الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب عقد الهدنة
الهدنة: مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معلومة، بعوض [أو غيره]، سواء فيهم من يقر على دينه ومن لا يقر، كما قاله الماوردي في كتاب السرقة.
وهي مشتقة من "الهدون" وهو السكون؛ فإنه إذا صالحهم سكنت ثائرة الفتنة وهدأت، وهذا العقد يسمى: مهادنة، [ومعاهدة]، ومسالمة، وموادعة.
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولم أعلم مخالفا من أهل العلم بالسير أن رسول الله ? لما نزل المدينة وادع يهود كافة على غير جزية"، وأراد: هادن.
والأصل فيه [قبل] الإجماع قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 1، 2] أي: كونوا آمنين فيها أربعة أشهر، وقوله تعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]، وكذلك فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل المدينة من يهود، وهم نفر من بني قريظة وبني النضير وبني المصطلق حين وافي ضعفا في [أول] الإسلام، وهو أول عهوده، وهادن قريشا [عام الحديبية] على وضع القتال عشر سنين حين لم يقو الإسلام بعد، وكان ذلك في سنة ست من الهجرة كما تقدم، والعاقد له سهيل ابن عمرو، وفيه نزل قوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 7]، وكان هذا الصلح عظيم البركة، أسلم بعده أكثر ممن أسلم
قبله، والمعنى فيه: أنه يرجو إسلامهم؛ فجوز لذلك.
قال: لا يجوز عقد الهدنة، أي: لأهل إقليم أو صقع عظيم أو خلق كثير إلا للإمام أو لمن فوض إليه الإمام، أي: عقدها؛ لأنه باطلاعه على جميع الأمور أعرف بمصالح ذلك من آحاد الناس، وعلى التدبير والسياسة أقدر، وبحراسة الملك أخبر؛ فاختص به، ولو فوض إلى آحاد الناس أفضى إلى تعطيل الجهاد، أما عقد الهدنة لآحاد الكفار والنفر اليسير فقد تقدم الكلام فيه في قتال المشركين، فلو عقدها على العموم آحاد المسلمين لم يغتالوا، بل يردون إلى المأمن، وولاة الثغور المفوض إليهم الجهاد وحده لا يجوز إليهم عقد الهدنة إلا قدر الاستراحة وهي أربعة أشهر، ولا يجوز أن يكون سنة؛ لأن عليه أن يجاهد في كل سنة، وفيما بينهما قولان حكاهما الماوردي، وأطلق الرافعي والفوراني وغيرهما أنه يجوز لولي الإقليم المهادنة مع أهل قرية أو بلدة على ذلك الإقليم للحاجة، وكأنه مأذون بتفويض مصلحة الإقليم إليه، قال الفوراني: ولا يجوز أن يعقدها مع إقليم كالهند.
قال: وإذا رأى في عقدها مصلحة، أي: مثل أن يرجو إسلامهم، أو بذل الجزية، أو معاونة المسلمين على قتال غيرهم، أو ضعف المسمين وقوتهم – جاز أن يعقد؛ لما ذكرنا.
قال: ثم ينظر: فإن كان مستظهرا فله أن يعقد أربعة أشهر؛ للآية.
قال الشافعي: وكان ذلك في أقوى ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [حين منصرفه من تبوك، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة يوم الفتح [فر] صفوان بن أمية إلى الساحل على أن يلقي نفسه في البحر، فأخذ له بعض أهله الأمان، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال له: بلغني أنك وأمنتني فاجعله شهرين، فقال:"وأربعة"، وكان – عليه السلام – يرجو [الإسلام منه]، وأسلم قبل مضي المدة، وحسن إسلامه.
قال: ولا يجوز سنة؛ لأن الله تعالى قد كان منع منه بعد فرض الجهاد بقوله
تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، وجعل غاية أمرهم الإسلام بقوله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا} [التوبة: 11] ثم إنه أمر بقتلهم حتى يعطلوا الجزية إن لم يسلموا بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية [التوبة: 29]. ثم إن الله أذن في الأشهر الأربعة بغير جزية بقوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ} [التوبة: 2] بعد قوله {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1]، ثم استثنى بعده بآيات فقال:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 4]، فاتبع إذنه، وبقينا فيما [زاد على ذلك] على موجب القتال.
وحكى الفوراني قولا أنه يجوز سنة فما فوقها إلى ما دون السنتين، ووجهه بأن الكافر قد يكون له أشغال لا تحصل إلا في فصول السنة الأربعة، وما لم تكن المدة سنتين، ولم تدخل في حد التكرار فإنها تكون قصير، قال الإمام: وهو غلط، ولم أره لأحد من الأصحاب.
قال: وفيما بينهما قولان:
وجه المنع – وهو الذي نص عليه هاهنا وفي الجزية من [كتاب]"الأم"، واختاره الغزالي والرافعي والنواوي وصاحب "المرشد" -: ما تقدم.
ووجه الجواز: أنها مدة قاصرة عن مدة الجزية؛ فجاز أن يؤمن فيها بغير عوض، أصله: الأشهر الأربعة، وهذا ما نص عليه في "سير" الواقدي، وحكى صاحب "البحر" عن أبي إسحاق القطع به.
وفي "الرافعي": أن بانين بنوا القولين على أنه إذا مات في أثناء السنة هل يجب قسط ما مضى أم لا؟ فإنا قلنا: يجب، لم يجز، وإلا جاز، والصحيح عدم البناء.
وهذا كله بالنسبة إلى نفوس المعقود معهم، أما أموالهم فيجوز أن يعقد لها مؤبدا، وهل يجوز كذلك في الذرية؟ فيه وجهان، قاله الماوردي في السير.
قال: وإن لم يكن مستظهرا، أو كان [مستظهرا] ولكن يلزمه في غزوهم مشقة لبعدهم – جاز أن يهادنهم عشر سنين، أي: عند الحاجة؛ لما تقدم من
مهادنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش عشر سنين، وقد كان بالإسلام ضعف، أما إذا لم تدع الحاجة إلى الغزو لم يجز أن يهادنهم العشر، بل ما تدعو الحاجة إليه، صرح به الماوردي وغيره، ولو دعت الحاجة إلى أكثر من العشر لم يزد على العشر، قال القاضي الحسين: بلا خلاف. وعن رواية صاحب "التقريب" وجه: أنه يجوز بحسب الحاجة. قال الإمام: وهو مزيف لا تعويل عليه ولا اعتداد به. نعم، يجوز في هذه الحالة أن يعقد على عشر سنين، ثم على عشر [سنين] قبل مضي الأولى، جزم به الفوراني وغيره وحكاه القاضي الحسين عن ابن المرزبان،.
وما ذكره [الشيخ هو المشهور من الطرق، وعن] الشيخ أبي حامد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل العهد قبل تمام العشر، وأن الأصحاب اختلفوا في ذلك الإبطال هل هو نسخ للزائد على الأشهر الأربعة، أو لفعل أمر اقتضى [رفع العهد؟] والأصح: الثاني؛ فإنه أقام [على الهدنة] سنتين، [وأبطله لما أعان] قريش بني بكر وهم خلفاؤها، على خزاعة وهم حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم.
[ثم] قال: فإنا قلنا بالأول لم تجز الزيادة على أربعة أشهر لا لحاجة و [لا] ضرورة، وإن قلنا بالثاني.
[فإن دعت الحاجة] فيجوز إلى سنة، أو يجب أن تقصر المدة عن السنة؟ فيه وجهان.
وإن دعت الضرورة جاز أن تبلغ المدة سنة، ويجب الاقتصار عليها، أم تجوز الزيادة إلى عشر؟ فيه قولان.
فرع: إذا عقدت المدة على أكثر من المدة المشروعة بطل القدر الزائد،
وفي بطلانه في المدة المشروعة طريقان حكاهما الفوراني والبغوي وغيرهما:
أحدهما: طرد قولي تفريق الصفقة فيه، ولم يورد البندنيجي وابن الصباغ وكذا الماوردي في هذا الباب سواه، وكذلك الغزالي، وقال الرافعي: إنه الأظهر.
والثاني: القطع بالصحة، وعليه – كما قال القاضي الحسين – الأكثرون، وهو الذي رجحه في كتاب السير وضعف الأول، والفرق: أن البيوع تنزه عن الخطر والغرر، ويحتاج فيها عند فساد البيع إلى توزيع [الثمن]، وذلك يجر غررا وجهالة، والعقد مع المشركين لا يبطل بالغرر.
وأيضا: فإنه لو دهانهم إلى غير مدة على أنه متى بدا له نقض العهد نقضه جاز، ولو باغ بما شاء لم يجز.
تنبيه: [في قول الشيخ]: وإن رأى في عقدها مصلحة [جاز أن يعقد، ما يفهم أمرين:
أحدهما: أنه إذا لم يكن في عقدها مصلحة]، بأن كان في المسلمين قوة وبهم ضعف، وإذا هادنهم قويت شوكتهم – أنه لا يجوز، وقد صرح به الماوردي والبندنيجي وغيرهما.
الثاني: أن العقد لا يجب وإن طلبوه في حالة المصلحة، وهو الصحيح عند أئمة المذهب، لكن على الإمام أن يجتهد ويحافظ على الأصلح من الإجابة والترك.
قال الإمام: وما يتعلق باجتهاد الإمام لا يعد من الواجب، وإن كان يتعين عليه رعاية الأصلح كالخصال المشروعة في حق الأسير، وفيه وجه حكاه الرافعي: أنهم إذا طلبوا وجب إجابتهم إذا لم يكن فيها مضرة كما في عقد الذمة، ونسبه الإمام إلى رواية بعض المصنفين، وقد رأيته في "الإنابة"، لكن بشرط أن يرى الإمام العقد مصلحة بأن رجا إسلام الداخل عند سماع كلام الله تعالى. وبين العبارتين فرق، على أن في عقد الذمة وجها حكاه الفوراني والطبري أيضا: أنه لا يجب عند الطلب والمصلحة، وقد قامت حكايته في قتال المشركين، والوجهان ضعيفان.
قال وإن هادن، أي: من غير تعيين مدة، على أن [له] الخيار في الفسخ متى شاء – جاز؛ لأن النبي وادع يهود خيبر، وقال:"أقركم [على] ما أقركم الله"، ولو عقد الإمام العهد على النعت الذي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: ما شاء الله – لم يصح؛ لأنه – عليه السلام – يعلم ما عند الله بالوحي وغيره بخلاف غيره، ولو قال: هادنتكم ما شاء فلان، وهو مسلم عدل ذو رأي – جاز، فإذا نقضها انتقضت، كذا قاله الرافعي.
واشترط في "الحاوي" في المفوض إليه: أن يكو أهلا للاجتهاد في أحكام الدين، فلو فقد [ذلك] لم يصح التفويض، وقال: إن له الاستدامة، وأما النقض فينظر [فيه]: فإن كان المفوض إليه من ولاة الجهاد لم يحتج في النقض إلى إذن الإمام، وإلا فلا ينفذ إلا بإذن الإمام، وحينئذ فإن وافق رأيه رأي الإمام فعل، وإن اختلفا فإن رأي الإمام البقاء اتبع، وإن كان رأيه النقض: فإن كان لعذر غلب نظر الإمام، وإن كان لغير عذر غلب نظر المفوض إليه.
فرع: لو أطلق عقد الهدنة كان العقد فاسدا؛ لأن الإطلاق يقتضي التأبيد، جزم به القاضي أبو الطيب والماوردي والبندنيجي وغيرها، وفي "الإبانة" الجزم بأنه يصح عند الضعف وينزل على عشر سنين، وحكى الإمام ذلك عن صاحب "التقريب"، وأن في بعض التصانيف في إطلاق العقد في حال القوة قولين:
أحدهما: يحمل على أربعة أشهر؛ تنزيلا على الأقل.
والثاني: على سنة؛ تنزيلا على الأكثر.
[والحالان مذكوران] في "التهذيب" على هذا النحو، واعترض الإمام فقال: القول بتصحيح الهدنة عند القوة سنة غلط، وإن صح فالعقد لا يختص بأربعة أشهر ولا بالسنة؛ [فإنه قد يعقد][على عشرة أشهر]؛ معنى لتنزيلها على أربعة أو على سنة، وكذلك القول [في تصحيح] العقد على عشر سنين، فالوجه: القطع بالفساد.
