا: الآية دلت على انعقاد الإيلاء، وذلك يقتضي العدم، ولا سبيل إليه؛ فهو دليل على فساد هذا القول.

فروع:

لو قال: إن وطئتك فعبدي هذا حر عن ظهاري-: فإن كان قد تظاهر صار مولياً، ثم إذا وطئ عَتَقَ العبد عند الظهار في أصح الوجهين، وإن لم يكن قد ظاهر فلا إيلاء ولا ظهار في الباطن، ولكنه مقر على نفسه بالظهار، مؤاخذ به في الظاهر، ويكون الحكم كما تقدم.

الثاني: لو قال: إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري إن تظاهرت، فلا يصير مولياً في الحال، وإذا تظاهر صار مولياً، ومن الأصحاب من جعل كونه مولياً في الحال على قولين؛ لأنه يقرب من الحنث، كما إذا قال لأربع نسوة: والله لا أجامعكن.

وعلى القول بأنه لا يكون مولياً في الحال: لو وطئ ثم ظاهر عَتَقَ العبد؛ كما لو ظاهر أولاً ثم وطئ؛ لاجتماع الصفتين.

وهذا إذا كانت الصفة كما ذكرنا ولم تزد شيئاً، فلو قال: إن وطئتك إن ظاهرت منك فعبدي حر، قال الرافعي: لك أن تقول: يشترط أن يتقدم الظهار على الوطء، ولو تقدم الوطء على الظهار لا يعتق العبد- كما ذكرنا في الطلاق- وحيث حكمنا

ص: 219

بالعتق فلا يعتق عن الظهار ها هنا باتفاق الأصحاب.

وعلله أبو إسحاق بأن تعليق العتق سبق الظهار، ولا يقع عن الظهار إلا بلفظ يوجد بعده.

وعلله ابن أبي هريرة بأنه لا يقع خالصاً عن الظهار لتَأَدِّي حق الحنث؛ فأشبه ما إذا اشترى قريبه، ونوى أن يكون عتقه عن الكفارة، والأول أصح.

وفي "الوسيط" إبداء احتمال في أن العبد لا يعتق إذا وطئ بعد الظهار؛ لأنه لا يمكن وقوع العتق عن الظهار، وهو إنما أعتق عن الظهار.

قلت: وهو مستمد مما إذا قال: أنت طالق أمس، وأراد انعطاف الطلاق إلى أمس؛ فإنه لا يقع على قولٍ تقدمت حكايته.

ولو قال: إن وطئتك فلله علي أن أعتق هذا العبد عن ظهاري- وكان قد ظاهر وعاد- فهل يكون مولياً؟ ينبني على أنه إذا كان في ذمته إعتاق رقبة، فقال: لله علي أن أعتق هذا العبد عما هو علي، فهل يتعين ذلك العبد أم لا؟

النص وقول عامة الأصحاب: أنه يتعين.

واختار المزني: أنه لا يتعين، وخرَّجه على أصل الشافعي، واستشهد عليه بأنه: لو كان عليه صوم يوم، فقال: لله علي أن أصوم يوم الخميس عن الصوم الذي في ذمتي، لا يتعين ذلك اليوم. وعدّ الإمام ما ذكره قولاً في المذهب.

فإن قلنا: إن العبد المعين لا يتعين بالنذر، فلا يكون مولياً في مسألتنا، وإن قلنا: إنه يتعين، فهو كما لو قال: إن وطئتك فلله علي صوم أو صلاة.

ولو قال: إن وطئتك فعبدي حر قبل وطئك بشهر، فلا تضرب مدة الإيلاء في الحال إلى أن يمضي شهر؛ لأنه قبل الشهر غير متصف بأن يلزمه أمر بالوطء؛ فإنه لو وطئ لم يحصل العتق؛ إذ لو حصل لتقدم على اللفظ.

قال الرافعي: وقد ذكرنا فيما إذا قال لزوجته: إن قدم فلان فأنت طالق قبله بشهر، وقد قبل مضي شهر- ما يخرج منه وجه: أنه يقع الطلاق في الحال؛ فعلى ذلك الوجه: لو وطئها قبل مضي شهر يعتق العبد، ويصير مولياً في الحال، ولا حاجة إلى مضي شهر.

قلت: وقد حكاه في "الإبانة"، وحكى في مسألة الطلاق: أنه لابد بعد مضي الشهر من مضي زمان يقع فيه الطلاق؛ فليكن الحكم كذلك إذا فرعنا على المذهب، وعليه

ص: 220

ينبني: ما إذا باع العبد في الشهر الخامس من وقت اليمين؛ فإن الطَّلِبَة تتوجه عليه من أول الشهر السادس إلى مثل ذلك الوقت الذي باع فيه العبد من الشهر الخامس، فإذا جاوز ذلك من الشهر السادس سقطت الطلبة عنه؛ إذ لو وطئ لما وقع العتق؛ لزوال الملك قبله.

قال: وإن حلف على ترك الجماع في الدبر أو فيما دون الفرج، لم يكن مولياً؛ لأن الإيلاء هو اليمين التي يمنع نفسه بها عن الوطء الذي ترجوه الزوجة وتتضرر بتركه، ولم يوجد ذلك، ويلتحق بذلك ما إذا حلف على ترك الجماع في الحيض أو النفاس. نعم، لو حلف ألا يجامع إلا في الدبر كان مولياً، ولو قال: إلا في الحيض أو النفاس، لم يكن مولياً، قاله السرخسي.

وفي "فتاوى" صاحب "التهذيب": أنه يكون مولياً، وهو المذكور في "الذخائر"، وكذا لو قال: إلا في نهار رمضان، أو: إلا في المسجد، لكنه إذا ما [قال:] في الحيض أو ما في معناه سقطت المطالبة في الحال، وتضرب له المدة ثانياً؛ إذ اليمين لم ترتفع.

قلت: وما قاله السرخسي في النفاس يبعد كل البعد إذا لم تكن ذات حمل.

قال: والله لا أنيكك، أو: لا أغيب ذكري في فرجك، أو لا أفْتَضُّك- وهي بكر- فهو مُولٍ، أي في الظاهر والباطن؛ لأن هذه الألفاظ لا تحتمل غير الجماع.

وفي "المهذب" تقييد "النَّيْك" بالفرج، وحكاية وجهين في مسألة الافتضاض من غير أن يقول: بذكري:

أحدهما: ما ذكرناه.

والثاني- وهو الأصح في "الشامل"، والأظهر في "الرافعي"، واختاره

ص: 221

القاضيان أبو حامد والطبري-: أنه كالقِسْم الذي يذكره من بعدُ، حتى إذا نوى به الافتضاض بغير الذكر قُبِلَ.

قال الإمام والغزالي: ولو نوى به الضم والاعتناق لم يُدَيَّنْ على الأصح، والأول هو المنقول عن الشيخ أبي حامد.

قال مجلي: ورأيت الشافعي نص عليه في "الأم".

وفي "الجيلي": أن الصواب في مسألة تغييب الذكر أن يقول: لا أغيب حشفتي في فرجك؛ لأنه إن أراد تغييب جميع الذكر لم يكن مولياً؛ لما سيأتي في قوله: لا أستوفي الإيلاج، وإن أراد: لا أغيب شيئاً من ذكري، يقبل مه. لكن لا يكون صريحاً فيما يتعلق بصحة الإيلاء؛ لأن الذكر عند الإطلاق يحمل على جميعه، وأنه يمكن أن يقال: إنه أراد ألا يغيب شيئاً من المسمى؛ بدليل ما يذكره عقيبه وهو قوله: لا أستوفي الإيلاج، ولأن الذكر يطلق على البعض وعلى الكل؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّا"، وإذا كان كذلك فيحمل ما ذكره على الصحيح، وما قاله من الاستدراك

ص: 222

حسن، وإن كان لفظ الأئمة في كتبهم كما ذكره الشيخ، رضي الله عنهم.

قال: وإن قال: والله، لا جامعتك، أوْ: لا وطئتك- فهو مُولٍ في الحكم، أي: وفي الباطن- أيضاً- إن لم ينو شيئاً؛ لأن هذا اللفظ أغلب استعماله في إدخال الذكر في الفرج حتى لا يفهم منه عند الإطلاق غيره، وكان كلفظ الطلاق في بابه.

قال: فإن نوى غيره دُيِّنَ، أي: بأن قال: أردت بقولي: لا أجامعك، الاجتماع في المكان، وبقولي: لا وطئتك، الوطء بالقدم- دُيِّنَ؛ لأن ذلك يحتمل. نعم، لا يقبل منه في الظاهر؛ كما إذا ادعى أنه أراد بالطلاق الطلاق من الوَثَاق.

وفي "التهذيب" حكاية طريقة بإجراء خلاف في أن لفظ الوطء هل هو صرحي أم لا؟ ولم يَحْكِ القاضي الحسين غيرها.

وفي كتاب ابن كج: أن ابن سريج طرد الخلاف في الجماع- أيضاً- ومقتضى ذلك: أن يقبل قوله في الظاهر- أيضاً- إذا ادعى أنه لم ينو شيئاً، فضلاً عن أن يدعي أنه نوى ما يقتضي عدم الوقوع.

ثم هذا كله فيما إذا اقتصر على ما ذكره الشيخ، أما إذا أضاف إلى ذلك ذكر الذَّكَر فإنه يكون من القِسْم الأول.

واعلم أنه يلتحق بهذا القسم قوله: لا أصبتك، حتى يكون صريحاً على المذهب الظاهر، وهو المحكي عن الشيخ أبي حامد وأكثر العراقيين، صرح به المحاملي في "مجموعه"، والبندنيجي في "تعليقه"، ووافقهم على ذلك الشيخ أبو علي، وهو الذي يقتضي إيراد صاحب "التهذيب" ترجيحه، وألحقه القاضي أبو الطيب بالقسم الذي يذكر من بعد، فحكى فيه القولين، قال ابن الصباغ: وذلك أولى، وهو الذي يقتضيه إيراد الغزالي في "الوجيز" حيث قال: والإصابة قريبة من المباشرة.

وفي "المهذب" حكاية طريقة بدلاً عن الأولى: أنه يكون كقوله: لا اجتمع رأسي ورأسك.

قال: وإن قال: والله، لا باضعتك، أو: لا باشرتك، أو: لا لمستك، أو: لا قربتك- ففيه قولان:

ص: 223

أحدهما: أنه مولٍ في الحكم، وهذا هو القديم، واختيار المزني؛ لأن ظاهر هذا اللفظ يقتضي الوطء في الفرج؛ فكان كلفظ الجماع، وقد ورد في القرآن بعضها لإرادة الوطء؛ قال الله تعالى:{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187]، وقال تعالى:{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222]، والباقي في معنى المذكور؛ فكان حكمه كحكمه.

قال: والثاني: أنه ليس بمُولٍ إلا أن ينوي الوطء، وهو الأصح؛ لأن لهذه الألفاظ خصائص غير الوطء، ولم تشتهر فيه اشتهارَ الوطء؛ فكانت كناية فيه.

ويجري القولان فيما لو قال: لا مسستك، أو: لا أمسُّك، ولا أفضي إليك، ولا أباعلك، ولا أدخل بك، ولا أفترشك، ولا أغشاك، ولا آتيك.

وقيلك إن لفظ "المباضعة" و"القُرْبان" و"الغِشْيان" و"الإِتْيان" كناية قولاً واحداً، وفي "التهذيب" حكاية هذه الطريقة في "القربان" و"الإتيان"، وأن في لفظ "الغشيان" القولين، قال الرافعي: ولا يتضح بينهما فرق.

قال: وإن قال: والله لا اجتمع رأسي ورأسك، أي: على وسادة، أو: تحت سقف، أو: لتطولَنَّ غيبتي عنك، وما أشبه ذلك كقوله: لا دخلت عليك، ولا دخلتِ عليّ، ولأُغْضِبَنَّكِ، ولأسُوءنَّكِ، ولأبعدنَّ عنك-: فإن نوى الوطء فهو مُولٍ؛ لاحتماله، وإن لم ينو فليس بمُولٍ:

أما في قوله: لا اجتمع رأسي ورأسك؛ فلأن ذلك ليس من لوازم الوطء.

وأما فيما عداه؛ فلأنه وإن أريد به الوطء فليس صريحاً في مدة الإيلاء؛ لصحة إطلاقه على ما دونه.

ثم اعلم أنه يشترط مع نية الوطء في قوله: لتطولن غيبتي عنك، أو: لأبعدن عنك، وما شابهه- أن ينوي المدة أيضاً، ولا يشترط ذلك في قوله: لا اجتمع رأسي ورأسك، ولا في قوله: لا دخلت عليك ولا دخلت عليّ.

وكذا في القِسْم قبله إذا قلنا: إنه كناية؛ لأن إطلاق هذا يقتضي التأبيد، بخلاف الأول؛ فإنه يقتضي مدة، وسيأتي أنه إذا قال: لا وطئتك مدة، أنه لا يكون مولياً حتى ينوي أكثر من أربعة أشهر.

ص: 224

قال: وإن حلف: لا يستوفي الإيلاج، فليس بمُولٍ؛ إذ لا ضرر عليها في ذلك؛ لأنه يمكن أن يجامعها ويحصل مقصودها من غير استيفاء إيلاج؛ بأن يغيب الحشفة.

