الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب حد الخمر
اسم "الخمر"[يقع] حقيقة عندنا على عصير العنب النيء إذا صار مسكرا؛ لحدوث الشدة المطربة فيه، ولا يشترط فيه أن يقذف بزبده، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله فإنه شرط في صدق التسمية أن يقذف بالزبد؛ كما قال الماوردي، وحينئذ: فإذا قذف بالزبد صار هذا الاسم حقيقة عليه بالاتفاق، وعلى ذلك جرى أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ.
وادعى القاضي الحسين أن عصر الرطب النيء إذا اشتد وعلا وقذف بالزبد، فهو خمر حقيقة بالاتفاق؛ كعصير العنب النيء إذا صار كذلك، وعليه جرى البغوي وغيره، وعن الروياني أنه [أورده واستغربه].
ولم سمي [ذلك] خمرا؟ فيه تأويلان:
أحدهما: لكونه يخمر في الإناء حتى يصير خمرا، أي: يغطى، ولو لم يغطى لم يصر خمرا، والتخمير التغطية، ومنه سمي خمار المرأة؛ لأنه يغطيها ويسترها.
والثاني: لكونه يخامر العقل بالسكر، أي: يغطيه ويخفيه.
وهل يقع هذا الاسم حقيقة على ما عدا ذلك من الأنبذة؟ فيه وجهان:
اختيار المزني وأبي علي بن أبي هريرة كما قال الماوردي، وأكثر الأصحاب كما قاله أبو الطيب وابن الصباغ: نعم؛ لأن الاشتراك [في الصفة] يقتضي الاشتراك في الاسم، ولأن ابن عمر رضي الله عنه قال:[خطب عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، ألا وإن الخمر] نزل تحريمها يوم نزل وهي من خمسة أشياء: من الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والعسل، والخمر: ما خامر العقل". كذا أخرجه مسلم.
وجه الدلالة [منه]: أنه قال: والخمر: ما خامر العقل. وهذا المعنى موجود في الأنبذة.
والذي حكاه الرافعي عن الأكثرين: أنه لا يكون حقيقة، وقد كان المسلمون يشربون الخمر [في صدر] الإسلام، لكن استصحابا لحكمها في الجاهلية، أولشرع ورد في إباحتها؟ فيه وجهان لأصحابنا:
أشبههما عند الماوردي: الأول.
ووجه الثاني بقوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} [النحل: 67]، أي: ما أسكر من الخمر والنبيذ؛ كما قال بن عباس ومجاهد وقتادة، وهذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر، [ثم] ورد في تحريمها أربع آيات:
فالأولى - وهي التي ادعى الحسن البصري أن التحريم وقع بها، وما بعدها مؤكد لها-: قوله تعالى في سورة البقرة: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير} [البقرة: 219]، أو {كثير} -: على اختلاف القراءتين، [{وإثمهما أكبر من نفعهما}]، وما كبر إثمه أو كثر لا يكون مباحا، ولأنه غلب الإثم على المنفعة، فقال: وإثمهما أكبر من نفعهما، والحكم للمغلب.
والثانية: في سورة النساء، وهي قوله تعالى:{لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء: 43].
والثالثة- وهي التي ادعى قتادة وأكثر العلماء أن التحريم وقع بها، [وهي] في سورة المائدة؛ [قوله تعالى]: {إنما الخمر والميسر
…
} إلى قوله: {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91]، واستدلوا لذلك بما روى محمد بن إسحاق عن أبي ميسرة عن عمر – رضي الله عنه أنه قال: "اللهم، بين لنا في الخمر بيانا شافيا؛ فنزلت الأولى وقرئت عليه، فقال: اللهم، بين لنا في الخمر بيانا شافيا؛ فنزلت الثانية [وقرئت عليه، فقال: اللهم، بين لنا في الخمر بيانا شافيا؛ فنزلت الثالثة]،
فحين سمعها قال: انتهينا انتهينا. وقد خرج هذا عن عمر أبو داود، والنسائي، والترمذي، وقال: إنه مرسلا أصح.
والرابعة في سورة الأعراف، وهي قوله تعالى:{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم} [الأعراف: 33]، وهو هاهنا: الخمر، في قول الأكثرين؛ لقول الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي
…
كذاك الإثم يذهب بالعقول
قال الماوردي: قال بعض المتأخرين: وبهذه الآية استقر تحريمها؛ لما فيها من صريح التحريم، وهو في غيرها من طريق الاحتمال.
وقد ورد في السنة ما يؤكد التحريم:
روى أبو داود وابن ماجة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه".
[قال [القاضي] أبو الطيب]: [وقد] ورد في "الصحيح" عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شرب الخمر في الدنيا ثم ام يتب منها، حرمها في الآخرة"، وذلك مقارب للفظ مسلم، كما سنذكره.
وروى مسلم بإسناده عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن".
قال القاضي: وفيما رويت عن ابن سريج: ينزع منه عند شربها الإيمان.
وذكر الماوردي في تأويله أربعة أوجه [غير هذا.
وقد استقر إجماع] الأمة على تحريم عصير العنب النيء إذا اشتد [وإن لم] يقذف بالزبد، وكذلك عصير الرطب، كما حكاه القاضي الحسين، وتبعه الإمام والبغوي.
وما روي عن قدامة بن مظعون، وعمرو بن معد يكرب من إباحتها؛ لقوله تعالى:{ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} [المائدة: 93]، قال عمر: وقوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91]؟! فسكت وسكتنا – قد ثبت رجوعهما عنه؛ لما أخبرهما الصحابة بتحريمها.
قال أصحابنا: ويكفر من شرب عصير العنب النيء إذا اشتد وقذف بالزبد مستحلا له؛ لثبوت تحريمها [بالإجماع؛] فصار كمن صدق المجمعين على التحريم ثم جحده؛ فإنه يكون ردا للشرع.
قال الرافعي: وهذا التعليل إن صح، فليجر مثله في سائر ما حصل الإجماع على افتراضه أو تحريمه [فنفاه].
وقال الإمام: إطلاق القول بتكفير مستحل الخمر لم يصدره الفقهاء عن ثبت وتحقيق، ونحن لا نكفر من خالف الإجماع، ولا نكفر من رد أهل الإجماع، وإنما نبدعه ونضلله، والسر اللطيف فيه: أنا نكفر من لا يصدق المجمعين في نسبتهم ما ذكروه إلى الشرع، ثم يرده.
وعلى هذا ينطبق قول ابن الصباغ: أنا نكفره؛ لأنه كذب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد علم ضرورة من جهة النقل تحريم النبي صلى الله عليه وسلم [إياها].
وقد ادعى القاضي الحسين كفر من شرب عصير الرطب النيء إذا اشتد وقذف بالزبد مستحلا له، وتبعه البغوي وصاحب "الكافي".
ولا خلاف في عدم تكفير من شرب سائر الأنبذة مستحلا لها.
قال: كل شراب أسكر كثيره حرم قليله وكثيره:
أما تحريم الخمر فقد تقدم دليله.
وأما ما عداه، فإن قلنا: إنه خمر حقيقة، فكذلك، وإن قلنا: إنه ليس بخمر، فوجه التحريم: ما رواه مسلم عن عمر كما ذكرناه من قبل، وما رواه النعمان ابن بشير: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخمر من خمسة
…
"، وذكر ما ذكرناه عن عمر ورواية أبي داود تقرب من هذا.
وروى الشافعي بسنده عن ابن عمر – رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"كل مسكر حرام".
وروى أبو داود عن عائشة – رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مسكر حرام، وما أسكر منه [الفرق] فملء الكف منه حرام".
وروي [عن] عمر بن الخطاب، وولده: عبد الله، [وجابر بن عبد الله] – رضي الله عنهم بأسانيد صحيحة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما أسكر كثيره فقليله حرام"، وقد خرجه أبو داود، والنسائي، وكذا الترمذي، وقال: إنه حسن غريب.
وخرج الإمام أحمد – رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ["كل مسكر خمر، وكل خمر حرام"، وكذلك خرجه من طريق [آخر رجاء بن] المرجي المروزي الحافظ.
ورواية مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال]: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن مات وهو يشرب الخمر يدمنها لم يتب [منها]، لم يشربها في الآخرة".
وقد روى الشافعي بسنده عن عائشة – رضي الله عنها أنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال: "كل شراب أسكر فهو حرام"، وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.
