الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
باب كفارة اليمين
سميت الكفارة: كفارة؛ لأنها تكفر الذنب، أي تستره، ومنه قيل للأكار: كافر؛ لأنه يكفر البذر، أي: يغطيه، وسمى الكافر: كافراً؛ لأنه يغطي نعم الله تعالى.
وما الذنب الذي تكفره؟
قال في "الحاوي": إن كان عقد اليمين طاعة وحلها معصية، كقوله: والله لا أشرب الخمر، فإذا حنث وشرب الخمر- كانت الكفارة تكفر مأثم الحنث.
وإن كان عقدها معصية وحلها طاعة: كقوله: والله لا صليت- فإذا صلى كانت الكفارة لتكفير مأثم اليمين بعد الحنث. وإن كان عقدها مباحاً وحلها مباحاً، كقوله: والله لا لبست هذا الثوب- فالكفارة تتعلق بهما، وهي بالحنث أحق؛ [لاستقرار وجوبها به].
قال- رحمه الله:- إذا حلف وحنث، لزمته الكفارة؛ لقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] أي: وحنثتم؛ كما جاء في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أي: فأفطرتم.
وسبب وجوبها عند الأكثرين: اليمين والحنث جميعاً.
وحكى الروياني والطبري وجهاً أن سبب وجوبها: اليمين، إلا أنها لا تجب إلا بالحنث؛ كما يوجب ملك النصاب الزكاة، عند حولان الحول، وكأن من قال به جعل الحنث شرطاً، واحتج له بأن الكفارة منسوبة إلى اليمين، وهذا ما حكاه الغزالي.
وقال في "الحاوي": إن الظاهر من مذهب الشافعي: أنها تجب بالحنث وحده.
وحكى الوجه الأول أيضاً.
ثم قال: والأصح عندي من إطلاق هذين المذهبين: أن يعتبر حال اليمين: فإن كان عقدها طاعة وحلها معصية، وجبت الكفارة بالحنث وحده، وإن كان عقدها معصية وحلها طاعة وجبت باليمين والحنث؛ لأن التكفير بالمعصية أخص.
ثم هذا التردد في اليمين على المستقبل، أما اليمين على الماضي، فقد قال الماوردي: إن سبب الكفارة فيها عند الكذب الحلف وحده.
وقال المحاملي: والبندنيجي: إنما تجب باليمين والحنث، وهما متعاقبان فيها، بخلاف المستقبل؛ فإنهما متراخيان، والله أعلم.
وهل تتعدد الكفارة عند تعدد اليمين واتحاد المحلوف عليه؟
ينظر: إن قصد التأكيد لم تتعدد، وإن قصد الاستئناف فوجهان والأصح: عدم التعدد.
وإن أطلق فعلى أيهما يحمل؟ فيه وجهان.
وسوى ابن كج بين حالة الإطلاق وحالة إرادة الاستئناف في جريان الخلاف، وقد يستدل لقول بالتعدد بقوله – تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] أي: كررتموها على شيء واحد، وإن كان الماوردي في أول هذا الكتاب قد استدل به على عدم التعدد.
وهل إذا حلف يميناً واحدة منع نفسه بها من فعلين أو أكثر، كما إذا قال لجماعة: والله لا كملت واحداً منكم، وكلم واحداً- تبقى اليمين منعقدة في حق من بقي، حتى إذا كلمه تب عليه كفارة أخرى، أم لا؟ فيه خلاف تقدم مثله في كتاب الإيلاء؛ فليطلب منه.
والظاهر من كلام الشافعي- على ما حكاه ابن الصباغ، وهو الصحيح عنده: أنها لا تبقى.
فرع: إذا حلف: لا يأكل الخبز، وحلف: لا يأكل لزيد طعاماً، فأكل خبزه- وجبت عليه كفارة واحدة على أحد الوجهين؛ قاله الرافعي في كتاب الإيلاء.
آخر: هل يجب إخراج الكفارة على الفور؟
قال: في "التتمة": ينظر: إن كان عاصياً بالحنث فلا يباح له تأخير التكفير وإن كان الحنث طاعة أو مباحاً، فالأولى أن تبرأ الذمة؛ فلو أخر لا حرج عليه.
وقال الغزالي عند الكلام في قضاء الحج: الكارة إذا لزمت بسبب محظور كان في وجوبها على الفور خلاف، أما ما لا عدوان في سببه فلا تضييق في واجبه.
وهل يجوز للإمام المطالبة بها؟
حكى الرافعي في كتاب الإيلاء عن المتولي فيه وجهين، وحكاهما ابن التلمساني في "شرح التنبيه" في قسم الصدقات، وأجراهما في النذر، وعلل وجه عدم المطالبة بأن ذلك لا يجب على الفور، وقرر ما ذكرناه، وهذا هو المذكور في "الشامل" عند الكلام فيما إذا قال: أقسم بالله، أو: أقسمت بالله.
قتال: فإن كان يكفر بالصوم لم يجز حتى يحنث؛ لأنها عبادة بدنية لا حاجة له إلى تقديمها [على وقت الوجوب؛ فلم يجز تقديمها] كصوم رمضان.
وفي قولنا: لا حاجة إلى تقديمها، الاحتراز عن الجمع بين الصلاتين.
وأيضاً فإن الصوم إنما يجوز التكفير به عند العجز عن جميع الخصال المالية، وإنما يتحقق العجز بعد الوجوب.
وفيه وجه: أنه يجوز التكفير به قبل الحنث أيضاً؛ كسائر الخصال.
وفي "شرح مختصر الجويني": أن أبا زيد حكاه قولاً عن القديم.
قال: وإن كان يكفر بالمال فالأولى ألا يكفر [حتى يحنث؛ ليخرج من خلاف] أبي حنيفة.
قال: فإن كفر قبل الحنث؛ أي: وبعد اليمين- جاز؛ لما روي عن عبد الرحمن بن سمرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، فَكَفِّرْ، ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ" خرجه أبو داود. ولما روى مسلم والبخاري والترمذي والنسائي: أنه- عليه السلام قال في حديث طويل: "وأنا- إِنْ شَاءَ اللهُ- لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، ثم أرى خَيْراً
مِنْهَا- إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيتُ الذِي هُوَ خَيْرُ".
