المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب اللعان "اللعان": مصدر: لاعن يلاعن لعاناً. ويقال: تَلاعَنَا، والتعنا، وهو مشتق - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٤

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌باب اللعان "اللعان": مصدر: لاعن يلاعن لعاناً. ويقال: تَلاعَنَا، والتعنا، وهو مشتق

‌باب اللعان

"اللعان": مصدر: لاعن يلاعن لعاناً.

ويقال: تَلاعَنَا، والتعنا، وهو مشتق من اللعن، واللعن: هو الإبعاد والطرد.

يقال: لعنه الله، أي: أبعده وطرده، والتعن الرجل: إذا لعن نفسه، ورجل لُعَنة- بفتح العين- إذا كان يلعن الناس، ولُعْنَة- بسكون العين- إذا لعنه الناس.

وسمي المتلاعنان بذلك؛ لما يعقب اللعان من المآثم والطرد والإبعاد؛ فإنه لابد وأن يكون أحدهما كاذباً في لعانه. فيأثم ويكون ملعوناً مطروداً.

وقيل: لأن كلّاً منهما يبعد عن صاحبه بتحريم النكاح بينهما أبداً.

وهو في الشرع: عبارة عن كلمات معلومة جعلت حجة للمضطر إلى قذف من لطخ فراشه وألحق العار به.

واختير لفظ "اللعان" على "العضب" والشهادة- وإن [كان] ذلك موجوداً في لعانهما-:

قال الإمام: لأن اللعن كلمة غريبة في مقام الحجج من الشهادات والأيمان، والشيء يشتهر بما يقع فيه من الغريب، وعلى ذلك جرى معظم مسميات سور القرآن.

وقال غيره: لأن اللعنة متقدمة في الآية وفي صورة اللعان، ولأن جانب الزوج فيه أقوى من جانبها؛ لأنه قادر على الابتداء دونها، ولفظة "اللعنة" من جانبه، ولأنه قد ينفك لعانه عن لعانها، ولا ينعكس.

وأطلق على ما تأتي به المرأة من الألفاظ: لعان؛ من باب التغليب، قاله القاضي الحسين.

وهو عند الجمهور يمين.

ص: 327

وقيل: شهادة.

وقيل: يمين فيه شبهة من شهادة.

وقيل عكسه، قاله النووي.

واستدل ابن الصباغ على أنه يمين بقوله- عليه السلام لامرأة هلال بن أمية- وقد أتت بولد على النعت المكروه-: "لَوْلا الأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَانٌ".

والأصل فيه الكتاب قوله- تعالى-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6 - 9] الآيات.

وسبب نزولها: ما روي عن ابن عباس، أن هلال بن أمية، قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشَرِيك بن السحماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ"، قال يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ". قال هلال: والذي بعثك بالحق، إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الجلد. فنزلت هذه الآيات.

قال: يصح اللعان من كل زوج بالغ عاقل؛ للآية، ولما روى سهل بن سعد الساعدي أن عُوَيْمِراً العجلاني قال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً وجد مع امرأه رجلاً؛ فقتله، فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قَدْ أَنْزَلَ اللهُ- تَعَالَى- فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَاتِ بِهَا" قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: رويتم أن سبب نزولها قصة هلال، وهذا يدل على أن هذا السبب.

قلنا: من العلماء من قال به- على ما حكاه القاضي- ومن قال بالأول، حمل قوله- عليه السلام ها هنا على أن المراد أنه بين حكم الواقعة بما أنزل في حق

ص: 328

هلال، والحكم على الواحد حكم على الجماعة.

أما غير الزوج فلا يصح لعانه؛ لأجل القذف؛ لأن الله- تعالى- لم يجعل لغير الأزواج مخرجاً من القذف إلا بالبينة؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 3] الآية.

ويفارق الزوج من حيث إنه لا حاجة به إلى القذف واللعان؛ لأنه لا ضرر عليه في زنى الأجنبية ولا مَعَرَّة، وهو مندوب إلى الستر؛ فإذا أظهر ذلك غلظ عليه، ولم يجعل له الخروج إلا بالبينة، فحيث إن الزوج عليه ضرر في زنى زوجته من لحوق النسب الفاسد والمعرة، فهو محتاج إلى قذفها وإظهار زناها، فإذا فعل خُفِّف عنه بأن جعل له الخروج بالبينة واللعان.

وأما الصبي والمجنون، فلا يصح لعانهما- أيضاً- للخبر المشهور، [ولأنه قول] يقتضي الفراق؛ فاعتبر في مصدره البلوغ والعقل كالطلاق.

واعلم أن اقتصار الشيخ في صفة الزوج على ذكر البلوغ والعقل مع لفظة "كل" يعرفك أنه لا فرق فيه بين أن يكون من أهل الشهادة أو لا، وهو جار على عمموه؛ لظاهر الآية، إلا إذا كان الزوج أخرس، وكان الخرس ممكن الزوال؛ فإنه لا يصح لعانه بالإشارة ولا بالكتابة على وجه ما لم يُؤْيَسْ من نطقه، وفيه وجه: أنه ينتظر ثلاثة أيام، ولا يزيد عليها، وهذا أحسن، وذكر الإمام أن الأئمة صححوه.

قال الرافعي: وعلى هذا فالوجه أن يقال: لو كان يتوقع زواله إلى ثلاثة أيام فينتظر، وإلا فلا ينتظر أصلاً، وإذا كان أعجميّاً وهو يحسن العربية، فإنه لا يصح لعانه بغير العربية، على وجه، وهو ما حكاه ابن الصباغ. ثم حيث صححنا اللعان بغير العربية وكان القاضي لا يعرف ذلك- أحضر مترجماً، وفي اعتبار العدد في المترجم خلاف يأتي بيانه في كتاب الأقضية إن شاء الله تعالى.

قال: وإذا قذف زوجته من يصح لعانه، وأبي: حيث يجوز له القذف، فوجب عليه الحد أو التعزير، وطولب به، أي: من جهة المرأة- فله أن يسقطه باللعان، أي: مع قدرته على إقامة البينة: أما عند وجوب الحد؛ فللآية، وأما عند وجوب التعزير،

ص: 329

فبالقياس على الحد من طريق الأولى، وفي [التعزير] وجه نقله الإمام وغيره: أنه لا يسقط باللعان، أما إذا طولب بالحد من جهة الرجل المرمي معها، ولم تطالب هي ولم تَعْفُ- فهل له أن يلاعن لإسقاطه؟ فيه وجهان حكاهما أبو الفرج السرخسي.

قال الرافعي: وقد ينبنيان على أن حقه يثبت أصلاً أو تبعاً، وسيأتي الكلام في ذلك.

أما إذا عفت المرأة عن حدها، وطولب بحد الرجل- كان له إسقاطه باللعان، قاله ابن الصباغ وغيره. وكذا لو أقيم عليه الحد للمرأة، وقلنا: إنه يجب عليه [حدان لكل منهما حد، أما إذا قلنا: إنه يجب عليه] حد واحد، وهو ما قطع به بعضهم ها هنا، وإن أجري في قذف شخصين بكلمة واحدة قولين [فيه]، فليس للأجنبي المطالبة أصلاً.

فائدة: الحالة التي يجوز للزوج فيها القذف إذا لم يكن ثم ولد: أن يشاهدها وقد زنت، أو شاع في الناس أن رجلاً قد زنى بها، ورأى ذلك الرجل يخرج من عندها في أوقات الريبة، أو أقرت عنده بالزنى ووقع في قلبه صدقها، أو أخبره بذلك ثقة.

ولو شاع في الناس أنه زنى بها ولم يره، أو رآه ولم يشع في الناس- ففي جواز القذف وجهان.

وفي "الرافعي" أن الإمام قال: إنه لو رآها معه تحت شِعَارٍ على هيئة منكرة، أو رآها [معه] مرات كثيرة في محل الريبة- كان ذلك كالاستفاضة مع لارؤية، وتابعه عليه الغزالي وغيره.

ولا يجوز القذف عند عدم ما ذكرناه ولا اللعان، وإذا كان ثَمَّ ولد فسيأتي الكلام في وجوبه وجوازه في الباب الثاني، إن شاء الله تعالى.

فإن قيل: لم قيدتم المسألة بما إذا كان يمكنه إقامة البينة؟ قلنا: لأنه حينئذ يكون مخيراً: إن شاء لاعن، وإن شاء أقام البينة، أما إذا لم تكن بينة فقد يظهر أن اللعان- والحالة هذه- يكون واجباً؛ لأنه يدفع به أمراً محرماً لا يمكن إباحته وهو الجلد،

ص: 330

ودفع الحرام واجب عند القدرة.

ومما يدل عليه مفهوم ما سنذكره من لفظ الشافعي: أنه ليس عليه أني لتعن حتى تطلب المرأة حقها، وفي "الحاوي" إطلاق القول بعدم وجوبه، وأنه بالخيار، وفيما ذكره أيضاً فائدة نفي توهم أن اللعان لا يجوز مع القدرة على البينة؛ أخذاً من ظاهر قوله- تعالى-:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَاّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 5]، لأن معنى الآية: إن لم يتفق شهادة وشهود إقامة الشهود، فشهادة أحدهم؛ كما في قوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 281]، ومعناه إن لم يتفق إقامة رجلين، فرجل وامرأتان.

تنبيه: مراد الشيخ بالتعزير الذي يسقط باللعان: التعزير الذي سببه القذف، كما إذا كانت صغيرة يمكن جماعها أو مجنونة أو أمة أو كتابية، يدل عليه أنه أتى بالفاء في قوله: فوجب عليه الحد، وهي فاء السببية، "أو" عاطفة لـ "التعزير" على "الحد"، وذلك يقتضي التشريك في الحكم.

أما التعزير الواجب لأجل الأذى: كنسبة الصغيرة التي لا يوطأ مثلها إلى الزنى، وقذف من ثبت زناها، ونظير ذلك- فسيأتي الكلام فيه.

وبناء الشيخ فعل الطلب لما لم يُسَمَّ فاعله، فيه إشارة إلى أن الطلب لا يختص بها، بل تارة [يكون] من الزوجة، وتارة يكون من وكيلها، وتارة من وارثها أن الحكم فيها واحد.

وقذف من لا يصح لعانه كالصبي المميز، يوجب التعزير في حال الصبا، فإن بلغ قبل أن يستوفي لم يلاعن لأجله.

وعنه احترز الشيخ بقوله: "لا يصح لعانه"، وقد حكي عن القفال في هذه الصورة: أنه يسقط.

فرع: إذا وجب عليه الحد، فادعى أنه كان في حال القذف مجنوناً، وعرفت له حال جنون: فهل يقبل قوله في ذلك؟ فيه قولان: المنصوص منهما- وهو الأصح في

ص: 331

"المحاملي"-: أن القول قول القاذف، ومقابهل مخرج، وممَّ خُرِّجَ؟

قال الشيخ أبو حامد: من مسألة الملفوف.

وقال ابن سراقة: من اختلاف قولَيْه في اللقيط إذا قذف وادعى أنه عبد. قاله الماوردي.

وفي "النهاية" حكاية طريقة أخرى: أنه إن عُرِفَ له حال جنون، فالقول قوله، وإن لم يعرف فقولان. فتحصلنا على ثلاثة أقوال في المسألة.