وفي رواية: "والبتع نبيذ العسل"، [وأهل اليمن] يشربونه، وهو بكسر الباء الموحدة، وتسكين التاء ثالثة الحروف، وفتحها – أيضا - وسمي هذا: بتعا، كما سمي نبيذ الشعير: الجعة، ونبيذ الحنطة والذرة: المزر، ونبيذ التمر: الفضيخ، ونبيذ التمر الذي [لم] تمسه النار: السكر.
ولأن الله -تعالى- علل تحريم الخمر بما يحدث عنه [من] العداوة والبغضاء والصد عن [ذكر الله] وعن الصلاة، وهذا المعنى موجود في النبيذ [كوجوده في الخمر]؛ فوجب أن يساويه في التحريم؛ لاستوائهما في التعليل.
[قال:] ومن شرب المسكر، وهو مسلم بالغ عاقل مختار، أي: عالم بأنه مسكر [وبتحريمه] وجب عليه الحد، [أي:] سواء سكر أو لم يسكر؛ لما روي الترمذي [بسنده] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إن شربوا [فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا] فاقتلوهم".
وروى الشافعي بسنده عن قبيصة بن ذؤيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من شرب
الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلده، فإن عاد في الثالثة والرابعة فاقتلوه"، فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ورفع القتل، وكانت رخصة.
قال الشافعي – رضي الله عنه: والحديث منسوخ؛ بهذا الحديث وغيره. وإنما قال: وغيره؛ لأن هذا الحديث مرسل، واختلف فيما أراد بغيره على وجهين:
أحدهما: حديث عثمان بن عفان – رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث
…
". وقد أشار إليه في كتاب "الأم".
والثاني: ما رواه محمد بن المنكدر ومحمد ابن اسحاق عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه"، فأتي برجل قد شرب الخمر فجلده، ثم أتي [به في] الثانية فجلده، ثم أتي [به في] الثالثة فجلده، ثم أتي به في الرابعة فجلده، ووضع القتل. لأن هذا [الحديث] مسند، والإجماع –كما قال القاضي الحسين والإمام- على أنه منسوخ.
فقد دل [ما ذكرناه] على إيجاب الحد في الخمر، فإن قلنا: إنه حقيقة في كل مسكر، فذاك، وإلا فنقول: قد شرب شرابا محرما تدعو النفوس إلى شربه؛ كما دللنا عليه، فوجب عليه الحد قياسا على الخمر، وهما في الحد سواء، وإن كان الخمر أغلظ حكما؛ كما أن الحد في الخمر يستوي فيه من سكر منه و [من] لم يسكر، وإن كان السكر أغلظ إثما.
تبيه: أدخل الشيخ بما ذكره فيمن يجب عليه الحد: من اعتقد من المسلمين
إباحة النبيذ، وأخرج أهل الشرك، وقد تقدم ذكر خلاف في إقامة الحد على
المسلم المعتقد الحل بشبهة – وهو الحنفي إذا لم يسكر به - وعلى الذمي في باب عقد الذمة، لكن الصحيح والمنصوص عليه: وجوبه على الحنفي، وعدم وجوبه على الذمي؛ كما ذكره الشيخ، وعلى مقابله: لو كان شاربه يعتقد تحريمه كالشافعي، ففي إيجاب الحد وجهان في طرق المراوزة، وقال الرافعي: إن الأظهر: المنع أيضا.
واحترز [الشيخ] بلفظ "الاختيار" عن المضطر إلى شربها، وذلك يفرض في صورتين:
إحداهما: المكره على تعاطي الشرب بنفسه؛ فإنه لا حد عليه على المشهور؛ كمن أوجر في فيه، وعن كتاب بن كج حكاية وجهين فيه.
قلت: ويمكن بناؤهما على أن الإكراه هل يبيح شربه؟ وفيه وجهان حكاهما القاضي الحسين في كتاب الجنايات، وقال: إن الصحيح إباحته، وهو الذي جزم به غيره.
وادعى الغزالي نفي خلافه هاهنا، وحكى في كتاب الجنايات وجهين في الوجوب، ومحل عدم الوجوب: إذا لم يخف على روحه وما حل محل الروح.
الثانية: من اضطر إلى الشرب، والكلام في أنه يباح أو يحرم مستوفى في باب الأطعمة، فإن قلنا بإباحته [فلا حد إذن في الإباحة]، وإن منعناه، فقد قال الغزالي في "الوجيز": إنه لا حد عليه. وهو ما أورده في " الحاوي"؛ حيث قال: فإن اضطر [إلى شرب] مسكر؛ لشدة عطش، أو تداوي مرض لا يوجد في الطب من شربه بدل؛ فلا حد عليه، وإن كان شربه في هاتين الحالتين مختلفا فيه.
وفي "النهاية" أن الأئمة المعتبرين أطلقوا أقوالهم في الطرق بأن التداوي بالخمر حرام، وأن المتداوي بها محدود وهذا ما حكاه في "الإبانة" ثم حكى عن القاضي أنه قال: إن شرب على قصد التداوي لم يحد. [وهذا يشير إلى تسويغ التداوي.
وفي "الوسيط" أن القاضي قال: لا يحد الشارب إن قصد التداوي. فكأنه
يجعل ذلك شبهة للإسقاط.
وحكى الماوردي في "الأحكام": أنه إذا شرب ذلك للتداوي لا يحد،] بخلاف ما إذا شربه؛ للعطش.
و [لو] لم يعلم الشارب بأن ما شربه مسكر فلا حد عليه، وكذا لو علم [بانه مسكر] ولم يعلم [تحريم الشرب]؛ لقرب عهده بالإسلام [ونحوه]، ولو علم التحريم وجهل وجوب الحد، حد.
قال: فإن كان حرا جلد أربعين؛ لما روى مسلم عن حصين بن المنذر أبي ساسان، قال: شهدت عثمان بن عفان أتى بالوليد، فشهد عليه حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: لم يتقيأ حتى شربها، فقال:[يا علي، قم فاجلده، فقال] علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها! فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الرحمن بن جعفر، قم فاجلده، [فجلده] وعلي يعد حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبي أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل شرب الخمر، فجلده بجريدتين أربعين.
وعنه – أيضا - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين. كذا رواهما مسلم أيضا.
وقد اختار بن المنذر – وهو من أصحابنا - مذهب أبي حنيفة ومالك في قدر الحد، وهو ثمانون.
قال: وإن كان عبدا جلد عشرين؛ لأنه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من الحر كحد الزنى.
وفي "تعليق" القاضي الحسين بعد حكاية ما ذكرناه: ومنهم من قال: هو أربعون كالحر. [وهو] غلط.
قال: وإن رأى الإمام أن يبلغ بالحد في الحر ثمانين وفي العبد أربعين جاز؛ لما روى مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالنعال والجريد، ثم جلد أبو بكر أربعين، فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى، قال: ما ترون في جلد الخمر؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تجعلها كأخف الحدود، قال: فجلد عمر ثمانين.
وروي أن عمر لما استشار الصحابة في الخمر قال علي بن أبي طالب: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري: ثمانون، فأخذ به عمر، ولم ينكر أحد. وهذا يعزى إلى رواية الموطأ.
قد روى علي بن محمد بن الحسين عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد شارب الخمر ثمانين. وهذا نص، لكنه مرسل، والعمل على اتفاق الصحابة.
والريف المذكور في الخبر، قيل: هو كل أرض فيها زرع ونخل، وقيل: هو [كل]
ما قارب الماء من أرض العرب ومن غيرها، وقيل: الريف: أرض فيها زرع وخصب، وقيل: هو الخصب والسعة في المأكل والمشرب. وهو: بكسر الراء المهملة، وبعدها [ياء] –آخر الحروف- ساكنة، وفاء.
وقد روى المراوزة وجها: أنه تمتنع عليه الزيادة على الأربعين؛ لما روي أن علي بن طالب – رضي الله عنه رجع عن ذلك، وكان يضرب في خلافته أربعين.
وفي "النهاية": أن القاضي قال: إنه الصحيح من المذهب، لكن الذي ذكره شيخي ومعظم الأئمة: الأول. وعلى هذا فالزيادة [إلى ما] فوق الأربعين وما دون الثمانين بالجواز أولى، لكن الزائد على الأربعين هل هو حد أو تعزير؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين وغيره:
أحدهما –عن أبي اسحاق المروزي-: أنه حد، لكنه أضعف من الأربعين الأولى؛ لأنها ثابتة بالسنة، وهذه [ثابته] باجتهاد الصحابة ورأيهم، وهذا ما يقتضيه كلام الشيخ، حيث قال: يبلغ بالحد.