فإن قيل: فقد روي أنه- عليه السلام قال: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً منها، فَلْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ".
قلنا: قد ورد فيه تقديم الكفارة على الفعل، وأيضاً: فما ذهبنا إليه فيه استعمال للروايتين معاً؛ فإنا نحمل الأول على الوجوب، والثاني على الجواز؛ فكان أولى.
ولأنه حق مالي يجب بسببين يختصان به؛ فجاز تقديمه على أحدهما كتعجيل الزكاة.
فإن قيل: لا نسلم أن لوجوبها سببين، بل له سبب واحد، وهو الحنث؛ لأن الحنث ضد اليمين؛ لأن اليمين تمنع من الحنث، والضدان لا يشتركان في معنى الوجوب؛ لتنافيهما.
قيل في الجواب عنه: إن اليمين [عقد والحنث حل، والحل] لا يكون إلا بعد عقد؛ فلم يتضادا وإن اختلفا؛ كما أن قوله: لا إله، كفر، وقوله: إلا الله إيمان، والإيمان بهما منعقد، ولم يتنافيا بالمضادة.
ولو أراد أن يكفر قبل انعقاد اليمين لم يجز وجهاً واحداً.
نعم، لو علق انعقاد اليمين على فعل، ولم يوجد بعد: فهل يجوز له أن يكفر قبل انعقاد اليمين وبعد التعليق؟ فيه وجهان مذكوران في "التتمة" وغيرها في كتاب الإيلاء، وصورة ذلك: أن يقول: إن دخلت الدار، فوالله لا كلمتك.
قال: وقي: إن كان الحلف بمعصية لم يجز أن يكفر قبل الحنث؛ كي لا يتوصل به إلى المعصية، ولأن تقديم الكفارة رخصة، والرخص لا تستباح بها
المعاصي، وهذا ما رجحه البغوي، وهو اختيار ابن القاص.
قال: وليس بشيء؛ لأن الكفارة لا يتعلق بها تحريم ولا تحليل؛ فإن المحلوف عليه على حاله، وهذا ما [صار] إليه معظم الأصحاب.
فرعان:
أحدهما: لو قال: أعتقت هذا العبد عن كفارة يميني إذا حنثت، عتق العبد عن الكفارة إذا حنث، بخلاف ما إذا قال: أعتقته عن الكفارة إذا حلفت، لا يجزئه عن الكفارة؛ لأنه قدم التعليق على الحلف.
الثاني: لو قال: أعتقته عن كفارة يميني إن كنت قد حنثت، فإن بان أنه حنث عتتق، وأجزأ، وإلا فلا يعتق، بخلاف ما لو قال: أعتقته عن كفارة يميني إن كنت حلفت، فبان أنه حلف؛ فإن صاحب "التهذيب" قال: وجب ألا يجوز؛ لأنه شاك في اليمين، وفي الصورة الأولى هو شاك في الحنث، والتكفير قبل الحنث جائز.
تنبيه: يشترط في إجزاء العتق المعجل عن الكفارة أن يبقى العبد حياً إلى الحنث، وكذا على الإسلام؛ فلو مات قبل الحنث أو ارتد لم يجزئه؛ كما في الزكاة المعجلة، كذا صرح به الرافعي.
ومقتضاه: أن يعتبر بقاء سائر الأوصاف، وكذا بقاء من صرف إليه الطعام أو الكسوة على صفة الاستحقاق إلى الحنث.
وأبدى صاحب "التهذيب" احتمالاً فيما إذا مات العبد [أو ارتد] في أنه يجزئ؛ كما لو ماتت الشاة المعجلة.
قال: والكفارة: أن يعتق رقبة، أو يطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم، والخيار
في ذلك إليه؛ لقوله- تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89].
ولا يجوز أن يطعم خمسة ويكسو خمسة، قال ابن الصباغ: كما لا يجوز أن يعتق نصف رقبة ويطعم خمسة؛ لأن الله تعالى خيره بين ثلاثة أشياء، ولو جوزنا إخراج جنسين لأثبتنا تخييراً رابعاً؛ فلا يجوز لذلك.
قال: فإن أراد العتق أعتق رقبة؛ كما ذكرنا في الظهار، وإن أراد الإطعام أطعم كل مسكين رطلاً وثلثاً؛ كما ذكرنا في الظهار؛ بجامع ما اشتركا فيه من التكفير.
وذكر الماوردي أن في قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} دليلاً على اعتبار المد؛ لأن الأوسط محمول على الجنس والقدر، وأوسط القدر فيما يأكله إنسان رطلان من الخبز، والمد: رطل وثلث من حب إذا خبز كان رطلين من خبز، وذلك أوسط الكفارة.
وقد جمع الشيخ بقوله: كما ذكرنا في الظهار، ما يجزئ من الأجناس وما لا يجزئ، وكيفية النية ووقتها، وما يتعلق بذلك، وقد ذكر في "الحاوي" هاهنا وجهاً: أن الاعتبار في جنس الطعام بقوت المكفر؛ لظاهر الآية. ولم يحك مثله في كفارة الظهار.
قال: وإن أراد الكسوة دفع إلى كل مسكين ما يقع عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو منديل أو مئزر، أي: وغير ذلك كالعمامة، والجبة، والقباء، والطيلسان، والمقنعة، والخمار، والإزار؛ لأن الشرع ورد بالكسوة مطلقاً، ولا عرف له فيها.
ولم يختلف العلماء في أنا لا نوجب لكل مسكين دست ثوب؛ فحمل على ما ينطلق عليه الاسم، ويخالف واجب الطعام؛ حيث قدر بالمد؛ فإن، فيه سداد الرغيب، وكفاية المقتصد، ونهاية الزهيد، والكسوة لا سبيل إلى ضبطها، هذا هو الجديد.
وقد حكى عن القديم قولاً موافقاً لمذهب مالك، وحكاه البويطي أيضاً: أنه
يشترط أن يكون المعطى ساتراً للعورة، بحيث تصح الصلاة فيه؛ فيختلف بذكورة الآخذ وأنوثته، حتى يجزئ الإزار الواحد إن كان الآخذ ذكراً، ولا يجزئ إن كان أنثى.
