الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الاستبراء
الاستبراء - بالمد-: عبارة عن التربص الواجب لسبب ملك اليمين حدوثاً وزوالاً.
وخص بهذا الاسم؛ لأن هذا التربص مقدر بأقل ما يدل على البراءة من غير تكرر وتعدد فيه، وخص التربص بسبب النكاح باسم "العدة" اشتقاقاً من "العدد"؛ لما يقع فيه من التعدد.
قال: من ملك أمة، أي: بأي سبب كان من سبي أو بيع أو إرث أو هبة أو وصية أو فسخ عقد أو رجوع في هبة أو غير ذلك، وسواء كانت الأمة كبيرة أو صغيرة، حائلاً أو حاملاً، آيسة أو غير آيسة، بكراً أو ثيباً، ملكها من رجل أو صبي لا يجامع مثله أو امرأة.
قال: لم يطأها حتى يستبرئها، أي: سواء استبرئت قبل ملكه، أو بعده وقبل قبضه، [أو لم] تستبرأ.
أما في المسبية؛ فلعموم قوله صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس: "لَا تُوطَأُ حَامِلُ حَتَّى تَضَعَ، وَلا غَيْرُ حَامِلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً". خرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري.
وأما في الباقي فبالقياس على المسبية.
ثم ما العلة في وجوبه؟ خرجه القاضي الحسين على جوابين من نصين للشافعي سنذكرهما:
أحدهما: حدوث ملك الرقبة مع فراغ محل الاستمتاع.
والثاني: حدوث ملك حل الفرج:
وستظهر لك فائدتهما.
وفي البكر وجه خرجه ابن سريج: أنها لا تستبرأ، حكاه الرافعي هكذا.
وفي "النهاية" حكايته عن صاحب "التقريب"، ثم قال: لكنه خصصه بالمسبية، وهو مطرح مزيف لا اعتداد به.
وعن المزني في "المختصر": أنه إنما يجب إذا كانت الجارية موطوءة أو حاملاً.
قال الروياني: وأنا أميل إلى هذا، والمذهب الأول. واحتج له بإطلاق الخبر، مع حصول العلم بأنهن كان فيهن أبكار وعجائز.
وملك الحصة الباقية من الأمة، يوجب الاستبراء عند إرادة الوطء، كما يوجبه ملك جميعها.
قال: فإن كانت حاملاً استبرأها بوضع الحمل؛ لعموم الحديث، وظاهر هذا اللفظ يقتضي أنه لا فرق في الحمل بين أن يكون من نكاح أو وطء شبهة أو زنى وهو موافق لما حكاه المتولي.
وقال الرافعي في الموطوءة بالشبهة، والنكاح: الأقوم أن يفصل فيقال: إن ملك الأمة بالسبي حصل استبراؤها بالوضع، وإن ملك بالشراء فهي كالحرة، فإن كانت حاملاً من زوج، وهي في نكاحه أو عدته، أو من وطء شبهة- فهي معتدة في ذلك الوقت، والمشهور: أنه لا استبراء في الحال، وفي وجوبه بعد انقضاء العدة وجهان، وإذا كان كذلك لم يكن الاستبراء حاصلاً بالوضع.
وقال في "التهذيب": هل تخرج من الاستبراء بوضع الحمل؟ فيه قولان:
أحدهما: نعم؛ كالمسبية.
والثاني: لا؛ كما أن العدة لا تنقضي بالوضع؛ إذ الحمل من غير صاحب العدة، بخلاف المسبية؛ فإن حملها من كافر؛ فلا يكون له من الحرمة ما يمنع انقضاء الاستبراء.
وأما الحمل من الزنى ففي حصول الاستبراء بوضعه حيث يحصل بوضع ثابت النسب، وجهان، أصحهما عند المتولي وغيره: الحصول.
وبنى القاضي الحسين هذا الخلاف على الخلاف في أن استبراء ذات الأقراء بالحيض أو الطهر؟ فإن اعتبرنا الطهر لم يحصل الاستبراء به، وأن اعتبرنا الحيض فالنظر إلى ما تعرف براءة الرحم به، والحمل من الزنى تعرف براءة الرحم
بوضعه، فإن قلنا: لا تعتد به، وكانت ترى الدم عليه، وقلنا: إنه حيض- حصل الاستبراء به في أصح الوجهين.
ولو ارتابت بالحمل- إما في مدة الاستبراء أو بعده- فالحكم كما ذكرناه في العدة.
قال: وإن كانت حائلاً تحيض استبرأها بحيضة في أصح القولين، وهو الجديد؛ للحديث، ويخالف العدة؛ فإنها لإباحة العقد، والعقد يستباح في الحيض والطهر، وخصصناها بالطهر؛ لأنها وجبت قضاء لحق الزوج، فاختصت بأزمان حقه وهي الأطهار، كما في صلب النكاح. وأما الاستبراء فشرع لاستباحة الوطء؛ فاختص بالحيض ليفضي إلى إباحة الوطء إذا انقضى؛ إذ لو جعل بالطهر لما استبيح الوطء بعده لعارض الحيض.
والقول الآخر: أنها تستبرأ بطهر كما في العدة.
وفيه وجه ثالث حكاه الماوردي عن البصريين: أن كلا الأمرين من الحيض والطهر معتبر مقصود.
التفريع: إن قلنا بالقول الأول نظر:
إن وجد سبب وجوب الاستبراء في الطهر لم يحصل الاستبراء حتى تحيض ثم تطعن في الطهر.
وإن وجد في الحيض فلا يعتد به؛ بل لابد من الطعن في الطهر الثاني؛ إذ به تحصل حيضة كاملة للحديث، ويفارق بقية الطهر حيث [يعتد ببقيته طهراً] – كما سنذكره على رأي- لأن بقية الطهر يستعقبها الحيض الدال على البراءة، وبقية الحيض يستعقبها الطهر الذي لا دلالة فيه على البراءة.