نعم، إن نوى ألا يغيب الحشفة كان مولياً؛ لأن ما دون الحشفة لا يتعلق به حكم من أحكام الوطء.

ولو قال: لا أجامعك إلا جماع سوء؛ فإن أراد به الجماع في الدبر أو فيما دون الفرج كان مولياً، وإن أرد به ضعف الجماع لم يكن مولياً.

ولو قال: لا أغتسل عنك، فإن قال: أردت به الجماع، فهو مُولٍ، وإن قال: أردت الامتناع من الغسل، أو قال: أردت أني لا أمكث إلى أن أنزل، وعندي: أن الجماع من غير إنزال لا يوجب، أو: أني أقدم على وطئها بعد وطء غيرها؛ فيكون الغسل عن الأولى لحصول الجنابة بوطئها- قُبِلَ، ولم يكن مولياً، وكذا لو قال: لم أُرِدْ شيئاً؛ لتردد اللفظ.

قال: وإن حلف على ترك الجماع أربعة أشهر لم يكن مولياً؛ لأن المطالبة بالفيئة أو الطلاق تكون بعد أربعة أشهر للآية، فإذا آلى أربعة أشهر لم يبق بعدها يمين، ولا مطالبة بعد انحلال اليمين كما إذا امتنع من غير يمين، وأيضاً: فإن المرأة تصبر عن زوجها مثل هذه المدة، روي أن عمر- رضي الله عنه كان يطوف ليلة في المدينة، فسمع امرأة تقول:

ألا طال هذا الليل وازورَّ جانبُهْ

وليس إلى جنبي خليل ألاعبهْ

فوالله لولا اللهُ لا رب غيره

لزعزع من هذا السرير جوانبه

مخافة ربي والحياء يكفني

وأكرم بعلي أن تنال مراكبه

فبحث عمر- رضي الله عنه عن حالها، فأُخْبِرَ أن زوجها غاب في غزوٍ، فسأل عمر- رضي الله عنه من النساء: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقيل: شهرين، وفي الثالث يقل الصبر، وفي الرابع ينفد الصبر؛ فكتب إلى أمراء الأجناد: أن لا تحبسوا رجلاً عن امرأته أكثر من أربعة أشهر، ويروى أنه سأل عن ذلك ميمونة، فأجابته بنحو

ص: 225

من ذلك.

والازورار: التحول، والتزعزع: التحول.

قال: وإن قال: والله لا وطئتك مدة، لم يكن مولياً حتى ينوي أكثر من أربعة أشهر؛ لتردد اللفظ بين القليل والكثير، وكذا لو قال: ليطولن تركي لجماعك، أو: لأسوءنَّك من الجماع- كان صريحاً في الجماع، كناية في المدة. وهذا بخلاف ما لو قال: لا وطئتك؛ لأن إطلاقه يفهم منه التأبيد.

قال: وإن قال: والله لا وطئتك أربعة أشهر، فإذا مضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر- فقد قيل: هو مُولٍ؛ لتضررها بمنع نفسه ثمانية أشهر كضررها عند الجمع بيمين واحدة، ولأنه لا يمكنه أن يطأ بعد الأربعة أشهر إلا بضرر يلحقه، وذلك يمنعه من الوطء، ويوجب قطع الطمع وحصول الضرر.

وقيل: ليس بمُولٍ، وهو الأصح، ولم يحك القاضي الحسين سواه؛ لأن بعد الأربعة الأشهر لا يمكن المطالبة بموجب اليمين الأولى؛ لانحلالها، ولا بموجب اليمين الثانية؛ لأن مدة المُهْلة لم تمض، وذلك يمنع المطالبة أن لو كانت المدة مدة الإيلاء، فضلاً عن ألا تكون، وبعد مضي الثمانية أشهر انحلت اليمين، وأيضاً: فإن كل يمين قد انفردت؛ فوجب أن يعطي حكمها، وشبّه ذلك بما لو اشترى أوسُقاً كثيرة في

ص: 226

صَفَقَات متعددة على صورة العَرَايا؛ فإنه يجوز، وإن كان لا يجوز شراؤها في صفة واحدة.

فائدة: هل يأثم الحالف والحالة هذه؟ قال الإمام: يحتمل أن يأثم إثم الإيذاء والإضرار، لا إثم مُولٍ.

فروع:

لو قال: والله، لا وطئتك خمسة أشهر، فإذا مضت فوالله لا وطئتك سنة- فهما يمينان، ويثبت لكل واحدة منهما حكمها لو انفردت.

ولو قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر، وتالله لا وطئتك سنة- فالمذهب: أن المدة الأولى تدخل في الثانية، وتضرب له مدة واحدة، فإن وطئ فقد أوفاها حقها: إن كان الوطء بعد مضي خمسة أشهر لزمته كفارة واحدة إن رأينا إيجاب الكفارة، وإن كان قبلها فكفارتان على القول الصحيح من المذهب على ما حكاه الإمام ومجلي.

ومحلُّ هذا الخلاف جارٍ في كل فعل حلف عليه يمينين، كما إذا حلف: لا يأكل الخبز، وحلف: لا يأكل لزيد شيئاً، فأكل خبزة.

وإن طلق فحكمه حكم من آلى من زوجته سنة، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

ومن أصحابنا من قال: الحكم في هذه المسألة كالمسألة قبلها.

ولو قال: والله لا وطئتك سنة، والله لا وطئتك- وكرر ذلك مراراً-: فإن زعم أنه أراد التأكيد فهو مصدق بيمينه، وإن قال: أردت تعداد اليمين، قُبل من غير يمين، وفائدة التعداد: أنه إذا وطئ انحلت الأيمان بجملتها، وفي تعدُّد الكفارة الخلاف المتقدم، وسيأتي نظيره فيما إذا كرر لفظ الظهار وأراد الاستئناف.

ولو قال: لم أرد شيئاً، فقولان كما في الطلاق.

ولا فرق فيما ذكرناه عند المحققين- على ما حكاه الإمام- بين أن تكون الكلمات متواصلة أو متفاصلة. وهكذا الحكم في تعليق الطلاق على دخول الدار ونحوه، وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم. بخلاف تكرار لفظ إنشاء الطلاق؛

ص: 227

فإنه يعتبر فيه التواصل.

ومن أصحابنا من اعتبره- أيضاً- في الإيلاء وتعليق الطلاق، ومنهم من اعتبره في تعليق الطلاق دون اليمين بالله تعالى، قال الإمام: وهذا لا بأس به.

قال: وإن قال: والله لا وطئتك حتى ينزل عيسى بن مريم، أو: يخرج الدجال، أو: حتى أموت أو تموتي- كان مُولياً.

"عيسى"عليه السلام: اسم عبراني سرياني، جمعه: عِيسَوْن- بفتح السين- واختار الكوفيون ضم السين قبل الواو، والنسبة إليه: عِيسَوِيّ.

والدجال- بفتح الدال-: هو عدو الله المسيح الدجال الكذاب، سمي دجالاً.

والدجل: التمويه والتغطية.

يقال: دجَّل فلان، إذا مَوَّه، ودجل الحق بباطله.

وحكي عن ثعلب: أن الدجال: الكذاب، وجمعه: دجالون.

وسمي: المسيح، بفتح الميم وتخفيف السين على المشهور.

وقيل: بكسر الميم مع تخفيف السين وتشديدها.

وقيل: كذلك، لكن بالخاء المعجمة وتشديد السين.

وسمي بذلك؛ لأنه ممسوح العين، وقيل: لأنه أعور، والأعور مسيح.

وقيل: لمسحه الأرض حين خروجه.

ويقال لعيسى- عليه السلام: المسيح- بفتح الميم وتخفيف السين- بلا خلاف.

وسمي بذلك؛ لأنه لم يمسح ذا عاهة إلا بَرَأَ، قاله ابن عباس.

وقيل: هو الصِّدِّيق.

وقيل: لأنه ممسوح أسفل القدمين لا أخمص له.

وقيل: لمسح زكريا إياه.

وقيل: لمسحه الأرض في السياحة.

وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن.

وقيل: لأنه مسح بالبركة حين ولد.

ص: 228

وقيل: لأن الله مسحه، أي: خلقه خلقاً حسناً.

وإنما قلنا: إنه يكون مولياً في المثالين الأوَّلَيْن؛ لأن الغالب على الظن عدم حصول ذلك في أربعة أشهر؛ فالضرار حاصل بسبب قطع الرجاء في الظاهر.

وألحق بهما الشيخ في "المهذب" والمحاملي في "المجموع" وغيرهما ما إذا قال: حتى يقدم زيد من خراسان، وكان من عادته: أنه لا يجيء إلا مع الحاج، وقد بقي من ذلك أكثر من أربعة أشهر.

والضابط الذي ذكره الرافعي لهذا القسم: هو أن يقيد الامتناع عن الوطء بأمر مستبعد في الاعتقادات حصوله في أربعة أشهر، وإن كان محتملاً، وأما في المثالين الأخيرين؛ فلحصول الإياس مدة العمر، وهو كما لو قال: لا وطئتك أبداً؛ فإنَّ أَبَدَ كُلِّ إنسان عمره، هذا هو المشهور.

وفي "شرح مختصر الجويني" للموفق بن طاهر: أن في التعليق بنزول عيسى- عليه السلام وما في معناه لا يُقطع بكونه مولياً في الحال، ولكن يرتقب، فإذا مضى أربعة أشهر ولم يوجد المعلق به تبيَّنا أنه كان مولياً، ومكنا الزوجة من المطالبة.

واعلم أن الشيخ- رضي الله عنه استغنى بما ذكره عن ذكر قسم آخر ذكره الأصحاب، وهو ما إذا قيد الامتناع عن الوطء بأمر يتحقق عدم وقوعه: إما مطلقاً كالمستحيلات العادية من صعود السماء ونحوه، والعقلية كالجمع بين الضدين وما في معناه، وإما في مدة أربعة أشهر ما إذا قال: حتى تقوم القيامة، أو: حتى يقدم زيدٌ، أو آتي مكة- والمسافة بعيدة لا تقطع في أربعة أشهر- فإنه يكون مولياً؛ لأنه إذا ثبت هذا الحكم عند التقييد بما يمكن وجوده، لكن مع بُعدٍ- فثبُوته عند تحقق العدم بطريق الأَوْلى. نعم، لو قال في مسألة القدوم: ظننت أن زيداً على مسافة قريبة، فهل يصدق؟ أبدى الإمام فيه احتمالين، قال الرافعي: والأقرب: القبول.

قال: وإن قال: والله لا وطئتك حتى أمرض، أو يموت فلان- لم يكن مولياً؛ لأن ذلك يحتمل أن يوجد بعدها، والاحتمالان على السواء، ولم يتحقق منه قصد الضِّرار؛ فلا يجعل مولياً بالشك، وهذه طريقة الشيخ أبي حامد.

وحكى الخراسانيون قولاً على ما حكاه الإمام، ووجهاً على ما حكاه في

ص: 229

"الوسيط": أنه لا يكون مولياً في الحال، لكنه إذا مضت أربعة اشهر ولم يوجد المعلق به نحكم بأنه كان مولياً، ويثبت لها المطالبة.

وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يكون مولياً فيما إذا عنى الوطء بالموت كما إذا عناه بموت نفسه، وهو الذي ذهب إليه أصحاب القفال والأكثرون، وصححه في "المهذب"، ووجّهه بأن الظاهر بقاؤه، وبأنه لو قال: إن وطئتك فعبدي حر، كان مولياً على قوله الجديد، وإن احتمل أن يموت العبد قبل أربعة أشهر.

واختيار المزني: أن التعليق بموته كالتعليق بقدومه، وادعى الإمام أن العراقيين لم يعرفوا غيره.

وفي "الجيلي" حكاية وجه: أنه إن كان في مرض مخوف لا يكون مولياً، وإلا فيكون مولياً.

والمنتصر لطريقة الشيخ أبي حامد فرَّق بينه وبين ما إذا عناه بموت نفسه: بأن الإنسان يستبعد موت نفسه؛ ولهذا يطول أمله، بخلاف موت غيره.

ويجري الخلاف الذي ذكرناه في التقييد بالمرض، فيما إذا قيد بدخول زيد الدار، أو بخروجه من البلد، أو بقدوم زيد- وهو على مسافة قريبة- والصحيح: أنه لا يكون مولياً، لما ذكرناه.

فروع:

لو مات زيد قبل القدوم حكمنا بكونه مولياً، لكن إن قلنا فيما إذا قدم بعد أربعة أشهر: إنه يتبين أنه كان مولياً من وقت اليمين، فها هنا كذلك، وإن قلنا: إنه لا يكون مولياً ثَمَّ، فها هنا يكون مولياً من وقت الموت.

لو قال: والله لا وطئتك حتى تفطمي ولدك، أجرى بعض الأصحاب في كونه مولياً في الحال قولين؛ لما رواه المزني من اختلاف نص الشافعي فيه، والجمهور قالوا: لا خلاف في المسألة، ولكن ننظر:

إن أراد وقت الفطام- وقد بقي إلى تمام الحولين أكثر من أربعة أشهر- فهو مُولٍ؛ لأن الحولين وقتُ الفطام عندنا، وإلا فليس بمول.

ص: 230

وإن أراد فعل الفطام: فإن كان الصبي لا يحتمله إلا بعد أربعة أشهر؛ لصغر، أو ضعف بِنْية- فهو مولٍ، وإن كان يحتمله لأربعة أشهر فما دونها، فهو كالتعليق بدخول الدار.