وضعف الأصحاب ذلك بوجهين:
أحدهما: خروجه عن اعتبار الاسم وهو أصل، وعن اعتبار الكفاية وهي عرف.
الثاني: أنه لو أعطي من رقيق الثياب ما يعم العورة ولا يسترها لرقته أجزأه، وإن لم يجز فيه الصلاة؛ كذا قاله الماوردي.
وعلى الجديد: هل يشترط أن يكون المدفوع يتمكن المدفوع إليه من لبسه، أو لا يشترط ذلك كما إذا دفع ثوب صغير إلى كبير؟ فيه وجهان:
اختيار الشيخ أبي محمد: الاشتراط؛ لقوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} فأضاف الكسوة إلى من يكسى.
وأظهرهما: عدم الاشتراط، وإجزاء ذلك، وبه قال القاضي الحسين، وهو الذي دل عليه كلام الشيخ هاهنا؛ حيث قال:"ما يقع عليه اسم الكسوة" ولم يقل: كسوة المدفوع إليه.
ويؤيده: أنه يجوز أن يدفع للرجل من الكسوة ما يصلح للمرأة، وكذلك يجوز أن يدفع للمرأة ما يصلح للرجل، ولا يشترط أن تكون الكسوة مخيطة.
فرع: لو أعطى عشرة مساكين ثوباً طويلاً، قال الماوردي: إن دفعه إليهم بعد قطعه أجزأه؛ لأنه قد صار كل قطعة منه كسوة، وإن دفعه إليهم صحيحاً، لم يجزئه؛ لأنه ثوب واحد.
تنبيه: الكسوة: بكسر الكاف وضمها.
والمنديل: مشتق- على ما حكاه ابن الأعرابي وابن فارس- من الندل، وهو النقل؛ لأنه ينقل من واحد إلى واحد.
وقيل: من الندل؛ وهو: الوسخ؛ لأنه يندل به.
ويقال: تندلت بالمنديل، وتمندلت، وتمدلت: وهو أنكرها.
والمئزر: بكسر الميم، مهموز، ويجوز ترك همزه، وهو الإزار؛ كقولهم: ملحف
ولحاف، ومقرم وقرام.
قال: فإن أعطاهم قلنسوة قلنسوة، فقد قيل: يجوز؛ لما روي أن عمران بن الحصين سئل عن قوله- تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} فقال: إذا قدم وفد على الأمير، فأعطاهم قلنسوة قلنسوة- يقال: قد كساهم.
قال: وقيل: لا يجوز؛ لأنه لا يقع عليها اسم الكسوة، وحكى الماوردي عن أبي الفياض البصري: أنها إن كانت صغيرة تغطي قحف الرأس لم تجزئ، وإن كانت كبيرة تعم الرأس، وتغطي الأذنين والقفا-[أجزأت، والمشهور الخلاف الأول، وهو جار في إجزاء الخف على ما حكاه البندنيجي]، وأجراه غيره في الشمشق، وهو المكعب، وفي النعل، وفي الدرع، وفي التبان: وهو سراويل صغير لا يبلغ الركبة، والظاهر في الجميع المنع.
وجعل المحاملي قول المنع في القلنسوة المذهب، وقطع في الخف والنعل بعدم الإجزاء، ووافقه الماوردي على ذلك؛ كما لا تجزئ المنطقة والكمران والتكة، وفي "جمع الجوامع" أجراه في التكة.
ولا يجزئ دفع الغزل قبل النسج، وكذا لا تجزئ البسط والأنطاع؛ لخروجها عن اسم "الكسوة"، وتجزئ الأكسية؛ لأنها تلبس دثاراً وإن لم [تلبس شعاراً، وهل يجزئ ما يلبس من الجلود واللبود والفراء؟ ينظر: إن كان في بلد] يلبس أهله ذلك أجزأه، وإن كان [في بلد لا يلبسه] أهله فوجهان حكاهما الماوردي، وأنهما مخرجان من اختلاف قوليه في أجناس الحبوب في الإطعام: هل يكون مخيراً، أو يعتبر بالغالب منها؟ وفي "الجيلي": أن محلهما ما إذا كانا في بلد يلبس فيه ولو نادراً.
تنبيه: القلنسوة: بفتح القاف واللام، وضم السين، وفي جمعها لغات: قلانس، وقلاس، وقلاسي مشتقة من "قلس": إذا غطى، والنون زائدة.
قال: [ولا يجزئ] الخلق؛ لأنه يشبه الطعام المسوس والعبد الزمن، وكذا لا
يجوز المرقع؛ لأجل البلى، ويجوز المرقع في الابتداء، وما عدا ذلك مما يعد عيباً في البيع لا يمنع من الإجزاء؛ كما قلنا في عيب الرقبة.
ولو كان الثوب رقيقاً مهلهل النسج، غير بال في جنسه، لكن يبليه أدنى لبس، ولا يدومم إلا بقدر ما يدوم الثوب البالي- فقد قال الإمام في ذلك: الذي يظهر أنه لا يجزئ.
تنبيه: الخلق- بفتح الخاء واللام- الثوب البالي، وجمعه: خلقان، وقد خلق الثوب، بضم اللام وفتحها وكسرها، وأخلق: أربع لغات.
قال: ويجزئ ما غسل دفعة أو دفعتين كالطعام العتيق، والعبد المعيب بعيب لا يضر بالعمل.
واعلم أن سكوت الشيخ- رحمه الله عن ذكر الجنس يعرفك أنه لا فرق في ذلك بين جنس وجنس، فيجزئ الثوب من القز والإبريسم أو القطن أو الكتان أو الصوف أو الشعر، لكن يشترط أن يكون طاهر العين، فإن كان نجس العين لم يجزئه، وإن كان متنجساً أجزأه، وعليه أن يعلمهم بنجاسته.
وفي الحرير وجه: أنه يجزئ إذا دفعه إلى [امرأة أو صبي]، ولا يجزئ إذا دفعه إلى رجل، وهو يناظر ما حكيناه من أنه لا يجزئ الثوب الصغير إذا دفعه للكبير؛ اعتباراً بحال المدفوع إليه، وأنه لا فرق بين الجيد من النوع والمتوسط منه والرديء في الإجزاء، ومأخذه اتباع الاسم.
