الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الرضاع
الرضاع- بفتح الراء وبكسرها-: اسم لمص الثدي، وشرب اللبن.
يقال: رضع الصبي أمه- بكسر الضاد- يرضعها رضاعاً، وأهل نجد يقولون: رضع يرضع، بكسر الضاد في المضارع، كـ"ضرب يضرب ضرباً"، وأرضعته أمه.
وامرأة مرضع، أي: لها ولد ترضعه، فإن وصفتها بإرضاعه قلت: مرضعة.
والأصل في إثبات حكمه- قبل الإجماع- على الجملة ما سنذكره من الكتاب والسنة.
قال: إذا ثار للمرأة لبن، أي: ظهر، على ولد، فارتضع منها طفل له دون الحولين خمس رضعات متفرقات- صار ولداً لها، وأولاده أولادها، وصارت المرأة أماً له، وأمهاتها جداته، وآباؤها أجداده، وأولادها إخوته وأخواته، [وإخوتها] وأخواتها أخواله وخالاته.
والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] نص الله- تعالى- على هاتين؛ للتنبيه، لا لاختصاص الحكم بهما؛ فإن الأصل في النسب هاتان؛ لأن النسب مشتمل على قطب وجوانب، فالأمهات أصل القطب، فنص عليها، ونبه بها على من هو [قطب النسب، والأخوات أصل الجوانب؛ لأنها أول فصل، فنص عليها، ونبه بها على من هو] في جوانب النسب، وإلا فيحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لعلي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- وقد قال له: يا رسول الله، هل لك في بنت عمك حمزة؛ فإنها أجمل فتاة في قريش؟: "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ حَمْزَةَ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَأَنَّ اللهَ حَرَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا حَرَّمَ مِنَ
النسب؟ " كما رواه الشافعي مسنداً عن علي بن أبي طالب.
وقد وردت أخبار في ذلك تدل على هذا المعنى، ونذكرها في الباب، إن شاء الله تعالى.
ولا فرق- فيمن ذكرناهم- بين أن تكون نسبتهم إلى الأم المرضعة من جهة الأبوين أو أحدهما، ولا بين النسب والرضاع، وحكم إخوة أمها وأخواتها، وإخوة جدتها وجداتها من الطرفين- كما ذكرنا ضابط ذلك في النسب في باب ما يحرم من النكاح- حكم الأخوال والخالات.
واعلم أن الشيخ- رحمه الله نبه بما ذكره في صدر الباب على أركان الرضاع وبعض شرائطه، ويحتاج إلى بيان ما يخرج بذلك، وما يدل على المدعى؛ فإن مدار الباب على ذلك، وما ذكره من بعد فهو في معرض البيان والتتمة له، وقد يطول الكلام فيه، لكن الضرورة تدعو إليه:
فاعتبار لبن المرأة في ثبوت ما ذكرناه يخرج ثلاثة ألبان:
أحدها: لبن الرجل المنفصل عن ثديه، لا يثبت مثل ذلك؛ لأن اللبن من أثر الولادة، والولادة تختص بالنساء.
وأيضاً: فإنه لم يخلق [لغذاء الولد] فلم يتعلق به التحريم كسائر المائعات.
وعن الكرابيسي من أصحابنا: أنه يثبت ذلك.
الثاني: لبن الخنثى المشكل إذا لم نجعل رؤيته مزيلة للإشكال على الرأي الظاهر، كما فصلناه في باب ما يحرم من النكاح، ولم تظهر أنوثته [لا يثبت ذلك؛ لعدم تحقق الشرط، أما إذا ظهرت أنوثته]، فإنه يثبته وإن وجد الإرضاع في حال الإشكال.
الثالث: لبن البهيمة لا يثبت الأخوة بين من ارتضعا منه ولا ما يترتب عليها؛ لأن الأخوة فرع الأمومة، ومنها ينتشر التحريم؛ فإذا لم تثبت الأمومة- التي هي
الأصل- لا يثبت فرعها.
وأيضاً: فلبن البهيمة لا يصلح غذاء للطفل صلاحية لبن الآدميات؛ فلا يشاركها في التحريم.
واعتبار ثوران اللبن على ولد؛ ليخرج اللبن الثائر من غير ولد، وسيأتي الكلام فيه.
واعتبار ارتضاع الطفل؛ ليحترز به عما إذا أوجر اللبن؛ فإن فيه تفصيلاً نذكره من بعد.
واعتبار أن يكون له دون الحولين؛ ليحترز به عما فوق الحولين، فإنه لا يحرم عندنا؛ لقوله- تعالى-:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، فجعل إتمام الرضاع في حولين، فأشعر بأن الحكم بعد الحولين بخلافه، ويعضده ما روى أبو داود عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ"، والكتاب دل على أن الفصال في عامين.
وروي – أيضاً- عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ".
وروي عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ" أخرجه الترمذي، وقال: إنه حديث حسن صحيح.
وما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسهلة بنت سهيل، لما قالت: كنا نرى سالماً ولداً، وكان يدخل علي وأنا فضل، وقد نزل من التبني والحجاب ما قد علمت؟ - وفي رواية: وليس إلا بيت واحد فماذا تأمرني؟ - قال: "أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَيَحْرُمُ بِلَبَنِهَا"، وفي رواية:[أَرْضِعِيهِ] خَمْساً يَحْرُمْ بِهِنَّ عَلَيكِ"، وأنها فعلت ذلك، فكانت تراه ابناً؛ فقد روى الشافعي أن أم سلمة قالت في الحديث: "هو خاصة"، وهو يوافق ما ذهب إليه نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى عائشة- من أن ذلك رخصة في سالم وحده.
ثم الحولان معتبران بالأهلة؛ فلو انكسر شهر منها اعتبرنا ثلاثة وعشرين شهراً بالأهلة، وكملنا الشهر الأول من الشهر الخامس والعشرين.
قال الرافعي: [والقياس أن] ابتداءهما يكون من وقت استكمال خروج الولد.
وقال في "البحر": "لو خرج نصف الولد، ثم بعد مدة خرج الباقي، فابتداء الحولين في الرضاع عند ابتداء خروجه". هذا لفظه.
وحكى القاضي ابن كج فيه وجهين، وحكى وجهين- أيضاً- فيما لو ارتضع قبل أن ينفصل جميعه هل تتعلق به الحرمة.
وحكى ابن يونس عن الصيمري: أن الاعتبار بخروج بعض الولد، لا خروج جميعه، فإن أراد بالبعض: النصف، كان موافقاً لما ذهب إليه صاحب "البحر"،
وإن أراد غيره تحصل في ابتداء المدة ثلاثة أوجه: خروج الكل، خروج النصف، خروج البعض كيف قدر.
فرع: لو ارتضع أربع رضعات في استكمال الحولين، ثم استكملهما قبل فراغ الرضعة الخامسة- قال في "التهذيب": المذهب حصول الحرمة؛ لأن ما يعتد به من الرضاع غير مقدر، وقيل: لا تثبت. قال: وليس بصحيح.
واعتبار الخمس رضعات؛ ليحترز بها عما صار إليه أبو ثور من أن ذلك يثبت بثلاث رضعات، وعما صار إليه أبو حنيفة؛ فإنه أثبت ذلك برضعة واحدة.
ودليلنا: ما رواه مسلم عن عائشة- رضي الله عنها قالت: "كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُنَّ مِمَّا نَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ"، فلما أخبرت أن التحريم بالعشر منسوخ بخمس دل على ثبوت التحريم بالخمس؛ لأنها دونها، ولو وقع التحريم بأقل منها بطل أن يكون الخمس ناسخاً، وصار منسوخاً كالعشر.
وقول عائشة: "وهن فيما يقرأ من القرآن"- محمول على قراءة حكمها، أو العمل بها.
وقال الماوردي: إنما أضافت عائشة ذلك إلى القرآن- مع أن العشر نسخن بالخمس إنما كان بالسنة- لما في القرآن من وجوب العمل بالسنة، كالذي روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال:[إن الله- سبحانه وتعالى لعن الواصلة والمستوصلة في كتابه العزيز، فقالت امرأة] ما وجدت هذا [في] الكتاب، فقال أنس: أليس الله- تعالى- يقول في كتابه العزيز: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
وأيضاً: فإن حديث سهلة بنت سهيل يدل على اعتبار الخمس من وجهين:
أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "يَحْرُم بِهِنَّ عَلَيْكِ"، فلم يجز أن يحرم بما دونها؛ لما فيه من من إبطال حكمه في وقوع التحريم [بالخمس.
والثاني: أن رضاع سالم حال ضرورة يوجب الاقتصار على ما تدعو إليه
الضرورة؛ فلو وقع التحريم] بأقل منها لاقتصر عليه.