وحملوا النصين على ذلك.

لو قال: والله لا وطئتك حتى تحبلي، فإن كانت آيسة، أو صغيرة لم تبلغ سن الحَبَل، أو كانت بنت تسع سنين- فهو مول، وإن كانت من ذوات الأقراء فهو كالتعليق بدخول الدار؛ فيخرج على الوجهين.

قال مجلي: وحكى الشاشي في المسالة وجهين مطلقين:

أحدهما: أنه يكون مولياً، وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني.

الثاني: أنه لا يكون مولياً، وهو قول القاضي أبي الحسن الماوردي.

لو قال: والله لا وطئتك حتى أبيع عبدي، صار مولياً في الحال على أحد الوجهين، وفي الوجه الثاني لا يكون مولياً حتى تمضي أربعة أشهر ولا يبيَعُه، قال مجلي: والصحيح: أنه كتعليق الإيلاء على قدوم زيد.

لو قال في أول الصيف: والله لا أطؤك حتى يجيء المطر، صار مولياً على أحد الوجهين؛ كما لو قال: حتى يجيء الثلج، وفي "الذخائر": أن الشاشي أجرى الوجهين من غير تقييد بأن يكون القول في أول الصيف.

قال: وإن قال: والله لا وطئتك في السنة إلا مرة [واحدة]، لم يكن مولياً في الحال، وهذا هو الجديد، وأحد قولي القديم؛ لأنه لا يلزمه بالوطء في الحال شيء؛ لاستثنائه الوطء مرة.

فإن وطئها- وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر- فهو مول، أي: من يومئذ؛ لحصول الحنث ولزوم الكفارة لو وطئ.

وإن بقي أربعة أشهر فما دونها فليس بمول، وهو حالف.

قال: وهكذا إن قال: إن أصبتك فوالله لا أصبتك، لم يكن مولياً في الحال؛ فإذا أصابها صار مولياً؛ لما قلناه.

قال: وفيه قول آخر: يكون مولياً في الحال، أي: في هذه المسألة، وفي المسألة

ص: 231

الأولى إن كان قد بقي من السنة التي حلف عليها مدة الإيلاء؛ إذ "السنة"- بالألف واللام- تنصرف إلى السنة الهلالية التي هو فيها، كما تقدم في كتاب الطلاق، أو كانت الصيغة: لا وطئتك سنة، ووجهه:

أما في المسألة الأولى؛ فلأن الوطأة الأولى وإن لم يتعلق بها الحنث فهي مقرِّبة منه، وذلك ضرر، والمولي هو الذي يمنع نفسه من الوطء خوف ضرر يلحقه.

وأما في المسألة الثانية؛ فلأنه التزم بالوطء الحلفَ بالله- سبحانه- على الامتناع من الوطء، وكان الوطء مقرِّباً من الحنث أيضاً، وعلى هذا: فيطالب بعد مضي مدة الإيلاء بالفيئة أو الطلاق، فإن وطئ فلا شيء عليه، وتضرب له مدة ثانية في المسألة الثانية، وفي المسألة الأولى إن بقي من السنة مدة الإيلاء، ولا يخفى مما سيأتي الحكم فيما إذا طلق.

ثم هذا الخلاف يجري فيما لو استثنى وَطَآت كثيرة؛ لحصول التقريب بكل وطأة منها.

قال: والأول أصح؛ لما ذكرناه، وفي "الرافعي" وغيره حكاية طريقة قاطعة بالمنع في الصورة الثانية، وقال: إنها أصح. وفرَّق بينها وبين الأولى: بأن في الصورة المتقدمة عقد اليمين على السنة، واستثنى ما أراد، وها هنا علق ابتداء عقد اليمين بالوطء الأول؛ فلا يمين قبل الوطأة الأولى، ويستحيل أن يحكم بكونه مولياً في وقت لا يكون فيه حالفاً، وادعى القاضي الحسين أن الطريق الأول أصح.

ويجري هذا الخلاف فيما لو قال: إن أصبتك فأنت طالق إن دخلت الدار، أو: فعبدي حر بعد سنة.

والذي اختاره الإمام، وحكاه عن شيخه منه، وهو الأظهر في "الرافعي" و"التهذيب": أنه يكون مولياً في الحال، وحكى الإمام عن القاضي الحسين القطع به.

ولو قال: لا أجامعك في السنة إلا يوماً، فهو كما لو قال: إلا مرة.

فرعان:

أحدهما: إذا مضت السنة من غير وطء، والصورة كما ذكرنا أولاً: فهل تجب عليه كفارة يمين؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي ها هنا عن ابن كج:

ص: 232

أحدهما: نعم؛ لأن اللفظ يقتضي أن يفعل مرة واحدة.

والثاني: لا؛ لأن المقصود باليمين ألا تزيد على واحدة.

وهما كالوجهين اللذين حكاهما من قبل في كتاب الطلاق فيما إذا قال: إن كنت أملك إلا مائة فأنت طالق، وكان يملك أقل من مائة، لكنه حكى فيها طريقة أخرى قاطعة بأنه يحنث، وهي ما صدَّر بها ابن الصباغ كلامه عند الكلام في الفروع المذكورة في آخر كتاب الطلاق، ثم قال بعد حكاية الوجهين:

والأول: أصح؛ لأنه مستثنىً من نفيٍ؛ فوجب أن يكون إثباتاً.

قلت: ومقتضى ما ذكره من التعليل أن تجيء هذه الطريقة في هذه المسألة- أيضاً- وأنه يحنث قولاً واحداً. ثم هذا كله عند الإطلاق، أما إذا نوى فالحكم بما نواه.

الثاني: لو وطئ، ثم نزع، ثم أولج ثانياً- لزمته الكفارة بالإيلاج الثاني، وسيأتي وجه فميا إذا علق الطلاق بالوطء، فوطئ، ثم نزع، ثم أولج: أنه لا يجب الحد، ويجعل الإيلاج ثانياً كالاستدامة، وذلك الوجه جارٍ ها هنا، قال الإمام: وهذا أقرب فيما نحن فيه؛ لأن الأيمان يرجع فيها إلى العرف، والإيلاجات المتتابعة في العرف تعدُّ وطأةً واحدة.

قال: وإن قال: والله لا أصبتك في هذا البيت، لم يكن مولياً؛ لأن بقاءها في البيت إلى أن تنقضي مدة الإيلاء محتمل كاحتمال الخروج منه؛ فصار كما لو قال: لا وطئتك حتى أمرض، ولأنه يمكنه وطؤها من غير ضرر يلحقه بأن يخرجها منه، ثم يَطَأَها، وكل من لا يلزمه ضرر بالوطء لا يكون مولياً. ويفارق هذا ما إذا قال: إن وطئتك فعبدي حر؛ حيث جعلناه مولياً في الجديد، وإن كان يمكنه بيعُ العبد ووَطؤها؛ لأن في نفس البيع ضرراً يلحقه؛ لأنه ربما لا يشتري بثمن مثله ويحتاج [أن] يشتريه بأكثر من ذلك، وقد لا يبيعه المشتري؛ فيلحقه بذلك الضرر.

هذا هو المشهور، وكان يتجه أن يجيء فيه الوجه المذكور فيما إذا قال: لا وطئتك حتى أمرض.

وقد حكاه في "التتمة" فيما إذا قال: لا وطئتك حتى أخرجك من البلد.

ص: 233

ويمكن أن يفرق بينهما بأن في الإخراج من البلد كلفة، بخلاف البيت.

قال: وإن قال: إن وطئتك فعلي صوم هذا الشهر، لم يكن مولياً، وهكذا لو قال: فعلي صوم شهر كذا، وذلك الشهر ينقضي قبل انقضاء مدة الإيلاء، أو: إن وطئتك فعلي أن أصلي طول هذا الأسبوع؛ لأن ما التزمه بالحلف يفوت قبل مضي أربعة أشهر؛ فلا تتصور المؤاخذة بالوطء الذي يطالب به.

قال المتولي: ويخالف هذا ما لو قال: علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم فلان- وهو مفطر- حيث يلزمه القضاء على أحد القولين، وها هنا لا يلزمه القضاء، ويجعل بسببه مولياً؛ لأن هناك: الوفاء يتصور بأن يبلغه خبر القدوم قبل طلوع لافجر، فينوي من الليل، وها هنا: لا يتصور؛ لأن المطالبة إنما تكون بعد أربعة أشهر، ووقت الصوم فائت.

ولو قال: إن وطئتك فعلي أن أصوم الشهر الذي أطؤك فيه، فالإيلاء ينعقد.

ثم إذا وطئها: إن كان قد بقي من الشهر بقية لزمه صيامها؛ إن قلنا في نذر اللّجاج والغصب بوجوب الوفاء بما نذر، وفي وجوب قضاء اليوم الذي وطئ فيه وجهان مأخوذان من الخلاف في قضاء اليوم الذي قدم فيه فلان.

هكذا حكاه الرافعي ومجلي والمتولي وغيرهم، وقد يتخيل بينهما فرق: وهو أن الوفاء بالنذر في مسألة القدوم ممكن، وأما في مسألتنا فلا يتصور [أصلاً؛ فإن سبب الوجوب الوطء وهو مفسد للصوم؛ فلا يتصور] اجتماع سبب الوجوب والصحة. وهذا فاسد؛ لأنه يتصور سبب وجوبه قبل دخوله بأن يطأها في ليلته؛ فهو كنظير مسألة القدوم. نعم، يتجه أن يكون في كونه مولياً في الحال خلاف مبني على أنه: هل يلزمه قضاء يوم الوطء أم لا؛ لأنه يحتمل أن يطأها في آخر يوم من الشهر [كاحتماله في أول الشهر ووسطه؟

فإن قلنا: إنه يلزمه صوم يوم الوطء حكمنا بانعقاد الإيلاء؛ لأن الأمر دائر بين أن يقع الوطء في أول الشهر] أو وسطه أو آخره، وأيّما كان فقد لزمه الصوم؛ فانعقد بسببه الإيلاء.

ص: 234

وإن قلنا: لا يلزمه قضاء يوم الوطء، فلا ينعقد الإيلاء في الحال؛ لاحتمال أن يطأها في آخر يوم من الشهر فلا يلزمه به شيء.

ثم إذا مضت أربعة أشهر ولم يطأها فهل يحكم بكونه مولياً بطريق التبيُّن؟ يتجه أن يتخرج على الخلاف المذكور فيما إذا علّق [الوطء] على قدوم زيد، ومضت أربعة أشهر ولم يقدم، والله أعلم.

قال: وإن قال: والله لا أصبتك إن شئتِ، أي: ألا أصيبك، كما قدرناه فيما إذا قال: أنت طالق إن شئتِ، فقالت في الحال: شئتُ، أي: ألا تصيبني- صار مولياً، أي: من وقت المشيئة؛ لوجود الشرط.

فإن قيل: المطلقة في المرض ترث على القول القديم، ثم لو علق طلاقها بمشيئتها، فشاءت- لم ترث على الأصح؛ لزوال التهمة؛ فهلا قلتم ها هنا: لا يكون مولياً؛ لأنه غير متهم؛ فإنها هي التي اختارت الإيلاء ورضيت بالتزامه، ولأنه لم يتحقق من جهته قصد الإضرار الذي هو ضابط الإيلاء؟

قلنا: الفرق بينهما: أن ثبوت الإرث كان للتهمة، وقد زالت بتعليق الطلاق على مشيئتها، مع أنه لا يقدر على رفعه بعد وقوعه، وها هنا وإن زالت التهمة في قصد الإضرار بتعلُّق الإيلاء على مشيئتها فقد انعقدت اليمين؛ فهو متهم في البقاء عليها؛ إذ يمكنه ألا يقيم عليها، فإذا أقام اتهم.

قال مجلي: وهذا الجواب فيه نظر؛ فإن الامتناع من الوطء، والبقاء عليه معلَّق بمشيئتها؛ فحالة الاستدامة فيه كحالة الابتداء.

وتمسك القاضي الحسين في تعليل كونه مولياً بظاهر القرآن، وبأنها لو رضيت بعد المدة بترك الطلب لا يسقط بذلك حقها، ولا يتغير هذا المعنى؛ فكذلك في الابتداء.

قال: وإن أخرت لم يصر مولياً؛ لأن هذا الخطاب يستدعي جواباً منها وهو المشيئة؛ فصار كلفظ العقود. وقيل: إنه يصير مولياً، ولا تعتبر الفورية؛ كما لو علق الوطء على الدخول.

وبنى الرافعي هذا الخلاف على الخلاف في اعتبار مشيئتها على الفور، فيما إذا

ص: 235

قال [لها]: أنت طالق إن شئت؛ [لأن] التعليق بالمشيئة استدعاء رغبة وجواب منها؛ فيكون كالقبول في العقود، أو لأنه يتضمن تمليكها البُضع؛ فيكون كقوله: طلقي نفسك، إن قلنا بالثاني لم تعتبر الفورية، وإن قلنا بالأول فتعتبر، وهو الأظهر.

وفي طريقة العراق حكاية [وجه] آخر: أنها إن شاءت قبل التفرق من المجلس صار مولياً، وإلا فلا.