واعلم أنه كما يجوز عقد الهدنة بغير شيء يؤخذ منهم، [يجوز بشيء يؤخذ منهم]، بل هو المتعين عند القدرة عليه كما قاله الماوردي، ولا يجوز أن يعقد على مال يؤديه لهم إلا لضرورة بأن يحيط الكفار بالمسلمين ويخافوا اصطلامهم، سواء كانوا في حصن أو في بلد أو في الصف؛ كما يجوز أن يفدى الأسير الذي في أيديهم إذا خلف [على نفسه]، أو كانوا يستذلونه بعذاب أو امتهان، لكن هل يجب البذل في هذه الحالة؟ فيه وجهان مبنيان على الخلاف في وجوب دفع الصائل، قاله أبو الطيب وابن الصباغ، وقال الرافعي في آخر كتاب السير: إن فداء الأسير محبوب، ولم يحك ثم سواه.
ثم المال الذي يأخذونه ما حكمه؟
أطلق البندنيجي والماوردي وأبو الطيب والمصنف أنه كالأموال التي يغنمونها منا.
وحكى القاضي الحسين: أنه إذا فادى أسيرا على مال، ثم أسلم ذلك المشرك الذي أخذ الفداء، أو أظهر المسلمون على الدار، ووجدوا ذلك الفداء بعينه – فهل يرد على من فادى أم لا؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي – أيضا – في آخر السير:
وجه المنع: أنه أعطى متطوعا به فملكوه؛ كما في ثمن المبيع.
وعلى مقابله: لو وجد المال مع مستأمن، قال الماوردي: نظر، فإن كان سبب تملكه باقيا لم يسترجع منه، وأعيد إلى مستحقه، ولم يتعرض عليه في غيره من أمواله؛ لأمانة، ولو أطلقوا الأسير على أن يحمل إليهم شيئا لا يجب عليه الوفاء. نعم، قال الشافعي – رضي الله عنه: يستحب له الوفاء به؛ كي لا يرغبوا عن إطلاق الأسارى، كذا حكاه أبو الطيب وابن الصباغ والماوردي والقاضي الحسين والبغوي، والإمام قال: إنه رآه في "تعليقه" عن الإمام، [ثم قال]: وحكى الشافعي – رضي الله عنه – عن بعض السلف أنه يجب عليه أحد
الأمرين: إما العود إلى الأسر، وإما بذل المال، وقيل: هذا قول الشافعي – رضي الله عنه – في القديم، وهو بعيد لا أصل له، ولم أره في [غير]"تعليقه"، ولست أعده من المذهب.
وحكى الرافعي قبيل كتاب عقد الذمة: أن الأسير لو قال للكافر: أطلقني على كذا، ففعل، أو قال له الكافر: افد نفسك بكذا، ففعل – لزمه ما التزم، وأنه لو قال مسلم لكافر: أطلق أسيرك ولك علي ألف، فأطلق – يجب عليه الألف؛ كما لو قال: أعتق أم ولدك على كذا ففعل، وأنه لو فدى الأسير بمال من [غير] سؤال لا يرجع عليه، ولو كان بسؤال الأسير بشرط الرجوع فأجابه رجع، وكذا لو لم يشترط الرجوع على أصح الوجهين في "التهذيب".
قال: وعلى الإمام أن يدفع عنهم الأذية من جهة المسلمين، ولا يلزمه دفع الأذية عنهم من جهة أهل الحرب؛ لأن الهدنة عقدت معهم على الكف عنهم، لا على الحفظ لهم، وبهذا خالفوا أهل الذمة، وعبر الأصحاب عنه بأن عقد الذمة حق لهم على المسلمين؛ ولذلك يجب عند الطلب، وعقد الهدنة ليس بحق لهم بدليل عدم وجوبه عند الطلب، وإنما يفعله الإمام إذا كان فيه مصلحة للمسلمين؛ فكان لهم.
وفي تخصيص الشيخ عدم وجوب الدفع بأهل الحرب ما يفهم أن دفع أهل الذمة عنهم واجب كالمسلمين؛ لالتزامهم الأحكام، ودخولهم تحت قهر الإمام، وقد صرح به الأصحاب.
وأهل الهدنة [مع أهل الهدنة] كأهل الحرب معهم. نعم، يقال لهم: إن تناصفتم وإلا نبذنا إليكم عهدكم، ثم صرتم بعد بلوغ مأمنكم حربا؛ لما توجبه دار الإسلام من التناصف، كذا قاله الماوردي في كتاب السرقة.
ولو قصد أهل الحرب المعاهدين، وأخذوا أموالهم، فقصدهم الإمام، وظفر بهم، [واسترجع] أموال [أهل] العهد – ردها عليهم؛ كذا أخذه الأصحاب من قول الشافعي – رضي الله عنه – في كتاب الجزية، [كما قاله] القاضي أبو الطيب؛ ولهذا لا يجوز للمسلمين أن يشتروا من أهل الحرب ذلك المال، فإن اشتروه وجب رده على أهل الهدنة، وأراد الأصحاب [بما ذكروه] من هذا الحكم التنبيه على أنا وإن لم نمنعهم من أهل الحرب لا نجلهم بالنسبة إليهم أهل حرب؛ [فإنه لو كان كذلك لم يجب رد المأخوذ إليهم، بل يكون غنيمة؛ فإن بعض أهل الحرب] إذا قهر بعضا على مال ملكه، كما صرح به الرافعي في كتاب السير عند الكلام فيما إذا كان [على] المسبي دين، وهو قضية ما حكيناه من ملكه نفس المقهور في آخر باب قتال المشركين، لكن لك أن تقول: قد حكى القاضي أبو الطيب – أيضا – أن الأمة منهم إذا جاءت إلينا مسلمة صارت حرة؛ لأنها غلبت مولاها على نفسها [فملكت] نفسها بالقهر والغلبة، [وعتقت]؛ كما يملك العبد الحربي سيده بالقهر والغلبة. وهذا يدل على أنهم كأهل الحرب بالنسبة إلى بعضهم مع بعض؛ فأولى أن يكونوا كذلك بالنسبة إلى أهل الحرب، والله أعلم.
قال: وإن جاء منهم مسلم لم يجب رده إليهم، أي: وإن شرط في العقد؛ لأنه لا يجوز إجبار المسلم على انتقاله من بلد إلى بلد في دار الإسلام، فلألا لا يجبر على الرجوع إلى دار الحرب أولى. نعم، في حال الشرط ينظر: إن شرط رد المستضعفين [فيهم، وهم الذين لو أسلموا في دار الحرب لوجبت
عليهم الهجرة، كما قيده البندنيجي، أو المستضعفين] وغيرهم، أو أطلق الرد، فالشرط فاسد كما حكاه البندنيجي، وهل يفسد العقد؟ الذي أورده أبو الطيب والقاضي الحسين والبندنيجي وابن الصباغ والغزالي: أن عقد الهدنة يفسد [بالشروط الفاسدة]، وهذا منها، وجزم الماوردي بعدم بطلان الهدنة بها؛ لأنها ليست كالبيوع التي تفسد بالشروط الفاسدة، كما تجر جهالة في الثمن، وليست بأوكد من عقود المناكحات، وحكى الإمام الأمرين، فقال: في الفساد تردد للأصحاب كالتردد في أن الوقف هل يفسد [بالشرائط الفاسدة؟].
وفرع الماوردي على ما حكاه فقال: [و] لا يجب على الإمام أن يعلمهم ببطلان الشرط قبل مطالبتهم به، فإن طالبوه به أعلمهم بإبطاله في الشرع، فإن دعوه إلى نقض العهد نقضه، إلا أن يخاف منهم الاصطلام.
وحكى المزاورة في وجوب رد الذي لا عشيرة له، و [يغلب] على الظن أنه يذل ويهان – طريقين:
أظهرهما: طرد الوجهين اللذين سنذكرهما في العبد.
وثانيهما: القطع بالرد؛ لأن الجزية في الجملة مظنة القوة والاقتدار، وعلى هذا فيكون شرط الرد صحيحا.
قال الإمام: ولا يبعد عندي على هذا أن يشترط الإمام عليهم ألا يهينوا المسلم المردود عليهم، فإن أهانوه كانوا ناقضين للعهد، وإن شرط رد من جاء منهم [مسلما] ممن له عشيرة وتحميه وتمنعه كان الشرط جائزا، كما صرح به أبو الطيب والماوردي وكذا البندنيجي، وقال: إن ضابطه كان من لو أسلم في دار الحرب لم يجب عليه الهجرة جاز شرط رده في عقد الهدنة، لكنه لا يجب الرد أيضا، بل الواجب التخلية بينه وبينهم، والإذن له في الانصراف، كما صرح به الماوردي وأبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ، وكذا الرافعي عن
الأصحاب، ولم يحك سواه؛ لأن الواجب في حق أهل الهدنة الكف عنهم، لا معونتهم في حقوقهم.
قال الرافعي: ولا يبعد تسمية التخلية ردا كما في رد الوديعة، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشا قال: "من جاء منكم مسلما رددناه، ومن جاء [منا] فسحقا سحقا، فجاءه أبو بصير مسلما، فجاء رجلان يطلبانه، فمكنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، كما نقله القاضي الحسين والماوردي.
قال القاضي: فخرجا به، وكان مع أحدهما سيف، فقال أبو بصير: أرى سيفك ضاربا؟ فقال: نعم، وقد جربته فوجدته صارما، فقال: أعطني، فأعطاه، فجعله كالأمس الذاهب، وفر الآخر، وجاء [إلى] النبي صلى الله عليه وسلم فلما أيصره قال:"جاء به أمر مفظع"، فقال: إنه قتل صاحبي وكنت في يده كالمقتول. ثم جاء أبو بصير؛ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت وفيت بالشروط، وقد خلصني الله منهم، فقال صلى الله عليه وسلم:"مسعر حرب لو وجد أعوانا، يعرض له بأن يرتصد لقطع الطريق عليهم"، فعرف ذلك التعريض، فالتحق به ثلاثمائة نفر، وكان يقطع الطريق على المشركين حتى استغاثوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمنعهم عن ذلك.
قال ابن الصباغ: قال الشافعي رضي الله عنه: ويستحب للإمام أن يقول له سرا: لا ترجع إليهم. وزاد [غيره]: وإن رجعت فالأفضل لك الهروب.
وقال الفوراني: إنه يعرض له بذلك ولا يصرح.
وحكى القاضي الحسين أن ابن سريج خص محل جواز شرط الرد بأن
يشترط الرد [من [بلد] أو بلدين أو بلاد معلومة يرد منها بعد أن يبقى بلد، فلو شرط الرد] من جميع بلاد المسلمين، قال الشافعي – رضي الله عنه: فالصلح باطل؛ لأن فيه منعا من الإسلام.
ولا نزاع أنه لو شرط أن يبعث إليهم من جاء منهم في فساد الصلح، كما حكاه القاضي الحسين والروياني عن نص الشافعي – رضي الله عنه – لأنه إذا شرط البعث فكأنه منعهم من الإسلام والهجرة إلى دار الإسلام، [ولا يجوز ذلك، بخلاف ما إذا شرط ألا يمنعهم منهم؛ فإنه ليس فيه منع الإسلام]؛ لأنه يقدر أن يغيب عن بلد الإمام إلى بلد آخر، كما فعل أبو بصير.
وفي "الرافعي": أن بعض أصحابنا قال: يجب الوفاء بالشرط، وأن قضيته ألا يعتبر الطلب. والظاهر أنه عنى الفوراني؛ فإنه مذكور كذلك في "الإنابة".
قال: وإن جاءت مسلمة لم يجز ردها إليهم، أي: عند إطلاق العقد؛ لأن النبي ? لما شرط لقريش ما شرط جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن [أبي] معيط مسلمة، وجاء أخواها عمارة والوليد في طلبها، وجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية [مسلمة]، فجاء زوجها وابن مسافر في طلبها، وجاءت سعدة زوجة صفي بن الراهب بمكة، فجاء في طلبها، وقالوا: يا محمد، قد شرطت لنا رد النساء، وطي الكتاب لم يجف؛ فاردد علينا نساءنا، فتوقف النبي صلى الله عليه وسلم عن ردهن؛ توقعا لأمر الله تعالى [فيهن] حتى نزل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} [إلى قوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّار} [الممتحنة: 10]؛ فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ردهن ومن رد النساء كلهن، كذا حكاه الماوردي، فإذا لم يجز الرد وقد وجد الشرط، فلألا يجوز عند عدمه
[كان] أولى.