قال الإمام: ومثل هذا الخلاف يجري فيما لو أقرَّ ببيع أو غيره من عقود المعاملات، ثم قال: أردت أني بعت في حال جنوني [أو صباي]، لكن دعوى الصِّبا مثل حال الجنون إذا عرف، وفي "الحاوي": الجزم بقبول قوله إذا عرف له حال جنون، وكان ثبوت القذف عليه بإقراره، واتصل به:[إنه صدر مني في حالة الجنون]، وحكاية القولين فيما إذا ثبت [القذف] بالبينة، فقال عند ثبوته: كنت عند قذفي مجنوناً، ولم يتعرض لنية بحاله [.....].

قال: فإن عَفَا عن ذلك، أي: ولم يكن هناك ولد- لم يلاعن؛ لأن اللعان حجة ضرورية؛ إنما يستعمل لغرض مهم: وهو قطع النسب، ودرء العقوبة، وقد انتفى ذلك.

قال: وقيل: له أن يلاعن لغرض قطع النكاح، ولدفع عار الكذب، والانتقام منها بإيجاب حد الزنى عليها، وإلصاق العار بها.

قال: وليس بشيء؛ لأن هذه الأغراض ضعيفة، وقطع النكاح ودفع العار عن نفسه متيسر بالطلاق.

ويجري الخلاف فيما لو أقام البينة على زناها، أو صَدَّقته، أو حُدَّ وأراد أن يلاعن لأجل الفرقة، كذا قاله المتولي.

ووجَّه القاضي الحسين قول الجواز بأن اللعان يفيد وقوع الفرقة، وتأبُّدَ التحريم،

ص: 332

ونفي الولد، ودرء الحدّ، [وإيجاب الحدّ عليها]؛ فبأن يفيد أحدها [أولى]؛ لأن ما قدر على الكثير كان على القليل أقدر.

قال: وإن لم يطالب ولم يعفُ، فقد قيل: له أن يلاعن، وهو ظاهر كلام الشافعي على ما حكاه المتولي، وبه قال أبو إسحاق، ورجحه الإمام.

وقال: إنه المذهب الصحيح؛ لأن الحدّ واجب عليه [في ظاهر الحكم]، ولها المطالبة متى أرادت؛ فكان له إسقاطه؛ كرجل ثبت عليه دين، وله حجة على الإبراء، له أن يقيمها وإن كان صاحب الدين لا يطالبه، كذا قاله المتولي، وفيه نظر.

قال: وقيل: ليس له أن يلاعن، وهو ما رواه المزني عن الشافعي؛ فإنه قال: ليس عليه أن يلتعن حتى تطلب المرأة حدّها. ورجَّحه الجمهور على ما حكاه الرافعي؛ لأنه لا نسب، والحدّ غير مطلوب، وإنما يصار إلى اللعان إذا أرهقته الضرورة إليه.

والقائل الأول قال: النص دال على عدم الوجوب، ولا يمنع الجواز، وهو ما ادعيناه.

ثم لا فرق في جريان الخلاف بين أن يكون الطلب ممكناً في الحال كما إذا كانت الزوجة مكلفة، أو لا: كما إذا كانت صغيرة أو مجنونة، وادعى البندنيجي أن المذهب جواز لعانه في حال الصبا، وادعى ابن الصباغ أن الأصح جواز اللعان فيما إذا كانت مجنونة، وأنه ظاهر كلام الشافعي؛ موجّهاً ذلك بأنه حجة [له] يسقط بها حقّاً؛ فكان له ذلك كقضاء الدين.

وقال الرافعي: إن رُتب الوجهان في الصغيرة والمجنونة على الوجهين في السكوت كانت هذه أولى بالمنع؛ لأنه لا يتوقع الطلب إلا بعد البلوغ والعقل، وهناك يتوقع لحظة فلحظة. وإن رُتبا على الوجهين في صورة العفو كانت هذه أولى بالجواز؛ لأن الطلب يُتوقَّع في الجملة.

[فرع: إذا لاعن عند قذف الصغيرة التي يمكن جماعها، فبلغت- فهل لها أن تلاعن؟ فيه وجهان في "الحاوي"].

ص: 333

قال: وإن قذفها بالزنى، ومثلها لا يوطأ: كابنة سَبْعٍ، عُزِّر؛ للمنع من الإيذاء، والسبِّ، وزجراً عن الخوض في الباطل.

قال: ولم يلاعن، أي: وإن بلغت وطلبت؛ لأن اللعان لإظهار الصدق، وإثبات الزنى، وكذبه مقطوع به، وفيه وجه حكاه الإمام وغيره: أنه يلاعن.

وقد أُجْرِيَ مثل هذا الخلاف فيما إذا قال للبالغة: زنى بك ممسوحٌ أو صبيٌّ ابن شهرٍ، أو قال للرتقاء [أو] القرناء: زنيت.

قال: وإن قذفها وهي زانية، أي: ثبت زناها بإقرارها أو بالبينة- عُزِّر؛ لأنه آذاها بما تكره؛ فعُزِّر كما إذا قذف صغيرة.

قال: ولم يلاعن على المذهب، أي: الذي رواه المزني؛ فإنه قال: [عُزِّر] إن طلبت ذلك، ولم يلتعن؛ لأن اللعان لإظهار الصدق، وإثبات الزنى، والصدق ظاهرن والزنى ثابت؛ فلا معنى للعان.

وقيل: يلاعن؛ دفعاً للعقوبة كما في تعزير التكذيب، وأيضاً؛ فلقطع النكاح، ودفعاً للعار، ومستند قائله ما رواه الربيع؛ فإنه قال: يعزر إن طلبت ذلك؛ إن لم يلتعن. فجعل عدم الالتهعان شرطً التعزير، وذلك يشعر بأن له أن يلاعن. وقد أُبت القولين ابن القطان، وابن سلمة، والداركي، والأصح منهما: الأول، وبه قطع أبو إسحاق والقاضي أبو حامد، وجعلا ما رواه الربيع من كيسِهِ.

قال الرافعي: وهذا الطريق أظهر، وقطع بعض الأصحاب بالقول الثاني، والقائلون به اختلفوا في تأويل رواية المزني: فمنهم من جعل قوله: ولم يلتعن، معطوفاً على قوله: إن طلبت، لا على قوله: عُزِّر، وكأنه قال: عزر إن طلبت التعزير، وامتنع هو من اللعان.

ومنهم من حمله على ما إذا قذفها بزنى أضافه إلى ما قبل الزوجية، وأقام عليه البينة، ثم أعاد القذف بذلك الزنى.

فائدة: ظاهر النص أن اللعان مشروط بطلبها، وفيه وجه حكاه الإمام وغيره: أن

ص: 334

للقاضي أن يطلبه ويستوفيه، وهو جارٍ في هذا النوع من التعزير.

قال: وإن قذف امرأته ولم يلاعن؛ فحُدَّ، ثم قذفها ثانياً- أي بذلك الزنى- عُزّر؛ لما في ذلك من الإيذاء، ولا يجب عليه الحد؛ لأن الحد إنما يجب بالقذف، والقذف: ما احتمل الصدق والكذب، وهذا قد ظهر كذبه في هذا القذف؛ لعجزه عن إقامة البينة واللعان عليه.

قال: ولم يلاعن؛ لأنه تعزير أدبٍ وسبّ، وفيه الوجه المذكور في نظائره، أما لو قذفها بغير ذلك الزنى فهل يجب الحدُّ أو التعزير؟ فيه وجهان: أصحهما عند البغوي الاثني، وعند أبي الفرج الزاز الأول، وهل له أن يلاعن لإسقاط العقوبة؟ فيه وجهان، أصحهما: لا؛ لظهور كذبه بالحدّ، ولو قذف زوجته ولاعن، ثم قذفها ثانياً بذلك الزنى، أو أطلق- لم يجب عليه إلا التعزير للأذيَّة. ولا فرق بين أن تكون قد لاعنت لإسقاط الحدّ عنها أو لا. وإن قذفها بزنى آخر فهل يجب عليه الحدّ؟ فيه وجهان: أصحهما، فيما إذا لم تكن لاعنت باتفاق الأصحاب: أنه لا يجب إلا التعزير.

وأصحهما: فيما إذا كانت لاعنت عند الغزالي والشيخ أبي علي والمتولي: وجوب الحدِّ، وهو الذي أورده ابن الصباغ، وقال الرافعي: إنه أقرب.

وعند القاضي أبي الطيب والبغوي والروياني وجوب التعزير.

وفي "الرافعي": أن القفال وأبا علي والصيدلاني حكوا الخلاف في هذه الصورة قولين، وأن القول بوجوب الحدّ هو القديم. وحكى- أيضاً- طريقة قاطعة بوجوب الحدّ عن ابن سريج.

ثم الخلاف- على ما حكاه المتولي- جارٍ فيما إذا قذفها بزنى أضافه إلى ما قبل اللعان، سواء كان في حال الزوجيَّة أو سابقاً عليها، وليس له على كل حال أن يسقط هذه العقوبة باللعان؛ لارتفاع النكاح.

فرع: لو قذفها أجنبي بعد لعان الزوج نظر: إن كان بغير الزنى الذي قذفها به الزوج، حُدَّ، وإن كان به ولم تلاعن هي فوجهان، وإن لاعنت وجب، وقيل: على الخلاف، والأظهر: الوجوب.

قال: وإن قذفها وانتفى عن ولدها، لاعن: أما إذا عيّن الزاني؛ فلقصة هلال بن

ص: 335

أمية، وأما إذا لم يعينه؛ فلقصة عويمر العجلاني.

قال: وإن قذفها وانتفى عن حملها، فله أن يلاعن؛ لحديث هلال بن أُميَّة، فإنه لاعن عن الحمل قبل وضعه، وله أن يؤخر إلى أن تضع؛ ليلاعن على يقين.

وفي طريقة المراوزة حكاية طريقة أخرى: أن لعانه في حال الحمل يخرج على قولين تأتي حكايتهما من بعد، وسنذكر الفرق بينهما ثَمَّ.

ثُمَّ هذا إذا لم يقم البينة على زناها، [أما إذا أقام البينة على زناها] فقد نص الشافعي على أنه لا يلاعن حتى تضع.

واختلف الأصحاب على طريقين: فمنهم من جزم بما نص عليه، ومنهم من خرجه على قولين.

قال: وإن انتفى عن ولدها، وقال: وطئك فلان بشبهة، أي: وصدقه فلان، وادعى الولد- عرض على القائف، ولم يلاعن لنفيه؛ لأن له طريقاً آخر ينقطع به النسب، وهو العرض على القائف وإلحاقه بفلان، وإنما يُصار إلى نفي النسب باللعان إذا لم يكن للإسقاط طريق آخر؛ ألا ترى أن ولد الأمة لا ينتفي باللعان على الأصح؛ لإمكان نفيه بدعوى الاستبراء؟! وهذه طريقة الشيخ أبي حامد، وادّعى الرافعي أن عليها الأكثرين. فإن ألحقه القائف بفلان لحقه، وإن ألحقه بالزوج فله إذ ذاك أن يلاعن، وكذا إن لم يكن قائفٌ فإنه ينتظر بلوغ الولد: فإن بلغ وانتسب إلى فلان لحقه، وإن انتسب إلى الزوج كان له أن يلاعن، وإن لم يصدقه فلان على الوطء أو لم يدّع الولد، فالولد ملحقٌ بالنكاح، وللزوج نفيه باللعان.

