الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق
قال: ومن تزوج بامرأة، فأتت بولدٍ يمكن أن يكون منه- لحقه نسبه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ" خرجه مسلم.
قال: ولا ينتفي عنه إلّا باللعان.
أما انتفاؤه باللعان؛ فلما ذكرناه من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما.
وأما عدم انتفائه بغيره- وهو دعوى الاستبراء والحلف عليه- فلأن الشرع لم يرد به، وقياسه على فراش الموطوءة بملك اليمين لا يمكن، لقوته وضعف فراش الملك؛ [فتعين ما ذكرناه.
وهذا إذا كان التزويج صحيحاً، أما لو كان فاسداً فهل يلحقه بمجرد العقد كما في الصحيح، أو يتوقف لحوقه له على إقراره بالوطء كما في] ملك اليمين؟ فيه خلاف، المذكور منه في "التتمة"، وإليه يرشد كلام الشيخ في الباب قبله- الثاني.
وإذا احتجنا إلى الإقرار بالوطء فهل ينتفي الولد بدعوى الاستبراء كما في ملك اليمين، أو لا ينتفي إلا باللعان؟ فيه خلاف، والظاهر: الثاني، وهو الذي حكاه الشيخ في الباب قبله، وقد حكى ذلك الرافعي قبل الباب الثاني من العِدَد.
تنبيه: يندرج تحت كلام الشيخ ما إذا كانت الزوجة أمة، ثم استبرأها الزوج، وأتت بولدٍ يمكن أن يكون من النكاح ومن ملك اليمين. وقد حكى الفوراني: أنه إن ادّعى الاستبراء بعد الوطء فالقول قوله، والولد منفيٌّ عنه، وإن لم يَدَّعِهِ بعد الوطء ونفى الولد فهل له اللعان؟ فيه قولان. وفي "الرافعي": أنهما جاريان مع كون الولد ملحقاً بملك اليمين، والذي جزم به في "الوسيط" منهما: أنه لا يلاعن، وحكى الشيخ أبو علي وجهاً فيما إذا ادّعى الاستبراء بعد الوطء: أنه يلحقه بحكم النكاح، ولا ينتفي إلّا
باللعان؛ لقيام الإمكان وامتناع الإلحاق بالملك.
فائدة: زمن الإمكان تستفاد معرفته من كلام الشيخ في تصوير عدم الإمكان؛ لأن أحد النقيضين إذا عُلِمَ لزم منه معرفة النقيض الآخر.
قال: وإن لم يمكن أن يكون منه بأن يكون له دون عشر سنين، أو كان مقطوع الذكر والأنثيين جميعاً، أو أتت به امرأته لدون ستة أشهر من حين العقد، أو أتت به مع العلم بأنه لم يجتمع معها، أي: كما إذا طلقت [عقيب] النكاح، أو كان بينهما مسافة لا يمكن معها الاجتماع من حين العقد إلى إمكان العلوق بذلك الولد، أو أتت به لأكثر من أربع سنين من حيث اجتمع معها، أي: من آخر اجتماعه معها، مع وجود الغيبة التي لا يمكن معها الاجتماع، كما ذكرنا.
قال: انتفى عنه من غير لعان؛ لأن اللعان إما يمين وإما شهادة، وكل منهما جعل لتحقق ما يجوز أن يكون، و [يجوز] ألا يكون، فتحقق أحد الجائزين، وها هنا لا يجوز أن يكون الولد له؛ فلا يحتاج في نفيه إلى اللعان، وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون منه؛ لأنه في بعض الصور المذكورة معلوم، وفي بعضها دَلَّ الاستقراء عليه.
ووراء ما ذكره الشيخ أمور أخر لا غنى عن ذكرها؛ لتعلقها بما نحن فيه:
حكى الإمام الرافعي في كتاب "العِدَد" خلافاً عن "بحر الذهب" في أن المرأة إذا أتت بولدٍ لأكثر من أربع سنين من حين اجتمع معها هل ينتفي عنه من غير لعان؟
ونقل الإمام عن العراقيين أنهم حكوا عن الإصطخري أنه قال فيما إذا كان مقطوع الذكر والأنثيين جميعاً: إنه يلحقه، ولا ينتفي عنه إلَّا باللعان. وكذلك حكاه عنه وعن الصيرفي وعن أبي عبيد بن حربويه، والماوردي وقال: حكى أن أبا عبيد قلد قضاء مصر، فقضى في مثل هذا بلحوق الولد؛ فحمله الخصيُّ على كتفه وطاف به في الأسواق وقال: انظروا هذا القاضي يلحق أولاد الزنى بالخدم، هكذا حكاه في كتاب العدد، وإلى ما ذهب إليه هؤلاء ذهب القاضي أبو الطيّب والصيدلاني- أيضاً- على ما حكاه الإمام.
وقال القاضي الحسين: إنه المذهب، وعليه نص في كتاب العدد، وكأنهم تمسكوا بما رواه المزني في "المختصر"؛ حيث قال: ولو كان بالغاً مجبوباً كان له أن ينفيه باللعان. وأعرضوا عن روايته في "الكبير": أنه لا يلحقه. وهي رواية الربيع.
وقال القاضي أبو حامد: إن استدَّت ثقبه المنى، انتفى عنه من غير لعان، وإن لم تستدَّ لم ينتفِ إلّا باللعان؛ لأنه يمكنه الإنزال. وحمل الروايتين على هذين الحالين، والصحيح ما قاله أبو إسحاق، وهو حمل رواية المزني على ما إذا قطع أحدهما- كما حكاه عنه البندنيجي والمحاملي- وعلى ما حكاه الرافعي عنه فيما إذا كان مجبوب الذكر باقي الخصيتين، وحمل رواية الربيع على ما إذا قطعتا- كما ذكره الشيخ- لأنه يستحيل أن يُنْزِل مع قطعهما، وإن أنزل فهو ماء رقيق لا ينعقد منه الولد.
وفي "التتمة" حكاية وجه فيما إذا كان مقطوع الخصيتين: أنه لا يلحقه أيضاً.
وقال الفوراني فيه: يُرى لأهل الخبرة والأطباء ويعمل بقولهم.
وفي "الزوائد": أن القاضي أبا الطيب حكى عن بعض أصحابنا: أنه إذا كان مسلول البيضة اليمنى لا يلحقه؛ لأن من ليست له لا يُنْزِل.
وحكاه عنه الرافعي- أيضاً- عند الكلام في عدّة الحمل، وقال: إن البيضة اليسرى للشعر. وإن الروياني نقل في "جمع الجوامع" أن ابن الحداد كان كذلك وكان له لحية طويلة وكان لا ينزل.
واعلم أن قول الشيخ: "بأن يكون له دون عشر سنين"، موافقٌ للفظ الشافعي- رضي الله عنه وقد اختلفت عبارات النقلة فيه:
فالذي حكاه ابن الصباغ إجراء اللفظ على ظاهره، وأنها إذا أتت بولدٍ وله دون عشر سنين، لا يلحقه، وإن أتت به وله عشر سنين يلحق به، ويشهد لذلك ما حكاه الماوردي: أن عمرو بن العاص وُلِدَ له ابنه عبد الله وهو ابن عشر سنين.
والذي حكاه راوياً الشيخ أبي حامد المحاملي والبندنيجي-: أن مراد الشافعي بدون العشر: أن يأتي به لدون تسع سنين وستة أشهر، أما إذا أتت به لذلك أو فوقه لحقه، ولا ينتفي إلَّا باللعان.
وحكى الشيخ في "المهذب" الوجهين، وضعف ابن يونس الثاني بأن النبي صلى الله عليه وسلم
علق الضرب بترك الصلاة والتفريق في المضاجع بالعشر؛ فدل على أن البلوغ لا يتحقق بما دون ذلك، وصححه البغوي والقاضي الروياني.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنها إن أتت به وكان ابن دون عشر سنين، فهو منتفٍ عنه بغير لعان. وإن كان ابن عشر سنين وستة أشهر وساعة لحقه. وإن كان ابن عشر سنين، فوجهان:
أحدهما: لا يلحقه حتى يكون قد مضى من الحادية عشرة ستة أشهر وساعة، وهذا الخلاف عنده ينبني على خلاف حكاه في أنه لو احتلم في العشر قبل استكمالها: هل نحكم ببلوغه كما لو احتلم بعد استكمالها أم لا؟ وكذلك بناء الإمام، لكنه لم يذكر الساعة بعد الأشهر.
وحكى عن الفوراني وجهاً: أن البلوغ يحصل بالاحتلام في أثناء السنة التاسعة، وبنى عليه- أيضاً- لحوق النسب، وهو محمول على مضي ستة أشهر منها، كما صرّح به في "الإبانة"، وحكاه المسعودي- أيضاً- مع وجه آخر: أنه يعتبر [مضى] تسع سنين وستة أشهر وساعة الوطء.
وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه في قدر المدة التي إذا انتقص عمر الزوج عنها لا يلحقه النسب ستة أوجه: عشر سنين وستة أشهر وساعة، عشر سنين وستة أشهر، عشر سنين، تسع سنين وستة أشهر وساعة، تسع سنين وستة أشهر، تسع سنين. ثم على الوجوه كلها لا يحكم ببلوغ إلَّا أن يدعيه، فلو أراد أن يلاعن مع إصراره على دعوى عدم البلوغ، لم يُمَكَّنْ.
فإن قيل: لعانه إن كان بالغاً يفيد نفى النسب، وإن لم يكن بالغاً فالنسب منفي؛ فهلا يمكن من اللعان لهذا الغرض؟ فالجواب: أن فيه إقداماً على تحليف صبي، وذلك ممتنع. ولو رجع بعد دعواه الصبي، وادّعى البلوغ ورام اللعان، مُكِّن منه، وقال الإمام: في كلام الأصحاب ما يدل على أنه لا يقبل قوله: أنا بالغ؛ للتهمة. ويقرب من هذا ما أورده صاحب "التتمة"، وهو أنه إن لم يتهمه الحاكم،
حكم ببلوغه، ومكّنه من اللعان، وإن اتهمه ترك الأمر موقوفاً إلى أن يتحقق بلوغه.
تنبيه: ذكر النواوي في هذا الفصل على الشيخ مؤاخذتين:
إحداهما: أن الحريري في "درّة الغواص"، قال: لا يقال: اجتمع فلان مع فلان، وإنما يقال: اجتمع فلان وفلان. وقد قال الجوهري: جامعه على، أي: اجتمع معه عليه.
الثانية: أنه لو قال بدل قوله: "من حين اجتمع معها": من حين فارقها- كان أصوب.