وهكذا الحكم فيما إذا جاءت كافرة ثم أسلمت عندنا، [كما] صرح به القاضي الحسين والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم.
والصبي إذا أظهر الإسلام وإن لم يحكم بإسلامه، كالمرأة، صرح به الماوردي وغيره، وألحق به البندنيجي والرافعي المجنون.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه إذا شرط رد من جاء منهم، فجاء صبي، وجاء أبوه في طلبه – يرد عليه؛ لأن الصبي لا يصير مسلما بدخوله [في] دار الإسلام، هكذا سمعت منه في الدرس. يعني من القفال، أما إذا شرط في الصلح رد النساء، فالشرط فاسد وإن كن ممن لهن عشيرة؛ لاستقرار الشريعة على منع ردهن.
والفرق بين الرجال والنساء فيما ذكرناه: أنهن ضعيفات العقول؛ فيخاف أن يفتن، ولا يؤمن أن يزوجهن أولياؤهن من الكفار فينالوهن، ولا يمكنهن في العادة الهرب والنجاة بأنفسهن، وعلى هذا فهل يفسد العقد؟ الحكم كما تقدم.
ثم ظاهر ما حكيناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرط لهم رد النساء، وقد اختلف قول الشافعي – رضي الله عنه[فيه]:
فاحد القولين: أنه لم يجر شرط [لهن]، وإنما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم اللفظ أن يرد من جاءه؛ فتوهم الكفار تناوله النساء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عالما بأنهن لا يدخلن، وأطلق ذلك ليخدعهم، ومثل ذلك جائز.
والثاني: أن الشرط شمل النساء، وعلى هذا ففي كيفية الشمول وجهان.
أحدهما: بالتصريح، حكاه الماوردي، وتبعه الروياني.
وأظهرهما: أنه بالإطلاق، والقائل به قال – كما حكاه القاضي الحسين -: لا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عالما بأنهم لا يدخلن، ويطلق اللفظ الدال على دخولهن.
وعلى كلا الوجهين اختلفوا في أن شرط ردهن هل كان جائزا أم لا؟ على وجهين:
أحدهما – وهو الذي أورده أبو الطيب وابن الصباغ -: نعم؛ لأنه كان
مباحا في ابتداء الإسلام: أن تقر المسلمة على نكاح كافر، ولذلك أقر النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على نكاح أبي العاص بن الربيع، وكان على كفر، إلى أن انتزعها منه حين هاجر، ثم ردها عليه حين أسلم؛ فلذلك شرط الرد، ثم حرم الله – تعالى – ذلك ونسخه.
قال القاضي الحسين: [و] هذا قول من يرى النسخ قبل العمل، فعلى هذا بم نسخ؟ فيه وجهان:
أحدهما: بالآية المذكورة.
والثاني: بامتناعه صلى الله عليه وسلم من ردهن.
والوجهان مبنيان على قولين حكاهما القاضي الحسين هنا، والماوردي في كتاب حد الزنى، عن الشافعي – رضي الله عنه – ووراءهما وجهان، وهما أيضا للأصوليين في أن القرآن [هل] ينسخ بالسنة أم لا؟
فالأول: مختار ابن سريج؛ كما قاله [الرافعي والماوردي.
والثاني: مختار الشافعي والمزني – رضي الله عنهما – قاله] القاضي أبو الطيب وكذا [القاضي] الحسين، وادعى أنه الجديد، وعليه الأكثرون من أصحابنا؛ كما نقله الماوردي.
كذا لا يجوز عند الشافعي وأصحابه – رضي الله عنهم – نسخ الكتب
بالسنة، وإن كانت متواترة، حكاه الماوردي أيضا، وحكى [القاضي] أبو الطيب في باب حد الزنى قولا مخرجا عن ابن سريج: أنه يجوز أيضا.
والوجه الثاني: أن شرط ردهن لم يكن جائزا، وعلى هذا فوجهان:
أحدهما: أنه – عليه الصلاة والسلام – سها في اجتهاده، فبين الله – تعالى – له الحكم، ولم يقره على خلافه، ومثل ذلك يجوز على الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام.
قال القاضي الحسين: ودليله: قوله – تعالى - {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78][إلى قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}]، وقع السهو لداود؛ فنبهه سليمان، عليهما السلام.
والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم علم أن ذلك [غير] جائز بالاختيار، لكن دعت ضرورة الوقت إليه؛ لأنه – عليه السلام – كان في ألف وأربعمائة من أصحابه، وكان المشركون نحو أربعة آلاف؛ فلذلك فعله، وقد يفعل في الاضطرار ما لا يجوز فعله في الاختيار، فلما زالت الضرورة منع [منه].
قال: فإن جاء زوجها، أي: أو من يقوم مقامه من وكيل أو وارث، يطلب ما دفع إليها من الصداق – ففيه قولان:
أحدهما: يجب [رده]؛ لأنه لا يختلف مذهب الشافعي – رضي الله عنه – أنه كان يجب بذله على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {وَءاتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] وإذا كان كذلك وجب على الأئمة بعده. كذا قاله أبو الطيب والبندنيجي، ولأن الهدنة تقتضي الكف عن أموالهم، وبضع المرأة كمال له، وإذا لم يمكن رده عليه رد [عليه] بدله.
والثاني: لا يجب؛ لأن بضع المرأة ليس بمال حتى يدخل في الأمان، ألا
ترى أن الرجل إذا عقد له الأمان، دخلت فيه أمواله، ولا تدخل [فيه] زوجته؟! كذا قاله أبو الطيب وابن الصباغ، ولأنه لو وجب رد بدله [لكان] مهر المثل دون المسمى؛ لأن هذا لأجل الحيلولة. ولما لم يجب مهر المثل، لم يجب المسمى، وهذا مختار الشافعي [و] المزني؛ كما قاله البندنيجي، وابن الصباغ وصححه، وكذلك أبو الطيب والماوردي.
وأبدى [الماوردي] لنفسه احتمالا على القول [الأول]: أنه ينبغي أن يجب أقل الأمرين مما دفعه، أو مهر المثل.
وقد بنى طائفة -[و] منهم الماوردي والبندنيجي والقاضي الحسين والفوراني – القولين على القولين – في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل كان قد شرط في صلح قريش رد النساء أم لا؟
فإن بالشرط، [إنه كان قد] شرط، لم يجب المهر بعده؛ لأن الرد وجب عليه بالشرط، ومن بعده من الأئمة [لا] يجوز له الشرط.
وإن قلنا: [إنه] لم يشرط؛ وجب رد المهر على من بعده من [الأئمة]؛ عملا بالآية.
والقولان [يجريان] عند العراقيين وصاحب "القريب" والمحققين في حالة إطلاق عقد الهدمة من غير شرط.
قال الإمام: وذهبت طائفة إلى الجزم بعد الوجوب في هذه الحالة، وخصوا محل القولين بما إذا شرط في العقد رد من [جاء] منهم مسلما؛ فإن النساء لا يدخلن فيه، ولا يفسد العقد به، وإن اعتقد الكفار دخولهن فيه.
ووجه الغرم ما سنذكره، قال الرافعي:[وقد] يرتب، فيقال: إن أوجبناه عند
الإطلاق فهاهنا أولى، وإلا فقولان.
والفرق: أن هذا الإطلاق يوهم الدخول؛ فيكون كالتغرير، والتغرير من أسباب الضمان.
وإن شرط رد النساء، فقد ذكرنا أن الشرط فاسد، وفي فساد العقد خلاف، فإن صححناه جرى القولان، ولا يجب شيء بالاتفاق في حالة اشتراط عدم رد من جاء منهم، أو من النساء خاصة. وما ذكرناه من الخلاف في الغرم في صورة الكتاب يجري فيما إذا جاءت كافرة، ثم أسلمت عندنا.
وفي كلام الإمام إشارة إلى أنا إذا أوجبنا الغرم في صورة الكتاب، فهاهنا خلاف، والأصح: أنا نغرم – أيضا – ولا يفهم ما حكيته عنه من كلامه إلا من طالع أوله.
تنبيه: كلام الشيخ مصرح بأن الذي يطلبه الزوج القدر المدفوع، وأنه الذي يدفع إليه على أحد القولين، ولو صح ذلك للزم منه أن تكون هي الغارمة؛ ثم حينئذ يجب أن يقال: إن كان الإسلام بعد الدخول فلا غرم عليها قولا واحدا، وإن كان قبله وجب قولا واحدا؛ كأهل الحرب.
وليس الأمر كما أفهمه صريح كلامه، واللازم عليه – بل المذكور في طرق الأصحاب – تصوير المسألة بما إذا طلب الزوج الزوجة، وأن الواجب بذل المدفوع إن كان متمولا عندنا، دون ما ليس بممول كالخمر ونحوه – فإنه [لا] يجب غرم شيء في مقابلته اتفاقا – وأن المدفوع يكون من سهم المصالح.
وطريق الجواب عن تصوير المسألة بما ذكره: أن فائدة الطلب الرجوع بالمدفوع؛ فلذلك عبر عن طلب الزوجة بطلبه؛ ولأن فيه تنبيها على أن دفع ما دفعه لا يكون إلا بعد طلبه له، وطلبه يستلزم أن يكون قد طلبها أولا؛ لأن دفع المدفوع فرع المنع لها منه، فكان هذا اللفظ أولى مما ذكره غيره؛ لأن ذلك يفهم أنه بمجرد طلبها والمنع منه، يدفع إليه بدل الذي دفعه، وليس كذلك.
وسيظهر لك عند الكلام فيما إذا كان زوجها عبدا.
والجواب عن الآخر: أنه رام في العبارة القرب مما ورد في الكتاب العزيز، [وهو قوله تعالى {وَءاتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} وعدل عن عبارة الكتاب العزيز؛][لأنها تدخل] بعمومها ما أنفق لغير الصداق من عرس وهدية وكرامة، وليس مرجوعا به عندنا اتفاقا؛ كما نقله أهل الطريقين وعزاه البندنيجي إلى نصه في "الأم"، و"من" [في] قوله: من الصداق: لبيان الجنس، لا للتبعيض، وفائدتها: الاحتراز عما ذكرناه.
على أنه حكى وجه عن رواية ابن كج: أن المرأة إن كان لها مال، أخذ منها؛ فعلى هذا يظهر أن يقال: إن كان ما دفعه في يدها يرد إليه، [وحينئذ] فيحتمل أن يكون [الشيخ] فرع عليه، لكن الصحيح المشهور: الأول.
واحترز بلفظ "الزوج" عما إذا جاء غيره من أقاربها؛ فإنه لا يدفع إليه شيء بالاتفاق؛ لأن المدفوع عوض [عن] الإحالة بينه وبين ما عتقد ملكه، ولا ملك للأقارب عليها نعم، لو جاءت كافرة، وجاء أحد من أقاربها [في طلبها]، ولم تسلم – سلمت إليه.
واحترز به – أيضا – عما إذا داء بعد بينونتها منه بالطلاق الثلاث أو بخلع أو بانقضاء العدة منه بعد الإسلام؛ لأن لفظ "الزوجية" لا يصدق عليه في هذه الأحوال بزعمه، وقد صرح بالجزم بعدم الاستحقاق عند الطلب بعد الطلاق الثلاث والخلع: الماوردي [والبندنيجي والقاضي الحسين، وبعدمه في الحالة الأخرى: الماوردي والرافعي]، وقال: إن شرط الاستحقاق على القول به أن يقع الطلب في العدة، وقضية ذلك: أن الإسلام إذا كان قبل الدخول ألا يستحق الزوج عند مجيئه وطلبه شيئا قولا وحدا، وهو ما أورده القاضي أبو الطيب في "تعليقه" عند الكلام فيما إذا أسلمت [أمة] منهم وجاءتنا، كما سنذكر لفظه فيه، وحكاه ابن
الصباغ عنه ثم، وسنذكر من نص الشافعي – رضي الله عنه – ما يعضده.
