الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب العفو والقصاص
قد يقع في بعض النسخ: [العفو] عن القصاص، والصواب الأول، وتقديره: حكم العفو وكيفية القصاص.
قال: وإذا قتل من له وارث - أي: خاص- وجب القصاص للوارث؛ أي: واحداً كان أو أكثر، ذكراً كان، أو أنثى، وارثاً بسبب كالزوجين والمعتق، أو بنسب؛ لما روى ابن سريج الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثُمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وَأَنَا وَاللهِ عَاقِلُهُ، فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ قَتِيلا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: إِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ" خرجه أبو داود والترمذي، وعن أبي هريرة مثله في قوله:"فَمَنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ
…
" إلى آخره، أخرجه البخاري والترمذي، وقال الترمذي: إنه صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة في خطبة خطبها.
ووجه الدليل من الخبر أنه خيَّر الورثة بين الدية والقتل، والدية تثبت [لجميع الورثة] بالاتفاق؛ كما حكاه الشافعي- رضي الله عنه ودلت عليه الأخبار التي سنذكرها؛ فكذلك القصاص.
وحكى القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وصاحب "العدة"، والمتولي، وراء ذلك وجهين:
أحدهما: [أنه للعصبة] خاصة.
ووجهه ابن الصباغ بأن القصاص شرع؛ لدفع العار؛ فاختص بالعصبات؛ كولاية النكاح.
والثاني: أنه لذوي الأنساب من الورثة، دون ذوي الأسباب.
قال ابن الصباغ: وقائله يقول: الزوجية تزول بالموت، وإنما يراد القصاص للتشفي، ودرك الغيظ، وهذا قد يفهم أن مراده بمن يرث بالسبب الزوجان خاصة دون من عداهما، وهو المعتق؛ ولأجل هذا الإفهام؛ اعرض ابن يونس عن هذه العبارة، واقتصر على قوله: وقيل: يختص بغير الزوجين.
وقال المتولي: إنه يتعين للمستحقين بالعصب والولاء، دون الزوج والزوجة.
[وكلام الإمام يفهم أنا إذا قلنا: إنه للعصبات خاصة، هل يندرج في هذا الاسم المعتق، أو لا؛ لأنه قال في حد القذف ذلك، ثم قال: ومن غريب ما حكاه الشيخ في شرح التلخيص أن من أصحابنا من أجرى القصاص مجرى حد القذف؛ حتى تخرج فيه الوجوه التي ذكرناها فيمن يرثهن ويرث طلبه]؟ والمذهب الأول؛ لما ذكرناه، وما ذكروه لا يصح؛ لأنه يثبت للصغار والمجانين بخلاف ولاية النكاح، وقد روى أبو داود أن "رَجُلاً قَتَلَ رجلاً فِي عَهْدِ عُمَرَ – رضي الله عنه – فَطَالَبَهُ أَوْلِيَاؤُهُ بِالقَوَدِ، ثُمَّ قَالَتْ أُخْتُ القَتِيلِ، وَكَانَتْ زَوجَة القَاتِل: قَدْ عَفَوتُ عَنْ حَقِّي؛ فَقَالَ عُمَرُ – رضي الله عنه: اللهُ أَكْبَرُ! عتقَ الرَّجُلُ" ولم ينكر عليه أحد.
تنبيه: قول الشيخ: وجب القصاص للوارث، يفهم أمرين.
أحدهما: انه لا يثبت للموروث، وقد أشار الرافعي – عند الكلام في قتل
المسلم بالكافر- إلى حكاية خلاف في انه يثبت للوارث ابتداء أو تلقياً.
والثاني: نعينه في الوجوب، وقد حكى الأصحاب عن الشافعي في المسألة قولين:
أحدهما- وهوا لأصح عند الشيخ أبي حامد، ومن تابعه كالمحاملي وصاحب العدة، وادعى ابن يونس أنه الجديد-: أن الواجب أحد شيئين، لا بعينه؛ وهما القصاص والدية، قال الماوردي: وكل منهما أصل. وكذلك قال المحاملي، وزاد: انه إذا اختار أحدهما حكمنا بأنه الذي كان وجب بالقتل.
ووجهه: قوله صلى الله عليه وسلم: "فأهله بين خيرتين: أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا"، فتخييره بين القود والدية يقتضي أن يكون كل واحد منهما عن القتل؛ ككفارة الصيد واليمين.
وحكى العزالي أنا على قولنا: الواجب احد الأمرين؛ فهل نقول: القصاص أصل، والدية تابع، أم هما متوازنان من كل وجه؟ فيه تردد. وهذا التردد استنبط مما حكاه الإمام عن الأصحاب فيما إذا عفي عن الدية، [كما سنذكره.
والقول الثاني: وهو الأصح عند القاضي أبي الطيب والروياني وصاحب التهذيب وغيرهم، كما قال الرافعي]، وادعى ابن يونس أنه القديم -: أن الواجب [القود] عيناً، والدية بدل عنه، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك؛ لقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية: [المائدة:45]، وقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [إلى آخرها][البقرة:178] ووجه الدلالة منها من وجهين:
أحدهما: أنه أوجب القصاص على القتلى، ولم يذكر الدية.
والثاني: أنه أوجب الدية بشرط العفو؛ فدل على أن القصاص هو الأصل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "المد قود لا عقل فيه".
وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: "فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ"، فهو أن هذا التخيير لا
يدل على أن كل واحد منهما أصل بنفسه، ويدل على صحة هذا: أن لابس الخف بالخيار بين أن يمسح عليه بشرطه، وبين أن ينزعه ويغسل الرجل، ولا يقال: إن كل واحد من الفعلين أصل بنفسه، بل المسح بدل عن الغسل، وهو الأصل.
وللقولين فوائد تظهر من بعد، إن شاء الله تعالى.
قال: وهو بالخيار بين أن يقتص [وبين أن] يعفو؛ لأنه حق ثبت له؛ فكان مخيراً في استيفائه وإسقاطه كسائر الحقوق، وهذا الخيار على التراخي، صرح به الغزالي وغيره في الشفعة.
فرع: إذا تضرع من عليه القصاص لولي القتيل، وسأله أخذ الدية منه، والعفو عن قصاصه؛ فاخذ الولي المال من غير تصريح بالعفو؛ فهل يكون عفواً عن القصاص عليه؟ فيه وجهان، حكاهما الإمام، عند الكلام في قطع اليمين عن اليسار.
قال: فإن عفا – أي: عن القصاص على الدية – وجبت الدية؛ أي: وإن قلنا: [إن] الواجب القصاص عيناً، ولم يرض الجاني بذلك؛ لعموم الخبر، والحكم بعد موت الجاني قبل العفو عن القصاص كالحكم بعد العفو عن القصاص على الدية.
وعن شرح مختصر الجويني: أن صاحب "الجامع" حكى [قولاً] عن القديم مثل [مذهب] أبي حنيفة أنه: لا يعدل إلى المال إلا برضا الجاني، وإذا مات سقطت الدية.
والمذهب الأول؛ لأنها جناية يجوز أخذ المال فيها؛ فلم يعتبر في جواز أخذه رضا الجاني؛ كما إذا قطع يداً تامة الأصابع [وهو ناقص الأصابع]، وقد سلم أبو حنيفة الحكم فيها، وعلى هذا قال الإمام: إذا كنا نخير الولي على القولين،
يرجع إلى الدية بعد الموت؛ ففي العبارة المشهورة بتزجية القولين تكلف، والصيغة الناصة أن يقال: العمد يقتضي ثبوت المال لا محالة، ولكنه يقتضيه أصلاً معارضاً وموازناً للقصاص، أم يقتضيه على قضيته من التبعية؟ فيه القولان، قال المتولي: والواجب من الدية عند العفو دية المقتول، لا دية القاتل؛ لأنه أبقى روحه؛ بإسقاط حقه من مورثه، ومن أحيا غيره ببذل شيء استحق بدل المبذول؛ كما لو كان مضطراً؛ فأطعمه، يستحق عليه [بذل] بدل الطعام.
ولو مات الجاني قبل العفو والقصاص، أو قتل ظلماً، أو بحق في قصاص أو [حد] زنى، وأوجبنا الدية في تركته – فهل الواجب دية المقتول [أم دية القاتل]؟ فيه وجهان، تظهر فائدتهما فيما لو كان القاتل امرأة، والمقتول رجلاً، أو بالعكس.
ثم الدية تثبت للوارث ابتداء، أم تثبت للموروث في آخر جزء من أجزاء الحياة، وتنتقل إلى الوارث؟ فيه قولان حكاهما العراقيون وغيرهم.
وأصحهما في "الوسيط" و"التتمة" و"التهذيب" و"الزوائد" وغيرها: الثاني؛ بدليل وجوب وفاء ديونه وتنفيذ وصاياه [منها] باتفاق الصحاب خلا أبا ثور.
والذي صححه القاضي الروياني: الأول، ومن قال به أجاب عما استدل به بأن الورثة ملكوا الدية من جهته وبدلاً عن نفسه؛ فقدم حقه على حقوقهم.
[قال البندنيجي في كتاب الوصية: والوجهان جاريان في الغُرة، هل ملكها الجنين في آخره جزء من حياته، أم تثبت للوارث ابتداء]؟
قال: وإن [عفا] مطلقاً ففيه قولان:
أحدهما: لا تجب.
والثاني: تجب، وهو الأصح.
هذان القولان مبنيان على القولين في أن موجب العمد ماذا؟
فالأول مبني على أن موجبه القود عيناً، وقد صححه النواوي.
والثاني مبني على أن موجبه أحد الأمرين، لا بعينه: القصاص والدية.
وهذا العفو عما ثبت له من تخييره في تعيينه، لا أنه اختاره ثم أسقطه، فإنه لو كان كذلك، لم تجب له الدية جزماً، ومثل هذا [ما] ذكر فيما إذا اسلم على عشر نسوة؛ فعين ستة للفراق؛ فإنه يتعين النكاح في الباقيات، وإن أطلق أربعاً منهن كان تعييناً للنكاح فيهن، وسقط حقه.
وفي "مجموع" المحاملي و"تعليق" القاضي أبي الطيب وغيرهما أن أبا إسحاق المروزي حكى – تفريعاً على القول بأن الواجب القود عيناً – قولاً أو وجهاً بوجوب الدية، ووجهه المتولي بأن عفو المستحق معتبر بعفو الشرع، وفي الموضع الذي عفا الشرع عن القصاص – لعدم الكفاءة – تجب الدية؛ فكذلك هاهنا.
وقال المحاملي، وابن الصباغ: إنه ليس بشيء. وتأوَّل الإمام لقائله بأن معنى قولنا: الواجب القود عيناً: أنه الأصل، ولا يثبت المال معه؛ كما لا يثبت البدل مع المبدل إذا ترتب البدل على المبدل، وإذا سقط القصاص؛ جاء وقت البدل؛ فثبت المال ثبوت المبدلات.
وحكى الماوردي القولين على غير هذا النحو؛ تفريعاً على قولنا: إن الواجب القود عيناً، وبعد عفوه من غير تعرض للدية:
أحدهما – وهو الذي نص عليه في جراح العمد -: أن له أن يختار الدية من بعد.
والقول الثاني – وهو الذي ذكره في كتاب اليمين مع الشاهد-: أنه قد سقط حقه من الدية؛ فليس له أن يختارها من بعد.
وأصل هذين القولين إذا أقام المدعي شاهداً، وامتنع أن يحلف معه، وعرضت
اليمين على المنكر، فنكل عنها: فهل ترد على المدعي، أم لا؟ على قولين.
ثم صورة العفو المطلق أن يقول: عفوت عن القصاص، ولم يتعرض لذكر الدية بإثبات، ولا نفي؛ كما أفهمه كلام الشيخ في "المهذيب"، والمحاملي، والإمام وغيرهم.
وكلام ابن يونس يفهم أن صورته ما ذكره القاضي أبو الطيب، وهو أن يقول: عفوت، ولا يذكر شيئاً آخر.
وإنما صرفنا هذا العفو إلى القصاص على قولنا: إن الواجب أحد الأمرين؛ لأنه اللائق بالعفو، ونقل صاحب "التقريب"[وجها آخر في هذه الصورة، وجزم به الشيخ أبو علي والعمراني في "الزوائد"، وقال الرافعي: إن الأظهر أنه يراجع، فإن قال: أردت به القصاص، سقط، وإن قال: أردت به الدية، فهو كما [لو] صرح بذلك ابتداءً. والتفريع عليه سيأتي، وإن [قال] لم تكن لي نية، فوجهان حكاهما الشيخ أبو علي، وأشار إليهما صاحب "التقريب"]:
أحدهما: أنه ينصرف إلى القصاص.
والثاني: انه يقال له: اصرفه الآن بنيتك.
فرع: لو قال: عفوت عما وجب لي عليك بهذه الجناية، أو: عن حقي الثابت عليك، وما أشبهه – سقط حقه من القصاص والدية؛ كما لو عفا عنهما صريحاً؛ كذا حكى عن رواية القاضي ابن كج عن النص.
وفي "الحاوي" أنه إذا قال: عفوت عن حقي، وقلنا: الواجب القصاص عيناً سقط القصاص، ولا تسقط الدية؛ فإن عجل اختيارها، وجبت له، وإن لم يعجله، فعلى القولين؛ يعني: القولين اللذين حكاهما من قبل.
وحكى فيما إذا قال: عفوت عن القصاص والدية، وقلنا: الواجب القصاص عيناً – أن عفوه يصح عن القصاص. وهل يصح عفوه عن الدية؟ فيه وجهان، وجه المنع: أنه لم يقع في وقته، وعلى هذا: إن اختار الدية في الحال، وجبت، وإن اختارها بعد ذلك فعلى ما مضى من القولين.
ولو قال: عفوت على أن لا مال [لي]، فوجهان:
أحدهما: أنه كما لو عفا عنهما.
والثاني: لا تسقط به المطالبة بالمال؛ لأنه لم يسقطه، وإنما شرط انتفاءه وإلى هذا مال الصيدلاني.
فرع: إذا قال: عفوت عن القصاص ونصف الدية، ففي "تعليق" القاضي الحسين: انه لا خلاف في سقوط نصف الدية؛ لأنا إن قلنا: مطلقا لعفو [لا يوجب المال، فهو بهذا العفو موجب نصف الدية، وإن قلنا: مطلق العفو] يوجب المال؛ فهو بهذا العفو اسقط نصف الدية.
وفي "الرافعي" أنه حكى عن القاضي الحسين انه قال: هذه معضلة أسهرت الأجلَّة.
وحكى عن غيره أنها بمنزلة ما لو عفا عن القود ونصف الدية؛ فيسقط القود ونصف الدية.
قال: وإن اختار القصاص، أي: تفريعاً على قولنا: إن الواجب أحد الأمرين، ثم اختار الدية – لم يكن له [ذلك] على المنصوص؛ لأن باختياره القصاص سقط حقه من الدية؛ فلم يكن له الرجوع إليها؛ كما لو اختار الدية؛ فإنه يسقط حقه من القصاص، وليس له الرجوع إليه، وهذا ما صححه في "التهذيب"، فعلى هذا:[هل] يسقط حقه، من القصاص [أيضاً]؟ فيه وجهان، أصحهما في "التهذيب": لا. وقد شبه القاضي الخلاف بالوجهين في أن حق الشفعة والرد بالعيب هل يسقط بالمصالحة عليهما على مال، وقلنا بعدم استحقاق المال، وهما جاريان فيما إذا عفا عن القصاص ابتداء على مال غير الدية، ولم يقبل الجاني ذلك؛ كما حكاه البغوي، لكنا إذا أسقطنا القصاص في مسألة الكتاب بالعفو، لا يرجع إلى الدية، وفي المسالة التي ذكرناها إذا أسقطنا القصاص، وجعلنا عفوه كالعفو المطلق، فيجيء فيه الخلاف السابق، فإن قلنا: لا يسقط حقه
من القصاص، وهو المتعين في استيفاء الحق – فهل له أن يصالح عنه الجاني بالتراضي؟ فيه وجهان جاريان فيما لو فعل ذلك ابتداء بعد اختيار القصاص.
ووجه المنع: أن عقوبة فلم تجز المصالحة عنها على عوض؛ كحد القذف.
ووجه الجواز – وهو ما قال الإمام: لعله الأصح- أن القصاص في مقابلة متقوم بالمال على الجملة، وهو النفس، وتتلف به؛ فتُقَوَّم، وليس كذلك العرض في القذف، وعلى هذا لا فرق بين أن يصالح على جنس الدية أو غير جنسها، أقل منها أو أكثر.
ولو كان المصالح أجنبيًّا، ففي جوازه وجهان، أصحهما: الجواز؛ كما في الخلع معه.
ومقابل المنصوص وجه حكاه العراقيون: أن له الدية.
قال ابن الصباغ: وتكون بدلاً عن القصاص، وليست التي وجبت بالقتل، وهذا كما إذا ادعى حقًّا، وأقام شاهداً، فإنه يحلف معه، فإن امتنع من اليمين، عرضنا اليمين على المنكر، فإن نكل رددنا اليمين، وكانت غير الأولة.
ووجهه المحاملي والشيخ في "المهذب": بأنه استحق أعلى البدلين، فكان له أن يعدل إلى أدناهما. وهذا التوجيه يقتضي أن تكون الدية بدل النفس، لا بدل القصاص، وقد يقوى هذا الوجه بأن في تمكينه من الرجوع إلى الدية ما يدعوه إلى العفو؛ كما قلنا: إنه يجوز له العفو على الدية، مع قولنا: إن الواجب القود عيناً.
وقد ادعى في "الوجيز" أن هذا الوجه الأظهر، وبه جزم في "الحاوي"، والإمام حكى فيما إذا عفا عن الدية صريحاً ثلاثة أوجه:
أحدها: أن المال يسقط بالكلية، [حتى] لو أراد الولي إسقاط القصاص على مال، لم يجد إليه سبيلاً.
قلت: ومن طريق الأولى إذا أطلق العفو عنه، وقد صرح [به] الرافعي.
والثاني: أنه لا معنى للعفو عن المال، مع بقاء [القود]، فالذي جرى منه لغو، وهو على خيرته الأولى، وكأنه لم يعف، والسبب فيه: أنا وإن كنا نثبت المال أصلاً فهو على قضية التبعية للقود؛ فيستحيل أن نثبت له المال مع بقاء القود.
والثالث وهو اختيار الشيخ أبي محمد -: أن العفو عن المال يلحق هذا القول [بقولنا]: موجب العمد القود المحض، وفائدة هذا القول: أنه إن عفا عنه على مال ثبت، وإن عفا مطلقاً ففي ثبوت الدية الطريقان السابقان:
أحدهما: القطع بعدم الاستحقاق.
والثاني: حكاية قولين أو وجهين، كما حكاهما أبو إسحاق.
ثم قال الإمام فيما إذا كانت صيغة الولي: اخترت القصاص -: الوجه أن ينبني على التصريح بإسقاط المال، فإن قلنا: العفو لغون فلا معنى لقوله: اخترت القصاص. وإن قلنا: العفو عن المال له حكم، فقوله:[ما] اخترت القصاص، هل يفيده؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما.
وقد عكس القاضي أبو الطيب الكلام في المسألة في "تعليقه"، فقال: إذا اختار القصاص، ثم عاد واختار الدية – ثبتت له الدية؛ لأنه يريد أن ينتقل من الأعلى إلى الأدنى؛ فجاز له ذلك. وإن اختار الدية، ثم عاد وقال: أنا اختار الآن القصاص- فهل يثبت له القصاص، أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه ليس [له] ذلك؛ لأنه يريد أن ينتقل من الأدنى إلى الأعلى.
والوجه الثاني: أن له ذلك؛ لأن برجوعه قد سقط حقه من الدية، ويكون كأنه اختار القصاص ابتداء.
وإن أصل هذه المسألة ما إذا ادعى إنسان على رجل شيئاً، وله [به] شاهد، فإنه يحلف معه ويستحق، فإن نكل عن اليمين، ورددناه على المدعي
عليه؛ فنكل، فهل ترد على المدعي [أم لا]؟ فيه قولان:
وجه الرد: أن الشاهد قد سقط بنكوله؛ فيكون كاليمين تثبت في حق المدعي عليه ابتداء، وإذا ثبتت في حقه ابتداء، فنكل عنها- ردت على المدعي؛ كذلك هاهنا.
وقد تحصل لك من مجموع ما ذكرناه فيما إذا اختاره القصاص، ثم الدية، أو العكس- ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه إذا اختار أحدهما ليس له العود إليه.
[والثاني: أن له العود إليه]. وقد حكى هذا عن القفال أبو الفرج السرخسي في "أماليه"، وشبهه بما إذا أتلف كُرّ حِنْطَةٍ جيدة على إنسان، ولم يوجد هناك إلا كر حنطة رديئة؛ فإنه يتخير رب الحنطة بين أن يأخذه، وبين أن يعدل إلى القيمة، فلو قال: اخترت أحدهما، لم يبطل به خياره.
والثالث: إن اختار القصاص كان له الرجوع إلى الدية، وإن اختار الدية لم يكن له الرجوع إلى القصاص.
أما إذا قلنا: الواجب القصاص عيناً، لم يكن لعفوه عن الدية معنى، ولا له تأثير في القصاص ولا في الدية؛ لأن القود لم يعف عنه، والدية لم يستحقها مع بقاء القود؛ فلم يصح عفوه عنها، صرح به الماوردي.
فرع: إذا قال: عفوت عن الدية، وصححنا عفوه، فمات الجاني قبل استيفاء القصاص، كان المستحق الدية؛ لفوات القصاص بغير اختياره.
وعن القاضي ابن كج حكاية قول: انه لا رجوع له إلى المال بعد إسقاطه.
واعلم أن جميع ما ذكرناه مفروض فيما إذا كان الوارث مكلفاً غير محجور عليه، أما إذا كان غير مكلف؛ فلا أثر لعفوه، وإذا كان مكلفاً محجوراً عليه – نظر: فإن كان الحجر لحق غيره كالمفلس فله أن يقتص، ولو عفا عن القصاص سقط وأما الدية، فإن قلنا: موجب العمد أحد الأمرين، فله القصاص، وله العفو
عنه، فإن عفا عنه ثبتت الدية، سواء صرح بإثباتها، أو بنفيها، أو سكت عنها، وحينئذ، تصرف إلى غرمائه، ولا يكلف تعجيل القصاص، أو العفو؛ ليصرف المال إليهم.
وإن قلنا: موجب العمد القود، فإن عفا على المال، ثبت، وتعلق حق الغرماء به، وإن عفا مطلقاً، أو على أن لا مال، فإن قلنا: مطلق العفو [لا] يوجب الدية؛ فكذلك الحكم هنا، وإن قلنا: مطلقه يوجبها، فعند الإطلاق تجب، وعند النفي هل تجب؟ فيه وجهان:
المذكور منهما في "مجموع" المحاملي: الوجوب.
وأصحهما في "الرافعي": المنع، لأن العفو مع نفي المال لا يقتضي مالاً؛ فلو كلفنا المفلس أن يطلق؛ ليثبت المال؛ كان ذلك تكليفاً بالكسب، وليس عليه الكسب؛ لما عليه من الديون.
