الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما يجب به القصاص من الجنايات
والجنايات، أي: على النفس والطرف "ثلاثة: خطأ، وعمد، وعمد خطأ"، أي: ثلاثة أنواع؛ لأنه أثبت الهاء في الجمع. ودليل حصرها: أن الذي حصلت منه الجناية إما [أن] يقصد بها عين المجني عليه أو لا: فإن لم يقصد فهو الخطأ، وإن قصده فإن كان بما يقتل غالباً فهو العمد، وإلا فعمد الخطأ.
قال:"فالخطأ: أن يرمي إلى هدف، فيصيب إنساناً"، وهكذا ذكره القاضيان أبو الطيب والحسين في باب الديات، وقد قيل: إن هذا ليس حد الخطأ؛ بل حده: ما لا يقصد فيه الشخص، ومثاله ما ذكره الشيخ، أو ما لا قصد فيه إلى الفعل، ومثاله: إذا زلق، فوقع [على] إنسان فاتلفه. وما ذكره هذا القائل: من أن ما ذكره الشيخ ليس بحد الخطأ - صحيح؛ لأن الحد إما كامل وهو المشتمل على ذكر الجنس والفصل، أو ناقص وهو المقتصر فيه على ذكر الفصل، ولا جنس ولا فصل - فيما ذكره الشيخ - لكنا نقول: لم يذكره الشيخ حدًّا، وإنما ذكره تعريفاً، واقتصر عليه؛ لدلالته على ما عداه من طريق الأولى؛ لأن فيما ذكره وجد منه قصد الفعل، ولم يؤثر في إيجاب قصاص ولا تغليظ؛ فعدم قصد بذلك أولى، على أني أقول: من زلق، فوقع على إنسان، فتلف به - لا أعد ذلك جناية منه، فضلاً عن كونه خطأ؛ لأن الجناية مصدر: جنى يجني جناية، والخطأ بالهمز مصدر: أخطأ يخطئ إخطاء وخطأ، ومن زلق لا اختيار له؛ فلا فعل منه حقيقة حتى يقال: جنى، أو: أخطأ، لكنا نجعل حكم فعله حكم الخطأ؛ لقربه منه، وبعده عن غيره.
تنبيه:
الخِطء - بكسر الخاء، وإسكان الطاء بعدها همزة-: هو الإثم، يقال: خَطِيء يَخْطَأ خِطئاً؛ فهو خاطئ، مهموز كله، كعلم يعلم علماً [فهو عالم]، قال الله - تعالى-:{إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [الإسراء: 31]، وقال الله تعالى:{يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97] وقد يطلق "الخاطئ" على "المخطئ" في لغة قليلة، وأكثر الغزالي استعمالها.
الهدف، بفتح الدال: سبق بيانه في المسابقة.
قال: والعمد: أن يقصد الجناية [بما يقتل غالباً، وعمد الخطأ: أن يقصد الجناية بما][لا] يقتل - غالباً - أي: كالسوط والعصا الخفيفة.
اعلم أن الحد الأول قد وافق عليه صاحب "التهذيب" وغيره، و [قد] قال القاضي الحسين: إنه مستنبط من قول الشافعي إذا ضربه بما الأغلب أنه يموت منه، فمات منه؛ فعليه القود، وقد اعترض على الشيخ فيه؛ فقيل: إنه ليس بجامع، ولا مانع:
أما الأول؛ فلأن من قطع أنملة إنسان، فسرت جراحته إلى النفس - يقاد به، وإن كان القتل بذلك لا يحصل إلا نادراً.
وأما الثاني؛ فلأن من قصد جماعة بسهم، ولم يقصد واحداً بعينه؛ فقتل واحداً منهم - لا يجب عليه القصاص، وإن وجد منه قصد الجناية [بما يقتل] غالباً.
واعترض على حد عمد الخطأ، فقيل: إنه ليس بجامع؛ لأنه يدخل قطع الأنملة فيه، مع أنه عمد.
وما ذكره هذا القائل: من أن الحد الأول غير جامع؛ لإخراجه مسألة [قطع] الأنملة، فهو [غير صحيح]؛ لأن "ما" في قول الشيخ:"أن يقصد الجناية بما يقتل غالباً" نكرة موصوفة، وتقديره أن يقصد الجناية بشيء يقتل غالباً، وإذا كان كذلك [فالغلبة معتبرة] في ذلك الشيء الذي حصلت به الجناية، وهي
حاصلة في مسألة قطع الأنملة؛ لأن الذي حصلت به الجناية فيها آلة الجراحة، وهي تقتل غالباً. وبهذا يندفع قوله أيضاً: إن الحد الثاني غير مانع. نعم، هذا التسير يخرج مسائل القتل بالإبرة؛ وكذلك صرح الشيخ بها؛ لخروجها عن الضبط.
وقوله: إن الحد الأول غير مانع؛ استدلالاً بمسألة السهم – ممنوع؛ لأنا نقول له: الموجود – فيما ذكرته – ليس إلا امتناع القصاص، وامتناع القصاص لا يدل على عدم العمدية؛ ألا ترى أن العمدية ثبتت، ويتخلف القصاص عنها؛ لاعتبار شيء آخر؟! فجاز أن يكون قصد عين الشخص شرطاً لوجوب القصاص، وإن صدق وصف العمدية بدونه، على أن المتولي حكى وجهاً في مسالة رمي السهم إلى قوم من غير قصد واحد بعينه: انه يجب به القصاص، وأشار إليه الغزالي في باب الصيد والذبائح.
وقد تكلم الأصحاب في حد العمد وعمد الخطأ بعبارات أخر:
فقال بعضهم: ما علم حصول الموت به بعد وجود قصد الفعل والشخص فهو عمد، سواء قصد الفاعل إزهاق الروح أو لم يقصد، وسواء حصل الموت به غالباً، أو نادراً كقطع الأنملة. وإن وجد القصدان معاً، وترددنا في أن الموت حصل به – فهو عمد خطأ. وهذا منه حد للمذهب الصحيح، وإلا فقد قال مجلي: إن بعض علمائنا قال: لابد من قصد إزهاق الروح.
وبعضهم قال: يشترط قصد عين الشخص، كما ذكرناه.
وقد [اعترض] على هذا القائل فيما ذكره من حد العمد؛ فقيل: إنه غير مانع؛ فإنه لو ضرب كوعه بعصا؛ فتورم الموضع، ودام الألم حتى مات – فإنا نعلم حصول الموت به، ولا قصاص فيه؛ ولأجل ذلك قال بعضهم: إن حد العمد ما يقصد به القتل غالباً في المثقلات، فأما في الجراحات فكل جرح سارٍ ذي غور.
قال الغزالي: وهذا ضعيف؛ لأن معنى العمد لا يختلف بالجرح والمثقل؛ فإن الجارح كما يؤثر في الظاهر بالشقِّ والتخريب يؤثر المثقل في الباطن بالهد والترضيض، واختار – بعد ذلك – ترك الضبط، وأن يقال: حصول الموت بالسبب إما أن يكون نادراً، أو كثيراً، أو غالباً، [وليس كل كثير غالباً]؛ فإن المرض كثير، وليس بغالب، ولا نادر، بل الغالب الصحة، والجذام نادر لا كثير ولا غالب؛ فكل ما كان حصول الموت به غالباً فيلتحق بما يكون حصول الموت به ضرورياًّ، وإن كان يهلك كثيراً، فإن كان الفعل بجارح ألحق بالغالب، وإن كان بغير [مثقل كالسوط] والعصا لم يتعلق به قصاص.
قال:"ولا يجب القود غلا في العمد".
أما وجه وجوبه فيه عند اجتماع شرائطه وهي صفته بكونه عدواناً من حيث كونه مزهقاً للروح، والمكافأة في القتيل، وغير ذلك على ما سنبينه؛ فلما ذكرناه في أول الكتاب.
وأما عدم وجوبه في الخطأ؛ فلقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]، فأوجب الدية، ولم يتعرض للقصاص، وللخبر المشهور.
وأما عدم وجوبه في عمد الخطأ؛ فلما روى أبو داود، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهم – في حديث طويل، أن رسول الله صلى الله لعيه وسلم قال:["أَلَا] إِنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ – مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا – مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا"، وأخرجه
النسائي، وابن ماجه والبخاري في "التاريخ الكبير" والدارقطني في "سننه".
وجه الدليل منه: أنه – عليه السلام – سماه خطأ؛ فاندرج في الخبر المشهور، ويؤيده أنه جاء في حديث آخر:"أَلَا إِنَّ قَتِيلَ عَمْدِ الْخَطَإِ قَتِيلَ السَّوْطِ، وَالْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ"، فبين أن ذلك واجبه، ولأنه لم يقصد القتل فلا يجب عليه عقوبته؛ كما أن من لم يقصد الزنى؛ بأن وطئ بشبهة – لا يجب عليه الحد.
قال:"فإن جرحه بما له مَوْر من حديد"، أي: كالسيف، والسكين والخنجر "أو غيره"، كالنحاس والصفر والرصاص والذهب والفضة [والزجاج، والخشب، والقصب]، إذا اتخذ منه آلة تجرح "فمات منه – وجب عليه القود"؛ لن هذا الفعل يفضي إلى الموت غالباً فهو عمد؛ وهكذا الحكم فيما إذا أصابه بما ليس له حد يجرح، ولكن يثقب برأسه الدقيق؛ كالرمح والسهم والمسلة؛ لأن لذلك نكاية، كالجرح، ولا فرق فيه بين أن يخرج بعده دم أم لا، قال الماوردي: كما لا يعتبر ذلك في وجوب الدية.
تنبيه: المور – بإسكان الواو-: والغور والنفوذ والسَّراية.
وأصله: الحركة؛ ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} [الطور: 9] أي: تموج.
وفي "الجيلي": أن أصل المور: الطريق.
قال: "وإن غرز إبرة في غير مقتل"؛ أي: كالالية والفخذ والعقب؛ كما ذكر القاضي الحسين، "فإن بقي منها ضَمِنا؛ [أي: متألماً، وهو بفتح الضاد وكسر
الميم] حتى مات – وجب عليه القود"؛ للعلم بحصول الهلاك بذلك، واعتبر الغزالي في ذلك أن يكون مع اللم ورم، حتى لو وجد الألم دون الورم- كان في وجوب القصاص وجهان.
قال:"وإن مات في الحال قد قيل: يجب" كما لو طعنه بمسلة فمات في الحال، ولأن في البدن مقاتل خافية في عروق ضارية، وربما صادفها، وهذا قول أبي غسحاق المروزي، وأبي الطيب بن سلمة.
وذكر القفال أنه الأصح.
وقيل: لا يجب؛ لأنه لا يقتل مثله في العادة؛ فاشبه لسع العقرب والزنبور، وأشبه ما لو مات بعد مدة، ولم يعقب للغرز ألم ولا ورم، وهذا قول ابن سريج والإصطخري، وهو الذي صححه المتولي، واختاره القاضيان الطبري والروياني، وصاحب "المرشد"، وقال في "العدة": إنه المذهب.
وقد حكى القاضي أبو الطيب: أنهما طردا مذهبهما في إسقاط الضمان أيضاً.
وحكى الشيخ في "المهذب" في باب الديات، والماوردي ذلك وجهاً تفريعاً على مذهبهما، مع وجه آخر: أن الدية تجب مغلظة؛ لتردده بين احتمالين: قتل، وسلامة، والأخير هو الذي جزم به الفوراني والبغوي؛ تفريعاً على قولهما.
ثم محل ما ذكرناه: إذا لم يبالغ في إدخال الإبرة، فأما إذا بالغ وجب القود وجهاً واحداً، وهذا ما حكاه الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب والماوردي والفوراني.
وقال ابن الصباغ: لا وجه عندي لما ذكر من التفصيل؛ [لأن القائل] بهذه الطريقة: إن كانت العلة عنده أنه لا يقتل غالباً فلا فصل بين أن يبقى ضمناً منه أو يموت في الحال، وإن كان يقول: إنه إذا لم يزل ضمناً منه، فقد مات منه، وإذا مات في الحال فلا يعلم أنه مات منه؛ فكان ينبغي أن يكون الوجهان في وجوب الضمان دون القود.
وعن القاضي ابن كج وغيره: أنهم طردوا الوجهين فيما إذا تورم الموضع،
ودام الألم إلى الموت؛ لأن الفعل في نفسه ليس مما يقصد [به الإهلاك] في نفسه، وأنه دون الفصد والحجامة اللذين يقدم عليهما الناس بالاختيار، ولا يعدونهما قتلاً.
وفي "الرقم" للعبادي: أن الغرز في بدن الصغير والشيخ الهم ونضوا الخلق، يوجب القصاص بكل حال، وسلك القاضي الحسين طريقاً آخر، فقال: إن كان غرز الإبرة في اللحم، فإن دمي فعليه القصاص، وإن لم يدم فعلى وجهين.
وإن غرز في الجلد، فإن لم [يدم] فلا قصاص، وإن دمي فوجهان.
وإن أعقب الغرز ألماً حتى مات وجب القود، أما إذا غرز الإبرة في مقتل كأصول الأذنين والعين والقلب والصدر والخاصرة والخصية، وجب القود جزماً.
قال: "وإن ضربه بمثقل كبير" أي: بشيء يقتل كالعمود من الحديد، والدبوس، وحجر الرحا ونحوه، "أو بمثقل صغير"، [أي: كالحجر الصغير] والعصا الخفيفة "في مقتل، أو في رجل ضعيف"؛ أي: لصغر، أو كبر، "أو في حر شديد، أو برد شديد"؛ أي: يقتل مثل ذلك الضرب بتلك الآلة فيه غالباً أو والي بين الضرب؛ فمات منه – وجب عليه القود"؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] والسلطان هو القود، وهذا قد قتل مظلوماً؛ فوجب أن يكون لوليه القود؛ ولما روى أبو داود بسنده في حديث طويل:"أَنَّ [حَمَلَ بْنَ مَالِكِ] بْنِ النَّابِغَةِ قَالَ لِعُمَرَ – رضي الله عنهما: كُنْتُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِمِسْطَحٍ، فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنِينِهَا بِغُرَّةٍ، وَأَنْ تُقْتَل" وخرجه النسائي، وابن ماجه. وقال أبو داود: والمسطح: هو الصوبج. وقال أبو عبيد: إنه عود من أعواد الخباء.
وحمل بحاء [مهملة مفتوحة وبعدها ميم مفتوحة ولام].
وروى أبو داود أيضاً عن أنس – وهو ابن مالك-: "أَنْ جَارِيَةً وُجِدَتْ قَدْ رُضَّ رَاسُهَا بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا: أَفُلَانٌ؟ أَفُلانٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَتْ بِرَاسِهَا، فَأَخِذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَضِّ رَاسِهِ بِالحِجَارَةِ" وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما؛ فثبت القصاص في هاتين الصورتين بالنص، وقيس ما عداهما عليهما؛ لأنه في معناهما.
وأيضاً فإن الخصم وهو أبو حنيفة – وافقنا – كما حكاه الماوردي – على أن القتل بالعمود الحديد موجب للقود؛ فقيس عليه غيره بجامع ما اشتركا فيه من إزهاق الروح.
وأيضاً: فإن إيجاب القصاص شرع؛ صيانة للنفوس بقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فلو سقط بالمثقل لما انخرست النفوس، وفي ذلك إبطال معنى النص؛ فبطل.
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في وجوب القصاص على من قتل الضعيف بالمثقل الصغير بين أن يعلم ضعفه أو لا يعلم، وهو الصحيح في الطرق.
وحكى الرافعي وغيره وجهاً فيما إذا ظنه صحيحاً، [و] كان ذلك الضرب لا يقتل الصحيح غالباً – أنه لا يجب؛ [لأن ما] أتى به ليس بمهلك عنده، وذكر أن هذا الوجه مأخوذ من الخلاف فيما إذا شهد اثنان على إنسان بما يوجب القتل، ثم رجعا، وقالا: تعمدنا، ولم نعلم أنه يقتل بشهادتنا – في أنهما هل يقادان، أم لا؟
قال:"وإن رماه من شاهق"؛ أي: مكان عالٍ، وأصله الجبل المرتفع، أو عصر خُصييه عصراً شديداً، أو خنقهُ خنقاً شديداً، أي: يموت من مثله غالباً "أو
طرحه في ماء، أو نار لا يمكنه التخلص منه"؛ أي: لكثرته؛ أو لضعف المطروح، أو لكونه مكتوفاً.
قال:"وجب عليه القود"، أي: إذا مات منه؛ لان ذلك يقتل غالباً فوجب فيه القود؛ كالجارح. ولا فرق في وجوب القود [به] بين أن يموت في الحال أو بعد خروجه من الماء والنار، وزوال الخنق والعصر، وبقائه ضمناً إلى الموت.
وحكم شد يديه ورجليه، وطرحه في ساحل يعلم وصول الماء إليه بالزيادة؛ كالمد بالبصرة؛ كما قال في "المهذب" في باب الديات، و"الحاوي" في باب التقاء الفارسين – حكم الإلقاء في الماء المهلك، وكذا حكم وضع مخدة على وجهه، وجلوسه عليها، أو سَدّ فيه بشيء ومَسْكِ أنفاسه إلى الموت – حكم الخنق، أما إذا أمسك نفسه، أو خنقه مدة لا يقتل مثلها غالباً – فلا قود، وتجب دية مغلظة، قاله المحاملي وابن الصباغ.
تنبيهان:
أحدهما: قوله:"خصييه" بياء آخر الحروف مكررة، وليس هي مثناة من فوق، هذا هو المشهور في اللغة، ونقل الجوهري وغيره عن أبي عمرو أنه قال: الخصيتيان: البيضتان، والخصيان – بحذف التاء -: الجلدتان اللتان فيهما البيضتان. قال الجوهري: يقال: خُصية، بضم الخاء وكسرها، والمشهور الضم.
الخنق – بفتح الخاء، وكسر النون -: مصدر "خنقه، يخنقه"، بضم النون، خنقاً، ويجوز إسكان النون مع فتح الخاء وكسرها.
وحكى عن صاحب "المطالع": فتح النون [و] قيل: هو شاذ أو غلظ.
الثاني: تقييد الشيخ إيجاب القود في الصورتين الخيرتين بعدم القدرة على التخليص، يشعر بأمرين:
أحدهما: أنه إذا قدر عليه لا يجب القود.
الثاني: أنه لا يتوقف وجوب القود فيما عدا الصورتين على عدم القدرة على الخلاص، بل يجب وإن قدر المجني عليه عليه.
والإشعار الأول صحيح على ما حكاه الماوردي والمحاملي والبندنيجي وغيرهم من العراقيين، إلا القاضي أبا الطيب؛ فإنه حكى في "تعليقه" فيما إذا قدر على التخلص من النار ظاهراً؛ كما قاله الفوراني، أو قال: يمكنني أن أخرج منها، ولم أفعل؛ كما صوره ابن الصباغ في وجوب القود – قولين:
أحدهما: نعم؛ كما لو جرحه، فترك التداوي، ولم يزل متألماً ضمناً إلى أن مات، وهذا ما جزم به الفوراني، وحكاه القاضي الحسين، ونسبه ابن كج إلى القاضي الحسين، وجماعة إلى القفال، وبه أجاب العبادي في "الرقم".
وحكى الإمام مثله وجهاً في مسألة الماء أيضاً إذا قلنا بأنه يوجب الدية.
وقال الرافعي: إن صاحب "الرقم" حكى عن بعض البغداديين من الأصحاب أنهم صاروا إليه؛ تخريجاً من مسألة النار.
والقول الثاني في مسألة النار: أنه لا يجب، وهو الذي أبداه القاضي الحسين احتمالاً، واختاره الشاشي لنفسه، وحكاه المحاملي عن النص؛ حيث قال: قال الشافعي: لا قود فيه ولا عقل.
قال الأصحاب: والفرق بين هذا وبين المجروح؛ إذا تمكن من مداواته، فلم يفعل حتى مات – من وجهين:
أحدهما: أن موته بالجرح حصل من السراية، وهي من فعل الجارح، وموته هنا حصل من إقامته؛ وهي من فعل المطروح.
والثاني: أن برءه بالتداوي مظنون؛ فلا يسقط لأجله حكم الجناية المتحقق، وليس كذلك في مسألتنا؛ فإن سلامته بخروجه من النار متحققة، فإذا لم يفعل سقط [القود]؛ ولهذا نقول: إذا فتح عرقه؛ فلم يعصبه حتى مات – لم يجب ضمان بقود ولا دية.
والإشعار الثاني يؤيده ما حكاه ابن يونس من إطلاق القاضي أبي الطيب القول بالقود مطلقاً، وأنه الأصح، وأن صاحب "المستظهري" قال: وعندي: أنه لا اعتبار بقدرته على الدفع، والقود واجب؛ لا سيما إذا قلنا: لا يجب عليه الدفع عن نفسه، وقد حكى الماوردي خلاف ذلك جزماً فيما إذا قدر المخنوق على خلاص نفسه؛ لفضل قوته على قوة الخانق، ولم يفعل، وقال: إنه لا قود على الجاني؛ لأنه قاتل نفسه، وفي وجوب الدية قولان ممن أمر غيره بقتله، قال المحاملي: والصحيح: أنها لا تجب.
قال الماوردي: ويخالف من أريدت نفسه، فلم يدفع عنها حتى قتل؛ فإنه لا يسقط عن قاتله القود؛ فإن سبب القتل في المخنوق موجود [فكان تركه إبراء، وسببه في الطالب نفسه غير موجود]، فلم يكن [في] الإمساك قبل حدوث السبب إبراء.
فروع:
إذا حبسه في بيت؛ فمات جوعاً أو عطشاً – نظر: إن أمكنه الأكل والشرب؛ بأن كان ما يتناوله عندهن وهو يهتدي إليه، أو لا، وكان يمكنه أن يستدعيه؛ فيأتيه، فلم يفعل – فهو قاتل نفسه.
وإن [كان] منعه الحابس الطعام والشراب، وطلبه في مدة يموت مثله فيها غالباً من الجوع والعطش – فعليه القصاص، وكذا إذا كان عنده، وكان صغيراً لا يهتدي إليهما؛ فمات – يجب عليه القصاص وألحق الغزالي في "الفتاوى" بهذه الحالة ما إذا منع من افتصد من شد الفصاد حتى مات، فإن لم يمض عليه مثل تلك المدة؛ فمات: فإن لم ينك به جوع أو عطش سابق فهو شبه عمدن وإن كان به جوع سابق أو عطش ففيه طريقان في "التهذيب":
[أظهرهما في "الرافعي"، وهو المذكور في "الوجيز": أنه إن علم جوعه السابق أو عطشه لزمه القصاص، وإلا فقولان، أصحهما: المنع.
والثاني: إن كان جاهلاً بحاله فلا قصاص] قطعاً، وإن كان عالماً فقولان، أصحهما في "التهذيب": عدم الوجوب، فإن لم نوجب القصاص ففيما يجب من الدية قولان:
أحدهما: جميعها.
والثاني: نصف دية شبه العمد، وهو ما أورده المتولي والأكثرون.