وأظهرهما – وهو الذي أورده الأكثرون، ومنهم البندنيجي وابن الصباغ والقاضي أبو الطيب والبغوي -: أنه تعزير؛ لأنه لو كان حدا لما جاز تركه، ويجوز أن يترك ويقتصر على الأربعين.
فإن قيل: لو كان تعزيرا لما جاز أن يبلغ [به] قدر الحد، وقد جاز.
قيل في جوابه: الأربعون الزائدة على الحد ليست في مقابلة التعزير لأجل الشرب؛ لأن فيه حدا؛ فلا يجب فيه تعزير، وإنما هي في مقابلة الجنايات المتولدة منه؛ من هذيان وافتراء ونحوه، ويجوز أن يبلغ بتعزير جنايات مبلغ حد.
قال الرافعي: وهذا ليس بشاف؛ فإن الجناية التي يعزر عليه لابد من
تحققها وإن كان [و] لابد من التعزيز بالجناية المتوقعة فهي غير منحصرة؛ فلتجز الزيادة على الثمانين، وقد منعوها؛ فالوجه هو الأول، ويكون حد الشرب مخصوصا من بين سائر الحدود بأن يتحتم بعضه، ويتعلق بعضه باجتهاد الإمام.
واعلم أن ما ذكرناه في شرب المسكر مطرود فيما إذا أكل المسكر من الشراب بخبز، أو ثرد فيه وأكل الثريد، وكذا لو طبخ به اللحم وأكل المرق؛ كما قال ابن الصباغ، وإن [أكل] اللحم فلا حد؛ لأن عين المسكر لم تبق فيه، بخلاف المرق؛ فإن عين السكر فيه، وكذا لو عجن به الدقيق وخبزه وأكل الخبز؛ فلا حد، وروى بن كج فيه وجها آخر.
قال الرافعي: وفي معنى هذه الصورة: المعجون الذي فيه الخمر، والظاهر: أنه لا حد فيه؛ لاستهلاكه.
وقد حكى الوجهين في هذه الصورة صاحب "البحر" قبل كتاب الشهادات بأوراق يسيرة، وقال: الصحيح: المنع؛ لأنه لا يلتذ به.
وعلى هذا قال الإمام: من شرب كوز ماء وقعت فيه قطرات من الخمر، والماء غالب بصفاته –لم يحد؛ لاستهلاك الخمر فيه. ثم أحال الكلام فيه على باب الرضاع.
ولو استعط بالخمر أو احتقن لم يحد، قاله ابن الصباغ؛ لأنه ليس بأكل ولا شرب.
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه متى شرب المسكر جلد، وقد قال الأصحاب [من العراقيين] وغيرهم: لا يقام عليه الحد في حال سكره. وسكتوا عما إذا فعل في حال السكر، هل يعتد به أم لا؟ وحكى القاضي الحسين فيه وجهين:
أحدهما: لا يعتد به.
والثاني: يعتد به.
وأجراهما فيما إذا أفاق ثم جن، فحد في حال جنونه، ووجه المنع بأن المقصود منه الردع والزجر، وهو لا يرتدع بذلك، ووجه مقابله: أنه إن لم يرتدع ارتدع غيره.
قال: فإن ضرب الحر أحدا وأربعين، أي [ضرب] بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، ففيه قولان:
أحدهما: يضمن نصف ديته؛ لأنه لو ضرب بما ذكرناه أربعين، فمات- لم يضمنه، كما صرح به الفوراني؛ لأنه الحد الذي أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشارب؛ فكان كما لو ضرب في الزنى مائة فمات؛ فإنه لا ضمان، وإذا كان كذلك فقد مات من مضمون وغير مضمون؛ [لأن الزائد تعزير، والتعزير] مضمون كما تقدم، فوزع الغرم عليهما نصفين؛ كما لو جرح نفسه عشر جراحات، وجرحه آخر جراحة.
والثاني: [يضمن] جزءا من أحد وأربعين جزءا من ديته؛ لأن الضرب يقع [على] ظاهر البدن، فهو قريب للتماثل؛ فقسط الضمان على عدده، بخلاف الجراحات؛ فإنه رب جراحة لها غور [لا يحصل] من جراحات، وهذا أصح عند النواوي وفي "المرشد".
وعلى هذا: لو كان الزائد على الأربعين عشرة ضمن خمس الدية، ولو كان أربعين لم يضمن إلا نصف الدية، ولو كان خمسين ضمن على هذا خمس أتساع الدية، وعلى هذا فقس.
أما إذا ضربه بالسياط، فإن قلنا بقول بن سريج وأبي اسحاق الآتي – كما ستعرفه - فالحكم كما تقدم، وإن قلنا بالمنصوص:
فإن قلنا: إنه يضمن جميع الدية عند اقتصاره على الأربعين، فعند الزيادة عليها أولى.
قال الرافعي في كتاب موجبات الضمان، وفي كتاب ابن كج: إن أبا حفص بن الوكيل وعبد الله بن محمد القزويني أثبتا [للشافعي – رحمه الله قولا في وجوب] جميع الضمان في هذه الصورة.
وإن قلنا: يضمن ثم نصف الدية، فكذلك ها هنا، كذا قاله القاضي الحسين.
وإن قلنا ثم: يضمن بقدر ما زاد على [ألم] النعال، وأجرينا هذا اللفظ على ظاهره كما ستعرفه ثم – فيظهر أن يقال: يضمن ها هنا جزءا من أحد وأربعين جزءا من ديته، وما زاد على ألم النعال، ووراء ما ذكرناه في صورة الكتاب كلامان:
أحدهما: قد يظن أنا إذا قلنا: إن الزائد على الأربعين إلى الثمانين من الحد، لا يضمن شيئا أصلا؛ كما قلنا في الأربعين، وليس كذلك؛ لأن قائله قال – كما حكاه القاضي الحسين -: إنه أضعف من الأربعين؛ لأنه ثبت بالاجتهاد؛ ولهذا المعنى: لو مات من الأربعين الأولى لم يضمن، ولو مات من الأربعين الثانية يجب الضمان.
الثاني: قال الإمام: إذا قلنا بقول ابن سريج وأبي اسحاق: إنه لا يجوز الضرب بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، فلا شك على هذا أنه يثبت الضمان وإن حصل التلف من الأربعين.
قلت: وإذا كان كذلك ففي حالة الزيادة أولى.
فرع: إذا أمر الإمام الجلاد أن يضربه ثمانين، فضربه أحدا وثمانين؛ فمات- ففي المسألة أوجه:
أحدها: يسقط نصف الدية، ويجب نصفها على الإمام والجلاد نصفين؛ نظرا إلى أنه مات من مضمون وغير مضمون، هكذا حكاه العراقيون.
والمذكور في "تعليق" القاضي الحسين على هذا: أن النصف يقسم على أحد وأربعين جزءا؛ فيكون على الإمام أربعون، وعلى الجلاد جزء، وقد حكاه الإمام أيضا، وقال: إنه جمع بين التنصيف واعتبار عدد الجلدات، وفيه احتياط. فقد حصل وجهان.
والثالث: يسقط أربعون جزءا من أحد وثمانين جزءا، ويجب أحد وأربعين جزءا من أحد وثمانين جزءا من الدية: على الجلاد [جزء] وعلى الإمام أربعون.
والرابع: يسقط الثلت؛ فيجب على كل واحد من الإمام والجلاد الثلث.
وما ذكرنا أنه يجب على الجلاد فهو على عاقلته، وما ذكرنا أنه يجب على
الإمام فهو على عاقلته أو في بيت المال؟ فيه الخلاف السابق، فإذا قلنا: في بيت المال، ففي الكفارة وجهان:
أحدهما: فيه أيضا.
والثاني: في ماله.
قال: ويضرب في حد الشرب بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، أي: دون السياط كما صرح به أبو الطيب وغيره، ووجهه ما روى الشافعي بسنده عن عبد الرحمن ابن أزهر، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بشارب [خمر]، فقال:"اضربوه"؛ فضرب بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، وحثوا عليه التراب، ثم قال:"بكتوه"، أي وبخوه، فبكتوه، فقالو: أما خشيت الله، أما اتقيت الله، أما استحيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ثم أرسله. فلما كان أبو بكر سأل: من حضر ذلك الضرب، فقومه أربعين، أي: عدله، كما قاله القاضي الحسين، فضرب أبو بكر في الخمر أربعين مدة حياته، ثم عمر
…
وساق الحديث.
قال الإمام: والسبب الذي سوغ لأبي بكر ذلك أنه لم ير بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ضبطا يشير إليه التحديد، وعلم أن ما كان كذلك؛ فللاجتهاد فيه مساغ.
قال القاضي الحسين في باب صفة السوط: وعلى هذا لو ضرب بالسياط وقع الموقع.