وإن قلنا بالقول الثاني، فإن وجد سبب وجوب الاستبراء في آخر الحيض، كان الطهر الكامل بعده استبراء، لكن يكفي ظهور الدم أو يعتبر مضي يوم وليلة؟ فيه ما سبق في العدة.
وقد حكي وجه آخر: أنه لا بد من مضي حيضة كاملة بعد ذلك الطهر، وهذا بعيد عند الغزالي وغيره.
وذكر القاضي الروياني [أنه] الأظهر والأقيس، وهو في الحقيقة راجع
إلى ما حكاه الماوردي عن البصريين، كما سنذكره.
وإن وجد وهي طاهر، فهل يكتفي ببقية الطهر؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم، وهو ما رجحه في "البسيط" والقاضي في "التعليق"، وحكاه في "المهذب"، وعزاه الماوردي إلى البغداديين من الأصحاب، ولكن يضم إليه حيضة كاملة؛ لتعرف بها براءة الرحم ببقية الطهر.
والثاني- وهو المذكور في "التهذيب" ونسبه الماوردي إلى البصريين-: أنه لا يكتفي بها، ولا ينقضي الاستبراء حتى تحيض ثم تطهر، ثم ترى دم الحيضة الثانية، وتخالف العدة؛ فإن فيها عدداً؛ فجاز أن يعبر بلفظ الجمع عن [اثنين وبعض] الثالث.
وإن قلنا بالوجه الثالث: فإن وجد سبب الاستبراء وهي حائض، انقضى الاستبراء باستكمالها [الحيضة الثانية، وإن وجد وهي طاهر، ولم يعتبر بقية الطهر قرءاً- فينقضي الاستبراء باستكمالها الطهر الثاني.
وإن اعتبرناه قرءاً فينقضي الاستبراء باستكمالها] الحيض، والاستكمال يظهر بالدخول في الضد.
قال: وإن كانت ممن لا تحيض [لصغر أو إياس] استبرأها بثلاثة أشهر في أصح القولين؛ لأنها أقل مدة تدل على براءة الرحم، وهذا حكاه الماوردي عن القديم.
قال: وبشهر في الثاني؛ لأن كل شهر في مقابلة قرء في حق الحرة؛ فكذلك في حق الأمة، وهذا هو الأصح في "التهذيب" وعند النواوي.
أما إذا كانت تحيض ثم ارتفع حيضها بغير ما ذكرناه، فحكمها حكم المعتدة إذا ارتفع حيضها.
فرع: لو وطئها قبل الاستبراء، أثم، ولا ينقطع الاستبراء.
قال في "التتمة": لأن قيام الملك لا يمنع الاحتساب؛ فكذلك المعاشرة، بخلاف العدة.
ولو أحبلها بالوطء الواقع في الحيض، فانقطع الدم، حلت بتمام الحيض، وإن كانت طاهراً عند الوطء لم ينقض الاستبراء حتى تضع الحمل.
قال: وإن كانت مجوسية أو مرتدة- أي: حالة الملك- لم يصح استبراؤها حتى تسلم؛ لأن الاستبراء يراد لاستباحة الاستمتاع، ولا استباحة في هذين الحالين.
وفي طريقة المراوزة حكاية وجه: أنه إذا وجد وضع الحمل أو الحيض بكماله، أو الأشهر قبل الإسلام- لا يجب عليها استبراء آخر، ورواه مع الأول الفوراني عن الشيخ أبي حامد فيما إذا حاضت المحرمة، والوثنية قبل الإسلام، ورواه المتولي عنه فيما إذا وضعت الحمل أيضاً.
وبنى القاضي الحسين هذا الوجه على أن علة وجوب الاستبراء حدوث ملك الرقبة، مع فراغ محل الاستمتاع، وجعل الأول مبنياً على أن العلة حدوث ملك حل الفرج.
أما إذا وجد الإسلام قبل استكمال الاستبراء في الكفر، فلا بد من تجديد الاستبراء، والمحرمة- فيما ذكرناه- ملحقة بها على ما حكاه القاضي وغيره.
قال: وإن كانت مزوجة أو معتدة، [أي] حالة الملك لم يصح استبراؤها حتى يزول النكاح، وتنقضي العدة؛ لما ذكرناه من التعليل. وهذا الكلام يدل على وجوب الاستبراء بعد زوال ذلك، وهو موافق لنص الشافعي- رضي الله عنه في "الإملاء"، ومخالف لنصه في "الأم"؛ فإنه صرح بأنه لا استبراء عليها.
وفي طريقة المراوزة حكاية وجه: أنه يعتد به في حال النكاح والعدة.
ووجه حكاه القاضي الحسين في أن المزوجة إذا طلقت بعد الشراء قبل الدخول لا استبراء عليها؛ بناء على العلة الأولى، وهذه المسألة هي الملقبة بالهارونية التي أجاب فيها أبو يوسف بمثل هذا الوجه.
قال: فإن ملكها بمعاوضة، لم يصح استبراؤها حتى يقبضها، وهذا ما ذهب إليه أكثر أصحابنا البغداديين؛ لأن الملك فيها قبل القبض غير مستقر بسبب تعرضه للفسخ.
فعلى هذا: لو وجد بعض الاستبراء في يد البائع، [ثم كمل في يد المشتري- نظر:
فإن كان الأكثر في يد البائع] لم يعتد به، وإن كان في يد المشتري اعتد به، قاله الماوردي.
وفيه وجه صححه الماوردي والرافعي، واختاره القاضيان أبو الطيب والروياني، وجعله البغوي المذهب: أنه يعتد به؛ لأن الملك تام لازم فأشبه ما بعد القبض.
قال في "المهذب": وأصل المسألة: أن المبيع إذا تلف قبل القبض، يرتفع العقد من أصله أم لا؟ وفيه خلاف.
تنبيه: ذكر الشيخ المعاوضة في هذا المقام يظهر به أن اختياره: أن الملك إذا حصل بغير معاوضة تعتد بالاستبراء فيه قبل القبض، وهو الذي ذهب إليه أكثرهم.