[وفي "النهاية" – في كتاب الوديعة – حكاية وجهين في إيجاب الضمان، أحدهما: لا يجب؛ لأن الحابس لو حبس في مثل هذا الزمانا من لم يكن به جوع سابق لم يمت، ولم يوجد منه هنا إلا الحبس في هذا الزمن؛ فلا يؤاخذ بتلف ترتب على الجوع السابق].
ولو منعه الشراب دون الطعام، فلم يأكل؛ خوفاً من العطش، فمات – فلا قصاص. وفي وجوب ضمانه وجهان، المذكور [منهما] في "التهذيب": المنع.
إذا حبسه، وعراه حتى مات برداً – فهو كما لو حبسه ومنعه الطعام والشراب، وهذا بخلاف ما لو خلاه في طريق، ونزع ثيابه؛ فمات من البرد، أو اخذ زاده وماءه؛ فمات جوعاً وعطشاً؛ فإنه لا قصاص.
قال المتولي: لأنه ما قصد بالذي فعل قتله، وإنما قصد تحصيل شيء لنفسه، وكما لا يجب القصاص لا تجب الدية؛ فإنه لما لم تتصل جنايته به صار كمال لو وجد مضطرًّا وله طعام، فمنعه منه حتى مات، أو كان يغرق في الماء، وهو يقدر على تخليصه، فلم يفعله؛ فإنه آثم، ولا ضمان.
وأشار القاضي الحسين إلى خلاف في وجوب الضمان فيما إذا عراه في مفازة [فمات برداً، وفيما إذا منع منه الطعام والماء وهو في مفازة]؛ حيث قال: لا ضمان على الصحيح.
[وفي "الحاوي" في باب الأطعمة فيما إذا منع المضطر الطعام، فمات، أو قتل – أنه يتضمن ديته – كان مذهباً؛ كما لو منعه من طعام نفسه؛ فإنه يضمن ديته؛
كذلك هاهنا].
قال:"وإن طرحه في لجة، أي: لا يقدر على الخلاص منها، فالتقمه حوت قبل أن يصل إلى الماء – ففيه قولان:
أحدهما: يجب [عليه] القود؛ لأنه رماه في مهلكة، وقد هلك بسبب رميه، ولا نظر إلى الجهة التي يهلك بها؛ كما لو ألقاه في بئر مهلك، فكان أسفلها سكاكين منصوبة لم يعلم بها الملقي؛ فهلك بها، أو جرحه بسكين مسمومة لم يعلم الجارح بسمها؛ فمات بالسم.
وأيضاً: فإن لجة البحر، وهي معظم الماء –كما نبهنا عليها في الغصب- معدن الحوت، فالإلقاء فيها إلقاء إلى الحوت؛ فصار كما لو كتفه وعرضه للسبع، وهذا القول هو المنصوص للشافعي، والأصح في "الرافعي" وغيره.
والثاني: لا يجب؛ لأن الهلاك حصل بغير ما قصد به الملقى الإهلاك، وإذا لم يكن سبب الهلاك متعلق قصده صار ذلك شبهة دارئة للقصاص.
قال القاضي أبو الطيب: بالقياس على ما لو دفعه من حائط، فاستقبله إنسان بسيف فقده نصفين؛ فإنه يكون خطأ من الدافع؛ كذلك هاهنا، وهذا منه يدل على أن الملقى في مسألتنا إذا لم نوجب عليه القصاص يجب عليه دية الخطأ، وقد صرح الرافعي وابن الصباغ بأنها دية عمد الخطأ، وهذا القول رواه الماوردي عن حكاية الربيع.
وقال الإمام: إن الربيع خرجه مما إذا رمى [رجلاً] من شاهق، واعترض له واحد فقده بنصفين – فإنه لا قود على الرامي، وكذلك حكاه القاضي الحسين، لكنه قال: إن محله مع القول الأول إذا التقمه الحوت، أو اختطف رأسه بعد وصوله إلى الماء، أما إذا التقمه، أو اختطف رأسه قبل أن يصل إلى الماء – فلا يجب القود وجهاً واحداً، وهذه طريقة القفال؛ كما حكاها أبو الحسن العبادي عنه.
وفي "التهذيب" وغيره: أنه لا فرق بين الحالتين، وقد ادعى الجيلي أن القول المخرج هو الصحيح.
قال الإمام: إن معظم الأصحاب لم يرتضوا التخريج، وفرقوا بين الصورتين بان القتل في مسألة تلقي القاد صدر من فاعل مختار يفعل برأي وترو؛ فقطع أثر السبب الأول، والحوت يلتقم بطبعه كالسبع الضاري؛ فجاز ألا يقطع السبب الأول؛ ألا ترى أنه لو أمسك إنساناً فقتله إنسان آخر – فلا قصاص على الممسك، [ولو هدفه لوثبة أسد ضار، فافترسه – فالقصاص على الممسك؟!].
وغيره فرق: بأن الإلقاء من الشاهق قد لا يهلك؛ فإن الريح ربما رفعت الملقي وعطفته؛ فيصيب الأرض بلا شدة ولا صدمة؛ فيسلم، فإذا طرأ عليه القد بطل أثره، والإلقاء في الماء المغرق مهلك لا محالة؛ فلا ينظر إلى ما يحدث بعده.
قال الرافعي: وهذا يفهم القطع بوجوب القصاص إذا كان التقام الحوت بعد وصوله إلى الماء، وفي إيراد الشيخ أبي حامد وغيره من الأئمة العراقيين ما يشعر به.
وحكى الماوردي عن بعض الأصحاب أنه نفي الخلاف في المسألة، وحمل القولين على اختلاف حالين، وقال: الأول محمول على نيل مصر الذي يغلب عليه التماسيح؛ فلا يسلم منها أحد. والثاني: محمول على غيره من البحار والأنهار التي تخلو – غالباً – عن مثله. وحكى في باب القصاص بغير السيف، في مسألة التلقي بالسيف وجهان: أن القاتل هو الملقي دون القادّ؛ لأنه بإلقائه كالموحي، وكذلك حكاه الإمام في "باب وضع الحجر" عن بعض التصانيف، وضعفه ونسبه البغوي إلى الشيخ أبي حامد، وقال: إنه ليس بصحيح.
وحكى البندنيجي وابن الصباغ- قبيل باب التقاء الفارسين، والشيخ في "المهذب" في باب الديات، مع الوجه الأول فيها وجهاً آخر: أنهما شريكان في الضمان، وادعى الإمام في باب وضع الحجر: أن أحداً من الأصحاب لم يحكه،
وبه يجتمع في المسألة ثلاثة أوجه؛ كما صرح به الماوردي قبيل باب اصطدام الفارسين، وحكاه ابن يونس:
أحدها: أن الضمان على القاد؛ فيضمنه بالقود أو الدية.
والثاني: أنه على الملقى؛ فيضمنه بالقود والدية.
والثالث: أنهما يضمنانه [جميعاً] بالقود والدية، والله أعلم.
قال:"وإن طرحه في زُبية فيها سبع؛ فقتله، أو امسك كلباً؛ فأنهشه؛ [فمات]، أو السعه حية أو عقرباً يقتل مثلها غالباً، فقتله – وجب عليه القود: أما في الأولى؛ فلأنه ألجأ السبع إلى قتله؛ لأنه يثب بطبعه في المضيق، ويقصد؛ فوجب عليه القود؛ كالمكره، وأما في الباقي؛ فلأن ما ذكره آلة له في القتل؛ فهو كالسيف.
والزبية – بضم الزاي، وإسكان الباء ثانية الحروف -: حفرة تحفر للأسد؛ ليصاد فيها، وجمعه: زبي، بضم الزاي، و [في] معناها كل مضيق.
وألحق بذلك ما إذا عرضه لافتراس السبع، وهدفه له، حتى صار السبع كالمضطر إليه؛ [كما حكاه ابن كج عن النص، وجزم به أبو الطيب، أما إذا لم يلقه على السبع] في مضيق، ولا هدفه له – فقد أطلق معظم الأصحاب القول بأنه لا قصاص، وحكوه عن النص. ووجهوه بأن السبع لا يقصد الآدمي في الموضع الواسع إلا قصد الدافعين، ويمكن التحرز عنه والفرار عنه.
وعن القاضي الحسين وغيره: أن السُبع إذا كان ضارياً شديد العدو، وكان لا يتأتى الهرب منه في الصحراء، أو كان الشخص قصير الخطوة عن وثبة السبع – أنه يجب عليه القود، وهو ما أجاب به الماوردي، وقال: إنه يكون بمثابة من أرسل سهماً قاتلاً. والإمام جعل هذا كالبيان والاستدراك لما أطلقه الأصحاب وأرسلوه، وحكى عن صاحب "التقريب" رواية قولين في وجوب القصاص على من حبس شخصاً مع سبع؛ فقتله، واستبعد ذلك، وقد حكاهما الرافعي عن رواية
[القاضي] ابن كج بالنقل والتخريج، واتفق النقلة على أنه لو كتفه وألقاه في أرض مسبعة؛ فافترسه السبع – أنه لا قود عليه؛ لأنه لم يلجئه إلى قتله، وكذا لا دية؛ كما في الممسك مع القاتل، صرح به الماوردي، وغيره، وحكى وجه: أنه يجب الضمان إذا كان المطروح صغيراً لا يقدر على الانتقال.
وفي "المهذب": الجزم بوجوب الدية مغلظة إذا كان المطروح رجلاً؛ لأن ذلك شبه عمد، وبوجوبها مخففة إذا كانت الأرض غير مسبعة، فافترسه السبع؛ لأنه قتل هخطأ.
ولا فرق في السبع الذي ذكرناه بين أن يكون أسداً، أو نمراً، أو كلباً عقوراً. والحيات التي تقتل – غالباً – حيات الطائف، وكذا أفاعي مكة، وثعابين مصر، والعقارب التي تقتل – غالباً – عقارب نصيبين.
قال:"وإن لم يقتل غالباً" أي: كالذئب كما قاله البندنيجي، وحيات الماء، والحجاز، وعقارب مصر "ففيه قولان:
أصحهما: أنه لا يجب"؛ لأنه لم يظهر منه قصد القتل، وهذا وافق الشيخ على تصحيحه البغوي والروياني والقاضي أبو الطيب.
والثاني: يجب؛ لأنه نهشه ذلك يشق الجلد، ويرتقب منه الغور والنكاية؛ فكان كالجرح، وقد وافق الشيخ على حكاية القولين [هكذا الماوردي].
وحكى الإمام أن الأصحاب قالوا: الحكم في هذه المسألة كالحكم فيما لو غرز إبرة. وقد سبق تفصيله، وأن هذا حسن بالغ.
فرع: إذا حبسه مع حية في مكان ضيق؛ فقتله – لا قصاص عليه ولا دية.
وحكى القاضي ابن كج قولاًك أن ذلك كالجمع بينه وبين السبع في بيت.
قال:"وإن أكره رجلاً على قتله"، أي: بغير حق؛ فقتله –"وجب عليه القود"؛ لأنه أهلكه بما يقصد به الهلاك- غالباً – فأشبه ما إذا رماه بسهم فقتله.
قال القاضي أبو الطيب: ولأن المكره على الفعل بمنزلة المباشر له؛ بدليل أن المطلوب نفسه يحل له أن يدفع عن نفسه، وهو مخير بين أن يقتل الآمر، أو المأمور أو هما معاً، وإذا كان كذلك فهو لو باشر القتل على وجه العمد وجب عليه القصاص؛ كذلك هاهنا.
وقد حكى القاضيان أبو الطيب والحسين أن المذهب لا يختلف في ذلك.
وحكى الرافعي: أن الشيخ أبا عاصم العبادي [حكى عن] شيخه الأستاذ أبي طاهر، عن شيخه الأستاذ أبي الوليد، عن شيخه ابن سريج: أنه لا قصاص عليه؛ لانه متسبب، والمكره مباشر مأثوم بفعله، والمباشرة تقدم على السبب.
وفي "ابن يونس" حكاية ذلك قولاً، وكذلك في "الجيلي"، ونسبه إلى "البسيط" و"تعليق" الشريف، وقد رأيت فيه إشارة إليه.
قال:"وفي المكره"؛ أي: بفتح الراء – قولان:
أصحهما: أنه يجب؛ لأنه قتله عمداً عدواناً؛ لاستيفاء نفسه؛ فوجب عليه القود؛ كما لو قتل المضطر إنساناً ليأكله، بل أولى؛ لأن المضطر على يقين من التلف؛ عن لم يأكل، وليس المكره على يقين من القتل إن لم يقتل. ولأن القصاص حكم يتعلق بالقتل؛ فوجب ألا يسقط بالإكراه؛ كالمأثم.
والقول الثاني: أنه لا يجب؛ لأنه قتله دفعاً عن نفسه؛ فأشبه [قتل الصائل]، وأيضاً فإن المكرَه آلة المكرِه؛ ولذلك وجب القصاص على المكره؛ فصار كما لو ضرب به المكره على قتله فقتله، قال البغداديون: ولأن الإكراه شبهة تدرا بها الحدود.
ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في جريان القولين بين أن يكون المكره هو الإمام، أو نائبه، أو إمام أهل البغي، أو المتغلب باللصوصية، وذلك هو الطريقة الصحيحة في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"مجموع" المحاملي و"الشامل" وغيرها. ومقابلها: أن محلهما إذا كان المكره هو الإمام، أو نائبه، أو من في معناه: كأمير طائفة خرجوا على الإمام بتأويل سائغ، وتغلبوا على بلده؛ كما صرح به المحاملي.
أما إذا أكرهه خلاف ذلك كإمام أهل البغي، وجب عليه القود جزماً.
والفرق: أن الإمام واجب الطاعة في الجملة؛ فأمره وإكراهه يوجب الشبهة في القصاص.
وفي "الحاوي" على هذه الطريقة: أن المكره إن كان إمام أهل البغي، وكان المكره ممن يعتقد صحة ما صار إليه – [فهو في حقه كإمام أهل العدل في حقهم، وإن كان لا يعتقد صحة ما صار إليه] فوجهان، وإن كان المكره متغلباً باللصوصية فهو محل الجزم بوجوب القود.
[وفي "الإبانة" و"العدة" حكاه عن بعض الأصحاب: أنه جزم بعدم وجوب القود] على مكره السلطان، وبوجوبه على مكره غيره، وقال: إن ذلك نص عليه الشافعي، وإن الفرق: أن مكره غير السلطان يجد مخلصاً.
من المتغلب عليه بأن يستعين بالسلطان، ولا كذلك مكره السلطان؛ فإنه لا يجد [منه] مخلصاً، ثم السلطان هل يخرج بالإكراه على القتل عن الإمامة؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي عن [ابن] أبي هريرة، وأنه أجراهما في ارتكابه [الكبائر التي] يفسق بها، وقد تقدم في كتاب الطلاق الكلام فيما يحصل به الإكراه في الطلاق، وقد قال بعض أصحابنا: إنه يحصل به الإكراه على القتل أيضاً.
وقال القاضي الحسين: الذي يحصل به الإكراه هنا هو أن يخوفه بعقوبة لو نالها من يديه مبتدئاً – وجب فيها القصاص، والصحيح الذي مال إليه المعتبرون هاهنا ورجحوه ما حكاه القاضي الحسين عن أصحابنا العراقيين، وهو في "الشامل": أن الإكراه في القتل لا يحصل إلا بالتخويف بالقتل، أو ما يخاف منه التلف كالقطع، بخلاف الطلاق، وألحق الرافعي بالقطع الضرب الشديد.
التفريع: إن أوجبنا القصاص: فإذا آل الأمر إلى الدية بالعفو فهي موزعة عليهما، وهما كالشريكين، وإن لم نوجبه على المكره ففي وجوب الدية عليه وجهان حكاهما المراوزة – وكذا الماوردي، عن البغداديين والبصريين -:
أحدهما: لا؛ تنزيلاً له منزلة الآلة، وهذا ما صححه في "التهذيب".
والثاني: يجب نصف الدية، والقصاص [إنما] يثبت للشبهة، وهذا هو المنصوص، والذي أورده المحاملي، وابن الصباغ، والقاضي أبو الطيب والأكثرون.
[وعبارة البندنيجي – في كتاب: الصيام -: أن الشافعي لم يُجْرِ الإكراه على القتل مجرى غيره؛ لأنه لم يسقط حكمه بكل حال على أحد القولين؛ لأنه أوجب نصف الدية قولاً واحداً،] فعلى هذا: إذا غرم رجع به على المكره، صرح به الغزالي، ولم أره لغيره، وتجب عليه الكفارة أيضاً، ويتعلق بقتله حرمان الميراث.
ثم من يغرم: هل الجاني، أم عاقلته؟ تردد فيه الإمام، وحكى الجيلي ذلك قولين، وعلى القول بعدم وجوب شيء من الدية هل تجب الكفارة؟ فيه وجهان، [أصحهما: الوجوب؛ لحصول الإثم المحوج إلى التكفير، فإن أوجبناها تعلق بها حرمان الميراث، وإلا فوجهان]، أظهرهما: ثبوته.
تنبيهان:
أحدهما: احترز الشيخ بقوله:"رجلاً" عما إذا كان المكره صبيًّا مراهقاً؛ فإن القصاص لا يجب على المكره؛ لصباه، ووجوبه على المكره ينبني على أن عمد الصبي عمد أو خطأ: إن قلنا: عمد – وهو الأصح – فعليه القصاص، وإلا فلا؛ لأنه شريك خاطئ، وبهذا جزم القاضي الحسين.
قال الإمام: وهذا إذا فرعنا على انه يجب القصاص على المكره – بفتح الراء – وتنزيل المكرِه والمكرَه منزلة الشريكين، أما إذا قلنا: لا قصاص على المكرَه – ففي وجوب القصاص على المكره – بكسر الراء – [مع] الحكم بأن عمد الصبي خطأ، وجهان. وقال: إن القاضي الحسين أشار إليهما، يعني به:[في] المسألة التي سأذكرها تلو هذه.
ووجه الوجوب: أن إكراهه هو الذي ولد هذا الخطأ، وهذا الوجه هو الذي رأى صاحب "التهذيب" الجواب به إذا لم نوجب الدية على المكره، ونزلناه منزلة الآلة، وقد طرد الإمام الوجه فيما لو أكرهه أن يرمي إلى طللٍ عهده المكره إنساناًن وظنه الرامي جرثومة أو صيداً، أو على أن يرمي إلى ستر وراءه إنسان عرفه المكره دون الرامي؛ كما حكاه القاضي الحسين عن المذهب، وأبدى تخريج الوجهين احتمالاً لنفسه من خلاف سبق في الوكالة فيما إذا اقتص الوكيل بعد عفو الولي، وهو جاهل بالعفو – فإن الدية هل تجب أم لا؟ فيه قولان: فإن قلنا: تجب، [فهل] في مال الوكيل [أو لا؟] فيه وجهان. قال: فإن قلنا: تجب في مال الوكيل، فهاهنا يجب القود على المكره، ومال صاحب التهذيب إلى القطع بالوجوب هاهنا.
ولو انعكس الحال، فكان المكره مراهقاً، والقاتل بالغاً – فلا ضمان على المكره، وفي المكره القولان: إن جعلنا عمد الصبي عمداً [وجب القصاص]، وإن جعلناه خطأ فلا قصاص؛ لأنه شريك خاطئ.
الثاني: في قول الشيخ:"وإن أكره رجلاً على قتله وجب عليه القود
…
" إلى آخر المسألة، ما يعرفك أن صورة المسألة إذا كان الإكراه على قتل رجل غير المكرِه والمكرَه، أما إذا كان المكرَه على قتله هو المكرَه؛ بأن قال: إن لم تقتل نفسك وإلا قتلتك، فلا يجب على المكره شيء، جزم به القاضي الحسين، وهو المشهور، وفي "التهذيب" حكاية قول آخر: أنه يجب عليه القود، وعلى هذا: إذا آل الأمر إلى الدية وجبت.
وفي "الرافعي": أنا إذا قلنا بعدم إيجاب القصاص: فإن قلنا: المكره – بفتح الراء – لا شيء عليه من الدية، وجب جميع الدية على المكره، وإلا فنصفها. وفيما قاله [نظر]؛ لأنا إنما أسقطنا القصاص لانتفاء الإكراه، وإذا انتفى كان قضيته ألا يجب على فاعله شيء أصلاً، كما ذكرناه. ثم إن صح ذلك فقياس
ما حكيناه عن "الوسيط" من أن المكره إذا غرم يرجع [به] على المكره – [بكسر الراء] – ألا يسقط من الدية في هذه الحالة – شيء، وإن قلنا: إن المكره – [بفتح الراء – مطالب] بالنصف؛ لأنه طريق في ذلك، لا أصل، والله أعلم.
ولو كان المكره هو المقتول؛ بان قال: إن [لم] تقتلني وإلا قتلتك، لا يجب على المكره قصاص على ظاهر المذهب؛ لإذنه، وبعضهم قطع به، [و] في وجوب الدية قولان حكاهما القاضي الحسين، وحكى عن الشيخ أبي سهل أنه خرج وجها في وجوب القصاص، وهو جار فيما لو أمره بقتله فقتله من غير إكراه، والمتولي حكى عن الصعلوكي أنه حكاه- في هذه الصورة- قولاً [عن الشافعي].
وفي "الرافعي": أنا على قول إيجاب المال يكون الواجب نصف الدية، وهذا الذي يظهر من جهة القياس، ولا يخفى أن محل الخلاف بوجوب الدية على القاتل – في هذه المسألة، أو بعضها – مفرع على القول بوجوبها على المكره؛ كما قدمنا أنه المنصوص، أما إذا قلنا بعدم وجوبها ثم، فهاهنا أولى، ومصور بما إذا أمكن دفع المكره – بكسر الراء – بغير القتل، أما إذا لم يمكن دفعه إلا بالقتل – فقد حكى الأصحاب أن للمكره دفع المكره بالقتل إذا لم يندفع إلا به، وإذا كان كذلك فلا دية عليه؛ كما في الصائل.
فإن قلت: إذا كانت الصورة كما ذكرت فقد انتفى الإكراه؛ لأن المكره هو الذي لا يقدر المكره على دفعه، وإذا كان كذلك فينبغي أن يجب القصاص جزماً.
قلت: الإكراه الذي فرضناه وتضمن الإذن بالقتل، [لو تجرد] الإذن وحده لجرى الخلاف الذي ذكرناه؛ فلذلك جرى هاهنا.
قال:"وإن أمر من لا يميز"؛ [أي]: لصغر، أو جنون، أو عجمة، مثل: أن
يأمر صغيراً أو مجنوناً أو أعجمياً لا يميز في طاعة آمره بين المحظور والمباح، وسواء في ذلك عبده وعبد غيره والحر، كما صرح به المحاملي وغيره.