وقيل: يجوز بالسوط، [أي: ولا يجوز بغيره للمسلم الصحيح]؛ لإجماع الصحابة على جواز الضرب به، كذا قال القاضي الحسين في باب صفة السوط نقلا وتوجيها، ووجهه الإمام بأنا كفينا مؤنة التعديل، وقد بعد العهد وتناسخت العصور، ونحن لو ضربنا بالنعال [دائرون] بين أن نحط على القدر المستحق وبين أن نزيد؛ ولأنه – عليه السلام أمر بالجلد، والمتبادر إلى الذهن فيه الضرب بالسوط؛ كما في حد الزنى والقذف، وهذا قول ابن سريج وأبي
إسحاق؛ كما قاله في "المهذب"، وحكاه الإمام عن رواية العرافيين وأنهم زيفوه.
قلت: وهو الذي يدل عليه ظاهر النص في "المختصر" في باب الأقضية؛ حيث قال: وإذا علم من رجل بإقرار أو تيقن أنه شهد عنده بزور، عزره، ولم يبلغ بالتعزير أربعين سوطا: فلو لم يكن الضرب [بالسياط لما قال ذلك، وعلى هذا فصفة السوط وكيفية الضرب] كما في حد الزنى، وقد تقدم.
قال: والنصوص هو الأول، وهكذا قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ، وكأنهم –والله أعلم- أخذوه من قوله في "المختصر": وإن ضرب الإمام في خمر أو ما يسكر من الشراب بنعل أو طرف ثوب أو [رداء أو] ما أشبهه ضربا يحيط العلم أنه لم يجاوز أربعين، فمات من ذلك – فالحق قتله.
قال الماوردي: ومثار الخلاف أن حد النبي صلى الله عليه وسلم بالثياب والنعال كان لعذر أو شرع؟ وفيه وجهان:
أحدهما – وهو قول ابن سريج وأبي اسحاق -: أنه كان [لعذر] في الشارب؛ لمرض، أو لأنه كان نضوا، كما حد مقعدا بإثكال النخل، فعلى هذا يكون حد الصحابة نصا في غير المعذور، ويكون محققا من وجه واحد وهو مقدار العدد.
والثاني –وهو قول الجمهور-: أن حده كان شرعا حقق فيه حد الخمر كما حقق به في القدر؛ فعلى هذا يكون عدول الصحابة إلى السياط بالاجتهاد؛ كما في زيادة العدد، ويكون حد الخمر محققا من وجهين في الصفة والمقدار.
قال الرافعي: ومنهم من رأى الضرب بالأيدي والنعال جائزا لا محالة. وذكر وجهين في أنه [هل] يتعين ذلك أم يجوز العدول إلى السياط؟ وهذا حكاه صاحب "البيان". انتهى.
وادعى الإمام أن المذهب جواز الأمرين، وهو الذي صححه الرافعي في كتاب موجبات الضمان، والذي أورده القاضي الحسين في باب حد الخمر، وإن حكى الخلاف في غيره؛ كما ذكرناه من قبل.
قال: فإن ضربه بالسوط، أي: أربعين، فملت، فقد قيل: يضمن بقدر ما
زاد على ألم النعال؛ إذ هو القدر الزائد على قدر الحد.
قال الرافعي: وهذا شيء لا يتأتى ضبطه، وقد حكاه الإمام عن العراقيين، وقال إنا على هذا نقدر بينهما بشيء بالتقريب والاجتهاد، ويلزم ذلك القدر، ثم قال: وهو في نهاية البعد.
وقيل: يضمن جميع الدية؛ لما روى مسلم عن علي بن أبي طالب، قال:"ما كنت لأقيم على أحد حدا فيموت فيه، [فأجد منه] في نفسي إلا صاحب الخمر؛ فإنه إن مات وديته؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه – وعنى [أنه] لم يسن الضرب [بالسياط]-وإنما هو رأي رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم" كما جاء في رواية غيره: "وإنما هو رأي رأيناه من بعده".
ولأنه عدل عن جنس إلى غيره؛ فأشبه ما لو ضربه بجارح فملت.
وقد حكى الماوردي والقاضي أبو الطيب والبندنيجي [وجها بدل] الأول: أنه يضمن نصف الدية؛ لأنه مات من مضمون وغير مضمون، وحكاه الرافعي في كتاب موجبات الضمان عن حكاية ابن المرزبان وغيره، وهذا ما [أشار إليه] النواوي، وقال الإمام: إنه الذي ذهب إليه أهل التحقيق. وفي "الحاوي" في آخر الفصل: أنه الظاهر من مذهبه الذي أشار إليه في "الأم"، ولم يحك الماوردي
الوجه الأول الذي حكاه الشيخ، وكذا غيره من العراقيين الذين ذكرناهم، فلعل مراد الشيخ ومن أطلق هذا اللفظ به – وجوب نصف الضمان؛ لأن ما زاد [على ألم النعال لا ينضبط، وهو عدوان قد اقترن بما ليس بعدوان؛ فيوزع الضمان] عليهما؛ كما قلنا فيما إذا وقع الضرب أو الختان في حر شديد ونحوه: إنه يجب نصف الضمان؛ لما ذكرناه.
[وقد] حكى القاضي أبو الطيب في المسألة وجها آخر: أنه لا ضمان؛ لأنه سقط به الحد، فلا يتعلق به ضمان، وهذا ما اختاره في "المرشد".
قلت: ويشتبه أن يكون مخرجا من نص الشافعي – رضي الله عنه[على] أنه إذا ضرب الضعيف بالسوط، وكان يجب أن يضربه بإثكال النخل – أنه لا ضمان عليه؛ كما حكاه أبو الطيب قبيل باب صفة السوط، لكن الذي حكاه البندنيجي عن النص:[الضمان] في مسألة الكتاب، ويمكن أن يفرق بأن الضرب ثم كان الأصل فيه السياط، فإذا فعل كان أقرب إلى نفي الضمان، بخلاف ما نحن فيه؛ فإن الأصل فيه الضرب بالنعال ونحوها، والله أعلم.
قال ابن الصباغ: وأصل الخلاف في الضمان وعدمه: أنه إذا ضرب في شدة الحر [أو البرد]، هل يضمن أم لا؟ وهذه الوجوه [كلها] مفرعة على المنصوص.
أما إذا قلنا بمقابله، فلا يضمن شيئا كما حكاه الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ، وكذا إذا قلنا بجواز الضرب [به و] بالسياط والنعال، على ظاهر المذهب في "الكافي"، والأصح في "التهذيب".
قال القاضي الحسين: وقائله قال: حديث علي –كرم الله وجهه- أراد به الزيادة على الأربعين؛ فإنه شيء رواه بعده صلى الله عليه وسلم وها هنا لم يزد على الأربعين؛ فلم يلزمه شيء، والحق قتله.
قال الماوردي: وقد روي أن عمر لما أمر بجلد ابنه في الشراب، قال له ابنه:
يا أبت، قتلتني! فقال: الحق قتلك، وهذا المحدود هو عبيد الله، حده لما [أن] شم منه رائحة الخمر، ثم اعترف بأنه شرب الطلا.
تنبيه: ظاهر قول الشيخ: فقد قيل: يضمن بقدر ما زاد على ألم النعال – يقتضي أن المنصوص: أنه يضرب بالنعال ونحوها أربعين ضربة من غير زيادة عليها، وإليه يرشد – أيضا - ما قاله الماوردي بعد حكاية الوجه الذي نقله عن الجمهور في الفصل قبل هذا، كما حكيته عنه.
وكلام الإمام الذي حكيناه عنه في توجيه تعين الضرب بالسوط يقتضي: أنا إذا ضربناه بالنعال ونحوها، نبلغ به ما يعادل ألمها ألم أربعين ضربة بالسوط، ويعضده أنه قال: إذا ضربه بالنعال وأطراف الثياب، فأفضى إلى الهلاك- فلا ضمان.
هكذا قال الأصحاب، وهو مشروط بوقوع الضربات على حد يعدل بأربعين جلدة من غير مزيد، وعلى ذلك جرى البغوي؛ حيث قال: ولو ضرب الشارب بالنعال وأطراف الثياب والأيدي قدر أربعين جلدة يجوز. وكذلك الرافعي في كتاب موجبات الضمان؛ حيث قال: لو ضربه أربعين جلدة فمات، فأصح القولين:[أنه] لا ضمان؛ لأن الصحابة أجمعت على أن الشارب مضروب أربعين جلدة، وعدلت ما كان بهذا القدر، وكأن [هذا] – والله أعلم - أخذ من قول الشافعي – رضي الله عنه في الخبر، فقومه بأربعين.