قال: وإن وطئها، ثم طلقها طلاقاً رجعياً، ثم أتت بولدٍ لأكثر من أربع سنين من حين الطلاق- ففيه قولان:
أحدهما: لا يلحقه؛ لأنها حرمت عليه بالطلاق تحريم المبتوتة؛ فأشبه ما لو كان الطلاق بائناً فإنه لا يلحقه، وعلى هذا تنقضي به العدة.
وقال بعض البصريين: إنها تنقضي بالأقراء أو بالأشهر قبله، وهو ما أبداه الماوردي من عند نفسه في كتاب العِدَد.
قال: والثاني: يلحقه، ولا ينتفي عنه إلَّا باللعان؛ لأن الرجعيَّة زوجة بدليل: أنه يصح طلاقها والإيلاء عنها والظهار منها واللعان، وتحب لها النفقة.
فعلى هذا: إلى متى يلحقه؟ فيه وجهان:
قال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة: يلحقه متى أتت به من غير تقدير مُدَّة؛ لأن الفراش على هذا القول إنما يزول بانقضاء العدة.
والأصح في "المهذب" وعند ابن الصباغ والشيخ أبي حامد، والراجح عند الأكثرين- كما حكاه الرافعي-: أنه إذا مضت العدة بالأقراء أو الأشهر، ثم ولدت لأكثر من أربع سنين من انقضائها- لم يلحقه؛ لأنا نتحقق أن الحمل لم يكن موجوداً في الأقراء والأشهر فَتَبِين بانقضائها، وتكون كما لو بانت بالطلاق ثم أتت بولدٍ لأكثر من أربع سنين.
قال الرافعي: ولك أن تقول: هذا إن استمر في الأقراء لا يستمر في الأشهر؛ فإن
التي تحمل من النساء لا تعتد بالأشهر، فإذا حملت بان أن عدتها لم تنقض بالأشهر.
قلت: إطلاق هذا السؤال فيه نظر؛ لأن المعتدات بالأشهر عن الطلاق: إما من لم تحض قَطُّ، وإما آيسة، وما ذكره من الحكم ممنوع في القسم الأول؛ لأن من هذا حالها لو أكملت العدة بالأشهر ثم رأت الحيض، لا تعتد به ثانياً عمّن اعتدت عنه بالأشهر؛ فكذلك الحمل إذا ظهر بعد انقضاء العدة بالأشهر من طريق الأولى؛ لأنه دليل على الحيض، ومسلّم في القسم الثاني إذا رأت دم النفاس؛ لأنا نتبيّن أنها لم تيأس، وأما إذا لم تر الدم فقد حكى وجهين في أن التي لم تحض إذا حملت ولم تر دم النفاس هل تكون عدتها [عدة] من تعتد بالأشهر؛ لظاهر الآية، وهو ما حكاه عن "فتاوى" صاحب "التهذيب" في آخر العدد؟ أو يكون حكمها حمك من انقطع دمها بلا سبب؛ لأن الحمل لا يكون إلَّا لذوات الأقراء؟ وهذا الوجه يتعيّن في مسألتنا؛ لأنها قد حاضت. وعلى هذا التقدير فقد يقال: إن ذلك لا يمنع الاحتساب بالأشهر؛ فلا فائدة في الإعادة ولا غاية تنتظر، وإذا كان كذلك كان هذا كالقسم الأول؛ فانتفى السؤال وإن لم يكن كذلك، بل نوجب استئناف العدة، كما إذا بلغت سن اليأس، وشرعت في العدة وأكملتها، ثم رأت الدّم- على رأي سنذكره من بعد- فلعل إطلاق الأئمة محمول على القسم الأولح فلا يحسن تعميم السؤال.
ثم الخلاف في أصل المسألة بناه بعضهم على أن السنين الأربع في الطلاق الرجعي تعتبر من حين الطلاق أو من حين انقضاء العدة؟ وفيه قولان، أصحهما في "التهذيب" وغيره: الأول، وبناه بعضهم على أن الرجعية فراش الزوجية باق فيها [أو لا]؟ وفيه خلاف مذكور في باب الرجعة، وذلك متقارب. ويظهر من مقتضى البناء أن يكون الصحيح من القولين: أنه لا يلحقه الولدُ، وقد صرّح به النووي والماوردي في كتاب العدد، وفي الجيلي: أن الأصح خلافه.
والخلاف المفرع على القول باللحوق، مفروض- على ما ذكره القاضي الروياني في "البحر" وغيره- فيما إذا أخبرت بانقضاء العدة، أما إذا لم تقر فالولد الذي تأتي به- وإن طال الزمان- يلحقه؛ لأن العدة قد تمتد بتباعد الطُّهر. وإن القفال نقل وجهاً
ضعيفاً: أنه إذا مضت ثلاثة أشهر، ثم أتت بولدٍ لأكثر من أربع سنين- لم يلحقه؛ لأن العادة انقضاء العدة في ثلاثة أشهر، وهذا ما رجحه في "التهذيب" وقال عن الأول: إنه ليس بصحيح.
ثم حيث حكمنا بلحوق النسب دامت المرأة معتدة إلى الوضع حتى يثبت للزوج الرجعة، ولها النفقة والسكنى، أما لو أتت به لأربع سنين، فقد أطلق الأصحاب في البائن أنه يلحقه؛ ففي الرَّجعيِّ أولى، واعترض منصور اليمني في "المستعمل" على الأصحاب، فقال: إذا لحقه الولد الذي أتت به لأربع سنين من وقت الطلاق لزم أن تكون مدة الحمل أكثر من أربع سنين؛ لتقدم العلوق على الطلاق؛ فينبغي أن يقال: لأربع سنين من وقت إمكان العلوق قبل الطلاق. قال الرافعي: وهذا قويمٌ، وفي الإطلاق تساهُلٌ.
ولا فرق في ذلك بين أن تقرّ بانقضاء عدتها أو لا تقر؛ لأن النسب حق الولد فلا ينقطع بإقرارها، وقد يبنى إقرارها على الغالب ثم يظهر خلافه. وقال ابن سريج: إذا أقرت بانقضاء العدة ثم ولدت؛ لم يلحقه إلَّا أن تأتي به لما دون ستة أشهر من وقت الإقرار. وسنذكر في الباب من أين خرَّجه.
فرع: لو علّق طلاق زوجته بولادتها، فولدت ولدين بينهما دون ستة أشهر-[لحقاه وطَلَقَتْ بوضع الأول، وانقضت عدتها بوضع الثاني. وإن كان بينهما ستة أشهر] فأكثر طلقت بولادة الأول، ولا يلحقه الثاني إن كان الطلاق بائناً؛ للعلم بأن العلوق به لم يكن في النكاح، بخلاف ما إذا لم يعلّق بالولادة بحيث يلحقه الولد إلى أربع سنين؛ لاحتمال العلوق في النكاح. وإن كان الطلاق رجعيّاً، فكذلك الحكم إن قلنا: إن الأربع سنين تعتبر من حين الطلاق، وإن قلنا بمقابله لحقه إن أتت به لأربع سنين من ولادة الأول، وتنقضي العدةب وضعه- لحقه أو لم يلحقه- لاحتمال وطءٍ بشبهة بعد البينونة، قاله ابن الصباغ.
وفي "النهاية" في كتاب الطلاق: أنا إذا ألحقنا الولد به انقضت به العدة، وإن لم نلحقه به لا تنقضي [به] العدة، وهو مثل الوجه الذي اختار مثله الماوردي كما
حكيناه من قبلُ.
ولو أتت بثلاثة أولاد، وكان بين الولد الأول والثاني أقل من ستة أشهر، وبين الثاني والثالث أقل من ستة اشهر، وكان ما بين الأول والثالث أكثر من ستة أشهر فالأولان لاحقان به دون الثالث، قاله الرافعي في باب اللعان.
وفي "النهاية" في كتاب الطلاق في ضمن فصل أوله: لو قال: كلما ولدت ولداً فأنت طالق- أن هذه مغالطة؛ فإن ذلك لا يتصوّر وجوده؛ فإن الرحم إذا اشتمل على أولاد كانت المدة بين وضع الأول وبين وضع الأخير أقل من ستة أشهر؛ فإن الرَّحم ينتفض عما فيه ويبرأ عما حواه في أقل من ستة أشهر، والله أعلم.
قال: وإن أبانها، وانقضت عدتها، ثم تزوجت بآخر، ثم أتت بولدٍ لستة أشهر من حين النكاح الثاني- فهو للزوج الثاني، أي: وإن أمكن أن يكون من الأول ولم ينسبه الزوج إليه؛ لأن فراشه حاضر قائم؛ فالإلحاق به أولى من الإلحاق بفراش قد انقطع وانقضى. وأيضاً: فإن النكاح جرى على الصحة ظاهراً، وعلى تقدير أن يكون من الأول يكون في العدة ويبطل النكاح، ولا سبيل إلى إبطال الصحيح بالاحتمال، وهكذا الحكم فيما لو كان الطلاق رجعيّاً.
أما لو قال الزوج الثاني: هو من الزوج الأول، وأمكن أن يكون منه، أطلق العراقيون- على ما حكاه في "التهذيب" وغيره- أنه يعرض على القائف ولا يلاعن؛ للاحتمال. وهذه المسألة قريبة الشبه مما إذا قال الزوج: وطئك فلان بشبهة، وصدقه فلان؛ من حيث إن فراش النكاح قائم في الموضعين، وفراش النكاح الأول، والواطئ قد زال [ظاهراً]، فقد يظن أنه يجيء فيها الكلام المذكور ثَمَّ فيما إذا ثبت الوطء في أن له اللعان من غير عرض على القائف، أو ليس له ذلك إلَّا بعد أن يُلحِقه القائف به، وسيأتي في أواخر الباب كلام في ذلك وفرقٌ بين المسألتين إن شاء الله تعالى.
وإن كان لا يمكن أن يكون منه: بأن أتت به لأكثر من أربع سنين من حين الطلاق
البائن، أو من حين انقضاء العدة في الطلاق الرجعي- على أحد القولين- فلا أثر لقوله. ولو انعكس الحال؛ فكان لا يمكن أن يكون من الزوج الثاني، وأمكن أن يكون من الأول- فالحكم فيه كالحكم فيما لو لم ينكح، وقد سبق. ولو لم نعرف وقت طلاق الأول ونكاح الثاني، وأنكر الزوج أنه ولد على فراشه- فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الولادة، [وينتفي عنه] من غير لعان؛ لأنه لم تثبت ولادته على فراشه. فلو نكل عن اليمين رددنا اليمين عليها، فإن حلفت لحق نسبه بالزوج، ولا ينتفي إلَّا باللّعان.