قال الإمام: ويعبر عن الوجهين بأن العفو مع نفي المال – إسقاط للواجب، أو منع للوجوف.
وحكم المريض بالنسبة إلى القدر الزائد على الثلث، ووارث من له القصاص، وعليه دين- حكم المفلس، صرح به القاضي أبو الطيب، والمحاملي.
وعفو المكاتب عن الدية تبرع لا ينفذ [من غير] إذن السيد، وإن أذن فعلى الخلاف في تبرعاته.
وإن [كان] الحجر لحق نفسه كالسفيه، فيصح منه إسقاط القصاص واستيفاؤه، وفيما يرجع إلى الدية حكمه حكم المفلس على أحد الوجهين، وبه أجاب أكثرهم؛ ومنهم: القاضي أبو الطيب، والقاضي الحسين، والمحاملي.
والوجه الثاني: أنه لا يصح عفوه عن المال بحال؛ كالصبي، ويحكي عن القفال أنه قطع به، وعلل بأنا وإن قلنا: مطلق العفو لا يوجب المال؛ فإذا
تصدى له مال لم يجز له تركه؛ كما لو وهب له شيء [أو وصى] له بشيء، فلم يقبل – فوليه يقبل عليه، بخلاف المفلس: لا يقبل عليه الغرماء ولا الحاكم.
وحكى الإمام أنه لو رد لم يصح رده؛ فإن الولي يقبل عليه، ويوقف فيه.
قال: وإن قطع اليدين من الجاني، ثم عفا عن القصاص – لم تجب [له] الدية، [أي:] سواء أطلق، أو عفا عليها؛ لأنه استوفى ما يوازي [بدله] بدل النفس، فلو وجبت له الدية – لأدى إلى أن يأخذ ديتين لنفس واحدة.
وحكى الإمام عن صاحب "التقريب" أن من أصحابنا من جوز له الرجوع إلى المال.
قال الإمام: والمال في هذا المقام: الدية الكاملة.
ثم على الأول – وهو المذهب – هل يسقط حقه عند العفو على الدية؟ يظهر مجيء الوجهين السابقين فيه؛ إذا كان جاهلاً بالحكم.
وهل تجوز المصالحة عن القصاص في هذه الصورة قبل العفو على مال؟ حكى الرافعي فيه وجهين، وصحح الجواز، والقاضي الحسين صحح خلافه، وهو قضية قول الإمام.
والمتولي جعل الخلاف مبنيًّا على أن موجب العمد ماذا؟ فإن قلنا: موجبه القود، صح؛ سواء كان المال من جنس الدية [أو من] غير جنسها.
وإن قلنا: موجبه أحد الأمرين، لم يصح؛ لأنه قد استوفى ما يوازي بدله بدل حقه.
قال: وإن قطع إحداهما، [ثم] عفا عن القصاص – وجب له نصف الدية؛ لأنه أخذ ما يوازي بدله نص الدية؛ فبقي له [النصف]. وهذا إذا عفا على الدية، أو مطلقاً، وقلنا: الواجب أحد الأمرين، أما إذا قلنا: الواجب القود عيناً، فيجيء في استحقاقه الطريقان السابقان:
أحدهما: القطع بعدم الاستحقاق.
والثاني: جريان قولين أو وجهين فيه.
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمرين:
أحدهما: أنه لا فرق [-فيما ذكره-] بين أن تكون دية الجاني قدر دية المجني عليه، أو دونها، أو أكثر منها، وهو متفق عليه، فيما إذا كانت [قدرها، أما إذا كانت] دونها؛ كما إذا كان المقتول رجلاً، والقاتل امرأة؛ ففي الصورة الأولى قال المتولي: إن قلنا: موجب العمد أحد الأمرين، كان له مطالبتها بنصف الدية، وهو الأظهر في "الرافعي"، وإن قلنا: موجبه القود فلا يستحق شيئاً؛ لأنه الدية، وهو الأظهر في "الرافعي"، وإن قلنا: موجبه القود فلا يستحق شيئاً؛ لأنه لو قتلها لجعل مستوفياً لحقه، وقد استوفى منها ما يوازي روحها في الحكم.
وقال في الصورة الثانية: إن قلنا: إن الواجب أحد الأمرين، طالبها بثلاثة أرباع الدية.
وإن قلنا: الواجب القود، طالبها بنصف الدية.
والقاضي أبو الطيب وغيره حكوا الخلاف في الصورتين؛ كما ذكره المتولي، لكنهما لم يثبتاه.
ولو كانت المرأة قد قطعت يدي الرجل وأذنيه؛ فاقتص منها الولي، ثم عفا – لم تجب الدية جزماً.
وعلى الأصل الذي ذكرناه يخرج ما إذا كان المجني عليه مسلماً، والجاني يهوديًّا، وقد قطع الولي يديه:
فعلى القول بأن الواجب أحد الأمرين: يطالبه بثلثي الدية؛ لأن بدل يديه ثلث الدية.
وعلى القول بأن الواجب القود لا يطالب بشيء، وعلى هذا فقس لو كان الولي قد قطع إحدى يدي المجوسي، ولو كان الجاني –حال قطع الولي يديه- مرتدًّا، وقد كان مسلماً حال الجناية فعلى القول بأن الواجب أحد الأمرين، للولي
مطالبته بكل الدية؛ لأن أطراف المرتد لا تقوَّم وعلى القول بأن الواجب القود ليس للولي مطالبته بشيء، لأنه استوفى ما يوازي روحه.
الثاني: أنه لا فرق عند قطع [الولي] اليدين من الجاني – أو أحداهما – بين أن يكون الولي مسيئاً بالقطع أو غير مسيء؛ بأن يكون الجاني قد قطع اليدين من المجني، أو إحداهما، ثم سرت الجراحة إلى نفسه، أو لم تسر، وحزّ الجارح رقبته قبل الاندمال، وهذا لا شك فيه فيما إذا كان الولي مسيئاً بالقطع أو غير مسيء، وقد حصل زهوق الروح بالسراية؛ وكذلك إذا حصل بحز الرقبة بعد القطع وقبل الاندمال على المذهب؛ لأنه لا فرق عند الشافعي بين أن يقطع يده ويسري القطع إلى نفسه، وبين أن يقطع يده، ثم يحز رقبته قبل الاندمال- في أن أرش الطرف يدخل في دية النفس.
وعلى قياس قول الإصطخري وابن سريج- أن أرش الطرف لا يدخل في دية النفس عند حز الرقبة، ويلزم الجاني دية الطرف والنفس بالغة ما بلغت؛ كما حكاه عنهما القاضي أبو الطيب والرافعي، وادعى الإمام أن للشافعي قولاً يدل على موافقته، وانه الأصح في القياس - يجب أن يقطع بوجوب الدية في الصورة الأولى، والثانية إن عفا الولي عليها؛ وكذا إن أطلق العفو على قولنا: إن الواجب احد الأمرين.
وإن قلنا: الواجب القود، فيجيء الطريقان.
ويعضد ذلك أن القاضي أبا الطيب وغيره حكوا عنهما فيما إذا قطع رجل طرف رجل، فعفا عنه، ثم عاد الجاني، وحز رقبته – أنه يجب القصاص في النفس، وإذا عفا عنه، وجب كمال الدية؛ بناء على الأصل المذكور.
وحكوا عن غيرهما في هذه الصورة وجهين آخرين:
أحدهما: أنه لا يجوز القتل؛ لأن القتل حصل بهما؛ فهما كجناية واحدة، فإذا سقط القصاص في بعضها سقط في جميعها، إلا أنه يجب نصف الدية. وادعى
الماوردي أن هذا ظاهر المذهب.
والثاني: أنه يجب القصاص، وإذا عفا عنه وجب نصف الدية؛ لأن القتل ليس من أثر الجناية التي عفا عن القصاص فيها، وإنما هو قتل ابتدأه، فلا يؤثر العفو عن الطرف شبهة فيه. وهذا ما صححه القاضي أبو الطيب، والإمام، والشيخ في المهذب، وغيرهم، ونسبه الماوردي إلى أبي عليّ بن أبي هريرة.
وقال المحاملي والبندنيجي: إنه المذهب.
قلت: وهذان الوجهان في هذه الصورة يمكن ان يُرَتَّبا على وجهين حكاهما صاحب "التقريب"؛ فيما إذا قطع إنسان يد رجل؛ فسرت الجراحة إلى نفسه، فعفا الولي عن القصاص في الطرف – هل يسقط حقه من القصاص في النفس، أم لا؟
فإن قلنا: لا يسقط، وهو القياس؛ كما لو كان مستحق القصاص في الطرف غير مستحقه في النفس – وصورته: أن يقطع يد عبد، ثم يعتق، فتسري الجراحة إلى نفسه؛ فإن القصاص في الطرف للسيد، وفي [النفس] لوارث العبد المعتق – لم يسقط هاهنا.
وإن قلنا: إنه يسقط في النفس؛ نظراً إلى أنه لما عفا عن الطرف؛ فكأنه ضمن سلامة الأطراف، وفي قتله إتلاف أطرافه – فهاهنا يجري الوجهان، ووجه الفرق: أن العفو عن قصاص الطرف في المسالة الثانية وجد قبل استحقاق القصاص في النفس؛ فضعف فيه الإلزام، [وفي الأولى وجد بعد استحقاق قصاص النفس، فقوى الإلزام].
لكن قد حكى الرافعي الجزم بأنه إذا قطع يده، ثم حز رقبته قبل الاندمال، فعفا وليه عن القطع- لا يسقط قصاص النفس. وهذا يبطل الفرق المذكور، والله أعلم.
قال: وإن كان القصاص لنفسين، فعفا أحدهما، أي: عن القصاص – سقط القصاص؛ لتمليكه صلى الله عليه وسلم استيفاء القتل لجملة الأهل؛ فلم يملكه بعضهم.
ولما روي: أن رَجُلاً قَتَلَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ – رضي الله عنه – فَجَاءَ وَرَثَةُ المقْتُولِ؛ فَقَالَتْ أُخْتُ المقْتُولِ – وَهِيَ امْرَأَةُ القَاتِلِ –قَدْ عَفَوتُ عَنْ حَقِّي، فَقَالَ عُمَرُ: عُتِقَ مِنَ القَتْلِ".
ولأن القصاص لا يتبعض، فإذا سقط بعضه – سقط جميعه، ويخالف حد القذف إذا ثبت لجماعة، فعفا بعضهم؛ حيث أثبتناه للباقين – على قول- لان حد القذف ليس له بدل ينتقل إليه، [والقصاص له بدل ينتقل إليه].
قال: [و] وجب للآخر حقه من الدية؛ لما روى زيد بن وهب قال: دخل رجل على امرأته؛ فوجد [عندها] رجلاً؛ فقتلها؛ فاستعدى إخوتها عمر – رضي الله عنه – فقال بعض إخوتها: قد تصدقت؛ فقضى لسائرهم بالدية.
وقد ادَّعى المتولي عند الكلام في العفو المطلق الإجماع على ذلك.
ولا فرق – فيما ذكرناه – بين أن يكون نصيب العافي مثل نصيب الآخر؛ كما إذا كانا ابنين، وهو ما يفهمه كلام الشيخ من بعد، وفيها فرض الشافعي الكلام، أو أكثر؛ كما إذا كن العافي أخا، ومعه أخت، أو أقل؛ كما إذا كان العافي أختاً، ومعها أخ؛ كما صرح به الماوردي.
ثم هل يجب للعافي شيء من الدية؟ ينظر: إن عفا عليها فنعم، وإن عفا عنها فلا، وإن أطلق؛ جاء الخلاف السابق.
قال: وإن أراد القصاص لم يجز لأحدهما أن ينفرد به؛ لأن الشرع أثبته للأهل؛ فلم يكن لأحدهم الاستبداد به؛ لما فيه من الافتيات على الباقين وتفويت حقهم؛ كما في سائر الحقوق، فإن تراضيا على أن يستوفيه أحدهما- جاز وكان المستوفي وكيلاً عن صاحبه في حصته، قال القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وغيرهما: ولا يجوز الاستيفاء إلا كذلك، أو يوكلا وكلاً واحداً يستوفيه.
قال: وإن تشاحّا أقرع بينهما؛ لأنه [ليس] أحدهما بأولى من الآخر؛ فتعينت القرعة؛ حسماً لتنازعهما، فلو خرجت لأحدهما، قال البندنيجي: لم يكن له أن يستوفيه حتى يستأذنه؛ لأن حقه قائم، وهذا ما ادعى القاضي الحسين أنه الأظهر.
وحكى وجهاً آخر: أنه يجوز بعد خروج القرعة بدون إذنه، نعم لو منعه منه، امتنع.
قال: [فإن بدر] أحدهمان فاقتص، أي: بغير قرعة، ولا إذن من صاحبه، ولا حكم [من] حاكم بالمنع منه، وهو عالم بتحريم ذلك ففيه قولان:
أحدهما: [أنه] لا قود عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ" و"ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَلأَنْ يُخْطِئَ الإِمَامُ فِي العَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي العُقُوبَةِ".
والشبهة ثابتة من وجهين:
أحدهما-وهو الظهر عند الإمام والرافعي -: أن له فيه حقًّا، فاندفع عنه
الحد به؛ كما لو وطئ الجارية المشتركة.
والثاني: أن من علماء المدينة، أو أكثرهم – كما قال القاضي أبو الطيب – من ذهب على أن لكل من الورثة الانفراد باستيفاء القصاص، حتى لو عفا بعضهم – كان لمن لم يعف القصاص، وقد حكى الماوردي، والمحاملي وغيرهما ذلك عن مالك أيضاً، واختلاف العلماء في إباحة الفعل الذي لا يدعو قليله إلى كثيره شبهة دارئة للعقوبة؛ [ولذلك لا نوجب] الحد في الأنكحة المختلف فيها.
وهذا القول اختاره المزني، وصححه الرافعي، والقاضي أبو الطيب، والمحاملي، والإمام، والمصنف.
والثاني: يجب عليه القود؛ لأنه استوفى أكثر من حقه؛ فلزمه القصاص فيه؛ كما لو كان له القصاص في الطرف؛ فاستوفى النفس.
وأيضاً: فإن القصاص لهما؛ فإذا استوفاه أحدهما، فقد قتل نصفاً لا يملكه.
قال القاضي أبو الطيب: [فجاز] أن يقاد به؛ كما إذا اشترك رجلان في قتل واحد؛ فإنهما يقتلان به، ويكون كل واحد منهما بنصفه.
وقد وافق القاضي في هذا التعليل المحاملي، والبندنيجي، والماوردي، وابن الصباغ، والمصنف، والرافعي، وإن اختلفت عباراتهم.
وقد ادعى الجيلي أن هذا القول هو الأصح في "الشامل"، و"البسيط"، ولم أره في "الشامل" في موضعه، [و"البسيط" لم أقف عليه فيه] ونسبه المتولي إلى القديم.
أما إذا كان القتل بقرعة، أو بإذن الآخر، أو كان القاتل جاهلاً بالتحريم – فلا يجب عليه [وجهاً] واحداً، صرح به في "التهذيب" في الأخرة.
ولو كان بعد حكم الحاكم بالمنع منه، قال الماوردي: فالصحيح أن عليه القود؛ لنفوذ حكمه برفع الشبهة فيه.
قال وإن عفا أحدهما، ثم اقتص الآخر قبل العلم بالعفو، أو بعد العلم قوبل الحكم بسقوط القود، أي: وقلنا: لا قود عليه إذا اقتص قبل العفو – ففيه قولان:
أصحهما: أنه يجب [عليه] القود.
والثاني: لا يجب.
هذان القولان بناهما الأصحاب على الوجهين في [علة] امتناع القصاص في المسألة السابقة:
فمن قال: العلة ثمَّ شبهة أن له فيه حقًّا، قال بوجوبه هنا؛ لأن بالعفو سقط حقه؛ فأشبه ما لو قتله بعد عفوهما، أو قتله العافي بعد عفوه، فإنه يجب القود قولاً واحداً.
ومن قال: العلة ثَمَّ شبهة أن له فيه حقًّا، قال بوجوبه هنا؛ لأن بالعفو سقط حقه؛ فأشبه ما لو قتله بعد عفوهما، أو قتله العافي بعد عفوه، فإنه يجب القود قولاً واحداً.
ومن قال: العلة ثَمَّ شبهة اختلاف العلماء لم يوجب [القود] هنا؛ لأن اختلافهم موجود، لكن هذه العلة قد ينقضها [ما] إذا قتل المسلم ذميًّا، فقتله وليه؛ فإنا نقتله به، وإن كان الخلاف في قتله ثابتاً، فلا جرم كان الصحيح الأول.
ولا شك في أن الخلاف المذكور في قتله بعد العلم بالعفو مرتب على الخلاف في قتله بعد العفو وقبل العلم به، وأولى بإيجاب القصاص؛ وكذا حكاه البندنيجي، ومن هنا تخرج طريقة قاطعة بإيجاب القصاص فيما إذا قتله بعد العلم بالعفو، وقد حكاها ابن الصباغ وغيره [وأما] إذا قتله بعد العفو وحكم الحاكم بسقوط القصاص – وجب القصاص قولاً واحداً، سواء علم بالعفو أو لم يعلم، صرح به القاضي أبو الطيب والبندنيجي؛ لأن بحكم الحاكم يصير المختلف فيه إجماعاً، فتزول الشبهة.
وهذا الجزم فيه نظر؛ لأنا قد حكينا فيما إذا قتل من [قد] عهده مرتداًّ، وثبت أنه أسلم قبل القتل في وجوب القصاص عليه – قولين، [مع] أنه لا شبهة في إباحة قتله، إلا كونه بني على استصحاب الحال، وذلك موجود هنا.
ووجه الشبه بين الصورتين: أن المقتول معصوم بالإجماع، والقاتل جاهل بحاله، غير معذور في الإقدام.
نعم [الأشبه ما قاله البندنيجي؛ وهو الجزم بوجوب القصاص إذا وقع القتل بعد الحكم، سواء علم بالحكم أو لم يعلم]. وقد يتخيل بينهما فرق؛ وهو أن المرتد كان مهدر الدم بالنسبة إلى القاتل، بل إلى كل واحد، ومنعه من قتله حذر من الافتيات على الإمام؛ لكون الاستيفاء منصبه، ولما كان الأمر كذلك قويت الشبهة في استصحاب المهدر؛ فسقط القصاص، ولا كذلك في مسألتنا، فإن المقتول بالنسبة على القاتل معصوم الدم؛ ولذلك تجب عليه الكفارة والدية؛ فضعفت الشبهة في استصحاب المسقط للقصاص فقط، وهو عدم العفو، فوجب القصاص، [والله أعلم].
قال: وإن قلنا: يجب، فأُقِيد منه، وجبت الدية، أي: دية المقتول أولاً، في تركة القاتل الأول.
ووجهه في الصورة الأولى – كما قاله ابن الصباغ، والرافعي وغيرهما-: أن القصاص لمَّا وجب، لم يقع قتل الجاني قصاصاً؛ كما لو قتله أجنبي، وإذا فات القصاص وجبت الدية.
ووجهه في الصورة الثانية والثالثة: أن بالعفو تعين حق ورثة المقتول أولاً في الدية، ولم يؤخذ، ولا عوض عنها، ثم الدية-في هذه الحالة – تصرف إلى ورثة المقتص وإلى الذي لم يقتص، [كما كانت تصرف إلى] من اقتص وغلى [من لم يقتص] لو مات القاتل، وهذا مجزوم به في طرق الأصحاب.
قلت: وفي في الصورة الأولى نظر؛ لأنهم جعلوا علة وجوب القصاص فيها كون المقتص استوفى أكثر من حقه، أو كونه قتل نصفاً لا يملكه، ومثل ذلك يوجب القصاص؛ كما إذا اشترك اثنان في قتل رجل، وهذا منهم دليل ظاهر على
جعله مستوفياً لحصته من القصاص، وإنما وجب عليه القتل؛ لاستيفائه حق الآخر؛ فكان [يجب أن يقال: لا] يجب [من الدية] في تركة القاتل أولاً إلا قدر نصيب الذي لم يقتص.
نعم، لا يرد ما ذكرته على الإمام، فإنه جعل علة القول بوجوب القصاص أن استيفاءه حق نفسه من القصاص غير ممكن، ولا سلطان له في استيفاء حق أخيه؛ فلا يقع قتله عن جهة القصاص، لا في حقه، ولا حق أخيه، وإذا لم يقع عن جهة القصاص، كان قتله [إياه] بمثابة قتل الأجنبي [والله اعلم].
أما إذا لم يقد منه، فإن عفا عنه مجاناً، فالحكم كما لو أقيد منه؛ وكذا إذا أطلق العفو، وقلنا: مطلقه لا يوُجب الدية، فأما إذا قلنا: مطلقه يوجبها، أو عفا عليها؛ فالحكم كما إذا قلنا: لا يجب القود في حال القتل بعد العفو، وسنذكره.
قال: فإن قلنا: لا يجب، فقد استوفى المقتص حقه:
أما في الصورة الأولى، فظاهر؛ لأن قتل الجميع يتضمن قتل البعض.
وفي "التتمة" أن من علل من أصحابنا سقوط القصاص باختلاف العلماء، لم يجعل لشركة تأثيراً؛ فلا يصير مستوفياً حقه.
وأما في الصورة الثانية والثالثة، فلأن الواجب عليه دية الذي قتله، والواجب له نصف دية مورثه؛ فسقط مما عليه بإزاء ما له، وبقي الباقي في ذمته، وهذا ما جزم به البندنيجي، وهو من الشيخ، ومنه تفرعي على وقوع التقاص بنفس الوجوب.
أما إذا قلنا: لا يحصل إلا بالتراضي، لم يجعل المقتص مستوفياً لحقه إلا به، صرح به الماوردي، والمصنف وغيرهما.
واستشكل الرافعي جريان التقاص في مسألتنا؛ من حيث إن موضع الخلاف في التقاص؛ إذا تساوى الديتان في الجنس والصفة، حتى لا يجري فيما
إذا كان أحدهما حالاًّ والآخر مؤجلاً، أو كانا مختلفين في قدر الأجل، قال: وهاهنا إحدى الديتين ثبتت في ذمة الابن القاتل لوارث الجاني، والأخرى تتع7لق بتركة الجاني، ولا تثبت في ذمة الوارث، وهذا الاختلاف أشد من الاختلاف في قدر الأجل.
قلت: وجوابه أن للشافعي – رضي الله عنه – قولين في أن الدية تثبت للمقتول أولاً، أو للوارث ابتداء؟
فإن قلنا بالأول – وهو الصحيح في الطرق- فمن وجب في ذمته الدين هو الذي وجب له الدين؛ فلا اختلاف.
وإن قلنا بالثاني، فلا نسلم أن هذا الاختلاف اشد من الاختلاف في قدر الأجل؛ لأن الدية- وإن وجبت للوارث ابتداء – فهي متعلق حق أرباب الديون على المورث، ومحل لتنفيذ وصاياه باتفاق الأصحاب، فكانت كأنها له.