فائدة: حد الشرب إنما يجب إذا أقر الشارب أنه شرب مسكرا، وقامت عليه بينة بذلك، ولا يفتقر في الشهادة أن يقول [الشاهد]: شرب وهو غير مكره، أو مع علمه بأن ما شربه مسكر؛ بل يكفي أن يشهد أنه رآه يشرب شرابا [شرب منه غيره] وسكر منه؛ لأن الظاهر علمه بالحال. نعم، إن [ادعى
أنه] لم يعرف أنه مسكر لم يحد.
وهذا بخلاف الشهادة على الزنى؛ حيث لا تسمع حتى يفسر الشاهد الزنى؛ لأن الزنى يعبر به عن الصريح وعن دواعيه؛ قال صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان"، بخلاف الشرب، واعتبر الماوردي في "الأحكام" أن يتعرض الشاهد للاختيار في الشرب.
أما إذا وجد شخصا سكران، أو شم منه رائحة الخمر، أو تقيأ مسكرا – لم يجب عليه الحد؛ لاحتمال حصول ذلك من غير الخمر، وإن كان منه فيحتمل أنه لم يعرف [أن ذلك] خمر، أو عرف وهو مكره.
وفي "الحاوي": أن ابن أبي هريرة قال: يحد بالسكر، إلا أن يدعي ما يسقط الحد، واستدل له [بأن عثمان قال:] "ما تقيأ إلا وقد شربها"؛ فأمر عليا بإقامة الحد عليه. ونسب الماوردي في الأحكام هذا إلى أبي عبد الله الزبيري.
ولا يقيم [حد الشرب] على الأحرار غير الإمام [أو نائبه] على المشهور، وفيه ما ذكرناه في باب حد الزنى.
ويقيمه على العبد مولاه، وهو المذهب، وفي "تعليق" القاضي الحسين عن بعضهم حكاية وجهين فيه، وحكى الرافعي وجه المنع عن رواية أبي خلف الطبري عن رواية القفال، والفرق بينه وبين حد الزنى: أن للسيد في بضع الأمة حقا، وكذلك في بضع العبد؛ ألا ترى أنه لا ينكح إلا بإذن سيده، فمكن من جلد المملوك؛ لجنايته على محل [حقه! والشرب] بخلافه.
قال: ومن زنى دفعات، [أو سرق دفعات]، أو شرب المسكر دفعات ولم يحد – أجزأه عن كل جنس حد واحد؛ لأن سببها واحد فتداخلت؛ لحصول الحكمة.
قال القاضي الحسين: ولا نقول في الزنى مثلا الحد يقابل الزنية الأولى، بل
يقابل الزنيات كلها؛ لأنه يؤدي إلى إخلاء بعض الزنيات عن الموجب؛ كما لو وطيء في النكاح الفاسد مرارا؛ فإنه يجب [بحد] مهر واحد، ثم هو يقابل الوطئات.
قال الإمام: وكان شيخي يقول: جملة الحد يقابل بكل زنية، وإذا انتفى عن فكر الفقيه التقسيط فلا مشاحة بعد ذلك في العبارات.
وقد تردد العلماء على وجه آخر، فقال قائلون: تجب حدود على أعداد الزنيات، ثم تتداخل، وقال قائلون: الزنيات إذا لم يتخللها حد كالحركات في زنية واحدة، وهذا أقرب؛ فإن الوجوب، والسقوط يجر خبلا واضطرابا في الكلام.
وفي "فروع" ابن الحداد: أن المرأة إذا ثبت عليها الزنى بلعان زوجين وهي بكر في الحالتين، وجب عليهما حدان.
قال القفال: وعامة أصحابنا أنكروا ذلك، وقالو: هما حدان وجبا لله من جنس واحد؛ فتداخلا.
أما إذا شرب فحد، ثم شرب [ثانيا] حد ثانيا، وهكذا في بقية الصور.
ولو زنى وهو بكر فحد، [ثم زنى فحد وهو بكر][،ثم زنى وهو بكر] –كفاه تغريب سنة عن الجميع.
قال: وإن زنى وهو بكر، فلم يحد حتى زنى وهو محصن –جلد ورجم؛ لأن تغاير الواجب يدل على تغاير الحكمة؛ فأشبه ما لو زنى وشرب، قال الماوردي: ولا يغرب؛ لأن رجمه يغني عنه.
وفي "الرافعي" حكاية وجه: أنه يغرب [بعد الجلد و] قبل الرجم.
وما ذكره الشيخ هو ما صار إليه ابن الحداد، كما حكاه الرافعي في اللعان،
وادعى الشيخ أبو علي أنه ظاهر المذهب، ورأيته في " [شرح] الفروع" للقفال،
وقال: إنهم لم يختلفوا فيه، وكذا لم يورد القاضي الحسين هنا سواه، وكذلك البندنيجي، وقال: إن بهذا تأول أصحابنا ما روي عن علي –كرم الله وجهه- أنه جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة.
قال [الشيخ]: ويحتمل أن يقتصر على رجمه؛ لأنهما من [جنسين اتفق موجبهما]؛ فدخل أخف الحكمين في أغلظهما؛ كما يدخل الوضوء في الجنابة.
وقد حكى الماوردي الوجهين عن الأصحاب في باب حد الزنى، وكذلك الإمام في باب قاطع الطريق، وهما جاريان – كما قال الرافعي - هنا في ما إذا زنى المحصن، ثم نقض العهد، واسترق، فزنى ثانيا – في دخول الجلد في الرجم، وقد ادعى الإمام أن الثاني هو المذهب، وعليه جرى الغزالي فجعله في "الوسيط" الأظهر، وهو الموافق لما حكاه الماوردي في كتاب اللعان؛ حيث قال حكاية عن أبي اسحاق: وإذا جمع بين حدين على القاذف لزوجته [يرميها بزنى في حال الزوجية]، وبعد البينونة بزنى آخر؛ لاختلاف حكمهما – وجب إذا زنى وهو بكر، فلم يحد حتى زنى بعد إحصانه: أن يحد حدين؛ لاختلاف حكمهما وإن تجانسا؛ لأن الحد الأول: جلد، والثاني: رجم؛ فيجلد ويرجم.
قال: وهذا غلط؛ لأن حد الزنى من حقوق الله – تعالى - فجاز أن يدخل أخفهما في أغلظهما عند التجانس، ولم يجز مثل ذلك في حقوق الآدميين.
وعلى الأول قال الشيخ أبو علي – كما حكاه الرافعي في اللعان -: لو زنى العبد، ثم عتق، فزنى قبل الإحصان – فعليه خمسون؛ لزناه في الرق، ومائة؛ لزناه في الحرية؛ لاختلاف الحدين.
والأصح: أنه يجلد مائة، [ويدخل الأقل في الأكثر، ويغرب.
قال: وعلى هذا: لو زنى وهو حر بكر، فجلد خمسين، وترك لعذر [قام به]،
فزنى مرة أخرى – فيجلد مائة،] وتدخل الخمسون الباقية فيها، وهذا قد صرح به الرافعي في باب حد قاطع الطريق أيضا، وقال – حكاية عن "التهذيب" -: إن الزنى الثاني لو كان بعد الإحصان، إنه يجلد خمسين ثم يرجم. ثم قال: ويشبه أن يكون [على] الخلاف المذكور في الحر فيما إذا زنى [وهو] بكر، ثم زنى وهو [محصن] ثيب.
قال: وإن زنى – أي: وهو بكر- وسرق وشرب الخمر، وجب لكل واحد [منها] حد؛ لأن أسبابها مختلفة فلم تتداخل.
قال: فيبدأ بحد الشرب، ثم يجلد [في الزنى]، ثم يقطع في السرقة؛ تقديما للأخف فالأخف؛ إذ هو أقرب إلى استيفاء الكل، وسواء تقدم ما قدمناه أو تأخر.
وإتيان الشيخ بلفظة "ثم" المقتضية للترتيب والتراخي؛ ليعرفك أنه لا يحد للزنى عقيب جلده عن الشرب، ولا يقطع للسرقة عقيب جلده للزنى، [بل] لا يستوفي كل حد حتى يبرأ مما قبله، كما صرح به الأصحاب والشيخ من بعد. لكن حد السرقة [عقيب جلد الزنى] يقام قبل التغريب، أو يؤخر عنه؛ لأنه من تمام حد الزنى؟ لم أر للأصحاب تعرضا له، بل لفظ الشافعي – رضي الله عنه يدل على عدم وجوبه؛ لأنه قال – كما نقله الماوردي -: إذا اجتمعت على رجل حدود وقتل بدئ بحد القذف، ثم حبسه، فإذا برأ حد للزنى، فإذا برأ قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى من خلاف.