والذي جزم به [الإمام] في أثناء الفروع جريان القولين فيها أيضا، وكذلك ابن الصباغ حكاه في صدر الفصل، وصحح هذه الطريقة، وحكي عن بعض الأصحاب طريقة أخرى قاطعة برد المهر؛ لأن المرأة إذا أسلمت تحت الكافر قبل الدخول سقط مهرها، ثم قال: وهذا سهو من هذا القائل؛ لأن كلامنا في رد الإمام المهر من سهم المصالح، فأما المرأة فلا يجب عليها ما غلبت الكفار عليه؛ كما لو كانت أمة فجاءت مسلمة حكمنا بحريتها.
وهذا الطريق الأخير هو الذي أورده القاضي أبو الطيب في صدر المسألة، وهو الذي يظهر صحته؛ لأنا قد ذكرنا الصداق ونكاح المشركات: أن المرأة إذا أسلمت قبل الدخول سقط [مهرها] على الصحيح من غير فرق بين أن يكون الزوجان حربيين أو ذميين أو أحدهما حربيا والآخر ذميا، وإذا كان الإسلام يسقط فمصيرها إلى دار الإسلام يمنع الإسقاط؛ لأنه إنما يرتد للزوج بعد الإسلام؛ لأن الإسلام ينفسخ [به] النكاح، وإذا انفسخ ارتد إذ ذاك، وهي في حالة الإسلام ممنوعة من أخذ أموال أهل الهدنة كغيرها؛ كما سنذكره؛ فوجب عليها الرد، وسنذكر من كلام الماوردي ما يؤيده، والله أعلم.
ثم قضية الطريق التي صححها ابن الصباغ: أن يجري فيما إذا تأخر الطلب بعد إسلامها إلى أن انقضت العدة؛ لأن النكاح يزول [بهما على حد] سواء؛ وحينئذ فيكون الفارق بينهما وبين ما إذا طلق ثلاثا أو خلعا: أن ذلك إذا صدر [منه دل على إعراضه عنها؛ فسقط حقه به، بخلاف ما إذا صدر الإسلام] قبل الدخول أو بعده، ولم يتفق الطلب حتى انقضت العدة؛ لأنه لم يصدر من جهته ما يدل على الإعراض، ولو حصل الطلب في العدة بسبب
إسلامها أو قبل الطلاق، ثم انقضت العدة على رأي من اعتبرها، أو حصل الطلاق البائن قبل الدفع – لم يسقط.
قال الماوردي: لأنه استحق بالطلب فلا يسقط بالطلاق وغيره، ولو طلقها [طلقة رجعية [فهي زوجة في كتاب الله تعالى.
وقضيته: أن يندرج في كلام الشيخ، فيعطى إذا طلب قبل انقضاء العدة.
وقد قال الشافعي – رضي الله عنه – كما حكاه القاضي الحسين: لا يعطيه حتى يراجعها [ثم يطلبها]. فمن أصحابنا من قال: معناه: راجعها قبل أن تسلم هي، فأما بعد ما أسلمت فلا معنى لرجعته إياها؛ لأنها مسلمة وهو مشرك.
وعبر الإمام عن هذا بأنه يستحق الغرم وإن لم يراجع؛ لأن الرجعة فاسدة فلا معنى لاشتراطها، وجعله قولا منسوبا إلى تخريج المحققين، وارتضاه أيضا.
وقال القاضي: الصحيح غير هذا فمتى راجع استحق، ومعنى الرجعة لبس يراد للصحة، ولكن يستدل بها على مقامه على إمساكها وطلبه إياها، ولولا منعنا عنه بإسلامها لكانت عنده متى راجعها فقد وجع المنع؛ [فيجب رد] العوض. وهذا ما أورده الماوردي وأبو الطيب وابن الصباغ.
واحترز بلفظ "ما دفع لها" عن الرجوع بما لم يدفعه، وهو: إما كل الصداق أو بعضه، ولذلك حالتان:
إحداهما: أن يكون باقيا في ذمته، ولا خلاف أنه لا يرجع في هذه الحالة بشيء.
والثانية: أن تكون [قد] أبرأته منه، أو وهبته منه بعد قبضه، فالحكم في الرجوع إذا فرعنا على القول به في حالة القبض كالحكم فيما إذا طلق المسلمة بعد الإبراء أو الهبة. وقد ذكرناه، صرح به القاضي الحسين والإمام وغيرهما.
لكن في قول الشيخ: [لها]، ما يشعر بتصوير المسألة بما إذا كانت حرة؛
فإن الدفع لها إنما يكون في حال حريتها، والأمة يكون الدفع لسيدها، وقد قال الأصحاب: إنه لا فرق فيما ذكرناه بالنسبة إلى المدفوع بين الحرة والأمة، ولا بين أن يكون زوجها حرا أو عبدا. نعم، يختلف الحكم في أمرين:
أحدهما: أن محل الاتفاق على الغرم على القول به إذا جاء السيد والزوج في طلبها، أما إذا جاء أحدهما فقد حكى الإمام ومن تبعه ثلاثة أوجه:
أحدهما: لا نغرم له شيئا؛ لأن حق الرد مشترك بينهما؛ فلم يتم الطلب، ولم يورد الفوراني سواه.
وأصحها: [أنا نغرم][في] حق الطالب.
والثالث – واختاره صاحب "التقريب" أنا [نغرم للسيد] إن انفرد بالطلب، ولا نغرم للزوج إن انفراد، والفرق: أن حق اليد في الأزمة المزوجة للسيد؛ ألا ترى أن له أن يسافر بها؟! وإذا لم ينفرد الزوج باليد لم يؤثر طلبه على الانفراد.
الثاني: إذا كان الزوج عبدا فلها خيار الفسخ إذا عتقت كما سنذكره، فإن فسخت النكاح لم تغرم المهر؛ لأن الحيلولة حصلت بالفسخ، كذا جزم به الرافعي.
وقضية ما ذكرناه في إسلامها قبل الدخول أن يجري القولان هنا أيضا.
وإن لم تفسخ توقف الدفع على القول به على حضوره وطلبها، وحضور سيده وطلب المهر، فإن حضر أحدهما لم يدفع إليه. قاله البندنيجي وابن الصباغ والماوردي والفوراني وغيرهم.
ولو لم تكن الأمة الحاضرة مسلمة مزوجة فقد قال البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين والفوراني: أنها تصير حرة؛ لأنها غلبت سيدها على نفسها، فإذا جاء سيدها يطلبها لم ترد إليه، وهل ترد إليه قيمتها لا ما اشتراها به؟ فيه قولان، المذكور منهما في "تعليق" القاضي أبي الطيب: المنع، وهو الذي صححه المصنف في "المهذب"؛ لأن الحيلولة ليست للإسلام فقط، وإنما وجبت الحيلولة؛ لأن ملكه قد زال عنها وصارت أجنبية منه لا حق له عليها في الحال؛
فهو بمنزلة ما لو أسلمت امرأة قبل الدخول بها ثم جاء زوجها يطلبها أو يطلب مهرها – لم يكن له؛ لأن الحيلولة [وقعت بالبينونة؛ لاختلاف الدين، وليست [الحيلولة]] لأجل الإسلام فقط، قال ابن الصباغ: والصحيح مقابله، وهو المختار في "المرشد".
والذي حكاه الماوردي: أنها إن قهرت مولاها على نفسها قبل الإسلام [أو بعده وقبل الهدنة فالأمر كذلك، وإن كان ذلك بعد الإسلام] والهدنة فلا تعتق؛ لحظر أموالهم بعدها فلا يملكها مسلم بالغلبة، وتكون [على] ملك سيدها، لكن [تمنع منه و] يقال: إن أعتقها كان الولاء لك، فإن امتنع كان الإمام مخيرا بين أن يبيعها لمسلم أو يدفع للسيد قيمتها من بيت المال، ويعتقها على كافة المسلمين، وولاؤها لهم.
قلت: والذي يقتضيه القياس عند امتناعه من العتق أن يؤمر بنقلها عن ملكه ببيع أو هبة؛ كالأمة إذا أسلمت في يد كافر [لا أن] الإمام يتملكها [عليه] قهرا، وقد أشار إلى ذلك صاحب "البيان" من عند نفسه.
وفي "المهذب" حكاية التفصيل المذكور في العتق وعدمه، وقال: إنا إذا حكمنا برقها، فجاء مولاها يطلبها – لم ترد إليه، فإن طلب قيمتها دفعت إليه كما لو غضب منه مال وأتلف.
قال الرافعي: [ومن أطلق الحكم بالعتق له أن يقول به وإن أسلمت ثم فارقت؛ لأن الهدنة جرت معنا، ولم تجر معها]، [وتكون كمن جاءنا مسلما ورددناه أن له التعرض لهم].
قلت: وهذا فيه نظر؛ لأنهم بطلبه ناقضون للعهد معه؛ لأنهم يطلبونه بغير حق؛ فلذلك يسلط عليهم، وصار هكذا كما نقول في الأسير: إذا أمنه أهل الحرب على أنهم في أمان منه، فإنه لا يجوز له اغتيالهم ولا أخذ شيء من أموالهم، فإذا خرج إلى دار الإسلام فتبعه أحدهم ليرده، كان له اغتياله كما صرح به العراقيون والمراوزة في كتاب السير؛ لأنه بطلبه ناقص للإمان؛ لكونه بغير حق، ومما يؤيد ذلك: أن من جاء منهم ولم يطلبوه لم يجز [له أن يغتالهم]، وكان في معاملته لهم كغيره من المسلمين. صرح به الإمام وادعي أنه لا خلاف فيه، وهاهنا لما [أن] أسلمت قبل الخروج، لم يزل ملك الكافر عنها؛ فلزمها بمقتضى ما قررناه حكم الإسلام، فإذا حضرت [إلينا]، فجاء سيدها يطلبها – لم يكن طلبه بغير حق؛ فانقطع الإلحاق، والله أعلم.
وحكم أم [الولد] إذا جاءتنا بالنسبة إلى العتق واستحقاق القيمة [حكم الأمة، قاله الماوردي، وقال: إن المكاتبة في العتق وعدمه كذلك، فإن حكمنا بعتقها] فالحكم كما في الأمة، وإلا فكتابها باقية، ولا [تباع عليه]، فإن أدت مال كتابتها عتقت بالكتابة، وكان الولاء له، وإن عجزت ورقت حوسب من قيمتها بما أخذه من مال كتابتها بعد إسلامها، دون ما أخذه قبل إسلامها، فإن بلغ قدر المحسوب عليه القيمة أو أكثر، فقد استوفى حقه، ولا يرجع عليه بالفاضل، وعتقت، وكان ولاؤها للمسلمين، هل ترد عليهم من بيت المال؟ فيه قولان:
أحدهما: لا: إذا قيل: إن سيد الأمة لا يستحقه.
والثاني: يرد: إذا قيل: إن سيد الأمة يستحقه.
وحكم العبد إذا جاءنا مسلما حكم الأمة إذا جاءت مسلمة عند الفوراني والماوردي وغيرهما، من غير فصل بينهما، فمن فصل في الأمة فصل فيه، ومن أطلق القولين في الأمة أطلقهما [في العبد].
وحكى الإمام في وجوب رد العبد وجهين:
أصحهما – وهو الذي يوج للمعظم -: المنع؛ كما في الحر الذي لا عشيرة له؛ [لأنه جاء مسلما مراغما لهم، والظاهر: أنهم يسترقونه ويستهينونه، ولا عشيرة له تحميه].
والثاني: يرد، والمنع في حق النساء لخوف الفاحشة، وعلى هذا فيكون المعنى بالرد: التمكين منه، كما تقدم في الحر.
واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمورا أخر:
أحدهما: أنه لا فرق بين أن تكون الزوجة حال الطلب حية أم لا، وقد قال الأصحاب: إنها لو كنت ميتة فلا تستحق قولا واحدا [إذ لا منع]، وكذا لو مات الزوج قبل الطلب لا يستحق ورثته شيئا لم ذكرناه. نعم، لو ماتت أو مات بعد الطلب استحق، ويدفع في الصورة الثانية إلى ورثته، وحكم القتل قبل الطلب حكم الموت.