وفي "الرافعي" حكاية قولٍ عن رواية أبيا لفرج الزاز فيما إذا ادعت المرأة أن الزوج راجعها أو جدد نكاحها أو وطئها بشبهة في العدة، وقد ولدت ولداً لأكثر من أربع سنين، وأنكر الزوج استحداث الفراش، ونكل عن اليمين- أن اليمين لا ترد عليها؛ لأنها لو حلفت لثبت نسب الولد، ويبعد أن يحلف الإنسان لفائدة غيره، وقد حكاه الإمام- في باب إنكار الزوج الولادة من كتاب اللعان- عن نص الشافعي، وأجراه فيما لو وقع الاختلاف في مثل ذلك في صلب النكاح. وإن من الأصحاب من أوّل النص ولم يطرده.
قلت: ويشبه أن يجيء مثله ها هنا. وإذا قلنا: لها أن تحلف، فلو نكلت فهل يحلف الصبي إذا بلغ ويثبت نسبه؟ فيه وجهان؛ بناءً على القولين في رَدَّ اليمين على الجارية المرهونة إذا أحبلها الراهن، وادّعى أن المرتهن أذن له في وطئها، ونكلا جميعاً، ونظائر ذلك. وهذا كله إذا كان النكاح صحيحاً، أما لو كان فاسداً فسيأتي حكمه، إن شاء الله تعالى.
قال: وإن وطئ امرأة بشبهة، أي: مثل أن وجدها في فراشه، فظنها زوجته، أو زُفّت إليه غلطاً، فأتت بولدٍ يمكن أن يكون منه- لحقه ولا ينتفي عنه إلا باللعان؛ [لأنه وطء له حرمة في غير ملك فألحق الولد به، وتعين اللعان] لنفيه كالوطء في النكاح الصحيح، ويشبه أن يجيء فيه ما ذكر في النكاح الفاسد.
قال: ومن لحقه نسب يعلم أنه من زنى، لزمه نفيه باللعان؛ لأن ترك النفي يتضمن
الاستلحاق، وهو لا يجوز؛ كمالا يجوز أن ينفي من هو منه، قال- عليه السلام:" [اشْتَدَّ] غَضَبُ اللهِ عَلَى امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، يَاكُلُ جَرَائِبَهُمْ، وَيَنْظُرُ إِلَى عَوْرَاتِهِمْ"، فنص على المرأة، وبيّن العلة، ومعلوم أن الرجل في معناها، وقد تقدّم في الباب قبله تفسير الجرائب.
قال الإمام: وفي القلب من اللزوم شيء.
ويجوز أن يقال: المحرم التصريح بالاستلحاق كذباً دون السكوت عن النفي؛ وذلك لأن اللعنا شهرة وفضيحة يصعب احتمالها على ذوي المروءات؛ فبعد إيجابه.
وفي "الرافعي": أن القاضي الروياني حكى عدم وجوب النفي عن جماعة من الأصحاب.
تنبيه: المراد بالعلم في لفظ الشيخ غلبة الظن؛ لأن غاية الأمر أن يعلم أنه لم يطأها وقد زنت بحضوره وأتت بولدٍ يمكن أن يكون من وطء الزاني، وذلك لا يحصِّل إلَّا غلبة الظن؛ لأنه يجوز مع ذلك أن يكون الولد من وطء شبهة، وقد عبّر ابن الصباغ عن ذلك، فقال: لأن ذلك يجري مجرى اليقين في أن الولد من الزنى، ومثل هذا يكتفي به في نسبة الولد إلى هذا الوطء؛ ألا ترى أن الإنسان إذا وطئ امرأة بشبهة ثم أتت بولدٍ يمكن [أن يكون] منه يلحق! وإن كان يجوز أن يكون من غيره؟! ثم الحكم في وجوب نفي الولد لا يختص بهذه الصورة؛ بل يجري فيما إذا علم أن الولد ليس منه وإن لم يعلم بأنها زنت، [كما إذا أتت] به ولم يكن قد وطئها، أو وطئها [وأتت به] بعد أربع سنين من حين الوطء أو قبل ستة أشهر منه؛ لأنه دائر بين أن يكون من زنىً- والحكم فيه كما تقدم- أو يكون من وطء شبهة، وهو وإن كان لا يوجب النفي باللعان- كما تقدّمت حكايته عن العراقيين- فذاك عند إمكان نفيه بالعرض على القائف لنسبته إلى واطئ بعينه، وها هنا قد تعذّر؛ فتعين نفيه باللعان.
على أن الرافعي عند الكلام في عدة الحمل حكى عن الروياني أنه نقل في "جمع
الجوامع": أن الحمل إذا كان مجهول الحال حمل على أنه من زنىَ.
ولو لم يحصل العلم بأن الولد ليس منه، بل غلب على ظنه ذلك، كما إذا أتت به بعد الوطء والاستبراء بستة أشهر أو أكثر إلى أربع سنين- فقد حكى الإمام في هذه المسألة ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يباح له النفي.
والثاني- حكاه عن العراقيين-: أنه إن رأى بعد الاستبراء مَخِيلَة الزنى التي تسلط على القذف، أو تيقن الزنى جاز، بل وجب، وهذا ما قاله في "التتمة"، وإن لم يَرَ شيئاً فلا يجوز له.
والثالث: يجوز النفي سواء وجدت مخيلة الزنى، أو لم توجد، ولا يجب بحال؛ لمكان التردد.
والأول هو المذكور في "تعليق" القاضي الحسين و"التهذيب".
قال الرافعي: وكلام أصحابنا العراقيين يوافقه.
قلت: كلام البندنيجي والمحاملي وابن الصباغ يوافق الوجه الثاني- كما حكاه الإمام عنهم- حيث قالوا: إذا شاهدها وقد زنت في طهرٍ لم يجامعها فيه، وأتت
بولدٍ يمكن أن يكون من ذلك الزنى- فعليه أن يقذف ويلاعن وينفي النسب. ولو زنت في طهر جامعها فيه، وأتت بولدٍ، وغلب على ظنه أنه ليس منه؛ بأن علم أنه كان يعزل عنها، أو رأى فيه شبه الزاني- لزمه نفيه باللعان. وإن لم يغلب على ظنه أنه ليس منه، لم ينفه، قال في "المهذب": ولو كان الزوج يطؤها ويعزل وأتت بولدٍ، فالصحيح- وهو الجواب في "التهذيب" [وغيره]-: أنه لا يجوز له النفي بذلك؛ فإن الماء قد يسبق [من غير أن يحس به الواطئ، وعدَّه الغزالي من الأسباب المجوِّزة للنفي]، والله أعلم.
قال: وإن رأى به شبهاً بغيره، أي:[بأن] كانا أبيضين، فجاءت به أسود- أو على العكس- فقد قيل: له نفيه باللعان؛ لأن للشبه تأثيراً في النسب، فجاز أن يقذف ويلاعن اعتباراً به، وقيل: ليس له نفيه؛ لما روي مسلم عن أبي هريرة أن أعرابيّاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [يا رسول الله، إني امرأتي ولدت غلاماً أسود، وإني أنكرته؛ فقال] رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: هَلْ فِيهَا مِن أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَأنَّى هُوَ؟ قال: لَعَلَّهُ يَكُونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ لَهُ، وزاد البخاري: ولَمْ يُرَخِّصْ لهُ فِي
الانْتِفَاءِ مِنْهُ".
هكذا صوّر الشيخ في "المهذب" والمحاملي وابن الصباغ محل الوجهين. وفي البندنيجي زيادةً على ذلك: ولم يُعْرف للمرأة زنى ولا فجور.
وعلى ذلك جرى ابن يونس فقال: ولم يرها تزني ولا سمع بذلك.
وفي "التهذيب": أنها إذا أتت به كما ذكرنا، ولم يضف إلى ذلك تهمتها بالزنى- فليس له نفيه، واستدل بالحديث. وإن كان يتهمها برجلٍ، فأتت بولدٍ يشبهه: هل يباح له نفيه؟ فيه الوجهان. وعلى ذلك تنطبق حكاية الإمام الخلاف عن القاضي، وإيرادُ المتولي والرافعي وإيراد الشيخ يقتضي ذلك.
وأما السُّمرة والأُدْمة والشُّقْرة القريبة من البياض فلا أثر لها، وأما الصحيح من الوجهين حكى الرافعي أن الظاهر [- مع ذكره من التصور عند القاضي أبي الطيب والشيخ أبي حامد أ] الثاني، وهو ما حكاه النووي مشيراً إلى محل الخلاف كما ذكره الرافعي، وأن الأول أظهر عند البندنيجي والقاضي الروياني وغيرهما، ولم أره في "تعليق" البندنيجي في هذا الموضع. وقد استدل ابن يونس للوجه الأول بقوله- عليه السلام في قصّة هلال:"إِنْ جَاءَتْ بِهِ أُصَيْهِبَ أُرَيْسِحَ أُثَيْبِجَ حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْداً جُمَالِيّاً خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ- فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ" فجاءت به على النعت المكروه؛ فقال- عليه السلام: "لَوْلَا الأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَانٌ"، [وهذا] يدل على أن للشبه حكماً.
وما قاله لا دلالة فيه؛ لأن اللعان والقذف الصادر من هلال كان بعد اعترافه بأنه
رآها تزني، وكان ذلك قبل الوضع، والوجهان المذكوران فيما ذكره ليسا مفروضين في مثل هذه الصورة.
تنبيه: الشبه: بفتح الشين والباء، وهو المشابهة، وجمعه: مشابه، على غير قياس؛ كما قالوا: مَحَاسنُ.
وأما الشِّبهُ- بكسر الشين وإسكان الباء، وبفتحهما جميعاً- فهو المِثْلُ.
وأصيهب: تصغير "أصْهَب"، والصُّهْبة: بين البياض والشُّقرة.
وأُرَيْسح تصغير "أرْسَح"، وهو ممسوح الأليتين.
وحَمش الساقين، أي: دقيقهما.
وأثيبج: تصغير "أثبج"، وهو الذي يكون لحمه بين المنكبين ناتئاً.
والثبج: ما بين الكاهل ووسط الظهر.
والأورق: بين السواد والغبرة، ويطلق على الأسمر من بني آدم.
والجُمَالِيّ: العظيم الخلق.
وخَدَلَّج الساقين: غليظهما.
وسابغ الأَلْيتين: عظيمهما.
وأصل السابغ: الطويل.