لكن لك أن تقول: في لفظ الشافعي – رضي الله عنه ذكر القتل، وقد
قلتم: إن التغريب يغني عنه الرجم، [فكذلك القتل يغني عنه]، ولفظ الإمام:
إنه يجلد للشرب، ثم يتركه حتى يندمل، ثم يجلد للزنى ويتركه حتى يندمل،
ثم يقطع. وهذا يدل على أنا لا نغربه قبل القطع؛ لإمكانه بعد القطع.
أما إذا كان قد زنى وهو محصن فواجبه القتل؛ فيؤخر حده عن القطع إن لم يندرج القطع في القتل –كما ستعرفه- ولو كان مع هذه الحدود تعزير، قال الماوردي: يقدم على جميعها؛ لأمرين:
أحدهما: أنه أخف.
والثاني: [أنه] من حقوق الآدميين في الأغلب.
قال: وإن كان معها حد قذف، فقد قيل: يبدأ به قبل [حد] الشرب؛ لأنه حق آدمي، وحقوق الآدميين مبنية على المضايقة؛ ألا ترى أن القاذف لا يفيده في إسقاطه الرجوع عن الإقرار به، بخلاف حقوق الله تعالى.
وهذا ما نص عليه الشافعي – رضي الله عنه في كتاب الجراح؛ حيث قال: يبدأ بحقوق الآدميين ثم بحقوق الله تعالى. واختاره أبو اسحاق المروزي وجماعة، وهو أصح عند القاضي أبي الطيب، وكذا الأئمة كما حكاه الرافعي.
وقيل: يبدأ بحد الشرب، ثم بحد القذف؛ لأنه أخف فكانت البداية به أولى؛ لأنه أقرب إلى استيفاء الحدود؛ ولهذا المعنى بدأنا به على حد الزنى، وهذا قول ابن أبي هريرة، واختاره في "المرشد"، وصححه في "المهذب".
والوجهان يجريان فيما لو اجتمع عليه حد زنى وهو بكر، وقطع الطرف قصاصا، كما قاله القاضي الحسين وغيره. ولو اجتمع قطع [في] السرقة وقطع قصاص في عضو آخر، فلا خلاف [في] أنه يقدم القطع في القصاص، وإن كانت الجناية متأخرة عن السرقة.
قال: ولو اجتمع قتل قصاص وقتل في المحاربة قدم السابق منهما؛ لأنهما استويا في تعلق حق الآدمي؛ فرجح بالسبق كما في غير المحاربة.
فعلى هذا: إن كان السابق قتل المحاربة، قتل فيها، وتعين حق الآخر في الدية، وإن كان السابق قتل القصاص، فإن استوفاه تعين حق الآخر في الدية على الأصح.
قال الرافعي: وهل يصلب؟ فيه الخلاف المذكور فيما إذا مات المحارب قبل أن يقتل. وهذا ما أبداه العمراني في "الزوائد" تخريجا من عند نفسه، وجزم في "الحاوي" بعدم الصلب، وكذلك الطبري.
وإن عفي عن القصاص، قتل للحرابة، وصلب، ولو كان بدل القتل في المحاربة قتل [للزنى]، فعن [كتاب] ابن كج [حكاية] وجهين:
أحدهما: أنه يقتل رجما بإذن الوالي؛ ليتأدى الحقان.
وأصحهما: أنه يسلم إلى الولي ليقتله قصاصا، وهو الذي ذكره القاضي الحسين في "تعليقه".
ولو اجتمع عليه حد ردة ورجم، قال القاضي [الحسين]: يبدأ بقتل الردة؛ لأن فسادها أشد. وقال الماوردي: يرجم للزنى، ويدخل فيه قتل الردة [؛ لأن الرجم أزيد نكالا؛ فيدخل فيه الأقل.
ولو اجتمع قتل الردة]، وقتل في قطع الطريق، ورجم –قال القاضي الحسين: فإن قلنا: قتل قاطع الطريق قصاص قدم، وإن قلنا: حد، فكذلك؛ لأنه يتعلق بحق الآدمي.
قال: وإن اجتمع [عليه] حدان، فأقيم [عليه] أحدهما –لم يقم الآخر، [أي:] إذا كان غير قتل، حتى يبرأ من الأول؛ لأن المقصود هو الزجر لا القتل، فلو والينا بينهما؛ لأفضى ذلك إلى القتل. أما لو كان الثاني قتلا فلا يؤخر، قال الرافعي وغيره.
قال: وإن اجتمع قطع السرقة وقطع المحاربة؛ قطعت يده اليمنى للسرقة
والمحاربة؛ لاجتماع سببها، وهل تقطع الرجل معها، أي: قبل اندمالها؟ قيل:
تقطع؛ لأن قطع اليد والرجل حد واحد؛ فجازت الموالاة بينهما. قال أبو
الطيب وابن الصباغ: وهذا بناء على أن قطع اليد في المحاربة؛ لأجلها، كما حكيناه عن ابن أبي هريرة وأبي علي الطبري.
وقيل: لا تقطع، أي: [حتى تندمل اليد؛ لاختلاف سببها؛ فإن اليد تقطع لأجل أخذ المال في غير الحرابة، والرجل تقطع لأجل المحاربة؛ فأشبه حد الزنى مع حد الشرب، وهذا بناء على أن قطع اليد عند أخذ المال في المحاربة يكون كقطع السرقة، كما حكيناه من قبل عن أبي اسحاق.
فروع:
إذا قطع يد إنسان في المحاربة، وأخذ المال – نظر: إن قطع يمينه، فإن قلنا: لا يتحتم، وعفا، أخذ الدية، وقطعنا يمين المحارب ورجله اليسرى حدا، وإن لم يعف، أو قلنا بالتحتم، قطعت يمينه بالقصاص، وتقطع رجله حدا؛ كما لو قطع الطريق ولا يمين له.
وحكى الماوردي وجها – وقال: إنه الأصح -: أنه تقطع يده اليمنى قصاصا، وتقطع يده اليسرى ورجله اليمنى عن المحاربة؛ كما تقدم فيما إذا أخذ المال في المحاربة ويمينه مفقودة.
ويظهر على الأول: ألا يوالي بين قطع اليد والرجل؛ لأن قطع اليمين يقع قصاصا، وقطع الرجل يقع حدا، ولو اجتمع قطع قصاص وقطع [حد في عضو] لم يوال بينهما.
ولو قطع المحارب اليسار متقدما على أخذ المال في الحرابة أو متأخرا عنه، فإن قلنا: لا يتحتم، وعفى عنه، أخذ الولي الدية، وقطعت يده اليمنى والرجل [اليسرى]، وإن لم يعف، أو قلنا بالتحتم، قطعت اليسرى، وتأخر قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى إلى اندمال اليسار.
وإنما قدمنا قطع اليسار؛ لأنه حق آدمي، كما ذكرنا، ولما ذكرناه من المعنى
فارقت العقوبات الحقوق المالية؛ حيث ترددت الأقوال في أنه [هل] يقدم حق
الله -تعالى- أو حق الآدمي، أو يستويان؛ لأنهما استويا في التأكد وعدم السقوط بالشبهات؟ ويعارض فيهما حاجة الآدمي والتأكد بالإضافة إلى الله – تعالى - ومصرفه للآدمي أيضا؛ فتردد القول فيها، هكذا ذكر الفرق الإمام وغيره.
وفرق القاضي الحسين بأن القصد من القطع في السرقة وقطع الطريق: التنكيل والزجر، وقد حصل ذلك المعنى بقطعهما قصاصا؛ ألا ترى أنه لو سقط ذلك بأكله سقط [القطع]، ولو قطع الجلاد يساره سقط القطع في يمينه؟! والمقصود من الزكاة ونحوها إغناء المساكين وإيصالها إلى المستحق؛ ألا ترى أنها لا تسقط بتلف المال ولا تتداخل كحقوق الآدميين؟!
ولو قطع يمين إنسان [في غير محاربة][قطعا يستحق به أخذ يمينه قصاصا وأخذ المال في المحاربة]، فإن عفا مستحق القصاص قطعت يمينه ورجله اليسرى حدا، وإلا فيقدم القصاص، وقطع الرجل اليسرى يقع بعده، لكن في الحال [أو يمهل إلى] الاندمال؟ فيه وجهان:
أصحهما في "الرافعي" –وهو المذكور في "الوجيز" -: الأول؛ لأن المولاة بين العقوبتين مستحقة لولا ذلك القصاص، وما يخاف من الموالاة لا يختلف بين أن يكون قطع اليمين عن الحد – أيضا - أو عن القصاص.