نعم، الانتقاد على الأصحاب في شيء ساذكره من بعد، وهذه مادته.
قال: ووجب لأخيه نصف الدية، أي: في الصورة الأولى من غير تفصيل؛ لأنه فات عليه القصاص بدون رضاه؛ فانتقل حقه إلى ما يقابله من الدية؛ كما لو فات بعفو شريكه، وهل هي نصف دية مورثه، أو نصف دية قاتل أبيه؟ يظهر مجيء الوجهين اللذين حكيناهما عن رواية المتولي من قبل، وتظهر فائدتهما فيما لو كان المقتول أولاً مسلماً، وقاتله ذميّ، ثم أسلم، وأما [في الصورة] الثانية والثالثة، فكذلك الحكم إن كان قد عفا على الدية، أو أطلق، وقلنا: العفو المطلق يوجب الدية؛ لما ذكرناه من قبل.
أما إذا قلنا: لا يوجبها، أو صرح بإسقاط الدية عند العفو، فلا يجب [له] شيء.
قال: وممن يأخذ؟ فيه قولان:
أحدهما: من أخيه المقتص، قال الأصحاب: لأن نفس قاتل أبيه كانت مستحقة لهما، فإذا قتله أحدهما فقد أتلف ما يستحقه هو وأخوه؛ فوجب عليه ضمان حق أخيه؛ كما لو كانت لهما وديعة؛ فأتلفها أحدهما، وهذا التعليل يفهم اختصاص هذا القول بالصورة الأولى، مع أنه جار فيها، وفيما عداها؛ كما صرح به الماوردي، وكذا ابن الصباغ، ووجهه بأن القصاص وإن سقط قبل القتل، فالقاتل محل الحق؛ فإذا أتلفه متلف انتقل الحق إليه.
والثاني: من تركه الجاني؛ كما لو قتله أجنبي؛ [و] هذا ما اختاره المزني، وهو الأصح عند النواوي وغيره.
قال الأصحاب: ويخالف الوديعة؛ فإنها غير مضمونة لو تلفت بآفة سماوية، ونفس الجاني أولاً مضمونة لو تلفت بآفة سماوية.
وأيضاً: فإن الوديعة لو أتلفها أجنبي لضمنها لهما؛ فكذلك إذا أتلفها أخوه؛ بخلاف ما لو قتل الجاني [أولاً أجنبيٌّ]؛ فإن ديته تكون لورثته على الأجنبي، ودية المقتول أولاً في تركه قاتله، على أن في هذه الصورة – أيضاً – وجهاً حكاه الرافعي: أن دية المقتول أولاً تجب على الأجنبي، ولا تجب في تركة القاتل.
وقد حكى في مسألة الكتاب عن ابن سريج قول ثالث مخرج: أن الذي لم يقتل من الابنين يتخير بين أن يأخذ حقه من أخيه، وبين أن يأخذه من تركة الجانين وينزلان منزلة الغاصب، والمتلف من يد الغاصب.
تنبيه: محل قولنا: إن نصيب الذي لم يقتص من الدية يأخذه من أخيه إذا كانت دية المقتول أولاً ودية قاتله مستوية، أما لو اختلفتا؛ بأن كان المقتول أولاً مسلماً، وقاتله ذميّ – فإن الواجب على المقتص في هذه الصورة نصف دية الذميّ، وهو سدس دية المسلم، ولأخيه نصف دية مسلم؛ فقد قال ابن الصباغ: لو قلنا: إنه يرجع عليه، لم يمكن أن يرجع عليه بنصف دية المسلم، ولا يمكن أن يرجع على أخيه، وورثة القاتل؛ لأن على هذا القول: أخوه أتلف جميع حقه،
ولم يذكر أصحابنا هذا الفرع، وهذا يدل على تضعيف هذا القول.
فرع: إذا أبرأ الأخ – الذي لم يقتل – أخاه من نصف الدية، أو أبرأه ورثة القاتل منه؛ إن قلنا: إن حق الأخ يأخذه من أخيه، برئ، ولا شيء عليه لأحد، ولا يبرأ بإبراء ورثة المقتص منه. وإن قلنا: إن نصيب الأخ يأخذه من تركة القاتل، لم يبرأ بإبراء أخيه، ويبرأ بإبراء الورثة.
قال المحاملي والبندنيجي والماوردي وغيرهم: وتبرأ الورثة - أيضاً – على هذا القول بإبراء الذي لم يقتص؛ لأن الحق يثبت له عليهم.
وهذا فيه نظر؛ لأن دية المقتول أولاً واجبة في ذمة مورثهم دونهم، وإن تعلقت بالتركة؛ وهي ملكهم، فحصول براءتهم بالإبراء ولا شيء في ذمتهم- لا وجه له، وهذا ما وعدْتُ به من قبل.
فرع: إذا كان المقتص جاهلاً بتحريم القتل، فقد ذكرنا أنه لا قود عليه جزماً، لكن هل حكم هذا القتل حكم الخطأ حتى يتحمل بدله العاقلة، أم لا؟ فيه قولان:
فإن قلنا: تتحمله العاقلة، فالحكم كما إذا قلنا بوجوب القصاص، واقتص منه لكن في هذه [الحالة] يثبت لورثة القاتل أولاً ديته على عاقلة المقتص مؤجلة.
قلت: وينبغي أن يلاحظ فيه جعل الخاطئ مستوفياً لحقه، حتى لا يجب على عاقلته إلا نصف دية القاتل أو لا، على وجه.
وإن قلنا: إن العاقلة لا تتحمله؛ فالحكم كما إذا قلنا بامتناع القصاص في حالة القتل بعد العفو، وقد ذكرناه.
قال: وإن كان القصاص لصبي أو معتوه، حبس القاتل حتى يبلغ الصبين ويفيق المعتوه.
هذا الفصل ينظم حكمين:
أحدهما: بمفهومه، وهو أن وليهما لا يجوز له القصاص ولا العفو على مال.
والثاني: بمنطوقه، وهو حبس القاتل.
ووجه الأول: أنه قتل ثابت غير متحتم لمعين، فلا يجوز استيفاؤه، ولا إسقاطه إلا برضاه؛ كما لو كان غائباً، أو بالغاً؛ ولأن القصد من القصاص [إنما هو] التشفي، ودرك الغيظ؛ وهو لا يحصل باستيفاء الولي؛ فلذلك لم يدخل تحت ولايته.
قال الجيلي: فلو حكم حاكم باستيفاء القصاص فالأصح: أنه لا ينقض حكمه، ولا فرق في الولي بين أن يكون وصيًّا أو حاكماً أو أباً.
وحكم القصاص في الطرف بسبب قطع طرف المولى عليه أو غيره، حكْمُ القصاص في النفس؛ كما صرح به المحاملي في "المجموع"، والقاضي الحسين، والرافعي.
وفي "الذخائر": أن هذا مخصوص بما إذا ثبت له بإرث عن غيره، أما إذا ثبت له بجناية على طرفه فلوليه استيفاؤه.
وحكى عن القفال أن للسلطان استيفاء قصاص المجنون بعد الأب.
وقال الإمام في باب اللقيط: [كان الشيخ أبو بكر يزيفه].
ووجه الثاني: أن في حبس القاتل مصلحة له؛ لأنه لا يقتل في الحال، ومصلحة للمولى عليه؛ لأنه يستوفيه في حالة يصح تشفيه، ودرك غيظه.
وأيضاً فإنه استحق قتله، وفيه إتلاف نفسه ومنفعته؛ فإذا تعذر استيفاء نفسه، أتلفنا منفعته بالحبس إلى أن يمكن إتلاف نفسه.
وكما يحبس القاتل يحبس القاطع لطرف يجب عليه به القصاص كي لا يفوت الحق بتواريه وهربه، والمتولي للحبس: الحاكم دون الولي، ولا يتوقف على طلب الولي؛ صرح به الماوردي.
وهكذا الحكم لو كان المستحق للقصاص في النفس غائباً، دون القصاص
في الطرف – عند ابن الصباغ- لأن للميت في قصاص النفس حقًّا، وللحاكم ولاية على ما يخلفه الميت، بخلاف مال الغائب المكلف.
قال الرافعي: وفي كلام الإمام وغيره ما ينازع فيه، ويشعر بأخذ مال الغائب ويحفظ له، وأنه يحبس لقصاص الطرف [أيضاً].
وفي "الحاوي" أنه لا يحبس لقصاص الغائب إلا باستدعاء منه.
وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسي: أن الشيخ ابا عليّ قال: لا يحبس القاتل؛ لأن الحبس ضم عقوبة إلى القصاص المستحق عليه، وحمل الحبس في كلام الشافعي – رضي الله عنه – على التوقف والإنظار.
والمشهور الأول، وعليه جرى الإمام والقاضي الحسين.
قال: وإن كان الصبي والمعتوه فقيرين [يحتاجان إلى ما ينفق] عليهما، جاز لوليهما العفو على الدية؛ لأن هذا موضع ضرورة؛ فجاز له ذلك؛ كما نقول في بيع عقاره.
وقيل: لا يجوز؛ لأنه يستحق النفقة في بيت المال؛ فلا حاجة إلى العفو عن القصاص، وهذا ما ادعى البندنيجي أنه المنصوص، والجيلي أنه الأصح، وقال الرافعي: إنه الأظهر في الصبي، بخلاف المجنون؛ فإن الظهر فيه الجواز.
قال الماوردي: ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن يعتبر حال الولي: فإن كان مناسباً، أو وصيًّا، لم يصح عفوه؛ [وإن كان حاكماً صحَّ عفوه]؛ لأنه حكم يجوز أن ينفذ باجتهاده.
أما إذا كان فقيراً غير محتاج إلى ما ينفق عليه؛ بان كان له قريب تلزمه نفقته، لم يجز له العفو جزماً، صرح به الماوردي وغيره.
وقد أطلق الغزالي هنا حكاية نص للشافعي –رضي الله عنه – فيما إذا
[وجب القصاص لمجنون: أن لوليه المطالبة بالأرش؛ للحيلولة، وفيما إذا] كان لصبي أنه ليس له، من غير تقييد بحالة الفقر، ووجه ذلك بأن للصبي أمداً ينتظر؛ بخلاف المجنون، وأن من الأصحاب من خرج من كل مسألة إلى الأخرى وجهاً، واتبع في هذا الإطلاق الإمام، وقد وافقهما على ذلك – في المجنون- أبو إسحاق الخراط؛ كما ذكره القاضي الروياني عنه، لكنا حكينا في باب اللقيط: أن محل النص في المجنون إذا كان معسراً.
وعن الإمام نفي الخلاف في الصبي إذا كان عاقلاً مميزاً موسراً؛ فتعين حمل النصين المطلقين هنا على حالة الاحتياج فيهما، وحمل ما أطلقه البندنيجي من حكايته أن قول المنع الذي ذكره الشيخ هنا هو المنصوص على الصبي خاصة؛ كما صرح به في المهذب، وحينئذ يستقيم التخريج، [والله أعلم].
قال: وإن وثب الصبي أو المعتوه، فقتل الجاني، أي: أو قطع طرفه المستحق له – فقد قيل: يصير مستوفيا؛ لأنه وإن منع من القصاص فهو المستحق له، ولا سبيل إلى إحباط فعله؛ فصرف إلى استيفاء حقه؛ وكما لو كان له وديعة عنده، فأتلفها. وهذا ما جزم به القاضي الحسين قبيل باب: عفو المجني عليه في الصبي، وقاسه على ما إذا اشترى قيم الطفل له عبداً؛ فبادر الصبي وقتله قبل القبض؛ فإنه يصير قابضاً، وألحق استيفاء القصاص في الطرف باستيفائه في النفس.
وقال المتولي: إنه الصحيح في استيفاء الطرف في الصبي والمجنون.
قال: والمذهب: أنه لا يصير مستوفياً؛ لأنه ليس من أهل الاستيفاء، ويخالف مسألة البيع والوديعة؛ لأن هناك فعله مضمون، والملك له، فلو لم نجعله مستوفياً لأوجبنا عليه ضمان ملكه، وهنا لا ملك له في محل القصاص؛ بدليل ما لو
أتلفه أجنبي؛ فإنه لا يضمن له – على المذهب – وإذا كان كذلك لم يلزم منه إذا ضمناه أن نضمنه ملك نفسه.
وقد فرق الشيخ في المهذب وغيره من الأصحاب بين ما نحن فيه، وبين الوديعة؛ بأنها لو تلفت من غير فعل [برئ منها المودع، ولو هلك الجاني من غير فعل] لم يبرأ من الجناية؛ فعلى هذا هل تجب دية القاتل المقتول في مالهما، أم على عاقلتهما؟ فيه خلاف مبني على أن عمدهما عمد، أم لا
فإن قلنا: إنه عمد، كانت في مالهما، ويجيء فيها أقوال التقاص.
وإن قلنا بمقابله، كانت على العاقلة مؤجلة، وحقهما في تركة القاتل المقتول حالاًّ.
قال الإمام: وهذا الخلاف غير مذكور في طريقنا، لكن قياس أئمتنا يقتضيه.
و [قد] احترز الشيخ بلفظ:"وثب" وهو القتل بدون إذن الجاني عما إذا قتله بعد تمكينه من نفسه؛ فإنه لا يكون مستوفياً وجهاً واحداً، ويكون فعله مهدراً لا ضمان فيه؛ لتفريطه.
قال أهل اللغة: يقال: وَثَبَ يَثِبُ وَثْباً ووِثَاباً؛ أي: طفر.
وحكم البالغ العاقل إذا قتل الجاني، أو قطع طرفه خطأ – حكم الصبي والمجنون في جريان الخلاف؛ كما صرح به المتولي والغزالي، وأبداه الإمام تخريجاً، لكن الأصح: أنه يجعل مستوفياً، وهو ما جزم به القاضي الحسين في باب القصاص في الشجاج، وقال الإمام ثمَّ: إنه الذي يجب القطع به، وهو الذي تقتضيه علة الأصحاب؛ حيث عللوا قول المنع في الصبي والمجنون بأنهما ليسا من أهل الاستيفاء، وهذا من أهله.
قال: وإن قتل من لا وارث له جاز للإمام أن يقتص، أي: إذا رأى ذلك مصلحة، وله أن يعفو على الدية؛ [أي:] إذا رآه مصلحة؛ لأن الحق للمسلمين؛ فكان للإمام الذي هو نائبهم ان يفعل ما فيه مصلحتهم؛ كولي
الطفل في ماله، وقد تقدم في كتاب اللقيط حكاية قول عن رواية البويطي أنه لا قصاص بقتل من لا وارث له.
قال المتولي: وعلى ذلك يخرج إيجاب القصاص على من قتل من وارثه الخاص لا يستوعب جميع ميراثه، فعلى الأول يجب ويستوفي باتفاقه، واتفاق الإمام معه، ولا يجوز بدون ذلك. وعلى الثاني: لا يجب أصلاً، ولا يجوز للإمام العفو عن القصاص والدية؛ لأنه تصرف لا حظ للمسلمين فيه، فلم يملكه؛ قاله في المهذب.
وقد ذكرت عن القاضي الحسين [وغيره في باب الوصية حكاية وجه: أن الوصية بالزائد على الثلث ممن لا وارث له تنفذ بإجازة الإمام؛ إقامة له مقام الوارث الخاص، وعلى هذا: لا يبعد أن يصح عفوه مجاناً.
قال:] وإن قطع أصبع رجل، أي: عمداً، وهو حر، فقال: عفوت عن هذه الجناية، وما يحدث منها؛ فسرت إلى الكف – سقط الضمان في الأصبع؛ أي: من قود ودية؛ لعفوه عنه بعد الوجوب.
وفي "الحاوي" أنا إذا قلنا: [إن] الواجب القود عيناً، ولا تجب الدية غلا باختيار الدية – لم يصح العفو عن الدية، [إلا أن يصرح بالعفو عنها].
وعن المزني: أنه لا يصح العفو عن الدية]، وإن صرح بالعفو عنها؛ لأنها لا تجب إلا بالاندمال؛ فالعفو عنها وجد قبل وجوبها.
قال الشيخ في "المهذب": وهذا خطأ؛ لأن الدية تجب بالجناية، وإنما يتأخر استيفاؤها إلى الاندمال كالدين المؤجل، وبدل على ذلك أنه لو جنى على طرف عبده، ثم باعه، ثم اندمل، كان أرش الطرف له دون المشتري.
قال: ووجبت دية بقية الأصابع؛ لأنه عفا عنها قبل الوجوب؛ فلم يصح.
قال البندنيجي: ويكون الكف تبعاً للأصل.
وحكى القاضي الحسين وغيره من المراوزة وجهاً؛ أنه يصح؛ نظراً إلى أنه
وجد سبب وجوبها وهو القطع.
وفي كلام القاضي أبي الطيب ما يمنع [أنه سبب] الوجوب؛ كما سنذكره.
ولا يجب القصاص في بقية الأصابع، وإن قلنا بوجوب القصاص بالسراية إلى الأجسام – كما افهمه قول الشيخ – وجبت دية بقية الأصابع؛ [لحدوثها من معفوّ عنه].
أما إذا قال: عفوت عن هذه الجناية، ولم يزد- فقد حكى البندنيجي والمحاملي عن نص الشافعي في "الأم" فيما إذا لم تسر إلى الكف: أنه عفو عن القود، دون العقل؛ لأنه ما عفا عن المال.
وزاد المحاملي في الحكاية عنه: فإذا سقط وجبت الدية. ثم قال: وهذا مفرع على قولنا: إن موجب العمد القود، أما إذا قلنا: موجبه أحد الأمرين، ففي بقاء دية الاصبع احتمالان، وكذلك حكاهما الرافعي عن القاضي الروياني.
وفي "الحاوي": أنه عفو عن القصاص وعن دية الأصبع؛ إذا قلنا: الواجب أحد الأمرين، وإن قلنا: الواجب القود، ولا تجب الدية إلا باختيارها – لم يصح.
قلت: وما ذكروه يظهر جريانه في مسألتنا؛ لأن السريان لا يظهر له معنى في دية الأصبع، وأما دية بقية الأصابع- فتجب، ولا يجيء فيها الوجه السابق؛ نظراً إلى صحة الإبراء عما لم يجب، ولكن جرى سبب وجوبه.
نعم حكى الطبري، والقاضي الحسين وغيرهما من المراوزة وجهاً:[أنها لا تجب]؛ موجهين ذلك بأن السراية تولدت من جناية غير مضمونة؛ فلم تكن مضمونة؛ كما لو قطع يد مرتد، فأسلم، ثم سري – لم تكن تلك السراية مضمونة؛ [وكما] لو قال لشخص: اقطع يدي، فقطعها، فسرى القطع على عضو آخر، وقضية هذا التعليل: أن يطرد هذا الوجه فيما إذا سرت الجناية إلى النفس، لكن القاضي حكى وجوب مازاد على دية الأصبع بلا خلاف.
ثم [من] طريق الأولى – على هذا الوجه – لا يجب القصاص في بقية
الأصابع، وأما على الأول – وهو المذهب – فقد قال الأصحاب: لا يجب القصاص أيضاً، ويجيء على قياس قول أبي الطيب بن سلمة- الذي سنذكره من بعد – أنه يجب إذا قلنا بوجوبه بالسراية إلى الأجسام؛ كذا قال الرافعي.
قال: وإن سرت إلى النفس سقط القصاص، أي: في الجميع، قال المحاملي: لن القصاص يسقط في الأصبع؛ لعفوه، وإذا سقط في البعض سقط في الكل؛ لأنه لا يتبعض.
وقال القاضي أبو الطيب: لأن السراية تابعة للجناية في حكم القصاص؛ بدليل ما لو قطع يد مرتد، ثم اسلم، ثم سرت الجناية إلى نفسه؛ فإنه لا يجب القصاص فيها؛ كما لا يجب في الطرف؛ كذلك هاهنا: لما سقط القصاص في الجناية، سقط في سرايتها، وهذا ما ادعى القاضي الحسين نفي خلافه.
وفي "ابن يونس" أنه قيل بوجوبه في النفس؛ لأن الفعل كان عدواناً، ولم يعف عن النفس. وهذا الوجه حكاه المتولي والقاضي الحسين والإمام وغيرهم عن أبي الطيب بن سلمة فيما إذا قال: عفوت عن هذه الجناية، ولم يزد؛ فسرت إلى نفسه.
وذكر في "الزوائد": أن الطبري حكى عن ابن سلمة أنه حكى ذلك قولاً مخرجاً عن ابن سريج، وعلى هذا قال القاضي ابن كج: لو عفا عن القصاص لم ينك له إلا نصف الدية؛ لسقوط النصف بالعفو عن أرش اليد.
قال: وهل تسقط الدية؟ فقد قيل: إن ذلك وصية للقاتل، أي: في الحكم بدليل اعتبار الدية من الثلث، وفيها قولان قد تقدم توجيههما. فعلى هذه الطريقة:
إن قلنا بقول الصحة، وخرجت من الثلث – برئ منها، وإلا برئ بقدر ما يخرج منه، ووجب الباقي. وإن قلنا بالمنع وجب جميع دية النفس، ولم يبرا منها بالعفو عنها.
قال الماوردي: وسواء ما وجب بالجناية قبل العفو، وما حدث [بعده بالسراية]؛ لأن سراية جنايته إلى النفس قد جعلته قاتلاً.
فإن قيل: إذا أبطلتم الوصية للقاتل، وأبطلتم عفوه عن الدية؛ فهلا بطل عفوه عن القصاص؛ لأنه وصية للقاتل؟!
قيل: لأن الدية مال، والقود ليس بمال؛ بدليل عدم صحة الوصية به لأجنبي، بخلاف الدية.
فإن قيل: لِمَ كان العفو كالوصية إذا سرت إلى النفس على أحد القولين، ولم يكن كالوصية إذا سرت إلى الكف واندمل، قولاً واحداً؟
قال البندنيجي: قلنا: لأنها إذا سرت إلى النفس كان ذلك عطية تجب بالموت؛ فكانت وصية، وإذا اندمل الكف، ولم يمت – كان إبراء عن عقلها؛ فلهذا لم يصح عما لم يجب.
وهذا الجواب فيه نظر؛ لأنا قد ذكرنا أن جعله وصية من طريق الحكم، لا أنه وصية حقيقة، وإذا كان كذلك: فإن كانت مسألة الاندمال مصورة بما إذا صح، ولم يمت من تلك الجراحة ولا من غيرها، فهذه الحالة لا يعتبر فيها التبرعات من الثلث، بل من رأس المال؛ فانقطع عن التصرفات فيها حكم الوصية.
وإن كانت مسألة الاندمال مصورة بما إذا كان في حالة البراءة مريضاً ومات من ذلك المرض – فالإبراء هاهنا في معنى الوصية؛ فلا يحصل بما ذكره جواب، [والله أعلم].
وفي "الجيلي": أن الشيخ أبا محمد في "السلسلة" خرج الخلاف في مسألة الكف على القولين في الوصية للقاتل.
ثم اعلم أن القول [بأن هذا وصية للقاتل] مفرع على أن صورة الوصية
للقاتل أن يجرحه، ثم يوصي له [أما إذا قلنا: صورتها: أن يوصي له]، ثم يجرحه وإذا جرحه ثم أوصى له، يصح جزماً- فقد يقال: يصح هاهنا على هذه الطريقة قولاً واحداً.