التفريع:

إن قلنا: إن الفورية معتبرة، فلو قال: والله لا أجامع زوجتي إن شاءت، أو قال لأجنبي: والله لا أجامع زوجتي إن شئت- ففي اعتبار الفورية الخلاف المذكور في مثله في الطلاق.

هكذا قاله الرافعي، وفيه نظر؛ لأنه حكي أن من اعتبر الفورية فيما إذا قال لها: لا أصبتك إن شئت، بناه على أن اعتبار الفور في قوله: أنت طالق إن شئت، كان لاستدعائه رغبة وجواباً، وإذا كان كذلك لم يتجه أن تعتبر الفورية فيما إذا قال: لا أجامع زوجتي إن [شاءت] قولاً واحداً؛ إذ لا مشافهة بالخطاب حتى يعتبر جوابها على الفور كالعقود، ويتجه اعتبار القول في مخاطبة الأجنبي قولاً واحداً؛ لوجود المخاطبة، ولا يخرج ذلك على الخلاف المذكور في مثله في الطلاق؛ لأ، الخلاف المذكور في الطلاق مبنيٌّ على ما ذكرته من التعليل كما أنبه عليه في موضعه.

ثم لْتعلمْ أن المسألة مصورة بما إذا أراد تعليق الإيلاء بالمشيئة كما ذكرناه، وكأنه قال: إن شئتِ ألا أصيبك فوالله لا أصيبك، أما إذا قصد تعليق فعل الوطء بالمشيئة، وأنها مهما أبت أن يطأها فلا يطؤها- فليس بمُولٍ؛ لأنها مهما شاءت الوطء كان له وطؤها من غير عزم. ولو أطلق، ولم يرد شيئاً- حمل على مشيئة عدم الإصابة؛ فإنه السابق إلى الفهم عند الإطلاق.

فروع:

لو قال: والله لا أصبتك إن شئت أن أصيبك، فإن شاءت على الفور صار مولياً،

ص: 236

وإن أخرت خرج على الخلاف.

ولو قال: لا أصبتك متى شئت، وأراد: إني لا أجامعك متى أردت- فلا يكون بذلك معلِّقاً للإيلاء. وإن أطلق فوجهان.

ولو قال: لا أصبتك إلا أن تشائي، أو: ما لم تشائي، وأراد الاستثناء عن اليمين وتعليقها- فهو مولٍ؛ لأنه حلف وعلق [رفع اليمين بالمشيئة]: فإن شاءت أن يجامعها على الفور ارتفع الإيلاء، وكذا بعده إن لم نعتبره، وإلا فهو باقٍ بحاله.

ولو قال: لا أصبتك إلا برضاك، لم يكن مولياً؛ لأنه لا يتوجه عليه الطلب إلا برضاها؛ فلا يكون مولياً. قال مجلي: وهذا فيه نظر؛ لأنه لم يعلق الوطء على الطلب، وإنما علقه على الرضا، والطلب لا يدل على الرضا؛ لأنها قد تطلب وهي غير راضية؛ طلباً لِنِكايته، ومقابلة فعله بمثله؛ ليجبر على الفيئة أو الطلاق، وهذا موجود في حق كثير من الناس؛ فإن النفوس مائلة إلى التشفي مهما قدرت.

قال: وعلى هذا يكون الحكم كما لو قال: لا أصبتك حتى تشائي.

قلت: وفيما قاله نظر؛ فإن ما جرى منه من اليمين ليس بإساءة حتى يقتضي المقابلة بمثله والشتفي منه، بل يظهر أنه إكرام لها؛ لأن في الوطء استهانة لها؛ لكونها تصير مصبّاً للقاذورات، فإذا علق ذلك برضاها فقد رفع من قدرها.

قال: وإن قال لأربع نسوة: والله لا أصبتكن، لم يصر مولياً، أي: في الحال؛ لأن الكفارة إنما تجب بوطء الجميع؛ كما لو حلف: لا يكلم زيداً وعمراً وبكراً وخالداً، وإذا كان كذلك فهو يمكنه وطء ثلاث منهن من غير ضرر يلحقه.

قال: فإن وطئ ثلاثاً منهن صار مولياً من الرابعة؛ لأنه لا يمكنه وطؤها إلا بالحنث، هذا هو المشهور من الجديد، وأحد قولي القديم، وفي القديم قول آخر: أنه يكون مولياً في الحال [من كل واحدة منهن؛ كما لو قال: والله لا أصبت كل واحدة منكن].

وفي "الشامل": أن من أصحابنا من نسبه إلى الجديد- أيضاً- فعلى هذه الطريقة يكون في الجديد قولان كما في القديم، وظاهر المذهب- وإن ثبت الخلاف-: ما ذكره الشيخ.

ص: 237

ولا فرق في انعقاد الإيلاء بوطء ثلاث منهن بين أن يكون الوطء في نكاح أو بعد البينونة؛ لأن اليمين تشمل الحلال والحرام، ولا بين أن يكون في المَاتَى أو في غيره على [وجه حكاه الغزالي في "فتاويه"، وهو] ما اختاره الإمام، ووجَّهه بأن ذلك وإن كان يبعد فعله فليس خارجاً عن عرف اللسان، ولا يراعى في الأيمان ما يجري العرف به عملاً، وإما يراعى ما يعد مندرجاً تحت عرف اللسان، فكلام الشيخ في "المهذب" يدل على ذلك؛ حيث قيد النَّيْك بالفَرْج-[على ما] حكيناه من قبل- والغزالي رجَّح مقابله.

نعم، يشترط أن يكون في حال الحياة على المذهب، حتى لو ماتت واحدة منهن قبل أن يطأها انحل الإيلاء، وروي عن الشيخ أبو علي: أن البِرَّ والحنث يتعلقان بوطء الميتة- أيضاً- وأشار بعضهم على وجه فارقٍ بين ما قبل الدفن وما بعده.

ولو أبان واحدة، ثم وطئ الثلاث الباقيات في النكاح، ثم نكح المطلقة- ففي عود الإيلاء قولاً عَوْدِ الحنث، وحكم اليمين باقٍ لا محالة، حتى تلزمه الكفارة إذا وطئها. ولو طلَّق ثلاثاً قبل الوطء لم تتعين الرابعة للإيلاء؛ بل يكون موقوفاً.

قال: وإن قال: والله لا أصبت واحدة منكن، صار مولياً من كل واحدة منهن، أي: إذا لم يرد واحدة بعينها، أو أراد جميعهن؛ لأنه لا يمكنه أن يطأ واحدة إلا ويحنث في يمينه. هكذا حكاه في "الشامل" تقييداً وتوجيهاً، والموجود في تعليق البندنيجي والقاضي الحسين ذكر المسألة من غير تقييد كما ذكرها الشيخ، قال الإمام: وليس التعميم [فيما إذا أراد جميعهن، بالتعميم] في قوله: والله لا أجامعكن؛ فإن اللفظ ها هنا يتناول كلهن، ولا يحصل الحنث بجماع بعضهن، وها هنا اليمين تتعلق بإحداهن؛ فتنزل اليمين على كل واحدة منهن على البدل، فيكون مولياً عن جميعهن؛ لتعلق الكفارة بوطء أمة واحدة وطئها.

وروي عن الشيخ أبي علي وجهاً فيما إذا أطلق اللفظ ولم ينو التعميم ولا التخصيص بواحدة: أنه يحمل على إرادة واحدة لا بعينها، وعلى الأول: لكل واحدة منهن بعد المدة المطالبة بالفيئة أو الطلاق، فإن طلق واحدة أو أكثر بقي الإيلاء في حق الباقيات، وإن وطئ واحدة حنث في يمينه، وسقط حكم الإيلاء في الباقيات.

ص: 238

قال: وإن قال: أردت واحدة بعينها، قبل منه، أي: في الباطن؛ لاحتماله، ولا يقبل في الحكم؛ لأنه خلاف الظاهر.

هكذا قاله الشيخ أبو حامد والمحاملي في "المجموع"، ووجهه المتولي بأن اللفظ يقع على كل واحدة على البدل، وهو يريد إخراج بعضهن عن الحكم، وكان متهماً.

وفي "الشامل" أن الأصح أنه يُقبل منه في الظاهر مع يمينه، ويكون مولياً منها دون البواقي، وهو الذي دل، عليه كلام البندنيجي؛ حيث قال: لو قال: نويت بالواحدة فلانة، كان القول قوله مع يمينه، ولو كان المراد القبول في الباطن لما احتيج فيه إلى اليمين، ووجه ابن الصباغ ما ادعاه بأن قوله:"واحدة" يحتمل: بعينها، ويحتمل ألا تكون معينة، ولا ظاهر في واحدة منهن، وإذا قبلنا قوله: في الظاهر، وهو الأظهر في "الرافعي" والتتمة- أيضاً- حكمنا بكونه مولياً عن التي عيَّنها من وقت اليمين، ويطالب بالبيان كما في الطلاق.

وفي "النهاية" أن الشيخ أبا علي روى وجهاً فيما إذا قال: أردت واحدة منهن، أنه لا يؤمر بالبيان ولا بالتعيين، بخلاف إبهامه الطلاق؛ لأن المطلقة خارجة عن النكاح، وإمساكها على صورة المنكوحات من غير نكاح منكر، والإيلاء بخلافه.

وحكي في "الوسيط" عوض هذا الوجه عن رواية الشيخ أبي علي: أنه لا إيلاء؛ لأن كل واحدة ترجو ألَّا تكون هي المرادة- أي: عند إرادة واحدة مبهمة، كما سنذكره من بعد، أو المعينة بإيلائه- فكيف يساوي هذا اليأس المحقق في معينة، ثم قال: وهذا متجه إن اعترفن بالإشكال.

والمشهور: أنه يكون مولياً، ويؤمر بالتبيين، وإذا بيَّن واحدة، وادعت غيرها أنه عناها-[فهو المصدَّق بيمينه إن أنكر، فإن نكل حلفت، وحكم بكونه مولياً عنها أيضاً، فإن أقر في جواب الثانية أنه عناها] كان مولياً عنهما؛ مؤاخذة له، وإذا طالبتاه فوطئهما، وجب عليه كفارة واحدة فيما إذا ثبت إيلاء الثانية بيمينها، وكفارتان إن ثبت بإقراره؛ مؤاخذةً له.

ومن تمام الكلام في مسألة الكتاب ما إذا قال: أردت واحدة لا بعينها؛ فإنه يقبل منه، ويحكم بأنه مولٍ عن إحدهن، لا على التعيين.

ص: 239

قال في "التتمة": وأصحابنا قالوا: تضرب المدة في حق الكل، وإذا مضت المدة، نضيق الأمر عليه في حق من طلبت منهن؛ لأنه ليس منهن امرأة إلا ومن الجائز أن تعين فيها، وكان القاضي الحسين يقول: لا تُضرب المدة في الحال، ولكن يؤمر بالتعيين، فإذا عين واحدة، تضرب المدة في حقها، ولو تأخر التعيين حتى مضت أربعة أشهر ثم طالبتاه بالتعيين فعين واحدة، هل تحسب المدة [الماضية عن مدة الإيلاء؟ فيه خلاف تقدم مثله في الطلاق المبهم.

وفي "الرافعي"] فيما إذا مضت أربعة أشهر، ولم يعين: أنهم ذكروا أنه يطالب بالفيئة أو الطلاق إذا طلبن، وإنما اعتبر طلبهن؛ ليكون طلب المولى عنها حاصلاً، فإن امتنع طلق السلطان واحدة على الإبهام، وإن فاء إلى ثلاث فما دونهن، أو طلق لم يخرج عن موجب الإيلاء، وإن قال: طلقت المولى عنها، خرج عن موجب الإيلاء، لكن المطلقة مبهمة؛ فعليه التعيين، والذي ذكروه يمكن أن يكون بناءً على أن المدة تحسب من وقت اليمين، ويمكن أن يكون محل الخلاف فيما إذا عين، أمّا إذا امتنع فيحسب من اليمين لا محالة، ولا يمكَّن من الإضرار بهن.

قلت: والاحتمال الأول يساعده ما حكيته عن "التتمة". ثُمَّ هذا كله فيما إذا قبلنا منه ما أراده، وهو ظاهر المذهب، ووراءه أمران آخران.

أحدهما: حكى الرافعي وغيره أن الشيخ أبا حامد خالف في ذلك، وقال: لا يقبل منه في الظاهر، قال مجلي: والذي رأيته في "تعليقه": أنه يقبل؛ إذ اللفظ يشهد له؛ لأن قوله: لا أقرب واحدة، اللفظ للواحدة، وإن كان يصير مولياً منهن؛ لأن الواحدة لا تتعين، فإذا أراد الواحدة قبل، بخلاف ما إذا قال: أردت واحدة بعينها؛ فإنه لا يقبل في الحكم؛ لما فيه من إسقاط حق الباقيات.

والثاني: ما حكيته من قبل عن رواية الشيخ أبي علي، عما حكاه الإمام والغزالي عند الكلام فيما إذا أراد واحدة معينة.

فرع: لو قال: والله لا أصبت كل واحدة منكن، فهو كما لو قال:[لا] أصبت

ص: 240

واحدة منكن، وأراد الجميع، حتى إذا وطئ إحداهن انحلَّ الإيلاء في الباقيات.

وقال الشيخ أبو حامد: لا ينحل، ويفارق ما إذا قال: لا وطئت واحدة منكن؛ لأنه إنما منع نفسه من وطء واحدة لا بعينها؛ فلهذا كان مولياً من جماعتهن.

