الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب من يجب عليه القصاص
[قال]: باب من يجب عليه القصاص، ومن لا يجب القصاص - بكسر القاف، كما قال الأزهري-: المماثلة، وهو مأخوذ من "القص"، وهو القطع.
وقال الواحدي وغيره من المحققين: هو من اقتصاص الأثر، وهو تتبعه؛ لأن المقتص يتتبع جناية الجاني؛ فيأخذ مثلها، ويقال: اقتص من غريمه، واقتص السلطان فلاناً، أي: أخذ له قصاصه، واستقص فلان فلاناً: طلب قصاصه منه.
والأصل في وجوب القصاص: قبل الإجماع:
من الكتاب: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178]، وقوله تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء:33] وهو القصاص بالاتفاق.
وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] أي: فإن الإنسان إذا علم أنه إذا قَتَلَ كف عن القتل، وقد كانت العرب تقول: القتل أنفى للقتل. وقيل: المخاطب في الآية أولياء المقتول؛ فإن القاتل انشأ بينه وبينهم عداوة بسبب القتل؛ فيكون حريصاً على قتلهم [أيضاً]، فإذا قتلوه حيوان قاله المتولي.
وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى آخرها [المائدة:45].
وجه الدلالة منها- على قراءة النصب - أنها وإن كانت حكاية عن شَرْع من قبلنا فهي شرع لنا؛ لأن شرع من قبلنا شرع لنا في أصح الطريقين - كما قاله الماوردي عند الكلام في قلع العين بالإصبع- إذا لم يَرِد في شرعنا ما ينسخه، ولم رد. وفي طريقة أخرى يكون شرعاً لنا إذا قام عليه الدليل، وقد قام عليه
الدليل؛ روى البخاري في "صحيحه" عن أنس: "أَنَّ [عَمَّتَهُ] الرُّبَيِّعَ – وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ – كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ؛ فَطَلَبُوا الأَرْشَ، وَطَلَبُوا الْعَفُوَ، فأَبَوْا، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ؛ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرث ثَنِيَّةُ [الرُّبَيِّع يَا] رَسُولَ اللهِ؟! لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا قَالَ: "يَا أَنَس، [كِتَابُ اللهِ الْقِصَاصُ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَعَفَوْا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ".
وروى مسلم، عن أنس:"أَنَّ أُخْتَ الرَّبِيعِ أُمَّ حَارِثَةَ، جَرَحَتْ إِنْسَاناً، فَاخْتَصمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "الْقِصَاصً"! فَقَالَتْ أُمُّ الرَّبِيعِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَقْتَصُّ مِنْ فُلانَةَ؟! [لا]، وَاللهِ لا تَقْتَصُّ [منها] [أبداً]؛ [فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "سُبْحَانَ اللهِ يَا أُمَّ الرَّبِيعِ، [الْقِصَاصُ] كِتَابُ اللهِ"! قَالَتْ: لا وَاللهِ لا تَقْتَصُّ مِنْهَا أَبَداً، قَالَ]: فَمَا زَالَتْ حَتَّى قَبِلُوا الدِّيَةَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ".
وموضع الدليل منهما: أنه أخبر بأن كتاب الله موجب للقصاص في السن والجراحة، وليس لهما في الكتاب ذكر، إلا في هذه الآية.
وأما على قراءة الكسائي بالرفع في "العين" وما بعدها فظاهر؛ لأن ذلك يكون خارجاً عن الخبر إلى الأمر.
ومن السنة – [مع] ما ذكرناه – ما روى أبو داود في حديث طويل عن طاوس، وأبي عبيد مؤدبه – وهو محمد – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ قَتَلَ عَمْداً فَهُوَ قَوَدٌ". زاد أبو [عبيد]: "قود يد"، ثم اتفقا:"وَمَنْ حَالَ دُونَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَغَضَبُهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ".
وروى أبو داود – أيضاً - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع: "أَلا إِنَّكُمْ مَعْشَرَ خُزَاعَةَ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلِ، وأنا عَاقِلُهُ، فَمَنْ قُتِلَ لَهُ بَعْدَ مَقَالَتِي هَذِهِ قَتِيلٌ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: أَنْ يَاخُذُوا الْعَقْلَ، أَوْ يَقْتُلُوا" وقال الترمذي: إنه حسن صحيح.
والعقل: الدية، وأصله: أن القاتل كان إذا قتل قتيلاً جمع الدية من الإبل بعقلها بفناء أولياء المقتول؛ ليسلمها إليهم؛ فسميت الدية: عقلاً بالمصدر، يقال: عقل البعير بعقِله عَقْلاً، وكثر استعمال هذا الحرف حتى قالوا: عقلت المقتول: إذا أعطيت ديته دراهم أو دنانير.
قال: "لا يجب القصاص على صبي ولا معتوه"؛ لقوله – عليه السلام:"رُفِعَ
القلمُ عن ثلاث
…
" الخبر المشهور، ولأنهما غير مكلفين؛ فلم يجب عليهما القصاص كالبهيمة، ولأنه عقوبة؛ فلم تجب عليهما كالحدود.
قال: "ولا مُبَرْسم"؛ بالقياس على المعتوه.
قال: "ويجب على من زال عقله بمحرَّم"؛ لان زوال عقله به لا أمارة عليه، ولا يعرف حد ذلك، [و] لأنه لو لم يجب لأدى إلى ترك القصاص؛ فإنه لا يشاء يقتل إلا سكر حتى لا يقتص منه؛ وهذا ما جزم به القاضي أبو الطيب.
[قال]: قيل: فيه قولان:
وجه الوجوب – وهو الصحيح-: ما ذكرناه.