فإن قيل: هذا ورد في رضاع الكبير، ورضاعه منسوخ بزعمكم؛ فلم يجز التعلق به؟
ففيه جوابان:
أحدهما: أنه يشتمل على حكمين:
أحدهما: رضاع الكبير.
والثاني: عدد ما يقع به التحريم.
ونسخ أحد الحكمين لا يوجب سقوط الآخر؛ كما قال تعالى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15]؛ فإن ذلك يشتمل على حكمين:
أحدهما: عدد البينة في الزنى.
والثاني: إمساكهن في البيوت إلى الموت حداً في الزنى، ثم نسخ هذا الحد، ولم يوجب ذلك سقوط عدد البينة.
والجواب الثاني: أن رضاع الكبير حرم عند جواز التبني؛ لأن سهلة وأبا حذيفة تبنيا سالماً، وكان التبني مباحاً، وكانا يريان سالماً ولداً، فلما حرم التبني ونزل الحجاب حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرضاع عن تبنيه المباح؛ ليعود به إلى التبني ألأول، فلما نسخ الله- سبحانه وتعالى بقوله:{ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ .....} الآية [الأحزاب: 5]، سقط ما تعلق به من رضاع الكبير؛ لأن الحكم إذا تعلق بسبب ثبت بوجوده وسقط بعدمه؛ فصار رضاع الكبير غير محرم؛ لعدم سببه، لا لنسخه.
وروى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ الْمَصَّةُ وَلا الْمَصَّتَانِ، وَلا يُحَرِّمُ إِلا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ مِنَ اللَّبَنِ".
وروى غيره أنه- عليه السلام قال: "لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ وَلَا الرَّضْعَةُ
وَلَا الرَّضْعَتَانِ"، والمراد بالمصة: الجرعة يجرعها، وبالرضعة: الرضعة التامة في العادة.
والدليل عليه- من جهة المعنى-: أن كل سبب يقع به التحريم المؤبد إذا عري عن جنس الاستباحة افتقر إلى [العدد كاللعان، وما لم يعر عن جنس الاستباحة لم يفتقر إلى] العدد كالنكاح والوطء.
ووراء ما ذكرناه من المذهب وجهان آخران:
أحدهما: كمذهب أبي حنيفة.
والثاني: كمذهب أبي ثور، قال ابن المنذر: واختاره مشايخنا.
فلو حكم حاكم بالتحريم برضعة لم ينقض حكمه، وإن كنا نفرع على ظاهر المذهب، وعن الإصطخري: أنه ينقض.
واعتبار التفريق؛ كي لا يكون الجميع رضعة واحدة، وسيأتي الكلام فيما تتم به الرضعة الواحدة عن أكثر منها.
قال: وإن كان الحمل ثابت النسب من رجل، أي: بنكاح، أو ملك يمين، أو شبهة- صار الطفل ولداً له، وأولاده أولاده، وصار الرجل أبا له، وأمهاته جداته، وآباؤه أجداده، وأولاده إخوته وأخواته، وإخوته وأخواته أعمامه وعماته.
الأصل في ذلك ما روى مسلم عن عائشة- رضي الله عنها قالت: "جاء عمي من الرضاعة يستأذن علي، فأبيت أن آذن له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فليلج عليك عمك". قلت: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل. قال: "إِنَّهُ عَمُّكِ؛ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ".
وعنها في هذا الحديث: "أن الرضاع يحرم ما يحرم من النسب".
وما رويناه من حديث علي، كرم الله وجهه!
ولأن الولد مخلوق من مائهما؛ فكان الولد لهما وإن باشرت الأم ولادته؛ فاقتضى أن يكون اللبن الحادث عنه لهما وإن باشرت الأم رضاعه، وإذا كان اللبن لهما وجب أن تنتشر حرمته إليهما.
ولا فرق فيمن ذكرناهم بين أن تكون نسبتهم إلى الأب الذي له اللبن من جهة الأبوين أو من أحدهما، ولا بين النسب والرضاع [وحكم إخوة الجد وإن علا، وأخواته من الطرفين من النسب والرضاع-] حكم إخوة الأب وأخواته [هذا] هو المذهب.
وفي "الذخائر": أن بعض أصحابنا حكى عن الشافعي أنه قال: نشر الحرمة إلى الفحل خارج عن القياس؛ فإن اللبن لا ينفصل عنه، وإنما ينفصل عنها.
وذهب ابن بنت الشافعي إلى أن الحرمة لا تثبت معه.
وعن صاحبي "التقريب" و"التلخيص"، و"الجامع الكبير" للمزني رواية قول: أن اللبن من وطء الشبهة لا يثبت الحرمة من جهة الفحل؛ لأنه لا ضرورة إلى إثبات حرمة الرضاع، بخلاف النسب والعدة.
وفي "الجيلي" في آخر الباب حكاية وجه: أن لبن أم الولد لا يحرم المرضعة على السيد؛ بناء على أصلين:
أحدهما: أنه لا يجوز له أن يزوجها.
والثاني: أنه لا يجوز إجبار المملوك على النكاح.
واحترز الشيخ بقوله: ثابت النسب، عما إذا كان الحمل من وطء زنى؛ فإنه لا تثبت به الحرمة من جهة الواطئ، والأحكام من جهة الأم ثابتة.
قال الرافعي: وقد حكينا في النكاح وجهاً: أن الزاني لا يجوز له أن ينكح بنت الزنى؛ فيشبه أن يجيء ذلك الوجه هنا.
وعن المنفي باللعان إذا ارتضع طفل بلبنه؛ فإن الحكم فيه كولد الزنى.
نعم، إذا استلحقه ثبتت حرمة الرضاع- أيضاً- كما إذا نفاه بعد الرضاع انتفت حرمة الرضاع تبعاً، وإن لم يتعرض لنفيه في اللعان.
قال الرافعي: ولم يذكروا هاهنا الوجهين المذكورين في نكاح المنفية باللعان، ولا يبعد أن يسوى بينهما.
تنبيه: قول الشيخ- في أول الباب-: "صار ولداً لها"، ثم قال:"وصارت المرأة أماً له .. " إلى آخره، مع أن العلم حاصل بأنه إذا صار ولداً لها، صارت أماً له، وكذلك قال في هذا الفصل:"صار الطفل ولداً له .. " إلى آخره، "وصار الرجل أباً له"، مع أن العلم حاصل بأنه إذا كان ولداً له كان ذاك أباً له؛ فأي فائدة في ذكر ذلك"؟
فجوابه: أن الشيخ لما ذكر في "باب ما يحرم من النكاح" المحرمات بسبب النسب، وعدها، ثم ذكر بعد إعراض محرمات أخر، وما حرم من ذلك بالنسب حرم- أي: مثله- بالرضاع، فأراد أن يبين في هذا الباب الأمومة والأبوة وما عداها؛ لينطبق الكلامان على معنى واحد، وعلى ذلك جرى الأئمة.
ويجوز أن يقال: لم يذكر الشيخ ذلك ليبين الأمومة والأبوة؛ فإنها ظاهرة- كما ذكرتم- ولكن ذكر ذلك؛ لأن [أصول] الرضاع التي ينتشر منها التحريم ثلاثة: المرضعة ومن حملها منسوب إليه، والمرضع؛ فذكرهما ليبين أن منهما ينتشر التحريم إلى من هو منسوب إليهما، كما ذكر أن التحريم من الولد ينتشر إلى ولده، وإن كان ذلك غير قاصر عليهم، والله أعلم.
قال: ويحرم النكاح بينهما بالرضاع كما يحرم بالنسب؛ للخبر، وقد تقدم الكلام في ذلك في باب ما يحرم من النكاح.
قال: ويحل لهما الخلوة والنظر كما يحل بالنسب؛ لحديث عائشة.
وتخصيص الشيخ هذين الحكمين بالذكر مع إثبات الأمومة وما يتفرع عنها، وكذلك الأبوة- يعرفك أنه لا يثبت بسبب الرضاع غيرهما من الأحكام: كالولاية في النكاح، والمال، والميراث، والنفقة، والعتق، وسقوط القصاص، ورد الشهادة، ومنع صرف الزكاة إليه، وغير ذلك، وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
فائدة: قال الماوردي: قد سمى الله- تعالى- بالأم ثلاثة أصناف من النساء: الوالدة، والمرضعة، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
فالوالدة: مستوجبة لجميع أحكام النسب.
والمرضعة: مقصورة على ما ذكرناه.
وفي أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهان:
أحدهما: يشاركن المرضعة في التحريم والمحرمية.
والثاني: ينفردن بالتحريم دون المحرمية.
قال: وإن ارتضع، ثم قطع باختياره، من غير عارض- أي: ولم يعد إليه على قرب- كان ذلك رضعة.
لما ورد الشرع باعتبار خمس رضعات وجب تحديد الرضعة وتقديرها، والمقادير تؤخذ من أحد ثلاثة أشياء: من شرع، أو لغة، أو عرف، وليس في الشرع واللغة لذلك حد؛ فوجب أن يؤخذ من العرف كالحرز والإحياء والقبض، والعرف ما ذكره.