وعن القاضي الحسين: أنه لو قيل باعتبار الكسوة الغالبة في أهل البلد كالطعام لم يبعد.
قال الإمام: وهو متجه، وهو قريب- أيضاً- مما حكيناه عن رواية "الحاوي" في الفراء والجلود.
قال: وإن كان معسراً لا يقد على المال، أي: الذي يصرفه في الكفارة، أي: بأن كان كسوباً وكسبه قدر كفايته، أو له من المال قدر كفايته بغير زائد عليه.
قال: كفر بالصوم؛ للآية.
ثم ما المراد بقدر الكفاية؟ هل كفاية وقته، أو على الأبد؟
الذي صرح به من العراقيين البندنيجي والمحاملي الثاني، وعليه ينطبق إيراد ابن الصباغ؛ حيث قال: إن من له أن يأخذ من الزكاة من سهم الفقراء والمساكين أو من الكفارة، جاز له أن يكفر بالصوم، ولا يلزمه التكفير بالمال، وأورد عليه أن من يملك نصاباً لا يحصل به الكفاية تجب عليه زكاة المال، وإن كان ممن يجوز له أخذها. وأجاب: بأنا لو أسقطنا الزكاة لخلا لانصاب عنها، وهاهنا لا يسقط، وإنما ينتقل إلى بدلها وهو الصيام، وهذا ما حكاه الرافعي، ودل عليه ظاهر كلام الشافعي؛ حيث قال: ومن له أن يأخذ من الكفارة والزكاة، فله أن يصوم.
وفي "الحاوي": أن التكفير بالمال قد يجب على من تحل له الزكاة والكفارة، وهو من وجدها فاضلة عن قوته وقوت عياله، ولا يصير بفضلها غنياً؛ فيجب عليه التكفير بالمال دون الصيام؛ لوجودها في ملكه، فاضلة عن كفاية وقته، ويحل له أن يأخذ من الزكوات والكفاراة؛ لدخوله في حكم الفقر والمسكنة.
وأجاب عن نص الشافعي بأنه أشار إلى الأغلب من أحوال الناس، والأغلب ما قاله.
قلت: وقد انتظم من مجموع النقلين خلاف، وهو مشابه للوجهين اللذين حكاهما ابن الصباغ في الحج في أن المعتبر أن يفضل ما يحتاج إليه في الحج عن الكفاية على الدوام.
ويتجه أن يجيء فيما نحن فيه مذهب ثالث، أبداه الرافعي احتمالاً في كتاب الظهار: أن المعتبر أن يكون فاضلاً عن كفاية سنة.
قال: وإن كان له مال غائب لم يجز أن يكفر بالصوم؛ لأنه قادر على التكفير بالمال من غير ضرر؛ فلم يتحقق الشرط.
فإن قيل: قد حل له أن يأخذ من الزكوات والكفارات؛ فوجب أن يجوز له أن يكفر بالصوم؛ كالقسم قبله.
فالجواب: أنه يأخذ لحاجة مختصة بمكانه، والكفارة معتبرة بإمكانه.
فإن قيل: أليس المتمتع في الحج إذا كان معسراً بمكة، موسراً ببلده، يكفر بالصوم؛ فهلا كان هذا مثله؟
فجوابه: أن مكان الدم مستحق بمكة، فاعتبر يساره وإعساره بها، ومكان الكفارة مطلق؛ فاعتبر يساره وإعساره على الإطلاق.
قال: والصوم ثلاثة أيام [للآية.
قال:] والأولى: أن تكون متتابعة؛ ليخرج من خلاف أبي حنيفة وأحد القولين عندنا.
قال: فإن فرقها، ففيه قولان:
أصحهما: أنه يجوز؛ عملاً بإطلاق الآية، وهذا هو المنصوص عليه في هذا الموضع وقال الإمام: إنه الجديد.
والقول الثاني: أنه لا يجوز، وهو ما نص عليه في كتاب الصيام، واختاره المزني، وهو الأصح في "التهذيب"؛ استدلالاً بقراءة ابن مسعود:"فصيام ثلاثة أيام متتابعات" وقراءة أبي: "فصيام ثلاثة أيام متتابعة"، والقراءة الشاذة تقوم مقام خبر الواحد في وجوب العمل، ولأنه صوم تكفير فيه عتق؛ فوجب أن يكون التتابع من شرطه ككفارة القتل والظهار، ولأن من أصل الشافعي حمل المطلق على ما قيد من جنسه؛ كما حمل العتق في كفارة اليمين على المقيد في كفارة القتل، وذلك يقتضي حمل إطلاق هذا الصيام على ما قيد من تتابعه في القتل والظهار.
وأجاب من قال بالأول عن القراءة الشاذة: بأنها إنما تجري مجرى خبر الواحد في وجوب العمل بها إذا أضيفت إلى التنزيل، أو إلى سماعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما إذا أطلقت جرت مجرى التأويل.
ثم لو سلمت حملت على الاستحباب، وإطلاقها على الجواز.
وذهب بعض مشايخنا إلى أنها لا حجة فيها وإن أضيفت إلى التنزيل وغيره؛ لأنها ذكرت لكونها قرآناً، ولم يثبت كونها قرآناً؛ فلا يجب العمل بها.
وعن القياس على كفارة الظهار والقتل بأنها لما غلط صومها بزيادة العدد تغلظ بالتتابع، ولما خفف هذا الصوم بنقصان العدد تخفف بالتفرقة.
وعما ألزموه من قاعدة الشافعي في حمل المطلق على المقيد: بأن الإطلاق هاهنا متردد بين أصلين يجب التتابع في أحدهما وهو كفارة الظهار، ولا يجب في الآخر وهو قضاء رمضان؛ فلم يكن أحد الصلين في التتابع بأولى من الآخر.
التفريع: على القول باعتبار التتابع إذا أفطر الحالف في اليوم الثاني أو الثالث بعذر المرض أو السفر، كان حكمه كما ذكرنا في الظهار.
ولو أفطرت المرأة بعذر الحيض، فقد قيل: لا يقطع التتابع؛ كما في صوم الشهرين.