ووجه المنع: أنه زائل العقل؛ فكان كالمعتوه، وقد تقدم الكلام في أفعاله وأقواله في كتاب الطلاق.
والزائل العقل بسبب يعذر فيه: كمن شرب دواء فسكر منه، ثم قتل، أو أكره على شرب الخمر فسكر، ثم قتل- كالمعتوه.
فروع:
لو قال القاتل: كنت يوم القتل صغيراً، وكذبه ولي المقتول- فالمصدر باليمين القائل؛ بشرط الإمكان، ولو قال: أنا الآن صغير، فلا قصاص، ولا يحلف، قاله الرافعي.
وفي "الذخائر" نسبة ذلك إلى قول أبي الطيب، وأن أبا نصر وصاحب "الحاوي" حكيا عن المذهب: أن عليه اليمين، وأن الشاشي قال: إن الأول أصح.
وقال أبو إسحاق: تؤخر اليمين إلى أن يبلغ إذا أوجبناها، قال: وفيه نظر.
ولو قال: كنت مجنوناً عند القتل، وكان عُهِدَ له جنون – فهو المصدق.
وحكى الروياني وجهاً: أن المصدق الوارث إن [كان] الجنون الذي عهد له متقطعاً.
وفي "الحاوي" و"الشامل" و"الإبانة" وجه مطلق: [أنه] المصدق؛ لأن الأصل السلامة.
وحكى القاضي أبو الطيب عن بعضهم القطع به، ثم قال: وليس بشيء، وقد تقدم [في باب: اللعان] مثل هذه الأوجه أقوالاً [فيما إذا] ادعى القاذف أنه قذفه وهو مجنون، وكذب فيه.
قال: "ولا يجب القصاص على المسلم بقتل الكافر"؛ لما روى البخاري، عن عليّ – كرم الله وجهه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ".
وفي رواية أبي داود والنسائي: "أَلا لا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ".
قال أبو إسحاق: والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذه الزيادة؛ لأجل أن قوله: "لا يقتل مسلم بكافر" إغراء بقتل الكافرين؛ فاستثنى بها حقن دماء أهل الذمة.
ثم لا فرق في الكافر بين أن يكون حربيًّا أو مستأمناً أو معاهداً أو ذميًّا، أو ممن تمسك بدين بعض الأنبياء ولم تبلغه دعوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لعموم الخبر.
وفي "الوسيط" حكاية وجه: أن المسلم يقاد بمن لم تبلغه الدعوة إذا كان متمسكاً بدين بعض الأنبياء.
قال في "التتمة": وهو اختيار القفال.
وفي "الحلية": أنه روى عن الشافعي في "الإملاء": أن المسلم يقتل بالمستأمن.
فرع: إذا قتل ولي الكافر المسلم بغير [حكم حاكم]، قال الروياني عن والده: إن عليه القصاص، وإن كان خلاف العلماء فيه – بخلاف الوطء في النكاح بلا ولي- لا يوجب الحد؛ لأن القصاص لا يستوفي إلا بإذن الحاكم وإن كان متفقاً على وجوبه، ومن يبيح الوطء في النكاح لا يعتبر إذناً فيه.
وفي "الحاوي"، في كتاب حد الخمر: أن الإمام والجلاد إذا كانا يعتقدان عدم
الجواز فالضمان واجب، لكن اختلف أصحابنا في وجوب القصاص على وجهين:
أحدهما- وهو قول ابن أبي هريرة -: أنه واجب؛ للنص.
والثاني: لا قود؛ لشبهة الاختلاف، ولأنه لو قتله بشهادة الزوايا، أو جلده في حد القذف بالتعريض، وهو لا يعتقد ذلك، فمات – فلا قود، والدية تجب.
قال: "ولا [على] الحر بقتل العبد"؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178]؛ فاقتضى هذا الظاهر ألا يقتل حر بعبد، ويعضده ما رواه أبو داود، عن قتادة، عن الحسن قال:"لا يُقَادُ الْحُرُّ بِالعَبْدِ"، [وما رواه الدارقطني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ]، يعني: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن الحر لا يقطع طرفه بطرف العبد قصاصاً، وحرمة النفس أعظم؛ فالقصاص فيها أولى بالمنع.
وحكم المدبر، والمعلق عتقه بصفة، والمكاتب، وأم الولد، ومن بعضه حر وبعضه رقيق – حكم الكامل الرق.
نعم، لو قتل من بعضه حر وبعضه رقيق من هو مثله – وجب عليه القصاص عند العراقيين من أصحابنا، وبه جزم الماوردي. وعند الخراسانيين والقاضي أبي الطيب، كما حكاه ابن الصباغ عن قوله في "المجرد": لا قصاص، واختاره القفال والمتأخرون؛ لأن كل جزء من القتيل يقابله جزء شائع من القاتل، من الحرية والرق؛ فيؤدي إلى استيفاء جزء من الحر بجزء من الرقيق، وهو مقتضى التوزيع المذكور في "مُدّ عَجُوَة"، ومما يدل على الشيوع: أن من نصفه حر ونصفه عبد لو قتل مثله، وآل الأمر إلى المال – كان الواجب على القاتل ربع دية المقتول وربع قيمته، [وتعلق بالنصف الرقيق منه ربع دية المقتول وربع قيمته]، ولا نقول: مقدار القيمة [من الجزء الرقيق يتعلق بمقدار الرقيق من الجاني ومقدار الدية] يتعلق بقدر الحر من الجاني،
قال: "فإن جرح الكافر كافراً"، أي: غير حربي، "ثم أسلم الجارح ومات المجروح، أو جرح العبد عبداً، ثم أعتق الجارح"، أي: ومات المجروح- "وجب عليه القود"؛ لأنه وجد التكافؤ حالة الجرح المفضي إلى الهلاك؛ فكان الاعتبار بها فإنها حالة الفعل الداخل تحت الاختيار؛ ولهذا نقول: لو جن الجارح، ثم مات المجروح – يجب [عليه] القصاص، وقد جزم بهذا بعضهم كالشيخ، ورجحه آخرون، ووراءه قول حكاه القاضي الحسين في الصورتين، وادعى ابن يونس أنه غير معروف في الأولى، وأثبته الإمام والمتولي وجماعة وجهاً، وادعوا أنه الصحيح؛ لأن القصاص إنما يجب وقت زهوق الروح؛ بدليل ما لو جرح مسلم مسلماً، ثم ارتد المجروح، ومات – فإنه لا يجب القصاص، [و] إذا كان كذلك فالجارح في تلك الحالة مسلم [أو حر].