ويظهر أن يقال: لا يكون وصية، بل إبراء؛ كما سنذكره.
قال: وقيل: هو إبراء أي: وليس بوصية؛ لأن الوصية تكون بعد الموت. وهذا ما صححه الرافعي والنواوي، ونسبه ابن الصباغ إلى أبي حامد.
قال: فيصح في آرش الإصبع، أي: إن خرج من الثلث – لتحقق العفو عنه بعد وجوبه، أما إذا لم يخرج من الثلث شيء منه، فلا يصح أيضاً؛ لوقوعه في حال الخوف؛ كذلك أشار إليه ابن الصباغ، وصرح به القاضي الحسين، وقال: إن الحك كذلك فيما لو قتله آخر قبل الاندمال.
قال: ولا يصح في النفس، أي: في دية [النفس؛ لأنه عفا] عما لا يملكه؛ على قولنا: إن الدية تثبت للوارث ابتداء، أو عما لم يجب؛ إن قلنا بأنها تثبت للموروث ابتداء، وكل من العفوين لا يصح.
قال: فيجب عليه تسعة أعشار الدية؛ لأن القطع صار قتلاً؛ فواجبه الدية، وقد برئ مما قابل الأصبع منها [وهو العشر؛ فبقي الباقي] وهو تسعة أعشارها.
وقيل: لا يجب له عليه شيء إذا خرج ذلك من الثلث؛ بناء على صحة الإبراء عما لم يجب، [ولكن] جرى سبب وجوبه، ولابد – على هذا – من ملاحظة أن الدية تثبت للقتيل أولاً، ثم تنتقل، أما إذا قلنا: إنها تثبت للوارث ابتداءً فيظهر عدم مجيئه؛ لأن المبرئ غير المستحق، وهذا بخلاف ما إذا قلنا: إن ذلك وصية؛ فإن ذلك لا يلاحظ؛ لكون الدية تنفذ منها الوصايا، وإن قلنا: إن الوارث يملكها ابتداء إلا على قول أبي ثور.
وقد سلك القاضي أبو الطيب، والحسين، وابن الصباغ في هذه المسألة طريقاً
آخر؛ فقالوا: إذا سرى القطع إلى النفس بعد العفو عن الجناية، وما يحدث منها – فالقصاص غير واجب، وأرش الأصبع هل يبرأ منه؟ ينبني على أن الوصية للقاتل [هل] تصح أم لا؟ فإن منعناها لم تصح، وإلا صحت.
وأما القدر الزائد عليه على تمام دية النفسن فهل يصح العفو عنهن أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه عفو عما لم يجب؛ فلا يصح؛ كما لا يصح عفوه عن ارش الكف إذا كانت السراية إلى الكف فقط.
والثاني: يصح، ويفارق ما إذا سرى القطع إلى الكف؛ لأن الجناية على الأصبع لا تكون جناية على الكف؛ بخلاف الجناية على الأصبع؛ فإنها جناية على النفس.
قال الرافعي: وهذا الخلاف بعينه هو الخلاف في أن الإبراء عما لم يجبن وجرى سبب وجوبه، هل يصح؟
قلت: لو كان هو [هو] لكان يبرأ عن أرش الكف؛ لأن سبب وجوبه الجناية على الأصبع قطعاً.
ثم قال القاضي وغيره فإن قلنا: لا يصح العفو، وجب تسعون من الإبل، وإن قلنا: يصح، انبنى على القولين في الوصية للقاتل:
فإن قلنا: لا تصح، صح العفو، وعلى ذلك جرى الرافعي، لكنه سكت عن القول بصحة العفو عن أرش الأصبع إلى تمام دية النفس، ولم يخرجه على الوصية [للقاتل]، وهذا يوهم أنه لا يخرج [عليه].
وحاصل الفرق بين الطريقين: أنا – على طريقة ابن الصباغ، ومن معه – إذا صححنا العفو عن أرش الأصبع، وعن القدر الزائد على أرش الأصبع، فنصححه في أرش الأصبع؛ لكونه إبراء [عما وجب، وفي [القدر] الزائد لكونه
إبراء] عما وجد سبب وجوبه، ونجعل حكمه حكم الوصية للقاتل؛ كما عجلنا حكمه حكمها في اعتباره من الثلث.
[وعلى طريقة الشيخ – وهي التي أوردها المحاملي، والبندنيجي، والماوردي – نصححه في أرش الأصبع على طريقةٍ؛ لكونه وصية، وعلى طريقة؛ لكونه وصية، وعلى طريقة؛ لكونه إبراء، ولا نجعل حكمه حكم الوصية للقاتل، وإن جعلنا حكمه حكمها في اعتباره من الثلث؛ لكونه] صدر في حال الخوف، ونصححه في القدر الزائد- إذا صححناه –لكونه وصية قولاً واحداً.
ثم على طريقة من صحح العفو عن أرش الأصبع، دون القدر الزائدعليه من الدية؛ لكونه إبراء – سؤال لا يكاد يندفع، ويحتاج في تقريره إلى تجديد العهد باصلين:
أحدهما: أن الإبراء عن المجهول غير صحيح على المذهب.
والثاني: أن الجراحات إذا سرت إلى النفس، وأفضى الأمر إلى الدية- لا نظر إلى أروشها، سواء كانت مقدرة أو غير مقدرة، بل الواجب – كما قال الإمام – دية واحدة عن النفس، لا عن الأطراف، ولا يختلف مذهبنا في ذلك.
وإذا كان كذلك، فالإبراء حصل عما قابل الأصبع من الدية، وقد تبينا بآخر الأمر أن لا مقابل لها، ولو قيل بأن لها مقابلاً فليس هو عشراً من الإبل، بل جزء من الدية، وهو مجهول، وقضية ذلك: ألا يصح فيما ادعوه.
فإن قلت: إنما صح عن أرش الأصبع؛ لأني انزل الإبراء منزلة الاقتصاص، وهو لو اقتص في الأصبع، لسقط من الدية العشر؛ فكذلك إذا عفا عن أرشه.
[قلت: غنما سقط العشر عند القصاص فيه؛ لأنه استوفى ما قيمته العشر، مع أنه لا يمكن رده؛ فصار كما لو تسلم عشراً؛ بخلاف الإبراء؛ فإنه يقبل الرد.
فإن] قلتَ: قد أشار ابن الصباغ – في أواخر باب القصاص بالسيف – إلى شيء يمكن أخذ الجواب منه، وهو أنا عند السراية في مثل هذه الحالة لا نسقط ارش الجناية السابقة بالسراية، بل نوجب بالسراية تمامَ الدية.
قلت: قد تقدم لنا خلاف فيما إذا قطع يدهن ثم ارتد ومات في الردة: أن القصاص في اليد هل يجب، أم لا؟ بناء على خلاف حكاه الأصحاب فيما إذا قطع يده فمات:[أنه] يجوز لولي المقتول – عندنا – قطع يده، فإن مات وإلا حزَّ رقبته، وهل يكون قطع اليد مقصوداً في الاستيفاء، [أم يكون القطع طريقاً في الاستيفاء؟].
والثاني: هو الذي فرع عليه الأصحاب؛ كما سنذكره عن ابن الصباغ في الباب، فينبغي أن تنبني هذه المسالة على هذا الخلاف:
فإن قلنا: إن قطع اليد غنما وجب طريقاً في الاستيفاء؛ فالمقصود: النفس؛ فيكون الواجب ديتها؛ [فلا ينظر] إلى ارش الطرف.
وإن قلنا: وجب مقصوداً؛ فحينئذ يتجه الواب.
ولك أن تجيب عن هذا بان محل التردد إذا لم يتعلق بأرش اليد حق لغير مستحق النفس، أما إذا تعلق به حقن فذلك الحق لا يسقط عند السراية إلى النفس، ولا شيء منهن ما أمكن استيفاؤه اتفاقاً، وإن وجبت دية النفس؛ دليله ما لو قطع يد عبد، ثم أعتقن ثم مات، فإن حق السيد لا يسقط، وإذا كان كذلك، فالجاني هاهنا قد تعلق له حق بأرش الأصبع، وهو براءته منه، فإذا صار القطع قتلاً، ووجبت دية النفس، وجب ألا يسقط الحق السابق؛ كما في حق السيد، وبهذا تحرر الجواب عن السؤال، [والله أعلم].
أما إذا كان الجاني عبداً، فإن أضاف العفو إلى السيد؛ بأن قال: عفوت عما وجب لي على سيدك من قود وعقل – قال القاضيان الماوردي، وأبو الطيب: صح عفوه عن الدية، ولم يصح عن القود؛ لوجوب الدية على السيد، والقود على العبد.
وغيرهما بنى صحته في الدية على أن الدية بجناية العبد هل تثبت في ذمته مع تعلقها برقبته، ام لا؟ وفيه قولان:
فإن قلنا: لا تتعلق بالذمة، فالحكم كذلك.
وإن قلنا: تتعلق بالذمة مع الرقبة، لم يصح؛ لانه عفو من غير من عليه العفو.
فإن قيل: فكان يتجه – [على] هذا – أن تكون فائدة العفو انفكاك الرقبة عن التعلق؛ إذا قلنا: إن هذا التعلق قابل للفك؛ كما حكاه الإمام وجهاً هاهنا.
قلت: الإمام أجاب عنه: بأنا إذا قلنا: إن ذلك قابل للفك، فذاك إذا جرد مستحق الأرش القصد إلى قطعه، وهاهنا لم يجرد القصد إليه.
فإن أضاف العفو إلى العبد، قال الماوردي: صح عن القود، ولم يصح عن الدية.
وغيره قال: هذا مفرع على عدم تعلقها بالذمة، أما إذا قلنا بالتعلق، فهو كما لو كان الجاني حرًّا عامداً، وقد عُفي عنه.
وإن أطلق؛ بأن قال: عفوت عن هذه الجناية، وما يحدث منها من عقل وقود – قال القاضي أبو الطيب والماوردي: صح العفو عن القود في حق العبد، وعن الدية في حق السيد، سواء جازت الوصية للقاتل أو لم تجز.
والقاضي الحسين وغيره قالوا: إن الحكم كذلك؛ إذا قلنا: لا تعلق للدية بالذمة؛ فإن قلنا: تتعلق بها، فينبني على أن الوصية للقاتل هل تصح، [أم لا]؟
ثم إذا صححنا العفو؛ فإن قلنا: هو وصية، صح في الجميع، وإن قلنا: هو إبراء، صح في أرش الجناية دون ما حصل بالسراية على الأصح.
ولو كانت الجناية خطأ: فإن كان الجاني عبداً، فلا يخفى حكمه مما مضى، وإن كان حرًّا؛ فإن ثبتت الجناية بإقراره، ولم تصدقه العاقلة – فالحكم فيها كجناية العمد، سواء كان الجاني مسلماً أو ذميًّا؛ لأن وجوبها على الجاني
دون العاقلة. وإن ثبتت بإقراره وصدقته العاقلة، أو بالبينة: فإن كان الجاني ذميًّا، وعاقلته لا يجري عليهم حكمنا كأهل الحرب، أو كانوا مسلمين- فالحكم كذلك؛ كما حكاه الماوردي. وإن كان الجاني مسلماً، أو ذميًّا، وعاقلته من أهل الذمة؛ فإن أضيف العفو إلى العاقلة، صح، سواء قلنا: إن الدية تلاقيهم، أو تلاقي الجاني، ثم تنتقل عليهم، صرح به الرافعي.
قال: وكذا لو قال: عفوت عن الديةن ولم يضف إلى أحد، وعلى هذا إن غلبنا على هذا العفو حكم الوصية نفذ في الجميع، وإن قلنا: هو إبراء، نفذ في القدر الواجب بأول الجناية، دون ما سرت إليه – على الأصح – والقاضي الحسين قال فيما لو عفا عن العاقلة: إن قلنا: إن الوجوب يلاقيهم، صح عفوه فيما باشرته الجناية، وفيما لم تباشره الوجهان. وإن قلنا: إن الوجوب يلاقي الجانين ففيما لم يباشر: الظاهر أنه لا يصح، وفيما باشر وجهان.
وقال فيما إذا أطلق العفو: إن قلنا يجب على العاقلة ابتداء؛ صح فيما باشر، وإن قلنا: يجب على الجاني ابتداء، ففيه وجهان.
وإن أضاف العفو إلى الجاني، فإن قلنا: الوجوب [لا] يلاقيه، فهو لغو، وإن قلنا: يلاقيه، وتتحمله العاقلة – فوجهانا حكاهما القاضي الحسين وغيره، وأظهرهما في "الرافعي" وهو المذكور في "التهذيب"-: أن الجواب كذلك؛ لأنه لا شيء عليه عند العفو؛ فإن الدية كما وجبت انتقلت عنه. والثاني: أنه ينفذ بتقديره أصيلاً، وبتقدير العاقلة كفيلاً، ثم إذا برئ الأصيل برئ الكفيل. وهذا ما جزم به الماوردي، وقال: لا فرق عليه بين أن يجعل العفو في حكم الوصية أو الإبراء سواء أجيزت الوصية للقاتل أوْ رُدَّتْ، لكن إذا جرى عليها حكم الوصية كان عفواً [عن الجميع، وإلا لكان عفواً] عما وجب بابتداء الجناية، دون ما حدث بعدها بالسراية.
ومن قال بالأول قال: هذا الانتقال يشبه الحوالة، لا الضمان.
فرعان:
أحدهما: إذا جنى عليه جناية توجب القصاص، إذا اندملت: كقطع [الأصبع] ونحوها، فعفا المجني عليه على الدية، ثم سرت إلى النفس – لم يجب قصاص النفس، وفيه الوجه المنسوب إلى أبي الطيب بن سلمة.
ولو جنى جناية لا توجب القصاص إذا اندملت؛ كالجائفة، فأخذ المجني عليه الأرش، ثم سرت الجناية إلى النفس- فالمنقول في "المهذب"، و"تعليق" القاضي ابي الطيب، و"التتمة"، وغيرها: أنه يجب القصاص؛ لأن الجناية لم تتولد عن معفو عنه.
وهكذا لو كان المجني عليه قد قال – والصورة هذه -: عفوت عن القصاص، فهو لغو؛ لأن هذه الجناية لا قصاص فيها.
وقال الإمام في الأولى: يحتمل أن يقال: لا يجب القصاص؛ لأن الجائفة، وإن لم يكن فيها قصاص، فهي على سبيل القصاص، وأخذ الأرش مشعر بالعفو؛ [فيجوز أن يجعل شبهة دارئة للقصاص كالعفو] فيما يوجب القصاص، وهذا الاحتمال جريانه في الصورة الثانية [من طريق] الأولى.
الفرع الثاني: إذا قال لرجل: اقطع يدي؛ وهو مالك لأمر نفسه؛ فقطعها، لم يجب عليه قصاص ولا دية؛ لأن الإذن في الإتلاف من مستحق البدل، يتضمن الإهدار؛ كما لو أذن في إتلاف ماله؛ وهذا ما جزم به ابن الصباغ وغيره.
وحكى الغزالي في باب: ضمان الولاة – في وجوب الضمان – خلافاً منشؤه أن المستحق أسقط حقه، ولكنه مُحَرَّم.
فإن سرى القطع إلى نفسه، أو قال له ابتداء: اقتلني؛ ففعل – فلا قصاص على الأصح، وفيه قول تقدمت حكايته عن رواية أبي سهل الصعلوكي: أنه يجب، ووجهه بأمرين:
بأن القصاص يثبت للورثة ابتداء.
وبأن القتل لا يباح بالإذن؛ فأشبه إذن المرأة في الزنى ومطاوعتها لا يسقطه. وهذا التوجيه يقتضي جريان هذا الوجه في الإذن في قطع اليد.
وهل تجب الدية؟ بناه القاضي أبو الطيب وغيره على أنها تثبت للوارث ابتداء، أم تثبت للموروث في آخر جزء من حياته، ثم تنتقل إلى الوارث؟ فعلى الأول تجب، وعلى الثاني- وهو الأصح-: لا، وهذا ما أشار ابن الصباغ إلى القطع به.
قال الرافعي: وقد اعترض على هذا- يعني: الإمام- بأن الدية إذا ثبتت له، وهي عرضة للانتقال إلى الورثة، فيجب ألا ينفذ الإسقاط والإباحة إلا في ثلثها.
وأجيب بأنه لا يسقط بائناً في الحال، وإنما يبيح ما يتضمن إتلافه مالاً لولا الإباحة، والقاضي الحسين قال: كان ينبغي أن يتخرج هذا القول على أن الوصية للقاتل هل تصح، أم لا؟ ولكن أصحابنا ما بنوه.
ثم إذا قلنا بوجوب الدية؛ وجبت الكفارة لا محالة.
وإن قلنا: لا تجب، ففي الكفارة وجهان:
أصحهما: الوجوب، وهو ما ادعى القاضي الحسين نفي خلافه.
ومقابله يخحكي عن تخريج ابن سريج قائلاً بأن حق الله – تعالى- يتبع في الوجوب والسقوط حق الآدمي.
ولو كان الآذن في القطع أو القتل عبداً، فهل يجب القصاص؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي وغيره، ووجه السقوط – وهو الذي جزم به القاضي الحسين في القطع-: أن القصاص يسقط بالشبهة، وقول العبد فيه مقبول-[صرح به ابن الصباغ ثمَّ؛ إذا أقر على نفسه-] فلذلك يؤثر رضاه في سقوطه.
قلت: ولو وجه بأن الحق في القصاص استيفاء وإسقاط للعبد، دون سيده؛ كما حكاه في "المهذب" في باب الإقرار، والقاضي أبو الطيب في أوائل باب الديات – لكان أوجه، لكن الذي حكاه الغزالي في "الفتاوى": أن نصوص الشافعي –رضي الله عنه في كتاب جناية العبد والجناية عليه مصرحةٌ بان حق القصاص في العبد والعفو للسيد، وأن عفو العبد لا ينفذ، وهو ما صرح به
المتولي في هذا الفرع، وفي غيره، [وأشار إليه البندنيجي في باب قذف الأمة]، [وصرح به ابن الصباغ ثمَّ]؛ فلهذا عدل عما ذكرته إلى ما ذكرتم.
وإن لم نوجب القصاص؛ فهل تجب الدية؟ قال في "التتمة": فيه وجهان ينبنيان على أن الأمة إذا طاوعت على الزنى هل يجب المهر أم لا؟ و [في المسألة]. قولان ذكرناهما، والمجزوم به في "الرافعي" الوجوب.
فرع: سكوت المجني عليه عند الإقدام على القطع ظلماً، هل ينزل منزلة الإذن؟ فيه وجهان.
أصحهما: لا؛ كما إذا سكت عند إتلاف ما لهز
والثاني: نعم؛ لأنه سكت في محل يحرم السكوت فيه؛ فدل على الرضا.
قال الإمام: والوجهان مفرعان على الا يجوز الاستسلام، ومأخوذان من تردد الأصحاب في أن الزانية لماذا لا تستحق المهر؟ فمن قائل: لان الوطء غير محترم، ومن قائل: لن التمكين رضا في العرف.
قال: وإن وجب القصاص في النفس على رجل؛ فمات، أو في الطرف؛ فزال الطرف – وجبت الدية؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم "فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ"، ومن خير بين شيئين إذا تعذر أحدهما تعين الآخر؛ ولأن مستحق القصاص سقط حقه منه بغير اختياره؛ فانتقل حقه لبدل محل الاستيفاء؛ وهو الدية؛ كما إذا سقط بعفو بعض الورثة عن القصاص، ولا فرق – في ذلك – بين أن نقول: إن الواجب احد الأمرين، أو القود عيناً.
قال: ولا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان – أي: وإذنه –لان موضع القصاص مختلف فيه؛ فيحتاج السلطان أن يجتهد فيه.
ولأن الاستيفاء إنما يجوز بآلة مخصوصة، والإمام هو المتفقد لها، وأمر الدم خطير؛ فلا وجه لتسليط الآحاد عليه.
فلو فعل دون إذن الإمام، اعتد به، وعزر.
وحكى القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق المروزي، والماوردي عن منصور التيمي المصري من أصحابنا: أن للمستحق الاستقلال باستيفائه؛ لأنه حق ثبت بنص القرآن، وبالإجماع، وما كان هكذا لم يفتقر في استيفائه إلى إذن الإمام.
[وحكى الجيلي في باب حد القذف وجهاً مخرجاً: انه لا يعتد به].
وظاهر المذهب الأول، ويستوي فيه قصاص النفس والطرف.
ويستحب أن يحضر الإمام لاستيفاء القصاص شاهدين؛ لأنه ربما جحد المقتص؛ فقال: لم اقتص، ويطالب بالدية، وينبغي ان يضرب عنقه- إذا استحق القتل – من خلف قفاه، وأن يعصب عينيه؛ لأنه أرفق به، قاله الماوردي.
قال: وعليه أن يتفقد الآلة التي يستوفي بها؛ كي لا تكون مسمومة أو كالة؛ فيحصل للمقتص منه بها مثلة وتعذيب، وليس له ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ".
وفي "تعليق" القاضي الحسين وجه: أنه لا يمنع من استيفاء قصاص النفس بآلة مسمومة؛ إذ المقصود إزهاق الروح.
قال الإمام: ولعله الأصح، وذكر أن محله إذا لم يتحقق تفتيت الجثة به؛ بحيث يمنع من الغسل، أما إذا تحقق ذلك فلا يجوز بلا خلاف.
ثم ما ذكرناه من منع الاقتصاص بالآلة المسمومة [والكالة، إذا لم تكن الجناية بكالة أو مسمومة]، أما إذا كانت به، فهل يقتل بمثله، أما بصارم؟ فيه وجهان:
أشبههما في الكالة؛ [على ما ذكر عن] القاضي الروياني وغيره: الأول، وبه أجاب في "التتمة" فيهما.
وإذا بان بعد الاستيفاء أنه استوفاه بآلة كالة، فلا شيء عليه؛ لأنه أخذ حقه؛ قاله المحاملي، وفي "الرافعي": أنه يعزر.
وإن بان أنه استوفاه بآلة مسمومة، فعليه التعزير؛ لإساءته، ثم ينظر؛ فإن كان في قصاص النفس؛ فلا شيء [آخر يجب][عليه]، وإن كان في قصاص الطرف، ولم يسر؛ فكذلك الحكم، وإن سرى إلى النفس، لم يحب القصاص، ووجب عليه نصف الدية، لكن هل تتحمله العاقلة؟ فيه وجهان في "المهذب"، في باب العاقلة، وغيره، وأشبههما: المنع.
وفي كتاب ابن كج ذكر وجه: أن يجب القصاص، وقال: إنه إذا كان السم موحياً وجب وجهاً واحداً.
قال: فإن كان من له القصاص يحسن الاستيفاء، أي: بأن كان رجلاً قوي اليد والنفس، لا يلحقه جبن عند الاستيفاء، عارفاً بالمفصل؛ كما ذكره الماوردي – مكنه منه؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33]؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم:"فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا
…
"، ولأن فيه تحقيق حكمة شرعية القصاص؛ وهي كمال التشفي والانتقام.