ص: 336

هكذا دلَّ عليه كلام الرافعي، وفي كلام الإمام ما يدل على أن العراقيين لم يشترطوا تصديق الواطئ بالشبهة، ونقل القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق وأبي علي الطبري- على ما حكاه ابن الصباغ- أنه يلاعن لنفيه ابتداء من غيره عرض على قائف.

وحكى- أيضاً- أن من الأصحاب من جعل في المسألة قولين، وحكاهما الرافعي وجهين، وأظهرهما: أنه يلاعن، وفي "النهاية" تضعيف غيره ها هنا.

وحكى مجلي في كتاب "الدعاوى والبنيات": إذا ولد مولود على فراش نكاح، فادّعاه مدّعٍ، وزعم أنه وطئها بشبهة- لم يقبل، ولم يعرض على القائف؛ لأن هذا يجرُّ فساداً، وسواء اعترف الزوج والزوجة بوطء الشبهة أو لم يعترفا؛ لأن الحق للولد، فإن أقام بينة على وطء الشبهة، قال أبو حامد الغزالي: عرض على القافة. وقد بيّنا أن المذهب خلافه.

قلت: وما قاله من أن المذهب خلافه سيأتي الكلام عليه، وما حكاه [عن] الغزالي هو ما أبداه الإمام في ترديد كلامه في باب القافة؛ فإنه قال: إن قلنا: الرجوع إلى قول صاحب الدَّعْوى، فهذا يحرم نسب الفراش، وإن لم نقل ذلك أحوجنا الواطئ إلى إثبات الوطء بالشبهة؛ فإن اعتراف الزوج لا يؤثر فيما نراه، ولا أثر [لاعترافها بالمدعي، والمرعيُّ حقُّ الولد، وهذا أمر مشتبه، وعندي أن الذي أجراه الأصحاب] من غير تعرض لما ذكرناه في وطء ثبت بطريقه، وشهدت به عليه البينة. انتهى.

وإذا تأملت ذلك فقد يظهر أنه مناقض للمحكي ها هنا، وسنعيد في أواخر باب ماي لحق به النسب طرفاً من الكلام المتعلق بهذه المسألة.

واعلم أن كلام الشيخ- رضي الله عنه يتضمن صورتين.

إحداهما: أن ينسبها إلى وطء الشبهة.

والثانية: أن ينسبها إلى الزنى، والواطئ إلى الشبهة.

ص: 337

وقد تقدم الكلام في الصورة الأولى، وفي الثانية هو قاذف لها، وله أن يلاعن لدرء الحدّ، والحكم في اللعان لنفي الولد كما ذكرناه.

قال: وإن قال: هو من فلان وقد زنى بك وأنت مكرهة، ففيه قولان:

أصحهما: أنه يلاعن لنفيه؛ لتعذّر نفي الولد بغير اللعان.

والثاني: [لا] يلاعن؛ لأن آية اللعان وردت في الرمي بالزنى، وهناك يحتاج إلى الانتقام من المرأة وإشهار حالها، وقد انتفى ذلك.

وفي المسألة طريقان آخران:

أحدهما: ذهب أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة [والطبري] إلى القطع بالقول الأول.

والثاني: القطع بالقول الثاني، ونسبه القاضي ابن كج إلى ابن سريج، وهو ما اختاره البغوي.

ثم هذا الخلاف يجري فيما لو قال: وطئك وأنت نائمة أو جاهلة.

وأما اللعان لغير نفي الولد فينبني على أن التعزير هل يجب لها عليه؟ وفيه خلاف مذكور في الكتاب في باب حدِّ القذف، والمنصوص- على ما حكاه المتولي ها هنا-: أنه يجب، وفي "الشامل" و"التهذيب": أن القول بالوجوب أصح الوجهين؛ لأن فيه عاراً يلحقها كما إذا قذف مجنونة. فإن قلنا يجب عليه التعزير، فله أن يسقطه باللعان على ما حكاه المتولي والبغوي- ويتجه أن يجري فيه الوجه المذكور في نظائره.

وفي "الشامل": أنه ليس له إسقاطه باللعان، وهو قضية كلام ابن يونس؛ لاعتقاده أنه تعزير تأديب.

وإن قلنا: لا يجب التعزير، فهل له أن يلاعن لدرء حدّ فلان؟ فيه خلاف حكاه المتولي، والذي جزم به البغوي: أن له أن يالعن، ووجهه المتولي بأنه إذا قذف زوجته بأجنبي، ثم لاعنها ولم يسمّ الزاني في اللعان، وقلنا: لا يسقط حق الأجنبي- كان له أن يلاعن لإسقاط حد الأجنبي، وهذا ابتداء لعان، لإسقاط حد المرمي به

ص: 338

في حال ليس لها عليه مطالبة.

قال البغوي: ويخالف ما إذا قذف امرأته وأجنبية بكلمة واحدة؛ حيث لا يتمكن من إسقاط حد الأجنبية باللعان؛ لأن فعلها ينفك عن فعل الأجنبية، و [فعلها] لا ينفك عن فعل المرمي به.

فرع: لو اقتصر على قوله: ليس هذا [با] بن لي، حكى صاحب "التقريب" في جواز لعانه تردداً، وهذه الصورة أولى بجواز اللعان مما إذا أضاف إلى وطء شبهة؛ لأنه كان يحتمل الجهة التي يثبت فيها النسب، يحتمل جهة الزنى.

قال الرافعي: والذي أجاب به المُعْظَم: أنه لا يلتفت إلى ذلك، ويلحق الولد بالفراش، إلا أن يسند النفي إلى سبب معين ويلاعن.

قال: وإن قذف زوجته بزنى أضافه إلى ما قبل النكاح، ولم يكن هناك ولد- لم يلاعن، أي: ويجب عليه الحدّ؛ لأنه قذف غير محتاج إليه فلم يلاعن لأجله كما في قذف الأجنبية.

قال: وإن كان هناك ولدٌ، أي: يمكن أن يكون من المرمي بالزنى، كما إذا نسبها إلى الزنى قبل النكاح بساعة أو بيومين- فقد قيل: لا يلاعن، وبه قال أبو إسحاق المروزي، ورجحه الشيخ أبو حامد ومن تابعه كالمحاملي والبندنيجي؛ لأنه مقصّر بذكر التاريخ، وكان من حقه أن يقذف مطلقاً، وعلى هذا: له أن ينشئ قذفاً ويلاعن لنفي النسب، فإن لم يفعل فيحدّ، كذا قاله الرافعي، ومفهومه: أنه إذا أنشأ قذفاً ولاعن أنه لا يحد، وقضية كلام القاضي الحسين في "التعليق": أنه يحد؛ فإنه قال: فإن قلنا: ليس له اللعان، فعليه الحدُّ، وله أن ينشئ قذفاً ويلاعن لنفي النسب.

قال: وقيل: يلاعن، وبه قال أبو علي بن أبي هريرة والطبري كما لو قذف مطلقاً، وهذا أصح عند القاضي أبي الطيب، وإلى ترجيحه مال الإمام والقاضي الروياني وغيرهما.

فعلى هذا: يندفع الحدُّ عنه إذا لاعن، [وهل يجب عليها حد الزنى؟ فيه

ص: 339

وجهان]. وهل لها معارضته باللعان؟ فيه وجهان يجريان في كل لعان لمجرد نفي الولد؛ كما لو أقام البينة على الزنى أو صَدَّقته، كذا حكاه الرافعي، وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنا إن أوجبنا عليها الحدَّ فلها معارضته، وإلا فوجهان، وكذلك قال في "التهذيب": إن أصحهما: أنها لا تلاعن.

ورَدَّ المتولي الخلاف المنقول عن أبي إسحاق وغيره إلى وجوب الحد وعدمه، وجزم بأنه يجوز اللعان لنفي النسب، وأجري الخلاف في وجوب الحد- أيضاً- فيما إذا قذفها بعد البينونة بزنىً مطلقاً من غير إضافة إلى حال النكاح، وجعل الحكم في هذه الحالة كالحكم فيما إذا أضافه إلى ما قبل النكاح.

قال: وإن أبانها وقذفها بزنى أضافه إلى حال النكاح، فإن لم يكن هناك ولد، حُدَّ ولم يلاعن؛ لأنه قذف أجنبية من غير حاجة [إلى القذف]، وفي "شرح" أبي علي: أن له اللعان؛ لكونها لطخت فراشه بزعمه. قال الغزالي: وهو بعيد.

قال: وإن كان هناك ولد منفصل، لاعن، لنفيه؛ لأنه محتاج إلى ذلك لنفي الولد، وإن كان هناك حملٌ، لم ينفصل، فقد قيل: لا يلاعن حتى ينفصل، وهو ما روي عنه في "الجامع الكبير"، وبه قطع أبو إسحاق؛ لأن هذا لعان لنفي الولد، فيعتبر تحققه، وقد يكون الذي تجده ريحاً.

قال: وقيل: فيه قولان، وهذا هو الأصح من الطريقين:

أحدهما: أنه لا يلاعن حتى ينفصل؛ لما ذكرناه، وهذا أظهر عند الشيخ أبي حامد وجماعة.

والثاني: أن له ذلك؛ خشيةً من اخترام المنيَّة كما له ذلك في صُلْب النكاح، ولأن حكم اللحوق يثبت في الحمل كما يثبت في الولد المنفصل؛ فأشبه الحملُ الولدَ المنفصل، وهذا ما أورده المزني في "المختصر"، وهو أظهر عند الشيخ في "المهذب" والبغوي وغيرهما.

وبنى بعضهم القولين على أن الحمل هل يلحق بالمعلوم؟ وفيه قولان، وهي

ص: 340

طريقة من أجراهما في اللعان بسبب الحمل في صلب النكاح، والقائل الأول فرق بينهما بأن في صلب النكاح يتصور جريان اللعان دون النسب المتعرض للثبوت، ولا يمتنع أن يجري اللعان على أصله، ثم الولد ينتفي مبيعاً تبعاً، والتبعية ليست منكرة في الحمل؛ فإن الحمل قد يثبت مبيعاً تبعاً للأم وإن كان لا ينفرد بالبيع، فكذلك لا يمتنع أن ينفي بيعاً، بخلاف ما بعد البينونة.

فرع: لو لاعن، ثم تبين أنه لم يكن حملٌ، وأن ذلك ريح وقد تَنَفَّسَ- حُدَّ، بخلاف ما إذا لاعن في صلب النكاح؛ فإنه لا يُحدُّ.

قال القاضي الحسين في "التعليق": لأن اللعان في صلب النكاح يفرد لدرء الحد وانقطاع الفرقة إن لم يكن نسب، ولا يلاعن بعد البينونة إلا لنفي النسب.

قال: وإن قذف أربع نسوة، لاعن أربع مرات، أي: سواء قلنا- يجب لكل واحدة حدٌّ- وهو الجديد- أو لا يجب لجميعهن إلا حدٌّ واحدٌ إذا كان القذف بكلمة واحدة- وهو القديم- لأن اللعان يمين، والأيمان لجماعةٍ لا تتداخل في الأموال؛ ففي اللعان أولى.