أما إذا قطع لعارض: كانقطاع النفس، [أو اللعب]، أو لازدراد ما اجتمع في فمه، وما جانس ذلك، ثم عاود- فالمجموع رضعة واحدة؛ لأن [العرف] قاض بذلك: كمن حلف لا يأكل إلا مرة، ففتن في أكله بسبب ما ذكرناه، ثم عاود الأكل؛ فإنه لا يحنث.
وألحق الشيخ إبراهيم المروزي بذلك ما لو قامت المرضعة فاشتغلت بشغل خفيف، ثم عادت للإرضاع، وكذا تنقله من أحد الثديين بعد إنفاذ ما فيه إلى الآخر؛ فإن ذلك رضعة، كذا حكاه الماوردي عن النص، ولم يتعرض في "شرحه" لإنفاد ما في المنتقل عنه، ولو قل زمان الفترة بين الانقطاع والعود كان الجميع رضعة.
ولا فرق فيما جعلناه رضعة بين أن يصل إلى الجوف منها قطرة أو أكثر.
قال: وإن قطعت المرأة عليه لم يعتد بذلك رضعة لعدم كمالها؛ كما لو حلف لا يأكل إلا مرة، فقطع عليه الأكل بغير اختياره، ثم عاود الأكل بعد تمكنه- لم يحنث.
قال الإمام- بعد حكاية هذا عن العراقيين وتضعيفه-: وهذا فيما إذا دام تشوف الصبي إلى الرضاع في الزمان المنقطع، فأما إذا انقطع تشوفه فهو ملحق بإضرابه.
قال: وقيل: يعتد به؛ لأن الرضاع يعتبر فيه فعل المرضعة والمرتضع على الانفراد، ولا يعتبر جتماعهما عليه، لأنه لو ارتضع منها [وهي نائمة كان رضاعاً، وإن لم يكن لها فعل، ولو أوجرته لبناً] وهو نائم كان رضاعاً، وإن لم يكن له فعل، وغذا كان كذلك وجب أن يحتسب بقطعها كما يحتسب بقطعه، وهذا هو الأصح في "الرافعي" وغيره.
قال: وإن ارتضع من ثدي امرأة، ثم انتقل إلى ثدي امرأة أخرى، أي: مع قرب الزمان- فقد [قيل]: لا يعتد بواحدة منهما لأنه انتقل من إحداهما إلى الأخرى قبل تمام الرضعة؛ فلا يحتسب بكل منهما رضعة؛ كما لوانتقل من أحد الثديين إلى الآخر، وكما لو حلف: لا يأكل إلا مرة، فانتقل من زبدية إلى زبدية، أو من مائدة إلى مائدة، وهذا هو الأصح في "الجيلي"، وقال الإمام: إنه مزيف.
وقيل: يحتسب من كل واحدة منهما رضعة؛ لأن من شرط الرضعة أن يقع امتصاص الثدي، ولا يعود إليه إلا بعد مدة طويلة، وقد وجد، وهذا هو الأصح في "تعليق" القاضي الحسين و"التهذيب".
تنبيه: الثدي: بفتح الثاء، يذكر ويؤنث، والتذكير أكثر، واستعمله الشيخ مؤنثاً في قوله:"جنى على الثدي فشلت"، ويكون الثدي للمرأة وللرجل، وأكثر استعماله في المرأة، ومنهم من خصه بها.
قال: وإن أوجر من لبنها، أو أسعط خمس دفعات- ثبت التحريم.
أما في الوجور- وهو صب اللبن في حلقه- فلقوله صلى الله عليه وسلم: "الرضاع ما شد العظم وأنبت اللحم" رواه أبو داود، والوجور يحصل ذلك.
وقوله- عليه السلام في قصة سالم لسهلة بنت سهيل: "أَرْضِعِيهِ خَمْساً
يَحْرُمْ بِهِنَّ عَلَيكِ"، ومعلوم أنه لم [يرد] ارتضاعه من الثدي لتحرم عليه؛ فثبت أنه أراد الوجور.
وأما في السعوط- وهو صب اللبن في أنفه- فلأنه سبيل يحصل بالواصل منه الفطر؛ فتعلق به التحريم كالفم، ولأن الدماغ جوف التغذي كالمعدة.
قال: وإن حقن، ففيه قولان:
أحدهما: أنه يثبت التحريم؛ لما ذكرناه في السعوط، وهذا ما اختاره المزني.
والثاني: لا يثبته؛ لأن الرضاع يراد لإنبات اللحم وإنشاز العظم، وهذا معدوم في الحقنة؛ لأنها لا تصل إلى محل الغذاء، وتراد للإسهال وإخراج ما في الجوف، فخالفت حكم ما يصل إلى الجوف، وهذا هو الأصح، ويقال: إنه الجديد.
وقد أجرى بعض الخراسانيين في السعوط مثل هذين القولين، وضعف ذلك بأن في الدماغ منافذ إلى المعدة؛ فلا يصل شيء إلى الدماغ إلا انحدر منه إلى المعدة؛ فيحصل به التغذين بخلاف الحقنة.
وحكم تقطير اللبن في الإحليل إذا وصل إلى المثانة، حكم الحقنة. وإن لم يصل، وقلنا: لا يفطر- فلا أثر له، وإلا فعلى القولين في الحقنة.
وكذا لو كان في جوفه جرح، فصب فيه اللبن حتى وصل [إلى الجوف.
وفي "التهذيب": أنه لو وصل إلى المعدة بخرق في الأمعاء، أو وصل] إلى الدماغ بالصب في مامومة- ثبت التحريم قولاً واحداً.
وصب اللبن في العين لا يثبت الحرمة وجهاً واحداً.
وصبه في الأذن، أطلق الروياني في "البحر": أنه يحرم.
وفي "التهذيب": أنه لا يحرم.
وفي "زوائد العمراني" عن "شرح التلخيص": أنه إذا علم الوصول إلى جوف الرأس كان رضاعاً، وإلا فلا.
وفي "النهاية": أنا قد ذكرنا تردداً في أن الصائم إذا قطر في أذنه شيئاً هل يفطر؟ فإن قلنا: لا يفطر، لم تتعلق به حرمة المصاهرة، وإن قلنا: يفطر، فالوجه
تخريجه على قولي الحقنة.
وقد حكى الشيخ أبو علي- عن نص الشافعي- أنه لا تتعلق به حرمة الرضاع.
قال: وإن حلبت لبناً كثيراً في دفعة واحدة، وفرق في خمس أوان، وأوجر الصبي في خمس دفعات- ففيه قولان:
أحدهما: أنه رضعة؛ لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23]، فأضاف الفعل إليهن؛ فاقتضى أن يكون فعلهن فيه أغلب، وهو المعتبر في الحكم.
ولأن الوجور فرع الرضاع.
ثم العدد لا يحصل في الرضاع إلا بما ينفصل خمس مرات؛ فكذلك في الوجور، وهذا ما نقله المزني في "المختصر" و"جامعه"، وهو الأصح عند الأكثرين.
والثاني: خمس رضعات؛ تنزيلاً للإناء المنتقل إليه منه منزلة الثدي.
وأيضاً: فإن الرضعات كالأكل، ولو حلف لا يأكل خمس دفعات، فوضع الطعام دفعة واحدة، وأكله في خمس دفعات- كانت خمس أكلات، وهذا ما رواه الربيع.
وكان أبو حامد المرورزي وجميع البصريين يجعلونه قولاً ثانياً مخرجاً.
وفي "الجيلي" أنه الأصح في "البسيط"، وكان أبو إسحاق المروزي وابن أبي هريرة يجعلانه وجهاً قاله مذهباً لنفسه.
تنبيه: قوله: "خمس أوان"، كان الأجود:"خمسة آنية"؛ لأن "الآنية" جمع "إناء"، و"الأواني" جمع الجمع؛ فيقتضي أن يكون أكثر من خمسة، ويصح كلامه على قولنا: أقل الجمع اثنان؛ فيكون أقل جمع الجمع أربعة، والله أعلم.
قال: وإن حلبت خمس دفعات، وخلطت، وأوجر الصبي في دفعة، فهو رضعة، أي: وإن قلنا في المسألة الأولى: إن اللبن خمس رضعات؛ لأنه لم
يحصل اللبن في جوفه إلا دفعة واحدة، بخلاف المسألة قبلها؛ فإنه يحصل في خمس دفعات.
قال: وقيل: فيه قولان مأخذهما النظر إلى حال الانفصال من الضرع أو حال الاتصال بالصبي، وبهذا الطريق قال صاحب "الإفصاح" وأبو إسحاق.