قال المتولي: فلو طلب – على ذلك – أجرة أعطيها؛ لأنه عمل معلوم، ويجوز أن يتبرع [به]؛ فجاز أن يأخذ عليه الأجرة؛ كما إذا قال: أنا أتولى الكيل بأجرة، لا يمنع.
وظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق – في ذلك – بين أن يكون القصاص في النفس، أو في الطرف.
والمذكور في "الشامل"، و"الحاوي"،و"تعليق" البندنيجي، و"المهذب": أن ذلك لا يجري في الطرف؛ لأنه لا يؤمن مع قصد التشفي من الحيف بما [لا] يمكن تلافيه.
وحكى المراوزة وجهاً: أنه يجوز فيه أيضاً، وادعى القاضي الحسين في "تعليقه": أنه المنصوص، والرافعي أن الأول أظهر.
وقد حكى المتولي الوجهين أيضاً؛ فيما إذا أراد أن يوكل شخصاً من جهته، وقال: إن محل الجواز جزماً إذا رضي بأن يستوفيه الجلاد المنصوب لاستيفاء العقوبات، أو غيره ممن يختاره الإمام.
فرع: إذا مكناه من القصاص، فإن ضرب عنقه؛ فأبان رأسه- فقد استوفي حقه؛ وإن ضرب غير العنق – نظر: فإن كان في موضع لا يجوز أن يخطئ فيه، مثل: أن ضرب ساقه، [أو وسطه- فإنه يعزر، وإن كان في موضع يجوز أن يخطئ [في مثله]، مثل: أن ضرب رأسه] أو بين كتفيه؛ فيقال له: ما قصدت بهذا؟ فإن قال: تعمدته – عزر، وإن قال: أخطأت، عزر إن لم يحلف، وإن حلف فلا.
ثم بعد ذلك هل يمكن أن يستوفي القصاص، أم يأمر بالتوكيل؟ الذي دل عليه نص الشافعي هنا: الثاني، وقال في كتاب "الأم" بالأول:
فمن الأصحاب من قال: في المسألة قولان، وعلى ذلك جرى البصريون.
وحكى الإمام الخلاف وجهين، ونسب وجه الجواز إلى قوله أبي بكر الصيدلاني، وقال: إنه الأوجه؛ فإن حقه في التعاطي ينبغي ألا يعطل بعدوان صدر منه.
وقال الشيخ أبو حامد وأتباعه: المسألة على اختلاف حالين: فالموضع الذي اثبت له اختياره، إذا بان للحاكم أنه يحسن القصاص، والموضع الذي قال: لا يجوز له أن يعود، إذا بان للحاكم انه لا يحسنه، وعلى ذلك جرى ابن الصباغ، والمتولي.
وقد حكى الشيخ في "المهذب"، والقاضي أبو الطيب، والماوردي الطريقين، لكن الماوردي فرض محل الخلاف فيما إذا تاب بعد عمده؛ وكذلك المتولي ذكره في صورة العمد، ولم يذكر التوبة، وحكاه الإمام – أيضاً – عن الشيخ أبي
بكر الصيدلاني، وأنه جزم في حالة خطئه بعدم تمكينه، وفرق بأن العامد لم يتبين لنا خرقه في الأمر، ولكنه اعتدى؛ فنهيناه، ونحن له – إن عاد- بالمرصاد.
وأما المخطئ، [فتبين أنه] ليس يحسن الأمر؛ فلا ينفع زجره.
وحكى عن غيره أنه لا فرق، ثم قال مستدركاً: وهذا الوجه ينبغي أن يكون مخصوصاً بما إذا لم ينكر منه الخطأ، ولم يظهر خرقه، فإن ظهر فليمنع بلا خلاف.
قال: وإن لم يحسن الاستيفاء؛ أي: كالمرأة، والذي يجبن عنه، أو بيده ضعف من شلل ونحوه – أمر بالتوكيل؛ لأن فيه وصولاً إلى حقه، وأمناً من الحيف، ولا يوكل في استيفائه من مسلم إلا مسلماً، صرح به الرافعي في قتال أهل البغي، وهذا إذا كان المستحق [واحدا، فلو كان المستحق جمعاً،] وفيهم من لا يحسنه، وتشاحوا في الاستيفاء – أقرع بينهم كما ذكرنا، لكن هل يدخل من لا يحسن في القرعة؟ فيه وجهان، وقيل: قولان؛ أرجحهما عند القاضي ابن كج وأبي الفرج والإمام وغيرهم: المنع، وعن بعضهم: القطع به، وعلى هذا: لو خرجت لقادر فعجز، أعيدت القرعة بين الباقين.
ثم فائدة دخول العاجز في القرعة: أنها إذا خرجت له، استناب، وعند عدم إدخاله فيها لا يجوز استيفاؤه إلا برضاه جزماً.
قال: وإن لم يوجد من يتطوع، استؤجر من خمس الخمس، أي: من سهم المصالح؛ لأن ذلك من المصالح، ولا فرق فيه بين القصاص في النفس، أو الطرف.
قال: وإن لم يمكن؛ [أي]: إما لعدم ذلك، أو لوجوده ووجود ما هو أهم منه – فمن مال الجاني؛ لأن الحق عليه؛ فكانت أجرة الاستيفاء عليه أيضاً؛ كأجرة الكيال في كيل الطعام المبيع.
وحكى الإمام وجهاً عن صاحب "التقريب": أن الأجرة على المستوفي؛ نظراً إلى أن الواجب التمكين، لا التسليم، [وأنه] قرب الخلاف من الخلاف في بيع الثمار على رءوس الأشجار، هل يحصل تسليمها بالتخلية.
وفرق الإمام بين البابين: بأن اليد جزء من الإنسان، والتسليم فيها لا يحصل إلا بالفصل، وليست الثمار كذلك؛ ألا ترى أن الجاني لو فاتت يده بعد التمكين يستقر عليه ضمان الجناية بلا خلاف، وإذا [اجتيحت] الثمار بعد التخلية فمن ضمان من تكون؟ فيها الخلاف المشهور، والخلاف الذي يشبه هذا الخلاف وجهان ذكراً في أن مؤنة الجداد على البائع أو على المشتري؟ تفريعاً على أن الجوائح من ضمان البائع.
وحكى المتولي أنه إذا لم يكن في بيت المال شيء: فإن كان للجاني مال، فعليه الأجرة، سواء كان القصاص في النفس، أو في الطرف، وإن لم يكن له مال نظر: فإن كان القصاص في النفس؛ فيستقرض على بيت المال؛ لأنه لا يرجى حصول مال له بعد ذلك. وإن كان طرفاً فوجهان:
أحدهما: أن الحكم كذلك.
والثاني: يستقرض على الجاني.
وقد سلك الفوراني، والمسعودي في المسألة طريقاً آخر؛ فقالا: إن الشافعي نص في القصاص على أن الأجرة على المقطوع والمقتول، وفي الحدود على أن الأجرة على بيت المال؛ منهم من قررها، ومنهم من تصرف فيهما بالنقل والتخريج، وأثبت فيهما قولين:
أحدهما: [أن] الوجوب على الجاني والمحدود.
والثاني: انه يجب في القصاص على المستحق، وفي الحدود في بيت المال، وعلى ذلك جرى الغزالي.
وغيرهم ممن لم يحك النصين، قال: في مسألة الحدود وجهان:
أحدهما- وهو الذي يقتضيه إيراد الأكثرين تصريحاً وتعريضاً-: أنها تجب
على المحدود والسارق؛ كما قلنا هاهنا: إنها تجب على الجاني، وبهذا قال الماسرجسي.
والثاني: أنها في بيت المال.
ومنهم من خصص الإيجاب على بيت المال بما إذا لم يكن للجاني مال.
ثم إذا وجب ذلك في بيت المال، لم يكن فيه شيء، أو كان ولكن يستوعبه ما هو أهم – فيستقرض الإمام على بيت المال إلى أن يجد سعة.
قال الروياني: أو يستأجر بأجرة مؤجلة أو يسخر من يقوم به على ما يراه.
وإذا قلنا بالصحيح – وهو أن أجرة القصاص على الجاني – فلو قال الجاني على الطرف: أنا أقطعه، ولا أُعْطِي الأجرة- ففي "المهذب" و"العدة": أنه لا يجاب، وهو الأظهر.
وذكر ابن الصباغ والمتولي وجهين فيه، ونسبهما القاضي أبو الطيب إلى رواية أبي الحسن الماسرجسي.
وقال الجيلي: إنهما ينبنيان على ما إذا قالت المرأة: أنا أخدم نفسي، وآخذ أجرة الخادم؛ فإنها هل تجاب؟ فيه قولان.
وليس ما قاله من البناء بظاهر؛ لأنه ليس بِوِزانِ المسألة، وصوابه البناء على ما إذا قال الزوج: أنا أخدمها بنفسي ولا أعطي أجرة الخادم؛ ففي إجابته خلاف سبق.
وحكى الرافعي الوجهين في قصاص الطرف والنفس، وقال: إن الداركي قطع بإجابة الجاني؛ لحصول التعذيب.
وعلى مقابله: إذا قتل نفسه، أو قطع طرفه بإذن المستحق – ففي الاعتداد به عن القصاص وجهان:
أحدهما: لا؛ كما لو جلد نفسه في الزنى بإذن الإمام، وفي القذف بإذن المقذوف.
والثاني: نعم؛ لحصول الزهوق، وإبانة العضو، ويخالف الجلد؛ لأنه قد لا يؤلم نفسه الإيلام المقصود [فلا يتحقق المقصود].
قال: وإن وجب القصاص على حامل، أي: في النفس أو الطرف؛ كما صرح به الرافعي وغيره، وثبت حملها، [أو أمارته] الظاهرة بالبينة، أو بإقرار الولي.
قالك لم يستوف حتى تضع:
أما في النفس؛ فلقوله تعالى: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:33]، أي: لا يقتل غير القاتل، وفي قتل الحامل قتل غير القاتل وهو الحمل، وقد روي:"أن عمر – رضي الله عنه – أمر برجم امرأة أقرت بالزنى، وهي حامل، فردها عليّ – كرم الله وجهه – وقال لعمر – رضي الله عنه: إنه لا سبيل لك على ما في بطنها، فقال عمر: لولا عليّ لهلك عمر".
وقيل: عن القائل لعمر هذا القول معاذ بن جبل، وإن عمر قال له بعد تركها: عجز النساء أن يلدن مثلك يا معاذ! وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ.
وقال الماوردي: إن الأول أثبت.
ولأنه اجتمع هاهنا حقان: حق الطفل، وحق الولي في تعجيل القصاص، ومع الصبر يمكن استيفاء الحقين؛ فكان أولى من تفويت أحدهما.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين؛ فهو إجماع.
وأما في الطرف؛ فلأن فيه إجهاض الجنين، وهو متلف له؛ كما يتلفه استيفاء قصاص النفس.
ثم في [حالة الحمل] تحبس إلى أن يمكن استيفاؤه – كما قلنا – فيمن وجب عليه قصاص لصبي أو معتوه، وهل للولي أخذ الدية في الحال؛ للحيلولة؟ حكى الإمام أن الشيخ أبا بكر الصيدلاني ألحقه بما إذا قطع إنسان أنملة عُليا من شخص، ووسطى لشخص آخر، وامتنع صاحب العليا من تعجيل القصاص، وطلب صاحب الوسطى أخذ المال؛ للحيلولة، وللأصحاب فيها وجهان.
قال الإمام: والوجه إلحاق ذلك بما إذا طلب الولي المال في قصاص الصبي؛ لأن للولادة أمداً ينتظر؛ كما أن للصبي أمداً ينتظر.
وقد قال الأصحاب: إنه لا يجوز للولي ذلك.
ثم إذا أخذ المال، وأراد بعد الوضع رده واستيفاء القصاص – فهل له ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما المتولي، كالوجهين فيما إذا أخذ القيمة عند انقطاع المثل، ثم قدر على المثل.
قال: ويسقي الولد اللبَأ؛ لأن الولد لا يكاد يعيش في الغالب بدونه، ويقال: إنه إذا لم يشربه لا يعيش، وهو ما ذكره القاضي الحسين والمتولي والمصنف، وإذا كان كذلك ففي منعه بقتلها أو بقطع طرفها الذي لا يؤمن معه الموت توصل إلى قتله غالباً أو محققاً.
وفي "الجيلي" أن صاحب "الكافي" قال: لا ينتظر سقي الولد اللبأ؛ لأن الولد يعيش بدون اللبأ؛ كما لو ماتت الأم حال الوضع، وهذا ما ادعى الرافعي ميل القاضي أبي الطيب إليه، وعلق الإمام القول في ذلك؛ فقال: إن تحقق أن الولد لا يعيش بدونه، فتمهل.
واللبأ: مقصور ومهموز، وهو أوائل اللبن بعد انفصال الولد.
قال: ويستغني عنها بلبن غيرها؛ لأن قبل استغنائه بلبن غيرها لو اقتص منها لهلك، وإذا وجب تأخير القصاص – لحفظه مجتنًّا – فأولى أن يجب لحفظه مولوداً.
وعن ابن خيران: [أن] له الاستيفاء، ولا يبالي بذلك؛ كما لو كان للقاتل عيال يضعفون ظاهراً لو اقتص منه، والصحيح الأول، وهذه الحالة تنتهي باستكمال رضاع المولود حولين، وإنما جاز له الاستيفاء بعد استغنائه بلبن غيرها، وإن كان قبل استكمال الحولين؛ كما ذكره الماوردي وغيره، وأشار إليه الشيخ بقوله:"بلبن غيرها"، وادعى الإمام الاتفاق عليه؛ لأن الفائت على
الولد منها مزيد إشفاق وحذر، ولا يقع هذا موقعاً في مقابلة حق آدمي تأخر.
وهكذا الحكم عند الشيخ أبي حامد [فيما] إذا وجب عليها الرجم، [وعليه جرى الشيخ؛ كما سيأتي].
وقال المراوزة، كالفوراني والإمام وغيرهما: من وجب عليها الرجم لا يستوفي منها حتى تنقضي مدة الرضاع، وإن وجدنا من يرضعه، يوجد للطفل كافل مسلم. ويشهد لما ادعوه ما رواه أبو داود في حديث مطول:"أَنَّ الغَامِدِيَّةَ أَتَتْ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَتْ: زَنَيْتُ؛ فَطَهِّرْنِي، وَاللهِ إِنِّي لَحُبْلَى، قَالَ: فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي. فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم[بِالصَّبِيِّ] فَقَالَتْ: قَدْ وَلَدْتُ؛ فَقَالَ: ارْجِعِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ. فَجَاءَتْ بِهِ وَقَدْ فَطَمَتْهُ وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ يَاكُلُهُ؛ فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – بِالصَّبِيِّ فَدُفِعَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأُمِرَ بِهَا؛ فَرُجِمَتْ".
قال الإمام: والفرق بين القصاص و [بين] الجلد: ما تحقق: أن حقوق الله – تعالى- تبنى على المساهلة؛ ولذلك يقبل الرجوع عن الإقرار فيها، وحقوق الآدميين تبنى على التضييق.
وأيضاً: فإن الهارب في الحد لا يتبع، وفي القصاص يتبع.
[وقد حكى القاضي الحسين في باب حد الزنى تأخير الرجم وتعجيل القصاص عن نص الشافعي، وقال: إن من الأصحاب من خرج قولاً في المسألتين، ومنهم من أجرى النصين على ظاهرهما، وفرق بما ذكرناه].
ثم المراد باستغناء الولد بلبن غيرها: أن تتسلمه امرأة ذات لبن، أو توجد بهيمة ذات لبن يحل تناوله، لكن الأولى للولي في الحالة الثانية: الصبر؛ لتقوم
برضاعه؛ فإن لبن النساء أوفق للطفل، وكذا الأولى في حقه إذا لم توجد مرضعة راتبة له ألا يستوفيه؛ لئلا يختلف عليه لبن النساء، وعلى هاتين الحالتين حمل قول الشافعي؛ فإن لم يكن لولدها مرضع فأحب إليَّ لو ترك بطيب نفس الولي حتى توجد له مرضع، فإن لم يفعل قتلت.
ولو علم [أنه] ستوجد له من تترتب لرضاعه، ولكن لم تتعين في الحال، ولا تسلمته – ففي جواز تعجيل قتلها [قبل تعيين] مرضعة وتسلمه وجهان:
أظهرهما في "الحاوي": الجواز، وبه جزم غيره، وقالوا: إذا كان في البلد مرضعة واحدة أجبرت بعد القتل على الرضاع، وإن كان فيه أكثر من واحدة أجبرت واحدة منهن عليه بالأجرة.
فرع: إذا بادر الولي وقتلها قبل استغناء الولد بلبن غيرها، ومات الولد بسبب ذلك- فهل يجب ضمانه؟
قال القاضي أبو الطيب: سمعت الماسرجسي يقول: سمعت أبا عليّ بن أبي هريرة يقول: لا يضمنه؛ لأن أكثر ما فيه أنه حال بينه وبين ما يقوم به؛ فهو [بمنزلة ما] لو أخذ زاده في البرية؛ فمات من الجوع؛ فإنه لا يضمنه، كذلك هاهنا.
قال الماسرجسي: ثم سمعته يقول بعد ذلك: إن عليه القصاص؛ لأنه لو حبس رجلاً في بيت، ومنعه الطعام والشراب؛ فمات – وجب عليه الضمان، كذلك هاهنا. وهذا ما أجاب به الشيخ أبو حامد في "التعليق"، وحكاه القاضي ابن كج عن النص، وحكى الرافعي أن الماسرجسي قال: سمعت ابن أبي هريرة يقول: عليه دية الولد؛ فقلت له: أليس لو غصب طعام رجل في البادية أو كسوته؛ فمات جوعاً أو برداً – لا ضمان عليه، فما الفرق؟ فتوقف، ثم [لما] عاد على الدرس – قال: لا ضمان فيهما جميعاً.
قال: وإن ادعت الحمل، فقد قيل: يقبل قولها؛ لقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ
يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة:228] أي: من حمل وحيض؛ كما قاله أهل التفسير، ومن حرم عليه كتمان شيء وجب [قبول] قوله إذا أظهره، أصله: الشهادة؛ فإن كتمانها حرام بقوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] الآية، وإذا أخبر الشاهد بما عنده قبل قوله.
ولأن للحمل أمارات تظهر وأمارات تخفى، وهي عوارض تجدها الحامل من نفسها، وتختص بمعرفتها، وهذا النوع يتعذر إقامة البينة عليه؛ فقُبِل قولها فيها؛ كالحيض، وهذا ما ادعى القاضي أبو الطيب أنه المذهب، والمنصوص عليه – يعني: في "الأم" – كما حكاه ابن الصباغ، وهو الذي عليه أكثر الأصحاب.
فعلى هذا تحبس، فإن ظهر استمر إلى وقت إمكان [استيفاء القصاص]، وإن لم يظهر في زمن ظهور مخايله استوفى على الأظهر من الاحتمالين عند الإمام؛ فإن انتظار انقضاء مدة الحمل بعيد.
قال الإمام: والقائل بهذا القول ليت شعري ما مذهبه إذا استوجبت المرأة القصاص، ثم وطئت، الوطء على الإعلاق، ولو اعترف السيد بالوطء، ترتب عليه لحوق نسب المولود الذي يأتي به.
وأعرض الغزالي عن ذلك، وقال على هذا القول: لا يجوز استيفاء القصاص من امرأة يغشاها زوجها.
قال الرافعي: وهذا إن كان المراد به إذا ادعت الحمل [فظاهر، وإن أراد أنه يمتنع الاستيفاء بمجرد المخالطة والوطء من غير دعواها الحمل، فهو ممنوع؛] لأن الأصل عدم الحمل؛ فجاز أن يقال: إنما يعدل عن الأصل بشهادة تستند على الأمارات الخفية.
قال: وقيل: لا يقبل حتى تقيم بينة بالحمل، أي: وللولي قتلها قبل ذلك؛ لان حقه واجب على الفور، والحمل يحتمل وجوده، ويحتمل عدمه، مع أنه الأصل، وهي متهمة في الإخبار؛ فلا يترك المحقق بالوهم، وهذا قول أبي سعيد الإصطخري، وصححه في "الوجيز".
وقال الماوردي والقاضي أبو الطيب: إنه خطأ، كما ذكرناه.
ويكفي في البينة المقامة على الحمل أربع نسوة يشهدن به، أو بظهور مخايله.
قال: وإن اقتص منها- أي: الولي – بعد تمكين الإمام، وتلف الجنين من القصاص – وجب ضمانه؛ لأنه مخلوق فات بالجناية، ثم ضمانه – إن وضعته ميتاً – الغُرة، وإن وضعته حيًّا متألماً إلى الموت فالدية الكاملة، والكفارة واجبة في الحالين؛ كما سنذكره، ومحل وجوب الدية محل وجوب الغُرة؛ كما ذكره – ابن الصباغ في كتاب الحدود.
أما إذا لم يتلف منه؛ بأن لم ينفصل منها، أو انفصل حيًّا غير متألم – فلا شيء عليه، سواء مات بعد ذلك أو لم يمت.
قال: فإن كان السلطان علم به، أي: بالحمل، وقد مكن منه؛ كما ذكرناه – فعليه ضمانه؛ لأن الاجتهاد والنظر إليه، والبحث والاحتياط عليه، وفعل الولي صادر عن رأيه؛ فكان كالآلة.
قال العراقيون والماوردي والقاضي الحسين والمتولي: ولا فرق – في ذلك – بين أن يكون الولي جاهلاً بالحال أو عالماً، وفيما ذكروه – في حالة العلم –نظر؛ لنا قد ذكرنا فيما إذا أمر السلطان بقتل رجل ظلماً، والمأمور عالم به: أن الضمان واجب على المأمور؛ لأنه المباشر دون الإمام، والقول بهذا هنا أولى؛ لأن الاستيفاء إلى خيرة الولي؛ بخلاف المأمور [ثَمَّ]؛ فإنه لا يقدر على المخالفة، وقد صار إلى ذلك الفوراني، وجزم به، وحكاه الغزالي وجهاً ثانياً، وصححه، وهو يحكي عن اختيار المزني في كل حال؛ نظراً للمباشرة.
وقال الإمام: إنه الذي صار إليه معظم أصحابنا، وحكى وجهاً ثالثاً عن رواية صاحب "التقريب": أن الضمان عليهما؛ لأن الولي مباشر، وأمر الإمام كالمباشرة؛ يشتركان في الضمان، ثم قال: وهذا غريب لم أره لغيره، وقد رواه غيره عن [رواية] أبي علي الطبري، ورأيته فيما وقفت عليه من "تعليق" البندنيجي أيضاً، وقالوا في حالة الجهل: عن أوجبنا الضمان على الإمام في حالة العلم فهاهنا أولى، وإلا فوجهان قريبان مما إذا أضاف الغاصب بالطعام المغصوب غيره –
على من يستقر الضمان؟ وظاهر المذهب وهو المنصوص: الأول، وعلى هذا فتحمل العاقلة عن الإمام الضمان غرة كانت أو دية، وعليه الكفارة.