ثم محل الخلاف في المسألة الثانية – عند المراوزة – إذا كان العبدان مسلمين، وسيد المجروح مسلماً حالة موته، أما لو كان ذميًّا: فإن قلنا في المسلم
بعدم القصاص فهاهنا أولى، وإلا فوجهان:
وجه المنع: أن المستحق القصاص كافر، وقد طرده بعض الأصحاب فيما إذا قتل الذمي ذميًّا، ثم أسلم القاتل، ومستحق القصاص ذمي، كما حكاه مجلي عن "تعليق" إلكيا، وإن كان شيخه أبو المعالي الجويني جزم باستحقاق القصاص في هذه الصورة.
وعلى وجه الجواز – وهو الصحيح – ليس للكافر استيفاء القصاص بنفسه، بل الحاكم يستوفيه له؛ وكذا عند إسلام القاتل الذميّ.
فرع: إذا قتل الذمي ذميًّا، ثم أسلم القاتل، وقلنا بوجوب القصاص، فمات المستحق للقصاص، ووارثه كافر – فهل ينتقل حق القصاص إليه؟ فيه وجهان عند المراوزة، وأصحهما: الانتقال [إليه].
تنبيه: القود: بفتح القاف والواو، مأخوذ من [قود] المستقيد الجاني بحبل وغيره؛ ليقتصّ منه، و"والقود" و"القصاص": بمعنّى.
الجرح – [بفتح الجيم – مصدر جرحه يجرحه جرحاً، والجرح – بضمها-: الاسم، وجمعه: جروح، و"الجراحة" بمعنى: الجرح] وجمعها: جراح-[بالكسر – ورجل جريح وامرأة جريح،] ورجال ونسوة جرحى.
قال: "وإن قتل حر عبداً، أو مسلم ذميًّا، ثم قامت البينة انه كان قد أسلم، أو أعتق – ففي القود قولان".
وجه الوجوب: وجود القتل [العمد] المحض العدوان [من] المكافئ حالة القتل، وهذا هو الأصح، قال الرافعي: وفي كلام بعضهم ما يشير إلى القطع به.
ووجه المنع: أنه لم يقصد قتل من يكافئه، والقصاص يسقط بالشبهة الممكنة والظن، وهذا ما نص عليه في "المختصر".
[والأول مخرج من نص الشافعي في "المختصر"] و"الأم" على وجوب القصاص فيما إذا قتل من عهده مرتداً، وظن أنه لم يسلم، وكان قد أسلم؛ كما
خُرِّج من نصه هنا إلى ثَمَّ قولٌ بعدم وجوب القصاص.
وقال الماوردي: إنه نص عليه في بعض كتبه، أعني: في المرتد، كما سنذكره في بابه، وقد أقر بعض الأصحاب النصين، وفرق بأن المرتد يحبس في دار الإسلام ولا يخلي، فقاتله في حالة تخليته مقصر، بخلاف العبد والذميّ. ثم على القول بسقوط القصاص: لو ادعى الجاني ذلك، وقال له الولي: بل عرفت الحال – فالقول قول الجاني.
فرعان:
إذا قتل من عهده حربيًّا، وظن أنه لم يسلم، وقد كان أسلم – فمن الأصحاب من جعله كالمرتد، ومنهم من قطع بأنه لا قصاص، وفرق بأن المرتد لا يخلي، والحربي قد يخلي بالمهادنة، وفرق بينه وبين الذميّ والعبد: بأن الظن هناك لا يقتضي الحد والإهدار، وهنا بخلافه، والقول بسقوط القصاص موافق لما جزم به البندنيجي فيما إذا أتانا جماعة من البغاة تائبين، فأمنهم السلطان، [فقتل رجل من أهل العدل رجلاً منهم، وادعى جهالته بأمان السلطان] ورجوعهم عن رأيه – فالقول قوله مع يمينه، ولا قود عليه، وعليه الدية.
وقد حكى الإمام القولين في وجوب القصاص فيما إذا قتل الرجل إنساناً على زِيّ الكفار [رآه] في دار الإسلام، وقال: إذا لم نوجب القصاص فهل تجب الدية عليه، أم على العاقلة؟ فيه قولان، [فإن] ضربناها عليهم، فلا شك في تأجيلها، والرأي الظاهر: أنها مغلظة كدية شبه العمد، ومن أصحابنا من ألحقها بالخطأ المحض، قال ذلك في باب قتال أهل البغي.
[الثاني]: إذا ظنه قاتل أبيه؛ فقتله، وبان خلافه – ففي وجوب
القصاص قولان، أظهرهما: الوجوب، ومحلهما – عند قوم – إذا تنازعا، أما إذا صدقه ولي الدم فلا قصاص بلا خلاف وعند آخرين طردهما في الحالين؛ لانه ظن من غير مستند شرعي.