فعلى هذا: لو أتى بلعانٍ واحدٍ، لم يعتد به إلا في حق التي سماها أولاً، ولو لم يسمّ، وأشار إليهن، واكتفينا بذلك- لم يعتد به في حق واحدة منهن. ولو رضين بلعانٍ واحد، لم يقنع به؛ كما لو رضي المدَّعون بيمين واحدة، ويشبه أن يجيء فيه الوجه المحكي في الكتاب في باب اليمين في الدعاوى، وقد يفرق بينهما بأن الاحتياط في أمر الأبضاع آكد.

وقيل: إن كان القذف بكلمة واحدة، وقلنا: يلزمه حدٌّ واحد- كفاه لعان واحد، وينسب إلى أبي إسحاق وابن القطان؛ لأن هذه اليمين حجة تثبت الحد فأشبهت البينة؛ ولذلك لو أقام على رجل شاهداً بحق وعلى آخر بحق آخر، يجوز أن يحلف معه يميناً واحدة يذكر فيها الحقين.

فعلى هذا: إذا توافقوا في الطلب، أو لم يشترط الطلب، حصل المقصود باللعان

ص: 341

الواحد، أما إذا اشترطنا الطلب وانفرد بعضهن بالطلب، فلاعن، ثم طلب الباقيات- فيحتاج إلى اللعان، كذا قاله الرافعي، وفيه نظر؛ لأن هذا الوجه مفرّع على القول باتحاد الحدّ، وقد حكى تفريعاً على القول باتحاد الحد: أن واحدةً منهن لو حضرت وطلبت الحدَّ، حدَّ لها، وسقط حق الباقيات؛ فكان لا يبعد أن يكون هذا مثله، وأيضاً: فإنا سنذكر فيما إذا قذف الزوجة بمعين وسماه في اللعان: أنه يسقط ما وجب عليه من حدّه، وإن لم يسمِّه فقولان؛ بناءً على اتحاد الحدّ؛ فكان ينبغي أن يجيء مثله ها هنا.

قال: فإن كان بكلمة واحدة وتشاحَحْن في البداية أقرع بينهن؛ إذ لا مزية، فإن بدأ بلعان واحدة من غير قرعة جاز؛ لأنْ الباقياتي صلن إلى حقهن من غير نقصان، وهذا معنى قول الشافعي: إن بدأ بواحدة من غير قرعة رجوتُ ألا يأثم. وحمله الأصحاب- على ما حكاه القاضي أبو الطيب- على ما إذا لم يقصد تفضيل بعضهن على بعض وتجنب الميل.

قال: وإن وطئ امرأة في نكاح فاسد، فأتت بولد، فانتفى عنه- لاعن، وكذا لو كان حملاً على أحد الوجهين؛ لأنه يلحقه بحكم الفراش، ولا يمكنه نفيه بغير اللعان، فكان له نفيه باللعان؛ كما في النكاح الصحيح، ويسقط عنه الحد إذا لاعن لنفي الولد إن كان ثم قذف؛ كما انتفى به النسب، وحكى الرافعي أن في "أمالي" أبي الفرج السرخسي في نظير المسألة وجهاً: أنه لا يسقط ولا يجب بلعانه عليها حَدُّ في أحد الوجهين، وبه جزم القاضي الحسين. وعلى هذا: هل لها معارضته باللعان؟ فيه الخلاف السابق.

وفي "الرافعي": أنه ربما بنى الخلاف في وجوب الحدّ عليها على أن المرأة تعارض لعانه بلعانها؟ فإن قلنا: تعارضه، وجب عليها حَدُّ الزنى، وإلَّا فلا يجب، وهو الأصح. ولو قذفها، ولم يكن ثَمَّ ولد، وعلم فساد النكاح- فعليه الحدّ، وليس له إسقاطه باللعان، وكذا لو جهل على أحد الوجهين، وهما جاريان في سقوط الحد باللعان في حالة الجهل، كذا هو محكي في "تعليق" القاضي الحسين، والأصح منهما

ص: 342

- وبه أجاب ابن الحداد [في] الصورة الثانية- أنه لا يندفع، على ما حكاه الرافعي، ووجَّهه بأنا تبيّنا فساد النكاح؛ فيلغو كما لو علمنا الحال في الابتداء لا نمكنه من اللعان.

قال: واللعان، أي: المعتدُّ به، أن يأمره الحاكم، أي: أو نائبه فيه، فيقول أربع مرات: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به، أي: من الزنى إن كان [ذلك أما اعتبار أمر الحاكم في الاعتداد به؛ فلأنه يمين فلم يعتد به] قبل عرض الحاكم؛ كاليمين في جملة الخصومات، وأما اعتبار العدد في لفظ الشهادة؛ فللآية، وأما اعتبار تسمية ما رماها به؛ فلأنه المحلوف عليه.

قال: ويسميها إن كانت غائبة، أي: عن البلد، أو عن المجلس؛ لحيض أو كفر، ولم يرضَ الزوج بلعانها في المسجد، أو كان ذلك في المسجد الحرام، فيقول: زوجتي فلانة، ويرفع في نسبها حتى تتميز عن غيرها، وفي "تعليق" الشيخ أبي حامد: حتى يميزها عن سائر زوجاته إن كان في نكاحه غيرها، قال الرافعي: وقد تشعرُ هذه اللفظة بالاستغناء بقوله: فيما رميت به زوجتي، عن الاسم والنسب إذا لم يكن تحته غيرها. قلت: إن صح ذلك فيكون شرطه معرفة الحاكم بها.

قال: ويشير إليها إن كانت حاضرة، أي فيقول: زوجتي هذه، ولا يحتاج مع ذلك إلى ذكر اسمها ونسبها؛ لأن المقصود تمييزها، وذلك يحصل بما ذكرناه كما في سائر الأحكام.

واعلم أن تفسير الإشارة بما ذكرناه نقله البندنيجي والمتولي وغيرهما، ولم يتعرّض القاضي الحسين [في "التعليق"] في تفسيرها إلى ذكر الزوجيَّة؛ بل قال: يقول: هذه وكذلك البغوي، ولم يحك غير هذا القول.

قال: وقيل: يجمع بين الاسم والإشارة، أي: فيقول: زوجتي هذه فلانة، ويرفع في نسبها؛ لأن اللعان مبني على التغليظ والاحتياط، فيؤكد الإشارة بالتسمية ورفعِ النسب.

قال الرافعي: وقد يقال على قضية هذا التوجيه: لا يكفي في الحاضرة التسمية

ص: 343

ورفع النسب حتى يضم إليه إشارة، بل أولى؛ لأن الإعراض عن الإشارة والعدول إلى التسمية في الحاضرة قد يجر لَبْساً.

وفي "التتمة": أنه يكفي الإتيان بأحدهما: الاسم، أو الإشارة؛ اعتباراً بالنكاح.

قال: ويقول في الخامسة: وعليّ لعنة الله إن كنت من الكاذبين؛ للآية، فإن كان هناك نسب ذكره في كل مرة؛ لأن كل مرة بمنزلة شاهد، فيقول: وإن هذا الولد أو الحمل- إن كان بها حملٌ- من زنى وليس منَّي، وإن كان الولد غائباً، قال: وإن الولد الذي ولَدَتْهُ على فراشي من زنىً [وليس مني، ولو اقتصر على ذكر الزنى لم يكفِ] عند الأكثرين، فلا ينتفي به الولد؛ لأنه قد يعتقد أن الوطء بالشبهة أو في النكاح الفاسد زنى، وفي "التهذيب": أن أصح الوجهين الاكتفاء به؛ حملاً للّفظ على حقيقته. وعلى الأول: له أن يعيد اللعان لنفيه قولاً واحداً، وإن كان حملاً، وقلنا: لا يلاعن للحمل بعد البينونة إلَّا بعد الانفصال؛ لأن هذا اللعان بموجب القذف الأول، وقد كان يمكنه نفيه؛ فاستديم ذلك الحكم.

ولو اقتصر على قوله: ليس مني، فالمشهور: أنه لا يكفي؛ لاحتمال أن يريد به عدم المشابهة خَلْقاً وخُلُقاًن وفيه وجه.

قلت: يشبه أن يكون قائله هو الصائر إلى جعله قاذفاً [لأمَّهِ] بمثل هذا القول، ووجهَّه المتولي بأن عليه أن ينفي النسب عن نفسه، وليس ليه أن يبيَّن الجهة التي حصَل منها الولد.

ولو أغفل نفي الولد في بعض الكلمات الخمس احتاج إلى إعادة اللعان [لنفيه، دون لعان المرأة على الأصح.

وفيه وجه: أنها تحتاج إلى إعادة اللعان]-[أيضاً-] حكاه الشيخ أبو علي، وطرده، فيما إذا أتت بولد ونفاه، [ثم أتت بآخر لدون ستة أشهر ونفاه] ولاعن، فهل يحتاج إلى إعادة اللعان إن كانت قد لاعنت؟

والوجه في الصورة الأولى مستمدٌّ [مما سنذكره عن القفال وغيره: أنها تحتاج في

ص: 344

لعانها إلى ذكر الولد، وفي الثانية مستمد] من ذلك ومن وجه سنحكيه في الفرع بعده، والأصح: المنع.

ثم ظاهر كلام الرافعي يقتضي أن يعيد جملة كلمات اللعان؛ لأنه قال: ولو أغفل نفي الولد في بعض الكلمات الخمس احتاج إلى إعادة اللعان.

قلت: وكان يحتمل أن يقال: إن قصر الزمان أعاد الكلمات التي لم يذكر فيها الولد، وإن طال فينبني على أن كلمات اللعان لو تقطعت بفصول متخللة هل يجب إعادتها، أم يجوز البناء فيها والاعتداد بما مضى؟ وفيه تردد للأصحاب، والأشبه: اشتراط الموالاة عند الرَّافعي، والمذكور في "التهذيب" جواز التفريق، فإن قلنا: تجب الإعادة، فكذلك ها هنا، وإلَّا فلا، وهذه الإعادة ذكرها الإمام فيما إذا ماتت المرأة في أثناء لعانه.

فرع: لو لاعن لنفي ولدٍ، ثم أتت امرأته بولدٍ آخر لدون ستة أشهر من ولادة الأول، ولاعن لنفيه- هل يحتاج إلى ذكر [الولد] الأول في اللعان الثاني؟ فيه وجهان، الأصح منهما في "جمع الجوامع" للروياني: أنه لا يحتاج.

قال: وإن قذفها بزنَاءَيْن، أي: واكتفينا بلعان واحد- وهو الأصح- ذكرهما في اللّعان، أي: في كل مرة؛ لأنه قد يكون صادقاً في أحدهما دون الآخر، فيقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزناءَيْنِ.

وفيه وجه: أنه يلاعن مرتين؛ بناءً على أنه يجب لكل قذف حدٌّ.

قال: فإذا لاعن، أي وأكمل اللعان- سقط عنه الحد؛ للآية فإنها تدل على إقامة اللعان في حق الزوج مَقامَ الشهادة في حق غيره.

قال: وانتفى عنه النسب؛ لما روى مالك عن نافع عن ابن عمر- رضي الله عنهم أن رجلاً لاعن امرأته في زمن- رسول الله- صلى الله عليه وسلم وانتفى عن ولدها؛ ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وألحق الولد بالمرأة.