وقال البندنيجي: كل من استبرئت قبل قبضها لم يقع الاستبراء موقعه في جميع جهات الملك، إلا إذا ورثها ابنها وبعضهم فصل فقال: إن ملكها بالإرث فلا حاجة إلى القبض؛ لأن الملك به نازل منزلة المقبوض، بدليل جواز بيعه. وإن ملكها بالوصية والقبول، ففيه الخلاف المذكور في المعاوضة، وهذا ما حكاه في "المهذب" والبغوي.
وأما الهبة والمغنم قبل القبض، والوصية قبل القبول، فعدم الاعتداد بالاستبراء في هذه الأحوال ليس لعدم القبض؛ بل لعدم الملك الذي هو سبب الاستبراء؛ فإن الملك لا يحصل إلا به، وإذا لم يحصل السبب لم يوجد المسبب، خصوصاً إذا لم يكن له إلا سبب واحد، وإذا كان كذلك لم يكن كلام الشيخ متضمناً إخراجهما بالقيد المذكور.
ولا فرق فيما ذكرناه بين أن تكون الجارية مستحسنة أو غير مستحسنة؛ لأن الشرع ائتمن المشتري على ذلك، بدليل أنه لم يمنع سبايا أوطاس من الذين وقعن في سهامهم، ويجوز للمشتري استخدامها، وهذا بخلاف الجارية المرهونة: إذا لم نجوز للراهن وطأها ولا يجوز استخدامها؛ لأن الحق فيها للمرتهن، فغلظ فيه.
فرع: لو وقع الحيض أو وضع الحمل في مدة الخيار بعد القبض- فحصول الاستبراء مبني على أقوال الملك:
فإن قلنا: إنه للبائع، لم يحصل، فإذا طهرت من النفاس وطعنت في الحيض انقضى الاستبراء، إن كان ذلك بعد انقضاء الخيار- أيضاً- وقلنا: إن الاستبراء بالطهر، وإن قلنا: إنه بالحيض، فإنما ينقضي إذا تمت الحيضة.
وإن قلنا: إن الملك للمشتري أو موقوف، فوجهان، أظهرهما: المنع؛ لأن الملك في زمان الخيار غير لازم، بخلاف ما قبل القبض.
وخصص الماوردي الخلاف بما إذا حاضت في زمن الخيار، وجعل الصحيح حصوله، وقطع بحصول الاستبراء إذا وضعت؛ لأن الاستبراء بالوضع أقوى من الاستبراء بالأقراء.
وإن وجد الاستبراء في مدة الخيار قبل القبض، [وقبل اللزوم، فهاهنا أولى.
و [إن] قلنا: إنه لا يعتد به، فهاهنا وجهان حكاهما القاضي الحسين.
[فرع] آخر: إذا اشترى العبد المأذون جارية، فللسيد وطؤها بعد الاستبراء إن لم يكن هناك دين، فإن كان هناك دين للغرماء لم يكن له وطؤها، فإذا انفكت الديون بقضاء أو إبراء، فهل يكتفي بما حصل من الاستبراء قبل ذلك أم لا؟ فيه وجهان كما في المجوسية، وبالثاني: أجاب العراقيون، وطرده ابن الصباغ فيما إذا اشترى أمة، ثم رهنها، ثم انفك الرهن بعد وجود الاستبراء في حالة الرهن، وغلطه القاضي الروياني فيه.
قال: وإن ملكها وهي زوجته حلت له من غير استبراء؛ لأنا إن قلنا: إن علة وجوبه حدوث ملك حل الفرج، فهي كانت حلالاً له قبل ذلك، وقد انتقلت من حل إلى حل. وإن قلنا: العلة حدوث ملك الرقبة مع فراغ محل الاستمتاع، فليس محل الاستمتاع هاهنا فارغاً؛ فإنها في حال الشراء منكوحة، وبعد تحقق الشراء معتدة، بدليل أنه لو أراد تزويجها، لم يجز إلا بعد انقضاء تمام عدتها، ولو كانت معتدة عن الغير، فاشتراها- لم يجب الاستبراء بناءً على هذه العلة؛ فكذلك إذا كانت معتدة منه، لكن له هاهنا أن يطأها، [وإن لم نوجب الاستبراء؛ لأن الماءين له، وثم لا يطؤها] وإن لم نوجبه؛ خشية من اختلاط الماءين، وهذا إذا [كان] المشتري حراً.
أما إذا كان مكاتباً، فإن النكاح ينفسخ على ما حكاه الماوردي، ولا يحل له وطؤها إن لم يأذن له السيد، وإن أذن له ففي جوازه قولان، فإن قلنا:[يحل، فيتجه] وجوب الاستبراء.
قال: والأولى ألا يطأها حتى يستبرئها؛ ليتميز الحر من ولده الذي تصير به الأمة أم ولد عن الرقيق الذي يعتق عليه، ويثبت عليه الولاء.
وحكى الغزالي وغيره وجهاً: أنه واجب؛ لما ذكرناه من المعنى.
وبنى الماوردي الخلاف على الخلاف في حل وطئها له في زمان الخيار، فقال: إن قلنا يحل الوطء لم يجب، وإلا وجب، كذا حكاه في البيع.
وبناه القاضي الحسين على العلتين في وجوب الاستبراء، فقال: إن قلنا: إن العلة حدوث ملك [حل] الفرج، فلا، وإن اعتبرنا حدوث ملك الرقبة فيجب، وقد ذكرنا شيئاً على ذلك.
فرع: لو أراد أن يزوجها بعد الشراء، نظر:
إن وطئها بعد الشراء، فلا بد من أن يستبرئها بقرء واحد استبراء الإماء.
وإن لم يكن قد وطئها، قال الماوردي: فلا بد من أن يستبرئها بقرأين عدة أمة؛ لأنه عن وطء في زوجية.
فرع آخر: لو اشتراها بعدما طلقها وهي في عدته، وجب الاستبراء؛ لأنها حرمت بالطلاق، وليس الملك كالرجعة؛ لأنه يقطع النكاح فلا يصلح استدراكاً لما وقع فيه من الخل، وبم يستبرئها؟
ملخص ما ذكره الإمام في باب الرجعة: أنه إن بقيت من العدة حيضة كاملة اكتفى بها، وإن بقيت بقية من الطهر فكذلك عند بعضهم.