قال:"فقتله – وجب [القود على] الآمر، ولا شيء على المأمور؛ لأن القاتل لا تمييز له ولا قصد؛ ففعله كفعل البهيمة؛ فهو كالآلة التي يستعملها الآمر، وكالبهيمة التي يسلبها، وهذا بخلاف ما لو أمر من لا يميز بالسرقة فسرق؛ فإنه لا قطع على الآمر؛ لأن القطع في السرقة لا يجب إلا بالمباشرة؛ بدليل: ما لو أكره إنساناً على السرقة؛ فإنه لا يجب على واحد منها القطع، وحكاه القاضي الحسين، بخلاف القود؛ فإنه كما يجب بالمباشرة – يجب بالسبب، ثم إذا أفضى الأمر إلى وجوب المال في مسألتنا وجب على الآمر، دون المأمور، كما ذكره الشيخ.
قال الماوردي هنا: ولو كان المأمور عبداً للآمر لا تكون رقبته مرتهنة بالمال، بل يكون كسائر أموال السيد، وحكى في كتاب الرهن في ذلك [وجهين: أحدهما:] يتعلق برقبته عند إعسار السيد، والثاني: لا، وقال: إن ثمرة الخلاف تظهر فيما لو كان مرهوناً. وحكى الوجهين فيما لو كان المأمور حرًّا، وكان الآمر معسراً، في أن المأمور هل [يطالب]:
أحدهما- وهو قول أبي إسحاق-: نعم، ويكون ديناً له على الآمر.
والثاني- وهو قول ابن أبي هريرة -: لا، ويكون ديناً لولي القتيل على الآمر، وقد ذكرت طرفاً من ذلك في كتاب الرهن.
والغزالي هاهنا حكى الوجهين في تعلق المال برقبة العبد من غير تقييد بإعسار السيد، وصحح الرافعي وجه المنع، وحينئذ يجتمع في المسألة ثلاثة أوجه.
قال الإمام: وعلى قول التعليق: إذا بيع وفضل من الأرش [شيء] فهو متعلق بذمة السيد دون العبد.
قال: "وإن أمر السلطان رجلاً بقتل رجل بغير حق، والمأمور لا يعلم – وجب القود على السلطان"؛ لأنه ألجأه إليه شرعاً بأمره إياه بالقتل؛ لكون طاعته إما مستحبة أو واجبة؛ لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وإذا كان كذلك وجب عليه القود، كالمكره؛ [و] لأن السلطان لا يقتل بيده في العادة، بل يأمر به غيره؛ فأشبه ما لو قتله بيده، وهذا معنى قول الشافعي:"وكذلك قتل الأئمة"، ولا يجب على المأمور – والحالة هذه – قود ولا دية ولا كفارة، ولا يأثم؛ لأنه معذور؛ فإن الظاهر أن الإمام إنما يأمر بحق، لكن الأولى له أن يكفر، وهذا بخلاف ما لو أمره متغلب باللصوصية بقتل رجل بغير حق، ولم يعلم به المأمور فقتله فإنه يجب عليه القود؛ كما صرح به الماوردي، والقاضي أبو الطيب؛ لأن الظاهر أنه لا يأمر بحق.
وحكم أمر إمام أهل البغي حكم أمر إمام أهل العدل فيما ذكرناه، صرح به أبو الطيب وغيره.
قال:"وإن علمن وجب القود على المأمور"؛ لأنه لا تجوز طاعته في معصية الله تعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَمَرَكُمْ مِنَ الْولاةِ بِغَيْرِ طَاعَةِ اللهِ فَلا تُطِيعُوهُ" كذا رواه الشافعي، [وروى البخاري ومسلم وغيرهما، عن علي – كرم الله وجهه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ" ورويا وغيرهما عن عبد الله – وهو ابن عمر – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ"]، وعن أبي بكر – رضي الله عنه – أنه
قال: "أَطِيعُوني مَا أَطَعْتُ اللهَ تَعَالَى، فَإِذَا عَصَيتُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيكُمْ".
وإذا كان الأمر كذلك صار كما لو قتله بغير أمره، ولا يجب على السلطان شيء، وإن كان آثماً؛ لإذنه في المعصية.
وحكى الماوردي عن بعض أصحابنا: أنه صار إلى وجوب القود عليه وعلى المأمور، [ويوافقه قول الشافعي:"وليس على الجلاد شيء".
هذا إذا لم يعلم أن الإمام ظالم، فأما إذا أخبره الإمام بأنه ظالم ضمن هو والإمام معاً.
قال القاضي الحسين ثم: فمن الأصحاب من قال: صورة ذلك إذا كان غير مكره؛ لأنه متعد بأمره بقتله ظلماً؛ وكذلك الجلاد؛ فكان النصف عليه؛ لأن الجرائم لا تحل له بأمر السلطان]. وقال المراوزة: أمر السلطان هل ينزل منزلة الإكراه؟ فيه وجهان.
وادعى القاضي الحسين في "التعليق" أن المنصوص عليه منهما أنه إكراه، وقضية هذه العبارة: أن يكون في وجوب القود على المكره – بفتح الراء – إذا فرعنا على المنصوص، قولان، وقد صرح بهما في "التهذيب"، وكذلك القاضي الحسين؛ حيث [حكى أن الشافعي] قال:"لو أمر السلطان الجلاد حتى قتل واحداً، وعند الجلاد أنه يقتله ظلماً – لا شيء عليه"، و [أن] من أصحابنا من قال: إنه أجاب بذلك على قوله: إنَّ أَمْرَ السلطان إكراه، وان المكره لا قود عليه، و [أن] منهم من قال: إن هذا الجواب صحيح، وإن قلنا: إنه ليس بإكراه؛ لأن الجلاد لا يقطع بكون السلطان مبطلاً في قتله، ولابد أن يخطر بباله أنه محق، وقد يرى كونه مبطلاً فيما هو محق فيه؛ امتحاناً لخدمه وحشمه، وهل يطيعونه أم لا؛ فانتصب ذلك شبهة في سقوط القصاص، حكى ذلك في موضعين من "التعليق":
أحدهما: في باب قتل العمد.
والثاني: قبيل باب: الحكم في الساحر.
وحكى المحاملي عن النص في "الأم" أن المأمور بالقتل لو كان يعلم أن الإمام أمر بقتله ظلماً، كان عليهما القود، وأن من الأصحاب من قال: أراد بذلك إذا اكرهه، وأجاب عن أحد القولين في المكره، وليس بصحيح؛ فإن الشافعي ذكر مسالة القولين في المكره، وذكر هذه المسألة مفردة عنها؛ فثبت أنها غيرها، وتأول أبو إسحاق المروزي وغيره ذلك تأويلاً حسناً؛ فقال: أراد بذلك ما إذا أمر بقتل المسلم بالكافر، أو الحر بالعبد، واعتقد المأمور أن الإمام رأى في ذلك رأي بعض العلماء – فالقود عليهما: أما المأمور؛ فلأنه قتل من لا يجوز قتله في زعمه، وأما الإمام؛ فلأن المأمور لما اعتقد أنه يرجع إلى تأويل صار مكرهاً من حيث الشرع، وإذا صار مكرهاً صار الإمام مكرهاً؛ فلزمه القود، وقد عكس الرافعي الحكاية عن أبي إسحاق، ونسب إليه الأول، ونسب الثاني إلى رواية أبي عليّ الطبري، وإذا تأملت ما ذكرناه ظهر لك في المسألة أوجه:
أحدها – وهو المشهور-: أن القصاص على المأمور، دون الآمر.
الثاني: أنه عليهما.
الثالث: أنه على الآمر، دون المأمور.
الرابع: [أنه] لا قود على واحد منهما: أما السلطان؛ فلكونه غير مكره، وأما المأمور؛ فلكونه معذوراً، وقد تعرض الإمام لتصوير محل الخلاف؛ فقال: إن كان الإمام بحيث لو لم يمتثل أمره لظهر الخوف في إهلاك مخالفة، فهذا إكراه في الحقيقة وإن لم يظهر ذلك في الظن؛ فلست أرى للخلاف في الأمر يكون إكراهاً وجهاً أصلاً، إلا من جهة واحدة، وهي: أنه إن كان يظن به أنه يسطو بمن خالفه؛ فاعتقد ذلك منه، ولا يبلغ توقع ذلك مبلغ توقع الخوف، لو
صرح بالتوعد؛ فليقع تنزيل الخلاف على هذا.
فرع: لو كان الجلاد يعتقد أن الحر لا يقتل بالعبد، والإمام يعتقد جوازه؛ فأمره الإمام بقتله، ولم يكرهه- فهل يجب عليه القصاص؟ فيه وجهان حكاهما الإمام عن العراقيين في باب: حد الخمر، [وهما في "الحاوي"]، والمذكور منهما في "الشامل" و"تعليق" القاضي أبي الطيب ثم: الوجوب، [والذي حكاه القاضي الحسين في كتاب الحدود: أنه لا ضمان على الجلاد؛ لأن الشافعي قال في القسامة: لو قالك اقتل، فقتل – [وجب] القود على الإمام، وعلى المأمور التعزير، وهذا ما حكاه الماوردي في باب: الشهادة بالجناية، أما إذا أكره الإمام الجلاد، قال الماوردي: فلا ضمان على واحد منهما].
ثم حكى الإمام عنهم فيما لو كان [الإمام لا يرى قتل الحر بالعبد، والجلاد يراه، فأمره بقتله من غير فحص عن الحال، ولو كان] قد فحص لم يأمره به – فعلى القول بعدم الوجوب في الصورة الأولى يجب هاهنا، وعلى القول بالوجوب فيها لا يجب هنا؛ تعويلاً على عقده، وقد وجد الأمر من الإمام على الجملة، وضعفه، [وفي "الحاوي": أنه لا ضمان على الجلاد، سواء كان مكرهاً أو غير مكره؛ لأنه استوفى بإذن مطاع ما يراه مسوغاً في الاجتهاد، فأما الإمام – فإن لم يكره الجلاد- فلا ضمان عليه، وإن أكرهه، وهو عالم بالحال ضمن؛ لأنه ألجأه إلى ما لا يسوغ في اجتهاده].
قال:"وإن أمسك رجلاً حتى قتله آخر وجب القود على القاتل"؛ لما تقدم من الأدلة، ولا يجب على الممسك؛ لقوله تعالى:{فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]؛ فلو وجب عليه القصاص لكنا [قد] فعلنا به غير ما فعل؛ ولقوله عليه السلام "إِذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، حَتَّى جَاءَ آخَرُ وَقَتَلَهُ – يُحْبَسُ المُمْسِكُ، وَيُقْتَلُ القَاتِلُ"، خرجه الدارقطني. وروى أبو عبيد
في كتابه بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُقْتَلُ الْقَاتِلُ، وَيُصْبَرُ الصَّابِرُ" ومعناه: [و] يحبس الحابس؛ للتأديب؛ ولأن هذا السبب غير ملجئ، وقد اجتمع مع المباشرة؛ فلم يتعلق به القصاص؛ كما لو حفر بئراً، فدفع رجل فيها رجلاً – فإن القصاص يجب على الدافع، دون الحافر؛ ولأنه لا يضمن خطأ بالدية؛ فلا يضمن عمداً بالقود؛ كما لو ضربه بما لا يقتل [غالباً]، وكما لا يجب القصاص لا تجب الدية والكفارة. نعمن لو كان المقتول عبداً فلمالكه مطالبة الممسك – أيضاً – والقرار على القاتل.
قال:"وإن شهد على رجل"، أي: بقتل، أو ردة، أو زنى بعد إحصان، مع غيره – فقتل بشهادته، ثم رجع، أي: ونقص برجوعه نصاب الشهادة، وقال:"تعمدت ذلك"؛ أي: تعمدت الشهادة؛ ليقتل بها، [وكذلك من شهد معي تعمد ذلك] – "وجب عليه القود"؛ لما روي:"أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ – كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ – عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ؛ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا؛ فَقَالَ: لَو أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا. وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ يَدِهِ"، ولأنه توصل إلى قتله بسبب يقتل غالباً؛ فوجب عليه القود؛ كما لو جرحه فمات.
قلت: ويظهر مجيء وجه آخر: أنه لا قود عليه إذا لم يرجع من شهد معه؛ لأن الأصحاب قالوا: فيما إذا شهد أربعة بالزنى فرجم، ثم رجعوا، وقال أحدهم: تعمدت قتله بالشهادة، وتعمد أصحابي؛ فقالوا: بل أخطأنا – مع وجوب القود عليه – وجهان:
وجه المنع: أن أصحابه أعرف بأنفسهم منه؛ فهو شريك خاطئ، وهذا الوجه الذي أردت مجيئه في مسألة الكتاب؛ لأن رفقته يزعمون أنهم على حق، فهو أولى من اعترافهم بالخطأ، وقد حكوا في مسألة الزنى أن الراجع لو قال: تعمدت، ولا أدري حال أصحابي، وقالوا هم: تعمدنا – ففي وجوب القود عليه – وجهين حكاهما القاضي الحسين في كتاب حد الزنى، والمنقول [في "المختصر" في كتاب حد الزنى] في مسألة الكتاب ما ذكره الشيخ، وعليه اقتصر في "الكافي"، والقاضي الحسين وأبو الطيب [والبندنيجي].
وهكذا الحكم فيما لو شهد على رجل مع غيره بما يوجب القطع، فقطع، ثم رجع – فعليه القطع، وإن سرى إلى النفس فالقصاص فيها. ولا فرق في ذلك على المذهب – كما حكاه المتولي، [وكذا صاحب "الكافي" في باب حد الزنى، والقاضي الحسين والبغوي في باب الرجوع عن الشهادة] – بين ألا يرجع سوى الشاهد، أو يرجع معه الحاكم والولي ويقولا: تعمدنا.
وفي هذه الصورة وجه حكاه أبو يعقوب الأبيوردي: أن القصاص يجب على الولي خاصة، وبه جزم في "الوسيط"[هنا]؛ لأن الشهود في هذه الحالة لم يلجئوه حسًّا ولا شرعاً؛ فصار قولهم شرطاً محضاً كالإمساك، وعلى هذا: الدية – أيضاً – على الولي، [وعلى الأول: على] الجميع، [قال في "الكافي": على الشهود ثلثها، [وعلى القاضي ثلثها]، وعلى الولي ثلثها.
وقد حكى الإمام وغيره الوجهين – أيضاً – في باب الرجوع عن الشهادة،
وكذلك الغزالي، [و] رجح الإمام الثاني]، أما إذا لم ينقص برجوعه نصاب الشهادة فسيأتي الكلام فيه في كتاب الشهادات؛ لأن الشيخ تكلم فيه [ثم، وسيعيد ذكر المسألة ثم مع زيادة فيها، عن شاء الله تعالى].
فرعان:
أحدهما: المزكِّي لشاهد القتل إذا رجع، وقال: تعمدت التزكية مع علمي بالفسق؛ ليقتل المشهود عليه – فهل عليه القصاص؟ فيه وجهان في "التتمة"، [وفي "الكافي" في باب: حد الزنى، وصحح المنع؛ لأنه لم يتعرض للمشهود عليه، وإنما أثبت صفة في الشاهد، لكنه حكى عن القفال أنه قال: محل الوجهين فيما إذا قال: كنت علمت كذب الشهود، أما إذا قال: كانوا فاسقين فعدلتهم، فلا شيء عليه؛ لاحتمال أن يكونوا صادقين، فإن كانوا فاسقين] [ففي "الرافعي" في باب الرجوع عن الشهادة، بعد حكاية مثل ذلك عن البغوي: أن الأوفق لكلام أكثرهم الوجوب عليه، وهو الذي أورده أبو الحسن العبادي].
قال مجلي: ويحتمل وجهاً ثالثاً، وهو التفرقة بين أن تكون التزكية وجدت قبل الشهادة فلا ضمان، أو [بعدها فعليه الضمان]، كما قلنا في مزكي شهود الزنى، [وهذان الوجهان في "النهاية" وغيرها، في باب الرجوع عن الشهادة، مفرعان على أحد الوجهين في وجوب الغرم، أما إذا قلنا: لا يجب الغرم، فلا قصاص قولاً واحداً، وحينئذ يجتمع في المسالة – بقول مجلي – أربعة أوجه].
الثاني: إذا أشكلت الحادثة على الحاكم، وكان متوقفاً، فروى إنسان خبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم وقتل الحاكم به الرجل، ثم رجع الراوي، وقال: كذبت وتعمدت ففي فتاوى صاحب "التهذيب": أنه ينبغي أن يجب القصاص؛ كالشاهد إذا رجع.
قال الرافعي: والذي ذكره الإمام والقفال في "الفتاوى": أنه لا يتعلق به القصاص، بخلاف الشهادة؛ فإنها تتعلق بالواقعة، والخبر لا يتعلق بها خاصة.
قال: وإن أكره رجلاً على أكل سم، [أي:] والآكل لا يعلم أنه سم، أو
فتح فاه وأوجره فيه، كما صوره العراقيون والمراوزة.
قال: "فمات [منه]- وجب عليه القود"؛ لنه قصده بآلة تقتل غالباً؛ فكان كما لو ضربه بالسيف.
قال: "وإن قال: لم أعلم أنه سم قاتل"، أي: وكذبه الولي، "ففيه قولان": وجه الوجوب، وهو الأظهر عند القاضي الروياني والنووي: القياس على ما [لو] جرحه، وقال: لم أعلم أنه يموت [من هذه] الجراحة.
ووجه المنع- وهو الأصح في "الجيلي" -: أنه مما يشتبه ويخفى؛ فجعل شبهة، بخلاف الجراحة، وعلى هذا تجب الدية، أما إذا لم يوجره السم القاتل، ولكن أكرهه عليه حتى أكله بنفسه، وهو عالم بأنه سم قاتل – ففي "النهاية" و"تعليق" القاضي الحسين و"التتمة": الجزم بأنه لا قصاص؛ كما لو أكرهه على قتل نفسه، وهذا منهم؛ بناء على انه لا قصاص إذا أكرهه على قتل نفسه، كما قلنا: إنه المشهور، وقد حكينا من قبل قولاً: أنه يجب عليه القصاص، ومقتضاه: أنه يجيء هاهنا أيضاً، وقد حكاه الداركي وغيره، وصححه في "العدة".
فرع: لو كان السم لا يقتل غالباً إلا الضعيف، [وفي] فصل – اعتبر فيما ذكرناه ضعف المكره، ووجود ذلك الفصل، وإذا لم يوجد ذلك فلا قصاص على الظاهر المشهور، وفي كتاب ابن كج و"تعليق" القاضي الحسين قول: أن السم وإن كان مما [لا] يقتل غالباً، ومات الموجر به: أنه يجب القصاص؛ لأن السموم لها نكايات في الباطن كالجراحات؛ فالموت به [كالجراحة الخفية] التي لا تقتل غالباً. وهذا شبيه بما حكاه الشيخ، فيما إذا ألسعه حية أو عقرباً لا يقتل مثلها غالباً، وعلى ذلك جرى الإمام فجعله كغرز الإبرة، كما جعل مسألة إنهاش الحية التي لا تقتل غالباً كغرز الإبرة، والفرق – على المشهور- ما
ذكرناه من علة قول الوجوب ثم، وهو أن نهشة ذلك تشق الجلد؛ فكانت شبيهة بالجراحة، وذلك مفقود هنا.
ثم على المشهور لو ادعى المكره [أن السم لا يقتل غالباً، وقال الولي بل هو مما يقتل، ولا بينة – فالقول قول] المكره، فإن كان ثم بينة عمل بها، وأثرها في جانب المكره إذا أقامها: سقوط اليمين عنه.
قال:"وإن خلط السم بطعام"؛ أي: له [أو] لغيره، "وأطعم رجلاً"، أي: له تمييز، "أو خلطه بطعام لرجل"، أي: والطعام لا يكسر حدة السم، "فأكله فمات [منه] – ففيه قولان".
وجه المنع – وهو الذي قال الإمام: إنه الأقيس، وصححه النووي في المسألتين – أنه فعل ما هلك به باختياره، من غير إلجاء حسي ولا شرعي.
ووجه الوجوب – وهو الراجح عند الروياني وغيره في الأولى، واختاره في "المرشد" – ما روى أبو داود في حديث طويل عن أبي سلمة- وهو ابن عبد الرحمن بن عوف – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَهْدَتْ لَهُ يَهُودِيَّةٌ بِخَيْبَرَ شَاةً مَصْلِيَّةً، وَقَدْ سَمَّتْهَا، فَأَكَلَ مِنْهَا وَأَكَلَ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ: مَا حَمَلَكِ عَلَى الَّذِي صَنَعْتِ؟ قُلْتُ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَنْ يَضُرَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا [مِنْهُ]؛ فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقُتِلَتْ"، ولأنه تغرير يفضي إلى الهلاك غالباً فأشبه الإكراه.
فإن قيل: هذا الخبر قال أهل الحديث: إنه مرسل، والشافعي لا يرى الاحتجاج به، وعلى تقدير اتصاله – كما خرجه البيهقي عن حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي هريرة، فقد روى أبو داود، عن أنس بن مالك، انه قيل
لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلَا تَقْتُلُهَا؟ فَقَالَ:"لَاَ"، وأخرجه مسلم والبخاري. وروى أبو داود، عن أبي هريرة الحديث، وفيه:[قال]: "فَمَا عَرَضَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم"، وهذا يعارض لما استدل به، فجوابه ما ذكره البيهقي: أنه يحتمل أنه لم يقتلها في الابتداء، ثم لما مات بشر بن البراء أمر بقتلها.
وقد حكى البندنيجي والمتولي وغيرهما من الطريقين: انه لا قود عليه في المسألة الثانية وإن وجب في الأولى. ثم القولان في الأولى يجريان فيما إذا قال [له]: كله، وفيه شيء من السم لكنه لا يضر؛ كما حكاه في "التهذيب"، وفيما إذا حفر بئراً في ممر داره وغطاها، وأذن لإنسان بالدخول؛ فدخل ووقع في البئر، كما حكاه في "الوجيز"، وابن الصباغ عن بعض الأصحاب، وأن منهم من قطع بعدم الوجوب؛ لأنه يمكنه التوصل إلى معرفة البئر، بخلاف السم، وكذا يجريان – كما حكاه القاضي الحسين – فيما إذا حفر بئراً في طريق أعمى؛ فتردى فيها، والقولان في الصورة الثانية يجريان فيما إذا جعل السم في دَنٍّ ما على الطريق؛ فشرب منه إنسان فمات، كما حكاه المتولي والبغوي.
قال الرافعي: وليكن الفرض فيما إذا كان طريق شخص معين، إما مطلقاً أو في ذلك الوقت، وإلا فلا تتحقق العمدية. وقد ادعى العراقيون القطع بامتناع القصاص فيما إذا خلط السم بطعام نفسهن وتركه في بيته، فدخل إنسان، وأكله من غير إذن.
وحكى الإمام طريقين فيما إذا كان [الآكل] ممن جرت عادته بدخول دار الفاعل والأكل فيها انبساطاً:
أحدهما: ما ذكره العراقيون.
والثاني: طرد القولين في وجوب القصاص.