قال: وإن حلبت خمس دفعات، وخلط، وفرق في خمس أوان، وأوجر في خمس دفعات- فهو خمس رضعات؛ لأن حال الانفصال والاتصال متعدد، وهذا أصح الطريقين وعليه أكثر الأصحاب.
قال: وقيل: على قولين؛ لأن التفريق الذي حصل من جهة المرضعة قد بطل بالخلط؛ فأشبه ما لو حلب دفعة وفرق.
ووراء هذه الصور صورتان لا يخفى حكمهما، وهما:
إذا حلب في دفعة، وأوجر في دفعة؛ فإنه رضعة.
وإذا حلب في خمس دفعات، وأوجر في خمس دفعات من غير خلط- فذلك خمس رضعات، لا خلاف فيه.
فرع: لو حلب خمس نسوة في إناء واحد، وأوجر الصبي دفعة واحدة- حصلت من كل واحدة منهن رضعة.
وإن أوجر في خمس دفعات، فقد حكي فيه وجهان، والذي أورده القاضي الروياني منهما: ثبوت التحريم. هذا لفظ الرافعي.
وفي "الحاوي": أنه إذا أوجر لبن امرأتين في دفعة واحدة، فهل يعتد بذلك عن كل واحدة رضعة، أو لا يعتد به عن واحدة منهما؟ ينبني على أنه إذا ارتضع من ثدي امرأة، ثم انتقل إلى ثدي امرأة أخرى- فإن اعتددنا بذلك عن كل واحدة منهما رضعة فكذلك هاهنا، وإن لم نعتد به ثم عن واحدة منهما هاهنا فكذلك هاهنا.
فرع آخر: لو شك هل ارتضع خمساً أو دونها لم يثبت التحريم.
ولو شك هل ارتضع الخمس في مدة الححولين أو فوقها فكذلك على الأصح،
وبعضهم أشار إلى خلاف مأخذه تقابل الأصلين، وربما نسب قول ثبوت الحرمة إلى الصيمري.
قال: وإن جبن اللبن، أو جعل في خبز أو ماء، أي: ولم يستهلك فيه، وأطعم الصبي- حرم؛ لقوله عليه السلام:"الرَّضَاعُ مِنَ المَجَاعَةِ"، وهذا أبلغ في دفع المجاعة من اللبن المنفرد، ولأنه يحصل به التغذية.
وقيل: يشترط أن تكون الغلبة للبن، وبه قال المزني، وهو بعيد.
وحكم اختلاطه بالدواء، والخمر حكم اختلاطه بالخبز والماء، كما ذكرناه.
وحكم الأقط والزبد والمخيض حكم الجبن، ولا يندفع التحريم بحموضة اللبن ولا بغليه، وكذا لا يندفع بفت الطعام فيه، وبعجن الدقيق به وخبزه- على الأصح- خلافاً لما يحكى عن القاضي الحسين.
ولا فرق في ذلك بين أن يطعم الجميع، أو البعض والباقي دون قدر المختلط باللبن.
نعم، هل يشترط أن يكون اللبن قدراً يمكن أن يسقى منه خمس دفعات لو انفرد عن المخالط، فيه وجهان:
أظهرهما: الاشتراط.
والذي يظهر: "أن محل الخلاف فيما إذا أطعم من المختلط خمس دفعات.
تنبيه: "حرم" و"لم يحرم" كله بتشديد الراء.
قال: وإن وقعت قطرة في حب ماء، فأسقي الصبي بعضه- لم يحرم؛ لأنا نشك هل وصل اللبن إلى البعض الذي شربه أم لا؛ فلا نحكم بالتحريم بالشك.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون قد ارتضع من صاحبة اللبن قبل ذلك أربع رضعات، أو أسقي من الحب خمس دفعات، وإن شرب الجميع ثبتت الحرمة، كذا قاله القاضي الحسين؛ لأنا تحققنا وصول اللبن إلى الجوف.
وعن صاحب "الإفصاح" و"تعليق" القاضي الحسين وغيرهما حكايةو جه بثبوت الحرمة بشرب البعض في الصورتين؛ لأن المائع إذا خالط المائع، فما من
قدر يؤجد إلا وفيه شيء من هذا وشيء من ذلك.
ويحكى هذا عن اختيار الصيمري والقاضي أبي الطيب، والأظهر الأول.
ووراء ما ذكرناه طريقة حكاها الإمام، واقتصر الغزالي على ذكرها، وهي أن المخالط للبن: إن كان غير ماء فالحكم كما ذكرنا، وإن كان ماء فإن كان مغلوباً فيه، والماء دون القلتين، فشرب جميعه- ففي ثبوت [الحرمة] قولان، الذي حكاه القاضي الحسين منهما في "التعليق": الثبوت.
قال الإمام: وهذان القولان يقربان من أصل ذكرناه في أحكام المياه، وهو أن المقدار الذي لا يسع وضوءاً من الماء لو كمل بماء ورد، وهو مغلوب بالماء – ففي جواز التوضؤ به خلاف، وإن شرب بعضه فوجهان أو قولان مرتبان، وأولى بعدم التحريم.
وإن [مزج بقلتين] فصاعداً، فإن قلنا: لا تتعلق الحرمة بما دون القلتين، فهاهنا أولى، [وإلا فإن] شرب بعضه لم يحرم، وإن شرب كله فقولان.
تنبيه: الحب: بالحاء المهملة، وهو الحابية، وهو فارسي معرب، والحابية: عربية صريحة، جمعه: حباب- بكسر الحاء- وحببة بفتح الحاء والباء.
والمراد بكون الماء مغلوباً عند الغزالي: خروجه عن كونه مغلوباً، وهذا يحكى عن الشيخ ابي علي.
والظاهر الذي أورده الأكثرون: أن الاعتبار بصفات اللبن من الطعم واللون والرائحة، فإن ظهر منها شيء في المخلوط فاللبن غالب، وإلا فهو مغلوب.
ونقل عن ابن سريج- تفريعاً على هذا- أن الأوصاف الثلاثة لو زايلته، فيعتبر قدر اللبن بما له لون قوي يستولي على الخليط، فإن كان القدر منه يظهر ثبتت الحرمة، وإلا فلا، وهذا ما استنبطه الحليمي قبل الوقوف على ما قاله ابن سريج، كما حكاه أبو الحسن العبادي، وقال: إنه عرضه على القفال الشاشي وولده القاسم، فارتضياه.
فرعان:
أحدهما: إذا وقعت قطرة لبن في فم صبي، واختلطت بريقه، ثم وصل ذلك إلى جوفه- فطريقان:
أحدهما: ينظر إلى كونه غالباً أو مغلوباً، كما ذكرناه.
والثاني: القطع بثبوت التحريم.
الثاني: إذا اختلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى، وغلب أحدهما- جزم الماوردي بثبوت الحرمة من كل واحدة منهما على ما ذكرناه من قبل.
وقال الرافعي: إن علقنا الحرمة بالمغلوب ثبتت الحرمة فيهما، وإلا اختصت بالتي غلب لبنها، والله أعلم.
قال: وإن شرب، وتقيأ، أي: بالهمز، قبل أن يحصل في جوفه- لم يحرم؛ لقوله- عليه السلام:"الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ، وَأَنْشَزَ العَظْمَ"، وقد سقط ذلك برده، ولو وصل إلى جوفه، فتقيأه في الحال- حرم.
وحكى القاضي الروياني عن جده رواية وجه آخر.
وفيه وجه: أنه إن تقيأ بعد أن تغير اللبن حرم، وإن لم يتغير فلا.
قال: وإن ارتضع من ثدي امرأة ميتة، لم يحرم؛ لقوله- عليه السلام:"الحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الحَلَالَ"، وهذا اللبن محرم؛ لنجاسة عينه، فلم يثبت به تحريم ما كان حلالاً من قبله.
ولأن ما يثبت به التحريم إذا اتصل بحياتها زال عنه التحريم إذا اتصل بموتها؛ كالوطء.
ولأن لبن الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم، ولبن الميتة لا يثبت ذلك؛ فلم يثبت به التحريم.
قال: وإن حلب منها في حياتها، ثم أسقى الصبي بعد موتها- حرم، أي: إذا كان ذلك الرضعة الخامسة- كما نص عليه الشافعي- أو كان كبيراً فسقى منه
خمس دفعات، على التفصيل الذي تقدم؛ لعموم الخبر، ولأن موتها بعد حلب اللبن في الإناء كموتها بعد اجتماع اللبن في فمه؛ لأن فمه كالإناء.
وفيه وجه: أنه لا يحرم.
قال الإمام: رأيته في طرق أهل العراق، وقد نسب إلى القاضي الحسين، وهو مخرج- على ما حكاه في "التعليق"- مما إذا علق العتق في حال الصحة، فوجدت الصفة المعلق عليها في المرض، وفي احسابه من الثلث قولان.