ومنهم من يشترط حيضة كاملة، وهي القياس.
[و] هذا إذا قلنا: إن الاستبراء بالحيض، أما إذا قلنا: إن الاستبراء بالطهر، وقلنا: إن الطهر كاف للاستبراء حصل الغرض بها، والله أعلم.
قال: فإن كاتب أمة، ثم رجعت بالفسخ، لم يطأها حتى يستبرئها؛
لأنه استحداث استباحة بملك بعد عموم التحريم؛ فوجب عليه الاستبراء كالتي استحدث ملكها، أو لأنه عقد عليها عقداً صار غيره أحق بمهرها بسببه؛ فأشبه ما إذا باعها أو وهبها.
فإن قيل: الملك في الرقبة باق، والتحريم طارئ؛ فوجب ألا يجب بزواله الاستبراء؛ كما لا يجب بزوال الصوم، والصلاة، والاعتكاف، والحيض، والنفاس، والرهن، والتكفير عن الظهار؛ بجامع اشتراك ذلك في التحريم مع بقاء الملك.
قلنا: لا نسلم أن الملك باق له في رقبة المكاتب؛ فإنا قد حكينا في باب جامع الأيمان أن المكاتب مملوك لنفسه على رأي، لا للسيد. وعلى تقدير التسليم، فالفرق: أن هذه اشياء لم تؤثر التحريم؛ لخلل في الملك، بدليل: أنه يجوز له أن يستمتع بالنظر إليها- مع وجود ما ذكر- بالقبلة- واللمس بشهوة في بعض الصور، وتحريم المكاتبة عام يحرم سائر الاستمتاعات؛ فدل على خلل في الملك فافترقا.
فرع: لو أحرمت الأمة، ثم تحللت، لم يجب الاستبراء عند الجمهور، وهو الذي صححه الإمام.
وعند الغزالي والمتولي في وجوبه خلاف، كما سيأتي في المرتدة.
فرع آخر: لو باع جارية بشرط الخيار، ثم عادت إليه بالفسخ فيه أو في خيار المجلس- فهل يجب الاستبراء عليه؟
إن قلنا: إن الملك للبائع، لم يجب.
وإن قلنا: إنه للمشتري، أطلق الأصحاب القول بالوجوب، وهو ما أجاب به في "التهذيب"، وقضية ما ذكرته في أول الباب.
وقال الإمام: هذا عندي مخرج على أصل، وهو أنه هل يحل له وطؤها مع بقاء الخيار له؛ تفريعاً على القول بزوال ملكه؟
فإن قلنا: لا يحل له، لم يمتنع وجوب الاستبراء.
وإن قلنا: يحل- وهو الأصح- فيبنى على أن الزوج إذا اشترى زوجته، هل
يجب عليه الاستبراء أم لا؟ فإن قلنا: لا يجب، فكذلك هاهنا، وإلا فوجهان.
وقال الرافعي: قد حكينا وجهاً فيما إذا قلنا: إن الملك للبائع: أن الوطء لا يحل، فيجيء على هذا الوجه أن يقال بوجوب الاستبراء.
فرع آخر: إذا أسلم في جارية، فسلمت إليه، ثم اطلع بها على عيب لو رضي به للزم الأخذ، لكنه فسخ- فهل يجب عليه استبراؤها؟ فيه وجهان.
قال: وإن ارتد السيد أو ارتدت الأمة، ثم عاد أي: المرتد منهما، إلى الإسلام لم يطأها حتى يستبرئها؛ لأنه زال ملكه عن استمتاعها بالردة، وعاد بالإسلام؛ فأشبه المسألة قبلها.
وقيل: إن السيد إذا ارتد، [ثم عاد، وقلنا بأن ملكه لم يزل- لا يجب الاستبراء. وادعي في الأمة- أيضاً- إذا ارتدت]، ثم أسلمت.
وادعى الإمام: أنه الأصح فيها.
وبنى في "التهذيب" الخلاف فيها على الوجهين فيما إذا اشترى مرتدة ثم أسلمت، هل يعتد باستبرائها في زمن الردة أم لا؟ فإن قلنا: يعتد به، لم يجب هاهنا، وإلا وجب.
قال: وإن زوجها، ثم طلقها الزوج قبل الدخول، لم يطأها حتى يستبرئها؛ لما ذكرناه من العلة.
وقيل: لا يجب، وادعى مجلي أن ظاهر النص يقتضيه.
قال بعضهم: وهذا الخلاف ينبني على العلتين اللتين ذكرهما القاضي الحسين: فالألو مبني على الثانية، والثاني مبني على الأولى.
وعلى الوجهين: لو كان السيد قد وطئها قبل التزويج لا تعود فراشاً بالطلاق، بخلاف أم الولد كما سنذكره، صرح به الماوردي وغيره.
قال: وإن طلقت بعد الدخول، فاعتدت من الزوج، فقد قيل: يدخل الاستبراء في العدة؛ لحصول المقصود، وهو براءة الرحم، وهذا نصه في "الإملاء". وقيل: لا يدخل، بل يلزمه أن يستبرئها؛ لتجدد ملك الاستمتاع عليها، وهذا نصه في "الأم". ومن هذين النصين استنبط القاضي الحسين العلتين في وجوب الاستبراء.
قال: ومن لا يحل وطؤها قبل الاستبراء- أي بسبب تجدد ملك الرقبة-
لم يحل التلذذ بها قبل الاستبراء- أي: مثل القبلة، واللمس، والنظر بشهوة- لاحتمال أن تكون حاملاً من سيدها؛ فتكون أم ولد له، ويتبين أنه لم يملكها، ولأن هذه الاستمتاعات تدعو إلى الوطء المحرم؛ فحرمت.