قال القاضي الحسين والإمام: ولا يجب في بيت المال من ذلك شيء؛ لأنه عامد غير مخطئ. وهذا ما حكاه الرافعي.
وحكى ابن الصباغ ذلك طريقة في استيفاء الحد في حالة الحمل، مع علم الإمام بهن ثم قال: والظاهر من المذهب أن في ذلك قولين:
أحدهما: أنها على عاقلته.
والثاني: أنها في بيت المال؛ لأن إتلاف الجنين إنما هو عمد خطأ لا يتمحض فيه عمد؛ فجرى مجرى الخطأ.
قال: وإن لم يعلم، وعلم الولي ذلك – فعليه ضمانه؛ لأنه المباشر، والسلطان لما لم يعلم به، لم يكن مسلطاً له على الإتلاف.
وعن صاحب "التقريب" رواية وجه: أنه على الإمام؛ لتقصيره في البحث، قال الإمام: وهو غريب لم أره لغيره.
فعلى المذهب: تتحمل العاقلة عن المقتص الغرة أو الدية دون الكفارة؛ وكذا إذا أوجبنا عليه الضمان في الحالة السابقة.
وعلى وجه صاحب "التقريب": الغرة أو الدية هل تتحملها العاقلة عن الإمام، أو تجب في بيت المال؛ لكونه مخطئاً؟ فيه قولان يأتيان في الكتاب. فإن قلنا الوجوب في بيت المال فالكفارة هل تجب فيه أيضاً، أم على الإمام؟ فيه قولان في "تعليق" البندنيجي، والقاضي أبي الطيب. وغيرهما أثبت الخلاف وجهين، ويظهر جريانهما في الحالة السابقة أيضاً؛ بناء على ظاهر المذهب.
قال: وإن لم يعلم واحد منهما، فقد قيل: على الإمام؛ لتقصيره، وهذا قول ابن أبي هريرة، وبه قطع الشيخ أبو حامد، مال إليه الشيخ أبو محمد، وجزم به صاحب الفروع.
قيل: على الولي؛ لقوة جانبه بالمباشرة، وهذا قول أبي إسحاق المروزي، وحكى غير الشيخ في المسالة وجهاً ثالثاً أنه عليهما؛ لوجود التسليط من الإمام،
والمباشرة من الولي، وهو قول البصريين.
وإذا جمعت ما ذكر في المسألة واختصرت، قلت: على من يجب الضمان؟ فيه أربعة أوجه:
على الإمام مطلقاً.
على الولي مطلقاً.
عليهما مطلقاً.
على الإمام إن كان عالماً، أو كانا معاً جاهلين، وعلى الولي إن اختص الإمام بالجهل، وهذا حكم الضمان.
وأما الإثم، فهو يتبع العلم.
أما إذا كان المقتص نائب الإمام، أو جلاده، دون الولي: فإن كان جاهلاً فلا ضمان عليه بحال، وإن كان عالماً ففيه خلاف مرتب على الخلاف في الولي إذا كان عالماً، وأذن له الإمام، والجلاد أولى بألا يضمن؛ لأنه لا يستوفي لنفسه شيئاً، وإنما يمتثل مأموراً يمضيه الإمام؛ ولذلك قيل: إنه آلة سياسة الإمام، وإنه لا كفارة عليه إذا جرى على يده قتل بغير حق.
وعن أبي الفرج السرخسي حكاية وجهين في أنه هل يعتبر علم الولي والمباشر الجلاد، وقال: أصحهما: أنه يعتبر حتى إذا كان عالماً، وهما عالمان، يكون الضمان عليهم أثلاثاً.
ولو كان الولي هو المستوفي بغير إذن الإمام فهو آثم، وتجب الغُرة أو الدية على عاقلته بكل حال، والكفارة في ماله.
واعلم أنه ليس المراد مما أطلق من العلم بالحمل وعدمه حقيقة العلم؛ فإن ذلك لا يتصور، وإنما المراد به الظن المؤكد بظهور مخايله، وعبر عنه الإمام بأن قال: إن كان عالماً بالحمل علم منه.
قال: وإن قتل واحد جماعة، أو قطع عضواً من جماعة، أي: على الترتيب –
أقيد بالأول لسبق حقه، وأخذت الدية للباقين، أي: بعد استيفاء الأول القود؛ لأن من خير بين أمرين إذا تعذر أحدهما تعين الآخر، أصله: إذا تعذر القصاص بعفو [بعض] الورثة؛ فإنه يتعين للباقين الدية؛ فعلى هذا: إن اتسعت تركته لجميع الديات فذاك، وإلا قسمت بين الجميع، ولا نظر إلى المتقدم والمتأخر.
ولو عفا الأول عن القصاص أقيد للثاني، وهكذا، وليس لولي الثاني أن يجبر ولي المقتول أولاً على المبادرة إلى القصاص أو العفو عنه، بل حقه على التراخي كما [كان]، قال الإمام: ولا يختلف المذهب في ذلك.
ولو كان ولي المقتول أولاً غائباً، أو صبيًّا أو معتوهاً، حبس القاتل إلى حضور الغائب، وكمال حال غيره وهو ما رواه الربيع.
وفي "الإبانة" و"العدة" حكاية قول عن رواية حرملة: أن للثاني أن يقتص، ويصير الحضور والكمال مرجحاً.
ولا فرق – فيما ذكرناه – بين أن يثبت القتل أو القطع مرتباً بالبينة، أو بإقرار الجاني وتكذيب بعض الأولياء نعم، في حالة الإقرار قال أبو الفرج: للولي المكذب تحليفه.
والاعتبار في التقدم بوقت الموت، [لا بوقت] الجناية، حتى لو قطع يد إنسان، وقتل آخر؛ فسرى القطع إلى النفس – فحق التقدم بالقتل للثاني، صرح به القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما.
وفي التتمة حكاية وجه: أنه يقتل بالمقطوع يده؛ لأن القطع صار قتلاً.
فرع: إذا قتل أجنبي هذا القاتل، قال المتولي: فالمذهب أن الدية تؤخذ وتقسم بين الجميع، وهذا ما جزم به القاضي الحسين.
وقيل: يختص بها ولي المقتول [أولاً].
قال: وإن قتلهم، أو قطعهم دفعة واحدة، أو أشكل الحال – أقرع بينهم؛
لتساويهم، وحينئذ من خرجت القرعة له كان كمن قتل مورثه، أو قطع طرفه أولاً، فإن عفا أعيدت القرعة للباقين.
وحكى الفوراني والطبري في "العدة" في أصل المسألة - والحالة هذه -: أنه يقتل ويقطع لجميعهم، ويجب لكل واحد من الأولياء حصة مورثه من الدية. وقد حكاه الرافعي عن الروياني في القتل، وأن صاحب "البيان" حكى أن بعض أصحابنا بخراسان قالوا: يكتفي بقتل الواحد عن الجماعة؛ كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك.
لكن إيراد الرافعي مصرح بأن محل هذين الوجهين إذا وجد القتل أو القطع مرتباً، وإلحاق هذه الحالة بها.
تنبيه: ظاهر إطلاق الشيخ وأكثر الأصحاب القول بالإقراع، يقتضي إيجابه، وقد صرح به الماوردي؛ حيث قال: فإن بدر أحدهم فاقتص منه بغير قرعة، فإن كان بأمر الإمام فقد أساء الإمام، ولم يعزر المقتص.
وعن رواية أبي الفياض وغيره: أنه مستحب، وللإمام أن يقتله بمن شاء منهم؛ لثبوت استحقاق الكل على التساوي.
قال الروياني: وهو الأصح، وعليه جرى القاضي ابن كج وغيره، وحكوا عن نص الشافعي أنه قال: أحببت أن يقرع بينهم.
ولو رضوا بتقديم واحد بلا قرعة جاز، والحق لا يعدوهم؛ فإن بدا لهم ردوا إلى القرعة، قاله الإمام.
وهذا إذا كان أولياء القتلاء حضوراً بالغين عقلاء، فلو كان بعضهم غائباً أو صغيراً أو معتوهاً فالمشهور: أن الحكم كذلك.
وفي "الوسيط"، عن رواية حرملة: أن للحاضر والكامل أن يقتص، ويكون الحضور والكمال مرجحاً كالقرعة.
فرع: لو كان القاتل عبداً فهل يقتل بواحد؛ كما لو كان حرًّا، أو يقتل بجميعهم؛ لأن في تخصيصه ببعضهم تضييعاً لحق الباقين؟ فيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب في أثناء المسألة الأولى وغيره.
والذي أورده ابن كج- منهما-: الثاني.
وأصحهما – عند الإمام والقاضي الروياني والفوراني والقاضي الحسين والمتولي، وغيرهم-: الأول، ويكون بمنزلة المعسر [يقتل بواحد] وللباقين الديات في ذمته، يلقى الله – تعالى – [بها].
وهذا قد يقال: إنه يؤخذ من كلام الشيخ؛ لكونه لم يفصل بين الحر والعبد، وليس كذلك؛ لأن قوله في صدر المسألة: وأخذت الدية للباقين يأبى ذلك في حالة القتل، وإن لم يأبه في حالة القطع.
فعلى هذا: إن قتلهم على الترتيب، أو في دفعة واحدة – يكون حكمه ما سبق، ولا يكون عفو ولي الأول عن القصاص على مال مانعاً من أن يستوفي ولي المقتول ثانياً القصاص منه، وإن تعلق المال برقبته، لكن [لو] عفا ولي الثاني أيضاً على مال تعلق الجميع بالرقبة، ولا نظر إلى [التقدم والتأخر]؛ كما لو أتلف مالاً على جماعة في أزمنة مختلفة.
وإيراد صاحب "التهذيب" يشعر بأن محل الخلاف فيما إذا قتلهم في دفعة واحدة، أما إذا كان على الترتيب فلا يُقتل بهم، وهذا هو الذي يتقضيه كلام القاضي أبو الطيب عند الكلام في قتل الحر بالعبد؛ حيث قال: إذا قتل عبد عبدين؛ أحدهما بعد الآخر، فيبدأ بالأول؛ فإن قتله سيده، سقط حق الثاني؛ لفوات الرقبة، فإن عفا سيد الأول كان لسيد الثاني أن يقتص، وإن قتلهما معاً. [قال]: فإن قتلاه به فقد استوفيا حقهما، وإن عفا أحدهما، ولم يعف الآخر، فإن حق الذي لم يعف لم يسقط، ولا يملك القتل؛ لأن القصاص لا يتبعض؛ فيتعلق الأرش برقبته؛ فيباع، ويستوفي قيمة المقتول من ثمنه، وهذا منه في الصورة الأخيرة؛ بناء على أنه يقتل بهما؛ كما أورده ابن كج، وإلا لم يستقم ما ذكره حكماً وتعليلاً.
ثم فيما ذكرناه عن الأصحاب من تعليل الوجه الثاني ما يفهمك أنه لا يجري
في القطع؛ لإمكان تعلق الأرش بالرقبة بعده.
قال: فإن بدر واحد فقتله، أو قطعه، أي: من غير قرعة ولا عفو من الأول- فقد استوفى حقه؛ لأن حق كلِّ من الأولياء قد تعلق بذلك المحل؛ بدليل ما لو عفا ولي المقتول أو المقطوع أولاً، أو من خرجت له القرعة؛ فإن ذلك ينتقل إلى من بعده؛ فإذا استوفاه فقد استوفى حقه من محله، لكنه يعزر؛ لما في ذلك من إبطال حق الغير.
وشبه القاضي أبو الطيب ذلك بما إذا تقدم رجلان إلى ماءٍ ليستقياه، وأحدهما سبق الآخر – فإن الثاني لو أزاح الأول عنه واستقى، كان قد أخذ حقه، ويكون متعدياً؛ لأن السابق أحق.
قال: وجبت الدية للباقية؛ لتعذر القصاص عليهم بغير اختيارهم؛ فكان كالموت.
وحكى القاضي الحسين في "التعليق" وجهاً ضعيفاً: ان المبادر يغرم للأول دية قتيله، ويأخذ من تركة الجاني دية قتيل نفسه.
وفي "التتمة" وجه: انه تلزمه الدية، ويختص بها ولي المقتول الأول؛ لأنه كان مقدماً عليه؛ فإذا فوت الحق عليه غرم له؛ كالعبد المرتهن إذا جنى، ثم جاء المرتهن فقتله، يغرم الأرش لحق المجني عليه.
والفرق بين هذه العبارة [والأولى]: أن الأولى توجب دية المقتول أولاً، والثانية توجب دية القاتل للمقتول، وذلك يظهر عند اختلاف الديات بسبب الأنوثة والدين.
قال المتولي: ولا يجيء هذا الوجه فيما إذا خرجت القرعة لواحد، فقتله غيره؛ لأن القرعة لا توجب زيادة قوة، وإنما صرنا إليها؛ لقطع المنازعة، بخلاف السبق.
فرع: إذا تمالأ على القاتل أولياء القتلاء، وقتلوه جميعاً – فقد حكى المراوزة في المسألة ثلاثة أوجه:
أصحهما: أنه يقع عن جميعهم موزعاً عليهم، ويرجع كل منهم إلى ما يقتضيه
التوزيع من الدية: فإن كانوا ثلاثة رجع كل منهم بثلثي دية مورثه، [أو أربعة رجع كل منهم بنصف وربع دية مورثه]، وهذا ما جزم به المتولي.
والثاني: أنه يقرع بينهم، ويجعل القتل واقعاً عمن خرجت له القرعة، وللآخرين الدية.
والثالث- حكاه الشيخ أبو محمد عن الحليمي -: أنه يكتفي به عن جميعهم، ولا رجوع لهم إلى الدية؛ لأنه لو قتل جماعة واحداً ظلماً لجعلنا كلَّ واحد منهم كالمنفرد بالقتل في الاعتداء؛ كذلك نجعله كالمنفرد في الاستيفاء.
قلت: وهذا فيه نظر؛ لأنا قد حكينا أن مذهب الحليمي فيما إذا قتل عشرةٌ واحداً ظلماً – أن المستحق على كل [واحد] منهم عشر روحه، إلا أن الروح لا تتجزأ؛ فلا يمكن استيفاء المستحق إلا بغيره؛ فاستوفى لتعذره، وإذا كان هذا مأخذه في استيفاء جميع [النفس من كل واحد منهم] ثَمَّ، لم يحسن جريان مثله هاهنا؛ لانتفاء عدم إمكان استيفاء البعض.
نعم، قد يقال: إنه ذكر هذا تخريجاً على أصول الشافعي في تلك المسألة، [لا] على ما اعتقده، والله أعلم.
فرع مُرَكَّبٌ من القتل والقطع: إذا قتل رجلاً، وقطع طرف آخر، ولم يسر، وحضر المستحقان- فإنه يقطع طرفه أولا، ثم يقتل، سواء تقدم القتل، أو تأخر؛ لأن في ذلك جمعاً بين الحقين، وهذا بخلاف ما لو قطع يمين إنسان، وقطع لآخر أصبعاً من يمينه، وحضر المستحقان؛ فإنه يقطع للسابق منهما، وللآخر من الدية بقدر ما تعذر عليه استيفاؤه.
والفرق: أن نقصان الطرف لا يوجب نقصان النفس؛ ألا ترى أن بدلها لا يختلف، ويُقتل كامل الأطراف بناقص الأطراف، ونقصان الإصبع يوجب نقصان اليد؛ ولذلك اختلف البدل، ولم يقطع الطرف الكامل بالناقص.
وما أطلقه في الوجيز في هذه الحالة من أن يقرع بينها، فهو محمول على ما
إذا وقع القطعان معاً، لا على الترتيب، أو جهل السابق.
ثم في الصورة الأولى، [لو أخر مستحق الطرف استيفاء القصاص، قال الإمام في باب حد قاطع الطريق: فإجباره على التعجيل محال، وحمله على العفو محال، وتفويت حقه بتسليط مستحق النفس على القتل، لا وجه له.
نعم]، لو ابتدر مستحق القصاص في النفس، وقتله، فلا شيء عليه.
وفي "التتمة": أن الحكم كما لو قتل رجلين، وابتدر ولي الثاني فقتله.
أما إذا سرى القطع إلى نفس المقطوع أيضاً: فإن كان قبل أن يصدر من القاطع القتل، قطع، ثم قتل، وإن كان بعده فقد حكى ابن الصباغ عن الأصحاب: أنه ليس للولي استيفاء القصاص في الطرف، إلا أن يعفو ولي المقتول قبل السراية؛ فحينئذ يكون له القطع ثم القتل، قال: وفيه نظر؛ لأنه استحق القطع قبل قتل الآخر، فسرايته لا تسقط حقه، وإنما يجيء هذا على قول من قال: إن القصاص في الطرف يدخل في النفس، وغنما يقطع الطرف؛ لأنه طريق إلى قتله بمثل ما قتل [به].
قلت: وهذا هوا لذي اقتضاه قول أصحابنا أيضاً؛ حيث جزموا – كما حكاه الرافعي – فيما إذا قطع يده؛ فسرى الجرح إلى نفسه، فعفا عن النفس – بأنه لا قصاص في الطرف، وإن ترددوا فيما إذا عفا عن الطرف في هذه الصورة، هل يكون عفواً عن النفس؟ على وجهين.
وهذا ما أشرت إليه من قبل عند الكلام فيما إذا قال: عفوت عن هذه الجناية وما يحدث منها.
قال: وإن قتل وارتد، أو قطع وسرق – أقيد للآدمي، أي: عند الطلب، ودخل فيه حد الردة والسرقة؛ لأن حق الآدمي مبني على التشديد، وفي تقديمه تحصيل مقصود حق الله – تعالى [من وجه].
وحكى الماوردي وجهاً آخر: أنهما لا يتداخلان، ويستوفيان؛ فيقطع بالسرقة [أولاً]، ويقتل بالردة، وتجب الدية، ولعل محل هذا الوجه إذا تقدمت الردة
والسرقة، أما إذا تأخر ذلك فقد يقال: لا يجري؛ لما فيه من تفويت حق السبق، وقد يقال به؛ لأن حق الله –تعالى- إذا سقط لا جابر له، بخلاف حق الآدمي.
وهذا الخلاف شبيه بالخلاف فيما إذا اجتمع في المال الزكاة وحق الآدمي.
والثالث – وهو القسمة – لا يجيء هاهنا؛ لأنا لا نرى قتل الشخص الواحد لشخصين وإن قتل وليهما معاً؛ ففي هذه الصورة.
فرع: إذا قتل الوليُّ المرتدَّ عن الردة، دون القصاص – فعن "فتاوى" صاحب "التهذيب" أنه ينظر: إن كان ولي القصاص إماماً فله الدية في تركة المرتد؛ لأن للإمام قتله عن الجهتين.
وإن كان غير الإمام، وقع قتله عن القصاص، ولا دية له؛ لأن غير الإمام لا يملك قتله عن جهة الردة، قال: وكذلك لو اشترى عبداً مرتداً؛ فقتله المشتري قبل القبض عن الردة – ينفسخ العقد إن كان المشتري الإمام، وإن كان غيره صار قابضاً؛ كما لو قتله ظلماً محضاً.
قال: وإن قطع يد رجل، ثم قتله – قطع، ثم قتل؛ لقوله تعالى:{فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، ولأن المقصود من القصاص التشفي والانتقام، وإنما يكمل التشفي إذا فعل به مثل ما فعلن لكن الولي يتولى القتل، [وهل يتولى] قطع اليد إن منعناه عند الاندمال؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي، وقال: إنهما مخرجان من القولين فيما إذا اجافه؛ فمات: هل يجاف؟ كما سنذكره.
قال: وإن قطعه؛ فمات منه – قطعت يده، فإن مات، أي: في مثل تلك المدة التي سرت فيها جنايته، وإلا قتل؛ لأن ذلك أقرب إلى المماثلة.
ثم ظاهر كلام الشيخ وغيره من العراقيين –كالبندنيجي والمحاملي وغيرهما – يقتضي وجوب الإنظار، وهو المحكي عن أبي الحسين بن القطان.
والذي جزم به الغزالي والقاضي الحسين، وادعى الرافعي أنه المشهور: أنه غير مستحق حتى يجوز لولي المقتول أن يقتله عقيب القطع.
وفي "التتمة": أنه إذا أراد قتله قبل مضي تلك المدة؛ فإن اندمل الجرحُ، أو ظهرت أمارات الاندمال، فله ذلك. وإن كانت الجراحة متألمة، ولم تظهر أمارة البرء – فليس له ذلك.
قال: وإن قطع يد رجل من الذراع، أو أجافه، فمات – ففيه قولان:
أحدهما: يُقتل، أي: بالسيف، ولا يفعل به مثل ذلك؛ لقوله تعالى:{فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} والمثلية لا تتحقق في [مثل] هذه الحالة؛ بدليل عدم إيجاب القصاص في ذلك عند الاندمال؛ فتعين المصير إلى القتل بالسيف، وهذا ما صححه في "التهذيب".
قلت: ولو قيل على هذا القول: إن له قطع اليد من الكوع في مسالة قطع الذراع؛ كما كان له ذلك لو لم يسر الجرح – لم يبعد.
قال: والثاني: يُجْرح كما جرح؛ تحقيقاً للمماثلة في طريق الإزهاق؛ كما في الحالة الأولى وما قبلها، ويخالف حالة اندمال الجراحة؛ لأن المقصود ثَمَّ ليس إزهاق الروح، وقد يكون في هذا الفعل – بسبب الزيادة على المستحق – إزهاقها، وهاهنا المقصود إزهاقها؛ فلا اثر لتفاوت يتفق في ذلك؛ ألا ترى أنه لو ضربه بمثقل، فلم يمت، لا يجب القصاص فيه، ولو مات منه، وجب القصاص فيه، وضرب بمثله؟
وقد بنى المتولي القولين في الجائفة على الخلاف الذي ذكرناه فيما ذا قطع يده فمات في أن قطع اليد في هذه الحالة لكونه مقصودة في نفسها، أو لكونها طريقاً في الاستيفاء؟ فعلى الأول: يتعين السيف، وعلى الثاني: يُجيفه.
قال: فإن مات، وألا قتل؛ لأنه لا يمكن أن يفعل به مثل ذلك مرة أخرى، وإزهاق الروح مستحق؛ فتعين له هذا الطريق، وهذا القول أصح عند الشيخ أبي
حامد وأبي الطيب وغيرهما من العراقيين، والروياني – أيضاً – وهو جارٍ، كما حكاه أبو الطيب وغيره فيما إذا قطع ذراع من لا كفّ له، والجاني صحيح الكف؛ فتقطع يده من الذراع، فإن مات، وإلا قتل، وهو الأظهر عند الإمام، وقيل: إنه المنصوص في "المختصر".
ثم محل هذا القول إذا قال الولي: أنا أقتص في الجرح، ثم أحز رقبته إن لم يمت، أما إذا قال [الولي]: أنا أقتص في الجرح، وأعفو عنه إن لم يمت – لم يمكن منه، صرح به البندنيجي، والرافعي في مسألة الجائفة، وقال: إنه إذا أجافه، ثم عفا عنه – عزر على ما فعل.