ولا خلاف في أن الرجل إذا مات، فأرضعت المرأة بلبنه طفلاً- ثبتت الحرمة بين الطفل والميت، ومن ينتسب إليه، [على] المذهب.
ولا فرق بين أن يكون الرضاع في العدة أو بعدها، وإن كان بأكثر من حولين.
قال: وإن ثار لها لبن من وطء من غير حمل- أي: وهي في سن من تحمل، كابنة عشر مثلاً- ففيه قولان:
أحدهما: يحرم؛ لأن لبن النساء غذاء للأطفال، وهذا ما رأيته فيما وقفت عليه من كتب الأصحاب، وهكذا الحكم عندهم في لبن من [لا] ولد لها من بكر أو ثيب.
قال: والثاني: لا يحرم؛ لأن ولد الرضاع تابع لولد النسب، ولا ولد؛ فانتفت التبعية. وهذا القول حكاه مجلي وجهاً في البكر وفي التي لا ولد لها، ونسبه إلى الخراسانيين، والرافعي اقتصر على حكايته في البكر؛ إلحاقاً للبنها بلبن الرجل.
أما إذا كانت في سن من لا تحمل، كبنت ثمان مثلاً- فلبنها نجس، ولا يثبت الحرمة به.
قال ابن يونس: ولا خلاف أنه لا يثبت التحريم بالنسبة إلى زوجها.
فرع: حيث حكمنا بأن لبن البكر إذا كانت في سن من تحمل يحرم، فلا نحكم ببلوغها، حكاه في "التهذيب"، وهو يشابه ما قاله الأصحاب في زوجة الصبي إذا أتت بولد في زمان احتمال بلوغه؛ فإنا نلحقه به، ولا نحكم ببلوغه.
وفي "الإبانة": أنا نحكم بأنها حاضت، وبلغت بالحيض.
قال: وإن كان لها لبن من زوج، فتزوجت بآخر، أي: بشرطه، وحبلت منه، وزاد اللبن، أي: في مدة الحمل في زمان ثورانه لأجل الحمل، فأرضعت صبياً، أي: خمس رضعات- ففيه قولان:
أحدهما: أنه ابن الأول؛ لأن الأصل بقاء لبنه، والزيادة تحتمل أن تكون بسبب [الحمل؛ فتثبت الأبوة، ويحتمل أن تكون بسبب] إصلاح الغذاء فلا تثبتها، فحكمنا باليقين، وألغينا الشك، وهذا هو الجديد والصحيح.
قال والثاني: أنه ابنهما؛ لأنا لظاهر أن الزيادة بسبب الحمل، وإذا كان كذلك كان اللبن لهما؛ فجعل الرضيع ابناً لهما.
وفي "الإبانة" ما يقتضي على هذا القول ألا يلحق بالأول؛ فإنه قال- والصورة كما ذكرناه-: فاللبن لأيهما؟ فعلى قولين؛ لتعارض الأصل والظاهر.
وفي "النهاية" دعوى نفي ذلك.
أما إذا كانت زيادة اللبن بعد وضع الحمل فهو لبن الثاني ليس إلا.
وإن كان قبل جود زمان يحدث فيه اللبن للحمل، أو لم يزد اللبن- فهو
لبن الأول ليس إلا.
وقد حكى الرافعي أن منهم من أجرى القولين المذكورين في أصل المسألة وإن لم يزد اللبن، ومقتضى هذا أن يجريا في هذه الصورة الأخرى أيضاً.
ثم الزمان الذي يثور فيه اللبن بسبب الحمل أقله- على ما قاله ابن الصباغ والبندنيجي-: أربعون يوماً، وعلى ما قاله الماوردي: زمان استكمال الروح، وجواز أن يولد فيه حياً، ومقتضاه أن يكون بعد أربعة أشهر.
وقال الشيخ أبو حامد: يرجع فيه إلى قول القوابل، وعلى ذلك جرى الإمام.
ولا فرق- فيما ذكرناه- بين أن يكون لبن [الأول قد انقطع ثم عاد قبل نكاح الثاني، أو هو مستمر، ولا بين أن يكون] له أربع سنين أو فوقها من حين حصول الفراق.
وفيه وجه: أنه إذا انقطع، ثم عاد بعدما مضى أربع سنين من وقت الطلاق- لا يكون منسوباً إليه، وإن لم تتزوج، كما لو أتت بولد بعد هذه المدة، فإنه لا يلحقه، كذا خصصه في "التهذيب" بما إذا نقطع ثم عاد.
قال الرافعي: ومنهم [من] يشعر إيراده باطراده في صورة استمرار اللبن.
قلت: ومنهم الإمام في الحكاية عن رواية أبي علي، وزيفه.
وحكم من وطئت بشبهة أو ملك يمين حكم من نكحت فيما ذكرناه.
قال: وإن انقطع اللبن من الأول، أي: مدة طويلة إلى [أكثر من] الذي يحدث فيه اللبن بسبب الحمل، ثم حملت من الثاني، وزاد اللبن، أي: في المدة التي ذكرناها، وأرضعت صبياً- ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ابن الأول؛ لأن اللبن تبع للولد وغذاؤه، لا غذاء للحمل؛ فتبع الولد المنفصل دون الحمل، وعوده بعد انقطاعه؛ لأن الوطء لقاح هاج به اللبن، فثار وظهر بعد كمونه، وهذا أصحها.
والثاني: أنه ابن الثاني- أي: دون الأول- لأن الأول قد انقطع، وقرب وقت الولادة سبب لظهور اللبن؛ فأشبه اللبن الثائر بعد الولادة.
قال الرافعي: وقد يبنى هذان القولان على تقابل الأصل والظاهر.
والثالث: أنه ابنهما؛ لتقابل المعنيين.
أما إذا كان الانقطاع يسيراً، أو كان طويلاً قبل زمان إمكان حدوث اللبن للحمل- فهو كما لو لم ينقطع، صرح بالأول الرافعي، وبالثاني الإمام.
ويتفرع على هذه الأقوال فروع:
أحدها: لو نزل لبن البكر، ونكحت، وهي ذات لبن، ثم حبلت- فحيث قلنا في المسألة قبلها: إن الولد للثاني أو لهما، فهاهنا يكون للزوج، وحيث قلنا: إنه للأول، فهو للمرأة وحدها، ولا أب للرضيع.
الثاني: لو حبلت من الزنى، وهي ذات لبنمن زوج- فحيث قلنا هناك: اللبن للأول أو لهما، فهو للزوج، وحيث قلنا: إنه للثاني، فلا أب للرضيع.
الثالث: لو نكحت ولا لبن لها، فحبلت، ونزل لها لبن- قال في "التتمة": ففي ثبوت المحرمية بين الرضيع والزوج وجهان؛ بناء على الخلاف المذكور.
قال: وإن وطئ رجلان امرأة، أي: وطءاً يلحق به النسب، فأتت بولد، وأرضعت طفلاً بلبنه- فمن ثبت منهما نسب المولود منه، أي: إما بالفراش، أو بالقيافة، أو بالانتساب- كما ذكرناه بشرطه- صار الرضيع ولداً له؛ لأن اللبن تابع للولد.
وفي "النهاية" حكاية قول: أن المرضع يكون ابناً لهما وإن ألحق القائف الولد بأحدهما أو انتسب.
وهذا إذا قلنا: إن أبوة الرضاع تثبت بالوطء بالشبهة، [أما إذا قلنا: إن وطء الشبهة] لا يثبت أبوة الرضاع، فلا يخفى التفريع عليه.
ولو كان الولد لا يمكن أن يكون من واحد منهما فالمرضع تابع له، منتف عنهما.
قال الماوردي: وذكر بعض أصحابنا: أنا نلحق المرضع بالأول، لثبوت لبنه؛ كما لو لم تلد المرضعة. ثم قال: إنه ليس بصحيح؛ لأن لبن الولد قاطع لحكم ما تقدم؛ فإذا انتفت الولادة عن كل واحدة منهما فأولى أن ينتفي الرضاع عنهما.
واعلم أن هذا الكلام قد يوهم أن الوطء إذا ثار به اللبن يثبت أبوة الرضاع،
وليس كذلك، بل هو محمول على ما إذا كان له لبن بسبب حمل متقدم انفصل، وسيأتي في كلام الماوردي ما يوضح ذلك.
قال: فإن مات المولود، ولم يثبت نسبه، أي: لفقد ما يحصل به الانتساب من فراش وقائف وانتساب- ففي الرضيع قولان:
أحدهما- وهو الأصح في "الجيلي"-: أنه ابنهما؛ لأن اللبن قد يحدث بالوطء تارة، وبالحمل أخرى، وقد اجتمعا، ولا مرجح؛ فأثر حكمهما، ويخالف النسب؛ فإنه يتصور أن يكون للإنسان أبوان من الرضاع، ولا يتصور من النسب؛ لما قدمناه.