فرع- حكاه الرافعي قبل الفصل الثاني في كتاب اللعان-: إذا أتت بولدٍ، يمكن أن يكون منه، وقد رآها تزني، واحتمل أن يكون من الزاني أيضاً- فلا يباح له نفي الولد، وهل له القذف واللعان من غير نفي الولد؟ حكى الإمام عن العراقيين والقاضي الحسين أنه ليس له ذلك.
قال: والقياس جوازه؛ لجواز القذف إذا تيقن الزنى- ولا ولد- انتقاماً منها، ويعرضها للحَدِّ.
قال الرافعي: والمشهور: أنه ليس له القذف واللعان، ووجهه بأن اللعان حجة ضرورية، وإنما يصار إليها للحاجة إلى قطع النسب، أو إلى قطع النكاح حيث لا ولد؛
خوفاً من أن يحدث ولد على الفراش الملطخ، [ولم يوجد ها هنا حاجةُ قطع النسبن ومحظور حدوث الولد على الفراش الملطخ] قد وقع؛ فلا يصار إلى اللعان.
وحكى الرافعي- أيضاً- قبيل الكلام في الفروع المتفرقة من كتاب اللعان أن الأصحاب ذكروا أنه لو أقر بوطئها في الطهر الذي قذفها فيه بالزنى، يجوز له أن يلاعن وينفي النسب، وأن الغزالي في "البسيط" قال: ولعل هذا في الحكم ظاهراً، فأما بينه وبين الله- تعالى- فلا يحل له النفي مع تعارض الاحتمال.
فرع آخر: المجامعة فيما دون الفرج هل تمنع جواز النفي؟ فيه وجهان، أظهرهما: لا، وهما جاريان في الإتيان في غير المَاتَى.
قال: ومَن لَحِقَهُ نسبٌ، فأخَّر نفيه من غير عذر- سقط نفيه؛ لأنه خيار يثبت لدفع ضرر متحقق، فإذا لم يتأبَّد كان على الفور كخيار الرد بالعيب، وهذا هو الجديد، وأحد قَوْلَيِ القديم.
قال: وفيه قولٌ آخر: أن له نفيه إلى ثلاثة أيّام، وهذا هو الثاني في القديم؛ لأن [أمر] النسب خطير، وقد ورد الوعيد في نفي من هو منه وفي استلحاق من ليس منه، وقد يحتاج إلى تأمل ونظر؛ فوجب أن يكون له مهلة فيه، والثلاثة أيّام مدة قريبة، وقد ورد الشرع بها لمهلة النظر.
وحكى الشيخ أبو علي قولاً ثالثاً: أن له نفيه متى شاء، ولا يسقط إلا بالإسقاط. وعن ابن سلمة حكاية قول: أنه يتقدّر بيومين.
والصحيح الأول، والمراد بالنفي ها هنا: أن يحضر عند الحاكم ويذكر أن: هذا الولد أو الحمل ليس مني، مع الشرائط المعتبرة، ثم يلاعن بعد ذلك إذا أمره الحاكم به. وليس المراد: أن يوجد النفي باللعان عقيب العلم بلحوق النسب، ويدل عليه: اتفاق الأصحاب على أن له أن يؤخر اللعان على الحمل- كما ذكره الشيخ أولاً- وإن اختلفوا في جواز تأجيل اللعان كما سنذكره، والله أعلم.
قال: وإن ادّعى أنه لم يعلم بالولادة، ومثلُهُ يجوز أن يخفى عليه- قُبِلَ قوله؛ لأن الظاهر ما يدعيه. ثم الحالة التي تخفى عليه فيها الولادة: أن يكون غائباً ولم
تَسْتَفِض الولادة ولم تنتشر، أو كان حاضراً وهو في طرف البلد وهي في الطرف الآخر والبلد عظيم، وكذلك إذا كانا في مجلس ولم يمض مع ذلك من المدة ما يمكن علمه بالولادة فيها، أما إذا كانا في دارٍ واحدةٍ أو بيت واحد، ولم يكن أمر يقتضي الإخفاء- لا يقبل قوله؛ لأن ما يدعيه خلاف الظاهر. ولو بلغه الخبر في الغيبة، ولم ينته إلى التواتر، بل بلغه من آحادٍ- ففي "تعليق" البندنيجي "والمجموع" للمحاملي: أنه لا يسقط حقه. وأشار ابن الصباغ إلى ذلك بقوله: ولم تستفض. وفي "النهاية": أن حكمه حكم الشفيع، وإليه أشار الرافعي، وقد تقدم ذكر ذلك فليطلب من موضعه.
قال: وغن قال: لم أعلم أن لي النفي، أو: لم أعلم أن النفي على الفور- فإن كان قريب العهد بالإسلام، قبل منه؛ لأن الظاهر صدقه، وإن كان يجالس العلماء، لم يقبل منه؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر. وإن كان من العامة فقد قيل: يقبل؛ لأن هذا لا يعرفه إلَّا الخوَاصُّ من الناس فكان الظاهر معه. وقيل: لا يقبل؛ كما لو ادّعى الجهل بخيار العيب. والأول أصح، والوجهان ينبنيان على القولين في أن الأمة إذا عَتَقَتْ وادّعت الجهل بثبوت الخيار، هل يسقط خيارها أو يثبت؟
قال: وإن أخر النفي لعذ رمرض أو حبس أو حفظ مال، أو كان غائباً ولم يمكنه أن يسير، وبعث إلى الحاكم وأعلمه أنه على النفي- كان له نفيه؛ لأنه لا يُعدُّ مقصراً، وهذا إذا أشهد، وعليه يدل كلام البندنيجي حيث قال: فإن قدر على المراسلة فعل، وإن لم يقدر وقدر على الإشهاد فَعَل، وإن قدر عليهما أو على أحدهما، فلم يفعل سقط خياره. ولم يتعرّض الشيخ في "المهذب" لاعتبار الإرسال، بل اقتصر على ذكر الإشهاد، وكذلك الرافعي صدّر به كلامه، ثم قال بعده ما سنذكره عن الشيخ أبي حامد وابن الصباغ.
وإذا لم يتمكن من الإرسال ولا الإشهاد، فهل يشترط أن يقول بلسانه: نفيت؟
فيه وجهان في "التهذيب".
والمراد بالمرض: الذي يمنع من النهوض في حوائجه، والممرّض ملحق
بالمرض. والمراد بالحبس: أن يكون بحق، قاله البندنيجي، وهو محمول على ما إذا لم يتمكن المحبوس من الخلاص منه: كما إذا وجب عليه القصاص لصبيٍّ أو معتوه؛ فحبس لبلوغ الصبي وإفاقة المعتوه ونظير ذلك. أما إذا كان يمكنه الخلاص فيظهر أنه يُعَدُّ مقصراً، وملازمة الغريم كالحبس. والمراد بحفظ المال: أن يحفظه عن الحريق والنهب، أو يلازم غريماً له عنده مال يخشى ضياعه، أو أَبَقَ له عبدٌ، أو نَدَّ له بعيرٌ يخاف ضياعه إن لم يتشاغل به، ونحو ذلك. وعدم إمكان السير عند انتفاء ما ذكرنا يكون لخوف في الطريق، أو لعدم الرفقة، والبعث إلى الحاكم اعتبره الشيخ أبو حامد في الأعذار المذكورة كلها.
وقال ابن الصباغ والمتولي: إن المريض إذا قدر على أن يستدعي من الحاكم أن يبعث إليه نائباً ليلاعن عنده، فلم يفعل بَطَلَ حقه.
قال الرافعي: وليطرد هذا في المحبوس ومن يطول عذره، ويمكن أن يجمع بينه وبين ما قاله الشيخ أبو حامد، فيقال: يبعث إلى الحاكم ويطلعه على ما هو عليه؛ ليبعث نائباً أو ليكون عالماً بالحال إن أخر بعث النائب؛ فإن ذلك أقوى من الإشهاد.
وهل المراد بالغيبة: الغيبة في موضع لا حاكم فيه، أو في موضع فيه حاكم، لكنه أراد التأخير إلى بلدها؛ لينتقم منها بإشهار أمرها في بلدها وقومها؟ المذكور في "التتمة" و"التهذيب": الثاني، وهو المفهوم من إطلاق العراقيين، والموجودُ في "أمالي" أبي الفرج: الأول، حتى لو أراد أن يؤخر إلى بلده في موضع فيه حاكم مُنِعَ.
ومن جملة الأعذار: حضور الصلاة، والجوع، ودخول الليل والعُري، وتعذر الوصول إلى الحاكم، فإذا أخّر حتى يصلي ويأكل ويصبح ويكتسي، وأشهد عند التمكُّن أو لم يشهد عند عدم التمكُّن لم يسقط حقه، وفي "التتمة" تقييد الصلاة بأن يضيق وقتها.
قال البندنيجي: وقد ذكرنا الأعذار التي يسقط معها السعي إلى الجمعة، وكل ذلك عذر.
قال: وإن لم ينفه؛ لقيام ما ذكر من الأعذار، ولم يشهد، أي: مع القدرة على الإشهاد- لم يكن له نفيه؛ لتقصيره.
واعلم أن قول الشيخ: "ولم يشهد"، يجوز أن يكون بياناً لاعتبار الإشهاد- كما ذكرناه عن البندنيجي وغيره- واكتفى الشيخ بهذا عن التصريح باشتراط الإشهاد كما في قوله- تعالى-:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43]، فإنه دالٌّ على اعتبار الطلب، كذلك هذا اللفظ يكون دالّاً على اشتراط الإشهاد، لكن سكوته عن البعث إلى الحاكم يشعر بأنه ليس بواجب كما دَلَّ عليه كلامه في "المهذب". ويجوز أن يكون مراده [بقوله:"ولم يشهد": لم يبعث إلى الحاكم، ويكون فيه تنبيه على أن المبعوث يشترط فيه أن يكون] من أهل الشهادة، والله أعلم.
فرع: الغائب إذا كان يمكنه أن يسير فليأخذ في السير عقيب بلوغ الخبر إليه، ويشهد أنه على النفي، فإن أخر السير بطل حقه، أشهد أو لم يشهد، وكذلك لو أخذ في السير ولم يشهد، بطل على أحد الوجهين، وهو ما جزم به القاضي الحسين في "التعليق"، وهذا الخلاف يشابه الخلاف المذكور في مثله في الشفعة، وقد صرّح الإمام بذلك حيث قال: وأمَّا الفور ومعناه فقد ذكرناه في كتاب الشفعة، وذكرنا فيه الإشهاد وبلوغ الخبر في الغيبة، ولسنا نعيد شيئاً مما مضى؛ إذ لا فرق بين البابين.