ص: 345

قال: ووجب عليها حد الزنا، أي: إذا كان القذف بزنى أضافه إلى حال الزوجية وكانت مسلمةً؛ لقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] إلى آخرها، وهذا يدل على وجوبه عليها بلعانه، ولأن اللعان بمنزلة البيّنة في إسقاط الحدّ عنه؛ فكان كالبينة في وجوب الحدّ عليها، ويخالف الزاني حيث لم يوجب عليه الحدّ بلعان الزوج؛ لأنه لو وجب لما تمكَّن من إسقاطه باللعان، وفي ذلك ضرر، بخلاف [الزوجة]. أما إذا قذفها بزنى أضافه إلى ما قبل الزوجية، ولاعن لأجل نفي النسب- فقد ذكرنا في وجوب الحدّ عليها وفي معارضتها لعانه بلعانها وجهين.

وأما إذا كانت ذمية، فقد نص الشافعي على أنها لا تجبر على اللعان، ولا تحد إذا امتنعت حتى ترضى بحكمنا، فإذا رضيت حكمنا في حقها بما نحكم به في حق المسلمة. وللأصحاب طريقان:

أحدهما: تخريج المسألة على القولين في أنهم إذا ترافعوا إلى حاكمنا هل يجب عليه الحكم بينهم؟ فيه خلاف يأتي: إن قلنا: يجب، فإذا لم تلاعن أقام عليها الحد رضيت أو لم ترضَ، وإن قلنا: لا يجب، فإنما نحدّها إذا رضيت بحكمنا، والنص محمول على هذا القول.

والطريق الثاني- حكاه الإمام مع الأول-: القطع بأنها لا تجبر، ولا يجري عليها الحكم إلّا إذا رضيت؛ لأنه إذا لاعن الزوج انقطعت خصومته معها، وكان الباقي بعده حَد الزنى، وهو محض حق الله- تعالى- ونحن لا نجبر أهل الذمة على حقوق الله- تعالى- لأنها مَبْنِيّة على المسامحة.

[وقد حكى القاضي الحسين في "تعليقه" الطريقين في إقامة الحدّ على الكافر إذا أقرَّ بالزنى أو قامت عليه البيّنة: منهم من قال: في إقامة الحدّ عليه قهراً قولان. ومنهم من قال: لا يقام عليه قولاً واحداً، إلَّا أن يرضى بحكمنا؛ لأنه من حقوق الله تعالى، وهي مبنيّة على المسامحة].

وعن القفال؛ بناءً على انقطاع خصومة الزوج باللعان: أنه إذا لاعن الزوج المسلم عن الزوجة المسلمة لم يتوقف عرض اللعان عليها على طلبه؛ بل يقوم به الحاكم

ص: 346

ويقول لها: إن لاعنتِ سلمتِ، وإلا أقمتُ عليكِ الحدّ.

قال الرافعي: ويقرب من هذا الكلام أن الذين جعلوا المسألة على قولين ذكروا أنه لا فرق بين أن يكون الزوج الملاعن مسلماً أو ذميّاً؛ وإن قطعنا بوجوب الحكم فيما إذا كان أحد الخصمين مسلماً والآخر ذميّاً، لأن الزوج إذا لاعن خرج عن أن يكون خصماً لها، وما بعد لعانه يتعلق بها على الخصوص؛ فتخرج الصورة عن أن تكون خصومة مسلم وذمّي.

واعلم: أن الرافعي- ها هنا- قد أطلق القول بأنها إذا لم تلاعن نحدّها إذا رضيت؛ على القول بأنه لا يجب الحكم.

ومقتضى ما حكاه ابن يونس في باب "عقد الذمة" عن الأصحاب: أنها لا تحدّ ما لم يحكم الحاكم بالحد، وترضى به بعد الحكم؛ فإنه قال على القول بعدم وجوب الحكم- إذا تراضوا- حكم بينهم، ويشترط إلزامهم بعد الحكم للزومه.

نعم حكى الإمام ثَمَّ إذا حكم حاكمنا- عند رضاهم- نفذَ حكمه، ولا خِيَرَةَ لهم بعد نفوذ الحكم، وهذا يوافق إطلاق الرافعي ها هنا.

قال: وبانت منه؛ لحديث ابن عمر- رضي الله عنهما وهي تحصل ظاهراً وباطناً، وإن كان الزوج كاذباً. وحكى أبو الفرج وجهاً [آخر]: أنها لا تحصل باطناً إذا كان الزوج كماذباً. والمذهب الأول، والفرقة الحاصلة به فرقة فسخ عندنا؛ لأنها تحصل بغير لفظ فأشبهت الردة.

قال: وحرمت عليه على التأبيد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال للعجلاني- لما قال لامرأته بعد اللعان-: "كَذَبْتَ عَلَيْهَا إِنْ أَمْسَكْتَهَا؛ هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثاً، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا"، فنفى السبيل على الإطلاق من غير تقييد؛ فلو لم يكن مؤبداً، لبيّن الغاية، كما بينها- سبحانه وتعالى في تحريم المطلقة ثلاثاً، ولما روى ابن عباس وابن عمر- رضي الله عنهم أنه صلى الله عليه وسلم قال:"الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَداً". وفيه- أيضاً- دلالة على حصول البينونة؛ إذ لو لم تحصل لكان الاجتماع حاصلاً، ولكان له عليها سبيل.

وهذه خمسة أحكام كلها تتعلق بلعانه، ولا تحصل قبل تمامه، ولا شيءٌ منها، ومن

ص: 347

الأصحاب من رَدَّ أحكام اللعان إلى ثلاثة، وأدخل البينونة في لفظ التحريم المؤبد، وقال: انتفاء النسب يختص بما إذا كان ثَمَّ ولدٌ ونَفَاهُ، وليس ذلك حكماً لمطلق اللعان. وهذا ليس باختلاف في الحقيقة، والأولى المذكور أولاً؛ فإن التحريم المؤبد المتفق عليه يحصل عند وجود البينونة باللعان، أما إذا كانت البينونة حاصلة [قبل اللعان كان في التحريم المؤبد] وجهان حكاهما المتولي. ثم كان من حق هذا القائل أن يقول في وجوب الحدّ عليها مثل ما قاله في النسب؛ فإن ذلك يختص بما إذا كان ثَمَّ قذفٌ، [أما إذا لم يكن ثم قذف]: بأن نسبها إلى وطء شبهة أو استكراه على الزنى- حيث يجوز اللعان- فإن لعانه لا يثبت عليها حَدّاً، فليس ذلك حكماً لمطلق اللعان.

فرع: لو كانت الملاعنة أمة، فملكها الزوج فقد ذكرنا في حل وطئها له طريقين:

أحدهما: طرد الخلاف المذكور في المطلقة ثلاثاً إذا ملكها قبل أن تنكح.

والثاني: القطع بعدم الحل.

وذكرنا الفرق.

تنبيه: قد ظهر لك أن اللعان يترتب عليه من الأحكام ما لا يترتب على إقامة البيّنة على زناها؛ فإنه لا يثبت من هذه الأحكام سوى حَدّ الزنى عليها، وأن إقامة البينة يترتب عليها وجوب الحدّ على الزاني [ولا يجب عليه] باللعان؛ فلذلك يُمَكَّن من الإثبات كل واحد منهما.

قال: فإن كان قد سمَّى الزاني في القذف وذكره في اللعان، أي: مثل أن قال: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى بفلان- ويرفع في نسبه- أربع مرات، وكذلك في الخامسة.

قال: سقط عنه ما وجب عليه من حَدّه؛ لقوله- تعالى-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ

} [النور: 6] إلى آخرها، فجعل للزوج الخروج باللعان، ولم يفصل بين أن يرمي رمياً مطلقاً أو مضافاً إلى رجلٍ بعينه، قاله المحاملي، وهو على اعتقاد من ذهب

ص: 348

إلى أن سبب نزول الآيات قصّة عويمر، وأن عويمراً لم يقذفها بمعيّن.

أما من اعتقد أن سبب النزول قصة هلال، فالآية دالة على خصوص المدَّعَى؛ لأن من قال:[إن] العبرة بعموم اللفظ، قطع بدخول السبب في الحكم، ولأن اللعان معنىً يتخلّص به عن قذفها؛ فتخلص به عن قذفه كالبيّنة.

قال: وإن لم يسمِّه- أي: في اللعان- ففيه قولان:

أحدهما: يسقط عنه، ويروي عن "الإملاء" و"أحكام القرآن"، واختاره المزني.

وقال الجيلي: إنه الأصح؛ لأنه أحد الزانيين فسقط حَدُّه باللعان كالمرأة، قال القاضي الحسين: ولأن العجلاني رمى امرأته بِشَرِيك بن السَّحماء، ولم يسمِّه في اللعان، ولم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه: هل يطلب حقه أم لا؟ ولو كان له حق ثابت على العجلاني لأخبره به؛ لأن الإمام إذا عرف حقّاً ثابتاً لواحد وهو لا يشعر به، وجب عليه أن يبعث إليه فيه ويخبره به. وما قاله من أن الإمام يجب عليه أن يخبر بما عرفه من الحق صاحبَهُ قد يُمْنَعُ؛ فإن الإمام حكى في ذلك وجهين.

وبعدم الوجوب قال الشيخ أبو حامد- على ما حكاه البندنيجي- معبراً عن ذلك بأنه: يستحب أن يبعث إليه ويعرفه. وعلى تقدير التسليم- وهو الذي عليه الأكثرون- فذاك مفروض فيما إذا لم يعلم من له الحق به، وهذه الواقعة قد اشتهرت ويبعد خفاؤها عن شريك؛ فلعل ترك الإرسال كان لعلم شريك بذلك.

وقد حكى هو- أيضاً- عن رواية الشافعي في "الإملاء": أنه- عليه السلام سأل شريكاً، فأنكر.

قال: والثاني: لا يسقط، وهو المحكي في الجديد والقديم، على ما حكاه المحاملي وقال: إنه [الأصح]، وعلى ذلك جرى القاضي الروياني والنووي؛ لأنه حَدٌّ يسقط باللعان فكان من شرط سقوطه ذكره كما في جانب المرأة.

وبنى بعضهم القولين على أن وجوب الحدي ثبت أصلاً أو تبعاً لقذف الزوجة؟ فإن قلنا: يثبت تبعاً، سقط عنه تبعاً، وإن جعلناه أصلاً فلا بد من تسميته، ويشهد

ص: 349

للتبعية أنه يكفي طلبها اللعان، ولا تشترط موافقته.

وعلى الأصح: إذا أراد إسقاط الحد أعاد اللعان ويَذكره فيه، قال الإمام: وكذلك الزوجة.

تنبيه: الألف واللام في "الزاني" لبيان الجنس، حتى إن حكم الاثنين فما فوقهما كذلك.

قال: وقيل: إن كان اللعان في نكاح فاسد، لم يحرم على التأبيد؛ لأنه لعان لا يؤثر في التحريم وقطع النكاح، فلا يؤثر في تأبيد الحرمة الذي هو كالفرع والوصف له، وبهذا قال ابن الحداد، وهو يجري فيما إذا لاعنها بعد البينونة بقذف بزنى أضافه إلى حال الزوجية، سواء كان الحِلُّ ثابتاً له في الحال: كما إذا كانت أمة فاشتراها، أو غير ثابت، وفيما إذا لاعن لنفي النسب خاصّة ولو في صلب النكاح، على ما حكاه في "التتمة".