قال: إلا المسبية؛ فإنه يحل التلذذ بها في غير الجماع؛ لما روي أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى بأمره في سبايا أوطاس: "ألا لا تُوطَأُ حَامِلُ حَتَّى تَضَعَ، وَلا حَائِلُ حَتَّى تَحِيضَ"؛ فاقتضى النداء الاقتصار على تحريم الوطء، وكانت السبايا مختلطات بالمسلمين، ويغلب على الظن امتداد الأيدي إليهن، فلما لم يحرم الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الوطء مع الحال التي وصفت، اقتضى ذلك تخصيص الوطء بالمحظورات.
وقد روى ابن عمر أنه قال: "وقعت في سهمي جارية منس بي جلولاء فنظرت إليها فإذا عنقها مثل إبريق الفضة، فلم أتمالك أن وثبت عليها فقبلتها والناس ينظرون"؛ فلو كان حراماً لامتنع منه، ولأنكره الناس عليه.
قال: وقيل: لا يحل كما في غيرها، وللعلة الثانية، وهذا أصح في "النهاية".\
قال: والأول أظهر؛ لما ذكرناه، ونظراً إلى العلة الأولى؛ فإن ملكه عليها قد تحقق حائلاً كانت أو حاملاً، وإنما حرم وطؤها صيانة لمائه؛ كي لا يختلط بماء حربي، لا لحرمة الحربي، بخلاف غيرها.
ومثل هذا الخلاف يجري في التلذذ في الحامل من الزنى، لما ذكرناه من التعليل، صرح به الماوردي، وجعل ضابط من يحرم التلذذ بها جزماً: أن تكون بحيث لو ظهر بها حمل صارت به أم ولد لمن كان مالكها، مثل: أن تكون من مالك كانت له فراشاً، أو موروثة عنه، أو مستوهبة منه.
تنبيه: إذا قلنا بجواز التلذذ، فذاك فيما فوق الإزار، أما ما تحت الإزار ففيه تردد أبداه الإمام كما في حق الحائض، والذي يقتضيه إيراد الشيخ [جوازه]- أيضاً- حيث قال:"فإنه يحل التلذذ بها في غير الجماع"، وكذلك إيراد البندنيجي؛ فإنه قال: هل يحل له وطؤها فيما دون الفرج، ودواعي الجماع كالقبلة؟
وهذا التردد يظهر أثره فيما إذا كان استبراؤها بوضع الحمل أو بالأشهر، أما إذا كان بالحيض فلا يظهر له أثر.
وإذا قلنا بتحريم التلذذ، فهل ينقطع بانقطاع الحيض، أم يبقى إلى الاغتسال كما يبقى تحريم الوطء؟
المذهب الأول، والثاني منقول في "تعليق" القاضي الحسين، وطرده فيما إذا قلنا بتحريم التلذذ بالحائض أيضاً.
قال الإمام: وقد بحثت عن الطرق، فلم أجد ما نسب إلى القاضي في شيء منها.
قال: ويصح بيع الأمة قبل الاستبراء- أي: وإن كان قد وطئها المالك- لأن الاستبراء يجب على المتملك عند إرادة الوطء؛ للخبر؛ فتحصل به براءة الرحم؛ فلا حاجة إلى استبراء البائع.
ولا نقول على هذا: يتداخل استبراءان، بل نقول: الواجب استبراء واحد من غير تداخل على المشتري.
وأيضاً: فإن استبراء البائع استبراء مع بقاء الحل؛ فلا يعتد به كاستبراء الزوجة قبل الطلاق.
قال: وأما تزويجها، فينظر:
فإن كان قد وطئها المالك، أي: في الحال، أو من ملكها من جهته، ولم يكن قد استبرأها- لم يجز تزويجها قبل الاستبراء؛ لأنه لو جاز لاستعقب الحل؛ فإنه المقصود من العقد، بدليل أنه لا يصح أن يعقد على من لا يجوز له وطؤها، وذلك يؤدي إلى اختلاط المياه، وهذا بخلاف البيع؛ فإن المقصود منه ليس الوطء، بدليل صحة شراء من يحرم عليه وطؤها، فإذا أوجبنا الاستبراء على من يحل له وطؤها، لم يكن مقصود العقد قد تخلف عنه، وبه يحصل الأمن من اختلاط المياه.
ثم هذا إذا كان الراغب في تزويجها من لم يجب الاستبراء بسبب وطئه [أما إذا كان الرغب في من وجب الاستبراء بسبب وطئه]، فإنه يصح أن يتزوجها قبل الاستبراء، صرح به صاحب "التهذيب".
قال: وإن لم يكن قد وطئها جاز؛ لأن الظاهر فراغ رحمها عن الحمل؛ فجاز الإقدام على العقد عليها كما في المطلقة قبل الدخول.
وفيه وجه: أنه لا يجوز، وهو جار فيما إذا وطئها من ملكها من جهته، ثم استبرأها قبل نقلها عنه، وادعى القفال أنه الذي عليه أكثر الأصحاب، ونوقش فيه.
وهذا الخلاف فيما لو كان الانتقال من امرأة أو صبي.
وعلى المذهب: فالفرق بين التزويج ووطء المشتري أن الزوج إذا لحقه منها ولد أمكنه نفيه باللعان؛ فيندفه عنه الضرر، والسيد لو أبيح له الوطء قبل الاستبراء لم يتمكن من نفيه؛ إذ نفيه يكون بدعوى الاستبراء، ولم يوجد الاستبراء، والله أعلم.
قال: وإن أعتق أم ولده في حياته أو مات عنها، لزمها الاستبراء؛ لأنها كانت فراشاً للسيد، وزوال الفراش بعد الدخول يقتضي التربص؛ كما في زوال الفراش عن الحرة، وهذا الاستبراء يكون كاستبراء الأمة، وقد تقدم، ووجهه: أنه استبراء عن ملك.
ولا يجب عليها أن تعتد عدة الحرائر، ولا عدة الإماء؛ لأن الله- تعالى- خصص الاعتداد بالأقراء بالمطلقات، وبالأشهر والعشر بالزوجات، وهذه ليست بزوجة ولا مطلقة. ولأن هذا استبراء عن ملك؛ فوجب أن يقتصر فيه على قرء كالأمة المشتراة.