وقيل: يقطع بالانقطاع؛ لأن خلو الأيام الثلاثة عن الحيض ممكن، بخلاف الشهرين، وقيل: الحيض هاهنا كالمرض هناك.
وإذا كانت المرأة ممن لم تحض، فشرعت في الصوم وابتدأها الحيض- قال الرافعي: اتجه التسوية بينه وبين المرض.
قال: وإن كان الحالف كافراً لم يكفر بالصوم؛ لأنه ليس من أهله، وكذا لو كان مسلماً ثم ارتد، ليس له أن يكفر به في حال ردته، ويجوز للكافر أن يكفر بالمال؛ لما ذكرناه في كتاب الظهار.
وهل يجوز للمرتد أن يكفر به؟ فيه طريقان:
أحدهما: أنه على الخلاف في ملكه: إن قلنا بزواله لم يكفر به أيضاً، وإن قلنا ببقائه كفر به، وإن وقفناه: فإن عاد إلى الإسلام تبين وقوعه عنه، وإن مات أو قتل على الردة فلا.
والثاني: القطع بإجزائه لأنه مستحق عليه قبل الردة؛ فكان كالديون، على أن في الديون وجهاً عن الإصطخري حكاه صاحب "التقريب": أنها لا تقضي؛ على قول زوال الملك، ويجعل كأنه تلف.
والظاهر: أنه يكفر، وإن ثبت الخلاف.
وهذا الحكم جار هاهنا، وفي سائر الكفارات، وعن صاحب "التقريب" حكاية وجه في هذه الكفارة: أنه لا يخرج من ماله إلا أدنى الدرجات؛ هكذا حكاه الرافعي.
وحكى البندنيجي أن إجزاء الكفارة عنه ينبني على تصرفه، وفيه ثلاثة أقوال [مشهورة، فإن قلنا بجوازه أجزأه، وإن قلنا بعدم جوازه ففي ماله- على هذا القول- قولان:].
أحدهما: أنه زال عنه.
والثاني: أنه باق عليه.
وعلى القولين تكفيره وتصرفه باطل؛ فإن كان عليه دين، فقضاه عن نفسه، لم يصح، وإن قضاه الإمام من ماله جاز.
قال: وإن كان عبداً، فأذن له المولى في التكفير بالمال، أي: الذي ملكه إياه، لم يجز في أصح القولين؛ بناء على أنه لا يملكه، وهو الجديد.
وفي "الشامل" و"الذخائر" حكاية عن ابن القاص تفريعاً على هذاك أنه يصح منه التكفير بالمال حتى بالعتق، ويثبت له الولاء، وأنكره أصحابنا.
قال: ويجوز في الآخر بالطعام والكسوة؛ بناء على أنه يملك، وهو القديم.
قال: دون العتق؛ لأن العتق يستعقب الولاء، ولا يمكن إثبات الولاء للعبد.
وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه يجوز؛ كالطعام والكسوة.
وعلى هذا: فلمن يكون الولاء؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه للسيد.
والثاني: أنه موقوف على ما يفضي إليه الحال: من عتق؛ فيصير الولاء له، أو يموت على رقه؛ فيكون لسيده، هذه طريقة "الحاوي".
وأما الإمام فقدم على الكلام في ذلك مقدمة، وهو أن السيد لو ملك رقيقه عبداً، وأذن له في عتقه، فلا شك في نفوذ العتق، و [لكن] لمن يكون الولاء؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يكون للعبد؛ فعلى هذا يجزئ عتقه عن الكفارة.
والثاني: أنه يكون للسيد؛ فعلى هذا يقع العتق عمن؟ قال الإمام: ينقدح فيه وجهان للأصحاب:
أظهرهما: أنه للسيد، وكأن الملك ينقلب إليه؛ لانصراف الولاء إليه؛ فعلى هذا لا يجزئ عن الكفارة.
والثاني: أنه للعبد؛ فعلى هذا يجوز عتقه عن الكفارة، وهو ما صار إليه الشيخ أبو محمد.
والثالث: أنه يكون موقوفاً؛ فعلى هذا هل يقع العتق عن الكفارة ناجزاً في الحال، أو يكون موقوفاً كالولاء؟
الذي حكاه الصيدلاني عن الأصحاب: الأول.
والذي اختاره: الثاني، وبه قطع القاضي، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في كفارة الظهار مختصراً.
وحكم المدبر والمعتق بصفة وأم الولد، حكم العبد.
وأما المكاتب: فإن قيل: إن العبد لا يملك إذا ملك، لم يكن له أن يكفر إلا بالصوم.
وإن قلنا: إنه يملك بتمليك السيد وأذن له، ففي جواز تكفيره بالمال قولان:
أحدهما: يجوز كالعبد.
والثاني: لا يجوز أن يكفر إلا بالصوم، وإن كان للعبد أن يكفر بالمال؛ لأن تملك السيد لمال مكاتبه ضعيف، فضعف إذنه فيه، وتملكه لمال عبده قوي؛ فقوى إذنه فيه، كذا حكاه الماوردي.
وحكى الإمام عن الصيدلاني أنه قال: إن أعتق المكاتب عن كفارته بإذن السيد – على قولنا بنفوذ تبرعاته بإذن السيد- فالذي ذكره الأصحاب: أن ذمته برئت عن الكفارة.
والذي عندي فيه: أن الأمر موقوف؛ فإن المكاتب ربما يعجز فيرق، ثم إذا عاد رقيقاً فيكون الولاء موقوفاً، وإذا كان موقوفاً يجب وقف الكفارة.
واعلم أن كل موضع قلنا فيه: يجوز للعبد أن يكفر بالمال بإذن المولى، يجوز للمولى أن يكفر عنه بإذنه به. وكل موضع قلنا: لا يجوز [له] أن يكفر به بإذن
المولى، لا يجوز للمولى أن يكفر به عنه بإذنه. نعم، لو مات العبد والمكاتب جاز للمولى أن يكفر عنه بالإطعام والكسوة، وإن قلنا: إن العبد لا يملك بالتمليك؛ لأن التكفير عنه في الحياة يتضمن دخوله في ملكه، والتكفير بعد الموت لا يستدعى ذلك؛ فليس للسيد ملك محقق.