ولو لاعن لدرء حدّ المرمي [بالزنى خاصة]: كما إذا رماها برجل بعينه، وأقرت بالزنى، أو عَفَتْ- ففي "التهذيب" أنه قيل: يتأبد، ويحتمل غيره. هذا لفظه.

قال: وليس بشيء؛ لعموم الخبر، ولأن اللعان معنىً لو وجد في صلب النكاح أوجب التحريم المؤبد؛ فكذلك إذا وجد خارجه كالرضا،. ومحل هذا القول ما إذا كان اللعان لأجل النسب، أما إذا قذفها في النكاح الفاسد، ولاعن لنفي الحدّ، ثم بان أن النكاح كان فاسداً- قال ابن الصباغ: فلا يحرم وجهاً واحداً. ولم يحكِ في "التهذيب" سواه، وفي كلام الرافعي إشارة إلى جريانه- أيضاً- إذا أسقطنا به الحدّ؛ لأنه قال عقيب القول بعدم سقوط الحدّ: وعلى هذا لا يتأبّد التحريم، ولا يثبت شيء من أحكام اللعان.

[قال في "الحاوي": وإذا قلنا بعدم التحريم المؤبد عند الملاعنة في المبتوتة، فهل يجري عليها حكم الطلاق الثلاث حتى لا تحل له إلَّا بعد زوج؟ فيه وجهان].

قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ

ص: 350

تَشْهَدَ} الآية [النور: 8].

قال: فيأمرها الحاكم أن تقول أربع مرات: أشهد بالله [إنه]، أي: إن زوجي، وتسمِّيه أو تشير إليه، والكلام فيه كالكلام المتقدم فيها.

قال: لمن الكاذبين فيما رماني به، أي: من الزنى؛ لأنه المنفيُّ، وتذكر ما رماها به من زنى أو أكبر منه، ولا تحتاج إلى ذكر النسب في اللعان عند الأكثرين؛ غذ لا يتعلق بلعانها، وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنها تقول: وإن الولد ولده. ولم يحك سواه، وه وما حكاه الروياني في "جمع الجوامع" عن حكاية القفال وجهاً.

قال: وفي الخامسة: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ} ؛ للآية [النور: 9]، ويقوم مقام أمر الحاكم فيما إذا كان الزوجان رقيقين لرجل أَمَره به؛ لأنه يملك إقامة الحدّ عليهما فأشبه الحاكم، كذا قاله في "المهذب"[و"الشامل"] وغيرهما.

وفي "التتمة": أن ذلك ينبني على أن السيد هل له سماع البينة على زنى رقيقه؟ وفيه خلاف: فإن قلنا: يسمع البيّنة، فيتولى اللعان، وإلَّا فلا، وهكذا زوج الأمة إذا قذفها ولاعن وأوجبنا الحدَّ عليها، فهل للسيد أن يتولى اللعان في حقها أم لا؟ فعلى هذين الوجهين.

قال: فإذا لاعنت سقط عنها الحدُّ؛ للآية.

قال: وإن أُبْدِل- أي: بضم الهمزة- لفظ الشهادة بالحلف أو القسم، فقد قيل: يجوز؛ لأن اللعان [عندنا يمين، ولفظ الحلف والقسم صريح في اليمين، ولفظ الشهادة] كناية؛ فكان الصريح أولى.

قال: وقيل: لا يجوز، وهو الأصح في "الرافعي"؛ لأن الله- تعالى- أمره بلفظٍ، فإذا أخلَّ به لم يعتقد به؛ كالشاهد إذا أخل بلفظ الشهادة. وأجرى في "التهذيب" الوجهين فيما إذا قال: بالله إني لمن الصادقين، من غير زيادة، وقطع صاحب "التتمة" بالمنع فيه. ويجريان أيضاً فيما لو أبدل لفظ اللعن بالإبعاد، ولفظ الغضب بالسخط.

قال: وإن أبْدَلَتْ لفظ الغضب باللعنة؛ لم يجز. قال الشيخ أبو حامد

ص: 351

والمحاملي والبندنيجي: بلا خلاف؛ لأن المنصوص عليه الغضب، وهو أعظم من اللعن؛ لأن اللعن: الإبعادُ، والغضب يتضمنه وزيادة؛ ولذلك خُصَّ بجانب المرأة؛ لأن جريمة الزنى منها أقبح، من جناية القذف منه؛ ولذلك تفاوت الحدَّانِ. وحكى المسعودي وجهاً: أنه يجوز، وكذلك الغزالي أيضاً.

قال: وإن أبدل الزوج لفظ اللعنة بالغضب، فقد قيل: يجوز؛ لأنه أغلظ، وقيل: لا يجوز- وهو الأصح في "التهذيب"- لأنه عدل عن المنصوص عليه.

قال: وإن قدّم لفظ الغضب أو اللعنة على الشهادة، [لم يجز]، أي: سواء كان [على] جملة كلماتها أو على بعضها؛ لقوله تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [النور: 7]، {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور: 9] فشرط اللعن والغضب في الخامسة؛ فإذا أتى بهما قبل ذلك لم يعتد به.

قال: وقيل: يجوز؛ لأن المقصود من اللعان التغليظ، وقد حصل.

قال: والأول أصح. وادّعى البندنيجي أنه المذهب؛ لأن اللعن والغضب لكونه من الكاذبين فيما شهد به، وذلك يتأخر عن الشهادة.

قال القاضي الحسين في "التعليق": وأصل هذه المسائل كلها أن المراعي في اللعان اللفظ، ونظم التنزيل، أو المراعى فيه المعنى؟ فعلى وجهين: إن راعينا نظم التنزيل فلا يجوز أن يأتي بغيره، وإلَّا فيجوز.

قال: وإذا لاعنت المرأة قبل الرجل لم يعتد به؛ لأن لعانها لدرء الحدّ عنها، وذلك يجب بلعان الزوج؛ فلم يصح لعانها قبله، ولأ، اللعنا إما يمين وإما شهادة، وكلٌّ منهما إذا تقدّم على وقته، لم يعتد به. وهذا كله في كيفية لعان الناطق، أما الأخرس فيلاعن بالإشارة، فإن لاعن بالكتابة فيكتب كلمة "الشهادة" وكلمة "اللعن" أو "الغضب"، ويشير إلى كلمة "الشهادة" أربع مرات، وإلى الكلمة الأخرى مرة، ولا يكلّف أن يكتب [كلمة]"الشهادة" أربع مرات، وهذا الطريق الأخير فيه جمع بين الكتابة والإشارة، وهو جائز، لكن قضية التصحيح بالكتابة المجردة أن يكرر كتابة

ص: 352

كلمة "الشهادة" أربع مرات، هكذا حكاه الرافعي، وحكى [عن] الإمام بعد نقل المذهب في صحة لعان الأخرس أنه قال: ويختلج إشكال في الصدر في تأدية كلمات اللعان، لاسيما إذا عينا لفظ "الشهادة"؛ لأن الإشارات لا ترشد إلى تفصيل الصيغ. قال: والذي ينقدح في وجه القياس: أن كل مقصود لا يختص بصيغة فلا يمنع إقامة الإشارة مقام العبارة، وما يختص بصيغة مخصوصة فيغمض إعراب الإشارة عنها، ولو كان في الأصحاب من يشترط في الأخرس الكتابة إن كان يحسنها، أو يشترط من ناطق أن ينطق بها ويشير إلى الأخرس ويقول: يشهد كذا، ويقرره الأخرس بالإجابة- لَقَرُبَ بَعْضَ القُرْبِ، فأما الإشارة المجردة فلا يهتدي إلى دلالتها على صيغة [مخصوصة]. وما تمنى أن يكون في الأصحاب من يقول به، حكاه في "البسيط" عن بعض الأصحاب، وهو كالمنفرد بالقول وينقله عن غيره.

قال: والمستحب أن يتلاعنا من قيام، أيك يقوم الرجل عند لعانه والمرأة جالسة، ثم تقوم المرأة عند لعانها ويجلس الرجل، والدليل على اعتبار ذلك: ما روى ابن عباس- رضي الله عنهما في قِصّة هلال بن أمية أنه قام فشهد، ثم قامت فشهدت. ولأن المقصود من اللعان الردعُ والزجر عن اليمين الفاجرة؛ فإذا لاعن قائماً كان أبلغ في الردع والزجر، ولا يجب ذلك؛ لأن اللعان إما يمين أو شهادة، وليس القيام واجباً في واحد منهما.

وفي "التتمة": أنه إذا لاعن وهو قاعد، لا يعتد به إلَّا أن يكون عاجزاً، واستدل عليه بقوله- عليه السلام لهلال:"قُمْ وَاشْهَدْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ". وفي "تعليق" القاضي الحسين ما يرشد إليه أيضاً؛ فإنه قال: يؤمر أن يلاعن قائماً، فإن عجز فقاعداً كما في الصلاة.

قال: فإذا بلغ الرجل إلى [لفظ] اللعنة أو المرأة الغضب، استحب [للحاكم أن يقول]: إنها- أي: اللفظة الخامسة- موجبة للعذاب، أي: في الدنيا، وعذاب

ص: 353

الدنيا أهون من عذاب الآخرة، أي: فاتَّق الله، و [إني] أخشى إن لم تكن صادقاً أن تبوء بلعنة الله. ويقرأ عليه:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} الآية [آل عمران: 77].

قال: ويأمر رجلاً أن يضع اليد على فيه، ويأمر امرأة أن تضع اليد على فمها، أي:[إن لم ينزجر] بالوعظ، ثم يعيد الوعظ عند وضع اليد على الفم. قال: فإن أبَيَا، أي: إلا إتمام اللعان، تركهما، روى نحواً من ذلك ابن عباس في قصة هلال. ويستحب أيضاً أن يعظمها قبل اللعان؛ لما روى ابن عباس- رضي الله عنهما أنه- عليه السلام في قضية هلال فعل ذلك. وأن يذكر لهما عند اللعان لنفي النسب قوله- عليه السلام:"أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَلَيْسَتْ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ، وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللهُ الْجَنَّةَ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، احْتَجَبَ اللهُ مِنْهُ وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ"، والمعنى في قوله:"وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ" لأنه في حالة النظر إليه يكون أرق وأشفق عليه، فإذا جحده ونفاه كان أبلغ في هتك الحرمة وارتكاب الجريمة، وما روى في حديث المعراج أنه صلى الله عليه وسلم:"رَأَى نِسْوَةً مُعَلَّقَاٍ بِثُدِيهِنَّ، فَسأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ حَالِهِنَّ، فَقَالَ: إِنَّهُنَّ اللاتِي أَلْحَقْنَ أَزْوَاجَهُنَّ مَن لَيْسَ [مِنْهُنَّ"، وقال- عليه السلام:"اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ] مِنْهُمْ؛ فَأَكَلَ جَرَائِبَهُمْ، وَنَظَرَ إِلَى عَوْرَاتِهِمْ".

ص: 354

والجرائب: جمع "الجريبة"، وهي الحمال النفيس الذي يقصد بنفاسته، وعني به المواريث والنفقات.

قال: ويلاعن بينهما بحضرة جماعة، أي: من أعيان البلد وصلحائه؛ لأن ذلك [تعظيم للأمر].