ولو كان قد صنع السم في طعام، وقدمه إليه في جملة أطعمة، وكان من الممكن ألا يتعاطى المسموم، ويكتفي بغيره – فإذا تعاطاه، قال الإمام في باب وضع الحجر: إن أمر الضمان يترتب على ما [إذا] قدم إليه طعاماً مسموماً متحداًن وهنا أولى بانتفاء الضمان، وإذا قلنا بعدم وجوب القصاص في مسألتي الكتاب، فهل تجب الدية؟
قيل: نعم.
وقيل: قولان حكاهما في الأولى القاضي في "المجرد"، وفي الثانية غيره.
وقيل: في الأولى قولان، وفي الثانية: لا تجب. وبهذا الطريق أجاب الماوردي [في موضع]، وفرق بأنه [إذا أكل] بالإطعام فقد أكل [بأمره؛ فصار بالأمر ضامناً، وإذا أكل] طعام نفسه فهو بغير أمره فلم يضمنه.
وفي "الشامل": أن الشيخ أبا حامد قال: في الأولى تجب، وفي الثانية قولان، وهذه طريقة القاضي الحسين في "تعليقه"، ولا خلاف في وجوب قيمة ما خلط به السم من طعام الغير: لأنه أفسده عليه.
تنبيه: قول الشيخ: وأطعم رجلاً، فيه احتراز عما لو أطعمه صبيًّا لا تمييز له؛ فإنه يجب عليه القود في الأولى جزماً؛ كما لو قال له: اقتل نفسك، ففعل، وهكذا الحكم [فيما] لو كان الرجل في معنى الصغير؛ لجنون أو عجمة، واعتقد وجوب طاعة الآمر، وهذا بخلاف ما لو أمر العجمي بقتل نفسه فقتلها؛ فإنه لا يجب القود جزماً؛ لأن كل أحد لا يخفى عليه أن قتل نفسه لا يجوز،
وإن جاز أن يخفى عليه جواز قتل غيره، وأن السم يقتل إذا أكله.
قال:"وإن قتل رجلاً بسحر يقتل غالباً وجب عليه القود"؛ لأنه قتله بسبب يقتل غالباً؛ فكان كما لو قتله بسكين، وإن لم يقتل غالباً [فلا قود فيه، وسيأتي] حكمه في الكتاب، ولا يعرف كونه يقتل غالباً [أوْ لا إلا من جهة] الجاني، وقد أنكر بعض أصحابنا، وهو أبو جعفر المقرئ الأستراباذي؛ كما حكاه ابن الصباغ والمصنف، أو أبو جعفر الترمذي، كما حكاه الإمام عن رواية العراقيين عنه – أن للسحر حقيقة، وقال: إنه تخييل [لا حقيقة له و] لا أصل له، [ولا] يناط به قصاص ولا غرم.
وقال الشاشي: إن الأستراباذي [الذي] قال هذا القول، هو من أهل الظاهر.
وعلى كل حال فهذا ليس بشيء؛ لأن الله – تعالى – أمر بالاستعاذة منه؛ بقوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]، وقال تعالى:[{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] وفي بعض الألفاظ أنه – عليه السلام – قال: "السحر حق".
وقد روى الشافعي بسنده عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت:"مَكَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيَّاماً يُخَيَّلُ إِلَيهِ أَنَّهُ يَاتِي النِّسَاءَ، وَلَا يَاتِيهِنَّ، فَاسْتَيقَظَ ذَاتَ لَيلَةٍ، وَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، قَدْ أَفْتَانِي رَبِّي فِيمَا اسْتَفْتَيتُهُ، أَتَانِي رَجُلَانِ [فِي المنَامِ]؛ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيَّ، وَالآخَرُ عِنْدَ رَاسِي، فَقَالَ الذِي عِنْدَ رِجْلِي للِّذِي عِنْدَ رَاسِي: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَك مَطْبُوبٌ؛ فَقَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ فَقَالَ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ اليَهُودِيُّ، قَالَ: فِيمَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، تَحْتَ رَاعُوثَةِ بِئْرِ ذَرْوَانَ، قَالَ: فَأَتَيتُ البِئْرَ، فَإِذَا مَاؤُهَا كَنَقْعِ الحِنَّاءِ، فَنَزَلَ عَلِيٌّ فَأَخْرَجَهُ، فَلَمَّا حُلَّ
شَفَانِي اللهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ"، وروي: "كَأَنَّمَا أُنْشِطْتُ مِنْ عِقَالٍ".
و [قوله]: مطبوب: أي مسحور، ذكره أبو عبيد في "الغريب".
وجف الطلعة: وعاؤها، وراعوثة البئر: صخرة في أسفل [البئر] يجلس عليها المستقي.
ثم السحر قد يكون قولاً كالرقية، وقد يكون فعلاً كالتدخين، وقد اختلف العلماء في جواز [تعلم السحر:
فذهب قوم إلى أن] تعلمه وتعليمه كفر، وقد عزا ابن الصباغ ذلك إلى الإمام [مالك] – رضي الله عنه – ونحن لا نقول به؛ إلا إذا اعتقد الساحر كونه حقًّا، أو يرى لنفسه قدرة على تقليب الأعيان؛ فيكفر باعتقاده كما قال القاضي الحسين والماوردي، أو يعتقد فيه ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها؛ كما حكاه ابن الصباغ.
وذهب قوم إلى أنه حرام، وهو ما حكاه أصحابنا العراقيون كابن الصباغ وغيره، وتابعهم المتولي والماوردي، وهكذا القاضي الحسين عند تعلمه ليسحر به، وادعى البندنيجي أن شخصاً لو اعتقد إباحته كان كافراً؛ لأنه اعتقد إباحة ما أجمع المسلمون على تحريمه، وذهب قوم إلى أنه مكروه إذا خلا عن فعل أو قول محرم، وبه قال بعض أصحابنا؛ كما حكاه الإمام.
وذهب قوم على نفي الكراهة فيه كما لا يكره تعلم مذاهب الكفر؛ للرد عليهم، وبهذا قال بعض أصحابنا؛ كما حكاه الإمام أيضاً، وبه جزم القاضي الحسين، والغزالي في "الوسيط".
قال: "وإن قطع أجنبي سلعة من رجل بغير إذنه، فمات – وجب عليه القود"؛ لأنه متعد بالقطع، فأشبه ما لو قطع يده أو رجله؛ فمات.
والسلعة – بكسر السين – قال أهل اللغة: هو خُراج – بتخفيف الراء – كهيئة الغدة، وقال ابن الصباغ: إنها غدد تكون بين الجلد واللحم؛ فتظهر كحمصة وكبطيخة- كما قال الجوهري – يعني: وما بينهما، وقد تكون في رأس الإنسان أو في وجهه أو في جسده.
وأما السلعة – بالفتح-: فهي الشجة، وليست مرادة هنا.
وذكر الرجل في هذا المقام؛ للتنبيه على أن سكوته، عند القطع لا يجعل رضاً بالقطع وإذناً فيه، لا لأن الحكم في الصغير مخالف له، [أما] إذا قطعها بإذنه فينظر:
إن كان لا يخاف من قطعها التلف لم يجب على القاطع الضمان؛ لأن [الإذن] في قطعها – في هذه الحالة – لأجل زوال الشين؛ فكان كإذنه في الفصاد والحجامة.
وإن كان يخاف من قطعها التلف فينظر: فإن كان بقاؤها مخوفاً أيضاً، لكن خوف البقاء أغلب على الظن وأكثر- فالقطع أيضاً جائز، إلا على وجه حكاه
الإمام؛ فيجوز الإذن فيه ولا ضمان على القاطع. وإن كان خوف القطع أكثر وأغلب على الظن فلا يجوز القطع في هذه الحالة جزماً؛ كما لو لم يكن خوف في البقاء، وكان موجوداً في القطع، فإذا أذن فيه فلا يجوز له القطع، لكنه لو فعل لا قصاص على الأصح، وسنذكر- من بعد- ما يظهر لك به جريان وجه فيه عن ابن سلمة، وفي ضمان النفس قولان حكاهما الإمام.
ولو استوى الأمران، واعتدل الخوفان – فعند الشيخ أبي محمد: لا يحل القطع.
وذهب بعض الأصحاب إلى أنه لا يعترض عليه، [قال الرافعي: وهو الأشبه].
وقريب من هذه [المسألة]: ما لو أضرمت النار في إنسان، وكان لا يطيق الصبر على لفحاتها، فأراد أن يلقي نفسه في بحر، ورأى ذلك أهون، وقد حكى الإمام عن شيخه المنع، وأن في المسألة احتمالاً؛ فإن الإحراق مُذَفِّف، وكذلك الإغراق، ثم قال: والرأي ما ذكره شيخنا، [وقال في "الوجيز": الأصح مقابله].
قال: وإن قطعها حاكم، [أو وصى] من صغير؛ [أي]: أو [من] مجنون؛ حيث يكون ترك القطع [أخوف من القطع]؛ كما قاله الماوردي، ولا ولي له سواهن فمات – ففيه قولان، [أي]: منصوصان؛ كما حكاه الماوردي في الجنايات:
"أحدهما: يجب عليه القود"؛ لأنه عجل من تلفه ما كان مرجوًّا؛ فأشبه ما لو قطعها، وكان القطع أخوف، [أو كان الأب أو الجد بعد باقيا]، وهذا أصح في "الجيلي".
"والثاني: لا يجب؛ لأنه لم يقصد القتل، بل قصد الإصلاح والمداواة، وله نظر في مداواته؛ فكان ذلك شبهة في إسقاط القصاص، [وهذا [أصح عند
القاضي أبي الطيب والنواوي]؛ فعلى هذا تجب الدية مغلظة.
ولو كان القاطع في هذه الحالة الإمام الأعظم فمنهم من أجرى القولين فيه، وقيل: لا قود جزماً، وإليه أشار أبو إسحاق [المروزي]، لأنه أبعد عن التهمة؛ [وولايته أعم].
ولو كان القاطع أباً أو جداً فلا [قود ولا] دية [عليه في هذه الحالة. نعم، لو كان – والحالة هذه – القطع أخوف] ففي إيجاب الدية وجهان [في "الحاوي"، و"التهذيب"]، وهل تكون دية عمد [تتعجل في ماله]، أو دية شبه عمد تؤخذ على عاقلته؟ فيه وجهان [في "الحاوي"، وفي] أن وصي الأب يجري مجرى الأب [على وجه.
وعن صاحب "الإفصاح": أن القولين المذكورين في الحاكم إذا كان له أب أو جَدٌّ، أما إذا لم يكن فلا قود وجهاً واحداً؛ لأنه لا يجد من يقوم بشأنه، فلا بد وأن يراعيه.
فإن قيل: هل يجوز لولي الصغير والمجنون قطع السلعة منه؟
قلنا: يحتاج في ذلك إلى تقديم الكلام في جواز ذلك للشخص نفسه؛ إذا كان بالغاً عاقلاً، وقد قال الأصحاب: إنه يجوز له ذلك، وأن يأذن فيه]، إذا كان خوف التبقية أكثر وأغلب على الظن، على الصحيح، وفيه وجه: أنه لا يجوز، [ولو كان خوف القطع أغلب فلا يجوز وفاقاً].
ولو استوى الأمران، واعتدل الخوفان: فمن منع في الحالة الأولى فهو مانع هاهنا من طريق الأولى، وقد [صرح بالمنع هنا] الشيخ أبو محمد، وبعض الأصحاب قال: لا معترض عليه في هذه الحالة أيضاً، فحيث قلنا: لا
يجوز للإنسان قطع ذلك من نفسه؛ فالولي بالمنع أولى، وحيث قلنا: يجوز، فالحاكم ومن في معناه لا يجوز له القطع في حالة كون القطع [محظوراً، والتبقية] محظرة، ومست الحاجة إلى النظر في تغليب أحد [الظنين كما نص عليه الشافعي]، [وفي حالة انتفاء حالة] الحظر في القطع واقتضاء المصلحة له يجوز؛ كما في الفصد والحجامة. نعم، لو أدى إلى الهلاك ففي الضمان وجهان جاريان [أيضاً] في الفصد والحجامة:
أحدهما: يضمن، وبه جزم القاضي الحسين؛ كالتعزير إذا أفضى إلى التلف.
وأظهرهما- وهو المذكور في "الوجيز"، وبه قال عامة الأصحاب -: المنع، [وعن "جمع الجوامع" حكاية وجه: أنه لا يجوز للسلطان الفصد والحجامة، ويختص نظره وتصرفه بالمال، والأب والجد يجوز له قطع السلعة، عند استواء الأمرين؛] فإن الشافعي [نص] على أن له قطعها.
قال الإمام: ولم يُرِد صورة المعالجة حيث لا ضرر في القطع؛ فإن ذلك يجوز للحاكم، بل مراده [ما] إذا تعارض خطران في القطع والتبقية، ورأي القطع صواباً، وجوزنا ذلك للمرء نفسه، والفرق بينهما: أن ذلك يحتاج] إلى نظر دقيق؛ فاختص به الولي الشفيق [كما في الإجبار على التزويج]:
وحكم قطع الأكلة والحُبَيْبة حكم قطع السلعة – فيما ذكرناه – صرح به الإمام وأبو الطيب وابن الصباغ في باب حد الخمر، ولا خلاف في أن الأجنبي لا يجوز له قطع ذلك من الصبي والمجنون بغير إذن وليه.
نعم، في حال عدم الولي يشبه أن يكون الحكم كما في الختان، وحيث لا يجوز له فإذا فعله أطلق الجمهور أن عليه القصاص عند هلاكه.
وفي "تعليق" القاضي الحسين – في الموضع المذكور – تخريج قول في عدم إيجاب القصاص، إذا قطع اليد المتآكلة من غير إذن؛ فسرت إلى النفس؛ لأنه نص هاهنا على إيجاب القود، وقال في الخراج: إذا قطع يده من الكوع، ثم جاء آخر، وقطعها من المرفق، فمات – فعليهما القودز
قال القفال: احتمل أن يجعل حكم الألم باقياً، فتكون المسألة على قولين:
أحدهما: على القاطع هاهنا القود.
والثاني: لا، وعليه نصف الدية؛ لأنه مات عقيب ألمين: أحدهما: مضمون، والآخر: غير مضمون.
قال: والصحيح الفرق؛ لأن ألم الأكلة من جهة الله – تعالى- وليس لآدمي فيه صنع، فجعل الفعل والقتل كله منسوباً إلى هذا المتعدي، ونظيره مريض مذفف؛ بحيث يعلم أنه يموت غداً، فقتله رجل؛ فعليه القود، أو كمال الدية، وأما هناك مات عقيب جنايتين غير موحيتين ولا مذففتين.
قال:"وإن اشترك جماعة في قتل واحد قتلوا به"؛ أي: إذا كان فعل كل واحد منهم، لو انفرد لقتل، كما ذكره المحاملي، وغيره؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] والسلطان هو القصاص بلا خلاف، ولقوله صلى الله عليه وسلم:" [ثم] ثُمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ، قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وَأَنَا – وَاللهِ – عَاقِلُةُ، فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَ هَذَا اليَومِ قَتِيلاً فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرتَيْنِ: إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا،
وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ" ولم يفصل الله – تعالى- ولا رسوله بين أن يكون القاتل واحداً، أو جماعة، [فكان له] استيفاؤه بهذا الإطلاق.
وقد روي: "أن عمر – رضي الله عنه – قتل سبعة، أو خمسة من أهل صنعاء؛ [اشتركوا في قتل رجل [واحد] قتلوه غيلة – وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء] لقتلتهم به جميعاً".
معنى "غيلة" أي: حيلة؛ لأن القتل على أنحاء غيلة، وهو أن يحتالوا [له] بالتمكين من الاستخفاء ونحوه حتى يقتلوه.
وفتكاً وهو: أن يكون آمناً فيراقب حتى يقتل.
وغدراً؛ وهو: أن يقتل بعد أمانه.
وصبراً؛ وهو: قتل الأسير مجاهرة، ومعنى تمالأ: تعاون.
وروي عن عليّ – كرم الله وجهه – أنه قال: "واللهِ مَا قَتَلْتُ عُثْمَانَ، وَلَا مَالاتُ [عَلَى] قَتْلِهِ" أي: عاونتن وقتل عليٌّ ثلاثة برجل، وقتل المغيرة سبعة بواحد.
وقال ابن عباس: إذا قتل جماعة واحداً قتلوا به، ولو كانوا مائة، ولم ينكر عليهم أحد؛ فكان إجماعاً.
فإن قيل: [قد روي] أن معاذ بن جبل أنكر ذلك، وأن [ابن] الزبير قال: لا يقتلوا به، ولكن يقرع، فمن خرجت [القرعة عليه] قتل.
قيل: إن صح ذلك فعنه جوابان من قول الشافعي في القديم:
أحدهما: أن الصحابة إذا اختلفوا في شيء – فالأخذ بقول الطائفة التي فيها الإمام أولى.
[و] الثاني: أن الأخذ بقول الأكثر أولى؛ لأن القصاص شرع لأحد معنيين؛ إما لتشفي الغيظ، ودرك الثأر، أو للردع والزجر، وكلاهما نطق به القرآن العزيز: فالتشفي في قوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] والزجر في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وأيهما كان يوجب قتل الجماعة بالواحد؛ إذ التشفي لا يحصل بقتل واحد منهم وقد اشتركوا في إزهاق روحه وإيصال الألم إلى قلوب الأولياء؛ وكذلك [الزجر]؛ وهذا هو الجديد.
وقد حكى القاضي الحسين، والإمام، عن القديم أن الجماعة لا تقتل بالواحد، بل لولي الدم أن يختار واحداً منهم، ويقتله قودّا؛ كمذهب مالك، رضي الله عنه.
ثم على الجديد قد اختلف الأصحاب في كيفية استحقاق قتلهم:
فمذهب العامة؛ كما حكاه القاضي الحسين والإمام: أنه استحق [على] كل منهم [روحه؛ إذ الروح لا تتجزأ، ولا تتبعض، ولو استحق بعض روحه لم يقتل بحال.
وقال الحليمي: استحق على كل منهم؛] إذا كانوا عشرة – مثلاً – عشر روحه؛ بدليل: أنه لو آل الأمر إلى الدية – لم يجب عليه إلا العشر، وفي الحقيقة كل واحد منهم استوفى عشر روح المقتول؛ فاستحق عليه عشر روحه، غير أن الروح لا تتجزأ؛ فلا يمكن استيفاء المستحق إلا بغيره؛ فاستوفى لتعذره؛ كما نص الشافعي – رحمه الله[على] أنه إذا جبر عظمه بعظم بخس، والتحم عليه الجلد واللحم، وخاف التلف – أنه ينزع.
وقد أبطل الإمام استشهاده بالدية بقتل الرجل المرأة؛ فإن دمه مستحق بجميعها، وإن كان الأمر [إذا] آل إلى المال لم يجب إلا نصف الدية.
ثم اعلم أن ما ذكرناه من التعليل تخدشه مسألة؛ وهي إذا ضرب قوم شخصاً بالسياط، أو بعصا خفيفة، كل واحد ضربة؛ فمات [بذلك] – [فإن قضية] ما ذكرناه: أن يجب عليهم القصاص؛ كي لا يصير ذلك ذريعة و [قضية ما ذكرناه] من التقييد في صدر المسألة نفيه، وقد حكى المراوزة ذلك وجهين [وثالثاً؛ وهو] عن صدر ذلك عن تواطؤ منهم وجب، وإلا فلا، وهو ما [جزم به القاضي الحسين]، وصاحب "التهذيب"، وادعى الإمام أن إيجاب القصاص من [غير تواطؤ لا وجه له] أصلاً، بل يجب القطع بأنه لا قصاص؛ لأن في [إيجابه حينئذ] إيجابه [على شريك خاطئ]، وأن في حال التواطؤ يجب أن يكون في المسألة قولان:
أحدهما؛ وهو القياس: عدم الوجوب.
والثاني: الوجوب.
وعلى كل قولٍ: المال واجب على الجميع.
وقد فرع القاضي والبغوي على ما أجابا به؛ فقالا: لو ضرب واحد سوطين، أو ثلاثة، وجاء آخر وضرب خمسين، أو مائة، قبل أن يزول ألم الضرب الأول، ولاتواطؤ – فلا قصاص على واحد منهما؛ لأن الأول شبه عمد، والثاني شريك [له].
وإنه لو ضرب واحد أولا خمسين، ثم ضرب آخر سوطين، أو ثلاثة، قبل أن يزول ألم الضرب الأول -: فإن كان الثاني عالماً بضرب الأول – فعليهما القصاص؛ لظهور قصد الهلاك منهما، وإن كان جاهلاً فلا قصاص عليهما؛ لأنه لم يظهر قصد الهلاك من الثاني، ويجب [بضربي الأول نصف دية العمد، [وبضرب الثاني نصف دية شبه العمد].
وفرق بينه وبين ما إذا ضرب مريضاً ضرباً يقتل المريض، دون الصحيح، وهو جاهل بمرضه؛ حيث نوجب القصاص – على رأي – بأن هناك لم [نجد من نحيل] القتل عليه سوى الضارب.
قال: وإن جرحه واحد جراحة، وجرحه الآخر مائة جراحة؛ أي: ولم تبرأ جراحة منها؛ فمات – فهما قاتلان، أي: فيجب عليهما القود، أو الدية بينهما على السواء؛ لان الجرح له سراية في البدن، وغور لا يطلع عليه؛ فقد يموت من جرح، ولا يموت من جراحات، والهلاك حصل عقيب فعلهما، ولا يمكن إضافته إلى واحد معين، ولا إسقاطه؛ فأضيف إليهما.
ويفارق هذا ما إذا جلد في حد القذف أحداً وثمانين [سوطاً] فمات؛ فإنا على قول نضيف الهلاك على الجميع، ونوزعه على عدد الضربات.
والفرق أن محل الجلد مشاهد [يعلم] به التساوي، ولا كذلك الجراحات؛ كذا قاله الماوردي، وقضيته أن يقال:[فيما إذا تمالأ عليه قوم بالضرب]، وأفضى الأمر إلى الدية: أن توزع على عدد الضربات على قول، [وقد حكاه الرافعي] مع قول آخر: أنه كالجراحة.
أما إذا برئت منهما جراحة، فإن كانت جراحة المنفرد سقط عنه الضمان في النفس، ووجب أرشها، وإن كانت [جراحة الآخر فا] لقصاص باق بحاله.
فرع: إذا جرحه ثلاثة، وادعى [أحدهم] أن جراحته [اندملت قبل موته] وأنكر الآخران ذلك، وقالا: مات من الجراح الثلاث – فإن صدقه الولي، وكان قصده القصاص من الباقين – قبل منه، وإن أراد أخذ الدية منهما لم يقبل تصديقه؛ لأنه في هذه الحالة يأخذ من كل منهما نصف الدية، وفي حال عدم الاندمال يأخذ الثلث، فكان عليهما في تصديقه ضرر؛ فلم يقبل؛ قاله المحاملي.