قال: وإن كان الولد حملاً، فترك نفيه، أي: إلى أن وضعته، وقال: لم أتحقق، أي الحمل، بل رجوت أن يكون ريحاً يتنفس فلذلك لم أنفِهِ- قبل قوله، أي: مع يمينه؛ لأنه عذر محتمل.
قال: وإن قال: علمت، ولكني قلت: لعله يموت فأكفى اللعان- لحقه، أي: وسقط حقه، كذا نص عليه في "المختصر"؛ لأنه ترك النفي من غير عذر؛ فأشبه ما لو أخر نفي المنفصل رجاء أن يموت فيكفي اللعان.
وحكى المتولي وغيره وجهاً: أنه لا يسقط حقه؛ بناءً على أن الحمل لا يعلم. واعلم أن إطلاق الأئمة القول بأن الحمل هل يعلم أم لا؟ قد تكرّر اعتراض الإمام فيه في هذا الباب وفي كتاب النفقات، وقال: الحمل لا سبيل إلى العلم به؛ لأن ما
يوجد من كبر البطن والحركة يجوز أن يكون ريحاً، بل العبارة السديدة: أن الحمل هل الحكم فيه يجري مجرى المعلوم أم لا؟
وقد ظهر لك من مجموع ما ذكرناه ها هنا وفي كتاب اللعان أن قول الشيخ في باب اللعان: "وإن قذفها وانتفى عن حملها، فله أن يلاعن وله أن يؤخر إلى أن تضع"- محمول على وجود النفي دون اللعان، وقوله ها هنا:"وإن قال: علمت، ولكني قلت: لعله يموت فأُكْفَى اللعان، لحقه"- محمول على تأخير النفي واللعان، وهذا هو الظاهر من كلام الشيخ.
وفي "النهاية" في باب "إذا ثبت للرجل حق نفي الولد": أنا وإن جوزنا نفي الحمل باللعان فلا نثبته على الفور؛ لأنه ليس مستيقيناً، فلو قال: أؤخّر اللعان فلعله ريح يتنفس، لم يبطل حقه، ولو قال: أعلم أنها حامل، ولكن أؤخر اللعان فعساها تجهض وتلقى جنينها- قال الأصحاب: التأخير على هذا الوجه مع الاعتراف بالعلم [بالحمل] يبطل حقه من اللعان على الفور، وإنما يكون معذوراً في التأخير إذا حمل الأمر فيه على ألَّا يكون حملاً أصلاً، أو يكون ريحاً غليظاً يتنفس، وهذا منه يدل على خلاف ما ذكرناه، وظاهر كلام الشيخ يقتضي ما أشرت إليه، والله أعلم.
قال: وإن هُنِّئ- أي: بالهمز- بالولد، فقيل له: بارك الله لك فيه، أو: جعله لك خلفاً مباركاً، فأجاب بما يتضمن الإقرار: بأن أَمَّنَ على الدعاء وما أشبهه، أي: مثل أن قال: استجاب الله دعاءك- لزمه؛ لإقراره من حيث إنه أضافه إلى نفسه ورضي به، وهو إذا رضي به- ولو في لحظة- لم يتمكن من نفيه.
قال: وإن كان بما لا يتضمن الإقرار بأن قال: بارك الله عليك، أو رزقك الله مثله، أو: أحسن الله جزاءك- لم يلزمه؛ لأنه يحتمل أنه قال ذلك ليقابل التحية، ويحتمل أني كون لرضاه به؛ فلا يجعل متضمناً للإقرار بالشك.
واعلم أن هذه المسألة يمكن تصويرها بأن يقال له ذلك في وقت العذر؛ أو يكون المهنِّئ له من لا يسقط حقه من النفي بإخباره.
قال: وإن أتت امرأته بولدين بينهما دون ستة أشهر، فأقرّ بأحدهما أو أخر نفيه، أي: ونفى الآخر- لحقه الولدان: لأن الله- تعالى- لم يُجْر العادة بأن يجتمع في الرحم ولد من ماء رجل وولد من ماء رجلٍ آخر.
قال الإمام: لأن الرحم إذا اشتمل على المنى انسدَّ فم الرحم، واشتغل بتقدير الإله بتدبيره؛ فلا يتأتى منه قبول مَنِيّ آخر.
وصورة ثبوت ولدين: أن تكثر مادة الزرع، فيخلق منها ولدان أو أكثر، وإذا كان كذلك فلا يتبعض التوءمان لحوقاً وانتفاء، وإذا تعذّر التبعيض فيُرَجح الأقوى وهو اللحوق، والدليل على قوته شيئان:
أحدهما: أن الولد يلحق من غير استلحاق عند إمكان كونه منه، ولا ينتفي عند إمكان كونه من غيره إلَّا بالنفي.
والثاني: أن اللحوق بعد النفي مؤثر، والنفي بعد الاستلحاق لا يؤثر.
واعلم أن كلام الشيخ يتضمن صوراً:
إحداها: أن تأتي زوجته بولدٍ، فيقرَّ بِهِ أو يسكت عنه، ثم تأتي بآخر فينفيه ويريد اللعان لنفيه.
[الثانية: أن تأتي بولد، فينفيه باللعان، ثم تأتي بالآخر، فيقر به أو يسكت عنه].
الثالثة: أن ينفيهما معاً باللعان، ثم يقرّ بأحدهما.
فالحكم الذي ذكره شامل لها؛ لما ذكرناه. وهل يلزمه الحدُّ في الصورة الثانية إن كان قد قذفها؟ نظر: إن ألحقناه به لإقراره لزمه؛ كما لو أكذب نفسه، وإن ألحقناه به لسكوته لم يلزمه؛ لأن اللحوق حُكْمٌ للشرع ولم يأت هو بما يناقض قوله الأول. ويخالف هذا ما لو كان اللعان بعد البينونة-[والصورة كما ذكرنا- فإنه يلزمه الحد على كل حال، سواء لحقه بإقراره أو بسكوته؛ لأن اللعان بعد البينونة] لا يكون إلَّا لنفي النسب، فإذا لحق النسب لم يبق للعان حكم؛ فحُدَّ، واللعان في صلب النكاح يتعلق به مقاصد: من درء الحدّ، ووقوع الفرقة، ونفي النسب، فإذا ارتفع
نفي النسب نفي سائر المقاصد التي يفردها باللعان، كذا قال الحكم البغوي والقاضي الحسين مع التوجيه. قال الرافعي: وقد حكي هذا عن القفال، واستحسنه القاضي الروياني، وقال: لم أره لغيره، وقد يقال: اللعان وإن كان بعد البينونة يؤثر تأبيد التحريم على أظهر الوجهين، والتأبيد لا يرتفع بلحوق النسب؛ فجاز أن يبقى أثر اللعان في سقوط الحدّ أيضاً.
قلت: والتعليل الذي ذكرناه عن القاضي يأباه؛ لأن تأبيد الحرمة لا يفرد باللعان، بخلاف غيره من المقاصد المذكورة.
ولو كان بين الولدين ستة أشهر فصاعدا، لم يلحقه أحدهما بإقراره بالآخر، لكن ينظر: إن نفي الأول [باللعان] كان له نفي الثاني- أيضاً- باللعان، ولا ينتفي بدونه؛ لأنها وإن بانت باللعان الأول كان احتمال وطئه لها بعد وضع الأول ممكناً؛ فيجوز أن تكون قد عَلِقَتْ قبل اللعان وتكون حائلاً حال حصول البينونة؛ ففي "المهذب": أن الثاني ينتفي من غير لعان؛ لأنها علقت به بعد زوال الفراش.
قال الرافعي: وليس هذا وجهاً آخر؛ بل الأشبه أنه سهو، والتوجيه الذي ذكره ممنوع.
فرع: لو نفى الحمل حيث يجوز نفيه باللعان، فأتت بولدٍ بعد ذلك- انتفى عنه، لكنه إن كان لدون ستة أشهر كان نفيه باللعان الأول، وإن كان بعد ستة أشهر أو فوقها فمن غير لعان؛ لتحقق حدوث الولد الثاني بعد البينونة وزوال الفراش. وعن القفال: أنه إذا لم يلاعن لنفي الثاني- يلحقه الثاني، كما ذكرنا فيما إذا لاعن عن الولد
المنفصل ثم أتت بالثاني.
قال الروياني: وهذا غلط، ولم يذكره غيره.
[فرع] آخر: التوءمان المنفيان باللعان يتوارثان بأخوة الأم، وهل يتوارثان بأخوة الأب؟ فيه وجهان، الأصح منهما عند البندنيجي وغيره: المنع. وحكمُ التوءمين من الزنى عند البندنيجي والمحاملي حكم المنفيَّيْنِ باللعان، وعن أبَوَيْ علي: الطبريّ، وابن أبي هريرة: أن المنفيين باللعان يتوارثان بأخوة الأب دون المخلوقَيْن من ماء الزاني، و [عدمُ توريث المخلوقَيْن من ماء الزاني] هو ما جزم به الإمام في كتاب الفرائض والغزالي أيضاً.
وفي "الرافعي": أن الحكم في المنفيين باللعان لا يختص بالتوءمين، بل يجري في غير التوءمين المنفيين بلعانٍ واحد أو بلعانين.
قال: وإن مات الولد قبل النفي جاز له نفيه بعد الموت، أي: سواء كان الميت كل الحمل أو بعضه، وسواء كان للميت ولد أو لم يكن؛ لأن نسبه لا ينقطع بالموت، بل هو ثابت يتعلق به أحكام من إرث الولد وغيره؛ فكانت الحاجة إلى نفيه بعد الموت كالحاجة إليه في حال الحياة، وكما يجوز النفي بعد الموت يجوز الاستلحاق بعد الموت؛ لأنه أقرَّ بنسبٍ انتفى عنه؛ فوجب أني لحقه كما لو كان الولد حيّاً.
فإن قيل: هو متهم في الإلحاق بعد الموت؛ لأن غرضه حصول الميراث؛ فلا يقبل قوله.
قلنا: الظاهر أن الإنسان لا يلزم نفسه الحد، ولا يلحق به غيره- مع ما ورد فيه من الوعيد- طمعاً في المال، وأيضاً: فالنسب لا يندفع بالتهمة؛ ألا ترى أنه لو كان له أخ يعاديه فأقر بابن له، ثبت نسبه وورثه وسقط الأخ؟! وكذلك إذا كان الأب فقيراً والابن غنيّاً فاستلحقه، ثبت نسبه، وكانت النفقة عليه وإن كان متهماً؟! وفي "النهاية": أن النسب يثبت، وفي ثبوت الإرث تردد أبداه من عند نفسه.