والثاني: يمهل إلى الاندمال؛ لأن اليمين إذا لم تقطع حدا فالمستحق عن جهة الحد قطع الرجل؛ فأشبه ما إذا استحق طرفاه عن جهتين. وهذا ما أورده القاضي [الحسين]، وهو الذي يظهر مما ذكرناه عن القاضي أبي الطيب وابن الصباغ من بناء الخلاف المذكور في الكتاب في الموالاة بين قطع اليد والرجل، فيما إذا اجتمع عليه قطع السرقة وقطع [في] المحاربة –على أن قطع اليد تقع لأجل المحاربة [أو لا]؟ ولأجل ذلك قلت في أول هذه الفروع: إنه ينبغي ألا يوالي بين قطع اليد والرجل، وإذ قد جرى الخلاف في هذه الصورة فهو في تلك أولى.
ولو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى في غير المحاربة، وأخذ المال في المحاربة: فإن عفا مستحق القصاص عنه قطعناهما في المحاربة، وإلا قطعتا قصاصا، وسقط قطع المحاربة.
ولو قطعهما في المحاربة وأخذ المال فيها، فإن قلنا بعدم التحتم فالأمر كما تقدم، وإن قلنا بالتحتم قطعناهما قصاصا، وسقط الحد كذلك، قاله الشيخ أبو حامد وابن الصباغ والقاضي الحسين، وسواء قطع العضوين قبل أخذ المال أو بعده.
وقال في "الحاوي": إذا قلنا بعدم تحتم القطع فالأمر كذلك، وإن قلنا بتحتمه: فإن تقدم أخذ المال واقتص في العضوين [سقط الحد، وإن تقدم قطع العضوين] ثم أخذ المال فلا يسقط القصاص حد قطع الطريق، بل تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى؛ [لأن اليد اليمنى] والرجل اليسرى مستحقتان القطع بالقصاص حتما، وكأنه قطع الطريق وليس له يد يمنى ولا رجل يسرى. وتبعه [في] ذلك الشيخ في "المهذب".
قال: وإن كان مع الحدود قتل في المحاربة، فقد قيل: يوالى بين الحدود [، أي]: ولا ينتظر في استيفاء كل حد برء ما استوفي قبله؛ لأن قتله متحتم فلا معنى للتفريق، وهذا ما ينسب إلى أبي اسحاق.
وقيل: لا يوالى؛ لأنه لا يؤمن أن يموت قبل استيفاء ما بعده؛ فيبقى في ذمته يستوفى [منه] يوم القيامة، كذلك قال [القاضي] أبو الطيب. وبالقياس على ما لو كان مع الحدود قتل في غير المحاربة؛ فإنه لا يوالى. وهذا أصح في الطرق، والمختار في "المرشد"، على أنه قد حكى فيما علق عن الشيخ أبي بكر الطوسي حكاية وجه فيما إذا اجتمع مع الحدود قتل في غير الحرابة: أنا نقيمها بلا إمهال.
لكن المذهب المشهور الأول، ومحل الإمهال فيما عدا الحد الأخير.
فروع:
لو زنى المرتد في حال ردته أو شرب، فهل يكتفى بقتله أم يقام عليه الحد ثم يقتل؟ فيه وجهان عن رواية ابن كج، وأصحهما: الثاني، وقد حكيناهما في باب الردة، وحكاهما الماوردي في دخول حد السرقة في القتل بالردة -أيضا- وهما جاريان فيما لو سرق ثم قتل في المحاربة، في أن حد السرقة هل يندرج في القتل، أم يقطع ثم يقتل، كما حكاهما ابن الصباغ؟ ويظهر جريانهما فيما إذا سرق ثم زنى وهو محصن.
إذا اجتمعت عليه حقوق متمحضة للآدميين؛ بأن قذف شخصا، وقطع يد آخر، وقتل آخر –بدئ بحد القذف وإن كان متأخرا عن القطع والقتل، ثم يترك حتى يبرأ ظهره، خشية أن يموت قبل أن يستوفى منه قصاص النفس، ثم تقطع يده وإن كان القتل متقدما، ويقتل من غير إمهال؛ لأن في ذلك جمعا بين الحقوق، وإذا أمكن استيفاؤها فلا سبيل إلى تفويت بعضها.
وأبدى الإمام ترددا – أقامه الغزالي وجهين - فيما إذا رضي مستحق القتل بتعجيل القطع [قبل براءة ظهره من الجلد، في أن يبتدر] القطع بعد الجلد، ورأى الأظهر والأفقه: عدمه؛ لأنا لو أتبعنا الجلد القطع؛ فليس ما يعرض من موت بسبب توالي العقوبتين واقعا عن القصاص المستحق في النفس؛ فهو يفضي إلى موت غير معتد به، ولا سبيل إلى اهدار الروح. نعم، لو علمنا قطعا أنه لو جلد وقطع على التوالي لم تفض نفسه على الفور، وإن صار ألما به، فإذا قال صاحب النفس: عجلوا وأنا أقبل، فيجب القطع ها هنا بأن له ذلك، وما قدمناه فيه إذا كنا نجوز أن تفيض نفسه لتوالي العقوبتين.
قلت: وما ذكره من المعنى المفضي لمنع التوالي، موجود هنا؛ لأن مستحق القصاص في النفس لا يتعين حقه على الفور كما تقدم، [وقد صرح] به الإمام هنا؛ فقد يقول ذلك ثم يعن له ألا يستوفي القصاص على الفور؛ فيفضي إلى ذهاب نفسه هدرا [كما تقدم] أيضا.
وقوله: أنا أستوفي، لا يحصر حقه في الفورية؛ لأنه وعد، والوعود لا تلزم عندنا أمرا، والله أعلم
وقد ذكرنا في باب العفو والقصاص تتمة ما ذكره الإمام هنا.
قال: ومن وجب عليه [حد] الزنى [والسرقة والشرب]، فتاب وأصلح، ومضى عليه سنة، أي: قبل الظفر [به] – سقط عنه الحد في أحد القولين.
أما في حد الزنى؛ فلقوله تعالى: {فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} [النساء: 16].
[وأما في السرقة؛ فلقوله تعالى: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم}][المائدة: 39].
وأما في حد الشرب؛ فلأنه إذا سقط حد الزنى والسرقة به، فلأن يسقط حد الشرب –وهو أخف في القدر والصفة- كان أولى. وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"التوبة تجب ما قبلها"، وقال:"التائب من الذنب كمن لا ذنب له". ولأن كل حد من هذه الحدود خالص حق لله -تعالى- فسقط بالتوبة كحد قاطع الطريق. وهذا ما صححه في "المهذب"، وهو الأظهر في "الحاوي"، وقال البندنيجي: إنه المذهب. ويعضده ما حكاه القاضي أبو الطيب قبيل باب قتال أهل الردة عن الشافعي؛ حيث قال: [إن] الشافعي – رضي الله عنه قال: ويجب
لمن أصاب حدا أن يستتر بستر الله -تعالى- وأن يتقي الله ولا يعود؛ فإن الله –تعالى- يقبل التوبة عن عباده.
قال: ولا يسقط في الآخر؛ لأن العمومات الواردة فيها لم تفصل بين ما قبل التوبة وما بعدها، بخلاف قاطع الطريق، ولأنه حد لا يختص بالمحاربة؛ فلم يسقط بالتوبة كحد القذف، وهذا أصح عند النواوي.
والقائلون بالأول حملوا العمومات على حالة الإصرار.
وأما القياس على حد القذف، فلهم منع الحكم فيه -أيضا-[لأن الماوردي قد حكى عن بعض أصحابنا: أنه يسقط بالتوبة -أيضا-] وهو قول قديم للشافعي؛ كما حكيناه في باب حد قاطع الطريق، فعلى هذا اندفع القياس.
وعلى الصحيح، وهو أنه لا يسقط بها؛ كما جزم به الجمهور –فالفرق: أنه محض حق آدمي، وحقوق الآدميين مبنية على المضايقة والمشاحة، بخلاف حد الزنى ونحوه؛ فإنه محض حق الله تعالى، وحقوق الله تعالى مبنية على المساهلة والمسامحة.