فعلى هذا: هل يحتاج إلى عشر رضعات أم يكفي خمس؟ قال الداركي: يحتمل وجهين.
قال القاضي أبو الطيب: هما ينبنيان على ما إذا ارتضعت من امرأتين على التواصل، هل يكون رضعة في حق كل واحدة منهما، وهل هذا الحكم في الظاهر والباطن، أو في الظاهر فقط؟ الذي ذكره في "البسيط": إثبات ذلك في الظاهر، وهو ما أبداه الإمام عند حكاية القول الأول الذي حكيناه عنه.
قال الرافعي: والذي ذكره الأصحاب توجيهاً وتفريعاً يخالف ذلك.
وهل تثبت المحرمية من الجانبين؟ قال الإمام: الوجه عندنا: ألا تثبت [المحرمية]؛ فإن الغالب التحريم، والذي يغلب الحرمة هو بعينه يقتضي ألا تثبت المحرمية؛ لأنا نتحقق أن المحرمية تقتضي مداخلة واستجلاب خلوة، وهذا محذور إذا التبس الحلال بالمحذور.
وهذا منه يظهر أنه بناء على ما ذكره من أن هذا الحكم إنما يثبت في الظاهر فقط.
قال: والثاني: لا يكون ابن واحد منهما- أي: على التعيين- بل ابن أحدهما على الإبهام، كما صرح به البندنيجي؛ لأن اللبن فرع الولد، فإذا كان الولد من أحدهما كان اللبن من أحدهما، وهذا هو الأصح.
وضعف الأول بأن نزول اللبن إنما يضاف إلى الواطئ بالولادة لا بالوطء؛ لأنه
لو نزل لها بوطئه لبن، فأرضعت به ولداً- لم يصر ابناً للزوج حتى تلد منه فيصير اللبن له، كذا قاله الماوردي.
قال: وهل للرضيع أن ينتسب إلى أحدهما، أي: على القول الثاني؟ فيه قولان منقولان في "الأم":
أحدهما: ينتسب كالمولود؛ فإن الرضاع يؤثر في الطباع والأخلاق، قال- عليه السلام:"لَا تَسْتَرْضِعُوا الحَمْقَاءَ؛ فَإِنَّ اللَّبَنَ يُعْدِي"، وقال صلى الله عليه وسلم:"أَنَا أَفْصَحُ العَرَبِ، بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ، وأَخْوَالِي بَنُو زُهْرَةَ، وَارْتَضَعْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ" قاله الماوردي.
وقال الرافعي وغيره: إنه- عليه السلام قال: "أنا سيد ولد آدم، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد، وارتضعت في بني زهرة"، وهذا القول هو الأصح.
وعلى هذا: هل يخير؟ فيه وجهان، وفي "المهذب" قولان، المذهب منهما في
"التهذيب": أنه لا يخير، وعليه: هل يحرم عليه بنات الآخر؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وعلى وجه الجواز: الأولى ألا يفعل.
ولو كان معتوهاً لم يلتحق بواحد منهما؛ لأنه لا حكم لكلامه، قاله الجيلي. وإنه لو انتسب كان له أن يرجع بعد ذلك، ويختار الآخر، فلا يزال بينهما على تناوب، وهو ضعيف.
قال: والثاني: لا ينتسب، وهو الأصح في "الجيلي"؛ كما لا يعرض على القائف، ويخالف النسب؛ لأنه لا يقع فيه الاشتراك؛ فجاز أن يكون فيه على الطبع الحادث، والرضاع يقع فيه؛ فعدم فيه الطبع الحادث.
ولأن امتزاج النسب موجود مع أصل الخلقة، والرضاع حادث بعد استكمال الخلق واستقراره.
والقائل الأول فرق بين الانتساب والعرض على القائف بأن القائف تعويله على الأشباه الظاهرة في الخلقة، دون الأخلاق.
على أن القاضي ابن كج نقل وجهين عن أبي الحسين وأبي حامد في عرضه على القائف.
قال الرافعي: وهو غريب.
وروى الخراسانيون في المسألة قولاً ثالثاً: أنه موقوف.
قال الجيلي: وأثره عموم التحريم؛ لأن التحريم غالب.
قال: وإن أراد أن يتزوج بنت أحدهما- أي: على قولنا: لا ينتسب، أو على قولنا: لا يخير، كما قيده في "المهذب" و"الحلية"، أو قبل الانتساب، كما قاله الفوراني- فقد قيل: لا يحل؛ لأن إحداهما أخته بيقين، فلا يحل له الإقدام على نكاح واحدة منهما، كما لو اختلطت أخته بأجنبية، وهذا هو الأصح عند الشيخ أبي حامد وغيره.
قال: وقيل: يحل أن يتزوج بنت من شاء منهما، أي: من غير اجتهاد؛ لأن الأصلا لحل، والحرمة في التي ينكحها غير معلومة.
والفرق بينه وبين الأخت: أن الأصل فيها التحريم؛ فغلب، كما لو اشتبه عليه ماء وبول؛ فإنه يعرض عنهما، وهاهنا الأصل في كل واحدة منهما الإباحة؛ فيجوز؛ كما إذا اختلط ماء طاهر بنجس، وهذا هو ظاهر النص.
وذكر الفوراني في "الإبانة": أنه يجتهد في الرجلين أيهما الأب، ثم ينكح بنت من لا يراه أباً. وبنى الوجهين في أصل المسألة على أن من معه إناء طاهر بيقين هل له أن يجتهد في الإناءين؟ وفيه وجهان، والجمهور لم يشترطوا الاجتهاد، كما ذكرناه، والله أعلم.
قال: فإذا تزوج بنت أحدهما حرمت عليه بنت الآخر؛ لأنه إذا نكح إحداهما تعينت الأخوة في الأخرى؛ فكان نكاح الواحدة اعترافاً بأخوة الأخرى. وشبه ذلك بما إذا اشتبهت ثلاث أوان: طاهران ونجس، واختلف فيها اجتهاد ثلاثة واستعملوها، واقتدى أحدهما بأحد صاحبيه- لا يجوز له الاقتداء بالثاني؛ لتعينه للنجاسة في زعمه.
فعلى هذا: يحرمن على التأبيد، وهذا قول أبي علي بن أبي هريرة، واختاره القاضي أبو الطيب.
قال: وقيل: يحل أن يتزوج بنت كل واحد منهما على الانفراط؛ لأن التحريم غير متعين في واحدة منهما. وشبه ذلك بما إذا صلى إلى جهة بالاجتهاد يجوز أن يصلي إلى جهة أخرى باجتهاد آخر، وهذا قول أبي إسحاق. فعلى هذا: يجوز له أن يتزوج بنت أحدهماويطلقها، ثم يتزوج [الأخرى ويطلقها، ثم يتزوج] الأولى.
قال: ولا يجمع بينهما؛ إذ به يحصل يقين التحريم.
وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه يجوز، ويحكم بارتفاع الأبوة عنهما، وقال: إنه الظاهر من كلام الشافعي، وهو الذي يقتضيه [إطلاق] الشيخ، رحمه الله.
قال: وإن كان لرجل خمس أمهات أولاد، فارتضع صبي من كل واحدة منهن رضعة- صار ابناً له في ظاهر المذهب؛ لأنه ارتضع من لبنه خمس رضعات، فأثبت ذلك البنوة كما لو كانت من امرأة واحدة، وبهذا قال أبو إسحاق
وابن القاص، وهو الأصح.
وقيل: لا يصير؛ لأن الأبوة تابعة للأمومة؛ لأن انفصال الولد عنها مشاهد محسوس؛ فإذا لم تثبت الأمومة التي هي الأصل لا تثبت الأبوة، وهذا ما ذهب إليه الأنماطي وابن سريج وابن الحداد.
وهذا الخلاف يجري فيما لو كان له أربع زوجات ومستولدة، أو ثلاث مستولدات: أرضعته اثنتان رضعتين رضعتين، والأخرى رضعة.
ولا خلاف أن الأمومة لا تثبت بهذا. نعم، يحرم عليه المرضعات؛ لأنهن موطوءات أبيه، إن قلنا: إن الأبوة تثبت.
وهذا الخلاف فيما إذا وقع الرضاع منهن في أوقات متفرقة، أما لو أرضعنه على التوالي والتواصل، وقلنا بثبوت الحرمة عند التفريق- فهاهنا وجهان، ووجه المنع: أنا نزلنا لبنهن في حقه منزلة لبن المرأة الواحدة، والمرأة الواحدة إنما يثبت رضاعها الحرمة إذا تفرق، فعلى هذا: لو أرضعته كل واحدة منهن أربع رضعات، فهل تصير أماً له؟ فيه وجهان:
أظهرهما: نعم؛ لأنه ارتضع منها خمس رضعات متفرقات.
والثاني: المنع؛ لأن تلك الرضعة لم تكن تامة.