والقاضي الحسين خصّ محل التعزير بما إذا قال بعد الإجافة: كنت لا أريد قتله. والذي حكاه الماوردي أن [محل القول الثاني] في الصورتين: إذا لم يرد العفو عن القصاص، [فإن أراد العمل به] مع عفوه عن القصاص في النفس – لم يجز؛ لأنه قد صار بالعفو عن النفس كالمنفرد عن الراية.
والقولان في مسألة الكتاب يجريان – كما قاله الأصحاب – فيما إذا قطع يداً شلاء، ويد القاطع صحيحة، أو شجه هاشمة، أو منقلة، أو مأمومة، فمات بالسراية.
وخصّ بعض الأصحاب القولين بما إذا كانت الجناية الغالب منها الموت، أما إذا لم يغلب منها فيقتل بالسيف، قال القاضي أبو الطيب: وهذا ليس بشيء.
قال: وإن قتل بالسيف أو السحر لم يقتل إلا بالسيف، أما في الأولى؛ فللآية، وأما في الثانية، فلما روى الترمذي عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ" ولم يفصل.
قال الأصحاب: ولأن عمل السحر محرم، ولا شيء مباح [يشبهه]، على أن ذلك لا ينضبط، ويختلف تأثيره. وقد ادّعى المحاملي والبندنيجي نفي الخلاف في ذلك بين الأصحاب، ولم أر تصريحاً بخلافه، لكن في كلام القاضي الحسين ما يقتضي أن له أن يقتله بالسحر؛ فإنه قال: كل آلة يجب بها القود يستوفي القود بجنسها، إلا في مسألتين: إذا لاطَ به، وإذا أوجره خمراً. على أن ما ادّعاه الأصحاب لا يخلو عن احتمال؛ من حيث إنا إذا قلنا: تعلم السحر ليس بحرام، ففعله – إذا لم يكن فيه سجود لصنم، ولا ما شابهه أو قاربه – إنما حرمناه؛ لما فيه من الإضرار بالغير، وإذا كان كذلك فهو كالقطع والضرب، [والضرب والقطع] إذا أفضى إلى الموت جاز أن يقتص من فاعله بجنسه؛ فكان القياس أن يكون السحر كذلك.
فإن قيل: إن أثر السحر لا ينضبط؛ فيُقال لقائل هذا: هلَاّ خرجته على الخلاف في الجائفة وتسليط السبع والحية على القاتل. نعم، قد يُقال: معرفة كون السحر يقتل لا يهتدي إليها غير فاعله؛ ولذلك قلنا: لا يتصور وجوب القصاص به إلا بالإقرار، وإذا كان كذلك فلم يظهر كونه فعلاً صالحاً للقتل – غالباً – فلا يسلط به عليه؛ لما فيه من الخلو عن الفائدة، بخلاف الجائفة ونحوها؛ فإن كل أحد يعرف أن ذلك يوصل إلى إزهاق الروح غالباً، فلم يخلُ الإتيان به عن الفائدة، والله أعلم.
قال: وإن قتل باللواط أو سقى الخمر فقد قيل: يقتل بالسيف؛ لان ما قتل به محرم الفعل؛ فلم يجز أن يفعل به مثله، وتعين له السيف؛ كما في القتل بالسحر، وهذا هو الأصح.
وقيل: يعمل في اللواط مثل الذكر من الخشب؛ فيقتل بهن وفي الخمر يسقي الماء؛ فيقتل به؛ [لقربه من فعله]، وهذا قول أبي سعيد الإصطخري؛ كما حكاه القاضي الحسين، وأبي إسحاق المروزي كما حكاه المحاملي والبندنيجي، وحكى الماوردي عنه أنه في مسألة اللواط: يقتل بإيلاج خشبة كما ذكره الشيخ، وفي سقي الخمر [يقتل بسقي] الخلّ.
وحكى القاضي أبو الطيب عنه [أنه] في مسالة الخمر يسقي الماء حتى يموت، كما ذكره الشيخ، وفي مسألة اللواط: يعمل له من الجلود مثل الذكر، ويوالي عليه، ويكرر الفعل إلى أن يموت، قال المتولي: ومحل هذا الوجه إذا كان موت القاتل متوقعاً بالمقابلة بمثل ما فعل، أما إذا لم يتوقع، وكان موت المجني عليه؛ لطفولية، ونحوها – فلا؛ لأن فيه ارتكاب محظور بلا فائدة. وهذا موافق لما قاله الإمام، فيما إذا ضرب نحيفاً بضربات يقتل مثلُها مثلَه غالباً ولا يقتل مثل الجاني- إما يقيناً، أو غالباً لقوته -: إن الوجه القطع بأنه لا يضرب بتلك الضربات؛ لأنها لا تقتله، وإنما يراعى المماثلة إذا توقعنا حصول الاقتصاص بذلك الطريق، لكن الإمام بدا له في الأخيرة احتمال آخر.
وقد حكى الفوراني وجهاً آخر في اللواط: أنه لا يجب به القصاص؛ لأن المقصود به طلب اللذة؛ فلا يتحقق العمد فيه، ثم قال: وهو خطأ.
وحكى أبو الفرج السرخسي وجهاً في سقي الخمر مثله؛ لأنه لا يقصد به الإهلاك.
فرع: لو سقاه البول حتى مات، قال القاضي الحسين: احتمل أن يوجر بقدره من البول، بخلاف الخمر؛ لأن البول يباح شربه عند الضرورة، والخمر لا يباح على الصحيح من المذهب، وكذا لو سقاه السم، ومات، والسم طاهر- يسقي مثله، وحكى الرافعي عنه وجهين في مسألة البول، أو يكون كالخمر.
قال: وإن غرق، أو حرق، أو قتل بالخشب، او بالحجر – فله أن يقتله
بالسيف؛ لأنه أوحى وأسهل على المقتول؛ ففيه ترك بعض الحق، وله أن يفعل به مثل ما فعل، أي: من كل وجه؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة:194]، ولما روى البراءُ بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ"، وما روى مسلم والبخاري وأبو داود وغيرهم، عن قتادة:"أَنَّ جَارِيَةَ وُجِدَتْ قَدْ رُضَّ رَاسُهَا [بَيْنَ حَجَرَيْنِ]، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ أَفُلانٌ، حَتَّى سَمَّوا اليَهُودِيَّ، [فَأَوْمَتْ بِرَاسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ]، [فَاعْتَرَفَ]؛ فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَضَّ رَاسُهُ بِالْحِجَارِةِ".
قال البيهقي: ولا تجوز دعوى الشيخ في [هذا؛ لنهيه] – عليه السلام – عن المثلة؛ إذ ليس في هذا تاريخ ولا سبب يدل على النسخ، ويمكن الجمع بينهما: بأنه إنما نهى عن المثلة فيمن وجب قتله، لا على طريق المكافأة والمجازاة.
["وضابط هذا"] النوع: أن يقع القتل بما يوحي، إلا ما ذكرناه.
وحكى الإمام أن في بعض الطرق رمزاً إلى أنه في مسألة الحرق لا يقتل به، وحكاه المتولي قولاً في الضرب، وفيما إذا رماه من جبل، أو حبسه في بيت حتى مات جوعاً، وقال: إنه اختيار المزني.
وقد أجرى الخلاف- أيضاً – فيما إذا قتله بإنهاش حية ونحوها، أو بحبسه مع سبع في مضيق ونحوه؛ لأن الأفاعي غير متماثلة، وكذا السباع، حكاه الماوردي.
فرع: إذا تعذر الوقوف على قدر الحجر، او قدر النار، أو قدر الماء، أو عدد الضربات – فعن القفال: أنه يقتل بالسيف، وعن بعضهم: أنه [يؤخذ] باليقين.
قال: فإن فعل [به مثل] ذلك، فلم يمت – ففيه قولان:
أحدهما: يقتل بالسيف؛ لأن المماثلة قد حصلت، ولم يبق إلا تفويت الروح؛ فوجب تفويتها بأسهل ما يمكن، وهو ضرب العنق بالسيف، وهذا ما ادّعى القاضي الحسين أن الشافعي لم يقل بخلافه، [ولا يختلف] مذهبه فيه.
والثاني: يكرر عليه مثل ما فعل إلى أن يموت.
قال الماوردي: أو ينتهي إلى حالة يعلم – قطعاً – أنه يموت فيها؛ فيُمسك عنه؛ كما يمسك عن المضروب العنق إذا بقيت فيه حياة. ووجهه: انه فعل به فعلا اتصل بالموت؛ فيجب أن يفعل به مثل ذلك على أن يموت؛ ليكون أشبه بفعله، وكي لا يوالي عليه بين نوعين من العذاب، وهذا ما ادّعى القاضي أبو الطيب والبغوي، والنواوي أنه الصحيح، وقال القاضي الحسين: إنه أخذ من قول الشافعي في "المختصر".
وقال بعض أصحابنا: إن لم يمت من عدد الضرب، قتل بالسيف.
وحكى في مسألة القتل بالنار، إذا بقينا الجاني بقدر ما بقي المقتول فيها حتى مات، فلم يمت – أنا ننظر: فإن كان إخراجه وحَزُّ رقبته أسهل فعل، وإن كان تبقيته في تلك النار زماناً أسهل عليه من حز رقبته، فوجهان:
أحدهما: يبقى.
والثاني: لا؛ لأنا نراعي الأسهل عليه في هذا الباب.
وقال: إن هذا الحكم فيما هو في معنى ذلك مثل التخنيق، وعلى ذلك جرى صاحب "الإبانة"وغيره.
وصور الإمام محل الوجهين بما إذا لم يمكن قتله بالسيف في النار.
وتردد الشيخ أبو محمد فيما إذا كان الإخراج أهون، وتراضوا على البقاء، والأظهر: أنه لا أثر لتراضيهما.
قال: إلا في الجائفة وقطع الطرف؛ لتعذر إمكان ذلك في المحل، وفي غيره يؤدي إلى أخذ طرف بطرفين، وجائفة بجائفتين، وهذا ما ادّعى ابن الصباغ والمحاملي وغيرهما نفي خلافه.
وفي "البسيط"[وجه]: أنه يزاد في الجوائف، إذا جوّزنا القصاص فيها؛ ليكون إزهاق الروح قصاصاً بطريق إزهاقه عدواناً، وهذا ما ادّعى المزني أنه قياس مذهب الشافعي، والأصحاب فرّقوا بما ذكرناه.
قال: ومن وجب له القصاص في الطرف، استحب له ألا يعجل في القصاص حتى يندمل.
هذا الفصل يقتضي بيان حكمين:
أحدهما: جواز القصاص قبل الاندمال، وقدخالف [فيه] أبو حنيفة ومالك والمزني.
[والثاني: استحباب التأخير على الاندمال].
ودليلهما: ما روى الدارقطني في "سننه"، عن رواية أيوب، عن عمرو بن دينار، عن جابر:"أَنَّ رَجُلا طَعَنَ رَجُلا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ؛ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَقِيد، فَقِيلَ لَهُ: حَتَّى تَبْرَأَ؛ فَأَبَى، وعَجَّلَ؛ فَاسْتَقَادَ، فَعَرِجَتْ رِجْلُهُ، وَبَرِئَتْ رِجْلُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ؛ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "لَيْسَ لَكَ شَيْءٌ، أَنْتَ اَبَيْتَ".
قال الماوردي: وفي هذا الحديث دلالة على شيء ثالث، وهو جواز القود من الجناية بغير الحديد؛ لأن الجناية كانت بقرن.
قلت: وعلى أمر رابع، وهو أن ما حصل بسبب الجناية من شين بعد الاقتصاص لا يجبر بشيء آخر.
وفي تعليق القاضي الحسين حكاية وجه: أنه لا يجوز استيفاء القصاص قبل الاندمال؛ كما سنذكره في الديّات، [والإمام حكاه في آخر النهاية، وقال: إنه بعيد، لا أعرف له وجهاً] وادّعى الرافعي أنه قول مخرج، وان الأول هو المنصوص.
قال: فإن أراد العفو عنه على الدية، قَبْل الاندمال –ففيه قولان:
أحدهما: يجوز؛ لأن الدية أحد البدلين؛ فكان له الرجوع إليها قبل الاندمال؛ كالقصاص.
قال القاضي الحسين: وهذا اخذ من نص الشافعي في كتاب المكاتب، فيما إذا جنى السيد على عبده المكاتب، فقطع يده: أن له أن يعجل أرش يده قصاصاً من كتابته.
وقال الرافعي: إنه أخذ من نصه في تعجيل القصاص.
فعلى هذا: لو كان أرش الطرف زائداً على دية؛ مثل أن قطع يديه ورجليه؛ فهل له أخذ الزائد على دية النفس؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما –وبه قال أبو إسحاق-: لا؛ لأن دية النفس في هذا المقام هي المحققة، وما زاد مشكوك فيه.
والثاني: نعم؛ لأن الأصل بقاء استحقاق ذلك، وعدم السراية.
قال: والثاني: لايجوز؛ لأن الأرش لا يستقر قبل الاندمال؛ إذ قد يسري القطع؛ فيدخل أرشه في دية النفس، وقد يشارك الجاني فيه شخص آخر، أو
أشخاص فيتوزع عليهم؛ بخلاف القصاص في الطرف، فإنه لا يسقط، ولا يتبعض؛ بسبب ما يحدث من اندمال، أو سراية، أو مشاركة في قتل النفس، وهذا هو الصحيح، والمنصوص عليه في جميع كتبه، والمعمول عليه عند سائر الأصحاب؛ كما قاله الماوردي.
قال القاضي الحسين: وقد قال بمثله في مسألة المكاتب بعضُ الأصحاب، وبعضهم أقرّ النصين، وفرق بأن للمكاتب غرضاً في الاستيفاء قبل الاندمال، وهو وصوله إلى الحرية، بخلاف الحر.
قال الإمام: والصائرون إلى جواز التعجيل في مسألة المكاتب اختلفوا: فمنهم من خصّ ذلك بما إذا كان المال المأخوذ وافياً بالنجوم أو بما بقي منها، ومنهم من يعمم الحكم، وهو قضية إطلاق القاضي الحسين.
فرع: لو كانت الجناية مما لا توجب قصاصاً ولا أرشاً مقدراً، فلابد من التوقف حتى تتبين العاقبة.
وعن بعض الأصحاب فيما رواه الشيخ أبو محمد: أنه يأخذ أقل ما يفرض حكومة لتلك الجراحة.
قال: وإن اقتص في الطرف؛ فسري على نفس الجاني – لم يجب ضمان السراية؛ لقوله تعالى: {وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 41، 42] وهذا قد انتصر؛ فيجب ألا يكون عليه سبيل.
وأيضاً: فقد روى عن عمر وعليّ – رضي الله عنهما – أنهما قالا:"إِنَّ [مَنْ] مَاتَ مِنْ حَدٍّ، أَوْ قِصَاصٍ؛ فلَا دِيَةَ لَهُ، [الحق قَتَلَه] ".
ولأنها عقوبة مستحقة مقدرة؛ فوجب ألا تُضمن سرايتها؛ كالقطع في السرقة.
قال: وإن اقتصّ في الطرف، ثم سرى إلى نفس المجني عليهن ثم [سرى] على نفس الجاني – فقد استوفى حقه؛ لأن السراية لما كانت كالمباشرة في إيجاب القصاص، وجب أن تكون كذلك في استيفائه.
قال المحاملي: وهكذا الحكم لو اقتص من الجاني في الطرف، فعاد وقتل المجني عليه، ثم سرى القطع غلى نفسه؛ فإنه يجعل قصاصاً؛ لأنها سراية عن قصاص بعد وجوب القصاص.
وهكذا الحكم إذا قطع يدي إنسان، [فسرى القطع إلى النفس، فقطع الولي إحدى اليدين،] ومات الجاني قبل قطع الأخرى – يجعل مستوفياً لحقه، ولا تجب دية اليد الأخرى؛ لأن الجرح قد صار قتلاً، وقد استوفاه بالسراية.
تنبيه: احترز الشيخ بقوله:"ثم سرى إلى نفس الجاني" عما إذا اقتصّ [في الطرف]، فسرى إلى عضو آخر، لا إلى النفس، كما إذا قطع أصبعه، فسرى إلى كفه، ثم قطع أصبع الجاني؛ فسرى [-أيضاً-] إلى الكف؛ فإن الشافعي نص في موضع – كما ادعاه الرافعي – على أنه لا قصاص.
وقال في المختصر فيما إذا أوضحه؛ فذهب ضوء عينه وشعر رأسه؛ فاقتص المجني عليه في الموضحة؛ فذهب ضوء عينه، وشعر رأسه: إنه يكون مستوفياً لحقه. ولو لم يذهب ضوء عين الجاني، وثبت شعره – فعليه دية البصر، وحكومة الشعر. وفي [هذا النصّ] إيقاع الشعر [في مقابلة الشعر] وهو من الأجسام؛ فأشعر بأن السراية إلى الجسم تقع قصاصاً.
واختلف الأصحاب – لأجل ذلك – في حصول الاستيفاء بالسراية إلى ضوء العين والطرف؛ إذا لم نوجب القصاص فيهما بالسراية والشعر – على طرق:
إحداها: المنع في الجميع، والقائلون به اختلفوا:
فمنهم من قال: إنما أراد الشافعي بالشعر: شعر موضع الموضحة؛ فإنه يتبع
الموضحة؛ كالشعر على اليد والرجل يتبعها قصاصاً ومالاًز
ومنهم من قال: لم يتكلم الشافعي في الشعر، وغنما هو من زيادة المزني، وقالا: ما ذكره في الضوء مفرع على الصحيح في وجوب القصاص فيه بالسراية [إليه].
والثانية: القطع في مسألة الضوء بالحصول، وفيما عداه قولان:
أحدهما: الحصول؛ كما في النفس، وهو اختيار المزني. فعلى هذا: لا نظر في حكومة الشعر إلى التفاوت بين قدر الحكومتين.
والثاني: المنع، وبه جزم ابن الصباغ والماوردي والمتولي. والفرق بينه وبين الروح: أن السراية إليها توجب القصاص، بخلاف ما نحن فيه.
والثالثة: القطع في مسألة الضوء بالحصول، وي مسألة الشعر بالمنع، وفي الطرف قولان؛ وهما جاريان – كما حكاه الإمام – فيما إذا قطع يد إنسان، فاقتص المجني عليه في أصبع من يد الجاني؛ فسرى إلى الكف، ومال إلى الحصول، وقال: لا وجه عندنا إلا القطع به.
والصحيح – [وإن ثبت] الخلاف في الشعر والطرف -: عدم الحصول، وعلى هذا: تجب دية ما فات من الأطراف بالسراية، وحكومة الشعر.
قال الرافعي: وله المطالبة بأرش الأصبع عند القطع؛ لأنه إن سرى القطع إلى الكف لم يسقط ما في الذمة؛ فلا [معنى] لانتظار السراية.
قال: وإن سرى إلى نفس الجاني، ثم [سرى] على نفس المجني عليه- فقد قيل: تكون السراية قصاصاً؛ لأنها سراية عن قصاص، وقد وجب عليه القصاص في النفس؛ فكان قصاصاً عنه كالتي قبلها، وهذا قول أبي إسحاق المروزي.
والمذهب: أن السراية هدر، أي: سراية القصاص؛ لأن القصاص إنما يجب في النفس بزهوق الروح؛ فلو جعل مستوفياً بالسراية السابقة لكان كالسلف في القصاص، والسلف في القصاص لا يجوز؛ كما لا يجوز أن يقول: اقطع يدك
حتى إذا قطعت يدي لا يكون [لي] عليك شيء.
وعلى هذا: يجب نصف الدية في تركة الجاني؛ إن كانت دية الجاني مثل دية المجني عليه، فإن كانت أقل فيجيء في قدر ما يرجع به الخلاف السابق.
وقد اعرض غير الشيخ من الأصحاب عن ذكر المذهب في هذه المسألة، وحكى الخلاف وجهين، وقال الإمام: إنه يمكن بناؤها على أنَّا [هل] نجعل الجرح قتلاً إذا أدى إلى القتل، أم لا؟ وفيه وجهان ذكرناهما فيما إذا جرح الكافر كافراً، ثم أسلم الجارح، أو العبد عبداً، ثم اعتق العبد، ومات المجروح، وقضية هذا البناء أن يكون الراجح عنده [أن السراية هدر؛ لأن الراجح عنده] ثم امتناع القصاص.
تنبيه: الهدر- بفتح الدال والهاء – المُلْغَى الذي وجوده كعدمه.
قال: وإن قلع سن صغير لم يثغر، أي: لم يسقط أسنان اللبن – لم يجز أن يقتص منه؛ لأن العادة في أسنان من هذا حاله أنها تعود بعدما سقطت؛ فلم يتحقق إتلافها.
قال: حتى يؤيس من نباتها؛ لأنَّا حينئذ نتحقق الإتلاف وفساد المنبت، وهذا بخلاف الموضحة والجائفة؛ فإنه يقتص منهما في الحال، وإن كان الغالب عودهما.
والفرق: أنَّا لو لم نفعل ذلك لصارت معظم المواضح والجوائف هدراً.
وقد جزم بما حكاه الشيخ الجمهور، ومنهم: الإمام، ثم قال: وفي القلب من إيجاب القصاص في هذه الحالة شيء؛ لأن عين السن من المثغور عضو قصاص، ومن غير المثغور ليس عضو قصاص؛ فلا تتجه فيهما المقابلة.
وقد حكى الغزالي وغيره ذلك قولا، ووجهوه بأنه فضلة في الأصل نازلة منزلة الشعر الذي ينبت مرة بعد أخرى، وسن البالغ أصلية.
وحكى الإمام عن صاحب التقريب وجهاً: أن الجائفة إذا التحمت زال حكمها، ورأى تخصيصه- على ضعفه – بما إذا تعدت الحديدة إلى الجوف، وحصل الخرق من غير زوال لحم من البين، دون ما إذا شيء، ونبت [شيء] جديد، ورأى طرده في مثلها في الموضحة.
ثم حالة الإياس من الإنبات في السن: [أن ينتهي] الصبي إلى سن يقول أهل الخبرة فيه: إنه لا ينبت بعد ذلك.
ولو مات الصبي قبل بلوغ ذلك السن، لم يجب القصاص، وفي وجوب الأرش خلاف يأتي.
تنبيه: كلام الشيخ يفهم أمرين:
أحدهما: أنه إذا قلع سن من قد أثغر – أنه يجب القصاص في الحال، و [قد] حكى عن الشيخ أبي حامد أنه قال في ذلك: يسأل أهل الخبرة أيضاً؛ فإن قالوا: لا تعود؛ وجب القود [في الحال]، وإن قالوا: يرجى عودها إلى مدة؛ انتظرت. وهذا ما ذكره في المهذب، لكن أكثر الأصحاب على ما أفهمه كلام الشيخ.
الثاني: إذا قلع سن كبير لم يثغر أنه [لا يجوز] القصاص في الحل.