قال: وإن قطع أحدهما كفه، والآخر ذراعه، [أي:] الذي كان الكف فيه؛ فمات – فهما قاتلان؛ لأن قطع الأول علق منه الألم بالأعضاء الشريفة؛ وهي الكبد والقلب والدماغ، واتصل بها من قطع الثاني مثلها؛ فتعاون الكل على الإزهاق؛ فتساويا في وجوب القود؛ كما لو قطع أحدهما يده اليمنى، والآخر اليسرى؛ فسرى إلى نفسه، وهذه العلة – كما قال القاضي أبو الطيب – صرح بها الشافعي.
قال: وإن قطع أحدهما يده، [وحز] الآخر رقبته، أو قطع حلقومه، أو مريئه، أو أخرج [حشوته]، أي: أبانها [منه]؛ كما قاله المحاملي والماوردي والقاضيان الطبري والحسين – فالأول جارح؛ أي: يجب عليه القصاص في اليد وديتها، والثاني قاتل؛ لأنه قطع بفعله سراية الأول، وأزهق فعله الروح؛ فوجب عليه القصاص؛ كما لو اندمل جرح الأول، ثم قتله الثاني. ولا فرق في ذلك بين أن يتوقع [البرء من الجراحة الأولى، أو لا يتوقع]، ويتيقن الهلاك منها بعد يومين أو ثلاث.
نعم لو انتهى في الأولى إلى حركة المذبوحين؛ وهي [التي لا] يبقى معها الإبصار والإدراك، والنطق والحركة الاختياريان – لم يكن لحز الرقبة معنى، وهو كما لو فعل ذلك بعد الموت، فيعزَّر.
والحشوة – بكسر الحاء وضمها: لغتان مشهورتان –هي الأمعاء، وحكم شق البطن أولاً من غير إخراج الحشوة، أو خرقها من غير [إبانة] بحيث حكم أهل البصائر بأنه يموت لا محالة؛ إذا صدر من واحد، ثم صدر من غيره إخراج الحشوة [أو إبانتها] أو حز الرقبة – حكم قطع اليد أولاً، وحز الرقبة، أو ما في معناه ثانياً؛ لأن بشق الجوف لا تزول الحياة المستقرة.
وقد ألحق الأصحاب – كما قال الرافعي – بهذه الحالة المريض، إذا أشرف على الهلاك، وقالوا: يجب القصاص على قاتله، وإن انتهى إلى حالة النزع، وصار عيشه عيش المذبوحين.
ولفظ الإمام: أن المريض إذا انتهى إلى سكرات الموت بدت مخايله، وتعثرت الأنفاس في الشراسيف؛ فلا نحكم له بالموت، وإن كان يظن أنه في مثل حالة المقدودز
وفرقوا بأن انتهاء المرض إلى تلك الحالة غير مقطوع بهن وقد يظن به ذلك، ثم يشفى، بخلاف المقدود ومن في معناه.
وفي "تعليق" القاضي الحسين ما ينازع في ذلك؛ فإنه قال: المريض إذا أشرف على الهلاك. فإن وقع في حراك المذبوحين لا يحل الذبح، ومن قتله لا يكون قاتلاً، ولا عبرة بسيلان الدم وعدم سيلانه.
قال: وإن اشترك الأب والأجنبي في قتل الابن وجب القود على الأجنبي؛ لان فعل الأب عفو، وسقوط القود عن أحد الشريكين لمعنى لا بغير صفة فعله، لا يسقط القصاص عن الآخر، دليله ما لو عفي عن أحد الشيريكين [في القتل].
وفي معنى ما ذكرناه: إذا شارك حر عبداً في قتل عبد، أو مسلم ذميًّا في قتل ذميّ – فلا قصاص على المسلم والحر، ويجب على الذميّ والعبد، وهذا بخلاف ما لو جرح ذميٌّ ذميًّا، ثم أسلم المجروح، فجرحه مسلم، أو جرح عبدٌ عبداً، ثم عتق المجروح، فجرحه حر، ومات منهما – فإنه يجب القصاص على المسلم، والحر؛ لان القصاص يجب على كل منهما بتقدير الانفراد؛ فكذلك عند الاجتماع.
فرع: إذا قطع حر يد عبد، ثم عتق، فقطع آخر يده الأخرى، ثم مات – فلا قصاص على الأول، وعلى الثاني القصاص في الطرف؛ وكذا في النفس، على الصحيح.
قال أبو الطيب بن سلمة: لا يجب فيها [قصاص]؛ لأن الموت حصل من فعلين: أحدهما: في حال الرق، وذلك غير موجب [للقصاص، والآخر في حال الحرية، وهو موجب للقصاص، وإذا اجتمع ما يوجب] القصاص وما [يسقطه، غلب ما يسقطه]، كما في العامد والمخطئ، حكاه القاضي أبو الطيب والبندنيجي.
قال: وإن اشترك المخطئ والعامد في القتل، أو ضربه أحدهما بعصا خفيفة، وجرحه الآخر؛ فمات، أي: منهما – لم يجب القصاص على واحد منهما: أما الأول، فلأنه فعله في الأولى خطأ، وفي الثانية شبه عمد، وقد تقدم الدليل على انتفاء القصاص عنهما.
وأما الثاني، فلان الزهوق حصل بفعلين: أحدهما: يوجبه، والآخر ينفيه، [فانتفى]؛ كما لو جرحه [واحد] جرحين بهذه الصفة. أو نقول: قد اجتمع ما يوجب القصاص وما يسقطه؛ فوجب أن يغلب حكم الإسقاط؛ كما إذا قتل من نصفه حر ونصفه رقيق رقيقاً.
وعن المزني: أنه يجب القصاص على شريك المخطئ، وشريك الجارح عمد خطأ، وقال الإمام: وددت أن يكون هذا قولاً معدوداً من مذهب الشافعي، وقد يوجه بأن العامد لو انفرد بقتله قتل، فإذا شارك غيره وجب أن يقتل؛ كالأجنبي إذا شارك الأب.
وقد حكى الروياني في "جمع الجوامع" أنه قد قيل: إنه قول للشافعي، ذكره المزني في العقارات.
فرع: شريك الصبي المميز والمجنون [الذي له تمييز]: هل يجب عليه القصاص؟ ينبني على الخلاف في أن [عمدهما عمد] أو خطأ؟ إن قلنا بالأول [وجب]، وإلا فلا.
أما من لا تمييز له [بحال] فعمده خطأ، وشريكه شريك خاطئ [لا محالة]؛ كذا قاله القفال، وعليه جرى في "التهذيب".
قال: وإن جرح نفسه وجرحه آخر، أو جرحه سبع وجرحه آخر؛ فمات أي: من الجرحين، وكانا مما يقتلان غالباً – ففيه قولان:
أحدهما: يجب القود على الجارح؛ لأنه شريك عامد، وغنما سقط ضمانه؛ لمعنى [فيه، لا لمعنى] في فعله؛ فأشبه الأب، وهذا هو الأصح في الصورة الأولى؛ كما ذكره الروياني، وغيره، وأظهر في الصورة الثانية؛ كما قاله الماوردي.
والثاني: لا يجب؛ لأنه إذا لم يجب على شريك الخاطئ، مع أن جنايته مضمونة [عليه] بالدية، فلئلَاّ يجب وجنايته غير مضمونة كان أولى، وهذا ما صححه الماوردي في الصورة الأولى عند الكلام فيما إذا اجتمع على القتل عامد ومخطئ، وبه قطع بعضهم في الثانية؛ لأنه لا تكليف على السبع؛ فكان شريكه كشريك الخاطئ؛ لان فعل السبع لا يصدر [عن] فكر وروية، ولا يوصف بالعمدية، وهذا ما صححه الغزالي وإمامه، والقاضي الحسين، والنووي.
ثم ظاهر كلام الشيخ في مسالة السبع يقتضي انه لا فرق في جريان الخلاف فيها يبن أن يكون الجرح الصادر من السبع صدر عن قصد، أو لا عن قصد؛ كما إذا وقع عليه فجرحه، وهو ما صرح به في "التهذيب"، وفي كلام الإمام ما يقتضي أن محل الخلاف إذا قصد السبع الجرح، فأما إذا وقع عليه من غير قصد فليس هو موضع الخلاف.
تنبيه: من الصورة الأولى يظهر لك أن السيد لو جرح عبده، وجرحه آخر – يجري القولان فيه كما صرح به غيره؛ لاستواء السيد وجارح نفسه في عدم وجوب الضمان للآدمي، ووجوب الكفارة عليهما على الصحيح، وبه جزم العراقيون. وعن بعضهم القطع بالوجوب إذا اوجبنا الكفارة، وهي جارية في صورة الكتاب أيضاً؛ كما حكاها الإمام؛ تفريعاً على إيجاب الكفارة.
ومن الصورة الثانية يظهر لك فيما لو جرح حربي مسلماًن وجرحه مسلم آخر، ومات منهما، أو قطعت يد إنسان في السرقة، أو قصاصاً، ثم جرحه آخر متعدياً، أو جرح مسلم مرتدًّا، فأسلم، فجرحه آخر، أو ذميّ حربيًّا، ثم عقدت الذمة للحربي، فجرحه ذميّ آخر، أو إنسان جرح الصائل عليه، ثم جرحه آخر – [جريان القولين]، كما صرح بهما غيره؛ لأن فعل السبع لا يوجب شيئاً؛ كما أن الشريك العامد في الصور التي ذكرناها لا يوجب فعله شيئاً.
وحكى الفوراني عن بعضهم – في مسألة قطع اليد في سرقة، أو قصاصاً – القطع بالوجوب؛ لأن فعلهما في مقابلة ما سبق من جناية المقطوع؛ فهو كالمضمون به.
قال: وإن جرحه واحد، وداوى هو جرحه بسم غير موحٍ، أي: غير قاتل في الحال، ولكنه يقتل غالباً أي: وعلم المجروح حاله، أو خاط الجرح في لحم حيّ؛ أي: قصداً، وذلك مما يقتل غالباً؛ فمات – فقد قيل: لا يجب القود على الجارح؛ لأن المجروح قصد المداواة، لا الجناية، وذلك عمد خطأن وشريك قاتل عمد الخطأ لا قود عليه.
وقيل: على قولين كالمسألة قبلها، وهذه الطريقة أظهر عند ابن الصباغ.
ثم حقيقة الخلاف يرجع إلى أن الذي صدر من المجروح عمد أو عمد خطأ؟
وقد حكى الأصحاب فيه – في الصورة الأولى – وجهين، وفي الصورة الثانية أنه عمد، وقال الماوردي: عندي أنه عمد خطأ، فمن جعله عمد خطأ أسقط القصاص جزماً، ومن جعله عمداً أجرى القولين.
أما إذا لم يعلم المجروح بأن السم يقتل غالباً –فقصده التداوي – فالمجزوم به الطريقة الأولى؛ كما لو كان السم لا يقتل غالباً بل نادراً [و] كما لو قصد الخياطة في لحم ميت فصادف لحماً حيًّا، أو في الجلد فصادف اللحم. ولو كان السم [يقتل لا محالة في ثاني الحال، فالمجزوم به الطريقة الثانية؛ صرح بذلك
الماوردي، ولو كان السم] موحياً- وهو الذي يقتل في الحال – لم يجب على الجارح قصاص، ولا دية، سواء كان المجروح عالماً بحاله أو جاهلاً بها؛ لأنه قطع سراية جرحه بفعله؛ فأشبه ما لو جرحه، فذبح نفسه.
ولو خاط الجرح في لحم ميت وجب القود قولاً واحداً؛ لأن السراية لا تحصل بالخياطة في الميت، وسواء – فيما ذكرناه – شرب السم للتداوي، أو وضعه في الجرح للتداوي، كما صرح به المحاملي وغيره.
والحكم فيما لو داواه غيره بالسم المذكور بإذنه، أو [خاط له] الجرح في لحم حيّ بإذنه؛ كالحكم فيما إذا فعل ذلك بنفسه، ولا شيء على المأذون له.
تنبيه: ظاهر إطلاق الشيخ القول بأنه لا قود على الجارح يشمل النفس والجرح، وأنه لا فرق بين أن يكون الجرح مما لا يجري فيه القصاص، أو يجري فيه، وكلام الرافعي والمحاملي وغيرهما مصرح بأن الجرح إن كان مما يجري فيه القصاص وجب؛ غذ لا مشاركة فيه، وكلام الماوردي مصرح بما اقتضاه كلام الشيخ في بعض الصور على وجه لابن سريج، وفي بعض بلا خلاف؛ فإنه قال فيما إذا كان السم يقتل لا محالة في ثاني الحال، وقلنا: لا يجب القصاص في النفس: إنا ننظر في الجرح: فإن لم يكن فيه قصاص لم يمكن الولي منه، وإن كان مما يوجب القصاص إذا انفرد: كالموضحة، وقطع اليد والرجل – ففي وجوب القصاص فيه، مع سقوطه في النفس [وجهان:
أحدهما وهو قول ابن سريج-: لا يجب، ويسقط بسقوطه في النفس]؛ لأنه إذا انفرد عنها روعي فيه الاندمال، ولم يندمل.
والثاني: يجب؛ لأنه قد انتهت غايته بالموت فصار كالمندمل، فعلى هذا إن كانت ديته مثل دية نصف النفس كأحد اليدين أو الرجلين، وفعله الولي – فقد استوفى جميع حقه، وإن كانت ديته أقل من نصف دية النفس كالإصبع، فإذا اقتص منه فقد استوفى [من] حقه بقدر ديته وهي العشر، وبقي له تمام
النصف، إن كانت ديته أكثر من نصف الدية فوجهان:
[أحدهما]-: وهو قياس قول الإصطخري-: يقتص منه.
والوجه الثاني –وهو عندي أشبه-: أنه لا يجوز أن يقتص بنصف الدية من الأعضاء إلا ما قابلها؛ لأنها توجد بدلاً منها، فعلى هذا: إن أمكن تبعيضه استوفى [منه بقدره]، كاليدين إذا قطعهما؛ فله أن يقتص في إحدى اليدين والتعيين إليه، وإن لم يمكن تبعيضه: كجدع الأنف، وقطع الذكر – فيسقط القود فيه؛ لما تضمنه من الزيادة على قدر المستحق من الدية.
قلت: وعندي أن مادة الخلاف في الأصل أن قطع الطرف إذا صار قتلاً؛ فاستيفاؤه هل هو مقصود في نفسه، [أم هو طريق في استيفاء النفس؟ وفيه الخلاف السابق، فإن قلنا: هو مقصود في نفسه]، استوفى هاهنا، وإلا فلا؛ لأن النفس لا يجوز استيفاؤها في هذه الحالة، لكن قضية هذا أن يطرد فيما إذا كان السم مما يقتل غالباً.
وقد قال الماوردي: إنا إذا لم نوجب القصاص في النفس، وأراد الولي القصاص في الجرح – لم يكن له ذلك وجهاً واحداً؛ لأن شريك الخاطئ في الجرح كشريكه في النفس. ثم قال فيما إذا كان السم لا يقتل غالباً: إنه لا قصاص على الجارح في النفس والجرح، والله أعلم.
قال: وإن خاط الجرح من له عليه ولاية، أي: غير الأب والجد، كالوصي والإمام ونائبه- ففيه قولان:
أحدهما: يجب القود على الولي، فيجب على الجارح؛ لأن الولي فعل ما لا يحل له فعله عامداً؛ فكان كالأجنبي، وهذا ما صححه الجيلي.
والثاني: لا يجب على الولي؛ لأنه لم يقصد الجناية، بل قصد المداواة؛ فكان [شبه عمد] في إسقاط القصاص عنه.
قال: ولا على الجارح؛ لأنه شارك من فعله عمد خطأ، وهذا ما صححه
النووي، فعلى هذا: يجب على كل واحد منهما نصف الدية في ماله، وقيل: يجب النصف المختص بالإمام في بيت المال.
وفي "ابن يونس" أنه قيل: ما يتعلق بجناية الولي يجب؛ حيث تجب دية شبه العمد، وإنه لم يذكر في "الحاوي" غيره. انتهى.
والذي رأيته في "الحاوي" حكاية القولين كما ذكرتهما في الإمام خاصة. نعم الذي جزم به في الحاوي وجوب القود على الجارح؛ لأنه شارك في عمد مضمون، وحكاية القولين في وجوب القصاص على الولي، أما إذا كان الولي أباً أو جدًّا فلا قود عليه، وهل يضمن؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا؛ تغليباً لحسن النظر، قال الماوردي: وعلى هذا في وجوب القود على الجارح قولان.
والثاني: نعم، فعلى هذا يجب على الجارح قولاً واحداً؛ لأنه شارك في عمد مضمون.
قال: ومن لا يجب عليه القصاص في النفس، أي: كالصبي والمعتوه، والمبرسم – لا يجب عليه [القصاص] في الطرف، ومن وجب عليه [القصاص] في النفس؛ أي: كالمكلف والملتزم للأحكام، إذا قتل مثله حرًّا كان، أو عبداً – وجب عليه القصاص في الطرف؛ أي: مع السلامة؛ لأن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى صونه بالقصاص؛ فكان كالنفس في وجوب القصاص وعدمه، واحترزنا بـ"الملتزم للأحكام" عن الحربي.
قال: ومن لا يقاد بغيره في النفس، [أي]: كالمسلم بقتل الكافر، [و] الحر بقتل العبد، والوالد بقتل الولد، وما في معناه – لا يقاد به في الطرف؛ لأن حرمة [النفس] آكد من حرمة الطرف؛ بدليل أن الأطراف بعض النفس، ومتى صارت الأطراف نفساً دخل بدلها في دية النفس، ولا تجب بإتلافها الكفارة،
ولا تدخلها القسامة، وإذا لم يجب القود في الشريف ففيما دونه أولى.
قال: ومن أقيد بغيره في النفس، [أي]: كالكفر بالمسلم، والعبد بالحر – أقيد به في الطرف؛ لقوله تعالى:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [المائدة: 45]، ولأن حرمة النفس أولى من حرمة الطرف، وقد جرى القصاص بينهما فيها؛ فبأن [يجري] في الطرف من طريق الأولى؛ ولأن الخصم – وهو أبو حنيفة – قد وافقنا على قتل العبد بالعبد وبالحر، والرجل بالمرأة، والكافر بالمسلم، وخالفنا في [قطع] طرف العبد بالحر وبالعبد، والكافر بالمسلم؛ كما حكاه عنه المحاملي، والمرأة بالرجل، نظراً إلى أن الأطراف يعتبر فيها التساوي [بالسلامة وغيرها، فاعتبر التساوي] في ديتها، فنقول له: كل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس وجب أن يجري بينهما في الأطراف السليمة؛ كالحرين والحرتين.
قال: وما لا يجب القصاص فيه في النفس من الخطأ وعمد الخطأ، لا يجب القصاص فيه في الطرف؛ لما بيناه، فكلام الشيخ الأول تعرض به لبيان الأهلية، والثاني تعرض به لبيان المانع، والثالث تعرض به لطرق التفويت.
قال: وإن اشترك جماعة في [قطع طرف] طفعة واحدة، أي: مثل أن وضعوا على يده حديدة، وتحاملوا عليها، أو أخذوا خشبة، أو حجراً كبيراً – كما ذكر القاضي الحسين – ووضعوها على يده، وحملوا عليها إلى أن حصلت الإبانة، أو جروا المنشار في ذهابه ورجوعه.
قال: قطعوا [به]؛ لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وقوله صلى الله عليه وسلم:"الْعَمْدُ قَوَدٌ" ولم يفصلا، وما روي: "أَنَّ رَجُلَينِ شَهِدَا عِنْدَ
عَلِيٍّ – كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ- عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ، فَقَطَعَهُ ثُمَّ إِنَّهُمَا رَجعَا، وَجَاءَا بِآخَرَ، وَقَالا: يَا أَمِيرَ المؤمِنينَ، هَذَا هُوَ السَّارِقُ، وَإِنَّمَا أَخْطَانَا، فَقَالَ عَلِي – رضي الله عنه: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا" وهذا يدل على أن الاثنين يقطعان بالواحد.
ولأنهم اشتركوا في تفويت محل معصوم بالقصاص في حق المنفرد عمداً؛ فلزم كلاًّ منهم القصاص؛ كما لو اشتركوا في قتل النفس، ويخالف هذا ما لو سرق رجلان فصاعداً نصاباً واحداً لا يقطع واحد منهم؛ لأن القطع في السرقة حد لله – تعالى – [والحدود] تحال على الشبهات؛ بخلاف القصاص، الذي هو حق آدمي؛ ولذلك لو سرق نصف نصاب، ثم عاد، وكمل – لا يقطع، وهنا لو أبان العضو بقطعين فأكثر قطع.
قال: وإن تفرقت جناياتهم، أي: مثل: أن أبان كل منهم بعض الطرف، أو أبان واحد منهم بعضه، واشترك الباقون في إبانة باقيه، أو تعاونوا [على قطعه] بمنشار، وجره بعضهم [في الذهاب]، وآخرون في العود.
[قال]: لم يجب على واحد منهم القود، أي: في جملة العضو، [ولا في] بعضه.
أما الأول؛ فلان جناية كل منهم في بعض العضو؛ فلا يقتص منه في جميعه، وليس كما إذا جرحه بعضهم جراحة، ثم جرحه آخر، فإن زهوق الروح يحصل بالسرايات؛ وهي مختلطة بالقطع، [و] لا تمييز فيها، وإبانة اليد تحصل بالقطع المحسوس، والقطع يتميز عن القطع.
وأما الثاني – فلتقاوت الأعصاب في المحل والعروق، وعدم انتهائه إلى عظم.
وحكى القاضي الحسين والفوراني عن صاحب التقريب أنه إن أمكن أن يستوفي من يد كل منهم بقدر ما قطع يستوفي، والرافعي قال: إنه حكى ذلك قولاً.
وقال الإمام: إنه أخذه من قول الشافعي في أن القصاص هل يجري في المتلاحمة، ووجه الشبه: أن الموضحة يجري القصاص فيها كالإبانة، وقطع [بعض] اليد بعض الإبانة؛ كما أن المتلاحمة بعض الموضحة.
ووجه الفرق: أن جلدة الرأس وما عليها من لحم أجزاؤها متساوية؛ فإنها جلد ولحم، وليس فيها أعصاب، وعروقها جداول الدم، والعروق الرقاق لا يعتبر بها أصلاً، ومعظم اليد يشتمل على أعصاب ملتفة وعروق ساكنة وضارية، ويختلف وصفها في الأيدي؛ فلا يتأتى إجراء التماثل فيها.
وعلى الصحيح: يجب على كل منهم حكومة على قدر جنايته؛ بحيث يكون مجموعها بقدر دية اليد.
تنبيه: قول الشيخ:"في قطع طرف" يظهر أن يكون احترز به عما إذا اشتركوا في موضحة؛ بأن تحاملوا على آلة وجروها معاً، فإن في ذلك احتمالين للإمام:
أحدهما: أنه يوزع عليهم، ويوضح من كل منهم قدر حصته؛ لأن الموضحة قابلة للتجزئة، والقصاص جار في أجزائها؛ فصار كما لو أتلفوا مالاً يوزع عليهم الغرم، وعلى هذا فتعيين الموضع إلى اختيار المقتص منه، وهذا ما أجاب به [في] الوجيز.