وحكى الإمام فيما إذا حصل بعده: أن الغرم يجب على القاتل؛ لأنه المانع بالقتل. ثم رأى [الإمام] أن يفصل فيقال: إن قتلها على الاتصال بالطلب فالحكم ما ذكروه، وإن تأخر القتل فقد استقر الغرم عليها بالمنع؛ فلا أثر للقتل بعده.
قلت: وهذا الذي ذكره يشبه طريقة ذكرتها فيما إذا قتلت أم الولد
عقيب الجناية: أن السيد لا يغرم؛ فإنه لا حيلولة [له].
ولو جرحها جارح قبل الطلب، ثم طلبها الزوج، وقد انتهت إلى حركة المذبوحين – لم يرجع، وإن بقيت فيها حياة مستقرة فالغرم على الجارح، أو في بيت المال؟ فيه وجهان، أصحهما: الثاني في "النهاية" و"الرافعي"
الأمر الثاني: أنه لا فرق مع بقائها عند الطلب [بين] أن تكون باقية على الإسلام أو مرتدة.
وقد حكى الأصحاب في حال ارتدادها [أنها] تمنع منهم، وفي الاستحقاق إذا قيل به في حالة الإسلام وجهان، أصحهما في "النهاية" و"الحاوي" و"الرافعي": نعم، وهو المجزوم به في "الشامل"؛ لأن فرج المرتدة محظور على الكافر كالمسلم، وكلام الإمام مصرح بأن محل الوجهين فيما إذا أسلمت، ثم ارتدت والتحقت بنا مرتدة.
الثالث: أنه لا فرق بين أن يكون الزوج حال الطلب مسلما أو كافرا، و [قد] قال الأصحاب: إنه إذا كان مسلما لم يستحق وجها واحدا؛ لأنا [قد] بينا أن الاستحقاق إنما يثبت [لأجل شبهة ملكه] إذا كان الطلب في العدة، وإسلامه وهي في العدة يستمر به النكاح؛ فلا يستحق معه شيئا، وإن كان الإسلام قبل الدخول فلا يستحق أيضا؛ لأنها بانت بالإسلام. كذا نص عليه [الشافعي] في "الأم"، كما نقله ابن الصباغ، وهو الذي وعدت بذكره في نصرة قول القاضي أبي الطيب، لكن ابن الصباغ استشعره فقال: وإنما قلنا: لا يجب إذا أسلم الزوج – يعني قبل الدخول – لأنه التزم أحكام الإسلام.
نعم، لو طلب وهو كافر ثم أسلم بعد انقضاء العدة، فهل يستحق؟ فيه وجهان في "الحاوي".
وجه الاستحقاق: القياس عل ما إذا كان قد قبض قبل الإسلام والصورة هذه؛ فإنه لا يسترجع منه [وجها] واحدا.
ووجه المنع – وهو المنسوب لأبي إسحاق في "الشامل"-: يمكنه من نكاحها إن أحب.
الرابع: أنه لا فرق بين أن يكون البلد الذي هاجرت [إليه فيه الإمام أو نائبه أو لا، وقد قال الأصحاب: إنها إذا هاجرت] إلى بلد غير الإمام [أو نائبه] لا يستحق وجها واحدا، مع الجزم بوجوب المنع كما ذكره ابن الصباغ؛ لأن المدفوع – كما ذكرناه – من سهم المصالح، ولا تصرف لغير الإمام ونائبه [فيه، وأن محل الخلاف فيما إذا هاجرت إلى بلد الإمام أو نائبه]، واستمرت فيه إلى حين الطلب، حتى لو خرجت منه قبل الطلب لم يجب الغرم – أيضا – كما قاله القاضي الحسين.
ثم ما المراد بالنائب المذكور؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي، وتبعه الروياني:
أحدهما: أنه النائب عنه في عقد الهدنة بمباشرته لها.
والثاني: النائب في بيت المال.
قال الرافعي: والأحسن ما قاله صاحب "التهذيب" وغيره، وهو أنه [إن] قال عند الهدنة: من جاءني منكم مسلما رددته، لم يلزمه شيء إذا جاءت لغير بلده، وإن قال: من جاء [من] المسلمين، أو: من جاءنا – وجب الغرم، وهذا [وهو] الذي حكاه الفوراني. وحكى الإمام فيما إذا كان قد قال: من جاءني، وجاءت إلى طرف من أطراف بلاد الإسلام – وجهين في الغرم. نعم، لو جاءت إلى [بلد من] بلاد البغاة الخارجين عن حكم الإمام فلا يلزمه جزما،
وكذلك [الحكم][فيما] إذا كان قد قال: من جاءنا.
فروع:
إذا جاءت الصغيرة وقد أظهرت الإسلام، فالمذهب – كما تقدم -: أنا [لا] نحكم به، ولا ترد إليهم، وهل يدفع إليه مهرها على القول به؟ فيه قولان في "الشامل" و"تعليق" البندنيجي، ووجهان في غيرهما:
أحدهما: لا؛ كما لو جاءت مجنونة، ولم ندر هل أسلمت أم لا؟ فإنه يوقف أمرها ولا ترد إليهم إلى الإفاقة، فإن أعربت بالإسلام لم يخف الحكم، وإن أعربت بالكفر ردت إليهم، وهذا ما صححه الروياني والبغوي وغيرهما كما قال الرافعي.
والثاني: يصرف إليه، وهو الذي أورده الفوراني و [الغزالي] في "الوجيز"، والفرق بينهما وبين المجنونة:[أن المجنونة] منعنا منها للشك في إسلامها، والصغيرة منعنا منها لوصفها الإسلام.
وفي "النهاية" وجه: أن الصغيرة ترد؛ لأن ما جاءت [به] ليس بإسلام، ولو وصفت [المجنونة] الإسلام، قال الماوردي: فهي كالصغيرة. والذي أجاب به الشيخ أبو حامد: أنه يحال بينهما، ولا يدفع إليه شيء حتى يتبين حالها. ولا خلاف أنها لو وصفته قبل الجنون دفع إليه [على] القول بوجوب الدفع.
إذا جاءت إلينا عشر زوجات لواحد منهم قد نكحهن في الشرك، قيل له: اختر من جميعهن أربعا، ولك ما دفعته لهن، على القول بوجوب الدفع، ولا شيء لك فيما عداهن؛ لاستقرار الشرع على تجريم من زاد على الأربع، حكاه الماوردي، وتبعه الروياني.
إذا ادعى الطالب الزوجية وأنكرتها، قال الماوردي وابن الصباغ: لم تقبل دعواه إلا بشاهدين من عدول المسلمين يشهدان بنكاحه. و [هذا يدل] على عدم توجه اليمين عليها، وقد صرح أبو الطيب والبندنيجي بحلفها، ولو ادعى إقباضها الصداق، وكذبته – فكذلك القول قولها، ولا يمين عليها، كما قاله الماوردي وتبعه الروياني؛ لأن رده مستحق على غيرها، وطولب الزوج بالبينة، ويكفيه شاهد ويمين أو شاهد وامرأتان، وفي "الشامل": أن قولها مقبول باليمين.
وعن "تعليق" الشيخ أبي حامد: أنهما إذا اختلفا يفحص الإمام عن مهر مثلها، وقد تمكنه معرفته من تجار المسلمين الذي دخلوا دار الحرب [أو من] الأسرى، ثم يحلف الرجل: إنه أصدقها [ذلك القدر] وتسلمته، ولو صدقته على النكاح والقبض ثبت الغرم حيث بينته – صرح به الماوردي والبندنيجي وأبو الطيب وابن الصباغ – لعسر إقامة البينة على ما يجري بين الكفار.
ورأى الإمام ألا يعتمد قولها، ولا يجعل حجة علينا.
قال: وإن تحاكموا إلينا لم يجب الحكم بينهم؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]، وقد ذكرنا أنها نزلت في يهود المدينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هادنهم بغير عوض، ويقال: إنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، ويشهد له قوله تعالى:{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة: 43]؛ ولأن المشروط معهم الكف عنهم دون الدفع؛ فكان عدم الوجوب من مقتضى الشرط، بخلاف أهل الذمة؛ فإن عقدهم اقتضى الذب عنهم. وعلى هذا: لو ترافعوا إلينا، فاختار الحاكم أن يحكم بينهم – كانوا مخيرين بين التزام حكمه بعد الحكم وبين رده، سواء في ذلك حقوق الله – تعالى – وحقوق الآدميين، صرح به الماوردي في باب حد الذميين، ولا فرق في ذلك بين أن [تختلف ملتهما أو تتفق].
وحكى الإمام عن طوائف من المحققين أنه يجب الحكم في الحالة الأولى، وعن بعض الأصحاب: أنا إنا قلنا في الذميين المختلفي الملة قولا واحدا: [إنه يجب الحكم] ففي المعاهدين المختلفي الملة قولان.
قال: وهذا عندي ذهول عن حقيقة العهد؛ فإنا [لم نلتزم] لهم الذب [عنهم]. نعم، ما حكيناه عن المحققين محمول على أصل، وهو أن طائفة من أهل العهد إذا دخلوا دارنا، ثم بارزوا، وأخذوا [يصطدمون ويتجالدون] بالسيوف – فهل يجوز تركهم على هذه الحالة؟ الذي ذهب إليه أهل الايالة: أنه لا يجوز، لما فيه من جهر الفساد، فعلى هذا ينبني قول المحققين؛ حتى لا يؤدي إلى المحذور الذي أشرنا إليه، والمذهب عندي: القطع بأنه لا يجب الحكم وإن اختلفوا ملتهم.
ولا خلاف في أنهم إذا تحاكموا مع المسلمين وجب الحكم، ولو تحاكموا مع أهل الذمة ففيه طرق تقدمة في الباب قبله.
قال: وإن خيف منهم نقض العهد جاز أن ينبذ إليهم [عهدهم]؛ لقوله تعالى: [{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}] الآية [الأنفال: 58]، والخوف المؤثر هو الحاصل عن سبب ودلالة على الخيانة في الباطن بما لو أظهره لانتقض به العهد، كما نقله الماوردي، ومثله [البندنيجي]؛ بأن يعين على المسلمين، أو يتجسس للمشركين.
وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما: لا تعويل على حديث النفس
والخاطر، وقد عزي إلى النص في "الأم"، والفرق بين أهل العهد والذمة: أن عقد
الهدنة للمسلمين؛ بدليل عدم وجوبه، [ومن جملة النظر لهم نقضه عند خوف
النقض. وعقد الذمة لأهل الذمة بدليل وجوبه] فلا ينقض بالوهم، ولأن
عقد الهدنة عقد أمان؛ فجاز نقضها بالخوف، والذمة عقد معاوضة؛ فلا يجوز نقضها بالخوف، ولأن عقد الذمة أقوى بدليل تأبيدها.
وعن أبي الحسين بن القطان رواية قول أنه لا ينبذ بدلالة الخيانة كما في أهل الذمة. والصحيح الأول.
ولا بد في نقض العهد في هذه الحالة من حكم الحاكم بالنقض؛ لأنه يحتاج إلى اجتهاد ونظر.
وعن الشيخ أبي حامد: أنه ينتقض بنفس خوف الخيانة. والمنصوص الصحيح: الأول.
وإذا حكم به ردهم [إلى مأمنهم] بعد استيفاء ما وجب عليهم من حقوق الله – تعالى – وعباده إن كانت، وهذا بخلاف ما لو صدر منهم ما يقتضي نقض العهد كقتل مسلم، أو أخذ ماله، أو تظاهر بالقتال، أو بعذر الإسلام، أو بسب النبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن، كما قاله الماوردي، وكذا كل ما يضر بالمسلمين مما ذكرناه في باب عقد الذمة، وإن لم تنتقض به الذمة – كما صرح به الإمام – فإنه لا يحتاج إلى الحكم فيه؛ لظهوره، ولا يبلغهم المأمن، بل هم أهل حرب بفعل ذلك، كما قاله الماوردي [وغيره]؛ قال الله تعالى:{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} الآية [التوبة: 12].
وفي "النهاية" حكاية وجه: أنهم إذا لم يعلموا أن ذلك ينقض العهد، فلا يغتالهم قبل تعريفهم أنه انتقض.