قال:"وإن جنى حر على رجل لا يعرف رقُّه وحريته، فقال الجاني: هو عبد، وقال المجني عليه: [بل أنا] حر – فالقول قول المجني عليه"؛ لأن الأصل في الآدمي الحرية، "وقيل: فيه قولان":
وجه قبول قول المجني [عليه]: ما ذكرناه.
ووجه قبول قول الجاني: أن الأصل براءة ذمته، وهذه المسألة قد تقدم الكلام فيها في اللقيط؛ فليطلب منه.
قال: "ولا يجب القصاص على الأب والجد"، أي:[من الجهتين]، "ولا على الأم والجدة"، أي: من الجهتين "بقتل الولد، وولد الولد"، ووجهه في [الأب]: ما روى الترمذي، عن سراقة بن مالك قال:"حَضَرْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقِيدُ الأَبَ مِنَ ابْنِهِ، وَلا يُقِيدُ الابْن مِنْ أَبِيهِ".
وروى – أيضاً – عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ"، وأخرجه الدارقطني.
وروي عن عمرو بن العاص:"أن رجلاً من بني مدلج أولد جارية له ابناً، وكان يستخدمها، فلما شب الغلام قال: إلى [متى] تستأمي أمي – أي: تستخدمها خدمة الإماء – فغضب؛ فحذفه بسيفٍ فأصاب رجله؛ فقطعها ومات؛ فانطلق في رهط إلى عمر فقال: يا عدو نفسه، أنت الذي قتلت ابنك؟! لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا يُقَادُ الأَبُ مِنَ ابْنِهِ لَقَتَلْتُكَ"، ولأن الوالد سبب [في] وجوده؛ فلا يحسن أن يصير الولد سبباً في إعدامه.
ووجهه – فيمن عدا الأب – القياس على الأب؛ لأنهم في معناه [في] العتق [عليه، ووجوب] النفقة، ورد الشهادة؛ فكذلك هنا.
وعن رواية صاحب "التلخيص" وأبي الطيب بن سلمة قول بوجوب القصاص على الأجداد والجدات. قال الإمام: وهو غريب، رده الأصحاب، ولم يقبلوه منصوصاً ولا مخرجاً، ولعله أخذ من قول الشافعي في الرجوع في الهبة أنه يختص بالأبوين، وليس هذا على وجهه؛ فإن اللائق بالهبة: منع الرجوع، والاقتصار على مورد الخبر، واللائق بالقصاص – إذا تمهد ما يدرأ العقوبة- أن لا تخصيص.
وحكى الإمام عن بعض أئمة المذهب: أن القصاص يجب على الأب ويسقط؛ لزعمهم أن سبب الوجوب التساوي، مع كون القتل موجباً للقصاص، ولكن يتعذر استيفاؤه، وهذا من حشو الكلام؛ فإن المانع من الاستيفاء مانع من الوجوب، ولا فرق – فيما ذكرناه – بين أن يتساوى الولد والوالد في الحرية والرق والإسلام والكفر، أو يختلفا.
فرعان:
أحدهما: لو حكم حاكم بقتل الوالد بالولد نقض حكمه.
الثاني: لو تنازع رجلان في نسب لقيط، فادعى كل منهما أنه ابنه – فإنه يرى القائف، فإذا اشتبه عليه، ثم قتله أحدهما قبل بلوغه – لم يقتل به؛ لأن الشبهة قائمة. [نعم]، لو قال بعد ذلك: ليس هذا ابني، وبقي الآخر على دعواه البنوة – قتل به جزماً عند العراقيين والماوردي والبغوي، وبناه الفوراني على أن نسبه يلتحق بالآخر بمجرد إنكار المنازع، كما هو قول الشافعي، [أما إذا] قلنا: لا يلتحق بالآخر بمجرد الإنكار، فلا يجب القصاص؛ كما لو وطئ رجلان امرأة، فأتت بولد يمكن أن يكون منهما، وأشكل على القائف أمره، فقتله أحدهما قبل بلوغه، وادعى أنه ليس بابن له؛ فإنه لا يجب [عليه] القصاص؛ لأن إنكاره لا يلحق نسبه بالآخر، على أن صاحب "التهذيب" حكى وجهاً في هذه الحالة بوجوب القصاص؛ كما في اللقيط.
ولو رجع المقران بنسب اللقيط عن دعواهما، ثم قتلاه، أو أحدهما- لم يجب قصاص.
قال الماوردي: لأنه قد صار بدعواهما مستحقًّا لأبوة أحدهما، فإذا رجعا عنها صارا متفقين على إسقاط أبوته؛ فلم يقبل منهما، وإذا لم يقبل [منهما] رجوعهما بقيت الشبهة.
ولو اشترك المدعيان النسب المجهول في القتل، وكان قد ألحقه القائف بأحدهما- قُتِل شريكه على الأصح.
وعن القاضي ابن كج رواية وجه: أنه لا يقتص منه؛ لأن إلحاق القائف مبني على المارات والأشباه؛ فهو ضعيف، فلا يناط به القصاص؛ إذ هو يسقط بالشبهات؛ بخلاف اللحوق بالفراش.
قال:"وإن وجب القصاص على رجل، فورث القصاص ولده- لم يستوف"؛ لأنه إذا لم يستوف منه بجنايته على الولد، كان أولى ألا يستوفيه الولد.
ثم صورة المسألة: أن يقتل [ولد] عتيق ولده؛ بكما صوره] الفوراني، أو عتيق زوجته، وله منها ولد، ثم يموت العتيق، أو الزوجة بعد بينونتها منه وقبل استيفاء القصاص، وكما لا يجب عليه إذا ورثه القاتل، وصورته: أن يقتل ابن زوجته، ثم يموت؛ فينتقل [إليه منه] النصف أو الربع، أو أقل من ذلك، ويسقط القصاص؛ لعدم إمكان تحريه.