ثم هذا إذا كان النفي في حال الحياة، أما لو كان النفي بعد الموت، ثم عاد واستلحقه: فهل يلحقه؟ فيه وجهان، ووجه المنع: أنه أسقط الإرث بعد ثبوته؛ فلا
يرجع إليه، والأصح: اللحوق، ويثبت الإرث تبعاً.
فروع- حكاها المتولي-:
[الأول] ليس لغير النافي أن يستلحق الولد المنفي باللعان إذا كان اللحوق بسبب النكاح الصحيح، وإن كان اللحوق بسبب وطء شبهة أو نكاح فاسد فلغيره استلحاقه.
الثاني: إذا قتل النافي الولد المنفي باللعان، وقلنا: يجب عليه القصاص، كما حكيناه عن المتولي في باب ما يحرم من النكاح، فاستلحقه- سقط عنه القصاص.
الثالث: إذا أسلم النافي بعد النفي وقبل الاستلحاق، ثم استلحق الولد- حكمنا بإسلام الولد، وسلّم إليه ما تركه من الميراث.
قال: وإن أتت أمته بولد يجوز أن يكون منه، فإن لم يطأها لم يلحقه؛ للإجماع كما حكي عن الشيخ أبي حامد، ولأن ملك اليمين قد يقصد به الاستخدام والتجارة، [وقد يقصد به الاستمتاع، وإذا احتمل هذا وهذا فليس أحدهما بأولى من الآخر]، ويخالف النكاح؛ فإن مقصوده الاستمتاع والولد؛ ولهذا له أني ملك بملك اليمين من لا يحل له وطؤها، وليس له أن ينكح من لا يحل له وطؤها.
فإن قيل: الاحتياط في الأنساب مطلوب، فلم لا رجحتم به؟
قلنا: في كلام الإمام ما يتضمن الجواب عن ذلك؛ فإنه قال: ولعل المعنى الفاصل بعد قول المصطفى- عليه السلام: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ":- أن النسب إنما يعتني الشرع بإلحاقه وتغليب أسبابه في الجهات التي تُعْنى وتطلب لأجل النسب في المناكح، فأما المملوكة فالنسبُ الغالب لا يطلب فيها، وكان المعتبرون في الأعصار يتعيَّرون بأولاد الإماء، ويذكرون في أوائل مفاخراتهم أنهم من الحرائر؛ ولهذا لم [يقم للإماء وزن] في القَسْم، ولم [يثبت لهن حقُّ] في الوطء.
قال: وإن وطئها لحقه، والدليل عليه: ما روى مسلم عن عائشة- رضي الله عنها قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام، فقال سعد: هذا- يا رسول الله- ابن أخي عتبة، عهد إليّ أنه ابنه، انظر إلى شبهه. وقال عبدٌ: هذا
أخي، ولد على فراش أبي من وليدته. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبهاً بيِّناً بعتبة، وقال:"هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ؛ فلم يَرَ سودة قطُّ". وجاء في رواية أخرى أن سعداً قال: إن أخي ذكر أنه ألمَّ بها في الجاهلية. وجه الاستدلال منه: أنه- عليه السلام ألحق الولد بالفراش.
والوليدة: الجارية، وهي يمانية. والولد يسمى عبد الرحمن. ومعنى قوله- عليه السلام "ولِلْعَاهِرِ"، أي: الزاني، "الحجر" أي: لاحظ له في نسب الولد؛ كما نقول: له التراب، أي: لا شيء له، كذا قاله القلعي في "المستغرب على ألفاظ المهذب".
واستدل أصحابنا على ذلك أيضاً- بما روي أن عمر- رضي الله عنه قال: ما بال أقوام يطئون ولائدهم ثم يعزلون؟! لا تأتيني وليدة يعترف سيّدها أنه ألمّ بها إِلَّا ألحقتُ به ولدها؛ فاعزلوا بعد ذلك أو أنزلوا! وفي رواية: فأرسلوهن بعدُ أو أمسكوهن. فاعتبر الاعتراف بالإلمام لا الاعتراف بالولد، ولم يخالفه أحد من الصحابة، ولأنه معنى يثبت به تحريم المصاهرة؛ فجاز أن يثبت به الفراش كعقد النكاح.
قال: ولا ينتفي عنه إلَّا أن يدّعى الاستبراء ويحلف عليه:
أما عدم انتفائه باللعان وكونه غير مشروع له؛ فلأن نص القرآن في الزوجات والأزواج، ولا مجال للقياس فيه. وحيث أثبت الشافعي اللعان في النكاح الفاسد، وإن كان فيه حَيْد عن النص؛ فذاك لكونه وجد مُسْتَمْسَكاً قريباً من الشبه مأخوذاً في مثل مسلكه في إلحاق الشيء بالشيء لكونه في معناه، وملك اليمين ناب عن النكاح [بعيد]؛ فضعف تقدير اللعان، كذا قاله الإمام. ووجهه القاضي وغيره بأن اللعان من خصائص النكاح؛ فلا يثبت في ملك اليمين كالطلاق والظهار والإيلاء، وفي ذلك نظر؛ لأنه يجري في وطء الشبهة مع انتفاء النكاح وشبهه. نعم، لو فصل في
وطء الشبهة بين أن يظنها زوجته؛ فيكون له اللعان بظنه الزوجيَّةَ، وبين أن يظنها أمته؛ فينتفي الولد اللاحق به بدعوى الاستبراء؛ لأن الظن لا يزيد على المحقق- لكان له وجه مستمَدٌّ من حرية الولد عند ظن حرية الموطوءة، ورِقِّهِ عند ظن أنها زوجته الرقيقة، واختلاف العدة على ما سنذكره- إن شاء الله تعالى- واستقام ما ذكره من الدليل.
وأما انتفاؤه دعوى الاستبراء؛ فلتعينه طريقاً.
وأما اعتبار الحلف؛ فلأن ما ادّعاه ممكن فيؤكد باليمين؛ كما في غيره من الدعاوى.
وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه لا يحتاج إلى اليمين عند إنكارها الاستبراء مع الأول.
قال الرافعي: وربما ينبني الخلاف على أن الانتفاء معلّق بدعوى الاستبراء أو بفعل الاستبراء.
قلت: ومقتضى تقييد الخلاف يشعر بأنها إذا لم تنكر [أنه منه] لا يحتاج إلى الحلف، وفيه نظر؛ لما في ذلك من حق الولد، والأول: الذي عليه الجمهور، وفي كيفية يمينه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يحلف على الاستبراء، ويكفي ذلك نافياً للنسب، وهو ظاهر كلام الشيخ.
والثاني- وهو اختيار الداركي والماوردي- أنه لابد وأن يضم إليه: وإن الولد ليس مني.
والثالث- وبه قال أبو إسحاق-: أنه لا يحتاج إلى التعرض للاستبراء، ويحلف على أن الولد ليس منه، وهذا كما أن في نفي ولد الحرة لا يحتاج إلى التعرض للاستبراء. وقد ذكر القاضي أبو الطيب وغيره أن هذا أصح.
قال الرافعي: وفيه ما يفهم أنه لو عرف أن الولد من جغيره ولم يستبرئها، يجوز له نفيه والحلف عليه. وإذا قلنا: إنه يتعرض للاستبراء، ففي كيفيته وجهان:
أحدهما: يقول: استبرأتها قبل ستة أشهر من ولادة هذا الولد.
والثاني: يقول: ولدَتْهُ لستة أشهر بعد استبرائي. ولو نكل عن اليمين حلفت الأمة على وجهٍ حكاه الماوردي، فإن نكلت توقفنا إلى البلوغ، فإذا حلف الولد بعد البلوغ لحقه، وفي أصل المسألة قول آخر رواه الماوردي وغيره عن رواية أحمد بن حنبل: أن له أن ينفيه باللعان، وبه قال ابن سريج وأبو علي الطبري، ثم قال: وله عندي وجه إن لم يدفعه نص.
فعلى هذا: هل يحتاج في لعانه إلى القذف أو يكتفي بإنكاره؟ فيه وجهان، فإن قلنا بالأول فلاعن ولم تلتعن وجب عليها الحد، وإن قلنا بالثاني فلاعن ولم تلتعن لا يجب عليها الحد، كذا قاله الماوردي.
مباحثة: إذا كان دعوى السيد الاستبراء بالحيض، فكيف جعلتم القول قوله مع أن الحيض لا يطلع عليه إلَّا من جهتها؟!
وأيضاً: فإنه لو علق طلاقها على حيضها كان المرجع في ذلك إليها؛ لما ذكرناه من المعنى.
قلت: قال الإمام: إن تفصيل المسألة يوضح الغرض، فإن كانت لا تنكر جريان الحيض، والسيد اعترف بالوطء، فإذا قالت: لم أحض بعد الوطء، فكأنها تدّعى وطئاً بعد آخر حيض، والسيد ينكر ذلك، والأصل عدمه. أما إذا اعترف بوطء في وقت عيَّنَهُ، وادّعى الاستبراء بعد ذلك بالحيض، فإذا أنكرت الأمة فهذا محل النظر، والظاهر أنه يرجع إلى قولها، وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن الرجوع إلى قول المولى في هذا المقام.
فروع:
لو ادّعت الوطء وأُمِّيَّة الولد، وأنكر السيد أصل الوطء- فالمشهور وهو اختيار القفال، [وبه جزم في "التهذيب" قبل كتاب العدة]: أنه لا يحلف، وإنما حلف في الصورة السابقة؛ لأنه سبق منه الإقرار بما يقتضي ثبوت النسب وهو الوطء وفيه وجه: أنه يحلف، وهو اختيار القاضي الحسين. وإذا لم يكن ولد فلا يحلف بلا خلاف. ولو
أقرَّ بالوطء، وأتت بولدٍ لأكثر من أربع سنين من وقت الوطء: هل يلحقه؟ فيه وجهان، وهما يقربان من الخلاف فيما إذا أتت بولد بعد الولد الذي ألحقناه بالسيّد لستة أشهر فصاعداً، هل يلحقه الثاني؟
ولو ادعى الاستبراء ونفى حملها، ثم [أتت بولد] لما دون ستة أشهر من وقت الاستبراء- فالاستبراء لَغْوٌ، فلو أراد نفيه باللعان فقد مَرَّ أن الصحيح: أن نسب الملك لا ينتفي باللعان. وادّعى أبو سعيد المتولي أن الصحيح في هذه الصورة: أن له نفيه باللعان؛ لأن من وطئ زوجته في طهرٍ، ورماها بالزنى في ذلك الطهر، وأتت بولدٍ- كان له نفيه باللعان؛ فيبعد أن يلزمه ولد الأمة في هذه الحالة، ولا يلزمه نسب المنكوحة.
وإن ولدت لستة أشهر إلى أربع سنين، فسنذكر حكه في ضِمْنِ فصلٍ بعده.