وقال الرافعي: إن محل اغتيالهم إذا نقضوا العهد إذا كانوا في بلادهم، [فأما من دخل] دارنا بأمان أو عهد، فلا يغتال وإن انتقض عهده، بل [يبلغ إلى مأمنه]، كذلك نقله القاضيان ابن كج والروياني وغيرهما.
ولا يشترط في هذا أن يصدر الفعل من الكل، بل لو [فعله البعض] ولم ينكره الباقون، انتقض عهد الجميع، بخلاف أهل الذمة، كما تقدم.
ويدل عليه: أنه صلى الله عليه وسلم لما هادن يهود بني قريظة، أعان بعضهم أبا سفيان بن حرب [على حرب] النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق، وقيل:[إن] الذين أعانوه: حيي بن أخطب وأخوه وآخر؛ فنقض به عهدهم، وغزاهم حتى قتل رجالهم إلا ابني سعية: أسيد وثعلبة، وسبى ذراريهم.
وكذلك لما عقدت الهدنة بينه وبين أهل مكة عام الحديبية كانت خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم داخلين معه في الهدنة، [وبنو بكر حلفاء قريش داخلون معهم في الهدنة]، فقتل بعض بكر رجلا من خزاعة، وآوى بعض أهل مكة القاتل، ولم ينكر الباقون على من فعل ذلك؛ فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان الفتح.
ولأن عقد الهدنة يتم بعقد بعض المشركين ورضا الباقين، ويكون السكوت رضا بذلك؛ فوجب أن يكون النقض مثله. أما إذا أنكر من لم يفعل على الفاعلين بقول أو فعل، أو اعتزلوهم، أو كاتبوا الإمام بصنيعهم، وأنهم باقون معه على العهد – لم ينتقض إلا عهد الناقضين؛ قال الله تعالى:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} الآية [الأنعام: 44].
ثم إن كانوا متميزين عنهم، وإلا أمرهم أن يتميزوا، والقول قول من ادعى عدم الرضا، كما قاله أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما، فإن لم يتميزوا مع القدرة، قال الماوردي: صار الكل ناقضين للعهد.
قال الرافعي: ووراء ذلك شيئان مستغربان:
أحدهما: قال الإمام: لو بدت خيانة من بعضهم، وسكت الآخرون، ولم ينكروا – كان للإمام أن ينبذ إليهم، وهكذا كان قضية أهل مكة.
والثاني: [أنه] في كتاب ابن كج: أنه لو نقض السوقة العهد، ولم يعلم
الرئيس والأشراف بذلك – ففي انتقاض العهد في حق السوقة وجهان عن رواية أبي الحسين:
وجه المنع: أنه لا اعتبار بعقدهم؛ فكذا [في النقض]، فلو نقض الرئيس وامتنع الأتباع وأنكروا، ففي الانتقاض في حقهم قولان.
وجه الانتقاض: أنه لم يبق العهد في حق المتبوع، فلا يبقى في حق التابع.
تنبيه: في قول الشيخ: وإن خيف منهم
…
إلى آخره، ما يعرفك أن العقد لازم قبل ذلك، وقد صرح به الأصحاب، واستدلوا له بقوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 44]، [وقوله تعالى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]]، وقوله تعالى:{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"المؤمنون عند شروطهم"، والمعنى فيه ظاهر.
قال الأصحاب: ولا فرق بين أن يعقد في حالة الضعف المدة الطويلة، ثم يقوى، أم لا، وأنه لا يختلف ذلك [ببقاء] الإمام أو عزله وولاية غيره. نعم، إذا ولي غيره فرأى [أن] العقد فاسد، قال في "البحر": نظر: فإن كان [فاسدا] بنص أو إجماع انتقض، وإن كان باجتهاد فلا.
فرع: إذا نقضوا العهد، ثم أتلفوا شيئا في حالة قتالهم، ثم ظهر الإمام عليهم – ففي المسألة قولان نقلهما القاضي الحسين:
[أحدهما]: أنهم يؤخذون بضمانة قبل التوبة وبعدها.
والثاني: لا يؤخذون بشيء إلا أن [يوجد مال [رجل بعينه فيرد؛ لأنهم فعلوا في حال الامتناع ونقض العهد.
قال: وإن دخل حربي إلى دار الإسلام من غير أمان، جاز قتله
واسترقاقه؛ لأنه كافر قدر الله المسلمين عليه، فجاز قتله واسترقاقه، وكذا المن
عليه والفداء كما في الأسير. نعم، حكمه مخالف للأسير في أمور:
أحدها: أنه لو أسلم قبل أن يختار الإمام واحدة من الخصال، سقط عنه الكل، كما أشار إليه الأصحاب في السير، وهو قضية ما نورده عن الرافعي من بعد، والأسير لم أسلم [لم يسقطن] كما تقدم.
الثاني: أنه لو ادعى أنه دخل دار الإسلام بأمان واحد من المسلمين وصدقه ذلك الواحد، رجع إلى قوله، وإن كذبه. كان الداخل مغنوما، وإن كان من ادعى أمانة غائبا، فهل يقبل قوله؟ فيه وجهان في "الحاوي"، والمنصوص منهما – كما حكاه البندنيجي، وبه جزم الماوردي في السير -: القبول، ورجحه العمراني والروياني.
والأسير لو ادعى ذلك بعد الأسر، لم يقبل منه جزما إلا ببينة تشهد به، وهي رجلان عدلان؛ لأنه يسقط بها [عن نفسه القتل، ويقبل فيها رجل وامرأتان إذا كان ذلك بعد الإسلام؛ لأنه يسقط] بها الرق، ولا يكفيه تصديق من ادعى أنه أمنه، كما ذكره البندنيجي وأبو الطيب [وغيرهما] في [كتاب] السير.
الثالث: لو أنه بذل الجزية، وكان ممن يجوز عقدها له، فهل يكون ذلك مانعا من استرقاقه وقتله؟ فيه وجهان مرتبان على القولين اللذين ذكرناهما في الأسير، وهاهنا أولى بالعصمة.
قال الشيخ أبو محمد: والفرق: أنا لم نقصد أسره، وإنما وقع في القبضة اتفاقا.
وعن القاضي ابن كج: أنه ذكر في موضع من كتابه أنه تقبل منه الجزية، ولا يجوز استرقاقه، وفي موضع [آخر]: أن الإمام [فيه بالخيار] بين أن يسترقه وبين أن يقرره بالجزية.
قال: وكان ماله فيئا؛ لأنه حصل بغير قتال.
وهذا إذا قبله الإمام أو استرقه، أما لو رأى الإمام أن يمن عليه ويرد إليه
أمواله ويخلي ذريته؛ فله ذلك، بخلاف سبايا أهل الحرب؛ لأن الغانمين قد ملكوهم وملكوا الأموال؛ فيحتاج إلى رضاهم، كذا حكاه الرافعي، وهو الذي وعدت بذكره من قبل.
تنبيه: الأمان قد تقدم أنه يصح من الإمام ومن نائبه، ومن آحاد المسلمين المكلفين للآحاد، وفي معناه أمور:
منها اثنان سنذكرهما.
والثالث: إذا دخل لسماع كلام الله – تعالى – أو ليسلم، أو ليبذل الجزية، قال الأصحاب: ويصدق في دعواه تلك، ولا يتعرض له؛ لظاهر الآية، ويجوز تعليمه القرآن إذا رجي إسلامه، ولا يجوز إذا خيف منه الاستخفاف به. وكذا القول في تعليمه الفقه والكلام وأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمنع من تعلم الشعر والنحو.
قال الروياني: ومنع بعض الفقهاء منه؛ كي لا يتطاولوا به على من لا يحسنه من المسلمين.
فرع: إذا دخل [رجل] حربي دارنا، وبقي مدة، ثم اطلعنا عليه – فالذي حكاه الإمام: أنا لا نأخذ منه شيئا [لما مضي؛ لأن عماد الجزية القبول وهذا حربي لم يلتزم شيئا]، وصححه ابن كج، وحكى عن تخريج أبي الحسين وجها آخر: أنه تؤخذ منه الجزية لما مضى.
قال: وإن استأذن في الدخول، ورأى الإمام المصلحة في الإذن بأن يدخل بتجارة ينتفع بها المسلمون، أو في أداء رسالة، أو يأخذ من تجارتهم شيئا – جاز أن يأذن له في الدخول؛ تحصيلا للمصلحة المتعلقة به.
واحترز بلفظ "الإمام" في هذا المقام عن آحاد المكلفين المسلمين؛ فإنه لا يجوز إذنه في الدخول بالتجارة والزيارة، كما صرح به الأصحاب، وحكاه ابن الصباغ عن أبي إسحاق في اشتراط العشر بعد الكلام في المسألة بفصول، فلو سمع الكفار واحدا من المسلمين يقول: من دخل تاجرا فهو في أمان، فاعتمدوه – قال الإمام: فلا شك في فساد الأمان، لكن، هل يثبت لهم حكم الأمان إذا ظنوه صحيحا؟ فيه وجهان.
واحترز بلفظ "إذا رأى المصلحة" عما إذا لم يكن في الدخول مصلحة؛ فإنه لا يجوز بحال؛ لما فيه من اطلاع للكفار على عورات المسلمين، ونقل الأسلحة للكفار، وعبر عنه الرافعي بأنه لا يجوز من غير حاجة، وكلام الغزالي في السير مصرح بأن المانع من الإذن والأمان حصول المضرة؛ كالجاسوس ونحوه، وأنه لا يشترط في انعقاد الأمان ظهور المصلحة، بل يكفي عدم المضرة.
وقال الإمام: إنه إذا أمن [من] في دخوله مضرة ينبغي ألا يستحق التبليغ إلى المأمن؛ لأن دخول مثله خيانة ملجئة إلى أن يغتال.
ثم كلام الشيخ يفهم أمورا:
أحدها: جواز الإذن في الدخول بتجارة يحتاج إليها المسلمون بغير عوض، وبعوض إذا لم يكن بالمسلمين إليها حاجة، وهذا ما اتفق عليه الأصحاب. لكن في حال عدم الحاجة إليها، هل يجب الشرط كيف كان الأمر، أو يجوز الشرط إذا رأى الإمام فيه المصلحة، ويجوز الترك تغليبا للمصلحة؟ فيه وجهان، حكاهما المراوزة:
وأصحهما عند الإمام – وبه جزم القاضي الحسين والبندنيجي – الأول.
وأظهرهما في "الرافعي" – وبه جزم أبو الطيب وابن الصباغ والماوردي -: الثاني.
وقد تقدم مثلهما في الإذن في دخول الحجاز، قال الرافعي: ويقرب من الوجهين الوجهان في أنه إذا أطلق الإذن [في الدخول] من غير شرط، هل يجب شيء أم لا؟ أو أحد الخلافين [مبني] على الآخر؟
قلت: والأظهر عدم البناء، وقد نبهت عليه في [باب] عقد الذمة.
الثاني: أن [المشروط لا يتقدر] بشيء، وقد [صرح به] الأصحاب، وقالوا:
يستحب أن يكون العشر؛ اقتداء بعمر – رضي الله عنه – فإنه شرط عليهم
العشر، ويجوز أن يزيد عليه إذا كانت بضاعتهم كاسدة في بلادهم نافقة عندنا،
ويجوز أن يقنع منهم به وبما دونه إذا انعكس الحال، ويجوز – كما قال الماوردي-: أن يجعل في صنف العشر، وفي آخر أكثر منه أو أقل، على حسب ما يراه.
وحكى الإمام وجها اقتضى إيراده ترجيحه: أنه لا يجوز الزيادة على العشر؛ لأن عمر – رضي الله عنه – شرطه مع ظهور الإسلام والتمكن من الزيادة؛ فدل على أنه الأكثر.
والأصح الأول. ثم إذا شرط في الصلح قدرا، قال الماوردي: صار ذلك واجبا في متاجرهم ما أقاموا على صلحهم كالجزية، لا يجوز لغيره من الأئمة نقضه إلى زيادة أو نقصان.