وقياس قول الشيخ أبي حامد في المسألة السابقة، أنه لا قصاص إلا بعد مراجعة أهل الخبرة؛ وهو قضية ما حكاه الرافعي؛ حيث قال: إذا قلع غير مثغور سن غير مثغور فلا قصاص في الحال؛ لأن الغالب في السن المقلوعة النبات؛ فإن نبتت فلا قصاص ولا دية؛ وإن لم تنبت وقد دخل عليه وقته؛ فالمجني عليه يأخذ الأرش أو يقتص، وعلى هذا يكون ذكر الصبي لا للتقييد؛ بل لأن الغالب أن السن الذي لم يثغر: سن الصبي.
فرع: إذا اقتص من الجاني بقلعه سن من قد اتَّغَر، أو أخذ منه الأرش، فعاد سن المجني عليه؛ فقولان منصوصان جاريان فيما لو قطع لسانه فنبت:
أحدهما: أنه نعمة مجددة، وهذا هو الأصح في مجموع المحاملي، وقد قيل: بالقطع به في اللسان، فعلى هذا: يرجع الجاني على المجني عليه بأرش السن خمس من الإبل.
وعن رواية أبي الطيب بن سلمة: أنه لا يطالب في صورة الاقتصاص بشيء؛ بخلاف أخذ الأرش، فإن أخذ الأرش المدفوع ممكن؛ بخلاف القصاص.
ولو انعكس الحال؛ فعاد سن الجاني، دون المجني عليه، فعلى الأول: لا شيء عليه، وعلى الثاني وجهان:
أحدهما: يقلع ثانياً، وكلما عاد قلع؛ لأن الجاني أعدم نبات [سن] المجني عليه؛ فوجب أن يفعل به مثل ذلك.
والثاني: لا يقلع، وعلى هذا فوجان حكاهما الماوردي:
أحدهما-وبه جزم أبو الطيب والمحاملي-: أنه يؤخذ منه أرش السن، وهو خمس من الإبل.
والثاني: [لا يؤخذ بالدية]؛ كما لا يؤخذ بالقصاص.
ولو عاد سن الجاني والمجني عليه معاً، فلا شيء لأحدهما على الآخر باتفاق القولين.
تنبيه: يقال للصبي إذا سقطت رواضعه: قد ثغر يثغر؛ فهو مثغور؛ كضرب يضرب فهو مضروب، فإذا نبتت بعد ذلك قيل: اتَّغر، بتشديد التاء ثالثة الحروف، وأصله: اثتغر؛ فقلبت التاء تاء، ثم أدغمت، وحينئذ يكون قول الشيخ: لم يثغر، بمثناة، آخر الحروف مضمومة، ثم مثلثة ساكنة، ثم غين معجمة مفتوحة.
قال: وإن وجب له القصاص في العينين بالقلعن لم يمكَّن من الاستيفاء؛ [لأنه] لا يحسنه [لعماه] وعدم بصره بهما، بل يؤمر بالتوكيل فيه؛ لأن به يحصل مقصوده من غير حيف.
ولو كان قصاصه واجباً في عين واحدة، وهو يبصر بالأخرى - مكِّن [من الاستيفاء؛ إن كان يحسنه]، صرح به الماوردي، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ وغيرهم.
قال: ويقلع بالأصبع؛ لأنه يأتي على ما لا يأتي عليه الحديد؛ فتقع المماثلة.
وقيل: يقلع بالحديد.
ومحل ذلك: إذا كان الجني قد قلع بالأصبع، أما إذا كان قد قلع بالحديد، لم يقلع إلا به.
قال: وإن كان [قد] لطمه [حتى] ذهب الضوء؛ أي: ضوء العينين، ومثل تلك اللطمة تذهبه - فعل به مثل ذلك؛ طلباً للمماثلة، وهذا ما حكى عن نص الشافعي في الأم، ونسبه في المهذب لبعض الأصحاب، وقال: يحتمل عندي ألا يقتص باللطمة؛ كما لا يقتص إذا هشمه؛ فذهب ضوء عينه بالهاشمة، وأنه لا اقتصاص في اللطمة كما لا اقتصاص في الهاشمة.
وقد أقام البغوي هذا الاحتمال وجهاً، وقال: إنه الأصح.
أما إذا ذهب ضوء إحدى عينيه فلا يمكن أن يفعل به مثل ما فعل؛ لأنه ربما
أذهب عينيه جميعاً، وربما زال عقله؛ فيكون قد أتلف [منه] أكثر مما جنى عليه، وعلى هذا يكون الحكم كما سنذكره.
قال: فإن لم يذهب [الضوء]، وأمكن أن يذهب [الضوء] من غير أن يمس الحدقة، أي: مثل أن يوضع في العين كافور أو يقرب منها حديدة مُحمَاة ونحو ذلك- فعل ذلك؛ لإمكان استيفاء الحق من غير حيف.
قال: وإن لم يمكن، أي: إلا بإذهاب الحدقة، اخذت الدية؛ لتعذر القصاص؛ وهكذا الحكم فيما إذا شخصت عين المجني عليه باللطمة، مع ذهاب ضوئها، ولم تشخص عين الجاني باللطمة المستوفاة؛ فإنها تعالج بما يفضي إلى شخوصها إن أمكن، وإن لم يمكن قال البندنيجي: فلا ضمان فيه ولا قود.
قال: وإن وجب له القصاص في اليمين، فقال: أخرج يمينك، أي: لأقطعها؛ فأخرج اليسار عمداً؛ فقطعها – لم تجزئه عما عليه؛ لأنه لا يجوز أن يعتاض عن [طرف] طرفاً بالتراضي، كما لا يجوز قتل شخص عوضاً [عن] شخص؛ فعند عدم التراضي أولى.
قال: غير أنه لا يقتص منه في اليمين حتى تندمل المقطوعة.
هذا الفصل يقتضي أمرين:
أحدهما: أن قصاصه في اليمين لا يسقط؛ وهو كذلك، إذا لم يقصد أخذ اليسار عنه؛ لأنه لم يرض بإسقاطه، أما إذا قصد ذلك: فإن علم أنها اليسرى، قال في الحاوي: سقط قصاصه من اليمنى، وإن قال: ظننتها اليمنى؛ ففي سقوط قصاصه وجهان يأتي مثلهما من بعد، واجراهما الرافعي وغيره فيما إذا علم أنها اليسرى، وظن أنها تجزئ عن اليمنى، وقال: إن أظهرهما وهو المذكور في
المهذب، ومختار أبي حامد، والقاضي الحسين، على ما حكاه الإمام، وقد رأيته في تعليقه: أنه يسقط؛ لأنا إذا جعلنا مجرد الإخراج مع قصد الإباحة كالتصريح [بالإباحة، لم يبعد أن يجعل قطع اليسار على قصد الاكتفاء بها كالتصريح] بإسقاط القصاص في اليمنى.
وقد أبدى الإمام احتمالاً لنفسه، وجزم به: ان الخلاف يجري فيما إذا علم القاطع أنها لا تجزئ عن اليمنى، ثم قال: ولو قلت [بأن هذه] الصورة أولى بأن [يسقط القصاص فيها؛ بأن] يحمل ما صدر من القاطع على [معاملة فاسدة]؛ لكان قريباً؛ فإنه لم يجر في الصورة المتقدمة إلا الظن، وقد تبين أنه مخالف للشرع، والذي جزم به القاضي الحسين في هذه الصورة: عدم السقوط.
الثاني – وهو ظاهر اللفظ -: أنه لا يقتص منه في اليمين حتى تندمل المقطوعة؛ لأن القصد أخذ الطرف، دون إتلاف النفس، والموالاة لا يؤمن معها على النفس؛ كذا وجهه الأصحاب.
ومقتضى هذا التوجيه أن يُقال: إذا وجب له القصاص في حر، أو برد شديدين، أو بالجاني مرض مُحْظَر: انه لا يستوفي [منه] في هذه الأحوال؛ خشية من إذهاب النفس؛ كما قلنا بذلك في الحد لهذا المعنى، وقد صرح بذلك صاحب جمع الجوامع، حكاية عن نص الشافعي – رضي الله عنه – في الأم.
لكن الذي جزم به الغزالي والبغوي أنه لا يؤخر بسبب ذلك في مسألة الكتاب، وإن أُخِّرَ في الحدود؛ لأن حقوق الله – تعالى – مبنية على المساهلة والمسامحة، بخلاف حقوق الآدميين، وخشية الهلاك في مسألتنا جاءت
بسبب تعدي المستحق؛ فغلظ عليه بتأخير حقه، بخلاف ما إذا توقعت بسبب حرّ ونحوه؛ فإنه لا تعدي منه حتى يكون مانعاً من حقه؛ ألا ترى أنه لو وجب القصاص في أطراف الجاني جاز له الموالاة في قطعها، وإن خشي من ذلك تلف النفس؛ لما ذكرناه.
على أن في مسألة الكتاب قولاً مخرجاً حكاه الإمام: أنه لا يمنع [من استيفاء حقّه في اليمين عاجلاً، وفي مسألة قطع الأطراف وجه: أنه يمنع] من التوالي فيها كما في مسألة الكتاب على النص، وقال الإمام: إن هذا لا أصل له.
ووجه آخر، وبه أجاب القاضي الحسين في التعليق: أنه يجوز عند قطع الجاني أعضاء المجني عليه متوالية، أو دفعة واحدة، ولا يجوز عند قطعها متفرقة.
وقد طرد القاضي أصله، فيما إذا قطع يمين زيد، ثم يسار عمرو، وقال: إنه لا يقطع للمتأخر حتى يندمل القطع المتقدم.
وقال فيما إذا قطعهما معاً: إنه يقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، قطع له، ثم يترك حتى يندمل، ثم يقطع.
ثم لا يخفى أن القاطع لليسار لا يجب عليه قصاص ولا دية، وإن كان عالماً بالحال، كما حكى عن نص الشافعي؛ لأن صاحبها بذلها مجاناً، وإن لم يتلفظ بالإباحة؛ كما قلنا في تقديم الطعام للضيف.
قال الإمام: وقد حكى وجه ضعيف: أن الضيف لا يستبيح الطعام بالتقديم، بل لابد من لفظ يدل على الإباحة، والقياس أن يطرد هاهنا، ويقول: يجب الضمان؛ يعني: الدية، وقد حكى ذلك عن رواية أبي الحسين بن القطان، وأنه حمل نص الشافعي على ما إذا أذن صريحاً، لكن الإمام لم يعده من المذهب، وقال: ينبغي أن يستدل بمواضع الوفاق على فساد [المواضع الضعيفة، ولا يتعرض بالوجوه الضعيفة على مواضع الوفاق].
وقد روى عن أبي الطيب بن سلمة أنه قال: يحتمل أن يجب القصاص عند العلم؛ لأنه قطع عضواً لا حق له فيه عن علم بالحال، وهذا الاحتمال نشأ من أمرين:
أحدهما: اعتقاد أن الإخراج ليس بإباحة.
والثاني: أن سكوت الإنسان عند إقدام ظالم على قطع عضوه لا يسقط القصاص عنه؛ كما حكيناه من قبل.
والظاهر المشهور في مسألتنا-الأول:
نعم، لو سرى [قطع اليسار] إلى النفس، قال الرافعي: ففي وجوب الدية الخلاف المذكور فيما إذا قال: اقتلني فقتله، وكان الأولى في العبارة أن يُقال: فهو كما لو قال لرجل: اقطع يدي؛ فقطعها، وسرت؛ لأنه وزان المسألة، وإن كان الحكم في المسألتين [واحدا]، وقد ذكرنا من قبل فيما إذا قال: اقطع يدي فسرى القطع إلى النفس – وجوب القصاص على وجه، ويظهر جريان مثله هاهنا من طريق الأولى.
ثم إذا لم نوجب الدية هاهنا، وهو الذي أورده ابن الصباغ والمحاملي؛ فكأن المخرج هو القاتل لنفسه، وحينئذ تجب له دية اليمين، ويكون في وجوب الكفارة في ماله الخلاف الآتي، وقد صرح المحاملي بالأول، والإمام بالثاني.
قال: وإن قال: فعلت ذلك غلطاً، أي: بسبب ما حصل لي من الدهش، أو ظناً أنه يجزئ، أو ظننت أنه طلب مني اليسار – نظر في المقتص: فإن قطع وهو جاهل، أي: بأنها اليسار أو بأنها لا تجزئ- فلا قصاص عليه؛ لجهله، وبذل صاحبها.
وحكى صاحب التهذيب في حالة جهل القاطع بأنها اليسار، وقول المخرج: فعلت ذلك ظناً أنه يجزئ- وجهاً: أنه يجب القصاص؛ كما لو قتل إنساناً، وقال: ظننته قاتل أبي. وحكاه القاضي الحسين، والإمام – بناء على هذا الأصل-[أبداه احتمالاً] فيما إذا قال المخرج: فعلت ذلك غلطاً بسبب الدهش. وهذا منهم؛ بناء على اعتقادهم أنه إذا قال: تعمدت القطع – أنه يجب القصاص، كما سنذكره عنهم.
ويمكن أن يفرق بين قتل من ظنه قاتل أبيه، وبني ما نحن فيه؛ بأن المخرج
هاهنا مقصر؛ حيث لم يتثبت، و [لم] يفحص عن الحال؛ بخلاف من ظنه قاتل أبيه؛ فإنه لا تقصير من جهته.
وقد حكى الإمام والغزالي في حالة جهل القاطع: بأنها لا تجزئ [وقول المخرج: ظننت أنها تجزئ] عن اليمين – أن العراقيين حكوا عن أبي حفص بن الوكيل وجوب القصاص، وكتبهم ساكتة عنه في هذه الحالة، ومصرحة بحكايته عنه في الحالة التي سنذكرها والله اعلم.
قال: وتجب عليه الدية؛ لأن الباذل بذلها على ان تكون عوضاً عن اليمين، والقاطع قطعها على اعتقاد ذلك؛ فإذا لم يصح العضو، وتلف المعوض، وجب بدله؛ كمن اشترى سلعة بعوض فاسد، وتلف عنده.
قال القاضي أبو الطيب، والمصنف، وغيرهما: وهذا الوجه هو المذهب، وهو ظاهر النص في المختصر فعلى هذا تكون الدية على العاقلة، أو في مال القاطع؟ ينظر:
إن كان في صورة الجهل بأنها اليسار، فهي على العاقلة؛ كما صرح به الماوردي.
وإن كان في صورة الجهل بأنها تجزئ؛ فيتجه أن يتخرج على الوجهين فيما إذا قتل قاتل أبيه بعد عفو أخيه، وجهله بتحريم القتل، وقد ذكرناهما من قبل.
وقال الرافعي: إنا إذا أوجبنا دية اليسار، فهي في مال القاطع؛ لأنه قطع متعمداً.
وعن نصه في الأم أنها تجب على العاقلة، ولم يقيد هذا الكلام بصورة.
قال: وقيل: لا تجب؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها؛ فكان [كما في الصورة] السابقة.
ثم على الوجهين: هل يسقط قصاصه في اليمين، وتجب له الدية عند جهله بأنها تجزئ، أو لا يسقط، ويستوفيه من بعد؟ فيه الوجهان السابقان، صرح بهما الماوردي، والمذكور منهما في الشامل، ومجموع المحاملي: عدم السقوط.
وهذا إذا لم يسر القطع، أما إذا سرى إلى النفس قال ابن الصباغ: كانت
مضمونة بالدية الكاملة، وقد تعذر قطع اليمين، ووجب له نصف الدية؛ فيتقاصان، ويبقى للجاني نصف الدية لورثته.
وحكى عن الشيخ أبي حامد أنه قال: عندي أنه استوفى حقّه من اليمين بتلفه؛ فسقط حقّه؛ ويجب عليه كمال الدية؛ كما لو كان له القصاص في اليد؛ فقطعها ثم قتله؛ والذي رجحه الأول؛ وهو المذكور في مجموع المحاملي، والبندنيجي.
قال: وإن قطع وهو عالم، أي: بأنها اليسار، وانها لا تجزئ، ولم يقطعها عمّاله – فالمذهب: أنه لا قصاص عليه؛ لأنا أقمنا ذلك مقام الإذن في القطع، وهو لو قال لغيره: اقطع يدي؛ فقطعها – لا قصاص عليه؛ فكذلك هاهنا، فعلى هذا تجب الدية.
وقيل: يجب؛ لتعمده قطع يد محرمة، ويخالف مسألة الإذن في القطع، فإنه إنما أذن هاهنا على أن يكون عوضاً عن اليمين؛ فإذا لم يكن عوضاً؛ فكأن لا إذن؛ بخلاف تلك المسألة؛ فإن الإذن فيها لم يتقيد بحالة، فحمل على عمومه، وهذا قول أبي حفص بن الوكيل.
وقد حكى هذا الخلاف في الصورة المذكورة القاضي أبو الطيب والمحاملي ابن الصباغ؛ ولم يفصلوا بين أن يكون القاطع قصد أخذها عن حقّه، أو لا عن حقّه.
والماوردي جزم فيما إذا أخذها عن حقّه بأنه لا قصاص، وفي الحالة الأخرى – بوجوبه، وإلى ذلك صار الإمام والقاضي الحسين، والبغوي في حالة [قول المخرج: فعلت ذلك غلطاً؛ بسبب الدهش وفي حالة] قوله: فعلت ذلك ظنًّا أنه يجزئ، انفرد القاضي الحسين بالجزم بوجوب القصاص.
ولو قال القاطع عند العلم بأنها اليسار: إنما قطعتها لظني أن المخرج قصد الإباحة، فقد جزم في التهذيب في حالة قول المخرج: غلطت بوجوب القصاص؛ كمن قتل إنساناً، وقال: ظننت أنه أذن لي في القتل.
وقضية ذلك أن يُقال بمثله فيما إذا قال المخرح: ظننت أنه تجزئ عن اليمين، وقال القاطع: إنما قطعت؛ لظني انك أبحتها.
وهذا ما أبداه الإمام احتمالاً موجهاً لذلك: بأن هذا الظن بعيد، والظنون البعيدة لا تدرأ القصاص، لكن المحكي عن القفال وغيره: انه لا قصاص؛ لان ما يقوله ممكن.
ولو قال القاطع: دهشت؛ فلم أدر ما صنعت، وكان المخرج قد قال ذلك –قال الإمام: لزمه القصاص في اليسار؛ لأن الدهشة السالبة للاختيار لا تليق بحال القاطع.
قال: وإن اختلفا في العلم أي: في علم الباذل بأنها اليسار؛ كما قاله البندنيجي وغيره، وأن قطعها لا يجزئ عن اليمين – فالقول قول الجاني؛ لأنه أعرف بحاله، مع أن الأصل عدم العلم؛ فإن حلف ثبتت له ديتها، وإن نكل فيحلف القاطع انه ما بذلها إلا وهو يعلم أنها [لا تقع] بدلاً عن اليمين، وتكون الجناية هدراً.
قال: وإن تراضيا على أخذ اليسار؛ فقطع – لزمه دية اليسار؛ لأن الصلح لم يصح، فإن القصاص إذا تعلق بمحل لم يجز استيفاء غيره ولو بالتراضي: كقطع اليد عن الرجل، وبالعكس، وقد سقط القصاص؛ لبذل صاحبها إياها؛ فتعين وجوب الدية؛ لأن البذل كان في مقابلة ما عليه؛ فإذا لم يسلم له، وقد فات ما بذله، وجب أن يرجع إلى بدله؛ كما في العقود الفاسدة.
قال: وسقط قصاصه في اليمين؛ لأن عدوله إلى اليسار رضا منه بترك القصاص فيها.
وقيل: لا يسقط؛ لأنه أخذ اليسار، على أن تكون بدلاً عن اليمين؛ فإذا لم يسلم البدل والمبدل قائم بحاله – استحق أخذه؛ فعلى هذا يجيء ما تقدم في قطع اليمين.
وعلى الأول تجب له الدية، وقد وجبت عليه الدية، فإن تساويا تقاصًّا، وإن اختلفا، كيد الرجل، ويد المرأة – تقاصا فيما تساويا فيه، ويردّان الفضل.
قال: وإن كان القصاص على مجنون؛ أي: بأن جني وهو عاقل، ثم جنّ؛ فقال له: اخرج يمينك؛ فأخرج اليسار؛ فقطعها؛ فإن [كان] المقتص عالماً وجب عليه القصاص، وإن كان جاهلاً، وجبت عليه الدية؛ لأن بذل المجنون لا يصح؛ فكان كما لو قطعها بغير بذل، ثم حكم قصاصه في اليمين لا يخفى مما تقدم، والله أعلم.
ولنختم الباب بفروع تتعلق به:
[الفرع الأول]: إذا وجب على سفيه قصاص، وامتنع من له القصاص عن العفو عنه إلا بأكثر من قدر الدية – كان للسفيه بذل ذلك مع مراجعة الولي: فإن أبي الولي ذلك، أو تعذرت مراجعته – استقل السفيه، وإن احتاج إلى بذل ديات. ولو نهى [السفيه] عن المصالحة، أو سكت عنها، قال الإمام في باب الحرية: الوجه عندنا أن للولي ذلك؛ كما أنه تدارك رمقه – وإن احتاج إلى استيعاب ماله – بطعام يحصله. ثم قال: وقد يخطر للفقيه: أنه ليس للولي التصرف في دمه، وهو بعيد.
[الفرع الثاني]: إذا جنى حرّ على حرّ جناية توجب القصاص، فصالحه المجني [عليه] على عين عبد، أو ثوب- جاز، وإن لم تكن الدية معلومة لهما؛ فإن تلفت العين قبل القبض، أو ردها بعيب، أو خرجت مستحقة – فلا رجوع إلى القصاص، وبم [يرجع]: هل بقيمة العين، أو بارش الجناية؟ ينبني على أن بدل الصلح عن الدم مضمون ضمان العقد، أو ضمان اليد.
وإن كانت الجناية موجبة للدية؛ فصالح منها على عين، أو اشترى بها عيناً: إما من العاقلة في الخطأ، أو من الجاني في العمد – فيُنظر: إن لم يعلما قدر إبل الدية وأسنانها لم يصح، وإن علما ذلك، ولم يبق إلا الجهل بأوصافها – ففي
صحة ذلك وجهان.
وإذا صح فلو تلف الصالح عليه، أو ردّه بعيب – فالرجوع إلى الأرش قولاً واحداً؛ لأنه يمكن الرجوع إلى المصالح عنه؛ [لأنه مال، وفي الصلح عن القصاص لا يمكن الرجوع إلى المصالح عنه].
[الفرع الثالث]: إذا قتل أحد عبدي الرجل [العبدَ] الآخر عمداً – فللسيد أن يقتص منه؛ فإن أعتقه، لم يسقط عنه القصاص، ولو عفا عنه بعد العتق مطلقاً، لم يثبت المال؛ لأن القتل لم يثبته.
قال صاحب التهذيب في فتاويه: ولا يخرج على أن العفو المطلق هل يوجب المال؟
وإن عفا بعد العتق على مال ثبت [المال].
[الفرع الرابع]: إذا ضرب ثنيته فزلزلها، ثم سقطت بعد ذلك [بأيام] بيجب القصاص؛ وكذا لو ضرب على يده؛ فاضطربت أو تورمت، ثم سقطت بعد أيام] – يجب على الضارب القصاص.