قال: وإن قال: كنت أطأ وأعزل، لحقه؛ لما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين سئل عن العزل:"لَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا، مَا كُتِبَ خَلْقُ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا سَتَكُونُ".
ولأن أحكام الوطء كلها تتعلق بالإيلاج لا بالإنزال؛ فكذلك هذا الحكم، ولأنه قد يسبق من الماء شيء لا يحس به فيحصل منه العلوق، وفيه وجه عن رواية الشيخ أبي محمد: أن النسب لا يلحقه.
قال الإمام: وهذا لم أَرَهُ إلا له، وعلى الأول: له أن ينفيه بدعوى الاستبراء أو الحلف.
قال: وإن قال: كنت أطأ فيما دون الفرج، فقد قيل: يلحقه؛ لإمكان أن يسبق الماء إلى الفرج وهو لا يعلم به، وقيل: لا يلحقه؛ لأن لحوق النسب من أحكام الوطء فلا يتعلق بغير الإيلاج كالتحليل والتحصين، وهذا هو الأصح، ويجري الخلاف فيما لو ادّعى الوطء في الدبر.
قال: وإن وطئ أمته ثم أعتقها واستبرأت، ثم أتت بولدٍ لستة أشهر من حين
العتق- لم يلحقه؛ للحمك ببراءة الرحم بعد الاستبراء، وقيل: يلحقه؛ لأنه تَبيَّن أنه لم يكن استبرأ، كذا قاله الجيلي، وقال: إنه الأصح، وإن الوجهين ينبنيان على أن الحامل تحيض أم لا، والأصح: أنها تحيض؛ فلا يمنع الولد الحيض. والمشهور في "الرافعي" وغيره: أن الذي نصَّ عليه الشافعي، وهو ظاهر المذهب فيما إذا استبرأها قبل العتق، ثم أتت بولدٍ يمكن أن يكون منه: أنه لا يلحقه، وأنَّ نصه في الحرة إذا بانت بالطلاق، ثم أقرَّت بانقضاء العدة بالأقراء، ثم أتت بولدٍ يمكن أن يكون منه: أنه يلحقه. وقد اختلف الأصحاب في المسألتين على قولين بالنقل والتخريج في الطرفين، وفرقوا بأن الوطء سبب ظاهر [والاستبراء ظاهر] يعارضه، وغذا تعارضا سقط الظهور وبقي مجرد الإمكان، والإمكان لا يكتفي به في الأمة، وهو في الحرة يكتفي به، وإذا ثبت ما ذكرناه قبل العتق، فكذلك الحكم بعد العتق؛ إذ لا فارق بينهما.
قال: وإن اشترك اثنان في وطء امرأة، فأتت بولدٍ لو انفرد كل واحد منهما لحقه- عُرِض على القائف: فإن ألحقه بأحدهما لحقه.
القائف: هو متَّبع الآثار والأشباه، والجمع: قافَةٌ. والأصل في اعتبار القافة: ما روى مسلم عن عائشة- رضي الله عنها أنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسروراً، فقال:"يَا عَائِشَةُ، أَلَمْ تَرَيْ مُجَزِّزاً الْمُدْلِجِيَّ دَخَلَ عَلَيَّ، فَرَأَى أُسَامَةَ وَزَيْداً وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا؛ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ؟! ".
قال الشافعي: ولو لم يكن في القيافة إلَّا هذا أقنع.
ووجه الدلالة من الخبر: أنها لو لم تكن علماً، ولو لم يكن بها اعتبار وعليها اعتماد، لمنعه- عليه السلام من المجازفة وقال: لا تفعل هذا؛ فإنك إن تُصِبْ في شيء أخطأت في غيره، وكان خطؤك قذفَ محصنة ونَفْيَ نسب، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقرُّ
إلَّا على الحقّ، ولا يُسَرُّ إلَّا بالحق.
قال الأئمة: وسبب سروره: أن المشركين كانوا يطعنون في نسب أسامة؛ لأنه كان طويلاً أقنى الأنف أسود، وكان زيد قصيراً أخنس الأنف بين السواد والبياض، كذا قاله الرافعي.
وقال أبو داود- على ما حكاه عبد الحق في "الأحكام"-: إن زيداً كان شديد البياض. وروي أن عمر- رضي الله عنه دعا قائفاً في رجلين ادعيا مولوداً. وشك أنس بن مالك في ابنٍ له؛ فدعا له القائف.
وإذا ثبت اعتبار قول القائف، وجب الرجوع إليه فيما ذكرناه؛ لأنه لا يمكن إلحاق الولد بهما كما صار إليه أبو حنيفة؛ لأن الوطء لابد وأن يكون على التعاقب، وإذا اجتمع ماء الأول مع ماء المرأة وانعقد الولد منه، حصلت عليه غشاوة تمنع من اختلاط ماء الثاني بماء الأول ومائها. وأيضاً: فلو تداعيا الولدَ: مسلمٌ وكافر، أو حرٌّ وعبد، أو والد وابنه- لا يلحق الولد بهما بالاتفاق؛ فكذلك إذا تداعاه غيرهما. ثم الاشتراك في الوطء على الوجه المذكور يفرض من وجوه:
أحدها: أن يطأها كل واحد منهما [بالشبهة؛ بأن يجدها على فراشه فيظنها زوجته أو أمته.
والثاني: أن يطأها كلٌّ منهما] في نكاحٍ فاسدٍ.
[والثالث: أن يطأ زوجته، ثم يطلقها، فيطأها غيره بالشبهة أو في نكاح فاسد]، أما لو لم يطلقها الزوج، ووطئت بالشبهة في النكاح، فعن القاضي أبي الطيب- وهو الذي أورده ابن الصباغ-: أن الولد يلحق بالزوج؛ لأن الفراش له، والفراش أقوى من الشبهة؛ كما أنه لو طلقها زوجها، وانقضت عدتها، ونكحها زوج آخر، فأتت بولدٍ- يُلحقُ بالثاني، وإن أمكن أن يكون من الأول.
قال الرافعي: والأظهر ما ذكره القاضي الروياني وغيره- وهو الذي أورده الإمام-: أنه لا يتعين الزوج للإلحاق، بل الموضع موضع الاشتباه والعرض على القائف، وليس كالصورة المستشهد بها؛ لأن العدة ظاهرة في حصول البراءة عن
الأول، وها هنا بخلافه.
قلت: وما حكي [عن] القاضي أبي الطيب موافق لما رواه في باب اللعان عند نسبته المرأة إلى غير الزنى عن أبي إسحاق وأبي علي الطبري، من أن [له أن] يلاعن لنفي الولد [عند نسبتها] إلى وطء الشبهة.
والمحكي عن ابن الصباغ في المسألة المستشهد بها يناقضه ما حكاه في كتاب اللعان في باب ما يكون قذفاً؛ فإنه قال: إذا أتت بولدٍ فقال: هو من زوج قبلي، وعرف لها زوج، وكان يمكن أن يكون [منهما] أنه يُرَى القائفَ.
وهذه المسألة قد تقدم بعض الكلام فيها في باب اللعان، وفي أول هذا الباب.
وقد يظهر عن بعض الناقلين فيه مناقضة فليتأمل.
والرابع: أن يطأ الشريكان الجارية المشتركة بينهما.
والخامس: أن يطأ أمته، ثم يبيعها فيطأها المشتري.
تنبيه: العرض على القائف في الصور التي ذكرناها منوط بأمرين:
أحدهما: أن يدّعي كل من الواطئيْنِ أن الولد منه، أو يقيم بينة على أنه ولد على فراشه.
وقال [بعض] أصحابنا: يقرع بين البينتين في النسب.
وعلى المذهبك إذا ألحقه القائف بأحدهما، فهل يلحقه بالقافة، أو بها مع البينة؟ فيه وجهان في "زوائد" العمراني.
أما إذا ادّعى أحدهما ذلك، وأنكر الآخر أو سكت ففيه قولان:
أحدهما: يحكم به للمدعي.
والثاني- وهو الأظهر والذي حكاه ابن كج-: أنه يعرض على القائف لحقِّ الولد؛ كما لو نفياه.
وقال الإمام في كتاب اللعان عند نسبة الزوج الولدَ إلى الواطئ بالشبهة: إن القافة إنما تجري إذا اعترف الواطئ بالوطء ووجد التداعي بين الزوج والواطئ
بالشبهة، فإذ ذاك يُرَى القائف.
الثاني: ألا يتخلل بين الوطأين حيضة؛ فلو تخللت فهي أمارة ظاهرة في حصول البراءة عن الأول؛ فينقطع تعلقه، إلَّا أن يكون الأول زوجاً في نكاح صحيح، والثاني واطئاً بالشبهة، أو في نكاح فاسد- فلا ينقطع تعلق الأول؛ لأن أحكام الوطء مع فراش النكاح قائم مقام نفس الوطء، والإمكان حاصل بعد الحيضة، ومقتضى هذا: ألا يُرَى الولد للقائف فيما إذا انقضت عدتها ثم تزوجت بآخر، وأتت بولدٍ يمكن أن يكون من كل واحد منهما. وقد حكينا من قبل أنه يعرض على القائف إذا قال الزوج الثاني: هو من الأول. اللهم إلا أن يحمل ذلك على ما إذا انقضت العدة بالأشهر لا بالأقراء. ولو كان الأول زوجاً في نكاح فاسد، ففي انقطاع تعلقه بتخلل الحيضة قولان:
أحدهما: أنه كالنكاح الصحيح.
وأظهرهما- على ما حكاه الرافعي-: خلافه؛ لأن المرأة في النكاح الفاسد لا تصير فراشاً ما لم توجد حقيقة الوطء. وهذا فيه نظر يظهر لك- إن شاء الله [تعالى- في كتاب العدد في أن فراش النكاح الفاسد متى يحصل؟ وهل يشترط] في العرض على القائف حياة الولد؟ أطلق الطبري الحكاية عن أبي إسحاق: أنه لا يشترط، ويعرض بعد الموت، وأن غيره قال: لا يعرض.
وفي "التهذيب" وغيره: أنه إن تغيّر أو دفن فلا يعرض، وإن لم يتغيّر ولم يدفن فوجهان.
وقال ابن اللبان: إن كان له ولد يُرَى القائفُ [ولدَهُ. وهذا ما ذكره القاضي الحسين في "التعليق".
وكذا إن عُدِمَ الولد فولد الولد، على ما حكاه في "العدة".