وقد حضر اللعان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد- رضي الله عنهم مع حداثة سنهم، والصبيان لا يحضرون المجالس إلَّا تابعين للرجال؛ فيدل على أنه قد حضر جماعة من الرجال فتبعهم الصبيان، ولأن اللعان مبني على التغليظ للرّدع، وجعله في جماعة أبلغ في الردع.

قال: أقلهم أربعة؛ لأن اللعان سبب للحدّ، ولا يثبت الحدّ إلَّا بأربعة؛ فاستحب أن يحضر ذلك العدد، [ومن هذا يظهر لك اعتبار كونهم من أهل الشهادة عُدُولاً؛ كما قاله الماوردي].

واستدل بعضهم على ذلك بقوله- تعالى-: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، ولا دلالة فيها؛ فإن الإمام حكى في هذا الباب عند الكلام في اللعان في الحدّ أن معظم المفسرين قالوا: المراد بهم شهود الزنى؛ فلعل الغرض أن يعاينوا ذلك، فإن كان ثم ريب رجعوا إذا عاينوه.

قال: ويلاعن بينهما بعد العصر؛ لأن القصد من اللعان الزجر والردع؛ فاعتبر فيه الوقت الذي تكون اليمين فيه أغلظ؛ وهو بعد العصر، قال الله- تعالى-:{تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106]، ولقد أجمع المفسرون- على ما حكاه ابن يونس- أن المراد بالصلاة: صلاة العصر. وروى أبو هريرة

ص: 355

أنه- عليه السلام قال: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]- وَعَدَّ مِنْهُمْ-: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بَعْدَ الْعَصْرِ: لَقَدْ أُعْطِيَ بِسِلْعَتِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ". وحكى الإمام أن عمر كُتِبَ إليه في جارية ادّعِيَ عليها القذف، فأنكرت، فكتب في الجواب: أخِّروها إلى بعد صلاة العصر، ثم حَلِّفوها، ففعل فاعترفت.

وهذا إذا كان ثم طلبٌ حاثٌّ، فإن لم يكن قال القفال وغيره: تؤخّر إلى يوم الجمعة؛ فإنه أعظم في النفوس لأجل الساعة التي فيه.

قال: فإن كان بمكة، لاعن بين الركن والمقام؛ لأن شرف المكان الذي يقع فيه اللعان مطلوب؛ لأن اليمين تكون فيه أغلظ؛ فيحصل مقصود اللعان: وهو الزجر والرَّدْع، وذلك يختلف باختلاف الأماكن؛ فإن كان بمكة لاعن بين الركن والمقام- كما قال الشيخ-[وهو المسمى بالحطيم]؛ لأنه أشرف البقاع فكان اللعان فيه أغلظ، والدليل عليه: ما روى أن عبد الرحمن بن عوف رأى قوماً يحلفون بين الركن والمقام، فقال: على دمٍ؟ فقالوا: لا، قال: فعلى عظيم من المال؟ قالوا: لا، قال: لقد خشيت أن يَبْهَأَ الناس بهذا المقام. وروى عن القفال: أنه يلاعن في الحِجْر.

قال: وإن كان بالمدينة، فعند منبر النبي صلى الله عليه وسلم وهذا قول الشافعي في [غير]"المختصر"، وبه قال أبو علي بن أبي هريرة، وهو الصحيح في "التتمة"، ووجهه: ما روى عن أبي هريرة- رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ حَلَفَ عِنْدَ مِنْبَرِي عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ [وَلَوْ بِسِوَاكٍ، وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ".

فإن قيل: فقد روى جابر أنه- عليه السلام قالك "مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ]، تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"، وهذا يدل على شرف المنبر، فهلا قلتم

ص: 356

باللعان عليه؟ وقد روى أن الشافعي- رضي الله عنه قال في موضع آخر: يلاعن على المنبر، ويعضده ما روى أنه- عليه السلام لاعن بين العجلاني وامرأته على المنبر.

فالجواب: ما قاله أبو علي بن أبي هريرة-: أن الصعود على المنبر علوٌّ وشرف، والملاعن ليس في موضع العلو والشرف، وما روى أنه صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته على المنبر- محمولٌ على أنه- عليه السلام كان على المنبر دونهما، ويؤيده: ما روى المتولي عن عبد الله بن جعفر أنه- عليه السلام لاعن بين العجلاني وامرأته عند المنبر. وقوله- عليه السلام: "عَلَى مِنْبَرِي" محمول على معنى: عند منبري، كما رواه أبو هريرة؛ لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، وعلى ذلك حمل نص الشافعي.

ووراء هذا القول وجوه أُخَر:

أحدها: أنه يلاعن بينهما على المنبر كما حكى عن نص الشافعي في موضع آخر؛ لحديث جابر والعجلاني وإجرائهما على ظاهرهما، وهو الذي صحّحه صاحب "التهذيب"، وفي كتاب القاضي ابن كج [حكاية] طريقة قاطعة به.

والثاني-[حكاه الماوردي-: أن الحاكم مخيّر بين أن يلاعن بينهما عند المنبر أو عليه.

والثالث-] قاله أبو إسحاق-: إن كان الخلق كثيراً لاعن على المنبر، وإلَّا فعند المنبر، وحمل اختلاف نص الشافعي في ذلك على هذين الحالين، ونفى أن يكون في المسألة خلاف، وحكى البندنيجي أنه المذهب، وقال المحاملي: إنه الأصح.

قال: وإن كان ببيت المقدس، فعند الصخرة؛ لأنه أشرف البقاع به، [وهذا قول أبي القاسم الصيمري وابن القطان، وحكى الماوردي عن الشيخ أبي حامد وطائفة: أنه

ص: 357

يكون على المنبر أو عنده؛ لأنه أخص بالشهرة] قال: وإن كان في غيرها من البلاد، ففي الجوامع؛ لأنها أشرف البقاع.

قال: عند المنبر أو على المنبر، كما قلنا في المدينة، وقد حكى ذلك- أيضاً- القاضي الحسين في "التعليق"، وقال ابن الصباغ: لا يختص بالمنبر؛ لأنه لا مزية لبعض الجامع على بعض، ويخالف المدينة؛ فإنه- عليه السلام قال:"بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ"، وهو قضيّة ما حكاه في "المهذب" و"المجموع" للمحاملي "وتعليق" البندنيجي. وفي "التتمة": أنّا إذا قلنا في المدينة: إنه يصعد على المنبرن فكذلك في غيرها، وإن قلنا: يلاعن عند المنبر، ففي غيرها وجهان.

فإن قيل: جزم الشيخ فيما إذا كان بالمدينة أنه يلاعن عند المنبر، وها هنا قال:"عند المنبر أو على المنبر"، وذلك يقتضي إما التخيير وإما التنويع باعتبار حالة الكثرة والقلة، والحكم في الصعود على المنبر في المسألتين واحد عند الأصحاب؟ فالجواب: أن ما ذكره الشيخ ها هنا يجوز أن يريد به التنبيه على أن الحكم في مسألة المدينة كذلك [كما حكيناه وجهاً، وأشار إليه الماورديب قوله: ويكون عند المنبر وعليه- على ما مضى]. على أني رأيت في بعض نسخ "الشرح" لابن يونس حكاية لفظ الشيخ فيه كلفظه في غير المدينة، ويجوز أن يكون ترجح عنده قول أبي علي بن أبي هريرة في المدينة؛ لأن منبر النبي صلى الله عليه وسلم موضع شريف، وأحد المتلاعنين كاذب في يمينه قطعاً؛ فنزه عن صعود الكاذب إليه، وليس لغيره من المنابر مثل هذا الشرف، ومما يعضد اعتبار ذلك: أن أبا بكر الصديق- رضي الله عنه كان لا يقف في الموضع الذي [كان] يقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم، [وعمر- رضي الله عنه كان لا يقف في الموضع الذي كان يقف فيه أبو بكر]، بل نزل كل منهما عن موقف الآخر درجة؛ لما ذكرناه من الشرف، مع إمكان تحصيل المقصود، وعثمان- رضي الله عنه لما لم يمكنه تحصيل المقصود مع مراعاة هذا الشرف- لم يفعله، والله أعلم.

قال: وإن كان أحدهما جنباً لاعن على باب المسجد؛ لأنه أقرب إلى الموضع

ص: 358

الشريف، والحائض بذلك أولى، وهذا إذا رأى الإمام تعجيل اللعان، فلو رأى تأخيره إلى انقطاع الدَّم والاغتسال جاز، قاله المتولي. وهو في الجنب من طريق الأولى، بل [لو] قيل بوجوبه على القول بأن التغليظ [بالمكان واجب، لم يبعد؛ لقرب مدته.

قال: وإن كانا ذميين، لاعن بينهما في المواضع التي يعظمونها، وهي: الكنيسة لليهود، والبِيعة للنصارى، وبيت النار للمجوس؛ لأن ذلك عندهم كالمساجد عندنا، ولأن القصد تعظيم الواقعة وزجر الكاذب عن الكذب، وذلك في الموضع الذي يعظمه الحالف أبلغ.

وقيل: لا يأتي الحاكم بيت النار، وبه قال القفال، وهو الأصح في "تعليق" القاضي الحسين؛ لأنه لم يكن له حرمة في شريعة قط، بخلاف البِيعة والكنيسة. وعلى هذا: فيلاعن بينهما في المسجد أو في مجلس الحكم، والأول أظهر في "الرافعي"، ودخول الحاكم هذه المواضع ليس للتعظيم؛ فلا جَرَمَ لم يحرم.

ولو كان الزوج مسلماً والزوجة ذميّة، لاعن كل واحد منهما في الموضع الذي يلاعن فيه لو كانا من ملة واحدة، فإن قالت: ألاعن في المسجد، ولم يرضَ الزوج بذلك- لم تُجَب إليه، وإن رضي به جاز. وكذلك يجوز أن يتلاعن الذميان في المسجد إلّا المسجد الحرام، وإن كانا جُنُبَيْنِ، أو كانت المرأة قد انقطع حيضها، أو لم ينقطع وتحفظت- على أحد الوجهين في الجميع، كما حكاه البندنيجي، وفي "الرافعي": أنه أظهر في الجنب، وهو ما جزم به الغزالي في ["الوجيز"].

تنبيه: تقييد الشيخ هذا النوع من التغليظ بالذميين يعرفك أن من لا تعقد له الذمة من الكفار الذين لا يقتلون- كالوثنيين- إذا دخل علينا بأمان أو هدنة، مخالفٌ

ص: 359

لأهل الذمة فيه، وقد صرّح الأصحاب بأنه يلاعن بينهما في مجلس الحكم، ولا يأتي بيت الأصنام؛ لأنه لا أصل له في الحرمة، واعتقادهم غير مَرْعِيّ، [وفيه نظر].

[وبعضهم صرّح في باب "موضع اليمين" من كتاب "الأقضية" بأن دخول بيت الأصنام معصية، وعلى ذلك جرى الماوردي ثَمَّ. وقد صرحوا] بأن ما عدا هذا النوع [من التغليظ] حكمُ أهل الذمة فيه كالمسلمين، [كما صرح به البندنيجي وغيره].

[وقال الماوردي: إنه يلاعن بين أهل الذمة، بعد الصلوات التي يُعَظِّمونها].

فرع: الزنديق هل يغلظ عليه بالوجوه المذكورة؟

فيه وجهان:

يوجه أحدهما: بأنه لا يعظِّم بقعة ولا زماناً؛ فلا يؤثر التخصيص في زجره.