تنبيه: كلام الشيخ مصرح بأن الابن يرث القصاص الواجب على أبيه، لكنه يسقط، والقياس يقتضي عدم إرثه؛ لأن المسقط له – وهو البنوة – قارن سبب الملك، والشيء إذا قطع الدوام منع الابتداء، لكن [لو] صير
إلى هذا لاقتضى إيجاب القصاص على الأب؛ فإن الابن إذا لم يرثه على أبيه خرج عن أن يكون وارثاً له، وإذا لم يرثه ورثه غيره؛ فيستوفيه، والمصير إلى هذا، مع ان الابن بصفة الوارثة مستنكر، وقد اغتفر مثل ذلك في جريان ملك الرجل ابنه، ما لم يتصور العتق إلا في ملك، وقدر الملك؛ ليترتب عليه العتق.
وحكى الإمام عن شيخه – بعد تقرير هذه المباحثة- أنه كان يميل إلى أن من قتل من وارثه الابن لم يجب القصاص؛ لامتناع الوراثة، مع استجماع الابن شرائط الوراثة.
قال: "وإن قتل المرتد ذميًّا – ففيه قولان"، أي: منصوصان، كما قاله المحاملي.
وجه وجوب القصاص، وهو الصحيح، والذي قال الشافعي فيه: إنه أولى القولين – أنهما كافران؛ فجرى القصاص بينهما كالوثنيين، ولأن المرتد أسوأ حالاً من الذميّ؛ لأنه مهدر الدمن ولا تحل ذبيحته، ولا يقر بالجزية؛ فأولى أن يقتل بالذميّ الثابت له ذلك، ولا فرق – على هذا – بين أن يعود إلى الإسلام أو لأن ويجيء مما تقدم فيما إذا عاد إلى الإسلام وجه: أنه يسقط.
ووجه عدم الوجوب: بقاء حرمة الإسلام في المرتد؛ [بدليل] وجوب قضاء الصلوات والصوم عليه، وأخذ الزكاة من ماله، وتحريم استرقاقه، وتحريم
نكاح الذمي المرتدة، فعلى هذا تجب الدية: فإن رجع إلى الإسلام تعلقت [بذمته، وإن مات أو قتل على الردة تعلقت] بماله، وقد بنى الإمام الخلاف في المسألة على الخلاف الآتي في المسألة الثانية؛ فقال: إن قلنا: إن الذميّ لا يقتل بالمرتد، فالمرتد مقتول بالذميّ، وإن قلنا: الذميّ مقتول بالمرتد، فهل يقتل المرتد بالذميّ؟ فعلى قولين. وهذا فيه نظر؛ لأن الخلاف الآتي – كما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب والمحاملي وغيرهم – محكي عن الأصحاب وجهين، ولا يمكن بناء قولين على وجهين. نعم لو عكس البناء – كما سنذكره عن القاضي الحسين – لكان أنسب.
وطريق الجواب عن هذا: أن الإمام حكى أن العراقيين حكوا الخلاف الآتي قولين، وحينئذ إن صح هذا فلا اعتراض.
قال:"وإن قتل ذميّ مرتدًّا فقد قيل: يجب القولد"؛ لأن الذميّ يقتله عناداً، لا تديناً؛ فأشبه ما لو قتل مسلماً، وهذا ما اختاره ابن أبي هريرة، وعلى هذا فيستوفي القصاص الإمام أو من ينوب عنه؛ كما قاله الشيخ أبو عليّ، وحكى قولاً بعيداً أن حق الاستيفاء يثبت لورثته أن لو مات مسلماً.
[قال الإمام: وهذا يمكن تخريجه من مسألة ستأتي وهي أن المسلم إذا قطع يد مسلم]، ثم ارتد المجروح، ومات مرتدًّا – فإن الشافعي قال: لأوليائه القصاص في الطرف، ولو عفا مستحق القصاص وجبت الدية، وفي قدرها وجهان:
أحدهما: دية مسلم؛ لبقاء علقة الإسلام عليه.
والثاني – وبه جزم في "التهذيب"، والبندنيجي -: أخس الديات، وهي دية المجوسي؛ لأنه لا دين له.
قال: "وقيل: لا يجب"؛ لأن المرتد مهدر الدم كالحربي، وإيجاب القصاص على القاتل المعصوم بقتل المهدر بعيد، وكما هذا لا تجب الدية، وهذا قول أبي إسحاق المروزي، وهو الذي صححه المحاملي
والقاضي أبو الطيب والبغوي وغيرهم، وقد بنى القاضي الحسين هذا الخلاف على العلتين؛ لإيجاب القصاص في المسألة السابقة؛ فقال: إن قلنا: العلة ثم استواؤهما في الكفر، وجب القصاص هنا، وإن قلنا: العلة ثم كون القاتل مهدر الدم والمقتول معصوم الدم، فلا يجب هاهنا.
وقيل: إن قتله عمداً وجب القصاص، وإن قتله خطأ فلا دية، وهذا ما نسبه الإمام وأبو الطيب والشيخ في "المهذب" والبغوي إلى تخريج الإصطخري، والبندنيجي والماوردي إلى أبي الطيب بن سلمة، وقال: إنه لو عفا عن القود لا تجب له الدية، ثم قال: ولو عكس ما قاله ابن سلمة لكان أشبه، [و] لأن وجوب القود أغلظ من وجوب الدية؛ لأن عمد الخطأ يوجبها ولا يوجبه؛ فلو قال: إن الدية واجبة لبيت المال، دون القود – لكان أشبه بالأصول.
فروع:
[لو قتل المرتد مرتدًّا]، فظاهر المذهب: أنه مقتول به؛ لاستوائهما في كل معنى، وأبعد بعض أصحابنا؛ فقال: لا قصاص عليه؛ لأن المقتول هدر. قال الإمام: وهذا له اتجاه، وإن كان بعيداً.