وحكى القاضي في "المجرد" هذا عن أبي علي الطبري في "الإفصاح".

والأول هو الذي عليه عامة الأصحاب على ما حكاه المتولي، وفي "الشامل": أنه الصحيح، وهو ظاهر كلام الشافعي- رضي الله عنه وفي "النهاية" أن بعض النقلة نقله عن القاضي، وهو خطأ صريح، والخطأ يحال على الناقل؛ فإن القاضي أعلم بالصِّلاتِ، وصِيَغ العبارات. ورجح ما ذهب إليه الشيخ أبو حامد، و [إن] لم ينقله عنه. وإذا تأملت ما ذكرناه. علمت أن كلام الشيخ- رضي الله عنه موافق لطريقة الشيخ أبي حامد؛ فلا اعتراض عليه، إذ يقال: إن "التنبيه" مختصر منهان والله أعلم.

قال: وإن قال: والله لا أصبتك، ثم قال للأخرى: أشركتك معها- لم يصر مولياً من الثانية، أي: وإن نوى بذلك الإيلاء عنها؛ لأن ذلك كناية، واليمين لا تنعقد بالكناية بالمحلوف به- كما سنذكره إن شاء الله- لأن عماد اليمين بالله- تعالى- ذكر الاسم المعظم، ولم يوجد.

قال: وإن قال: إن أصبتك- فأنت طالق، ثم قال للأخرى: أشركتك معها- كان مولياً من الثانية، أي: إذا نوى تعليق طلاق الثانية بوطئها نفسها، كما لو علّق طلاق الأولى بوطئها، ووجهه: أن التشريك جائز في تنجيز الطلاق؛ فكذلك في تعليقه.

فإن قيل: قد حكيتم خلافاً فيما إذا فوض إلى زوجته تعليق الطلاق، أو إلى أجنبي، وأن الصحيح عدم الجواز، ووجهتموه بأن تعليق الطلاق فيه مشابهة الأيمان، والأيمانُ لا تجوز النيابة فيها، ومقتضى هذا التوجيه: أنه لا يكون- ها هنا- مولياً؛ لما في ذلك من مشابهة اليمين.

قلنا: قد قيل به أيضاً هنا، وهو ما حكاه القاضي الحسين في "التعليق"، ولكن

ص: 241

الأول أظهر، وبه أجاب الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب، والمنع في مسألة التوكيل أظهر، وربما جزم به بعضهم؛ فيبقى السؤال بحاله، أما إذا نوى التشريك في الوطء، بمعنى: أن الأولى لا تطلق حتى يطأ الثانية معها، أو في الطلاق، بمعنى أنه إذا وطئ الأولى طلقت الثانية معها- لم يكن مولياً من الثانية، وكلامه في الصورة الأولى لغو، وفي الثانية معمول به.

ويجري ما ذكرناه من التفصيل والخلاف فيما إذا علق طلاق امرأته بدخول الدار وبسائر الصفات، ثم قال للأخرى: أشركتك معها.

فرع: لو قال لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق، لا بل هذه، وأشار إلى امرأة أخرى-: فإن قصد أن يطلق الثانية إذا دخلت الأولى الدار، طلقتا جميعاً، وإن قال: أردت تعليق طلاق الثانية بدخولها نفسها، ففي قبوله وجهان كما في مسألة الاشتراك، واختيار القفال منهما: أنه لا يقبل ويحمل على تعليق طلاقها بدخول الأولى، بخلاف مسألة الاشتراك، فإنا إذا لم نقبله منه لا نوقع عليه طلاقاً إذا دخلت الأولى الدار، بل نلغي اللفظ؛ لأن قوله: لا بل هذه، يترتب على كلام صريح، والطلاق ينتظم انتظاماً يقتضي الطلاق لا محالة، وقوله: أشركتك معها أو: أنت شريكتها- كلام مبتدأ متردد؛ فإذا لم يكن المحمل صحيحاً بطل اللفظ والمحمل، والله أعلم.

قال: وإذا صح الإيلاء ضربت له المدة أربعة أشهر، للآية، ولا فرق في ذلك بين أن يكونا حرَّين أو رقيقين، أو أحدهما حرّاً والآخر رقيقاً؛ لظاهر الآية، ولأن هذه المدة شرعت لأمر جِبِلِّي، وهو قلة الصبر عن الزوج، ما يتعلق بالجِبِلَّة والطبع لا يختلف بالحرية والرق- كما ذكر في العنة- بل المعنى [وبين الحيض والرضاع].

وليس معنى ضرب المدة ها هنا: أنها تتفقر إلى من يضربها، كما في العنة، بل المعنى: أن الزوج يمهل عقيب اليمين أربعة أشهر، من غير حاكم؛ لأنها ثابتة بالنص والإجماع.

ثم ما ذكرناه فيما إذا لم تكن المولَى عنها رجعية، أما إذا كانت رجعيّة فإن المدة تضرب من وقت الرجعة.

ص: 242

قال: فإن كان هناك عذر من جهتها كالمرض: أي: الذي يمنع من الوطء، والحبس، أي: في موضع لا يمكنه الوصول إليها فيه، والإحرام، والصوم الواجب، والاعتكاف الواجب، والنفاس- لم تحتسب المدة، أي: من وقت اليمين، وإذا طرأ ذلك في أثناء المدة قطعها؛ لأنه لا يمكنه وطؤها في هذه الأحوال، فلم يوجد الامتناع بحكم اليمين المؤدي إلى الضرب، ويلتحق بهذه الأعذار الصِّغَر الذي يمنع معه الوطء، ونشوزها، والعدة من وطء الشبهة على ما حكاه المتولي، وفي "التهذيب" إلحاق وطء الشبهة بالردة والطلاق الرجعي؛ لأنه يحل بالملك كما تحل به الردة.

وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن الذي يحل بالملك الردة والعدة، يريد عدة المطلقة طلاقاً رجعيّاً، يدل عليه أنه قال: إذا جرى ذلك في أثناء المدة، تستأنف المدة قولاً واحداً إذا زال. واستدل عليه بأن الشافعي نص على أن الطلاق الرجعي بعد مضي المدة، يوجب استئناف المدة لو عادت إليه برجعة أو بنكاح، فلما أوجب الاستئناف بعد مضي جميع المدة، فبعد مضي البعض أولى.

وهذا هو المشهور في كتب الأصحاب، ووراء ما ذكرناه أمور أُخر:

حكى الرافعي أن في بعض التعاليق- التي لا يؤمن في مثلها الغلط- أن الموانع الشرعية لا تمنع الاحتساب، ولا تقطع المدة.

وفي "الوجيز"- وهو ما حكاه الإمام عن شيخه-: أن الصوم لا يمنع الاحتساب، ولا يقطع المدة. ثم قال: وهذا فيه نظر؛ فإن كانت تصوم تطوعاً فالأمر كذلك؛ لأنه يتمكن من غشيانها وتحليلها، وإن وقع رمضان في الأشهر، فكذلك؛ لأنه لابد لها من الصوم، وفي الليل مَقْنَعٌ للاستمتاع، [وإن أرادت تعجيل قضاء عليها، واراد الزوج أن يؤخره، وطلب الاستمتاع-] ففي تمكينه منه خلاف: فإن مكن منه، فهو كصوم التطوع، وإلا ففي المسألة احتمال، والأظهر: أنه لا أثر له، ويكتفي بالتمكين في الليالي.

وفي "التتمة": تقييد الإحرام بالفرض، وفي "تعليق" القاضي الحسين: إلحاق الإحرام بالحيض من غير فرق.

قلت: وكان ينبغي أن يفصَّل فيقال: إن كانت قد أحرمت بإذنه، فذلك مانع؛ لعدم

ص: 243

قدرته على التحلل، وإن أحرمت بغير إذنه: فإن كان بفرض الإسلام خرج على القولين في جواز التحلل، [إن لم نجوّز] له التحلل صار كالصوم، وكذا إن كان تطوعاً، لكنَّ نص الشافعي مصرِّحٌ بخلاف ذلك، حيث قال:"ولو كانت حائضاً، أو أحرمت مكانها بإذنه أو بغير إذنه، فلم يأمرها بإحلال- لم يكن عليه سبيل".

وفي "النهاية" عن رواية صاحب التقريب: أن البويطي حكى قولاً في الموانع الطارئة: أنها لا تمنع الاحتساب؛ لحصول قصد المضاررة في الابتداء، وزَيَّفَهُ.

وفي "المهذب" حكاية وجه في النفاس: أنه كالحيض، وادَّعى في "التهذيب": أنه الأصح.

قال: "فإذا زال ذلك استؤنفت المدة"، أي: إذا كان ذلك قد طرأ في أثنائها؛ لأن المطالبة مشروطة بالإضرار والإيذاء في الأشهر الأربعة على التوالي، إذ هو المفهوم من الأربعة، ولأن من شأن هذه المدة أن تكون متوالية، فإذا انقطعت استؤنفت كصوم الشهرين المتتابعين.

وحكى الخراسانيون وجهاً ادعى في "الوجيز" أنه أظهر الوجهين: أنها تُبنى على ما مضى، والأول هو الصحيح المنصوص عليه، ولم يورد الجمهور غيره.

فرع: لو طرأت هذه الموانع بعد تمام المدة وقبل المطالبة، وزالت- فالمذهب المثبوت أنه: تعود المطالبة، ولا حاجة إلى استئناف المدة، قال الإمام: وأبعد بعضُ الضَّعَفَة، فقال: إذا أوجبنا الاستئناف فيما إذا طرأت في المدة وزالت؛ فكذلك ها هنا.

قال: وإن كان حيضاً، حسبت المدة؛ إذ لو منع لامتنع ضرب المدة غالباً، ولم تتخلص عن الضرر، ولأن ذات الأقراء لا تخلو مُدَّةَ الإيلاء عن الحيض غالباً؛ ولهذا لا يقطع التتابع في صوم الشهرين.

وفي "الذخائر": أن بعض أصحابنا قال: إن كان الحيض موجوداً في وقت اليمين منع من ابتداء المدة حتى تطهر، وعليه حُمل نص الشافعي- رضي الله عنه والأول هو الذي عليه عامة الأصحاب.

قال: وإن كان العذر من جهته كالحبس، والمرض، والإحرام، والصّوم،

ص: 244

والاعتكاف- حسبت المدة؛ لأن التمكين حاصل من جهتها، والمانع فيه، وهو المقصر بالإيلاء وقصد المضاررة.

ونقل المزني في حبسه قولاً: أنه يمنع احتساب المدة، وغلَّطه عامة الأصحاب، وقالوا: إنما ذكر الشافعي ذلك في حبسها، لا في حبسه، وسلم بعضهم صحة النقل، ثم اختلفوا في تنزيله.

فمنهم من نزله على ما إذا كانت هي التي حبسته؛ فإنها تقدر على تخليصه، وكان المانع منها.

ومنهم من نزله على ما إذا كان محبوساً ظلماً، قال الرافعي: وحق هذا القائل أن يطرد ما ذكره في المرض، وما لا يتعلق باختياره من الموانع. وهذا شيء قد مال إليه الإمام، وقال: كان يحتمل أن يصدق المزني في النقل، ويقال فيه وفي نص المرض: إنهما على قولين بالنص والتخريج؛ وذلك لأنه إذا تحقق المانع في الزوج لم تظهر المضاررة، وهي المعتمد في الإيلاء.

قال: وإن طلقها طلقة رجعية، أو ارتد- لم تحسب المدة؛ لاختلال النكاح وجريانها إلى حال البينونة، وإذا كانت في زمان يقتضي مضيُّه البينونة لم يجز احتسابه من مدة يقتضي مضيها المطالبة بالوطء، وفي الردة وجه: أنها لا تقطع كمرضه، والأول هو المشهور، ثم إذا راجعها أو أسلم في العدة استؤنفت المدة على المشهور قولاً واحداً؛ لأن المطالبة منوطة بالإضرار والإيذاء في الأشهر الأربعة على التوالي في النكاح السليم، ولم يوجد.

وفي ردته وجه: أنه إذا عاد يبني المدة ولا يستأنف، بخلاف الطلاق؛ لأنه إذا عاد المرتد إلى الإسلام، نتبين أن النكاح لم ينخرم، [و] بالرجعة لا ينهدم الطلاق.

وفي "التتمة" حكاية وجه في الرجعة- أيضاً- مخرج أن المدة تبني على ما مضى؛ أخذاً من الخلاف فيما إذا راجع المطلقة، ثم طلقها أخرى قبل أن يدخل بها، يستأنف العدَّة أو يبني؟

ص: 245

قال: فإذا انقضت المدة، أي: والزوج حاضر، وطالبت المرأة بالفيئة، أي: ولا مانع منه- وقف، وطولب بالفيئة وهو الجماع؛ للآية، وسمي الوطء: فيئة، من: فاء، إذا رجع؛ لأنه امتنع ثم رجع. ولا فرق في ذلك بين أن تكون اليمين بالله تعالى، أو بالطلاق أو العَتَاق، أو غير ذلك- كما قررناه- على الأصح.