والثاني: يغلظ عليه؛ لتناله عقوبة اليمين الفاجرة بصفة التغليظ؛ كما أنه يغلظ عليه في أصل التحليف بالله- تعالى- وإن كان لا يعظم اسم الله- تعالى- ولا يعرفه. وهذا أظهر عند الغزالي.

والذي ذكره الأكثرون: أنه لا يغلظ عليه المكان ويلاعن في مجلس الحكم، وهو المنصوص. وإذا لم يغلظ بالمكان ففي الزمان والجمع أولى، ويخالف التغليظ بأصل اليمين؛ فإن الأحكام المتعلقة باللعان موقوفة على ذلك، وحكم الدَّهْري حكم الزنديق.

قال: فإن ترك التغليظ بالزمان والجماعة جاز، قال الشيخ أبو حامد: كما لو ترك التأكيد في سائر الأيمان.

وقال الجيلي: لعدم وجوب ذلك بالإجماع. وفيه نظر؛ لأن بعض المراوزة حكى في ذلك قولين؛ فكيف يمكن دعوى الإجماع مع ذلك؟!

قال: وإن ترك التغليظ بالمكان ففيه قولان:

ص: 360

أحدهما: أنه يستحب، وهو الأصح، وعن [ابن القاص] القطع به كالزمان والجماعة.

والثاني: أنه واجب؛ لأن اللعان في عصره صلى الله عليه وسلم كذا جرى؛ فأشبه العدد. وفي "النهاية" حكاية طريقة في أن القولين في التغليظ بالزمان والمكان دون الجماعة، وهي التي صدَّر بها كلامه، وبها جزم القاضي الحسين في "التعليق".

وقال الرافعي: إنها أظهر، وإن القطع-[أي: طريقة القطع باستحباب الجماعة]- أظهر.

قال: وإن تلاعنا، ثم قذفها أجنبي، حُدَّ، أي: سواء كان بتلك الزنية التي قذفها الزوج بها أو غيرها؛ لما روى الترمذي عن ابن عباس- رضي الله عنهما أنه- عليه السلام لاعن بين هلال وامرأته، وقضى "أَلَّا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ، وَلَا تُرْمَى، وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا؛ فَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ".

ولأن اللعان لا يسقط عن الأجنبي حد القذف به؛ فلا يسقط إحصانها في حقه به، وقيل: إذا قذفها بتلك الزنية ففيه خلاف، والظاهر وجوبه.

أما إذا لاعن الزوج دونها، ثم قذفها الأجنبي- ففيه وجهان:

أحدهما- حكاه الداركي-: أنه لا يحدّ؛ لأنه قد ثبت زناها بلعان الزوج فكان كما لو قامت البينة على زناها.

والثاني: أنه يجب؛ لما ذكرناه. [وهذا ما قال به عامة الأصحاب كما هو في "شرح الفروع"]، وقد يحكي هذا عن ابن سلمة، ونسبه الشيخ في "المهذب" إلى

ص: 361

ابن سريج، والأول إلى أبي إسحاق كما حكاه القاضي أبو الطيب، ووافقهما على ذلك القاضي الروياني. ونسب الشيخ أبو حامد- على ما حكاه الرافعي- الأول إلى ابن سريج، والثاني إلى أبي إسحاق، وكذلك البغوي، وخص محل الخلاف بما إذا قذفها بالزنية التي قذفها بها الزوج، أما إذا كان بغيرها فيجب، ولم يحك سواه، وكذلك الرافعي وقال: إن وجه الوجوب أصح، وإن نسبة الشيخ أبي حامد أثبت.

قال: وإن قذفها الزوج- أي: بعد تلاعنهما بزنىً آخر- عُزِّر، ولم يلاعن على المذهب، أي: عزر على المذهب ولم يلاعن؛ لما سنذكره، وقد جاء مثل ذلك في قوله تعالى:{فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 5] وتقديره: أحوى غثاء.

وفي "الجيلي" و"الخلاصة" و"مختصر" الجويني ما يدل على أن الخلاف في التعزير [أو] اللعان؛ إذ قالا: فهل يلاعن أو يحد؟ فيه خلاف.

والمشهور ما ذكرناه، ووجه المذهب: أن اللعان في حقه كالبينة في حقها وحق الأجنبي، ولو أقام البينة ثم قذفها لم يحد؛ لأن حصانتها سقطت؛ فكذلك في اللعان مثله. ويجب عليه التعزير للأذى والسب.

ووجه مقابله- وهو جوب الحدّ-: أن اللعنا وإن كان حجة للزوج فإنما تسقط به حصانتها في الحالة التي يوجد فيها اللعان وما بعدها، فأما قبل ذلك فحصانتها باقية، فإذا رماها بزنىً في تلك الحالة، لزمه الحدُّ، ويفارق البينة؛ لأنها تسقط الحصانة سقوطاً عامّاً، واللعان يسقطها سقوطاً خاصّاً، كذا قاله المحاملي، ومقتضاه: أنه إذا أضاف الزنى إلى ما بعد اللعان لا يحد، وأن محل الخلاف ما إذا أضافه إلى ما قبل اللعان، وقد صرّح به في أصل المسألة، وكذلك البندنيجي، وزاد: وأن يكون في حالة الزوجية.

وفي "التتمة": أن الخلاف مطرد في القذف بزنىً متأخر عن اللعان، وفي الزنى المتقدم على النكاح.

قال الرافعي: ووجوب الحدّ في الزنى المتقدم على اللعان أظهر؛ لمصادفته حال

ص: 362

الحصانة. وهذه طريقة القاضي أبي الطيب، وعليها جرى [القاضي الروياني والبغوي، وجزم ابن الصباغ بوجوب الحد، وهو الذي رجحه] أبو علي والمتولي مع القول بإثبات الخلاف، وقال الرافعي: كأنه أقرب. وعن القفال وأبي علي والصيدلاني من أصحابه: أن وجب الحَدّ هو القديم.

أما إذا لاعن الزوج دونها ففي "المهذب" و"الشامل" و"التهذيب": أنه لا يجب الحد، ولم يذكروا سواه، ويجب التعزير للسب والأذى. وحكى الغزالي وغيره خلافاً فيه، والظاهر وجوب التعزير دون الحَدّ.

[ثم] هذا كله فيما إذا قذفها بغير ما رماها به أولاً، أما إذا كان القذف بالأول فلا يجب إلَّا التعزير، وأما كونه لا يلاعن، سواء قلنا بوجوب الحدّ أو التعزير؛ لأن القذف لم يكن به حاجة إليه؛ لأنه لا نسب فينفيه ولا زوجيَّة فيقطعها؛ فلم يكن له تحقيق ذلك باللعان، كما لو قذفها بعد البينونة ولا نسب.

قال: وإن أكذب الزوج نفسه، أي: في أيمانه- حُدَّ إن كانت محصنة، وعُزّر [إن كانت غير محصنة، ولحقه النسب؛ لأنه حق عليه فلزمه] بتكذيبه نفسه، بخلاف عودالفراش وزوال التحريم، فإنه حق له وقد بطل؛ فلا يتمكن من إعادته بتكذيبه نفسه، وهكذا الحكم في الأخرس إذا لاعن بالإشارة، ثم انطلق لسانه وقال: لم أرد اللعان بإشارتي، فيقبل قوله فيما عليه من لحوق النسب ووجوب الحدّ، ولا يقبل قوله فيما له حتى ترتفع الفرقة والتحريم المؤبد، ولكن له أن يلاعن في الحال؛ لإسقاط الحد ولنفي النسب- أيضاً- إذا لم يمض من الزمان ما يسقط فيه حق النفي. ولو قال: لم أرد القذف أصلاً، لم يقبل قوله.

فرع: الناطق إذا أكذب [نفسه] هل يسقط عن المرأة حدّ الزنى؟ لم أَرَ فيما وقفت عليه من كتب الأصحاب تصريحاً به، غير أن الإمام ذكر في تعليل القول بأنها لا ترجم في الحرّ والبرد إذا ثبت ذلك باللعان- أن الملاعن قد يكون كاذباً، ثم

ص: 363

يشاهد المرجومة؛ فيرثى لها، ويرى تعرُّض نفسه [لحد الزنى] أهون؛ لما يتداخله من الرقة عليها. وهذا يدل على أن الحدّ يسقط، وإلَّا لم يكن للتعليل بذلك معنىً.

قال: وإن أكذبت المرأة نفسها، أي: في يمينها. حُدَّت حد الزنى؛ لأنه لا يتعلق بلعانها أكثر من سقوطه، وهو حق عليها؛ فعاد بتكذيبها نفسها، والله أعلم.

فروع:

لو ادعت المرأة على زوجها القذف، فأنكر، ثم قامت البينة عليه بالقذف- فله أن يلاعن لإسقاط الحدّ إن أبدى تأويلاً، وإلّا فوجهان، الذي حكاه العراقيون منهما- على ما قاله ابن الصباغ-: أنه يلاعن، وادعى المحاملي نفي الخلاف فيه، وكيفية لعانه أن يقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما أتيت على من رميت إيّاها بالزنى، وإن كذبته البينة، فيه وجهان.

قال ابن الصباغ: ولا معنى لهذين الوجهين؛ فإنه لا يتغير الحكم بذلك.

وفي "المجموع" للمحاملي: أنا إذا قلنا: إنه أكذب نفسه، فإنما يلاعن لقذف مجدد وهو فائدة.

وقد اختلف الأصحاب في التأويل المراد:

فمنهم من قال: المراد به أن يقول: القذف هو القول المحرَّم، وأنا قد صدَقْتُ عليها ولم أقل محرماً. وقال آخرون: بل المراد أن يقول الزوج: ما قذفتها، ولكن بعد أن أقامت البينة عليّ وطالبتني بالحد ألاعنها؛ لأنها زانية. ولا يلزم من إنكار قذفها ألَّا تكون زانية.

وقيل: المراد به أن يقول: أنا ألاعن وأحقق بلعانها ما قامت على البينة بأني [قد] نسبتها إليه؛ لأن قوله: ما قذفتها، لا ينافي لعانه ولا تكذيب نفسه؛ لأنها قد

ص: 364

تكون زانية مع إنكاره قذفه إياها.

ولو لم يقل شيئاً من ذلك، لكن ادّعت عليه أنه [قال لها: يا زانية، فقال: ما قلت لها، وما هي بزانية- لم يكن له أن يلاعن؛ لأنه] قد اعترف أنها غير زانية فال يمكنه أن يلاعن على ضدّ ذلك، اللهم إلّا أن يمضي بعد الإقرار بأنها لم تَزْنِ زمانٌ يمكن تقدير الزنى فيه، وعليه يحمل ما روى عن القاضي من جواز اللعان.

وإذا لاعن فهل يسقط عنه الحدُّ الذي قامت عليه البينة؟ حكى الإمام فيه خلافاً.

ولو أقيم [عليه] بعض الحدّ؛ فقال: أنا ألاعن- فله ذلك، وإن كان قد امتنع من اللعان لشائبة الشهادة، وإلَّا فاليمين لا يمكن العود إليها بعد النكول، وكذلك إذا أقيم على المرأة بعض الحدّ؛ فقالت: ألاعن- مكنت منه، والله أعلم.

***

ص: 365