إذا قتل الذميّ مسلماً زانياً محصناً وجب عليه القصاص جزماً، وكذا لو قتله مرتد، صرح به في "التتمة".
وقال القاضي الحسين: فيه جوابان [جاريان] فيما لو قتل تارك الصلاة مثله.
واعلم أن ممن لا يجب عليه القصاص: الحربي، ولم يذكره الشيخ، بل كلامه يقتضي وجوبه عليه؛ لأنه لما حضر من لا يجب عليه القصاص تبين به من يجب عليه، وهو من عداه، على أن أبا الحسن العبادي حكى أن الأستاذ أبا إسحاق الأسفراييني ذهب إلى أنه يجب على الحربي ضمان النفس والمال؛ تخريجاً على أن الكفار مخاطبون بالشرائع، قال: ويعزى إلى المزني في "المنثور"، [وقد حكاه عن رواية المزني في "المنثور"] – أيضاً- في المال،
القاضي الحسين في كتاب السير، وخصه بما إذا عقدنا له الذمة، فلعل الشيخ اختاره – والله أعلم.
قال:"ولو قطع مسلم يد مسلم، ثم ارتد المجني عليه، ورجع إلى الإسلام، ومات"؛ أي: من القطع، "ولم يمض عليه [في] الردة زمان يسري فيه الجرح، [ففيه قولان، أصحهما: أنه يجب القود"؛ لأن زمان الردة لم يسر فيه الجرح]؛ فكان وجوده كعدمه، وعلى هذا من يستوفيه؟ سنذكره.
ووجه المنع: أنه أتت عليه حالة لو مات فيها لم يجب القصاص؛ فسقط، ولم يعد وجوبه بعد ذلك؛ كما لو ارتدت المبتوتة في المرض، ثم أسلمت قبل موت زوجها – لم ترثه؛ لأنها لو ماتت في ردتها لم ترثه، وهذا ما رجحه الشيخ أبو حامد والإمام وغيرهما؛ كما حكاه الرافعي، وقد وافق الشيخ على تصحيح الأول: المحاملي، والقاضي أبو الطيب، وصاحب "المرشد".
ثم هذان القولان كالقولين اللذين ذكرهما الشافعي في "الأم" – كما حكاه الأكثرون – فيما إذا قطع ذميّ يد مستأمن؛ فلحق المجني عليه بدار الحرب، ثم عاد إلى الإسلام، ثم مات من قطع اليد – في أن القصاص هل يجب عليه، أم لا؟ أما إذا مضى عليه في الردة زمان يسري فيه الجرح فلا قصاص عند الجمهور؛ لأنه اجتمع موجب ومسقط، فغلب حكم المسقط؛ كما لو جرحه جرحين: أحدهما عمد، والآخر خطأ.
وعن ابن سريج وابن سلمة وابن الوكيل طرد القولين السابقين في هذه الحالة – أيضاً – وهو قضية كلام الإمام والقاضي ابن كج؛ فإنهما حكيا أن الشافعي – أيضاً – وهو قضية كلام الإمام والقاضي ابن كج؛ فإنهما حكيا أن الشافعي نص في مسألة الكتاب على أن لا قصاص، وأن الصيدلاني وغيره حكوا نصه في مسالة الذميّ والمستأمن على وجوب [القصاص]، وأن من الأصحاب من جعل – لأجل ذلك – في المسألتين طريقين:
أحدهما: حكاية قولين في المسألتين.
قال الإمام: وأقيسهما تقرير النصين، وحملهما على حالين:
فحيث قال: لا يجب، فذاك إذا طالت مدة الإهدار؛ بحيث يظهر أثر السراية، ويجعل له وقع واعتبار.
وحيث قال: يجب، فذاك إذا قصرت المدة؛ بحيث لا يجعل للسراية فيها اعتبار ووقع، وقد حكى الصيدلاني أن القفال قال: القولان مبنيان على ما إذا اذهب الروح بجناية مضمونة واقعة عمداً، وجناية عمد غير مضمونة، كما إذا قتله حربي ومسلم، أو مسلم وسبع.
ووجه التقريب: أن السراية في حال الهدر لها حكم العمد، ولكن لا ضمان فيها والجراحة والسراية في الطرفين لهما حكم العمد والضمان.
قال الإمام: وهذه هفوة عظيمة؛ فإنا إذا قدرنا السراية في حال الهدر بمنزلة العمد الذي لا ضمان فيه، فهي مضافة إلى الجاني العامد الضامن. ولو صدرت من واحد جناية عمداً مضمونة، وجناية عمداً غير مضمونة، ومات منهما – لم يجب عليه القصاص اتفاقاً، فقياس هذا البناء: ألا يجب [القصاص] جزماً، وهذا حكم القصاص، [أما حكم] الدية – فتجب في الصورتين إذا آل الأمر إلى المال، وإذا وجبت وجبت الكفارة [أيضاً] وهذا القول لم يحكه الفوراني.
وقيل في الصورة الثانية قول آخر، [وادعى الإمام أنه ظاهر النص]: إن الواجب نصف الدية، وصححه في "التهذيب"، وعلى هذا تجب الكفارة أيضاً، والذي صححه المحاملي الأول.
وقيل: يجب ثلثا الدية، وهذا ما نسبه الإمام وغيره إلى تخريج ابن سريج.
وحكى الماوردي قولاً: أنه يجب أرش الجراح، ويسقط ضمان السراية؛ لأن سراية الإسلام حادثة عن سراية الردة؛ فصارت تبعاً لها في سقوط الضمان.
قال: وعلى هذا لا كفارة عليه؛ لأنه – على هذا القول – جارح، وليس بقاتل.