وستأتي حكاية قول فيما إذا كانت اليمين بالطلاق الثلاث: إنه لا يجامع؛ فعلى هذا: يطالب [بعد المدة] بالطلاق على التعيين، ولا يثبت حق المطالبة لسيد الأمة، ولا لولي الصغيرة والمجنونة؛ إذ لا مدخل لذلك تحت الولاية، ولا يسقط حق المرأة بالتأخير، ولو رضيت ثم عادت وطلبت، كان لها ذلك، كما إذا رضيت بإعساره بالنفقة؛ لأن الضرر يتجدد، بخلاف الرضا بالعنة؛ فإن الضرر ثَمَّ في حكم الخصلة الواحدة؛ فأشبه الرضا بالعيب.

قال: وإن كان فيها عذر يمنع الوطء لم يطالب، أي: لا بالفعل ولا بالقول؛ لأن المطالبة تكون بالمستَحَق، وهي لا تستحق الوطء في هذه الأحوال، هذا هو المشهور، وقد حكيت عن الغزالي تفريعاً على [صحة] الإيلاء من الرتقاء: أن لها المطالبة بالفيئة باللسان، وقال في "البسيط": إذ لا معنى لصحته إلا ذلك. وعن ابن الصباغ خلافه، قال الرافعي: ومن مال إليه كأنه يقتصر في الصحة على التأثيم.

قال: وإن كان العذر به، أي: وهو غير مغلوب على عقله، فاء فيئة معذور، وهو أن يقول: لو قدرت لَفِئْتُ؛ لأن حكم الإيلاء ينبني على الإضرار باللسان، وذلك يدفع الضرر، [وقال أبو ثور: لا يلزمه فيئة المعذور؛ لأن الضرر] يترك بالوطء، وهو لا يزول بالفيئة باللسان. وجوابه ما ذكرناه.

ثم لا فرق في ذلك بين أن يكون المانع طَبَعيّاً أو شرعيّاً لا يقدر على زواله، على ما حكاه المحاملي في "المجموع".

وقال غيره: إنما يكتفي به إذا كان المانع طَبَعيّاً: كالمرض الذي يمتنع بسببه الجماع، أو يزيد بالوطء والحبس بغير حق، أما إذا كان شرعيّاً:[كصومه في]

ص: 246

فرض، وإحرامه، فللأصحاب في ذلك طريقان:

إحداهما- وهي الحسنى، على ما قاله الإمام والرافعي- أن ذلك ينبني على أنه إذا طلب منها الوطء والحالة هذه، هل لها الامتناع؟ وفيه وجهان، أصحهما- على ما حكاه في "الشامل"-: نعم، ويحرم.

فإن قلنا: لا يحرم عليها التمكين، لم يُقنع منه إلا بالوطء أو الطلاق، وإن قلنا: إنه يحرم عليها التمكين، فهل يؤمر بالفيئة بالقول أو الطلاق، أو لا يؤمر إلا بالطلاق؟ فيه وجهان، المذكور منهما في "الشامل": الثاني، وعلى الوجهين: إذا وطئ فقد أوفاها حقها وإن كان حراماً عليه.

والطريقة الثانية: أنه يقال له: قد ورّطت نفسك بالإيلاء في ورطة؛ إن فِئْتَ إليها عصيت وأفسدت نسكك وصمك، وإن طلقت فاتت عليك زوجك، وإن لم تطلق طلقنا عليك.

وشبه ذلك بما إذا غصب لؤلؤة ودجاجة، فابتلعت الدجاجة اللؤلؤة، فإنه يقال له: إن لم تذبح الدجاجة غرمناك اللؤلؤة، وإن ذبحتها غرمناك الدجاجة.

وهذه طريقة المراوزة، وهي المذكورة في "التتمة" و"تعليق" القاضي الحسين وغيرهما.

ثم محل الخلاف في الصوم [ما] إذا لم يستمهِل وأبدى الضرار، أما إذا استمهل إلى الليل فإجابته متعيِّنة؛ لما سيأتي، وكذا لو كان يتحلل عن غحرامه في ثلاثة أيام، [ورأينا] أن نمهله ثلاثة أيام- على ما سيأتي- فالوجه إسعافه، ولا طريق غيره، صرح بذلك الإمام في المسألة الثانية ومنها يؤخذ الحكم في الأولى.

تنبيه: ما ذكره الشيخ- رضي الله عنه في حدِّ فيئة المعذور لم أره لغيره، إلا فيما [إذا] كان العذر لا يرجى زواله: كالجَبِّ، على ما حكاه الإمام، وقال بعد ذكره: وهذا عندي في حكم العبث الذي لا يليق بمحاسن الشرع مثله، وضرب المدة أقبح من ذلك؛ فإنه مَهل أُثْبِتَ لمن يرجى منه الوطء، فكيف يتخيل هذا في المجبوب؟!

ص: 247

وفي "المجموع" للمحاملي في هذه الصورة- أيضاً-: أنه يقول مع ذلك: ندمت على ما كان مني. وكلام الشيخ لا يقتضي التصوير بما ذكرناه [؛ لأنه قال بعد ذلك: فإذا زال. وذلك يمنع التصوير بما ذكرناه].

أما إذا كان العذر مرجو الزوال، فقد اختلف فيه النقل عن الأصحاب:[فالذي ذهب إليه الشيخ أبو حامد أنه يقال: قد ندمت على ما فعلت، ولو قدرت لكنت وطئت]. والذي ذهب إليه القاضي أبو الطيب أنه يقول: [ندمت على ما فعلت، و] إذا قدرت وطئت.

كذا [حكاه ابن الصباغ عنهما، وقال: إن قول القاضي أقيس. والموجود في "تعليق" البندنيجي مثل ما] حكاه ابن الصباغ عن القاضي.

وفي "المجموع" للمحاملي اعتبار ثلاثة أشياء: أن يقول: ندمت على ما كان مني، ولو كنت قادراً على الوطء لوطئت، وإذا قدرت وطئت.

وفي "النهاية": أن الأصحاب قالوا: لابد من اعتبار شيئين:

أحدهما: أن يقول: لولا المرض لأصبتك الآن.

والثاني: الوعد بالإصابة عند الزوال.

فلو اقتصر على أحدهما لم يَكْفِ، ولو فاء عن أحدهما طلقت عليه. وأبدى من عند نفسه احتمالاً في الاكتفاء بالثاني، وهو ما حكاه في "التتمة"، وقال: إنه لا يكلف أكثر من ذلك.

قال: فإذا زال العذر طولب بالوطء، أي من غير احتياج إلى ضرب مدة أخرى؛ لأنه لم يوفِّها حقها بفيئة اللسان، وإنما أخره إلى انتظار القدرة؛ فوجب عليه الوفاء به عند القدرة، كما يجب على المعسر وفاء الدين إذا أيسر.

قال: وإن انقضت المدة وهو مظاهر، أي: وطالبت بالفيئة أو الطلاق لم يكن له أن يطأ حتى يكفر؛ لما سيأتي في بابه، ولا يقنع منه بالفيئة باللسان؛ [لأنه قادر] على زوال المانع؛ كما إذا حبس في دين يقدر على وفائه؛ فإنه يطالب بالطلاق أو

ص: 248

الفيئة، ولا يقنع منه بفيئة معذور؛ فعلى هذا: إذا طلب [منها] الوطء وامتنعت، لم تسقط مطالبتها.

وقال بعض أصحابنا: إن قلنا: إن لها التمكين إذا طلب منها الوطء والحالة هذه، ولا يحرم عليها- كما ذهب إليه الشيخ أبو حامد، وأجاب به المحاملي في المجموع، ورجحه البغوي- كان لها أن تطالب بالفيئة أو الطلاق، فإن أجاب إلى الوطء وامتنعت من التمكين، سقط حقها. وإن قلنا: ليس لها التمكين- على ما حكاه ابن الصباغ وجهاً، ورجحه وأبداه الشيخ في "المهذب" احتمالاً لنفسه- فهل يقنع منه بالفيئة باللسان؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم، كالمانع الطَّبعي.

والثاني- وهو الأشبه في "الرافعي"-: أنه يطالب بالطلاق؛ إزالة للضرر عنها، بخلاف المانع الطبعي؛ فإن الوطء هناك متعذر في نفسه، وهذا كما تقدم فيما إذا كان محرماً، ويجيء فيه الطريقة الثانية المذكورة ثَمَّ.

واعلم أن الشيخ ذكر هذا اللفظ ها هنا، وإن كان محله باب الظهار؛ ليبين به أن حكم تحريم الوطء بعد العود في الظهار لا يزول، وإن كان الوطء واجباً؛ فإنه قد يتوهم متوهم أن الوطء إذا توجهت المطالبة به يجوز قبل التكفير؛ لتأكده، بخلاف ما إذا لم يتأكد، فأراد أن يصرح بما ينفي هذا التوهم.

قال: فإن قال: أمهلوني حتى أطلب رقبة؛ فأعتق ثم أطأ، أي: إذا لم يقنع منه بفيئة معذور أُنْظِرَ ثلاثة ايام، وكذا إذا كان يكفر بالإطعام؛ لأنها مدة قريبة، وقد لا يمكنه شراء الرقبة أو تفرقة الطعام بدون ذلك. وما قاله الشيخ هو ما ذهب إليه أبو إسحاق، وادعى ابن الصباغ أن أحداً من أصحابنا لم يخالفه فيه، والمراد بذكر الثلاث: أنه لا تجوز الزيادة عليها، أما النقصان عنها فهو بحسب ما يحتاج إليه، وعليه يدل كلام المحاملي في "المجموع"، حيث نقل عن ابي إسحاق أنه قال: يُنْظَرُ يوماً أو يومين أو ثلاثة. وما حكاه في "التهذيب" من أنه يمهل يوماً أو نصف يوم، وفي "التتمة" تقييد صورة الإمهال بما إذا كان يقدر على العتق والإطعام في الحال، أما إذا

ص: 249

كان لا يقدر في الحال؛ لعدم رقبة يشتريها، أو عدم الفقراء الذين يصرف إليهم- فلا يمهل، ولو قال: أمهلوني حتى أكفر بالصوم، لم يمهل، قال في "التهذيب": لأن الله- تعالى- لم يجعل مدة الإيلاء ستة أشهر. وقد يقال مثل هذا في "ثلاثة أيام"، لكن يمكن أن يجاب عنه بالقرب.

فرع: إذا ادعى المُولِي عند المطالبة بالفيئة أنه عاجز عن الوطء، فهل تسمع دعواه؟ ينظر: إن كان قد دخل بها في هذا النكاح لم تسمع، وإن لم يكن قد دخل فالقول قوله مع يمينه، وإذا حلف ضربت له مدة العنة، ويلزمه أن يفيء فيئة معذور؛ فإن، فاء وإلا فهو كما لو امتنع عن الوطء. ثم إذا مضت المدة ولم يطأها كان لها الفسخ، وحكي عن ابن أبي هريرة أنه قال: يتعين عليه الطلاق؛ لأنه كان مخيراً بين أمرين، فإذا عجز عن أحدهما تعين الآخر. والأول هو الأصح وظاهر النص، على ما حكاه في "المهذب"، وبه قال المراوزة.

آخر: إذا انقضت مدة الإيلاء، والزوج في بلد آخر، فلوكيلها أن يطالبه بالفيئة بالقول في الحال وبالمسير إليها، أو بحملها إليه، أو بالطلاق إن لم يفعل ذلك، فإن لم يفيء، أو فاء ولم يرجع إليها، ولا حملها إليه حتى مضت مدة الإمكان، ثم قال: أرجع الآن- لم يمكن، و [للقاضي أن] يطلق عليه بطلب وكيلها على القول الأصح، ويحبسه ليطلق على القول الآخر، ويعذر في التأخير ليهيِّئ أهبة السفر، ولخوف الطريق إلى أن يزول. قال: وإن لم يكن عذر يمنع الوطء، فقال: أنظروني- أُنْظِرَ يوماً أو نحوه في أحد القولين، وهو الأصح واختيار المزني؛ لأن الله- تعالى- جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر؛ فلا تجوز الزيادة عليها، وإنما نمهله قدر ما يتمكن فيه من الجماع في العادة: فإن كان جائعاً [أمهلناه حتى يأكل، وإن كان ثقيلاً بالأكل أمهلناه حتى يخف، وإن كان صائماً] فحتى يفطر، وإن كان يغلبه النعاس فحتى يزول ما به، ويحصل التهيؤ والاستعداد في مثل هذه الأحوال في يوم فما دونه.

قال: وثلاثة أيام في القول الآخر؛ لأنها مدةق ريبة وقد يَنتظِر فيها نشاطاً وقوة،

ص: 250

وهذا هو الأصح عند الغزالي، وفي "الذخائر" حكاية وجه: أنه لا يمهل شيئاً أصلاً، ولا خلاف أنه لا يمهل في الفيئة باللسان؛ لقدرته عليها في الحال.

تنبيه: فائدة الإمهال: أن القاضي لو طلق عليه قبل مضي مدته لم ينفذ إن جامع في مدة المهلة، وإن مضت بلا فيئة ففيه وجه: أنه ينفذ، والظاهر: المنع، ويخالف ما إذا أمهل المرتد ثم قتله القاضي أو غيره؛ فإنه يكون قتله هَدَراً؛ لأنه لا عصمة له، والقتل الواقع لا مدفع له، وأما الطلاق فهو قابل للرد. قال الإمام: وفي التصوير عسر؛ فإن طلاق القاضي قد يستند إلى رأيه في أنه لا إمهال، وإذا كان كذلك فالطلاق ينفذ إتباعاً لرأيه، والله أعلم.