وأيضاً فإن الرق لا يبقى بعد الموت؛ فهو والحر سواء.
قال الإمام: ويتطرق إليه احتمال وجه مذكور في الكفارات- فيما إذا أعتق العبد وعليه كفارة، وأراد أن يكفر بالمال، وقلنا: إن الاعتبار بحال الوجوب-: أنه لا يجوز؛ لأنه لم يكن أهلاً للتكفير بالمال حينئذ.
وإذا قلنا بالظاهر فهل يجزئ إعتاقه عنه؟ فيه وجهان، أصحهما- وهو المذكور في "التهذيب" المنع؛ لما ذكرناه من إشكال الولاء.
فرع: إذا قلنا: يجوز للعبد أن يكفر بالمال، فهل له العدول عنه إلى الصيام؟ الذي أبداه الإمام والرافعي في كتاب الظهار: الوجوب، والذي يقتضيه إيراد الشيخ هاهنا: عدمه.
آخر: إذا أعتق العبد بعد اليمين، ثم حنث؛ فحكمه في الكفارة حكم الأحرار، وإن حنث في حال الرق، ثم أعتق، فإن كان معسراً كفر بالصوم.
وإن حصل له مال، فإن قلنا: الاعتبار بحال الأداء، أو بأعلى الحالين، كفر بالمال، ولم يجزئه الصوم.
وإن قلنا: الاعتبار بحال الوجوب، أجزأه الصوم.
وإن أراد أن يكفر بالمال، فإن قيل: إن العبد يجوز أن يكفر بالمال على قوله القديم: إنه يملك إذا ملكه سيده، كان بعد عتقه أولى بالجواز.
وإن قيل: إنه لا يجوز للعبد أن يكفر بالمال على قوله في الجديد: إنه لا يملك، فهل يجوز له بعد عتقه أن يكفر بالمال؟ على وجهين:
أحدهما: يجوز؛ لأنه عند تكفيره حر؛ فأشبه الحر المعسر.
والوجه الثاني: لا يجوز؛ لأنه لو أراد التكفير بالمال عند الوجوب لم يجزئه، بخلاف الحر المعسر الذي لو كفر بالمال أجزأه؛ فلزمه استصحاب هذا الحكم بعد عتقه؛ لاستقرار وجوبه في حال رقه؛ فصار في حصول تكفيره ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يكفر إلا بالمال.
والثاني: لا يكفر إلا بالصوم.
والثالث: أنه مخير بين التكفير بالمال أو الصيام، كذا حكاه الماوردي.
والذي حكاه ابن الصباغ- على القول باعتبار حال الوجوب- أن المذهب: أن له أن يكفر بالعتق والإطعام والكسوة.
ومن أصحابنا من قال: لا يكفر بالعتق قولاً واحداً، وفي الإطعام والكسوة القولان في ملك العبد؛ لأن الاعتبار بحال الوجوب، وحال الوجوب كان عبداً.
قال: وإن أراد أن يكفر بالصوم في وقت لا ضرر على مولاه فيه، أي: مثل أن كان في الشتاء أو ما قاربه من الزمان القصير المعتدل، جاز، أي: من غير إذن المولى، سواء حلف بإذنه وحنث بإذنه، أو بغير إذنه، لأنه لا ضرر عليه في ذلك؛ فلم يكن له منعه منه؛ كما لو أراد أن يتطوع بالصلاة في غير زمان الخدمة، أو يقرأ القرآن.
وحكى الماوردي وغيره وجهاً: أنه لا يجوز من غير إذنه؛ لأنه ينقض نشاطه.
وحكم التطوع بالصوم في مثل هذا الوقت حكم الصوم عن الكفارة.
وفي "النهاية": أن ما ذكر من جواز الصوم تبرعاً أو فرضاً حيث لا يؤثر في الرقبة والقوة في العبد، أما الأمة فللسيد أن يفطرها في صوم التطوع، وصوم الفرض إن لم يكن سبب وجوبه بإذنه.
قال: وإن كان عليه ضرر فيه؛ بأن كان في حر شديد، أو في طول النهار، أو كان يضر به ويضعفه عن العمل- نظر:
فإن كان حلف بغير إذنه وحنث بغير إذنه لم يجز؛ لأن السيد لم يأذن له فيما ألزم نفسه مما يتعلق به ضرر على السيد؛ فكان له منعه وتحليله منه؛ كما لو أحرم بالحج بغير إذنه.
قال: وإن كان حلف بإذنه، وحنث بغير إذنه- فقد قيل: يجوز؛ لأن الإذن في الحلف إذن فيما يتعلق به ويترتب عليه؛ كما أن الإذن في النكاح إذن فيما يتعلق به من اكتساب المهر والنفقة، وهذا ما رجحه في "التهذيب".
قال: وقيل: لا يجوز، وهو الأصح؛ لأن اليمين مانعة من الحنث، ولا يعقبها وجوب الكفارة؛ فلم يكن إذنه فيها إذناً في إلزام الكفارة.
ولأنه إذا حلف وحنث بغير إذنه، لم يجز له أن يصوم بغير إذنه، مع أنه لم ينهه عن المخالفة بالإذن في اليمين؛ فلئلا يجوز- وقد نهاه عن المخالفة وأكدها بإذنه في اليمين- كان أولى.
وقد بقى من القسمة الرباعية أمران:
أحدهما: قسيم الأول، وهو: إذا حلف بإذنه وحنث بإذنه، جاز من غير إذنه، ولم يكن للسيد منعه، وإن كانت الكفارة على التراخي؛ لما صدر عنه من الإذن، وحكى الإمام أن من أصحابنا من قال: لا يجوز.
الثاني: إذا حلف بغير الإذن، وحنث بالإذن، فطريقان:
أحدهما- وهو الذي جزم به الماوردي والمحامللي-: أنه يجوز، وهو قضية كلام ابن الصباغ؛ حيث علل وجه الجواز- فيما إذا حلف بالإذن، وحنث بغير الإذن- بأنه أذن في أحد سببي الكفارة؛ فلم يكن له المنع من التكفير؛ كما لو أذن في الحنث دون اليمين.