والثاني: أنه يوضح من كل منهم مثل تلك الموضحة؛ لأنه لا [جزء] إلا وكل واحد منهم جان فيه؛ فأشبه ما إذا اشتركوا في قطع يد، وبهذا أجاب في التهذيب، وقال الإمام: إنه أقرب.
قال: ويجب القصاص في الجروح والأعضاء؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، وقد تقدم في أول الكتاب وجه التمسك بها؛ ولأن الحاجة كما دعت إلى صيانة النفوس بالقصاص دعت إلى [صيانة] ما ذكرناه به.
قال: فأما الجروح، أي: وهي التي تشق ولا تبين – فيجب في كل ما ينتهي إلى عظم؛ كالموضحة، وجرح العضد والساق والفخذ، أما في الموضحة؛ فللإجماع، حكاه المتولي، وأما فيما عداها فللآية، ولأنه يمكن اعتبار المماثلة فيها؛ لكون نهايتها معلومة؛ فجرى القصاص فيها كالموضحة.
قال: [وقيل]: لا يجب فيما عدا الموضحة؛ لأنه لما خالفها في تقدر الأرش خالفها في غيره، فهذا ما صار إليه كثير من أصحابنا؛ كما قال الماوردي، وذكر هو والقاضي أبو الطيب أنه فاسد مذهباً وحجاجاً:
أما المذهب؛ فلأنه خلاف نص الشافعي؛ فإنه قال في كتاب "الأم": إن الموضحة إذا كانت على الساق لم تصعد إلى الفخذ، ولم تنزل إلى القدم، وإن كانت على الذراع لم تصعد إلى العضد، ولم تنزل إلى الكف.
وأما الحجاج؛ قال الماوردي: فهو أنه لما كان في البدن جرح مقدر، وهو الجائفة – وجب أن يكون فيه ما يوجب القصاص وهو الموضحة [كالرأس.
وقال أبو الطيب: ولأن القصاص إنما وجب في الموضحة]؛ لأن الجناية وصلت إلى عظم يمنع السكين، وهذا المعنى موجود، وإنما وجب الأرش المقدر في الموضحة، ولم يوجد فيما نحن فيه؛ لأن الشين في الوجه والرأس أعظم منه في البدن؛ فإن تيك لا تغطيها الثياب، وهذه تغطيها الثياب.
وحكم جرح الصدر أو العين أو الأصابع، إذا انتهى إلى عظم – حكم [جرح] العضد.
تنبيهان:
أحدهما: العضد مؤنثة، وتذكر.
قال الزجاجي وغيره: لا يجوز تذكيرها؛ وهي المفصل من المرفق إلى الكتف، وفيها لغات؛ أشهرها: عَضُد؛ بفتح العين، وضم الضاد، وعضد: بإسكان الضاد، وعُضد: بضم العين، وعَضِد: بفتح العين وكسر الضاد، وعلى هذا لا يجوز كسر العين وإسكان الضاد.
الثاني: كلام الشيخ يفهم أن الجرح إذا لم ينته إلى عظم لا يجب فيه القصاص، وإن كان في الرأس، وهو ظاهر ما رواه الربيع عن نص الشافعي في "الأم": أنه لا قصاص فيما دون الموضحة، وعلل ذلك بأنه يؤدي إلى أن يستوفي موضحة بمتلاحمة؛ وذلك أنه ربما كان رأس المشجوج ألحم، فإذا قدرنا المتلاحمة، وأخذنا قدرها من رأس الشاج بلغ موضحة. وظاهر لفظ الشافعي في المختصر يدل على وجوبه؛ فإنه قال: ولو جرحه، ولم يوضحه – اقتص منه بقدر ما شق من الموضحة.
وقال في موضع آخر: اقتص منه بقدر ما شق إن أمكن.
واختلف الأصحاب – لأجل ذلك – في الباضعة والمتلاحمة على طريقين:
أقربهما: إثبات قولين، حكاهما الماوردي، وعلى ذلك جرى صاحب "العدة" والفوراني والمتولي. والأظهر عند الأكثرين: انه لا قصاص، وعند القفال والشيخ أبي محمد: مقابله، وبه جزم القاضي الحسين.
والقائلون بهذه الطريقة اختلفوا في محلها:
فقيل: محلها إذا أمكن، وصورته أن يكون على رأس كل من الشاج
والمشجوج موضحة قريبة من موضع الشجة، أو يكون الشاج قد جرح المشجوج موضحة، ومتلاحمة [مثلاً]؛ فيقتص منه في الموضحة، ثم ينظر – على قول الوجوب- في موضحة المشجوج، ونقيس الشجة التي نريد القصاص فيها أهي نصفها، أو ثلثها، وإذا عرفنا ذلك – نظرنا في موضحة الشاج، واستوفينا مثل نصفها، أو ثلثها. أما إذا لم يكن على رأسهما موضحتان – فليس إلا أخذ الأرش.
وقد زاد الإمام في التصوير أن تكون الموضحتان طريقين؛ فإنهما إذا جَفَّتَا وأخذتا في الاندمال لم يتأت الضبط.
والقاضي الحسين فرض إمكان التصوير بما إذا كانتا مندملتين.
وقيل: محلها على التعميم، وعند عدم الموضحتين يقتص – على قول الوجوب – في القدر المستيقن ويكف عن محل الإشكال، [وهذا ما جزم به] الإمام، والقاضي الحسين.
والطريق الثاني: القطع بالمنع، وعلى ذلك جرى العراقيون، من القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ، والمحاملي، والبندنيجي [وغيرهم إلا] الشيخ أبا حامد؛ فإنه قال: يمكن – عندي – القصاص في المتلاحمة. وذكر صورة الإمكان كما حكيناها من قبل.
ثم القائلون بهذا الطريق تحزبوا:
فمنهم من نسب المزني إلى الوهم، قال الماوردي: وهذا لا وجه له؛ لأن المزني اضبط من نقل عن الشافعي – رضي الله [عنهما] – وأثبتهم رواية.
وقال الماسرجسي: كان الشافعي يعلق القول في المسألة، ويقول بوجوب القصاص إن أمكن، [ثم] بان أنه لا إمكان؛ فقطع القول بالمنع.
ومنهم من حمل النصين على حالتي الإمكان وعدمه، وهو ما صار إليه أبو إسحاق وابن أبي هريرة وأكثر أصحابنا، كما حكاه الماوردي.
وحكم ما عدا الباضعة والمتلاحمة مما دون الموضحة – حكمها؛ كما
صرح به الماوردي والفوراني والمتولي، وقال: إن الحكم كذلك فيما إذا قلنا: يجب القصاص في جرح العضد ونحوه، و [إن] لم ينته إلى العظم.
والإمام والروياني قالا بجريان ما ذكرناه في الباضعة والمتلاحمة في السمحاق.
وحكى الإمام في الحارصة القطع بأن لا قصاص [فيها]؛ لأنه [لا] وقع لها، ولا يفوت بها شيء، وأن الشيخ أبا محمد تردد في الدامية، وأن ميل القفال إلى تنزيلها منزلة الحارصة.
وفي وجوب القصاص بقطع بعض المارن والأذن من غير إبانة اختلاف مرتب على الخلاف في الباضعة والمتلاحمة، والأصح في "النهاية": الوجوب؛ لإحاطة الهواء بهما، وإمكان الاطلاع عليهما من الجانبين، ويقدر المقطوع بالتجزئة؛ كالثلث والربع، ويستوفي من الجاني مثله، ولا ينظر إلى مساحة المقطوع.
قال: وإذا أوضح رجلاً في بعض رأسه، وقدر الموضحة يستوعب [جميع] راس الشاج – أوضح جميع رأسه؛ لقوله تعالى:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] والقصاص: المماثلة، ولا يمكن في الموضحة إلا بالمساحة، وقد استوعبت المساحة رأسه؛ فوجب.
وقال أبو علي الطبري: لا يجاوز مل محله [بل] يستوفيه، ويأخذ الأرش لما بقي، وبهذا جزم الماوردي والقاضي الحسين؛ لأنا نراعي في ذلك التسمية؛ وهي مختلفة.
وقد حكى ابن الصباغ، عن ابن أبي هريرة رواية الوجهين، وأنه صحح الثاني، لكن الذي حكاه المحاملي عن الشافعي الأول؛ لأن لكلٍّ رأساً؛ فجاز أخذ القصاص فيه، وهو الذي جزم به الفوراني أيضاً، وصححه القاضي أبو الطيب، وقال: إن نص الشافعي في "الأم" يدل عليه.
ولا خلاف أنه إذا كان قدر الموضحة لا يستوعب جميع رأس الشاج، وأمكن
استيفاؤها من غير مجاوزة ذلك المحل - لا يجوز استيفاؤها من غيره، لكن هل يشترط أن يبدأ من الموضع الذي [انتهى إليه الجاني، ويختم بالذي بدأ به الجاني]؟ فيه وجهان؛ أصحهما- عند الماوردي، وبه قال جمهور الأصحاب؛ كما قال؛ وبه جزم أبو الطيب-: الثاني، وإذا قلنا بالأول، وأشكل الحال رجع إلى الجاني.
ثم كيفية الاستيفاء - في هذه الحالة - أن يحلق موضع الموضحة من رأس الجاني؛ إن كان وقت الجناية على [رأس المجني عليه] شعر، ويعلم على قدر المستحق طولاً وعرضاً بسواد، أو غيره، ويشد شدًّا وثيقاً بحيث لا يتحرك، ويقتص منها، قال الرافعي: ولو لم يكن على رأس المشجوج شعر وقت الجناية، وكان الشعر على رأس الجاني - فلا يمكن القصاص؛ لما فيه من إتلاف الشعر الذي لم يتلفه، وعزا ذلك إلى نصه في الأم، وأنه لا يؤثر التفاوت في خفة الشعر وكثافته.
ولو كان رأس المشجوج أقل من رأس الشاج، وقد أوضح جميع رأسه - قال في "المهذب": للمجني عليه أن يقتص بقدر رأسه، من أي جهة شاء. وإن بعض الأصحاب قال: لا يجوز أن يستوفي بعضها من جهة، وبعضها من جهة أخرى.
ثم قال الشيخ: ويحتمل - عندي - أنه يجوز؛ لأنه لا يجاوز محل الجناية، ولا قدرها، نعم، لو قال أهل الخبرة: إن في ذلك زيادة ضرر أو شين، منع لذلك.
وما حكاه عن بعض الأصحاب به جزم الماوردي، وهو قياس تخريج [ابن سريج] في أن بعض الموضحة إذا تعذر استيفاؤه، يجب فيه أرش الموضحة؛ كما سنذكره، وما أبداه الشيخ قد حكاه البغوي وجهاً، [وهو قياس المذهب في أنه لا يجب في بعض الموضحة إلا قدره من أرشها].
وقد حكى الماوردي وجهاً [في هذه الصورة: أنه يشترط البداية من الموضع الذي بدأ منه الجاني.
وحكى الإمام وجهاً] ثالثاً: أن الخيرة في هذه الصورة إلى الجاني حتى يمكن [من] القصاص من أي جانب شاء، ثم قال: وهو متجه لا بأس به.
قال: وإن زاد حقه على جميع رأس الشاج، أي: مثل أن كانت مساحة رأس الشاج خمسة عشر إصبعاً، ومساحة رأس المشجوج عشرون – أوضح جميع رأسه؛ لما ذكرناه.
قال: وأخذ الأرش فيما بقي بقدره؛ لأنه لا يمكن النزول إلى الوجه ولا إلى القفا؛ لأنه لا قصاص في غير العضو الذي جنى عليه، وإذا تعذر القصاص فيما زاد تعين أرشه؛ وهو في مثالنا ربع أرش الموضحة، وإنما كان ذلك؛ لأن الجميع موضحة واحدة، وهذا بعضها.
وذهب أبو علي بن أبي هريرة إلى انه يجب فيه تمام أرش الموضحة؛ لأنه لو انفرد ذلك القدر لوجب له أرش موضحة كاملة؛ فكذلك هاهنا.
والحكم فيما إذا جرح عضده أو ساقه أو فخذه، وقلنا بالمنصوص – كالحكم الذي ذكرناه في الموضحة في الرأس.
تنبيه: الشاج: بتشديد الجيم، ويقال: شجه يشجه، بضم الشين – [في المضارع]- وكسرها شجًّا؛ فهو مشجوج وشجيج، والجارح شاج؛ وهي الشجة، وجمعها: شجاج.
فرع: لو زاد المقتص في الموضحة على القدر الواجب له، فإن كان سبب الزيادة تحرك المقتص منه؛ فذلك هدر، وإن لم يكن منه سبب:
فإن فعله عمداً – فعليه القصاص، بعد اندمال الموضحة التي جناها الجاني.
وإن كان خطأ – فوجهان:
أحدهما – وهو الذي حكاه القاضي أبو الطيب، والمحاملي، وابن الصباغ -: أنه يجب عليه [جميع] أرش الموضحة؛ لأن قدر الزيادة لو انفرد؛ كان موضحة، ولا يمكن بناؤه على الأول؛ لان ذلك استيفاء حقن وهذا فعل على وجه التعدي، فانفرد بحكمه.
والثاني- حكاه القاضي الحسين، مع الأول -: أنه يجب بقدره من أرش الموضحة باعتبار التوزيع، وهذا اختيار القفال أولاً، قال الفوراني: ثم رجع عنه إلى الأول.
ولو اختلفا في أنه تعمد ذلك أو أخطأ فيه – فالقول قول الفاعل.
ولو اختلفا في أن سبب الزيادة تحرك المستوفي منه، أو غيره، ففيمن القول قوله وجهان.
قال: وإن هشم رأسه؛ أي: مع الإيضاح – اقتص منه في الموضحة؛ لاشتمال جنايته عليها، وإمكان القصاص فيها؛ كما إذا قطع يده من وسط الساعد؛ فإن له أن يقتص منه في الكف.
قال: ووجب الأرش فيما زاد؛ لتعذر القصاص فيه، وصار هذا؛ كما لو اتلف على إنسان قفيزين من طعام، فوجد عنده أحدهما؛ فإنه يأخذه، وينتقل في الآخر على قيمته.
والأرش هاهنا ما بين أرش الموضحة والهاشمة، وهو خمس من الإبل.
وهكذا الحكم فيما لو كانت الجناية مُنقَّلة، أو مأمومة، أو دامغة، لكن الأرش في المنقلة عشر من الإبل، وفي المأمومة والدامغة ثمانية وعشرون وثلث.
ولو أراد المجني عليه أن يقتص في بعض الموضحة، ويأخذ الأرش عن باقي الموضحة؛ فهل له ذلك؟ فيه وجهان في "النهاية":
أحدهما: نعم؛ لأن الذي أفرده بالقصاص قابل له؛ فأشبه ما لو قطع له أصبعين، فأراد القصاص في أحدهما، وأخذ دية الآخر.
وأصحهما في الرافعين وبه أجاب في التهذيب: المنع.
واعلم أن ظاهر كلام الشيخ وغيره من الصحاب يفهم أنا لا نراعي تساوي الموضحتين في السمك والعمق؛ كما راعينا تساويهما في الطول والعرض، وبه صرح القاضي أبو الطيب.
وحكى المحاملي، والقاضي الحسين وغيرهما عن أبي إسحاق المروزي أنه
قال: يراعى تساويهما في السمك والعمق ولا يشق شعيرتين بشعيرة قال الإمام: وهو غلط. والقاضي قال: إنه واهٍ؛ لأنا لو راعينا هذا – لأدى [ذلك] إلى سد باب القصاص في الموضحة [ولا] وجه لإسقاطه.
قال: وأما الأعضاء، أي: التي أجملنا وجوب القصاص فيها ودللنا عليه، فيجب في كل ما يمكن القصاص فيه من غير حيف؛ أي: ميل وظلم – كما نفصله – لإمكانه.
قال: فنؤخذ العين بالعين؛ للآية فتؤخذ اليمين باليمين، واليسار باليسار؛ عملاً بالمعادلة، ومفهوم هذا اللفظ [أن] اليسار لا تؤخذ باليمين، وبه صرح الأصحاب؛ قياساً على ما لو قطع يمين شخص، ولا يمين للجاني؛ فإنه لا يقتص منه في يساره.
قال: ولا تؤخذ صحيحة بقائمة، أي: وهي التي ذهب ضوءها، وبقي بياضها وسوادها بحاله؛ لأنه [يأخذ] أكثر من حقه، وتؤخذ القائمة بالصحيحة؛ أي: إذا رضي المجني عليه؛ لأنه يأخذ أقل من حقه.
قال: وإن أوضحه – أي: في رأسه؛ كما صرح به المحاملي، والقاضي الحسين، والإمام، فذهب ضوء عينه – وجب فيه – أي: في ضوء العين، القود على المنصوص- أي: في "المختصر" لأنه لا يمكن إتلافه بالمباشرة؛ فوجب القصاص فيه بالسراية، كالنفس.
قال: غير أنه لا يمس الحدقة؛ لأنه لم يجن عليها؛ فلم يقتص منها، فعلى هذا إن أراد القصاص في الموضحة، وضوء العين أوضحه؛ كما أوضح، فإن ذهب ضوء العين بذلك – فقد حصل القصاص فيها على الصحيح كما سنذكره من بعد، وإن لم يحصل فقد حصل استيفاء القصاص في الموضحة، وطريق استيفائه في الضوء يأتي.
تنبيه: الضوء: مهموز، مفتوح الضاد ومضمومها، حكاهما الأصمعي وابن السِّكِّيت وابن قتيبة والجوهري، وهو: الضياء.
والحدقة هي: السواد الأعظم الذي في العين، وأما الأصغر فهو الناظر وفيه إنسان العين.
والمقلة: لحم العين الذي يجمع السواد والبياض، ذكره ابن قتيبة في أدب الكاتب.
وجمع الحدقة: حِداق، ويقال: حَدَق.
والجفن بفتح الجيم.
قال: وخرج فيه قول آخر: [أنه لا يقتص منه] أي: من نصه فيما إذا قطع إصبعاً من كف؛ فسرى إلى الكف؛ فسقط على أنه لا يجب في الكف قصاص؛ إذ كل واحد منهما سراية [فيما] دون النفس.
ووجهه فيهما: أن السراية من جهته خطأ.
قال الشيخ في المهذب، وابن الصباغ: وهذا من تخريج أبي إسحاق المروزي، ولم يخرج من نصه هنا إلى مسالة الكف أنه يجب فيها القصاص، وهذا ما حكاه الرافعي عن العراقيين عنه.
وفي تعليق القاضي أبي الطيب، ومجموع المحاملي: أنه [خرج من مسألة الضوء إلى مسالة الكف قولاً: أنه] يجب القصاص، وجعل المسألتين على قولين، وصحح المحاملي قول الوجوب فيهما.
وهذه الطريقة حكاها الشيخ أبو عليّ عن بعض الأصحاب، ولم يسمه؛ فلعله أراد أبا إسحاق، ويعضده أن الماوردي قال: إن غيره لم يساعده على التخريج.
وفي "الرافعي" أنه قيل: إن المزني قال بهذه الطريقة وأنه كان يختار القول الأول في مسألة الضوء.
وبالجملة فالذي صار إليه سائر الصحاب – كما قال القاضي أبو الطيب،
والمحاملي، وجزم به القاضي الحسين إجراء النصين على ظاهرهما، وفرقوا بأن الأجسام تنال بالجناية [فالجناية] على غيرها لا تعد قصداً على تفويتها [، واللطائف لا تباشر بالجناية، وطريق التوصل على تفويتها] الجناية على محلها، أو ما يجاوره، ويتعلق به؛ فلذلك تعلق به القصاص كالنفس.
وقياس هذا الفرق أن يقال: لو جنى على رأسه؛ فذهب عقله، أو على أذنه؛ فذهب سمعه، أو على أنفه؛ فذهب شمه – أن القصاص واجب على الصحيح.
وقد جزم في "المهذب" بأنه لا يجب؛ لأن هذه المعاني في غير محل الجناية؛ فلا يمكن القصاص فيها.
وقال الرافعي: إن التوجيه يشكل بمسألة الضوء، والتعليل الصحيح أن يقال: لا يجب القصاص؛ لأنه غير مقدور.
وقد وافق الشيخ – على ما ادعاه من الحكم في الصور الثلاثة – البندنيجي، وطرده في غيرها؛ حيث قال: كل جناية سرت إلى ما دون النفس، لا قصاص في السراية، إلا في مسألة العين.
وكذلك القاضي الحسين؛ حيث قال: كل قصاص يجري في النفس يجري في الطرف إلا في شيئين:
أحدهما: القود في النفس يجب بالسراية، وفي الطرف لا يجب بالسراية، وغنما يجب بإتلاف عينه إلا في إذهاب البصر.
وحكى الإمام عن الأصحاب تفريعاً على أن الجسام لا يقتص منها بالسراية؛ أنهم نزلوا لطيفة السمع منزلة لطيفة البصر؛ يعني: إذا ذهب بإيضاح الرأس، وأنه لا يبعد أني لحق بهما منعقد الكلام، وأن صاحب التقريب نص على إلحاق لطيفة البطش إذا زالت عن بعض الأعضاء، بلطيفة البصر، وأن شيخه أبدى في ذلك تردداً، وقال في قطع إلحاقه بالبصر: إن غزالة البطش بالسراية تعسر
عسر إزالة الأجرام؛ بخلاف لطيفة البصر؛ فإنها ألطف المعاني؛ فلذلك أثرت الجنايات فيها، وأن الأصحاب ترددوا في العقل، ووجه التردد أنه من وجه: لطيفة، ومن وجه: يبعد تناوله والاستمكان من إزالته.
ثم قال: وأحرى اللطائف البصر والسمع، ويليهما الكلام، ويلي الكلام البطش، وأبعد المعاني عن الإزالة العقل، والأصحاب مترددون في جميعها.
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ وغيره يقتضي أنه لا رق في إيجاب القصاص في الصورتين أن تكون الموضحة تسري إليه غالباً أم لا.
[وقد قال] الشيخ أبو حامد فيما لو أوضحه بما يوضح غالباً، ولا يقتل غالباً؛ [فمات من] تلك الجراحة -: إنه لا يجب القصاص في النفس، وقضية ذلك أن يقال بمثله في الضوء، لكن ابن الصباغ استبعد ما قاله الشيخ أبو حامد؛ كما حكاه الرافعي؛ لأن هذه الآلة إذا كانت توضح في الغالب كانت كالحديد.
قال: ويؤخذ الجفن بالجفن؛ لانتهائه إلى مفصل، وقيل: لا قصاص فيه.
قال: الأعلى بالأعلى، والأسفل بالأسفل، واليمين باليمين، واليسار باليسار؛ عملاً بالمعادلة. ويؤخذ جفن البصير بجفن الضرير، وبالعكس.
تنبيه: قال النواوي: [كان] ينبغي أن يقول: الأيمن بالأيمن، وتأويل ما ذكره أن تقديره: وذو اليمين بذي اليمين؛ بحذف المضاف، وهذا شائع معروف.