قال: فإن جامع- وأدناه: أن يغيب الحشفة في الفرج- فقد أوفاها حقها؛ لأن سائر أحكام الوطء تتعلق بهذا القدر من الجماع، ولا فرق في ذلك بين أن تكون المرأة ثيباً أو بكراً، ومن شرط البكر: إذهاب العُذْرَة كما نص عليه الشافعي؛ وذاك لأن الالتقاء لا يمكن في الغالب إلا به، وقد صرح بما أشرت إليه المحاملي وابن الصباغ وغيرهما.

[ولا بين أن يكون الوطء في حالة تباح له، أو في حالة تحرم عليه مع قيام الزوجية].

ولا بين أن يكون مختاراً أو مكرهاً- إن تُصُوِّرَ- وأوجبنا الكفارة به، وإن لم نوجبها ففي انحلال اليمين وجهان جاريان في كل يمين وُجِدَ فيها الفعل المحلوف عليه عن إكراه أو نسيان، أَوْفَقُهُما لكلام الأئمة: المنع، وهو ما قطع به الشيخ أو حامد والقاضي أبو الطيب، وعلى هذا ففي بقاء حكم الإيلاء وجهان، الأصح منهما عند الغزالي: البقاء، وبمقابله أجاب صاحب "التهذيب" وغيره.

ولا بين أن يكون الزوج عاقلاً أو مجنوناً على النمصوص، وإن كان لا يحصل بوطئه حنث ولا كفارة، قال ابن الصباغ والبندنيجي: قولاً واحداً؛ لأن وطء المجنون كوطء العاقل في التحليل، وتقرير المهر، وتحريم الرَّبِيبة، وسائر الأحكام؛ فكذلك فيما نحن فيه، ويفارق الحنث ووجوب الكفارة؛ لأن ذلك من حقوق الله- تعالى- فافتقر إلى قصد ولم يوجد.

ص: 251

وحكى الشيخ أبو حامد وجهاً آخر: أنه لا يخرج بذلك عن الإيلاء كما لا يحصل به الحنث، فإن قلنا به فهل تضرب له مدة ثانية إن كانت يمينه مطلقة، أو مقيدة بمدة بقي منها بعد وطئه أكثر من أربعة أشهر، أو يطالب بعد إفاقته في الحال؟ فيه وجهان، أقيسهما- على ما ذكره الإمام-: الأول. وإن قلنا بالأول، قال المحاملي والبندنيجي: يكون حالفاً لا مُولِياً، فمتى أصابها حنث ولزمته الكفارة، ولا تتوجه عليه المطالبة، ولا تضرب له مدة.

وفي "النهاية": أن النص انحلال اليمين بالوطء الأول ولا كفارة، قال الرافعي: وحكاية نفي الكفارة عن النص ظاهر، وأما حكاية الانحلال فقد سكت عنه الجمهور، وليس في "المختصر" تعرض لذلك، وفي "التتمة" و"التهذيب" حكاية قولين في وجوب الكفارة كما في الناسي، فإن قلنا بعدم الوجوب ففي الانحلال وجهان، وفرق ابن الصباغ بين الناسي والمجنون: بأن المجنون ليس ممن له قصد بحال، والناسي من أهل القصد، وحكى هو والمتولي وجهاً في ضرب المدة ثانياً، ووجَّها عدم الضرب بأن هذه اليمين قد فاء إليها فيها، ووفّاها حقها، فلا تضرب [له] فيها مدة أخرى.

ولو نزلت المرأة عليه وهو نائم، فاستدخلت ذكره لم تنحل يمينه؛ لأن الذي جرى ليس بوطء منه، والمحلوف عليه الوطء. وفي "النهاية" حكاية وجهه: أنه كالوطء في حال الجنون، حتى يجري فيه الخلاف المتقدم في انحلال اليمين، وعدّه غلطاً، وهل تحصل بذلك الفيئة وانحلال الإيلاء؟ فيه وجهان:

أحدهما- وهو ما جزم به الغزالي في كتبه-: أنها لا تحصل. وهذا يوافق إيراد الشيخ؛ فإنه "قال: فإن جامعها، وأدناه: أن يغيب الحشفة في الفرج"، فنسب الفعل إليه، وفي هذه الصورة لم يوجد منه فعل.

والثاني-: وهو الأظهر في "الرافعي"، والمجزوم به في "التهذيب" و"التتمة" وغيرهما-: الحصول وارتفاع الإيلاء؛ لوصولها إلى حقها وزوال الضرر، وقد فهم من كلام الشيخ أن إيفاء الحق لا يحصل بالجماع فيما دون الفرج، ولا بالإتيان في غير

ص: 252

المَاتَى، ولا باستدخال الماء، وقد تقدم عند الكلام في العنة فوائد ومباحث تتعلق بتغييب الحشفة، فليطلب من ثَمَّ.

ولو اختلفا في الإصابة في مدة التربص فهو كما لو وقع ذلك في زمن العنة.

فائدة: حكى المحاملي في "اللباب" أن [حكم] الإيلاء يبطل بأربعة أشياء: الوطء، والطلاق البائن- في أحد القولين- وانقضاء مدة المحلوف عليه، وموت بعض المحلوف عليهم، مثل أن يقول لأربع نسوة: والله لا أصبتكن، فماتت واحدة منهن.

قلت: وينبغي أن يضاف إلى ذلك: موتُ المحلوف بعتقِهِ، أو عِتْقُهُ، أو بَيْعُهُ، على أحد القولين في عود الحنث، وما إذا أسلم الكافر مبني على أنه لا تلزمه كفارة اليمين إذا أسلم، كما حكاه الغزالي في الباب الثالث من كتاب السير.

قال: [وإذا جامعها]، أي: سواء كان في مدة التربص أو بعدها، بعد التضييق عليه أو قبله، فإن كانت اليمين بالله- عز وجل لزمته الكفارة في أصح القولين- وهو الجديد- وأحد قولي القديم؛ لقوله تعالى:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وقوله- عليه السلام:"مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، فَلْيَاتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ"، والآية والخبر ليس فيهما تفريق.

قال: ولا تلزمه في الآخر، وهو القول الثاني من القديم؛ لقوله- تعالى-:{فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]، فوعد المُولِيَ بالمغفرة والرحمة إذا كان بعد المدة، فأوجب ذلك سقوط حكم الدنيا، كما أنه لمَّا مَنَّ على المحارب بقبول توبته قبل القدرة عليه، وامتدح نفسه بكونه غفوراً رحيماً- أوجب ذلك سقوط حكم الدنيا؛ ولأن الإيلاء باقتضاء الفيئة أو الطلاق منتزع من حكم الأيمان؛ فكان التضييق عليه بالفيئة أو الطلاق قائماً مقام المؤاخذة.

ومن قال بالأول أجاب عن الآية: بأن المغفرة والرحمة إنما تنصرف إلى ما يعصي به المرء، والذي يعصي به المُولِي: تركُ الفيء بعد المدة، والموجب للكفارة فعل الفيء، وهو مندوب إليه مأمور به؛ فلم ينصرف إليه وعد المغفرة.

ص: 253

وعن الثاني: بأن الكفارة تجب لهتك حرمة اللفظ بالمخالفة، وقد تحقق ذلك، والذي جعله الشرع جابراً لذلك التكفير فلا يقوم غيره مقامه؛ إذ ليس في معناه.

ومن أصحابنا من قال: محل القول بعدم الوجوب إذا كان الوطء بعد المدة، أما إذا كان فيها فيجب قولاً واحداً؛ لأن بعد المدة الفيئة واجبة بالشرع، فلا تجب بها الكفارة كالحلق عند التحلُّل، وهذا ما أجاب به القاضي الحسين في "التعليق"، ثم قال: ولو وطئها بعد المدة وقبل الطلب، يجب أن يترتب على الفيء بعد الطلب: فإن أوجبنا الكفارة ثَمَّ فها هنا أولى، وإلا فوجهان، والفرق: أنه إذا ضيق الأمر عليه فيخلصه من عهدة اللفظ بالفيء، وإذا لم يطالب صار كما لو فاء في المدة.

وهذا قد أشار إليه الشيخ في "المهذب"، وجعل محل القول بالسقوط- على قول- فيما إذا جامع بعد الطلب.

والأول هو الصحيح في "المجموع"، ووجَّهه بعضهم: بأن الشافعي إنما حكم بسقوط الكفارة في القديم؛ لأنه راعى معهود الجاهلية في الإيلاء؛ ولهذا لم يحكم بانعقاده بغير الله- تعالى- في القديم، وهم كانوا في الجاهلية لا يرون الكفارة [في الإيلاء؛ بل كان ذلك طلاقاً عندهم؛ فلهذا لم يوجب الكفارة]، والآية لا دليل فيها لما ذكرنا، وإذا كان المعنى المسقط للكفارة هذا وجب التسوية بين الحالين، أعني: ما قبل مضي المدة وما بعدها. وتخالف كفارة الحج؛ فإنها تجب بالمحظور، والحلق المحظور: هو الحلق في حال الإحرام، فأما عند التحلل فهو نسك، وليس كذلك كفارة اليمين؛ فإنها تجب بالحنث، والحنث بالواجب كالحنث بالمحظور في إيجاب الكفارة، ولو حلف ألا يطأها مدة أربعة أشهر فما دونها، ثم وطئ فعليه الكفارة، وفي "الوسيط" أن بعضهم أجرى الخلاف فيه، وهو بعيد.

قال: وإن كانت اليمين على صوم أو عتق فله أن يخرج منه بكفارة يمين، وله أن يفي بما نذر، كما في نذر اللجاج والغضب أو هو هو، ويجيء فيه من الخلاف ما هو مذكور ثَمَّ، وهذا إذا كان العتق بصيغة الإلزام، مثل أن قال: إن وطئتك فعليَّ عتق عبد أو عتق عبدي هذا، أما إذا كان بصيغة التعليق مثل أنق ال: إن وطئتك فعبدي هذا

ص: 254

حر، فإنه يعتق بالوطء، كما تطلق زوجته به إذا حلف بطلاقها.

قال: وإن كان بالطلاق الثلاث طلقت ثلاثاً؛ لوجود الشرط.

وقيل: إن كان اليمين بالطلاق [- أي:] الثلاث- لم يجامع، وهو قول ابن خيران؛ لأن الطلاق يقع بعد تغييب الحشفة، والنزع يقع بعد وقوع الطلاق، وذلك نوع استمتاعٍ، وهو لا يجوز بالمطلقة، وأيضاً: فإنه لا يتأتى وصل النزع بآخر التغييب من غير أن يقع بينهما فصل، وهي في تلك الحالة محرمة عليه، وأيضاً: فإن الصائم إذا أحس بطلوع الفجر ووقوع النزع بعد الطلوع يمنع من الوطء؛ فكذلك ها هنا.

قال: والمذهب الأول؛ لأنه إلى [الوصول إلى التغييب] متصرف في محل حقه وحله، وإذا ابتدأ النزع متصلاً بحصول التغييب فهو تارك، ولا معصية على تارك لفعل متردد بين الوقوع في محل الملك وبين الترك، وشبه ذلك بما لو قال لغيره: ادخل داري ولا تقمْ بها، يجوز له الدخول، والقول بأنه يقع بينهما فصل لا حاصل له؛ فإن التكليف بما في الوسع، والفصل الذي لا يحس لا عبرة به، ومسألة الصوم ممنوعة إن تحقق وقوع الإيلاج في الليل؛ فلا فرق بين الصورتين، كذا قاله الرافعي هنا، وإليه أشار المحاملي في "المجموع"، وقال: إنما منع من الصوم؛ لأنه لا يقطع بأن ذلك [الوقت] من الليل، وإنما نحكم به من طريق غلبة الظن، ويجوز أن يكون ذلك من النهار؛ فلهذا منع من الوطء.

قلت: وفيما قاله نظر من وجهين:

أحدهما: أن ما قاله ابن خيران في مسألة الصوم يوافقه إيراد الإمام في كتاب الصيام؛ حيث قال: إذا خالط بالسحر قريباً من الفجر بحيث يدركه الفجر وهو على حاله، فإذا وجد النزع من الطلوع أفطر؛ لأن ما فضل من النزع بسبب ما ورط نفسه فيه بتفريطه، وإن كان على ظن المهلة، فأدركه الفجر وهو كذلك، ثم نزع- فإنه لا يفطر، وإذا كان كذلك لم يحسن المنع.

والثاني: أن تعليل المنع بتعذر التحقُّق غير متجه؛ فإن من قواعدنا: أنه متى شك

ص: 255

في طلوع الفجر جاز له الإقدام على الأكل وغيره؛ لأن الأصل بقاء الليل، بخلاف ما إذا شك في الغروب؛ فإنه لا يجوز له الإقدام على الفطر؛ لأن الأصل بقاء النهار، فكيف بك عند الظن؟!

ثم على تقدير تسليم الحكم في مسألة الصوم كما حكيناه، فيمكن ابن خيران أن يفرق بينه وبين مسألتنا بما قاله ابن الصباغ، وهو: أن النزع ليس بوطء وإن كان استمتاعاً، وإنما يقع الفطر بالوطء خاصة، وفي مسألتنا الاستمتاع وإن لم يكن وطئاً فمحرم أيضاً؛ لأنها تصير أجنبية.