فإن قيل: هذا استبراء وجب في حال الحرية؛ فوجب أن يكون كاستبراء الحرة.
فجوابه ما ذكرناه.
ولا فرق [فيما ذكرناه] بين أن تكون قد استبرأت قبل العتق والموت أو لا؛ كما لا فرق في وجوب استبراء الحرة بين أن يكون قد وجد قبل الطلاق أو لا.
وفي "التتمة" حكاية وجه حكاه في "التهذيب" قولاً: أنه إذا وجد قبل العتق والموت كفى.
وبنى بعضهم الخلاف على أن فراش أم الولد هل يزول بالاستبراء، وهل تعود فراشاً للسيد إذا مات زوجها أو طلقها وانقضت عدتها، أو لا تعود ولا تحل إلا بعد استبراء؟ وفيه خلاف.
قال القاضي الحسين: فإن قيل: أم الولد يجوز تزويجها ولو كان الفراش [لا] يزول عنها بالاستبراء، لم يجز تزويجها. ثم قال: قد قيل: إنها لا تزوج لأجل ذلك.
وحكم الأمة الموطوءة إذا أعتقها سيدها- إما في حياته، وإما بعد موته بالتدبير- حكم أم الولد، إلا فيما إذا وجد الاستبراء قبل العتق؛ فإنه لا يحتاج إلى تجديده بعده حتى يحل لها أن تتزوج، كذا حكاه الرافعي عن الأئمة، [وأنهم لم يطردوا] الخلاف المذكور في المستولدة فيها؛ لأن المستولدة ثبت لها حق الحرية، وفراشها شبيه بفراش النكاح.
والإمام والغزالي حكيا الخلاف فيها- أيضاً- وجهين مع ثالث: أنه لا استبراء على القنة بعد العتق، ويجب على المستولدة.
وإذا مات عن الأمة ولم تعتق بموته، لم يكن عليها استبراء عنه، لكن على من انتقلت إليه إذا أراد الوطء، كما تقدم.
ولو أعتق الأمة غير المستفرشة، لم يلزمها استبراء بلا خلاف، وإن أفهم كلام الغزالي [أنه وجه]، صرح به الرافعي.
فرع: حيث قلنا: يجب استبراء المستولدة أو المعتقة بعد العتق؛ لأجل التزويج، فلو أراد السيد أن يتزوجها ففيه وجهان:
أصحهما: الجواز؛ كما يجوز أن ينكح المعتدة منه، وهذا ما جزم به الماوردي فيما إذا كان بائع الأمة قد استبرأها قبل بيعها للمعتق.
قال: وإن مات عنها [وهي مزوجة أو معتدة لم يلزمها الاستبراء؛ لأنها ليست فراشاً للسيد] والحالة هذه؛ فلم يلزمها الاستبراء كما لو لم تكن موطوءة.
وأيضاً: فإن الاستبراء لطلب حل أو لاستباحة نكاح، وهي مشغولة بحق الزوج؛ فلا يطلب منها حل، ولا تنكح غيره.
وخرج [ابن سريج] قولاً: أنه يلزمها الاستبراء؛ كما لو وطئت منكوحة إنسان بشبهة، فشرعت في عدة وطء الشبهة، ثم مات الزوج أو طلقها- فإنه يلزمها العدة عنهز
وأضاف المتولي هذا القول إلى الإصطخري.
وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسي: أنه منصوص عليه في القديم.
فعلى الأول: لو أعتقها أو مات عنها وهي في عدة وطء شبهة، فهل يلزمها الاستبراء؟ فيه وجهان:
أشهرهما: الوجوب.
وميل البغوي إلى مقابله.
ولو مات السيد أو أعتقها بعد انقضاء عدتها عن طلاق الزوج أو موته، لم يلزمها الاستبراء على وجه؛ لأن براءة الرحم قد عرفت بالعدة.
والمنصوص وظاهر المذهب: أنه يجب، إلا أن من الأصحاب من يشترط لوجوبه أن يقع إعتاق السيد أو موته بعد انقضاء العدة بلحظة؛ لتعود فيها فراشاً للسيد، وهذا ما يقتضيه كلام الشيخ في مسألة "موت السيد والزوج" الآتية من بعد. ومنهم من لم يشترط ذلك.
وقد بني الخلاف في وجوب الاستبراء هاهنا على ما إذا انقضت عدة الزوج والسيد حي، هل تعود فراشاً؟ ومذهبا لشافعي وما ظهر من منصوصاته في كتبه- على ما حكاه الماوردي-: أنها تعود فراشاً للسيد، وتحل له من غير استبراء، كما إذا رهنها ثم زال الرهن. فعلى هذا: يلزمها الاستبراء بموت السيد.
وحكى ابن خيران قولاً ثانياً تفرد بنقله عن الشافعي في القديم: أنها لا تعود فراشاً، ويجب عليه الاستبراء إذا أراد وطأها.
فعلى هذا: هل يلزمها الاستبراء بموت السيد؟ فيه الخلاف المذكور فيما إذا مات وليست فراشاًله، وبناهما الماوردي على أصل، وهو أن استبراء [أم الولد] هل وجب لحرمة الولد؟ أو [لرفع] الفراش؟ وفيه وجهان، أحدهما- وهو قول أبي سعيد الإصطخري-: الأول؛ فعلى هذا يجب الاستبراء، وعلى الثاني: لا يجب، وهو الذي جزم به ابن الصباغ.
قال: ولو مات السيد والزوج، أحدهما قبل الآخر، ولم يعلم السابق منهما – فإن كان بين موتهما شهران وخمس ليال فما دونها لم يلزمها الاستبراء، وهذا لفظ الشافعي، كما حكاه ابن الصباغ؛ لأنها تكون عند موت السيد الذي يجب الاستبراء بسببه: إما مزوجة إن كان السيد قد مات أولاً، أو معتدة إن كان الزوج قد مات أولاً، وقد بينا أنه لا استبراء عليها في الحالين، ويلزمها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من موت الثاني، لاحتمال أن يكون السيد هو الذي مات أولاً؛ فتكون حرة عند موت الثاني.