والظاهر في الأصل الأول.
ووراء ما ذكره الشيخ صور نذكر منها ما تيسر:
إذا كان لشخص خمس بنات أو أخوات، فأرضعن صغيراً- لم تثبت الأمومة ولا الأبوة، وهل تثبت الجدودة والخئولة؟ فيه خلاف مرتب على الصورة الأولى، وأولى بعدم الثبوت، والأصح العدم، والفرق: أن الجدودة والخئولة إنما تثبت بواسطة الأم، فإذا انتفت الواسطة لم يوجد ما يترتب عليها، وهناك اللبن مشترك بين الرجل والمرضعات، ولا استحالة في ثبوت الأبوة دون الأمومة، [ولا العكس].
فإن قلنا بثبوت ذلك حرمت المرضعات لا لكونهن أمهات، بل لكونهن أخوات أو خالات.
ولو كان له أم، وبنت، وأخت، وبنت أخ، وبنت أخت، فأرضعن طفلاً- ففي
ثبوت الحرمة بينه وبين الرضيع خلاف مرتب على الصورة قبلها، وأولى بالمنع، والأصح: العدم، وةالفرق: أن الرضاع من جهات مختلفة لا يمكن أن ينسب إليها بواحدة منها، بخلاف الجدة، كذا قاله ابن الصباغ وغيره.
وإذا قلنا بالثبوت حرمت المرضعات بالأمومة.
فرع: لو كان للمرأة بنت ابن، وبنت ابن ابن، وبنت ابن ابن ابن، فأرضعن خمس رضعات- كان في ثبوت الحرمة بينها وبين الرضيع الخلاف السابق.
فإن قلنا بثبوتها، قال في "الرقم": فهل تحرم المرضعات على الرضيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا؛ لأن العدد لم يتم في إرضاع واحدة منهن.
والثاني: أن المرضعات من الجهات المختلفة إذا كانت كل واحدة منهن بحيث لو تم العدد فيها ثبتت الحرمة، فعلى هذا: ينظر:
إن كانت الوسطى بنت أخ العليا [والسفلى بنت أخ الوسطى حرمت العليا] عليه؛ لأن إرضاعها لو تم لكان الرضيع ابنها، وإرضاع الوسطى لو تم؛ لكان الرضيع ابن بنت أخ العليا، وإرضاع السفلى لو تم لكان ابن بنت ابن أخ، وهذه الجهات كلها محرمة؛ فيجمع ما فيها من عدد الرضعات.
وإن كانت الوسطى بنت ابن عم العليا، والسفلى بنت ابن [ابن] عمها- لم تحرم عليه العليا؛ لأن إرضاع الوسطى لو تم لم تحرم، وكذلك إرضاع السفلى، [و] لا تحرم الوسطى والسفلى بحال؛ لأن إرضاع العليا يجعل الوسطى بنت عم، والسفلى ابنة عمة الأب.
نعم، يحرم عليه أن يجمع بينهن في المثال الأول؛ لأن العليا عمة الوسطى، والوسطى عمة السفلى، ولا يجوز الجمع بين المرأة وعمتها.
قال: وإن كان له امرأتان صغيرتان، فأرضعت امرأة- أي: ليست بزوج له-
إحداهما بعد الأخرى، أي: الرضعة الخامسة- ففيه قولان:
أحدهما: ينفسخ نكاحهما؛ لأنهما صارتا أختين معاً؛ فأشبه ما إذا أرضعتهما الخامسة دفعة واحدة.
وأيضاً: فلو أرضعت زوجته الكبيرة زوجته الصغيرة انفسخ نكاحهما؛ لصيرورتهما أماً وبنتاً معاً؛ فكذلك هاهنا، وهذا ما نسبه الماوردي إلى القديم، وهو الصحيح عند أكثر الأصحاب، واختاره المزني.
والثاني: أنه ينفسخ نكاح الثانية؛ لأن الجمع حصل بإرضاعها، فاختص الفساد بها؛ كما لو نكح أختاً على أخت يختص الفساد بنكاح الثانية، وهذا ما نسبه الماوردي إلى الجديد، وفي "تعليق" الشيخ أبي حامد ترجيحه.
ولا خلاف- على القولين- أن المرضعة حرمت عليه على التأبيد؛ لأنها صارت من أمهات زوجاته.
أما إذا كانت المرضعة زوجة، فإن كان اللبن له أو من غيره، وهي مدخول بها- انفسخ نكاح الجميع، وحرمن على التأبيد، سواء كان الرضاع معاً أو متعاقباً. وإن لم يكن اللبن منه، وهي غير مدخول بها: فإن أرضعتهما معاً انفسخ نكاح الجميع، وحرمت الكبيرة على التأبيد دونهما، وإن أرضعتهما على التعاقب فينفسخ نكاح المرضعة، والأولى؛ لاجتماعها مع الأم في النكاح، ولا ينفسخ نكاح الثانية؛ لانفرادها ووقوع إرضاعها بعد اندفاع نكاح أمها وأختها.
ولو كانت المسألة بحالها، والصغار ثلاث، فلا يختلف الحال- فيما ذكرناه- إلا في ثلاث صور تفرض فيما إذا وقع الرضاع على التعاقب:
فإحداها: أن ترضع اثنتين معاً، وأخرى بعدهما، فينفسخ نكاحهما مع الكبيرة، ويبقى نكاح الثالثة.
والثانية: أن ترضع واحدة أولاً، ثم اثنتين معاً- انفسخ نكاح الجميع، أما الأولى؛ فلاجتماعهما مع الأم، وأما الأخريان؛ فلاجتماع الأخوة.
والثالثة: أن ترضع واحدة بعد واحدة، فبرضاع الأولى انفسخ نكاحها مع الكبيرة، ولا ينفسخ نكاح الثانية برضاعها، ثم إذا أرضعت الثالثة انفسخ نكاحها؛
لاجتماعها مع الأخت، وهل ينفسخ نكاح الثانية؟ فيه القولان المذكوران في الكتاب.
وفي الصور الثلاث: الكبرية حرام على التأبيد.
فرعان:
أحدهما: لو كان الصغار أربعاً، فأرضعتهن أجنبية، فإن كان ذلك دفعة واحدة انفسخ نكاحهن، وإن كان على الترتيب.
فإن فرعنا على القول الأول في الكتاب، لم ينفسخ برضاع الأولى شيء، وينفسخ برضاع الثانية نكاحها مع الأولى، ولا ينفسخ برضاع الثالثة شيء، وينفسخ برضاع الرابعة نكاحها مع الثالثة.
وإن قلنا بالقول الثاني فالمرضعة الأولى نكاحها مستمر، وبرضاع الثانية ينفسخ نكاحها خاصة، وكذلك برضاع الثالثة ينفسخ نكاحها، وكذلك برضاع الرابعة ينفسخ نكاحها.
الثاني: لو كان له ثلاث زوجات كبار، وصغيرة أرضعتها كل واحدة من الكبار خمس رضعات- فينفسخ نكاحهن جميعاً:
أما التي أرضعت أولاً فينفسخ نكاحها مع الصغيرة؛ لاجتماع الأم والبنت في النكاح، وأيضاً: فقد صارت أم الزوجة.
وأما الأخيرتان فينفسخ نكاحهما؛ للمعنى الثاني.
وتحرم الكبار لذلك على التأبيد، وتحرم الصغيرة- أيضاً- إن كانت الكبار مدخولاً بهن، وإلا فلا.
قال: ومن أفسد على الزوج نكاح امرأة بالرضاع، أي: قبل الدخول بغير إذنه، وكان ممن يثبت للزوج عليه دين ابتداء، سواء أثر ذلك تحريماً مؤبداً أو لا – لزمه نصف مهر مثلها على المنصوص.
أما نفس الغرم؛ فلأن البضع مضمون بالعقد في الخلع؛ فلذلك يضمن بالإتلاف كالأموال.
وأما كونه نصف مهر المثل؛ فلأن الفرقة إذا حصلت قبل الدخول جعل كأن
الزوج لا يملك إلا نصف المعقود عليه؛ ولهذا [إنه] لا يلزمه إلا نصف المسمى، وإذا لم يملك إلا النصف لم يغرم له إلا قيمته وهو نصف مهر المثل، وهذا هو الصحيح.
قال: وفيه قول آخر: أنه يلزمه مهر مثلها؛ لأنه أتلف عليه بضعها، ومن أتلف على إنسان شيئاً وجب عليه قيمته، وقيمة البضع مهر المثل. وهذا مخرج من نص الشافعي فيما إذا رجع شهود الطلاق قبل الدخول: أنه يجب عليهم جميع مهر المثل، وبه قال أبو سعيد الإصطخري، وخرج في مسألة الطلاق من هاهنا- أيضاً- وجهاً، وبعضهم يرويه منصوصاً.