تنبيه: إنما قلنا: إن مراد الشيخ بالطلاق الثاني: الطلاق الثلاث؛ لأنه ذكر من بعد في التفريع: أنه إذا فعله بعد ما نزع يجب عليه الحد على رأي، ولو كان الطلاق رجعيّاً لم يثبت هذا الخلاف، مع أن غيره صرح بأن محل الخلاف ما إذا كانت اليمين بالطلاق الثلاث.

فإن قيل: هل يظهر للتخصيص بالطلاق الثلاث من فائدة؟

قلت: قد تكون فائدته أن هذا الحكم لا يثبت فيما إذا كان رجعيّاً، مع أن وطء الرجعية والاستمتاع بها محرم كوطء البائن؛ من حيث إن المحذور المذكور فيما إذا كانت اليمين بالطلاق الثلاث لا يتصور الانفكاك عنه، [وها هنا يتصور الانفكاك عنه] بأن يراجع كما غيب الحشفة؛ فينتفي المحذور، مع أني لم أقف على ذلك، وقد تكون فائدته- على تقدير أن يكون الخلاف جارياً في الطلاق الرجعي-: أن جميع ما ذكره بعد ذلك من التفاريع لا يثبت في الطلاق الرجعي، ويثبت في الطلاق الثلاث؛ فخصص بالذكر؛ ليستوفي التفريع المذكور، والله أعلم.

قال: فإن جامع لزمه النزع، أي: عند تغييب الحشفة؛ لوقوع الطلاق حينئذ، فإن استدام لزمه المهر دون الحد، أي: وإن كان عالماً بالتحريم:

أما لزوم المهر؛ فلأن الاستدامة كالابتداء في كفارة الصوم فكذلك في المهر، وقيل: لا يلزمه، وطرد أيضاً في كفارة الصوم؛ لأن أول الفعل لم يتعلق به هذا الغرم فكذلك آخره؛ إذ الوطء الواحد لا يتبعض حكمه، ومن أصحابنا من قال: لا يجب المهر وتجب الكفارة، وفرق بأن المهر في النكاح يقابله جميع الوطئات إلى آخر

ص: 256

العمر، فأول الوطء قابله جزء من المهر، فإذا لم نوجب المهر في آخره لم يؤدِّ ذلك إلى إخلاء الوطء عن المهر، ولو أوجبناه لأدى إلى إيجاب مهرين بإيلاج واحد، بخلاف الكفارة؛ فإن أول الفعل لم يتعلق به جزء من الكفارة، فإذا لم نوجب الكفارة في آخره أدى إلى إخلاء الفعل عن الكفارة، ولو أوجبناها لم يكن في ذلك إيجاب كفارتين بإيلاج واحد، وهذا مع الأول ما يوجد في طريق العراق، وذكر البندنيجي أن الأصحاب لم يختلفوا في إيجاب الكفارة في الصوم، والثالث مذكور في طريق المراوزة، حكاه الإمام والقاضي وغيرهما. ثم ما الأظهر من الخلاف؟ ادعى الرافعي ها هنا أن الظاهر عدم وجوب المهر، وقال في أول كتاب الطلاق: إنه الأصح. وذكر أن صاحب "العدة" ادعى أن ظاهر المذهب الوجوب، وهو موافق لإيراد الشيخ.

وأما سقوط الحد؛ فلأن أول الفعل كان مباحاً وانتهض شبهةً لسقوط الحد، قال ابن الصباغ: ولم يصر أحد من أصحابنا إلى وجوب الحد مع العلم بالتحريم، وفي "الرافعي" حكاية وجه فيه عن رواية ابن القطان وغيره، [و] أن القاضي الروياني اختاره؛ تنزيلاً للاستدامة منزلة الابتداء، وزَيَّفَهُ الإمام، وفي تعليق القاضي الحسين: أنا إن أوجبنا المهر لم يجب الحد، وإلا فوجهان، والأظهر منهما: عدم الوجوب.

قال: فإن أخرج ثم عاد، أي: وهو عالم بالتحريم، وهي جاهلة أو عالمة، ولم تقدر على دفعه- لزمه المهر؛ لأن الاعتبار في وجوب المهر بجانبها وهي غير زانية.

قال: وقيل: يلزمه الحد؛ لأنه وطء مستأنف في أجنبية خال عن الشبهة، فأشبه كما لو ابتدأه بعد الطلاق، وهذا ما اختاره القفال والقاضيان: أبو الطيب والروياني، وجزم به في "التهذيب".

قال: وقيل: لا يلزمه؛ لأن الوطء اسم لجميع الإيلاجات، وإنما وقع الطلاق بابتدائه من جهة الاستدلال ووقوع الاسم، وإذا كان كذلك اسماً للكل وأوله كان مباحاً لم يجب الحد به، كما لو استدام، كذا وجهه المحاملي، ويحكى هذا الوجه عن أبي الطيب بن سلمة، وهو الذي رجحه الشيخ أبو حامد ومن تابعه.

وفي "النهاية": القطع بوجوب الحد، وحكاية وجهين في وجوب المهر مرتبين

ص: 257

على الوجهين في الاستدامة، عن رواية الشيخ أبي محمد إذا كان العود متواصلاً قبل قضاء الوطر. قال الإمام: ولم أَرَهُ إلا له، وباقي الأصحاب قاطعون بأن الإيلاج بعد النزع وطء مبتدأ في كل حكم، والممكن في توجيه ما ذكره: كونه بعد وطأة واحدة، ويمكن أن يشبه هذا باتحاد الرضعة، والصبي قد يلتقم الثدي ثم يلفظه ويلهو ثم يعود ويلتقم، والكل رضعة. انتهى.

ووراء هذه الصورة ثلاث صور أخر تتعلق بهذا الفرع، وأخذ الحكم فيها من هذه الصورة ظاهر؛ فلذلك لم يذكرها الشيخ وغن ذكرها غيره:

فالأولى: إذا كانا عالمين بالتحريم جرى الخلاف في وجوب الحد عليهما، فإن أوجبناه لم يجب المهر، وإلا وجب.

والثانية: إذا كانا جاهلين بالتحريم بأن اعتقدا أن الطلاق لا يقع إلا باستكمال الوطء، فلا حد، ويجب المهر.

والثالثة: إذا كانت المرأة عالمة بالتحريم قادرة على الدفع، والزوج جاهلٌ بالتحريم- لم يجب عليه الحد، وفي وجوبه عليها الوجهان، وعليهما ينبني وجوب المهر.

قال: وإن لم يف طولب بالطلاق؛ لما روى سهل بن أبي صالح عن أبيه أنه قال: سألت اثني عشر نفساً من الصحابة عن الرجل يُولِي، فقالوا كلهم: ليس عليه شيء حتىي مضي عليه أربعة اشهر؛ فيوقف: فإن فاء، وإلا طلق.

قال: وأدناه طلقة رجعية، أي: وهي رجعية إن وجد شرط الرجعة، أما وجه الاكتفاء بطلقة؛ فلأنه يصير بها مطلقاً، ولأن الطلقة الواحدة يتخلص بها؛ فإنها توجب البينونة بعد انقضاء العدة، وتوجب تحريمها على الزوج في الحال، وقال أبو ثور: إذا وقع الطلاق كان بائناً وليس له الرجعة؛ لأنها فرقة لإزالة الضرر فوجب أن تقع ثانياً كفرقة العنة، وفرق الأصحاب بينهما بأن فرقة العنة فرقة فسخ، والفسخ لا رجعة فيه، بخلاف الطلاق.

ص: 258

تنبيه: كلام الشيخ- رضي الله عنه يقتضي أن مطالبة المُولِي تكون أولاً بالفيئة، فإن امتنع طولب بالطلاق، وكذلك ذكره الغزالي في "الوجيز" في أول الباب الثاني، وإيراده في "الوسيط" يقرب منه، وزاد المتولي في "البيان" فقال: وليس لها أن تطالب الزوج بالطلاق ابتداء؛ لأنه ليس بحق لها، وإنما حقها في الاستمتاع، فتطالب بما هو حقها، فإذا لم يوفها حقها حينئذ يأمره الحاكم بإزالة الضرر عنها، وإزالة الضرر عنها بالطلاق؛ لتتوصل إلى الاستمتاع من جهة غيره.

قال الرافعي: وعلى هذا فحيث قلنا: يأمره القاضي بالفيئة أو الطلاق، فذلك يعتبر عن مجموع ما يؤمر به، وكلام الإمام مباين لذلك؛ فإنه قال: ليس لها توحيد جهة الطلب للفيئة؛ فإن فيه تكليف شطط؛ فإن النفس قد لا تطاوع، ولولا ذلك لثبت للمرأة مطالبة الزوج بحق التمتع، كما يثبت له مطالبتها بالتمكين؛ فإذن لا تصح منها الطَّلِبَةُ إلا بتردد بين الوطء والطلاق، وإذ ذاك تكون مطالبته بممكن، والله أعلم.

قال: فإن لم يطلق ففيه قولان:

أحدهما: يجبر عليه، أي: بالحبس والتضييق وماي ليق بحاله؛ ليفيء أو يطلق بنفسهن ولا يطلق عنه الحاكم، وهذا أحد قولي القديم؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227]، فأضاف الطلاق إلى الزوج؛ فثبت أنه يتعلق به، ولما روي أنه- صلى الله عليه وسلم قال:"الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ"، ولأنه مخيَّر بين الفيئة والطلاق، فإذا امتنع لم يقم القاضي مقامه؛ كما لو أسلم على أكثر من أربع نسوة.

قال: والثاني: يطلق الحاكم عليه، وهو الأصح؛ لأنه حق معين تدخله النيابة؛ فإذا تعذر من جهة المستحق عليه ناب الحاكم عنه فيه، كقضاء الدين، ولأن مدة الإيلاء مقيدة بالشرع يقطعها الوطء وتتعلق بها الفرقة؛ فثبت للحاكم التفريق إذا انقضت بلا وطء كمدة العنة، ويفارق اختيار الأربع؛ لأنه لم يتعين حق واحدة منهن، بخلاف مسألتنا.

ثم إذا قلنا بهذا أو بالقول الأول، فإنما يطلق الحاكم أو يجبره على طلقة واحدة؛ إذ هي الواجبة عليه، وتكون رجعية إذا طلق عليه، فلو أجبره على أن يطلق ثلاثاً: فإن

ص: 259

قلنا: إن الحاكم ينعزل بالفسق، لم يقع عليه شيء، وإن قلنا: لا ينعزل، وقعت عليه طلقة.

تنبيه: حيث قلنا: يطلق الحاكم عليه، فذلك إذا امتنع بحضرته عن الفيئة والطلاق، ولا يشترط بعد ذلك حضوره وقت الطلاق، ولو شهد عليه شاهدان بأنه آلَى من زوجته، وامتنع بعد مضي المدة من الفيئة والطلاق- فلا يُطلق عليه، كذا قاله البغوي في "فتاويه"، وهو قريب مما قيل في تزويج القاضي عند عَضْل الولي.

فروع:

لو طلق الحاكم عليه، ثم تبين أنه وطئ قبل ذلك- تبين أن الطلاق لم يقع، وكذلك لو ثبت أنه طلق قبل طلاق الحاكم [لم يقع طلاق الحاكم].

ولو وقع طلاق الزوج والحاكم معاً نفذا على الأصح، وقيل: لا ينفذ طلاق الحاكم.

ولو سبق طلاق الحاكم طلاق الزوج وقعا- أيضاً- على الأصح [وقيل:]، إن كان الزوج جاهلاً بتطليق القاضي لم يقع.

قال: فإن راجعها وقد بقي من المدة أكثر من أربعة أشهر، أي: إن كانت يمينه مقيدة بزمان- ضربت له المدة ثم يطالب بالفيئة أو الطلاق، وهكذا إن كرر الرجعة؛ لأن المانع من الوطء باق والمضاررة حاصلة؛ فكأنه راجَعَ ثم حلف ثانياً.

قال الإمام: وكان ينقدح في القياس أن يقال: كما راجعها تعود الطلبة؛ لاتحاد النكاح، لكنه لما طلق فقد أتى بأحد الأمرين اللذين طولب بأحدهما، فأثّر ذلك في سقوط الطلبة.

فإن قيل: الفيئة أحد الأمرين اللذين يتوجه عليه الطلبة بالإتيان بأحدهما، وإذا أتى به بطل الإيلاء؛ فهلا قلتم كذلك فيما إذا طلق؟!

فالجواب: أن الفيئة ترفع اليمين؛ لحصول الحنث فيها، بخلاف الطلاق.

ص: 260

قال: فإن لم يراجعها حتى انقضت المدة، أو بانت، ثم تزوجها، فهل يعود الإيلاء؟ على الأقوال الثلاثة التي ذكرناها في كتاب الطلاق، وقد تقدم شرحها، وبينا ثَمَّ أن الراجح: عدم العود.

وقال الإمام في كتاب الظهار: لعل الأظهر في الإيلاء العود، وثمرة الخلاف ها هنا في توجُّه المطالبة عليه إن حكمنا بعود الإيلاء، لا في حصول الحنث بالوطء؛ فإنه لا خلاف أنه يحنث وتجب به الكفارة.

فرع: زوال ملك النكاح بالفسخ هل هو كالزوال بما دون الثلاث أو بالثلاث؟ فيه خلاف [تقدم، والله أعلم].

***

ص: 261