وإن مات الأبوان قبل ثبوت النسب من أحدهما فإنه يُرَى القائف] مع عصبة الأب الميت من أبيه وابنه و [من] إخوته وأخواته وأعمامه وعماته؛ لقوله- عليه السلام: "لَعَلَّ عِرْقاً نَزَعَهُ".
وفي "الحاوي" في كتاب الرضاع: أنه يعرض مع الأب دون الأخ والولد على وجهٍ، فإن لم يكن له من يعرض معه فهل ينقطع العرض على القائف بموته قبل الدفن؟ فيه الوجهان المذكوران في الأب.
ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون الواطئان مسلميْنِ أو أحدهما، ولا بين أن يكونا حرّين أو أحدهما، ولا بين أن يكون الولد بالغاً أو صغيراً؛ لأن استدلال القائف ممكن في الحالين، قاله الطبري في "العدة"، وحكى القاضي ابن كج عن تخريج أبي الحسين وجهاً: أنه لا رجوع إلى القائف بعد بلوغ المولود.
والظاهر الأول.
فائدة: اختلف أصحابنا في كيفية العرض على القائف على وجهين ذكرهما العمراني في "الزوائد" عن ابن اللبان:
أحدهما: يرى مع أحد الأبوين: فإن نفوه عنه ثبت نسبه من الآخر، وإن ألحقوه به عرض مع الآخر، فإن ألحقوه به- أيضاً- علمنا خطأ القائف، وبرئ الآخر.
والثاني: يرى معهما جميعاً.
ثم الشبه الذي يلحق القائفُ الولد به ضربان: ظاهر، وخفي:
فالظاهر: أن يكون الشبه بالسّواد والبياض.
والخفي: ما يعلم بالنظر إلى الأيدي والأرجل ونحوها.
قال: فإن لم يكن [قافة، أو كانت] وأشكل عليها، أو ألحقته بهما، أو نفته عنهما- ترك حتى يبلغ فينتسب إلى من يقوى في نفسه أنه أبوه:
أما إذا لم تكن قافة، أو كانت وأشكل عليها؛ فلأنه موضع ضرورة، والولد يجد من نفسه ميلاً إلى والده دون غيره؛ فرُجِعَ إلى ذلك في محل الضرورة.
وأما إذا ألحقته بهما؛ فلأن الولد لا يجوز أن يكون من اثنين لما ذكرناه؛ فإذا ألحقته بهما دَلَّ على الاشتباه عليها، ولا يقبل قولها بعد ذلك، إلَّا أن يمضي زمان يمكن التعلم فيه ويمتحن.
وأما إذا نفته عنهما؛ فلأن الأصل عدم غيرهما فيظن أنه من أحدهما، ولما نفته عنهما دَلَّ على أنه أشكل عليها.
هذا هو المشهور في الجميع، [وفي "المهذب"] في باب اللقيط حكاية وجه: أن وقت الاختيار يدخل إذا صار مميزاً كالتخيير بين الأبوين في الحضانة. وحكاه في "العدة" عن القديم.
وفي "الزوائد" أن ابن سريج حكى عن بعض أصحابنا أن القائف إذا ألحقه بهما ثبت نسبه منهما، وأنه غلط.
واعلم أن الانتساب منوط بما إذا كانا حَيَّيْنِ عند الانتساب، وعرف الصبي حالهما وشاهدهما قبل البلوغ، وكان مَرْضِيّ الفطنة صحيح الذكاء، أما إذا انتفى ذلك فلا يثبت، قاله الماوردي [وغيره].
تنبيه: ليس المراد بعدم القائف: ألا يوجد في الدنيا، بل المراد ألَّا يوجد في موضع الولد، وما قرب منه، وهي المسافة التي تقطع في أقل من يوم وليلة، كذا قاله القاضي الروياني، على ما حكاه الرافعي في الباب الثاني من كتاب العدد، وحكاه الجيلي أيضاً، وفي "الإبانة" تقييد انتساب الولد بألّا يوجد قائف في الدنيا. والانتساب بعد البلوغ واجب على الولد، حتى إذا امتنع منه حبس، وإذا اختار كان كإلحاق القائف، [فلو وجد القائف] بعد ذلك وألحقه بغير من انتسب إليه ألحِقَ [به]، وخرّج ابن اللبان وجهاً: أنه لا يلحقه، ولا ينقض الحكم حكاه في "الزوائد".
ولو قال: لا أجد ميلاً إلى أحدهما، بقي الأمر موقوفاً.
فروع:
إذا مات الولد قبل ذلك، قام ولده مقامه في الانتساب، وكذا لو كان الولد معتوهاً، قاله ابن اللبان.
وفي "تعليق" القاضي الحسين في الرضاع: أنه إن كان مجنوناً لا يقوم ولده مقامه؛
لأنه بالجنون لا يَخْلُفُه، كما لا يَخْلُفُ في سائر الحقوق.
ولو كانا ولدين، فانتسب أحدهما إلى أحدهما، والآخر إلى الآخر- دام الإشكال، فإن رجع أحدهما إلى قول الآخر، قُبِلَ، وهذا يخالف ما لو ألحقه قائف بأحدهما، وألحقه آخر بآخر؛ فإنه يقدّم الأول.
وقال ابن كج: إنهما يتعارضان، ويصير كأن لا قائف.
ثم هذا إذا لم يكن سبب اختلاف القائفيْنِ الاختلاف في الشبه، أما إذا كان سببه الاختلاف في الشبه بأن اعتبر أحدهما الشبه الخفي، والآخرُ الشبهَ الظاهر- فأيهما يقدم؟ فيه وجهان في "الشامل"، والظاهر في "الرافعي": الأول.
ولو ألحقه القائف بأحدهما، ثم رجع وألحقه بالآخر- لم يقبل، وذكر ابن كج: أنه إن رجع بعد تنفيذ الحمك بقوله لم يلتفت إلى رجوعه، وإن رجع قبل ذلك، قبل رجوعه، ولا يقبل في حق الآخر؛ لسقوط الثقة بقوله.
ونفقة الولد إلى أن يعرض على القائف عليهما، فإن ألحق بأحدهما رجع الآخر عليه، كذا قاله الرافعي في باب القافة، وحكى في الباب الثاني من "العدة": أن له الرجوع إذا أنفق بإذن الحاكم؛ فلو أنفق بغير إذنه فلا رجوع.
قال: ولا يقبل قول القائف إلَّا أن يكون ذكراً حُرّاً عدلاً مجرّباً في معرفة النسب:
أما اعتبار التجربة؛ [فليعرف كونه] من أهل الاجتهاد، فإنه لا يجوز الرجوع لمن لا يُعْرف علمه بهذا النوع؛ كما أن من لا يعرف علمه بالأحكام لا يقلّد الحكم. وأما اعتبار باقي القيود؛ فبالقياس على الحاكم.
وفي الذكورة وجه: أنها لا تعتبر، ووُجِّه بأن قول المرأة يجوز في النسب، وهو في الشهادة في الولادة.
قال ابن الصباغ: وهذا ضعيف؛ لأن شهادتها لا تقبل في النسب، وإنما تقبل في الولادة، والولادة مما لا يطلع عليها الرجال، وأجرى هذا الوجه في العبد أيضاً.
وبناه الفوراني مع الأول فيهما على أن القيافة كالحكم أو كالقسمة، ووجْهُ مشابهتها للقسمة: اشتمالها على التمييز بين النفي والإثبات.
ويشترط أن يكون القائف بصيراً ناطقاً مسلماً، وهل يشترط أن يكون من بني مُدْلِج؟ فيه وجهان.
أصحهما عند العراقيين: أنه لا يشترط.
ومقابلُهُ عند الإمام والغزالي.
ولو كان القائف ولدَ أحد المدعيَيْنِ أو عدوّاً له: فإن أَلءحَق الولد بغير أبيه أو بعدوه، قُبِل، وإن ألحقه بأبيه أو بغير عدوه، لم يقبل.
واعلم أن التجربة تكون تارةً بأن يعرض الولد في نسوة ليس فيهن أمه، [ثم في نسوة ليس فيهن أمه]، [ثم في نسوة فيهن أمه]، ثم في نسوة فيهن أمه، فإذا أصاب في الكل قبل قوله بعد ذلك، وتارة يكون بأن يعرض مع الأب كذلك. وكلاهما يحصل به الغرض عند العراقيين، لكن الأول أولى، ويحكى عن نصه في "الأم".
وذهب القفال وصاحب "التقريب" إلى تعينه وامتناع التجربة بالأب؛ لأن لحوق الولد بالأب مظنون.
ثم التكرار في التجربة هل هو شرط؟ اختلف فيه الناقلون:
فمنهم من لم يشترطه.
ومنهم من قال: لا يكفي العرض مرة واحدة؛ فإنه قد يصيب فيها اتفاقاً، ولكن يعرض عليه ثلاث مرات، وإليه ذهب الشيخ أبو حامد وأصحابه.
وذكر الإمام أنه لا معنى لاعتبار التكرار ثلاثاً؛ بل المعتبر غلبة الظن بأن ما يقوله عن خبرة وبصيرة، لا عن وفاقٍ، والظن قد يحصل بما دون الثلاث، وإذا حصلت التجربة اعتمد على قوله، ولا تجدد التجربة لكل إلحاق.
قال: ويجوز أن يكون [القائف] واحداً؛ كما في القضاء والفتوى، وهذا هو الأصح، ويحكى عن نصه في "الأم".
قال: وقيل: لابد من اثنين؛ كما في التزكية والتقويم.
فروع:
[الأول] من الرعاة من يلتقط السِّخال في ظلمة الليل ويلقيها في وعاء معه، فإذا
أصبح ألقى كل سَخْلة بين يدي أمها، ولا يخطئ؛ لمعرفته بها وبأمهاتها، فعن الإصطخري: أنه يعمل بقول مثل هذا الراعي، إذا تنازع اثنان في سخلة، والظاهر خلافه.
[آخر:
إذا لم يكن للقائف أجرة من بيت المال، فطلب أجرة- كانت أجرته على المتنازعين، فإن ألحق الولد بأحدهما، استحق الأجرة، وعلى من يستحقها؟ فيه وجهان:
أحدهما: على من ألحق الولد به.
والثاني: عليهما؛ لأن العمل مشترك بينهما في: النفي عن أحدهما، والإلحاق بالآخر.
وإن لم يلحقه بأحدهما، فإن كان لإشكاله عليه، لم يلحقه، يستحق الأجرة، وإن كان لتكافؤ الأشباه، ففيه وجهان:
أحدهما: يستحق، إذا قلنا: إن الأجرة عليهما عند إلحاقه بأحدهما.
والثاني: لا يستحق، إذا قلنا بالآخر، قاله الشاشي في "الحلية" في كتاب اللقيط].
***