وما ذكرناه مبني على أنه إذا مات وهي في العدة لا يجب عليها استبراء، أما إذا قلنا بأنه يجب فالحكم كما في المسألة بعدها.
واعلم أن النووي قال: قول الشيخ في هذه المسألة: "شهران وخمس ليال"، صوابه:"شهران وخمسة أيام بلياليها".
قلت: وما قاله الشيخ إن أجري على ظاهره لم يكن فيه مؤاخذة من جهة الحكم؛ لأن غايته أن يكون بين موتهما دون عدة الأمة عن الوفاة، فإنها شهران وخمسة أيام وخمس ليال، والحكم لا يتغير بذلك. وإن حمل على أن المراد أن يكون بين موتهما عدة الأمة للوفاة- وهو الظاهر، كما حكاه في "التهذيب"- فقد سبق في كتاب العدد، الجواب عنه، لكن يكون ما ذكره الشيخ فيما إذا كان بين موتهما شهران وخمس ليال مفرعاً على أنه لو تحقق موت السيد آخراً والحالة هذه لا يلزمها الاستبراء [كما أشرنا إليه من قبل، أما إذا قلنا: إنه يلزمها الاستبراء] فيكون الحكم كما هو في الحالة الثانية.
قال: وإن كان أكثر لزمها الأكثر من عدة الوفاة، وهي أربعة أشهر وعشر وحيضة؛ لأنه يحتمل أن يكون الزوج مات أولاً؛ فتكون وقت موت السيد قد عادت إلى فراشه؛ فيلزمها الاستبراء. ويحتمل أن يكون السيد مات أولاً، فتكون عند وفاة الزوج حرة؛ فيلزمها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر. فيلزمها أكثرهما؛ لأنها تخرج به عما عليها بيقين.
قال: والاستبراء، أي: بالحيضة، والأشهر المعتبرة في عدة الوفاة تعتبر من موت الثاني منهما.
أما اعتبار الحيضة؛ فلأنا إنما أوجبناها لاحتمال أن يكون الثاني هو السيد، وإلا لم تجب.
وأما اعتبار الأشهر؛ فلما ذكرناه من قبل.
فعلى هذا: إذا حاضت حيضة كاملة بعد موت الثاني منهما، وقبل استكمال أربعة أشهر وعشر من موت الثاني- يلزمها أن تصبر إلى انقضائها.
وإن انقضت أربعة أشهر وعشر من موت الثاني قبل أن تحيض حيضة، لزمها أن تصبر إلى أن تحيض حيضة.
وعبارة الأصحاب في ذلك: لزمها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من موت الثاني منهما، فيها حيضة.
وعبارة الشيخ أحسن.
ولا فرق بين أن تأتي الحيضة في أول الشهور أو آخرها.
وحكى أبو إسحاق المروزي وجهاً: أنه يشترط أن تكون الحيضة بعد مضي شهرين وخمس ليال؛ كي لا يجتمع الاستبراء وعدة الزوج. وغلط قائله؛ لأن الاستبراء إنما وجب لاحتمال أن يكون الزوج مات أولاً، وإذا كان كذلك فعدة الزوج انقضت قبل موت السيد؛ فلم يجتمعا.
ثم اعلم أن ما ذكرناه مفرع على أن أم الولد تعود فراشاً للسيد بموت الزوج، ومصور بما إذا كانت من ذوات الأقراء. أما إذا قلنا: إنها لا تعود فراشاً، أو كانت من ذوات الشهور- كفاها مضي أربعة أشهر وعشر من موت الثاني منهما.
تنبيه: اعتبار وجود الحيضة الكاملة في الأشهر والعشر أو بعدها، قد يظن أنه إنما يكون إذا قلنا: إن الاستبراء يكون بالحيض، أما إذا قلنا: إن الاستبراء بالحيض، أما إذا قلنا: إنه بالطهر، فينظر:
إن كان موت الثاني في الطهر فكذلك الحكم؛ لأنه لا بد من وجود الحيضة، سواء اكتفينا ببقية الطهر أو لم نكتف كما حكيناه من قبل، وقال الماوردي: إنه لم يقل أحد بخلافه.
وإن كان في الحيض فقد تقدم في اعتبار الحيضة [الكاملة- والحالة هذه؛ تفريعاً على هذا القول- وجهان، وأن الأظهر منهما والأقيس عند القاضي الروياني: أنه لا بد منها؛ فعلى هذا يكون اعتبار وجود الحيضة] لا بد منها على القولين جميعاً.
واعلم أن ما شرحته هو ما وجدته في أكثر ما وقفت عليه من النسخ، وفي بعض الشروح ما يقتضي أن كلام الشيخ: لزمها الأكثر من عدة الوفاة، وهي أربعة أشهر وعشر، والاستبراء، [أو الاستبراء] يعتبر- أي الأكثر- من موت الثاني منهما. وهذا كلام صحيح حسن، وهو راجع لما ذكرناه.
قال: ولا ترث من الزوج شيئاً؛ لأن الميراث لا يستحق إلا بالتيقن ولم يوجد، مع أن الأصل عدم استحقاق الإرث، ويخالف وجوب العدة حيث أوجبنا
عليها عدة الحرائر؛ لأن العدة واجبة عليها بيقين، فلا تخرج منها بالشك.
فإن قيل: لم لا أوقفتم لها نصيب زوجة؛ لاحتمال أن يكون السيد مات أولاً؛ كما لو طلق إحدى امرأتيه ولم يبين حتى مات؟
قيل: لأن ميراث أم الولد متردد بين استحقاقه وإسقاطه؛ فلم يجز وقفه مع الشك، وميراث إحدى الزوجتين متحقق قطعاً؛ فجاز أن يوقف على بيان مستحقه.
فإن قيل: هذا الفرق يفسد بما إذا كانت إحدى الزوجتين ذمية؛ فإنه يوقف، ولو احتمل أن تكون المسلمة هي المطلقة فلا إرث لواحدة منهما.