أما إذا حصلت التوبة بعد الظفر، فالمذكور في "الشامل" و"الحاوي": أنها لا تؤثر، وعلى ذلك جرى غيرهما، كما ستعرفه. وكأنهم –والله أعلم- أخذوا ذلك من قول الشافعي –رضي الله عنه في "المختصر" في قطاع الطريق: ومن تاب منهم قبل أن يقدر عليه، سقط عنه الحد، ولا تسقط حقوق الآدميين، ويحتمل أن يسقط كل حد لله -تعالى- بالتوبة. وقال في كتاب الحدود: وبه أقول. ففي أحد القولين ألحقه بقاطع الطريق، وأشار في ضمن الاحتمال إلى أنه غير ملحق به، وقاطع الطريق لا يسقط حده بالتوبة بعد الظفر كما أفهمه لفظ الكتاب العزيز؛ فكذلك غيره من طريق [الأولى، ووجه] الأولوية: أن حد قاطع الطريق يسقط بمجرد إظهار التوبة، وغيره ليس كذلك.
وقد حكى القاضي الحسين في باب حد الزنى عن بعض الأصحاب هذه
الطريقة، وقال: إن من أصحابنا من عكس، فقال: إذا تاب عن حد الزنى قبل
القدرة عليه سقط قولا واحدا، وإن تاب بعد القدرة فقولان، وإن منهم من قال على الإطلاق: قولان، وهو الصحيح؛ لأنه قبل المرافعة وبعدها مقدور عليه، وهذا الطريق هو الذي حكاه في باب حد قاطع الطريق، وأورده الرافعي مع الأول، واقتضاه إطلاق الإمام في باب حد الزنى؛ فإنه ذكر بعد حكاية [القولين فيه]، وتصحيح عدم السقوط –كما صار إليه الرافعي وحكاه عن الجديد - سؤالا، فقال: فإن قيل: أليس [قد] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله". ولو كان الحد لا يسقط بالتوبة لكان فيما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريض على كتمان الحق- قلنا: لا يمتنع أن تكون توبة المستتر الذي لا يبدي صفحته بمثابة توبة [قاطع الطريق قبل الظفر به، وفيما ذكرناه احتمال؛ فإن سبب قبول توبة] المحاربين عطفهم على الطاعة، وردهم بالاستمالة إليها، وهذا المعنى لا يتحقق فيما ذكرناه، والمسألة محتمله، وتمام الحديث يدل على أن الوبة بعد ظهور وجوب الحد لا تنجع؛ فإنه – عليه السلام قال في تتمة الحديث:"فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه حد الله تعالى" وهذا نص في أن التوبة لا تنفع، ووجهه من جهة المعنى: خشية صيرورتها ذريعة إلى إبطال حكم الحد؛ إذ الغرض هو الردع والزجر، ولا يعجز مرتكب ما يوجب الحد عن إظهار التوبة، ثم الحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. ووجه مقابله – على هذا التقدير -: أنه روي في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال لماعز: "ارجع فاستغفر لله وتب إليه"،
ويروى أنه قال: "هلا رددتموه [إلي] لعله يتوب".
قال الرافعي في آخر [الفصل]: [وقد] يرجع حاصل هذا الخلاف إلى أن إصلاح العمل، هل يشترط فيه التوبة من غير قاطع الطريق، أم لا؟ وفيه خلاف سنذكره، فإن قلنا: نعم، فلا بد من مضي زمان يظهر فيه الصدق والصلاح؛ فلا تكفي التوبة بعد الرفع.
ثم التوبة عبارة عن: الإقلاع عما فعله في الحال، والندم على الماضي، والعزم على عدم الفعل، واعتبر فيها بعضهم ألا يكون ذلك لأمر دنيوي.
والمراد بالإصلاح: إصلاح العمل، وإنما اعتبر؛ لظاهر [نص] الكتاب في
الآيتين، والحكمة فيه: أنه قد يظهر التوبة للتقية؛ فلا تعلم صحتها حتى يقترن بها
الإصلاح في زمان يوثق فيه بالتوبة، وهذا بخلاف التوبة من قاطع الطريق، وقد
تقدم الفرق بينهما. وهذا هو المشهور، والذي جزم به العراقيون والقاضي الحسين.
وقد حكينا عن الإمام وجها في أن إصلاح العمل لا يعتبر ها هنا -أيضا- وأن الأصحاب مجمعون عليه؛ كإظهار الإسلام تحت ظلال السيوف، قال: ثم سبيل التفريع –على ما ذكره القاضي -: [أن] من أظهر التوبة امتحناه سرا وعلنا، فإن ظهر الصلاح في أعماله حكمنا بسقوط الحد، وإن بدا نقيد ذلك [فالتوبة لا تسقط] هذا الحد. وهذا كلام مضطرب؛ فإن هذا التائب إن حبس كان محالا، وإن خلي سبيله، فكيف يتبع وكيف يعرف صلاحه، وهل هو مرعي في قبيل ما تاب عنه أو في جميع الأحوال؟ ولا ضبط لهذا الكلام. وأنا أقول: ذكر التوبة [المجردة قبل الظفر يدل على سقوط الحد بها، وذكر التوبة] مع إصلاح العمل يدل على [أن] المغفرة باطنة، والحدود مقامة.
وقال الرافعي: يشبه أن يقال في التفريع على مذهب القاضي: إن التوبة إذا ظهرت امتنعنا عن إقامة الحد عليه، فإن ظهر الصلاح من بعد، أو لم يظهر ما يخالف التوبة فذاك، وإن ظهر ما يخالفها أقمنا الحد عليه، والله أعلم.
واعتبار السنة في إصلاح العمل بعد التوبة؛ لتمضي عليه الفصول الأربعة التي قد تتغير فيها الطباع، وسيأتي [في ذلك]-أيضا- خلاف في كتاب الشهادات، إن شاء الله تعالى.
فرع: حكى القاضي الحسين في باب حد الزنى أن ابن المرزبان قال: إذا قلنا [إن] التوبة تسقط حد الزنى، فقتله قاتل بعدها وهو محصن –فلا يختلف المذهب: أن عليه الدية، وهل عليه القود؟ فيه وجهان، وجه المنع: بشبهة الخلاف.
قلت: وهذا شبيه بالخلاف الذي مضى فيما إذا قتل من أقر به بعد أن رجع عنه.
فروع نختم بها كتاب الحدود -:
لا يجوز للإمام العفو عن الحد، ولا تجوز الشفاعة فيه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لعن الله الشافع والمشفع"، قال الماوردي: وقد أتي معاوية بلصوص، فقطعهم حتى بقي واحد منهم، فقدم ليقطع، فقال:
يميني أمير المؤمنين أعيذها
…
بعفوك أن تلقى نكالا يشينها
يدي كانت الحسناء لو تم سبرها
…
ولن تعدم الحسناء عابا يشينها
فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة
…
إذا ما شمالي فارقتها يمينها
فقال معاوية: كيف أفعل بك وقد قطعت أصحابك؟! فقالت أم السارق: اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها؛ فخلى سبيله، فكان أول حد ترك في الإسلام.
الاعتبار في الحدود بحالة الوجوب [لا بحالة الأداء، حتى لو وجب الرجم أو الحد في الزنى على حر ذمي، ثم نقد العهد والتحق بدار الحرب، فسبي واسترق – يقام عليه الرجم أو الجلد مائة؛ اعتبارا بحالة الوجوب].
والاعتبار في صفته بحالة الأداء، فإن وجب وهو نضو الخلق، فصح بدنه قبل الإقامة –استوفي بالسياط. ولو وجب وهو صحيح، فصار نضو الخلق قبل الاستيفاء- أقيم عليه بإثكال النخل.
قال القاضي الحسين: ولا بد للإمام في إقامة الحدود من النية، حتى لو ضربه لمصادرة أو لمعنى آخر وعليه حدود، لا يحسب عنها.
متعاطي الجرائم الموجبة للحدود إذا أقيمت عليه، لا تقام عليه في [الدار]
الآخرة مرة أخرى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أصاب حدا فعجل عقوبته في الدنيا فالله
أعدل من أن يثني على عبده [العقوبة في [الدار] الآخرة، ومن أصاب حدا فستر الله عليه، أو عفي عنه فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه"].
كذا قال الجيلي، ثم قال: وكذلك الحكم في حقوق الآدميين إذا استوفيت، أو عفي عنها، والذي رواه البخاري عن عبادة بن الصامت، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط، فقال:"أبايعكم على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فأخذ به في الدنيا، فهو كفارة له وطهور، ومن ستره الله، فذلك إلى الله: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له".
وفي "تعليق" البندنيجي إثبات معنى هذا الحديث [حكما]؛ حيث قال: إذا مات قبل استيفاء الحدود سقط ما كان لله –سبحانه وتعالى و [كان] حسابه على الله: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. والله أعلم بالصواب.
* * *