قال: ويؤخذ المارن بالمارن؛ أي: بكسر الراء، وهو: ما لان من لحم الأنف، والمنخر بالمنخر؛ لإمكان القصاص فيهمان ويؤخذ أيضاً الحاجز بينهما بالحاجز.
والمنخر: بفتح الميم، وإسكان النون، وكسر الخاء، وبكسر الميم والخاء لغتان مشهورتان، ومنخور: لغة ثالثة حكاها الجوهري.
قال: فإن قطع بعضه قدر ذلك بالجزء كالنصف والثلث فيؤخذ مثله به؛ رعاية للمعادلة.
قال الأصحاب: ولا يقدره بالمساحة كما قلنا في الموضحة؛ لأنه قد يكون أنف الجاني صغيراً وأنف المجني عليه كبيراً؛ فيؤدي إلى أخذ جميع المارن ببعضه، وذلك ممتنع بخلاف الموضحة؛ فإن الرأس بعد استيفائها باق في كل حالة.
وحكى البغوي عن أبي إسحاق المروزي أنه لا قصاص في بعضه.
قال: وإن جدعه، أي: قطع المارن والقصبة، أو بعضها – اقتص في المارن؛ لدخوله في الجناية، وإمكان القصاص فيه، وأخذ الأرش، أي: وهو: الحكومة، في القصبة؛ لتعذر القصاص فيها، والحكومة في هذه الصورة تكون أكثر من دية منقِّلة؛ كما صرح به الماوردي؛ لأنه لو لم يقطع القصبة، لكن نقلها، وجب عليه دية منقلة، وكذلك لو هشمها أو أوضحها، وجبت دية هاشمة أو موضحة.
والجدع – بفتح الجيم والدال المهملة-: ما ذكرناه.
ويقال أيضاً لقطع الأذن والشفة واليد جَدَعَهُ، يجدَعُهُ فهو أجدع، وهي جدعاء.
قال: ويؤخذ الصحيح بالمجذوم إذا لم يسقط منه شيء؛ لتساويهما في الخلقة، والجذام مرض، فلا يمنع القصاص؛ كسائر الأمراض.
وفي "التهذيب" أن الحكم كذلك فيما إذا لم يسودَّ العضو، أما إذا اسودَّ فلا قصاص فيه؛ لأنه دخل في حد البلى، ويكون الواجب فيه الحكومة، فإن سقط منه شيء قبل الاسوداد روعي ما ذهب منه وما بقي، فإن أمكن القود فيه استوفى؛ كما إذا ذهب أحد المنخرين وبقي الآخر، وإن لم يمكن، [كما إذا كان الساقط مقدمه، قال الماوردي: سقط؛ لأنه لا يمكن] استبقاء الأرنبة مع القود فيما بعدها.
قلت: وهذه العبارة تفهم أن مقدمة أنف الجاني لو سقطت لم يكن للمجني عليه القصاص فيما بقي، وهو موافق لما ظنه بعض الأصحاب أن الشافعي أسقط القصاص فيه، إذا سقط بعضه بالجذام، وإن كان نقصان أنف القاطع مثل نقصانه. وقال الإمام: إنه غلط.
وعلى هذا فالقياس يقتضي أن نقول: يقتص منه في هذه الحالة؛ كما نقول فيمن قطع أنملة وسطى من أصبع رجل، وله أنملة عليا – فإنا لا نقتص منه، فغذا سقطت أنملة الجاني العليا [فإنا نقتص] منه في الوسطى، وعلى تقدير أن يكون الحكم كذلك فالعبارة الوافية بالمقصود أن نقول: لم يستوف [منه]، على أن في مسألة الأنملة وجهاً للقفال: أنه لا قصاص فيها ولو سقطت العليا.
وقال الإمام: إنه لا يجري فيما إذا كان الجاني [قد] قطع الأنملة العليا من شخص، ثم الأنملة تحتها من شخص آخر، فإن العليا كأنها مقطوعة؛ بسبب أنها مستحقة لصاحب العليا.
قال: ويؤخذ غير الأخشم بالأخشم، أي: الذي لا يشم؛ لتساويهما في السلامة، وعدم الشم نقص في غيره وهو الدماغ.
قال: وتؤخذ الأذن بالأذن؛ للآية، والبعض بالبعض، والصحيح- أي: أذن الصحيح- بالأصم، والأًم بالصحيح؛ لما بيناه في الأنف.
وقيل: لا قصاص في بعضها، وعزاه في "التهذيب" إلى أبي إسحاق.
قال ابن يونس: وقال ابن الصباغ: إنه أقيس.
والذي رأيته في "الشامل": أن الأول أقيس، وهو ما حكاه عن الشيخ أبي حامد.
قال: ولا تؤخذ الصحيحة بالمخرومة؛ أي: التي سقط بعضها؛ لأنها دونها، ويثبت للمجني عليه الخيار بين أن يقتص إلى موضع الخرم، ويترك الباقي، ويأخذ ديته؛ بناء على جواز القصاص في بعض الأذن، وبين أن يأخذ الدية إلا ما يقابل قدر النقصان.
قال: وتؤخذ بالمثقوبة؛ أي: التي لم يسقط منها شيء، سواء اتسع الثقب أو لا؛ إذ الثقب ليس نقصاً، بل زينه، وهذا نصه.
وصور الخراسانيون ذلك بأذن النساء، قال الرافعي: ولا اختصاص له بهن، لكنه فيهن أغلب؛ فلذلك ذكروه.
وحكى ابن يونس عنهم أنهم حكوا فيها وجهاً آخر: أن ذلك بمنزلة الخرم.
قال: ويؤخذ الأنف الصحيح والأذن الصحيحة بالأنف المستحشف، أي: بكسر الشين، وهو اليابس، مأخوذ من حشف التمر. والأذن الشلاء، أي: بالمد، وهي اليابسة – في اصح القولين- لأنهما متساويان في المنفعة، ولا يؤخذان في الآخر؛ كما لا تؤخذ اليد الصحيحة بالشلاء.
قال: وتؤخذ السن بالسن؛ للآية، ويقتص من البيضاء بالسوداء والخضراء، ومن سن الشاب بسن الشيخ، ومن القوية بالضعيفة، ومن الكبيرة بالصغيرة، ومن المشدة بالمتحركة إذا كانت منافعها باقية، كذا أطلقه الأصحاب، وسنذكر قولين فيما إذا قلع مثل هذا السن؛ هل تكمل فيه الدية أم لا؟ فإن لم تكمل فيه، فيظهر ألا نوجب على قوي السن أن يقلعها قصاصاً.
قال: ولا تؤخذ سن بسن غيرها؛ لاختلافهما في الاسم والمنفعة.
ولا قصاص في بعض السن؛ كما صرح به في "التهذيب" وغيره؛ بناء على أن كسر العظام لا قصاص فيه؛ لعدم الضبط.
وفي "المهذب" و"الحاوي" أنه إذا كسر سنه، وأمكن أن يكسر من الجاني مثل كسره – اقتص منه، وإن لم يمكن فلا قصاص.
وقد عزا القاضي ابن كج ذلك إلى نص الشافعي في الأم.
وصور ابن يونس الإمكان بأن يكون قد كسر نصف السن بالطول.
قال: ويؤخذ اللسان باللسان؛ للآية، مع أن له حدًّا ينتهي إليه؛ فأشبه الأنف؛ وهذا قول أبي عليّ بن أبي هريرة، واختاره الماسرجسي؛ كما حكاه القاضي ابو الطيب، وقال أبو إسحاق: لا قصاص فيه؛ لأن أصله لا يمكن استيعابه إلا بقطع غيره.
قال ابن الصباغ: وهذا أقيس.
واللسان يذكر ويؤنث؛ فمن ذكر – قال: جمعه: ألسنة؛ كأخمرة، ومن أنث-قال: السن؛ كأذرع.
[قال: فإن أمكن أخذ البعض بالبعض، [أي]: كالنصف بالنصف، والثلث بالثلث؛ أخذ، وهل ذلك ممكن؟ فيه وجهان، أصحهما: نعم.]
قال: ولا يؤخذ لسان ناطق –أي: بتنوين "لسان" – بلسان أخرس؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه؛ غذ الخرس نقص في اللسان، ويؤخذ الأخرس بالناطق؛ لأنه يأخذ دون حقه، ويقطع لسان المتكلم بلسان الرضيع؛ إن ظهر فيه أثر النطق بالتحريك عند البكاء وغيره، وألا لم يقطع، وإن بلغ أوان التكلم، ولم يتكلم- لم يقطع به لسان المتكلم.
قال: وتؤخذ الشفة بالشفة؛ [لأن لها نهاية مضبوطة، ثم حد الشفة] في عرض الوجه: إلى الشدقين، وفي طوله أوجه حكاها الإمام:
أحدها: أنه المتجافي إلى محل الارتتاق، وموضع الارتتاق من الأعلى يقرب من الوترة، ومن الأسفل يقع في محاذاة نهاية العنفقة.
والثاني: انه الذي يستر عُمُورَ الأسنان.
والثالث – عن الشيخ أبي محمد، ويحكي عن نصه في "الأم"، وبه حد أكثر المتكلمين في الشفة- أنه الذي ينبو عند الانطباق؛ كما انه يراعى هذا القدر في الشفرين.
والرابع: أنه القدر الذي لو قطع لم تنطبق الشفة للأخرى.
وقال في "المهذب": هي ما جاوز جلد الذقن والخدين علواً [وسفلا]،
وهذا ما حكاه في "الحاوي"، عن نصه في "الأم"، لكنه زاد فه: مما ارتفع عن الأسنان واللثة.
قال: العليا بالعليا، والسفلى [بالسفلى]؛ طلباً للتساوي.
قال: وقيل: لا قصاص فيهما؛ لأنهما لا ينتهيان إلى عظم؛ فأشبها الباضعة، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد، والأول هو المنصوص في "الأم"؛ كما حكاه في "التهذيب" و"الحاوي".
قال: وتؤخذ اليد باليد، والرجل بالرجل، والأصابع بالأصابع، والأنامل [بالأنامل]، والكف بالكف، والمرفق بالمرفق، والمنكب بالمنكب؛ إذا لم يخف من جائفة؛ لأن لها مفاصل يمكن القصاص فيها من غير حيف؛ فأشبه ما نص عليه [صاحب] الشرع.
وحكى الإمام أن في بعض "تعاليق" شيخه وجهاً بعيداً: أنه لا قصاص في المرفق، ثم قال: وهذا أحسبه غلطاً من المعلق، ولو صح فلعل سببه أنه لا تؤمن الزيادة؛ لأجل تداخل عظم في عظم.
وحكى فيما إذا قطع الجاني العضو، وأجاف، وقال أهل هذا الشأن: إنه يمكننا أن نقطع يد الجاني ويجيفه، مع الاقتصار على مثل تلك الجائفة – أن الذي ذكره الأصحاب في الطريقين: أنا نستوفي القصاص، وليس هذا إجراء قصاص في الجائفة، وإنما محل القصاص اليد وليست الجائفة مقصودة. واستشكله، [ثم] حكى عن شيخه القطع بأنه لا قصاص، وهو ما ادعى الرافعي أنه المشهور، ومقابله هو المجزوم به في "تعليق" القاضي الحسين.
وهكذا القصاص يجري في الفخذ بالفخذ؛ إذا لم يخف من جائفة، ويعرف ذلك بقول أهل الخبرة.
ثم ظاهر كلام الشيخ يفهم أن احتمال خوف الجائفة موجود عند إزالة المنكب، وكلام القاضي أبي الطيب يأباه؛ فإنه قال: إذا قطع من المنكب، فإن
اقتلع [منه] عظم الكتف، وهو المشط – سئل أهل الخبرة؛ فإن قالوا: إذا اقتلع منه لا تصير جائفة، فإنه يقتص منه، [وإن قالوا: تصير جائفة، فالقصاص في ذلك الموضع لا يجب، وله أن يقتص منه] في ذلك المنكب، ويأخذ الحكومة في العظم الذي اقتلعه. وظاهر هذا الكلام يدل على أنه لا يقتص فيما دون المنكب، وكذلك كلام البندنيجي؛ حيث قال: يأخذ القصاص في أقرب مفصل إلى الكتف.
وقال المحاملي في "المجموع" في هذه الحالة: إنه بالخيار بين أن يقتص منه في مفصل الإبط [أو مفصل الكوع] أو مفصل الذراع، ويأخذ حكومة في الباقي وكلام الماوردي، والشيخ في المهذب موافق له.
وهذا الاختلاف يقتضي إثبات وجهين في المسألة، وحينئذ يكونان [كالوجهين] اللذين ذكرهما الأصحاب فيما إذا قطع يده من بعض العضد؛ فإنه لا قصاص في العظم، وله أن يقتص في المرفق، فلو أراد أن يقتص في الكتف فهل له ذلك؟ فيه وجهان حكاهما البغوي وغيره، واختار البغوي الجواز، وهو ما جزم به في "المهذب"، [وجزم] في الإبانة بمقابله؛ وهو المحكي عن الشيخ الحسين الطبري، والذي ذكره ابن الصباغ، لكنه قال: وهذه المسألة لم يذكرها أصحابنا.
ثم على وجه الجواز؛ إذا قطع اليد من الكوع، هل له حكومة ما بين المقدور على قطعه إلى الموضع الذي قطعه؟ فيه وجهان، المذكور [منهما] في "المهذب" و"الحاوي": نعم.
وعن القفال: أنه استشهد لمقابله بما إذا التمست الثيب الجديدة أن يقيم عندها [سبعاً]، فأجابها؛ فإنه يقضي جميع السبع للباقيات – على
وجه – ثم [إن] أسقطنا الحكومة في ذلك فهل تسقط في القدر الذي لم يقدر على الاستيفاء فيه؟ حكى الغزالي فيه وجهين، قال الرافعي: ولم أجدهما لغيره.
قال: وإن قطع اليد من الذراع اقتص في الكف، قال الشافعي: لأنه أقرب إلى المماثلة؛ كذا حكاه البندنيجي، ولأنه داخل في الجناية يمكن القصاص فيه.
قال: واخذ الأرش في الباقي؛ لأنه كسر عظم، لا يمكن القصاص فيه؛ فتعين الأرش؛ وهو الحكومة، قال الماوردي: ولا يبلغ بها دية الكف، وهذا بخلاف ما لو قطع يده من نصف الكف؛ فإنه له أن يقتص في الأصابع، ولا أرش له؛ لأجل الباقي على أحد الوجهين في الشامل؛ لان الكف كله تابع للأصابع؛ فلان يتبعها بعضه أولى؛ وهذا تفريع على ظاهر المذهب في أنه لا قصاص في بعض الكف؛ كما قاله القاضي الحسين، أما إذا قلنا بأن فيه القصاص – كما افهمه لفظ القاضي؛ وهو قياس قول صاحب التقريب في إيجاب القصاص في قطع بعض الكف – فيظهر أن يقال: ليس له قطع الأصابع؛ كما صرح به الأصحاب؛ فيما إذا قطع كفه، فأراد أن يلتقط الأصابع؛ أنه ليس له، وفيما إذا قطع يده من المرفق أنه ليس له القصاص في الكف؛ لإمكان وضع الحديدة في موضع وضعها الجاني، على أن في هذه الحالة وجهاً حكاه القاضي الحسين عن أصحابنا العراقيين: أن له أن يقتص في الكف، ويأخذ الحكومة في الباقي.
وفي "أمالي" أبي الفرج: أن له أن يعدل من مفصل إلى مفصل دونه؛ فإنه كالمسامحة وترك بعض الحق.
ومثل هذه المسائل في الرِّجل، والساق كالذراع، والفخذ كالعضد، والورك كعظم الكتف، صرح به الشيخ وابن الصباغ والماوردي.
فرع: إذا قطع يده من الكفن فالتقط المجني عليه أصابعه – عزر، وهل له أن يعود ويجز كفه؟ فيه وجهان؛ أصحهما في التهذيب: نعم، ومقابله هو نظير ما
جزم به الإمام فيما إذا قطع يده من مفصل؛ فاستوفى من الجاني دونه، وأراد أن يقتص من المفصل؛ كما انه لو طلب حكومته لم يجب إليها، وإن كان البغوي قد ابدى في الحكومة احتمالاً لنفسه.
قال: ولا تؤخذ يمين بيسار، ولا يسار بيمين، ولا خنصر بإبهام، ولا أنملة بأنملة أخرى؛ لأنها جوارح مختلفة المنافع والأماكن، فلم يؤخذ بعضها ببعض؛ كالعين بالأنف.
قال: ولا صحيحة بشلاء، [أي:] وإن رضي؛ لأن الشلاء عضو مسلوب المنفعة؛ فلم يؤخذ به عضو كامل المنفعة؛ كالعين البصيرة لا تؤخذ بالعين العمياء؛ ولان الصحيحة نصف الجملة، والشلاء ليست نصفاً؛ فأخذها استيفاء لأكثر من الحق، وهذا بخلاف الأذن الصحيحة؛ [حيث] تؤخذ بالأذن الشلاء في أصح القولين: أن الأذن الشلاء مساوية للسليمة في المنفعة؛ لأنها تمنع من الهوام وتجمع الصوت؛ كالصحيحة سواء، وليس كذلك في مسألتنا.
ثم شلل اليد: بطلان بطشها، ولا يشترط معه سقوط الحِسِّ على الصحيح.
وعن الشيخ أبي محمد: أن الشلل ينافي الحِسَّ والحركة؛ ولذلك تسمى اليد الشلاء: ميتة.
وقد قال الأصحاب: إن الشلل مما يتصور زوالهن وفرعوا عليه مسائل، وهذا يبين أن الشلل ليس موت العضو.
وحكى الرافعي، عن القاضي أبي الطيب وغيره: أنهم منعوا كونه ميتاً، وقالوا: لو كان كذلك لتغير.
والذي رأيته في "تعليق" القاضي أبي الطيب عند الاستدلال على القصاص في الأطراف، وفي المسالة التي تلي ما نحن فيه: أنها ميتة.
وحكم شلل [بعض الأصابع في منع القصاص – حكم شلل] جميع اليد، لكن في هذه الحالة: للمجني عليه لقط مثل الأصابع التي كانت في كفه، وأخذ
الأرش عن باقي الأصابع التي حصل فيها الشلل، وهل [تجب] له بسبب الكف حكومة؟ فيه وحهان:
أصحهما: الوجوب فيما قابل المقتص فيه من الأصابع، وفيما قابل ما لم يقتص فيه؛ لأجل الشلل، وفي هذه الحالة جزم القاضي الحسين بعدم الاستتباع، وقال: تجب الحكومة؛ بخلاف ما لو امتنع القصاص في بعض الأصابع دون بعض، لا لأجل الشلل؛ فإن الصحيح وجوب الحكومة فيما قابل الأصابع المقتص فيها من الكف، وعدم وجوبها فيما قابل الأصابع التي أخذت ديتها من الكف عند المراوزة، وفرقوا بأن الحكومة ضعيفة فلا تستتبع؛ بخلاف الدية.
والعراقيون والماوردي جزموا بسقوط الحكومة فيما قابل ما أخذت عنه الحكومة من الأصابع؛ لأجل الشلل من الكف؛ كما جزموا بسقوطها إذا اخذت دية بعض الأصابع.
فرع: لو تعدى المجني عليه وقطع اليد السليمة بدون إذن الجاني؛ فهل يقع القطع موقع القصاص؟ قال الإمام: لا؛ لأن ذلك بمثابة قتل الحر بالعبد، والمسلم بالذميّ.
ولو مات الجاني من القطع في هذه الحالة؛ فهل يجب على المجني عليه القصاص؟ قضية ما قاله الإمام: إيجابه، وفي "تعليق" القاضي الحسين احتمال وجهين فيه.
ولو كان ذلك بإذن الجاني، قال الرافعي: نظر؛ إن أطلق، جعل المجني عليه مستوفياً لحقه، ولم يلزمه شيء، وبهذا جزم القاضي الحسين في "تعليقه"، وقال بمثله فيما لو مات من ذلك القطع.
فإن قال: اقطعها عوضاً عن يدك؛ قصاصاً – ففيه وجهان:
أحدهما: أن على المجني عليه [نصف الدية، وعلى الجاني الحكومة، وهذا ما أجاب به في "التهذيب".
والثاني: أنه لا شيء على المجني عليه]، وكأن الجاني أدى عن الرديء
الجيد وأخذه المستحق.
فرع آخر: سليم اليد إذا قطع يداً شلاء، ثم شلت يده، ذكر الإمام أن شيخه قال: خرج القفال في الاقتصاص منه قولين، ثم رجع وقطع بالمنع، وهو الذي رآه الإمام مذهباًز
والجواب في التهذيب: أنه يقتص منه.
وكذا [لو] قطع يداً ناقصة بأصبع، ثم سقطت تلك الأصبع من القاطع.
قال: وتؤخذ الشلاء بالصحيحة؛ لنقصانها عن حقه، ولا أرش له في هذه الحالة، صرح به القاضيان أبو الطيب والحسين.
ثم المسالة مصورة بما إذا قال أهل الخبرة: إن انسداد أفواه العروق ممكن، ولا يخشى من ذلك تلف النفس، أما إذا قالوا: إن قطعها يفتح العروق، ولا تنسد، ويخاف عليه التلف من نزف الدم – فلا يقتص منه؛ لأنه يؤدي إلى أخذ نفسٍ بطرف، وذلك ممتنع، صرح به العراقيون والماوردي والإمام.
وعن شرح مختصر الجويني نقل وجه عن أبي إسحاق: أن الشلاء لا تقطع بالصحيحة مطلقاً؛ لأن الشرع لم يرد بالقصاص فيها.
وفي الجيلي حكاية خلاف في الصورة الثانية، فإنه قال بعد تقرير كلام الشيخ من غير حمله على الحالة الأولى: وقيل: لا تؤخذ الشلاء بالصحيحة إلا إذا قال أهل الخبرة: إن الشلاء إذا قطعت لا يخشى منها الهلاك. ولم أر ذلك في غيره.
ولو تساوت اليدان في الشلل ففي القصاص وجهان:
أحدهما- وهو محكي عن أبي إسحاق -: لا، [ووجهه بأن] العلة في الأبدان تتفاوت، ولا يعرف منتهاها؛ فصار الشللان، مختلفين، غير متماثلين؛ فسقط القصاص فيه.
والثاني- وهو قول ابن أبي هريرة وأكثر أصحابنا؛ كما قال الماوردي-:أن القصاص فيه واجب.
قال: ولا تؤخذ كاملة الأصابع بناقصة الأصابع؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه، وفي
هذه الحالة له أن يقتص من أصابع الجاني التي كان للمقطوع [مثلها] صرح به العراقيون والماوردي، والمراوزة، وإذا فعل ذلك – وجب له حكومة ما قابل [المفقود من أصابعه قبل الجناية من الكف، وهل يجب له حكومة ما قابل] الأصابع التي اقتص عنها؟ فيه وجهان في "المهذب"، وغيره، والإيجاب هو الراجح في الرافعي، والمنسوب إلى أبي إسحاق، ونسبه الماوردي – عند الكلام فيما إذا كان في كف المجني عليه أصبعان شلاوان، واقتص من ثلاثة أصابع- إلى منصوص الشافعي رضي الله عنه، ولم يحك في مسألتنا سواه؛ فإنه قال: للمجني عليه بعد القصاص في مثل ما له من الأصابع: أخذ [أرش الكف] المستبقاة له، ولا يبلغ بأرشها دية أصبع؛ لأنها تبع الأصابع.