وهذا القول الثاني في الكتاب صححه أبو علي والإمام وجماعة، وقطع أبو إسحاق بتقرير [النصين]، وفرق بأن الرضاع يوجب الفرقة حقيقة، وحقيقة المفارقة قبل الدخول لا توجب إلا النصف كالمفارقة بالطلاق.
وفي الشهادة النكاح باق في الحقيقة بزعم الزوج والشاهدين، إلا أنهما بالشهادة حالا بينه وبين البضع؛ فيغرمان قيمته؛ كالغاصب يحول بين المالك والمغصوب.
وحكى الشيخ أبو علي وآخرون على طريقة إثبات الخلاف قولين:
أحدهما: أنه يرجع بنصف المسمى؛ لأنه الذي فوت على الزوج، وينسب إلى رواية القفال.
فعلى هذا: لو كانت التي انفسخ نكاحها أمة مفوضة فالواجب المتعة؛ لأنها الواجبة على الزوج، كما صرح به ابن الحداد، لكن من غير بناء على هذا الأصل.
والثاني: أنه يرجع بتمام المسمى؛ لأنه قد التزمه، والتشطير أمر ثبت على خلاف القياس، فيختص بالزوجين؛ فتحصلنا على أربع مقالات.
أما إذا كان ذلك بعد الدخول، كما لو أرضعت أم الكبيرة المدخول بها أو جدتها زوجته الصغيرة، فإنه ينفسخ نكاحهما، وما تغرمه للزوج بسبب انفساخ نكاح الصغيرة قد تقدم.
وهل تغرم بسبب انفساخ نكاح الكبيرة له شيئاً؟ فيه قولان.
الذي ذهب إليه أكثر الأصحاب منهما: أنها تغرم له تمام مهر المثل؛ كشهود الطلاق.
والثاني- وينسب إلى رواية المزني- في "المنثور"، وبه قال ابن الحداد-: أنها لا تغرم شيئاً لأجل ذلك؛ لأنه استوفى منفعة البضع، فلم يجب له شيء؛ كما لو ارتدت.
ولأنه لو أخذ المهر لصارت في معنى الموهوبة.
ولو كانت الزوجة الكبيرة هي المرضعة فلا يرجع الزوج عليها بسبب انفساخ نكاحها بشيء.
وفي "الإبانة": أنه يسقط مهرها المسمى، ويجب لها مهر المثل.
ثم اعلم أنه لا فرق- فيما ذكرناه-:
بين أن تقصد بالإرضاع فسخ النكاح أو لا.
[ولا] بين أن يجب عليها- بألا يكون [ثم غيرها]- أو لا يجب.
وعن الشيخ ابي حامد احتمال في أنه لا غرم عليها إذا أرضعته وجوباً، وقد حكاه العمراني في "الزوائد" في النكاح، عند الكلام في مسائل شتى وجهاً عن بعض الأصحاب، والماوردي هاهنا، ثم قال: وهذا لا وجه له في سقوط الغرم، وإنما هو وجه في سقوط المأثم، كمن خاف تلف نفسه؛ فأحياها بمال غيره- ضمن، ولا يأثم.
ولا بين ألا يكون من المرتضع فعل أو وجد منه الفعل مع تمكينها، قال في "البسيط": لأن الإرضاع منها بحكم الطبع فلا وقع له، ولم ينزل هذا منزلة انفلات الطائر عند فتح باب القفص، والفرق غامض.
وقال في "الحاوي": فيه وجهان محتملان:
أحدهما: يغلب فيه فعل الكبيرة.
والوجه الثاني: أنه يحال التحريم عليها، فيسقط من نصف المهر ما يقابل
فعلها وهو نصف النصف، ويبقى نصفه وهو الربع.
ولا بين أن تكون مخوفة على ذلك أو غير مخوفة، وفيه وجه: أن الغرم يجب على المخوف.
ولا بين أن يكون ذلك من امرأة أو رجل، وصورته: أن تحلب المرأة التي يفسد رضاعها النكاح خمس دفعات في خمس أوان، فيوجره الرجل ذلك في خمس دفعات.
ولا فرق بين أن يكون ذلك من شخص واحد- كما صورناه- أو من أشخاص.
نعم، لو سقى كل شخص الرضيع دفعة من إناء، وجب عليه خمس الغرم.
ولو تفاوتوا في السقي فهل يجب الغرم عليهم بالسوية، أو بالتوزيع على السقيات؟ فيه وجهان، أصحهما: الثاني.
ولو أرضع الصغيرة أماً ولديه، وثلاث زوجات له، وقلنا: بأن ذلك يحرمها عليه انفسخ نكاحها دون نكاح الزوجات.
قال الشيخ أبو علي: وأما غرامة مهر الصغيرة:
فإن أرضعن على الترتيب فالانفساخ يتعلق بإرضاع الأخيرة.
فإن كانت الأخيرة إحدى المستولدتين فلا شيء عليها؛ لأن الإنسان لا يثبت له على مملوكه شيء، وإن كانت إحدى النسوة فعليها الغرم.
وإن أرضعن معاً، بأن جعلت كل واحدة لبنها في مسعط، وأوجرنه معاً، فلا شيء على المستولدتين، وعلى النسوة ثلاثة أخماس الغرم.
ولو أرضع الصغيرة أم الزوج، وبنته، وأخته، وبنت أخيه، وبنت أخته، وقلنا بتحريم الصغيرة، فإن أرضعنها على التعاقب فالغرم على الأخيرة.
وقد حكى الماوردي وجهاً في نظير المسألة، وهو إذا كان له زوجتان صغيرتان، فأرضعت أجنبية إحداهما، ثم أرضعت [أم] الأجنبية الأخرى- بطل نكاح الثانية، وفيمن يرجع عليه بالغرم وجهان:
أحدهما: على المرضعة الثانية؛ لأن برضاعها انفسخ النكاح.
والثاني: يرجع على المرضعتين؛ فيتجه جريانه هاهنا.
وإن وقع ذلك معاً فعليهن بالسوية.
فروع:
لو دبت الصغيرة بنفسها، فارتضعت من زوجته الكبيرة وهي نائمة- انفسخ نكاحها، وسقط جميع مهر الصغيرة على الأصح، ولا يجب على الكبيرة بسبب فساد نكاح الصغيرة شيء، على الأصح.
وقال الداركي: إنه يجب عليها الغرم؛ لتقصيرها.
وإذا قلنا بالأصح وجب في مال الصغيرة- بسبب فساد نكاح الكبيرة- الغرم.
ولو وقعت قطرة من لبن المرضعة أربع مرات في فم الرضيع بطيران الهواء، لم يجب عليها الغرم.
قال الرافعي: ويجيء في وجوب الغرم عليها الوجه المنقول عن الداركي.
ولو ارتضعت الصغيرة من أم الزوج مثلاً رضعتين وهي نائمة، ثم أرضعتها الأم ثلاثاً- فعلى الوجهين السابقين في أن الغرم يوزع على عدد المرضعات، أو على عدد الرضعات:
إن قلنا بالأول فيسقط من نصف المسمى نصفه، ويجب على الزوج نصفه.
وإن قلنا بالثاني فيسقط من نصف المسمى خمساه، ويجب على الزوج ثلاثة أخماسه.
ولو أرضعتها الأم أربع رضعات، ثم ارتضعت الصغيرة منها الخامسة وهي نائمة- فقد قال في "التتمة": في نظيره لأصحابنا اختلاف، وهو أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثاً على التلاحق، يتعلق التحريم بالطلقة الثالثة وحدها [أو بالطلقات الثلاث؟
إن قلنا: يتعلق بالثالثة وحدها] فكذلك هاهنا: يحال التحريم على الرضعة الأخيرة، ويكون الحكم كما إذا ارتضعت وصاحبة اللبن نائمة، ويسقط مهر الصغيرة.
وإن علقنا التحريم بالطلقات الثلاث فهاهنا يتلعق التحريم بالرضعات، فيسقط من نصف المسمى خمسه، ويجب على الزوج أربعة أخماسه، ويجب على المرأة أربعة أخماس مهر المثل؛ تفريعاً على أن الواجب مهر المثل، وادعى أنه أظهر.
وقد أبدى الماوردي ما قاله المتولي وجهين محتملين، لكن غير مبنيين على ما ذكره المتولي.
تنبيه: الغرم الواجب يكون للزوج إن كان حراً، وإن كان عبداً فلسيده.
وقوله: بالرضاع، يحترز به عما إذا أفسده عليه بوطئه كالأب والابن إذا وطئ زوجته بشبهة؛ فإنه لا يجب عليه الغرم على رأي قدمته، مع ما قيل فيه في باب: ما يحرم من النكاح.
وقال الجيلي: إنه احترز به عما إذا أفسده بالقتل، وقد حكينا فيه خلافاً عن بعض المصنفين هذا آخر كلامه، والله عز وجل أعلم.