والطريق الثاني- وهو الذي ذكره الغزالي-: [أن] فيه وجهين، والأظهر- وإن ثبت الخلاف- جوازه بغير الإذن.
قال: فإن خالف، أي:[حنث، و] قلنا: لا يجوز من غير إذن، وصام، أجزأه؛ لأنها عبادة لا يقف انعقادها على إذنه؛ فصحت وإن جاز للسيد منعه؛ كالحج.
ولأن المنع لا يعود إلى نفس الصوم؛ فأشبه ما لو صلى الجمعة من غير إذنه.
قال: وإن كان نصفه حراً، ونصفه عبداً، وله مال- أي: ملكه بنصفه الحر- كفر بالطعام والكسوة، أي: ولا يجوز له أن يكفر بالصوم؛ العاجز عنه، وهذا كما أنه إذا وجد ثمن الماء لا يجوز أن يصلي بالتيمم، وإذا وجد ثمن الثوب لا يجوز له أن يصلي عارياً كالحر.
قال: دون العتق؛ لأنه إذا لم تكمل فيه الحرية لم يكن من أهل الولاء؛ فلم يصح منه الإعتاق كالعبد القن.
وذكر الصيدلاني في تكفيره بالعتق قولين كالقولين في المكاتب إذا أعتق بإذن سيده، والذي يظهر أن يجيء فيه ما ذكرناه من الخلاف في العبد من طريق الأولى.
قال: وقيل: هو كالعبد القن، أي: فيكفر بالصوم، وهذا ما خرجه المزني، ويقال: إن ابن سريج صوبه فيه.
وفي "الحاوي": أن عدة من أصحابنا وافقوه عليه، ووجهوه بأنه ناقص بالرق، وبأن الأداء بحسب اللزوم، واللزوم يلغي جملته؛ فكذا الأداء؛ فلو أخرج المال لكان مخرجاً عن بعضه الرقيق.
والمذهب: الأول؛ لأن تكفير الحر الموسر بالمال، وتكفير العبد القن بالصوم، ولم يخل حال من نصفه حر ونصفه عبد من ثلاثة أحوال: تبعيض الكفارة على الرق والحرية، أو تغليب الرق على الحرية، أو على العكس، وقد أجمعوا على بطلان الأول؛ فلم يبق إلا تغليب أحدهما؛ فكان تغليب الحرية في التكفير بالمال أولى من تغليب الرق في التكفير بالصوم من وجهين:
أحدهما: أنه لما تغلبت حرية بعضه في السراية إلى عتق جميعه تغلب حكمها في تكفيره.
والثاني: أن التكفير بالمال أصل، وبالصيام بدل؛ فكان تغليب ما أوجب الأصل من المال أولى من تغليب ما أوجب البدل من الصيام.
وقد نجز – بحمد الله- شرح مسائل الكتاب، ولنختمه بذكر فوائد وفروع متعلقة به، فنقول:
الكفارات ثلاثة أنواع:
نوع مرتب لا تخيير فيه، وهو كفارة القتل والجماع والظهار.
ونوع مخير لا ترتيب فيه، وهو جزاء الصيد وفدية الأذى.
ونوع فيه تخيير وترتيب، وهو كفارة اليمين وما في معناها من كفارة النذر، وقوله: أنت علي حرام.
فالتخيير في الأنواع الثلاثة، والترتيب بينها وبين الصوم، وعلى كل حال: فإذا أتى بها في [أي] وقت كانت أداء إلا كفارة الظهار؛ فإن لها وقت أداء وهو إذا فعلت بعد العود وقبل الجماع، ووقت قضاء وهو إذا فعلت بعد العود والجماع، صرح به البندنيجي.
ويجوز لكل من وجبت عليه الكفارة إذا كان أهلاً لأدائها: أن يخرج المال منها بنفسه، ويجوز أن يأمر غيره بإخراجه، وإذا أمر غيره بالإخراج: فإن كان من مال المأمور صح، سواء كان بجعل أو بغير جعل، ويقدر بيعاً أو هبة، وموضع الكلام في ذلك عند الكلام فيما إذا قال لغيره: أعتق [عبدك عني]. وإن كان من مال نفسه فالمأمور وكيل، ولا شك في جواز ذلك؛ لأن مقصودها المال، [والعمل] تبع؛ فأجريت مجرى حقوق الآدميين، لكن النية في إخراجها مستحقة لما يتضمنها من العبادة، وللآمر والمأمور أربعة أحوال:
أحدها: أن ينوي الآمر عند الأمر والمأمور عند دفعه، فهو أكمل أحوال الجواز.
والثاني: ألا ينوي واحد منهما؛ فلا يجزئ، ولا يضمنه المأمور.
والثالث: أن ينوي الآمر عند دفعه، [ولا ينوي المأمور عند دفعه] فهذا يجزئ لاقتران النية بالدفع.
والرابع: أن ينوي الآمر عند الأمر، ولا ينوي المأمور عند دفعه؛ ففي إجزائه وجهان، حكى ذلك الماوردي.
والثالث على الضد مما حكى في كتاب الزكاة.
ثم الآمر إما أن يعين ما يخرجه في الكفارة، أو لا يعينه ويطلق؛ فإن عين شيئاً، فأخرج غيره ضمنه، سواء عدل من الأدنى إلى الأعلى، كعدوله من الإطعام إلى العتق، أو بالعكس، كذا أطلقه الماوردي.
قلت: وفي ضمان المعتق نظر؛ لأن العتق غير نافذ [فكيف يضمنه]؟
وإن أطلق الإذن، ولم يعين له جنساً، فإن كانت الكفارة مرتبة حمل إطلاقه على ما يقتضيه حاله من عتق أو إطعام، فإن أخرج غيره لم يجزئه. وإن كانت كفارة تخيير مثل: كفارة الأيمان، فإن كفر بأقل الأشياء ثمناً جاز، سواء كان ذلك موجوداً في ماله أو غير موجود، وإن كفر بأكثر الأجناس ثمناً: فإن لم يوجد في ملكه إلا هو أجزأه، وإن لم يوجد في ملكه إلا الأقل لم يجزئه، ويكون ذلك على المأذون دون الآمر، والكفارة باقية، وكذا إن لم يكن في ملكه واحد منهما.