الثالث: أن الدخول لأداء رسالة يتوقف على الإذن، وهو ما أفهمه كلام القاضي أبي الطيب والبندنيجي وغيرهما، وكلام غيرهما – ومنهم ابن الصباغ والإمام – يقتضي خلافه؛ حيث قالوا: إذا ادعى الداخل في بلاد الإسلام بغير إذن الرسالة قبل قوله، [ولا يقتل]، وتكون له الرسالة – كما قال الماوردي – أمانا على نفسه وماله، ولا يحتاج معها إلى استئناف أمان.
ولا يجوز أن يوظف على الرسول والمستجير [لسماع كلام] الله تعالى [مال]، قال الإمام: لأن لهما الدخول من غير إذن.
وزاد الماوردي في موضع آخر، فقال: لو دخل الرسول بمال لا يعشر وإن كان العشر مشروطا؛ لأنه لما تميز عنهم في أمان الرسالة تميز عنهم في تعشير المال؛ تغليبا لنفع الإسلام برسالته.
وقد استدل لعدم قتل الرسل بما روى أبو داود عن نعيم -[وهو] ابن مسعود – الأشجعي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لرسولين جاءا من قبل مسيلمة حين قرأ كتاب مسيلمة: "ما تقولان أنتما؟ " قالا: [نقول كما] قال.
قال: أما والله، لولا أن الرسول لا يقتل لضربت أعناقكما.
ولا فرق في قبول قوله بين أن يكون [بين يديه] كتاب أو لا، قال الماوردي: إلا أن يعلم كذبه.
وللإمام احتمال فيما إذا لم يكن معه كتاب؛ لأن مخايل الرسالة لا تخفى، ويغلب على الظن – والحالة هذه – كذبه، وقد أقامه في "الوسيط" وجها.
والصحيح الأول. نعم، إذا اتهمه الإمام حلفه كما حكاه ابن كج عن النص، وفي "الحاوي": أنه لا يلزمه أحلافه على الرسالة؛ لأنه مبلغ، ومت على الرسول إلا البلاغ، وتبعه في ذلك صاحب "البحر" وقال: إن محل ذلك إذا كان في الرسالة مصلحة للمسلمين من صلح يجدد أو هدنة تعقد أو فداء أسراء، وأما إذا [كان] جاء رسولا بوعيد أو تهديد فلا يكون له أمان، ويتخير للإمام فيه بين الخصال الأربع، [وهذا] أحد الأمرين اللذين وعدت بهما من قبل.
وثانيهما" قال القاضي الحسين: إذا قال: دخلت لتأخذ مني المال المضروب، ورضيت به – فإنه يؤخذ منه ولا يغنم.
وفي كلام الإمام ما ينازع فيه؛ فإنه قال: ولو زعم الكافر أنه ظن التجارة أمانا لم يبال به، واغتيل [وأخذ] ماله، ولا تعويل على ظنه إذا لم يكن [له] مستند.
فروع:
هل يتكرر المأخوذ بتكرار الدخول؟ الحكم فيه كما إذا تكرر دخول الحربي وغيره الحجاز، وقد تقدم، وكلام الإمام يفهم أن الخلاف في تكرار
الأخذ في بلاد الحجاز لعظم شأنها، أما غيرها فلا يتكرر، والذي صرح به البندنيجي والمصنف وغيرهما:[الأول].
إذا دخل أهل الحرب بالتجارة وقد شرط عليهم العشر، فلم يتفق منهم بيع، فهل يؤخذ منهم المشروط؟
قال القاضي أبو الطيب والمصنف وغيرهما: ينظر: فإن [قال]: أعطيكم عشر الثمن، فلا يؤخذ منه شيء، وإن أطلق قوله وقال: لكم العشر، أو:[لكم] العشر من مالي – كان إطلاقه القول ينصرف إلى المقيد، فإن باع أخذ عشر الثمن، [وإن لم يبع [أخذ عشر الثمن المباع إن أراد الرجوع.
وفي "الحاوي": أن العشر إن كان مشروطا في عين المال وجب على كل من حمله إلى بلاد الإسلام من حربي أو ذمي أو مسلم، ولا يمنع الإسلام [من أخذه]، بل يكون [ثمنا ينضاف] إلى الثمن الذي ابتاعه من أهل الحرب، ويكون ما أداه إليهم تسعة أعشار ثمنه أو أربعة أخماسه، وما أداه [إلى] الإمام عشر الثمن أو خمسة. وإن كان العشر مشروطا في ذممهم لأجل المال وعينه، أخذ عشره من الحربي إذا حمله، ولا يؤخذ من المسلم، وفي أخذه من الذمي وجهان.
ولا خلاف أنه لا يؤخذ من أهل الذمة [عن تجارتهم] شيء وإن ترددوا في بلاد الإسلام كلها، سوى الحجاز كما تقدم ذكره، وحكم المرأة فيهم حكم الرجل.
فرع: يصح الأمان العام من صاحب الأمر بأن يقول: أمنت من دخل دار الإسلام تاجرا.
قال: وإذا دخل، أي: للغرض المطلوب جاز أن يقيم اليوم والعشرة؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، وهي مدة قريبة بالإضافة إلى ما دخل إليه، فإن
انقضت حاجته في دون ذلك لم يمكن من المقام بمطلق الإذن للغرض السابق. صرح به الفريقان.
ولو لم ينقض رسالته إلا في سنة جاز أن يقيم بغير جزية [سنة]، قال الماوردي: لأن حكم الرسالة مخصوص، من [أحكام] جماعتهم.
وقال الإمام: إن الداخل لسماع كلام الله تعالى هل يمهل أربعة أشهر؟ أو يقال: إذا لم ينفصل الأمر بمجالس يعرض فيها البيان التام، فيقال له: الحق بمأمنك؟ فيه تردد أخذته من فحوى كلام الأصحاب، [والظاهر: المنع].
قال: فإن طلب أن يقيم مدة، أي من غير حاجة، جاز أن يأذن له، أي: الإمام أو نائبه في المقام أربعة أشهر، ولا يجوز سنة، وفيما بينهما قولان؛ لأنهم في معنى المهادنين.
فرع: لو قال الإمام له: إن لم ترجع إلى دار الحرب حكمت عليك بحكم أهل الذمة، قال أبو العباس: إن أقام سنة من حين دخوله إلينا أخذت منه الجزية، وأقل ما يؤخذ منه [دينار].
وإن قاله [له]: اخرج إلى دار الحرب، وإن أقمت عندنا صيرتك ذميا، فأقام سنة، ثم قال: أقمت لحاجة أقضيها، وانصرف – قبل منه، ولم تؤخذ منه الجزية، ورد إلى مأمنه، حكاه البندنيجي.
قال: فإن أقام، أي: في دار الإسلام، لزمه التزام أحكام المسلمين، أي: الأحكام المتعلقة بالمسلمين؛ فيضمن المال والنفس، ويجب عليه حد القذف؛ لأن العقد كما اقتضى [أمانهم من المسلمين في ذلك، اقتضى [أمان المسلمين منهم، فإذا دخل على التزامه ترتب عليه مقتضاه.
وهكذا الحكم في أتباع المسلمين من أهل الذمة، صرح به أبو الطيب وابن
الصباغ في باب "الحكم بين المهادنين"، وقالا فيما إذا نقض أهل الهدنة العهد، وامتنعوا على الإمام، وأتلفوا أموال أهل الذمة: في وجوب الضمان عليهم قولان، كما إذا ارتد المسلمون، وامتنعوا، وأتلفوا على المسلمين شيئا، وقد ذكرناهما من قبل.
قال: ولا يجب [عليه] حد الزنى والشرب؛ لأنهما من حقوق الله – تعالى – وهو لم يلتزمها.
ولا فرق في ذلك بين أن يزني بمن هي مثله، [أو بذمية]، أو بمسلمة؛ كما قاله الماوردي قبيل باب حد القذف.
وحكى الإمام في كتاب السرقة طريقة أخرى فيما إذا زني بمسلمة: أن حكمه حكم سرقته مال مسلم؛ فيكون على الخلاف الآتي.
قال الماوردي: ولو شرط عليه في الابتداء التزام أحكامنا لزمه ذلك.
قال: وفي حد السرقة والمحاربة؛ أي: المتعلقة بالمسلمين [وأهل الذمة] قولان:
أحدهما: يجب؛ لأن في إقامته صيانة لحق المسلمين وأتباعهم؛ فأشبه حد القذف، وهذا ما نص عليه في "سير" الواقدي، واختاره في "المرشد".
والثاني: لا يجب؛ لأنه محض حق الله – تعالى فأشبه حد الزنى، وهذا أصح في "الجيلي"، وعند النواوي.
وقال القاضي أبو الطيب في باب حد السرقة: إنه الذي نص عليه في عامة كتبه.
وجميع ما ذكرناه جار في أهل الذمة – أيضا – وحكى الإمام قولا ثالثا: أنه إن شرط عليه القطع إذا سرق، وإن لم يشترط، لم يقطع.
ولو كان المسروق مال معاهد آخر أو مستأمن [فلا قطع] قولا وحدا، قاله الماوردي في كتاب السرقة.
واعلم أن [في] قول الشيخ هنا: "وإذا أقام لزمه التزام أحكام المسلمين"، وقوله في باب عقد الذمة: " [ولا يصح عقد الذمة] إلا بشرطين: التزام أحكام الملة، [وبذل الجزية][ما] يعرفك أن بينهما فرقا، وقد أوضحه الشيخ بالمثال فتأمله.
قال: ويجب دفع الأذية عنه، كما [يجب عن] الذمي؛ لأنه التزم له بالعقد كف المسلمين عنه، وكف أتباعهم وهم أهل الذمة؛ لكونهم في قبضة الإمام؛ فوجب القيام به، وكونه في دار الإسلام يقتضي وجوب دفع أهل الحرب عنه؛ لأجل الدار؛ فإن تسليط الكفار على طروق دار الإسلام ممتنع؛ لهذا قال الأصحاب: إن أهل الذمة المقيمين بدار الإسلام لو شرطوا في العقد ألا يدفع عنهم أهل الحرب كان الشرط باطلا؛ لما ذكرناه.
فانتظم من مجموع ذلك وجوب الدفع عنه [كما يجب] عن الذمي، وقد غفل بعض الشارحين لهذا الكتاب عما نبهت عليه، فحمل كلام الشيخ على دفع أذية المسلمين عنه و [من معهم] من أهل الذمة – خاصة – وهو ما ذكره في "الحاوي" في كتاب السرقة. [و] في "فتاوى" القاضي: أن بعض أصحابنا قال: لو قصد المستأمنين الذين دخلوا دار الإسلام للتجارة بأمان أهل الذمة أو أهل الحرب، لا يجب على الإمام الدفع عنهم، بخلاف ما لو قصدهم المسلمون، والمشهور: الأول.
نعم، ما ذكره مختص بأهل الهدنة إذا انفردوا ببلد في طرف بلاد الإسلام لا
يمر أهل الحرب إذا قصدوها على بلد للمسلمين في طريقهم أو مال لهم، أما إذا كانوا في بلد لا يمكن قصدها إلا بالمرور على ذلك فيظهر أن يكون الحكم كما إذا كانوا في بلد المسلمين، ويجب الدفع؛ لما أشرنا إليه من التعليل عملا بما ذكره الأصحاب في عقد الذمة، والله أعلم.
قال: فإن رجع إلى دار الحرب بإذن الإمام في تجارة أو رسالة؛ فهو باق على الأمان في نفسه وماله، كالذمي إذا دخل دار الحرب بالتجارة.
ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي اشتراط إذن الإمام في [الدخول لدار] الحرب.
وفي "المهذب" و"الحاوي" في كتاب السير وغيرهما: السكوت عن إذن الإمام، واعتبار أن يكون الخروج كذلك، وألحق بهما البندنيجي الخروج للزيارة.
وأطلق الماوردي في كتاب الجزية القول بأن الحربي إذا دخل بأمان، ثم عاد إلى دار الحرب؛ انقضى حكم أمانه، فإن عاد ثانيا بغير أمان، غنم.
نعم، لو عقد له الإمام الأمان على تكرير الدخول اعتبارا بصريح العقد كان في تردده آمنا في كل دفعة ما شرطه من المدة، فلعل الشيخ لاحظ هذا وأراده.