وعن الطبري أنه [يجب] أقل الأمرين من أرش الجناية، وجميع الدية، وقد
حكاه الفوراني أيضاً، والأقل في صورة الكتاب نصف الدية، وقد يكون الأقل كل الدية؛ كما إذا قطع يديه ورجليه، وعلى هذا يظهر إن كان الأقل أرش الجناية فلا كفارة، وإن كان دية النفس وجبت، وقد حكى الإمام طريقة طاردة للأوجه الثلاثة الأول في الصورة الأولى أيضاً، والأكثرون على الطريقة الأولى، ثم كلام الإمام والبغوي والفوراني مصرح بأن الخلاف المذكور إنما يجري إذا قلنا بعدم وجود القصاص، [أما إذا أوجبنا القصاص] فعفا وجب كمال الدية، ولفظ الإمام: ولا شك فيه.
وفي "الرافعي": أن الإمام قال: إذا أوجبنا القصاص، فآل الأمر إلى المال – تضرب على العاقلة؟
ذكر العراقيون [فيه] وجهين:
أحدهما: لا يضرب عليها إلا نصف الدية؛ فإنه قد جرى [ارتداد في الأثناء. وهذا زلل غير معتد به؛ فإن الردة لو اعتبرناها لما أوجبنا الدية] بكمالها.
والثاني: أنا نضرب الدية بكمالها على العاقلة.
فرع: لو رمى إلى مسلم، فارتد وعاد إلى الإسلام، ثم أصابه السهم – فالمشهور: أنه لا قصاص.
قال الإمام: ويجيء فيه قول آخر: أنه يجب؛ لأنا ذكرنا فيما إذا تخلل المهدر بين الجرح والموت قولاً: أنه يجب القصاص، مع أن الجراحة تؤثر [وتؤلم] حالة الإهدار؛ فصورة الرمي أولى بإثبات الخلاف.
وأيضاً: فإن الشيخ أبا عليّ حكى قولاً، فيما إذا رمى سهماً إلى صيد، وارتد
وعاد إلى الإسلام، ثم أصاب السهم إنساناً - أن الدية تضرب على عاقلته للمسلمين، ويكتفي بإسلامه في الطرفين، والحكم عند الأصحاب في تحمل العقل والقصاص [واحد].
قال:"وإن مات من الجرح في الردة وجب القصاص في الطرف في أصح القولين"؛ [لأن] القصاص في الطرف يجب حالة قطعه وجوباً مستقرًّا، فلا يؤثر فيه ما يطرأ عليه؛ ألا ترى أنه إذا قطع يده، ثم قتله من لا يقاد به؛ فإنه لا يسقط القصاص في الطرف، وإن سقط في النفس؟! وهذا هو المنصوص في "المختصر" و"الأم" [كما حكاه الماوردي، وبه جزم الفوراني.
ووجه مقابله]- وهو [المحكي عن نص له في "الأم"]-: أن الطرف تبع للنفس إذا صارت الجناية قتلاً، فإذا لم يجب قصاص النفس لم يجب قصاص الطرف؛ ولذلك لو قطع طرف إنسان؛ فمات منه، فعفا وليه عن قصاص النفس - لم يكن له أن يقتص في الطرف، وقصاص النفس في مسألتنا ساقط اتفاقاً؛ فكذلك قصاص الطرف، وهذا ما يحكي عن اختيار ابن سريج، ومنهم من لم يجعل هذا القول منصوصاً، وإنما جعله مخرجاً من نصه فيما إذا قطع ذميّ يد مستأمن، ثم لحق المستأمن بدار الحرب؛ فإنه [قال]: لا قصاص عليه في المقطوع، وعلى ذلك جرى المحاملي والقاضي أبو الطيب والمتولي، ثم قال: وأصل هذا الاختلاف قاعدة سنذكرها، وهي أن الرجل إذا قطع يد رجل؛ فمات - يجوز لولي المقتول عندنا أن يقطع يده، فإن مات، [وإلا حز] رقبته، وهل يكون قطع اليد مقصوداً في الاستيفاء، أو يكون القطع طريقاً في الاستيفاء؟ وفيه اختلاف بين أصحابنا: فعلى الأول لا يسقط القصاص في الطرف، وعلى الثاني يسقط، ثم على الصحيح من يستوفي القصاص؟ قال الشافعي في المختصر: يستوفيه وليه المسلم.
واختلف الأصحاب فيه:
فمنهم من قال: هو الإمام؛ لأن القريب لا يرثه؛ فلا يستوفي قصاصه. قال الفوراني: وعلى هذا يجيء قول: إنه ليس له [أن] يقتص منه؛ بناء على [أن] اللقيط إذا قُتِلَ، هل للسلطان أن يقتص من قاتله، أم لا؟ وفيه قولان.
ومنهم من قال: هو القريب الذي يرثه لو مات مسلماً؛ لأن القصاص يراد للتشفي ودرك الغيظ، وذلك يتعلق بالقريب دون الإمام.
واستدل القائل به بقول الشافعي: "المسلم"، ولو كان المراد الإمام لم يكن لقوله:"المسلم" معنى، وقد نقل أنه قال في "الأم":"يقتص منه أولياؤه": بلفظ الجمع، و"الإمام" واحد.
قال الرافعي: وربما حكى ورثته صريحاً، وهذا أظهر في المذهب، وبه قال عامة أصحابنا؛ كما حكاه في "المهذب" في باب استيفاء القصاص، وبه قطع في ["التهذيب"]، واختاره في "المرشد"، لكن الإمام استبعده من جهة المعنى، وقال القاضي أبو الطيب: إنه ليس بشيء.