قيل: لا نسلم أنه يوقف لهما شيء والحالة هذه؛ تمسكاً بما حكي عن الغزالي من قبل.
وعلى تقدير التسليم- وهو ما حكاه الماوردي وابن الصباغ هنا- فالفرق: أن الأصل في المسلمة: أنها تستحق الميراث؛ فلم يسقط ميراثها بالشك، والأصل في أم الولد أنها غير وارثة؛ فلم يوقف لها الميراث.
فرع: لو شككنا هل بين موتهما شهران وخمس ليال أو أكثر، كان الحكم كما لو تحققنا أن بين موتهما أكثر من شهرين وخمس ليال.
ووراء الصور التي ذكرناها ثلاث صور:
إحداها: أن يموت السيد أولاً؛ فلا يجب عليها استبراء على الصحيح، ويجب عليها أن تعتد عن الزوج أربعة أشهر وعشراً.
الثانية: أن يموت الزوج أولاً؛ فعليها أن تعتد عنه عدة الوفاة، لكن ينظر:
إن مات السيد قبل استكمال شهرين وخمس ليال فقد عتقت في أثناء العدة، وفي وجوب استكمال عدة الحرائر عليها قولان، ولا يجب عليها استبراء على الصحيح، وعلى قول الوجوب تأتي به بعد فراغ عدة الوفاة [إن كانت ممن لا تحيض، أو لم تر الحيض فيما بقي من مدة عدة الوفاة] وإن رأته، قال الرافعي: كفى.
وإن مات بعد مضي ذلك فقد انقضت عدة الوفاة، ووجب عليها الاستبراء على الصحيح؛ بناء على أنها تعود فراشاً.
الثالثة: أن يموتا معاً؛ فلا استبراء على الصحيح، ويجب عليها عدة الحرائر على الصححيح عند البغوي، وهو موافق لما حكيته عن الماوردي فيما إذا وقع الطلاق والعتق معاً: أنها تعتد عدة الحرائر وجهاً واحداً، وعند الغزالي: عدة
الإماء؛ تفريعاً على أنها إذا عتقت في أثناء العدة تتم عدة أمة، أما إذا قلنا: عدة حرة، فهاهنا أولى.
قال: وإن اشترك اثنان في وطء أمة- أي: لهما أو لغيرهما- بشبهة، لزمها عن كل واحد منهما استبراء؛ لأن الاستبراء لحقهما فلا يتداخلان، كالعدتين.
ومن أصحابنا من قال: يكفيها استبراء واحد.
ثم محل وجوب الاستبراء في الوطء في الشبهة إذا لم يظن الواطئ أنها زوجته، أما إذا ظن أنها زوجته فهل يجب عليها الاستبراء والعدة؟ فيه تفصيل مذكور في العدد.
فرع: إذا أتت الأمة المشتراة بولد، فقال البائع: هو مني- نظر:
إن صدقه المشتري قبل منه، وبطل البيع، وحكم بحرية الولد، وبأن أمه أم ولد.
وإن كذبه المشتري، وكان البائع قد أقر بالوطء عند البيع أو قبله، ولم يكن استبرأها قبل البيع- فالحكم كذلك، سواء أتت به لدون ستة أشهر أو أكثر، ولا يمين على البائع، قال الماوردي: لأن البائع لو رجع عن إقراره لم يقبل.
وهكذا الحكم لو ادعى الاستبراء، ثم أتت بولد لدون ستة أشهر من وقت البيع، وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت البيع لم يلحقه، والبيع بحاله.
وإن لم يكن قد أقر بالوطء حال البيع، ولا قبله- لم يقبل قوله، وفي ثبوت نسب الولد منه فيما إذا أتت به لزمان يمكن أن يكون منه، قولان.
ثم حيث نفينا الولد عنه هل يلحق بالمشتري؟ ينظر:
إن لم يطأها لم يلحقه، وكذا إن وطئها وأتت به لدون ستة أشهر من وقت وطئه.
وإن أتت به لستة أشهر فأكثر لحقه.
وحيث حكمنا بلحوقه بالبائع فيما إذا أتت به لستة أشهر من وقت الوطء ولم يكن استبرأها، وكان المشتري قد وطئها، وبين وطئه وولادتها ستة أشهر- عرض على القائف.
فرع آخر: إذا أخبرت الأمة المشتراة سيدها بالحيض اعتمد على قولها، ولا تحلف، ولو امتنعت على السيد، فقال: قد أخبرتني بتمام الاستبراء، فالمصدق السيد، ووجهوه بأن الاستبراء باب من التقوى مفوض إلى السيد، وليس ذلك بحال الخصومات، ولو لم يكن كذلك، لحلنا بين السيد وبينها كما نحول بين الزوج والمعتدة عن وطء الشبهة، لكن هل لها أن تحلفه؟ فيه وجهان يقربان من الوجهين فيما إذا ورث جارية من أبيه أو ابنه، فامتنعت وادعت أن مورثه أصابها، وأنها حرمت عليه بالإصابة، في جواز تحليفها له؛ فإنه لا يلزمه تصديقها، لكن الورع لا يخفى.
هذا ما حكوه هاهنا في هذه المسألة المستشهد بها، ورأيت في "تعيق" القاضي الحسين بعد فصل أوله: "إذا قال لزوجته: أنت طالق في الشهر الماضي، أو قالت أمة لغير سيدها: أنا أختك من الرضاع، ثم ملكها ذلك الرجل يوماً ما- لا يحل له الاستمتاع بها.
ولو قالت ذلك لسيدها:
فإن كان بعدما مكنته، لا يقبل قولها.
وإن كان قبل التمكين، فوجهان، وجعل ظاهر المذهب القبول في نظير المسألة في النكاح إذا كانت بكراً، وزوجت بغير إذنها، ومقتضى هذا الخلاف أن يجري في هذه المسألة أيضاً، فليتأمل.
وفي أصل المسألة وجه: أن القول قولها؛ فإن الأصل عدم انقضاء الاستبراء، وهذا الوجه كنت قد [أبديته] احتمالاً.