وإنما قلنا: إن هذا الكلام يقتضي الجزم بهذا الوجه؛ لأنه ذكر في موضع آخر أن الحكومة الواجبة بسبب الكف لا يبلغ بها دية أصبع، وهذا ظاهر النص في "المختصر"، كما حكاه القاضي الحسين؛ لأن الأصبع الواحدة مقدرة، والكف منتسب لها؛ فنقص حكومتها عن ذلك القدر.
وحكى معه وجهاً آخر: أنه يبلغ بحكومته دية أصبع، ولا يبلغ بها دية الأصابع الخمس.
وعلى هذين الوجهين يتخرج قدر الواجب من الحكومة الواجبة فيما قابل الأصبع المقتص منها من الكف:
فإن قلنا بما حكاه الماوردي، فإذا كان للمقتص منه ثلاث أصابع، فالحكومة تؤخذ عن ثلاثة أخماس الكف، فلا تبلغ حكومة ذلك أرش ثلاثة أخماس أصبع، وقد صرح به الماوردي.
وإن قلنا بالوجه الذي حكاه القاضي – فلا يبلغ بحكومته أرش ثلاثة أخماس جميع الأصابع.
فرع: اليد التي لا أظفار لها – لا تقطع بها [اليد] السليمة –عند العراقيين ونسبوه إلى النص؛ كما حكاه الإمام عنهم، لكن عن الشيخ أبي حامد وغيره:
أنه تكمل فيه الدية.
وقال الإمام على سبيل الاحتمال: القياس جريان القصاص، وإن عدمت الأظفار، وهذا ما جرى عليه الغزالي، وترك المنقول الظاهر.
وفي صاحب "التهذيب" بقياس المنقول، وقال: تنقص عن الدية شيئاً.
فرع: إذا قطع أصبعاً له ثلاث أنامل، ومثله من يد الجاني فيه أربع أنامل؛ فهل يقطع به؟ قال القاضي الحسين في تعليقه: ينظر: فإن لم تزدد أصبع الجاني؛ بسبب زيادة الأنملة – اقتص منه، وإلا فلا.
ولو قطع من له أربع أنامل في أصبع أنملة من أصبعه ثلاث أنامل – كان له القصاص، وأرش ما بين الثلث والربع من دية الأصبع، وهو خمسة أسداس بعير.
وإن قطع أنملتين اقتص منه في أنملتين، ووجب مع ذلك بعير وثلثان.
وإن قطع الثلاث، قطعت منه ثلاث أنامل، وغرم بعيرين ونصفاً.
ولو كان الجاني صاحب الثلاث:
فإن قطع أنملة، لم يقطع منه شيء، ووجب عليه ربع دية الأصبع.
وإن قطع أنملتين، قطعت منه أنملة، ووجب عليه تفاوت ما بين النصف والثلث من دية أصبع؛ وهو بعير وثلثان.
وإن قطع ثلاث أنامل قطع منه أنملتان، وغرم ما بين الثلثين، وثلاثة أرباع دية الأصبع، قال ذلك في "العدة"، وقال إنه إذا قطع جميع الأصبع، يقطع أصبعه ويجب عليه حكومة.
قال: وتؤخذ الناقصة بالكاملة؛ لأن المأخوذ بعض حقه، ويأخذ الأرش عن الأصبع الناقصة؛ لأن كل عضو أخذ قوداً إذا كان [موجوداً أخذت ديته إذا كان][مفقودا]؛ كما لو قطع أصابعه، وكان للقاطع [بعضها].
وقد وافق الخصم – وهو أبو حنيفة – في أخذ الأرش هنا؛ كما حكاه
المحاملي، وعلى هذا فالفرق بينه وبين أخذ الشلاء بالصحيحة؛ حيث لا أرش ثَمَّ إذا رضي بها: أن ثم الصورة كالصورة، والنقصان في الصفة لا يوجب أرشها؛ كقتل الكافر بالمسلم، والعبد بالحر، وهاهنا النقص في الصورة والمعنى؛ فلذلك وجب الأرش.
قال: ولا يؤخذ أصلي بزائد؛ لزيادته على مستحقه، ولا زائد بأصلي؛ لاختلافهما في المحل؛ كما لا يقطع خنصر بإبهام، فلو كان الزائد في محل الأصلي جاز أخذه [به] من غير أرش؛ كما يجوز اخذ الشلاء بالصحيحة، وقد حكى ابن الخلِّ [عن] شيخه أنه قال: مراد الشيخ: أنه لا تقطع يد ذات الأصابع، وفيها واحدة زائدة بذات خمس أصلية، ولا ذات كفين أحدهما زائد بذات كف واحد؛ لزيادته على حقه، وعلى هذا يكون المنع في هذه المسألة والتي قبلها؛ لأجل الزيادة.
ويجوز له أن يلتقط الأصابع الأصلية، وفي دخول حكومة الكف في القصاص وجهان، أصحهما في "تعليق" القاضي أبي الطيب: عدم الدخول؛ فيجب.
وفي "ابن يونس" أن في بعض النسخ: ويؤخذ الزائد بالأصلي، وأنه يمكن حمله على ما إذا كان الزائد في ضمن الأصلي؛ كما لو قطع من له أربع أصابع أصلية وأصبع زائدة- كفَّ من له خمس أصابع أصلية؛ فإن له أن يقتص منه في الكف، ولا أرش له؛ لأن الزائدة كالأصلية في الخلقة.
فرع: إذا كان للجاني ستة أصابع، وللمجني عليه خمس أصليات – لم يجز له أن يقطع يده، وله التقاط الأصليات، [إن كانت الزائدة متميزة، ولا يؤدي التقاط الأصليات إلى تلف الزائدة، وإن كان يؤدي التقاطها] إلى تلف الزائدة – التقط منها ما لا يؤدي إليه. ولو لم تتميز الزائدة عن الأصليات، وقال أهل الخبرة: لا ندري أن الزيادة متفرقة في الكل وشائعة فيها، أو هي واحدة من الست لا بعينها – كان له أن يلتقط ستًّا، فلو التقط خمساً فلا شيء له، ولا عليه، وإن قال أهل الخبرة: الزيادة متفرقة في الكل؛ [بأن] حصلت بها في كل أصبع أدنى
زيادة فليس له – في هذه الحالة- أن يلتقط شيئاً؛ لأن في كل أصبع نقصاناً من وجه، وزيادة من وجه، فإن بادر وقطع الكف ألزمناه حكومة، وإن قطع خمساً منها فقد استوفى أسداس اليد؛ فيبقى له سدس دية [اليد]، ويحط من ذلك حكومة؛ لزيادة الخلقة فيما استوفاه، ولو قطع [واحد أصبعاً] من هذه الأصابع فلا قصاص [عليه]، وعليه سدس دية اليد.
فرع: [هل] يؤخذ الزائد بالزائد؟ ينظر:
إن اختلف محلاهما فلا، وتتعين الحكومة، وإن تساويا في الحجم صغراً وكبراً وطولاً وقصراً أخذ.
وإن اختلفا: فإن كان الزائد ستًّا فهل للاختلاف أثر فيه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا؛ كما في الأصلين وبهذا قال صاحب "التقريب".
والثاني: نعم؛ لأنه ليس له اسم مخصوص حتى يكتفي باتفاق الاسم؛ كما يكتفي في اليمين واليسار، وهذا ما حكاه ابن كج عن ابن سلمة، ونسب الأول إلى ابي إسحاق، وغيره نسب إليه الثاني.
وإن كان الزائد أصبعاً: فمنهم من سكت عن الكلام فيه، ومنهم من أجرى فيه الخلاف، وعلى هذا جرى صاحب "التهذيب" والإمام، وحكيا عمن صار إلى التأثير أننا في السبابة والوسطى ننظر إلى القدر، ونراعي الصورة، وخص الإمام محل الخلاف بما إذا استوت حكومتهما، وقال فيما إذا اختلفت بالتأثير جزماً.
وقطع القاضي أبو الطيب في "تعليقه" بالمنع في حالة زيادة أنامل أحدهما على الآخر.
فإن قلنا بأنه لا أثر للتفاوت في الحجم، وهو الأظهر؛ كما ذكره القاضي الروياني وصاحب "العدة"وغيرهما ونقلوه عن النص- كان للمجني عليه القصاص، ولا حكومة له، إن كانت الزيادة من جهته.
وإن قلنا بمقابله: فإن كان الزائد من جهة الجاني، فلا قصاص، وإن كان من
جهة المجني عليه [كان له] القصاص والحكومة بقدر النقص.
قال: وإن قطع أنملة؛ [فتآكل منها] الكف – أي: وسقط – لم يجب القصاص فيما تآكل؛ لأنه يمكن إتلافه بالمباشرة؛ فلم يقتص منه بالسراية؛ لعدم تحقق العمدية، ولا تحمل العاقلة على هذا دية ما تآكل، وإن كان حكمه حكم الخطأ؛ لأنه سراية جناية عمد؛ هكذا أطلقه بعضهم.
وحكى الماوردي في هذه الصورة وجهين:
أحدهما- عن ابن أبي هريرة -: أن الدية تجب في ماله دية العمد حالة؛ لأنها جناية واحدة؛ فلم يختلف حكمها.
والثاني – عن أبي إسحاق-: أنها تجب مؤجلة على العاقلة، وحكاه صاحب "العدة" أيضاً.
قال: وقيل فيه قول مخرج، أي: من ذهاب الضوء بالموضحة: أنه يجب القصاص؛ لأن كل واحد منهما سراية فيما دون النفس، وقد تقدم الكلام في المسالة، ولا خلاف أن له القصاص في الأصبع، وإذا فعله هل تجب له حكومة لما تحت المقتص منه من الكف؟ فيه وجهان تقدما، ولو أخذ عنه الدية اندرجت حكومة ما تحته من الكف فيه عند العراقيين، وحكى الإمام في هذه الصورة أيضاً وجهين.
وحكم قطع جميع الأصابع، وتآكل الكف منها – حكم قطع الأنملة.
قال: ويؤخذ الفرج بالفرج والشُّفر بالشفر؛ لإمكان ذلك من غير حيف، وهذا ما نص عليه في "الأم"، وهو الأصح في "التهذيب"، وفي "الرافعي": أن العراقيين – كالشيخ أبي حامد، وأتباعه – جزموا بأنه لا قصاص فيهما.
والشفر: مضموم الشين، وهو:[طرف] جانب الفرج، وشفر كل شيء طرفه، ويقال أيضاً: شافر الفرج، وشفيرها.
قال: والأنثيان بالأنثيين، فإن أمكن أخذ [البعض بالبعض]؛ لشمول الآية [له]، ويعرف ذلك بقول أهل الخبرة.
وحكى القاضي أبو الطيب، عن الماسرجسي أنه قال: رأيت رجلاً من فزارة له إحدى الأنثيين، وسئل عن ذلك؛ قال: كانت بي حكة؛ فقعدت في الشمس، فكنت أحك خصيتي إلى أن انشقت؛ فخرجت إحدى البيضتين، وبقيت الأخرى.
وعن عمرو بن شعيب أنه قال:"كان لنا غنم قد خصيناها من جانب اليسار؛ فكانت تلقح".
ولا فرق عندنا في جريان القصاص في الأنثيين بين أن يكون المجني عليه شيخاً أو صبيًّا والجاني شابًّا، ولا بين أن يكون مجبوب الذكر أو عنيناً والجاني سليماً؛ كما ذكرناه في الذكر.
فرع: لو رُضَّ أنثياه ففي "التهذيب": انه يقتص بمثله إن أمكن، وإلا وجبت الدية، قال الرافعي: ويشبه أن يكون [الدق] ككسر العظم.
قال: ويؤخذ الذكر بالذكر؛ لأنه ينتهي إلى حد معلوم؛ فاندرج في الآية، أو نقول به قياساً على قطع الأنف والأذن؛ وكذا يؤخذ البعض بالبعض، ويعتبر بالجزء لا بالمساحة.
وعن أبي إسحاق المروزي منع أخذ البعض بالبعض.
قال: وتؤخذ الأليتان بالأليتين؛ لانتهائهما إلى حد معلوم، وهما اللحمان الناتئان بين الظهر والفخذ، وهذا هو الظاهر عند الأئمة، ومنهم صاحب التهذيب.
وعن المزني: أنه لا قصاص فيهما، وادعى الإمام في الديات اتفاق الأصحاب عليه.
قال: ويؤخذ ذكر الفحل بذكر الخصيّ؛ لأنه مثله، وعدم الإنزال لمعنى في غيره؛ كما قلنا في أخذ أذن السميع بالأصم؛ وكذا يؤخذ [ذكر] الشاب والفحل بذكر الشيخ والخنثى والصبي والعِنين؛ لأنه لا خلل في نفس العضو،
وتعذر الانتشار؛ لضعف في القلب، أو الدماغ؛ كما قاله الرافعي، أو لعلة في الصلب؛ كما قاله القاضي أبو الطيب.
قال: والمختون بالأقلف، أي: الذي لم يختن، وبقيت قلفته عليه؛ لأن غايته زيادة في الخلقة؛ وهي لا تمنع القصاص؛ وكذا يؤخذ الأقلف بالمختونح لان تلك الزيادة مستحقة الإزالة؛ فهي كالمعدومة.
والأقلفن والأغلف، والأغرل، والرغل – بالغين المعجمة في الثلاثة- والأعرم بالعين المهملة بمعنى؛ كما قاله الأزهري وغيره، والجمع: قلف، وغلف، وغرلن ورغل، وعرم.
قال: ولا يؤخذ الصحيح بالأشل؛ لان في اخذه زيادة على القدر المستحق، وشلل الذكر: ألا يتغير في حر باسترسال، ولا في برد بتقلص، بل يبقى على حالة واحدة فيهما.
قال الماوردي: أو ينقبض باليد، فإذا فارقته انبسط، أو ينبسط باليد، فإذا فارقته انقبض.
ويؤخذ الأشل بالأشل؛ بالشرط الذي تقدم.
قال الماوردي: ولا يمنع اختلاف أنواع الشلل من جريان القصاص بينهما؛ لعموم النقص، وعدم المنفعة.
والشل والشلل لغتان بمعنى.
قال: وإن اختلفا في الشلل:
فإن كان ذلك في عضو ظاهر، فالقول قول الجاني؛ لأن المجني عليه يقدر على إقامة البينة على سلامة العضو الظاهر، فإذا تعذر ذلك، كان شبهة في سلامتهما، فكان القول قول الجاني.
قال: وإن كان في عضو باطن فالقول قول المجني عليه؛ لأنه يبعد إقامة السنة عليها؛ لأنها لا تشاهد في العادة، والأصل السلام، وهذا ما نص عليه الشافعي في الحالين، وبه قال أبو إسحاق المروزوي؛ كما حكاه في الحاوي.
ثم كلام البندنيجي والأصحاب يقتضي أنا إذا جعلنا القول قول [المجني عليه، أنه يجب القصاص، وله العفو على الدية، وبه صرح في الحاوي، وقد قال الأصحاب فيما إذا قطع ملفوفاً، وجعلنا القول قول] الولي، لا يجب القصاص؛ لأنه يسقط بالشبهة، ولكن تجب الدية.
وقال القاضي أبو الطيب: يحتمل قوله: أنه يجب القصاص؛ فأي فرق بينهما؟
قال: وقيل: فيهما قولان، أي: بالنقل والتخريج.
وجه قبول قول الجاني قوله صلى الله عليه وسلم:"الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"، والمجني عليه هو المدعي للسلامة، ولأن الجاني هو الغارم؛ فوجب أن يكون القول قوله؛ لأن الأصل براءة ذمته.
ووجه قبول قول المجني عليه: أن الغالب والظاهر صحة ذلك العضو؛ فوجب الحكم بالظاهر وه والصحة، وهذه الطريقة تحكي عن ابن الوكيل، وأنه طردها في إنكار الجاني أصل السلامة، وفي تسليمه السلامة، ودعوى الزوال.
وادعى الماوردي والبندنيجي والمحاملي أنا إذا قلنا بالطريق الأول فمحل قبول قول الجاني جزماً: إذا كان قد أنكر أصل السلامة، أما إذا اعترف بها، وادعى حدوث الشلل بعدها – ففيه قولان منصوصان للشافعي:
أحدهما: أن القول [قول الجاني؛ لأنه يحتمل الأمرين، والأصل براءة ذمته.
والثاني: القول] قول المجني عليه؛ لأن الأصل السلامة، وما يدعيه من طرآن الشلل لم يعلم.
وعلى ما حكاه المحاملي يحمل ما حكاه القاضي أبو الطيب في "تعليقه" – حيث قال: اتفق أصحابنا كلهم: أبو إسحاق المروزي، وأبو عليّ بن أبي هريرة، وابو عليّ الطبري، والقاضي أبو حامد في "الجامع" – على أن الجناية إن كانت في عضو ظاهر، واختلفا في سلامته؛ [فالقول قول الجاني]، [وعلى المجني
عليه البينة قولاً واحداً، وإن كانت على عضو باطن، واختلفا في سلامته فالمسالة على قولين:]
[أحدهما: أن القول قول المجني عليه، وهو الصحيح، وقد اتفق أصحابنا على صحته.
والقول الثاني: أن القول] قول الجاني، وقد صرح بهذا الحمل عنهم الرافعي، وقال: إن ابن القطان وافقهم في ذلك، وإن هذه الطريقة أظهر الطرق.
وعن أبي الطيب بن سلمة: أن الجاني إن انكر أصل السلامة فهو المصدَّق بلا خلاف، وإن سلم السلامة، وادعى حدوث النقصان – فالمصدق المجني عليه بلا خلاف، وبهذا تحصل في المسألة عند الاختصار أربعة أقوال كما جمعها الإمام:
المصدق: الجاني على الإطلاق.
المصدق: المجني عليه على الإطلاق.
الفرق بين الأعضاء الظاهرة والباطنة.
الفرق بين أن تكون السلامة أصلاً وبين أن ينكر وجودها.
والصحيح – وإن ثبت الخلاف؛ كما قال المحاملي والبندنيجي في العضو الظاهر – تصديق الجاني، وفي العضو الباطن: تصديق المجني عليه.
وهذا الخلاف يجري فيما إذا قطع يداً، واختلف هو والمجني عليه في وجود أصابعها حالة الجناية؛ كما صرح به الإمام، ولا يجيء قول التفصيل بين الظاهر والباطن.
وقد استدرك الإمام على من قال: إن الخلاف يجري فيما إذا قال الجاني: ما خلقت لك يد، وقال المجني عليه: خلقت وقطعتها، أو سلم الجاني أصل الخلقة، وادعى سقوطها قبل الدعوى عليه، فإن من أنكر أصل الوجود، أو زعم أنه كان مباناً – فهو منكر لأصل الجناية، ومن ادعيت عليه جناية؛ فأنكرها،
فالقول قوله في إنكارها.
ثم [ما] المعني بالعضو الظاهر [والباطن]؟
قال الإمام: تلقيت من كلام الأصحاب فيه وجهين:
أحدهما: أن الباطن: ما يجب ستره عن الأعين؛ وهو العورة.
والظاهر: ما عدا ذلك.
وأليقهما بفقه الفصل: أن الباطن ما يعتاد ستره مروءة، والظاهر: ما لا يستر غالباً؛ وذلك لأن الفرق بين النوعين مبني على عسر إقامة الشهادة وسهولتها، وما يستر غالباً لا يطلع على حاله؛ فتعسر إقامة البينة فيه.
فرع: إذا جعلنا القول قول الجاني، فأراد المجني عليه إقام البينة على سلامة العضو -ففي كيفيتها قولان حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما: يقيمها على سلامته حالة الجناية.
والثاني: أنه يكفيه أن يقيمها على سلامته قبل الجناية.
قال: وهذا هو الصحيح؛ لأن مذهب الشافعي رضي الله عنه لا يختلف في أن الرجل إذا ادعى على آخر عيناً، وأقام بينة على أنه ورثها، وقال الشاهدان: لا نعلم زوال ملكه إلى أن شهدنا بهذه الشهادة؛ فإنه يحكم له بما ادعى؛ لأن الأصل بقاء ملكه على تلك العين؛ فكذلك هاهنا.
ووافقه على التصحيح كما قاله الرافعي، والروياني وغيره، والمحاملي وابن الصباغ والبندنيجي وغيرهم بنوا لقولين في حالة إنكار الجاني [أصل السلامة على القولين فيما لو اعترف الجاني وغيره] بأصل السلامة، وادعى زوالها، فإن قلنا: القول قوله، فلابد من أن تشهد البينة على السلامة حالة الجناية، ولا يحتاج في هذه الحالة إلى يمين. وإن قلنا: القول قول المجني عليه، كفاه إقامتها على [سلامته قبل الجناية لكنه يحتاج إلى اليمين، ويجوز للشاهد أن يشهد على] سلامة العين، إذا رآه يتبع بصره الشيء زماناً طويلاً، ويتوقى المهالك، دون ما إذا
رآه يتبع بصره الشيء الزمان اليسير؛ لأن ذلك قد يوجد من الأعمى.
وكذلك يجوز للشاهد أن يشهد على سلامة اليد، والذكر برؤية الانقباض والانبساط.
قال القاضي الحسين في التعليق، والإمام: ولو صرحوا بذلك عند القاضي، لم تقبل شهادتهم؛ كما إذا رأوا شيئاً في يد زيد، يتصرف فيه تصرف الملاك، والناس ينسبونه إليه، وليس له دافع، ولا منازع يسوغ له الشهادة له بالملك، ولو صرح به، ردت شهادته.
وكلام القاضي أبي الطيب يقتضي جوازه؛ فإنه قال: إذا نقل الشاهدان ذلك إلى الحاكم، أو لم ينقلاه، لكنهما شهدا بأنهما رأياه بصيراً، أو صحيح اليدين – قبلت شهادتهما، وليس للحاكم أن يسألهما عن [سبب التحمل] ومتى سألهما عن سبب التحمل – كفاهما أن يقولا: تحملنا [الشهادة]، من حيث جاز لنا أن نشهد.
فرع: إذا قطع يد رجل ثم سرت إلى النفس؛ فقال ورثة المقطوع: مات من السراية، وقال الجاني: بل من سم شربه؛ وهو موحٍ – ففيمن القول قوله وجهان في تعليق القاضي الحسين، وأصحهما: قبول قول الوارث؛ وجعله المتولي المذهب.
وهذا بخلاف ما لو ادعى الجاني الاندمال في مدة تحتمله، [وقال الورثة: إنه مات من السراية- فإن المذهب أن القول قول الجاني.
وفيه وجه حكاه المتولي] وقال: إن نص الشافعي –رضي الله تعالى عنه- في القسامة يدل عليه.
وقد تقدم في الباب قبله حكم الاختلاف في صغر الجاني أو جنونه.