قال: وإن رجع للاستيطان، انتقض الأمان في نفسه وما معه من المال؛ لأنه بهذه النية [قد] صار حربا لنا.
قال: وإن أودع مالا في دار الإسلام – أي: [و] قد ثبت له الأمان؛ لم ينتقض الأمان فيه، ويجب رده إليه؛ لأنه زال أمانه بانتقاله، وبقي في ماله ببقائه في الدار، ولا يضر كونه غير آمن، وماله في أمان؛ ألا تراه يأخذ الأمان لماله؛ فيكون آمنا فيه دون نفسه، وكذا إذا دخل إليهم مسلم بأمان، فأرسل معه واحد منه ماله؛ فإنه يكون في أمان؛ لقدرة المسلم على أمانه، ولا يكون هو آمنا، كذا صرح أبو الطيب.
وحكم الذمي إذا أخذ منهم مالا حكم المسلم الداخل لهم على الأصح، لا لصحة أمان الذمي، بل لكونه أمانا فاسدا كأمان الصبي.
وفي "تعليق" القاضي أبو الطيب وغيره رواية قول: أن المال لا يكون في أمان؛ لأن الذمي لا يصح.
ثم إن الأمان يحصل للمال وكذا للذرية بالتصريح به، وهل [يحصل] لهما عند إطلاق الأمان له؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين في باب حكم المرتد.
وحكم الذرية المستخلفين في دار الإسلام، حكم الأموال المودعة، قاله الماوردي.
ووراء ما ذكره الشيخ في المال خاصة وجهان أوردهما القاضي الحسين هنا وغيره:
أحدهما: أنه ينتقض الأمان في ماله كما انتقض في نفسه، وقال: إنه أقيس؛ فعلى هذا يكون فيئا.
والثاني: أنه إن لم يتعرض في الأمان للمال، بل حصل الأمان فيه تبعا – فكذلك يجعل تبعا [في الانتقاض]، وإن ذكره في الأمان لم يرتفع عنه بارتفاعه عن النفس، وسيأتي ما يقوي ذلك من كلام الماوردي.
ومحل الخلاف إذا اتصل بدار الحرب، أما قبل اتصاله [بها]، قال الإمام: فالوجه بقاء الأمان في الأموال، ويحتمل أن يطرد الخلاف.
تنبيه: ظاهر قول الشيخ: "ويجب رده إليه"، أنه لا يمكن من الدخول لأخذه بالأمان الأول، حتى لو دخل كان كالداخل بغير أمان، وهو ما حكاه ابن الصباغ، وأبداه الإمام هنا احتمالا، واختاره الشيخ أبو زيد؛ كما حكاه الإمام في آخر "النهاية"، وتبعه صاحب "المرشد".
وقال الإمام ثم: إن الأصحاب وابن الحداد قالوا: إن له أن يدخل من غرير تجديد أمان [لتحصيل تلك الأموال، و] الدخول له يومئذ كالدخول للسفارة
وسماع كلام الله تعالى، ولكن ينبغي أن يعجل في تحصيل عين حقه، ولا يعرج على أمر آخر، وكذا لا ينبغي أن يكرر العود، ويستصحب في كل مرة بعضه إذا تمكن من أخذه دفعة واحدة، فإن خالف، قال الإمام: تعرض للقتل والأسر.
قال: فإن قتل أو مات في دار الحرب ففي ماله قولان، أي: مع الحكم بانتقاله إلى وارثه [كما نقله المصنف وغيره].
[أحدهما]: أنه يرد إلى ورثته؛ لأن الأمان من حقوق المال، ومن ورث مالا ورثه بحقوقه، أصله: خيار الرد بالعيب، والأخذ بالشفعة، وهذا ما نص عليه في المكاتب، واختاره المزني وصاحب "المرشد" والنواوي، وصححه البغوي، وإيراد القاضي أبي الطيب يقتضي ترجيحه، فعلى هذا: لا يكون لأقاربه من أهل الذمة فيه شيء على الأصح، ويصرف لأقاربه الحربيين.
قال الماوردي: سواء كانوا في دار الحرب أو في دار الإسلام، [وقال القاضي أبو الطيب: إنه يرد لمن ولد في دار الحرب دون من رزقهم في دار الإسلام].
قال في "المرشد": ويخالف الذمي إذا مات وله قريب في دار الحرب لا يرثه؛ لأن المستأمن ليس من أهل دار الإسلام، فإن لم يكن له وارث كان فيئا بلا خلاف.
والثاني: أنه [يغنم و] يصير فيئا؛ لأنه انتقل للوارث ولا أيمان له ولا أمان.
وهذا ما نص عليه في "سير" الواقدي، وحكاه المزني هنا، [واختاره أبو [إسحاق، وقد أفهم هذا التعليل أن محل الخلاف إذا لم يكن للوارث أمان على ماله، أما إذا كان فلا يتجه إلا القول الأول، وكذلك جزم به الماوردي صريحا، والقاضي الحسين.
وعن ابن خيران نفي الخلاف في المسألة، وتنزيل [النصين] على حالين كما نقله عنه المصنف والبندنيجي وغيرهما، وقال: الأول محمول على ما إذا شرط الأمان لنفسه ولورثته إن مات، والثاني محمول على ما إذا أطلق العقد.
وحكى الماوردي عنه حمل الأول على ما إذا شرط أمانه مدة حياته [وبعد مماته، والثاني على ما إذا شرط أمانه مدة حياته].
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنا على القول الثاني نقول: الأمر في ماله على التوقف كما في [مال المرتد]، فإذا مات قبل أن ردت أمواله عليه بان لنا أنا غنمناها بنقض العهد.
قال: وإن أسر واسترق صار ماله فيئا، أي: تفريعا على [أنه إذا مات في دار الحرب] كان ماله فيئا؛ لأن ملكه قد زال بالاسترقاق كما زال بالموت.
وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية قول آخر على هذا القول أنه يوقف على ما يظهر، فإن عتق رد إليه، وإن مات كان فيئا.
وفي "الرافعي": أنه المذكور في "الشامل"، ولم أره.
وقد رجع حاصل القولين إلى أنه [يكون فيئا على هذا القول، لكن في الحال أو بعد موته، أما إذا قلنا عند موته: إنه] يرد لورثته، فهاهنا يوقف؛ لأنه لا يمكن نقله للوارث؛ لأنه حي، ولا إلى بيت المال؛ لأنه مال له أمان، وهذا ما اختاره في "المرشد".
فعلى هذا إن عتق صرف إليه، وإن مات ففيه قولان حكاهما المصنف عن رواية [ابن] أبي هريرة والقاضي الحسين وغيرهما:
أحدهما: أنه يكون للوارث كما لو مات حرا.
وأصحهما في "الرافعي" و"المرشد" – وبه جزم القاضي أبو الطيب والبندنيجي -: أنه يكون فيئا؛ لأن العبد لا يورث.
وقد ادعى الإمام أن الشافعي – رضي الله عنه – نص على أن أموال من
نقض العهد واسترق ومات [رقيقا]، [فيء]، [وأن] مقابله مخرج من
نصه في مسألة ذكرتها [أنا] في آخر باب الديات، وعلى هذا فكيف
السبيل لأخذهم له؟ تردد فيه الإمام وقال: يجوز أن [يقال]: يصرف إليهم إرثا، وامتناع التوريث من الرقيق [حكم شرعي] والكفار لا يتعبدون بتفاصيل الشرع.
ويجوز أن يقال: لا يصرف إليهم إرثا، ولكن لأنهم أخص به كما نقول فيمن بعضه حر وبعضه رقيق: يصرف ما اكتسبه ببعضه [الحر] إلى مالك الرقيق منه؛ لأنه أخص به، وإذا قلنا بالتوريث فيورثه إذا مات، أو يسند استحقاق الوراثة إلى ما قبل جريان الرق؟ فيه احتمال.
وحكم المال الثابت للحربي في ذمة المسلم ببيع أو قرض قبل استرقاقه حكم ماله المودع عندنا، صرح به الإمام في أثناء كلامه.
ولو من الإمام عليه، قال القاضي أبو الطيب: سلم إليه ماله.
وكلام البندنيجي قريب منه؛ فإنه قال: بقي ماله على أمانه.
قال: وإن قتل أو مات في الأسر، أي: قبل الاسترقاق – ففي ماله قولان؛ كما لو مات في دار الحرب، وقد سبق توجيههما.
قال: وإن مات في دار الإسلام قبل أن يرجع إلى دار الحرب [رد إلى مأمنه] على المنصوص، أي: في "سير" الواقدي؛ لأنه مات على أمانه، فبقي ماله على الأمان، بخلاف ما لو مات في دار الحرب، وهذا أصح في "الرافعي"، واختاره في "المرشد". وقيل: هو – أيضا – على قولين؛ نظرا للعلة السابقة.
ويجري الطريقان فيما إذا مات في دار الحرب وقد دخلها بإذن الإمام في تجارة أو رسالة.
ثم إذا قلنا بالمنصوص جاز لوارثه دخول دار الإسلام لطلب ذلك المال، وإن لم يعقد له أمان، ويظهر الفرق بينه وبين صاحب المال على الوجه الآخر: أن المورث هاهنا لم يصدر منه خيانة، والوارث كذلك؛ فتبعه في الأمان، بخلاف رب المال ثم.
فرع: قال الماوردي في "الأحكام" في باب الفيء: يجوز شراء أولاد أهل العهد، منهم ولا يجوز سبيهم.
آخر: إذا اقترض حربي من حربي مالا، ثم دخلا إلينا بأمان – فهل على المقترض رد ما اقترضه؟
قال البندنيجي: خرجه ابن سريج على وجهين:
أحدهما: عليه رده كالمهر.
والثاني: لا؛ فإن الشافعي قال: لو تزوج حربي حربية ودخل بها، ثم ماتت، وأسلم زوجها، ودخل إلينا، فدخل وارثها يطالبه بالصداق والميراث – لا شيء له.
قال أبو العباس: والأول أصح، ويكون تأويل هذه المسألة: أن الحربي تزوج بها على أن لا مهر، وعلى ذلك جرى في "المهذب".
وحكى الرافعي أن الحربي إذا اقترض من حربي شيئا، أو التزم بالشراء ثمنا، ثم أسلما، أو قبلا الجزية أو الأمان معا أو على الترتيب – استمر الاستحقاق إذا كان الثمن المذكور مما يصح طلبه؛ كما إذا أسلم الزوجان ولم تقبض المهر المسمى، ولو أسلم المستحق عليه، أو قبل الجزية دون المستحق – فالنص: أن الجواب كذلك، ويستمر الاستحقاق.
وعن نصه: أنه إذا ماتت زوجة الحربي، فجاءنا مسلما أو مستأمنا، فجاء ورثتها يطلبون مهرها – لم يكن لهم شيء، وفيه طريقان عن الأصحاب.
أحدهما: أن فيهما قولين بالنقل والتخريج، وهذا كله حكاه الإمام عن العراقيين:
وأصحهما: بقاء الاستحقاق، ويستدام [حكم] العقد.
والثاني: المنع؛ لأنه يبعد أن يمكن الحربي من مطالبة المسلم أو الذمي في دارنا.
والطريق الثاني: القطع بالقول الأول، وبه قال ابن سريج، وحمل النص الثاني على ما إذا سمى خمرا أو خنزيرا وأقبضه في الكفر. انتهى.
وما قال الثاني منتقض بما إذا دخل مسلم إلى دار الحرب بأمان، فسرق [لهم] مالا، أو ابتاعه [منهم]، أو استقرضه، [ثم جاء] إلى دار
الإسلام، [ثم دخل صاحبه إلى دار الإسلام]، بأمان – فإن على المسلم رد ما سرق أو استقرض، كما صرح به المصنف والرافعي وغيرهما.
[وإذا] فرعنا على القول الثاني، قال الإمام: فلا خلاف أن العهد يبقى بينهما، حتى لو أسلم المستحق طالبه، وإنما على هذا القول يتوقف في الطلب، فليفهم الناظر ذلك.
والخلاف يجري فيما لو أتلف حربي على حربي مالا أو غصبه ثم أسلما، أو أسلم صاحب المال، والأصح: عدم المطالبة، وهو الذي جزم به الإمام. والله – عز وجل – أعلم.
* * *