وادعى القاضي ابن كج أن الأكثرين على أن يستوفيه الإمام، وأن أبا سعيد وحده ذهب إلى أنه يستوفيه القريب، وكذلك الماوردي ادعى أن المزني قال به وابن أبي هريرة وأكثر أصحابنا.
فرع: إذا قلنا: لا يجب القصاص، أو يجب، فعفا عنه على مال – فهل يجب ويكون فيئاً، أم لا؟ فيه وجهان أو قولان حكاهما العراقيون كالمحاملي والشيخ وغيرهما:
أحدهما: لا، وبه قال أبو الطيب بن سلمة.
وأصحهما: نعم؛ فعلى هذا – فيما يجب – وجهان:
أصحهما في "المجموع" وغيره، ويحكي عن النص أنه يجب أقل الأمرين من الأرش الذي تقتضيه الجراحة ودية النفس.
والثاني- وبه قال الإصطخري -: أن الواجب أرش الجراحة بالغة ما بلغت، وفي مسألتنا: لا يظهر لهذا الاختلاف أثر. نعم، يظهر فيما لو قطع يديه ورجليه.
فرع: لو قطع يده، ثم ارتد المقطوع، واندمل الجرح - فله قصاص اليد، فإن مات أو قتل قبل أن يقتص - اقتص وليه، ومن هو؟ فيه الخلاف السابق.
قال: "ومن قتل من لا يقاد به في المحاربة"؛ أي: كالمسلم إذا قتل الذميّ، والحر [و] العبد، والأب ولده - "ففيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القود"؛ لأن القتل تأكد بالمحاربة؛ ولهذا لا يجري فيه عفو الولي فلم يعتبر فيه التكافؤ كحد الزنى، وهذا هو الأصح في "الجيلي".
والثاني:"لا يجب"، وهو الصحيح عند الجمهور؛ لعموم الأخبار، ولأن من لا يُقْتل بقتل [من] قتله في [غير المحاربة، لا يقتل به إذا قتله في] المحاربة؛ كالمخطئ.
قال مجلي: وقد استخرج الخراسانيون من هذين القولين [قولين] للشافعي [في] أن القتل في المحاربة يقع لحق الله - تعالى- أو لحق الآدمي، [وكأنه - والله اعلم - يشير على ما ذكره الرافعي، وصححه، وهو في "التهذيب": أن القتل في المحاربة فيه معنى القصاص؛ لأنه قتل في مقابله قتل، وفيه معنى الحدود؛ لأنه لا يصح العفو عنه، ويتعلق استيفاؤه بالسلطان، لا بالولي، فما المغلب من المعنيين؟ فيه قولان].
وفي "الوسيط" و"النهاية": أن القتل في المحاربة إذا تمحضت فيه العمدية، يتعلق به حق الله - تعالى- قطعاً، ولكن هل يثبت للقتيل حق مع الله تعالى، أم لا؟ للشافعي فيه قولان، فإن قلنا: إنه حق لله - تعالى - قتل بقتل من لا يكافئه، وإلا فلا يجب.
ثم قال الغزالي: ولعل الأصح الجمع بين الحقين ما أمكن، وهوا لذي جزم الإمام بترجيحه، ولم يحك العراقيون غيره، كما حكاه مجملي عنهم، وهو قضية قول ابن الصباغ: إنه [إذا وقع وقع] قصاصاً؛ كما صرح به قبيل كتاب الأشربة في موضعين؛ ولأجل ذلك كانت عبارة الشيخ: أنه هل يجب عليه القود
إذا قتل من [لا] يقاد به في المحاربة، أم لا؟ ولو [كان] قتله بمحض حق الله – تعالى- لما حسن إطلاق القول بوجوب القود على من قتل من لا يكافئه؛ لأن القتل حينئذ يكون حدًّا لا قوداً، [وقد وجه هذا بان القتل لو وقع في غير المحاربة لثبت القصاص للآدمي؛ فيبعد أن يحيط حقه بوقوع القتل في المحاربة، ولنا اختلاف قول فيما إذا اجتمع حق الله – تعالى – وحق الآدمي: أنه يغلب حق الآدمي، أم لا؟ فكيف ينتظم منا إبطاله بالكلية؟!].
ثم كلام [الغزالي وأمامه] ظاهره التناقض؛ فإنهما جزما القول في مسألة الكتاب بعد القتل، إذا قلنا: إن القتل في المحاربة يتعلق به حق الله – تعالى – وحق الآدمي، وكأنهما جعلا كلاًّ من الحقين جزء علة في قتل المحارب، لا على مستقلة، وفي قتل من لا يقاد به لم يوجد أحد جزئي العلة، وهو حق الآدمي؛ فلا جرم لم يجب القتل، وكلامُهما بعد ذلك مصرح بأن كلا من الحقين علة مستقلة بنفسها، لا جزء علة؛ فإنهما قالا: إذا عفا ولي القتل عن القصاص على الدية، فإن قلنا: القتل محض حق الله – تعالى – فلا أثر لعفوه في سقوط القتل، ولا دية، وإن قلنا: حق الآدمي ثابت في الدم، فله الدية، وهو كمرتد استوجب القصاص، وعفا عنه، وقضية هذا أن يقولا بوجوب القتل في مسألة الكتاب، مع قولنا: إن القتل في المحاربة يتعلق به حق الله- تعالى- وحق الآدمي؛ لوجود العلة الكاملة في استحقاق قتله.
وحاصل ما ذكرته من التقرير يرجع إلى أنهما يلزمهما أحد أمرين: إما القطع بوجوب القتل في مسألة الكتاب، أو القطع بعدم إيجاب القصاص عند عفو الولي؛ تفريعاً على قولنا: إن للآدمي فيه حقًّا، ولم يقولا بواحد منهما، والله اعلم.