وإن كانا في ملكه فوجهان:
أحدهما: أن الحكم كذلك.
والثاني: أنه يجوز.
وهذا كله في حال الحياة، أما إذا مات من وجبت عليه الكفارة، ولم يخرجها – نظر:
إن خلف تركة، كانت الكفارة في ماله، أوصى بها أو لم يوص، وسبيلها سبيل الديون، هذا هو المذهب.
وذكر في باب الوصية وجه: أنه إن أوصى بها أخرجت من الثلث، وإلا لم تخرج.
وعلى المذهب: للوصي أو الوارث أن يعتق عنه في الكفارة المرتبة، ويكون الولاء للميت؛ فإن تعذر العتق أطعم من التركة؛ لأن ذلك الواجب.
وأما إذا كانت الكفارة غير مرتبة، مثل: كفارة اليمين وما في معناها، فالواجب – على ما حكاه البندنيجي والمحاملي-:[الإطعام لأنه أقل ما يكفر به في حال الحياة، وقال صاحب التهذيب: الواجب: أنقص الأشياء قيمة من] الإطعام والكسوة والعتق، واتفقوا أن الوارث إذا كفر بأعلاها قيمة جاز.
وانفرد البندنيجي والمحاملي بحكاية وجه في الإعتاق: أنه لا يجزئ، وقد حكاه غيرهما.
وبنى في "الحاوي" الوجهين في جواز الإعتاق على خلاف بين أصحابنا في أن الواجب بالنص في كفارة التخيير أحد الخصال على وجه التخيير، أو
الواجب جميعها بالنص، وله إسقاط جميعها بفعل أحدها؟ فإن قلنا الأول لا يجزئ، وإن قلنا بالثاني أجزأه، وهو الأصح في الطريقين، وعليه ينبني ما لو أوصى بالعتق وهو أزيد قيمة؛ فإنه يعتبر من الثلث، لكن هل المعتبر جملة الرقبة، أو القدر الزائد من ثمنها على قدر الواجب؟ فيه وجهان يجريان- على ما حكاه في "التهذيب"- فيما إذا أوصى بالكسوة أو الإطعام، وذلك أزيد قيمة:
فعلى الأول- وهو الأصح عند الرافعي، وظاهر النص، ولم يحك البندنيجي سواه- إن وفي الثلث بها فذاك، وإن لم يوف، أطلق الرافعي القول ببطلان الوصية، وقال البندنيجي والمحاملي: إنما يفرد من التركة قدر الطعام وثلث ما تبقى: فإن لم يف بقيمة رقبة بطلت الوصية، وإن وفى فوجهان: قال ابن سريج وأبو إسحاق وغيرهما: يعتق بذلك رقبة، وظاهر المذهب: أن الوصية تسقط.
وعلى الثاني: إن لم يوف الثلث بما زاد بطلت الوصية.
وحكي في أصل المسألة وجه ثالث ضعيف في العتق: أن جملة الرقبة تعتبر من رأس المال، ويتجه جريانه في الكسوة والإطعام أيضاً.
وإن كان الميت معسراً فقد حكى الماوردي: أن الأصحاب اختلفوا في أن التكفير يعتبر بالواجب؛ فيكون على ما مضى، أو معتبر بالتطوع؛ فيكون- على ما سيأتي- على وجهين، والذي حكاه في التطوع: أنه جائز إذا أوصى به، سواء كان عتقاً أو صدقة. وإن لم يوص به: فإن كان صدقة جاز من الوارث وغيره، وإن كان عتقاً: فإن تطوع به غير الوارث لم يجز؛ لأنه يتضمن الولاء، وهو يجري مجرى النسب؛ للحديث المشهور:"وليس لأحد إلحاق نسب بغيره"؛ فكذلك الولاء. وإن تطوع به بعض الورثة لم يجز؛ لما ذكرناه في الأجنبي، وإن تطوع به جميع الورثة فوجهان؛ هذا آخر كلامه، ومقتضاه- إذا فرعنا على الوجه الثاني- أن التكفير إن جرى بوصية من الميت يجوز من الوارث والأجنبي بالعتق وغيره، وقد صرح به ابن الصباغ وغيره، وجعله كما لو جرى في حال الحياة بإذنه، وإن جرى بغير وصية؛ يجوز من الوارث ومن الأجنبي التكفير بالطعام والكسوة، ولا يجوز من الأجنبي وبعض الورثة بالعتق، وهل يجوز به من جميع الورثة؟ فيه وجهان، وهذا يفهم أنه لا فرق بين الكفارة المرتبة والمخيرة، والذي حكاه ابن الصباغ والبندنيجي والمحاملي وغيرهم: أن الوارث يجوز له في الكفارة المرتبة أن يعتق وأن يطعم، وإن لم تكن مرتبة يجوز له الإطعام، وهل يجوز له العتق؟ فيه وجهان.
قال الإمام: والأولى ترتيب الخلاف على الخلاف فيما إذا خلف تركة؛ فإن التركة علقة قائمة حتى كأنها بقية من حياته.
وأما الأجنبي فلا يقع عتقه عن الميت، وهل يجزئ إخراجه الإطعام والكسوة؟ سكت ابن الصباغ عن ذلك، وحكى الإمام ومن تابعه فيه وجهين، ووجه الأصحاب عدم إجزاء العتق منه بأمرين:
أحدهما: أن التكفير بغير الإعتاق متيسر؛ فلا يعدل إلى الإعتاق؛ لما فيه من عسر إثبات الولاء، ومقتضى هذا: أن يجوز في الكفارة المرتبة.
والثاني: أن فيه إضراراً بأقارب الميت من حيث إنهم يؤاخذون بجناية معتقه، وفي طريقة المراوزة حكاية وجه في إجزاء عتق الأجنبي، ووجه في عدم إجزاء الطعام من الوارث والكسوة، وضعفهما الغزالي.
وأما الصوم فالجديد: أنه لا يجوز للوارث ولا لغيره أن يصوم عنه، وفي القديم: جوازه للولي، والأجنبي المأذون له في الصوم كالولي، وغير المأذون له فيه خلاف مرتب على الإطعام، وأولى بالمنع.