الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب حد القذف
القذف: الرمي، تقول: قذفت الشيء، إذا رميته، والمراد به هنا: الرمي بالزنى في معرض التعيير.
واحترز بذلك عما إذا ذكر [عند القاضي] بلفظ الشهادة مع تمام العدد، [وبدونه] على رأي.
وعما إذا شهد بجرحه، فاستفسره القاضي، فأخبره بزناه، فإنه لا حد عليه، كما ذكره ابن الصباغ [حكاية] عن الشيخ أبي حامد، سواء كان بلفظ الشهادة أو بدونه.
وهو حرام؛ لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} الآية [النور: 4].
وهو من الكبائر السبع التي عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه ان عمر، وعن رواية حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من قذف محصنة يحبط عمله مائة سنة" نقله البندنيجي.
قال: إذا قذف بالغ عاقل مختار، وهو مسلم أو ذمي أو مستأمن أو مرتد، محصنا، ليس بولد له - وجب عليه الحد؛ للإجماع كما قاله الرافعي.
واشتراط البلوغ والعقل في القاذف احترز به عن الصبي والمجنون، فإنه لا
حد عليهما؛ لحديث: "رفع القلم
…
"، [و] لأنه حد؛ فلا يجب عليهما كحد الزنى، والسرقة، وقطع الطريق.
نعم: هل يعزران؟
قال: في "التهذيب": الصبي يعزر، وكذلك المجنون إذا كان له تمييز.
وأطلق البندنيجي القول بأنه لا شيء عليهما.
وفي "الحاوي": أن الصبي إذا كان مراهقا يؤذي قذف مثله؛ عزر أدبا، كما يؤدب في مصالحه، وإن كان لا يؤذي قذفه لم يعزر.
واشترط الطواعية؛ ليخرج المكره، فإنه لا حد عليه ولا تعزير، للخبر المشهور.
وكذا لا يجب على المكره، بخلاف المكره على القتل؛ لأنه يمكنه أن يجعل المكره كالآلة له بأن يأخذ يده، فيقتل بها شخصا، ولا يتصور ذلك في القذف بأن يأخذ لسان شخص فيقذف به.
وفي "فتاوى" القاضي الحسين: أن الأستاذ أبا طاهر الزيادي، قال: كما يجب القتل على المكره يجب حد القذف على المكره – أيضا - وهو اختيار العبادي.
واعتبار الإسلام والذمة والأمان؛ ليخرج الحربي، فإنه لا حد عليه؛ لعدم التزامه، وإن كان مخاطبا به.
وذكر المرتد؛ ليعلم أن الردة لا تقطع عنه ما التزمه بالإسلام من الأحكام.
واعتبار إحصان المقذوف دل عليه قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} ، فشرط الإحصان، كما سنذكره.
واحترز بقوله: "ليس بولد له" عن ولده [وولد ولده]؛ لأنه إذا لم يقتل به، فلألا يحد بقذفه [كان] أولى.
ووجه الأولوية: أن القصاص آكد وجوبا من حد القذف؛ ألا ترى أنه يجب
للزاني على العفيف، وللعبد على العبد، وللكافر على الكافر، ولا كذلك حد القذف.
قال: فإن كان حرا، جلد ثمانين؛ لقوله تعالى:"والذين يرمون المحصنات" – أي: بالزنى – {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} .
وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها – قالت: "لما نزل عذري، قام النبي صلى الله عليه وسلم [فذكر ذلك]، وتلا – تعني: القرآن - فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة، فضربوا حدهم"، وسماهم: مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، ويقولون المرأة: حمنة بنت جحش.
وقال الطحاوي: ثمانين ثمانين، وهم الذين تولوا كبر ذلك وقالوا بالفاحشة، حسان ومسطح [وحمنة].
قال الماوردي: وإنما جعل حد القذف ثمانين؛ لأن القذف بالزنى أقل من فعل الزنى؛ فكانت أقل حدا منه.
قال: وإن كان مملوكا جلد أربعين؛ لما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة: أنه قال: أدركت أبا بكر وعمر ومن بعدهما من الخلفاء، فلم أرهم يضربون المملوك في القذف إلا أربعين.
وأشار بذلك إلى أنه مجمع عليه.
وقد روى جعفر بن محمد عن أبيه: أن علي بن أبي طالب كان لا يضرب المملوك [في القذف] إلا أربعين.
ولأنه حد يتبعض، فكان المملوك فيه على النصف [من الحر][كحد] الزنى.
والآية المراد بها: الأحرار؛ ألا ترى إلى قوله: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} [النور: 4] والعبد لا تقبل شهادته قاذفا كان أو غير قاذف، وأم الولد والمكاتب والمدير ومن بعضه حر كالرقيق في الحد.
وقد تقدم حكاية وجهين في كيفية إقامة حد الزنى على من نصفه حر ونصفه رقيق، ولا يبعد مجيء مثلهما هاهنا.
قال: والمحصن هو: البالغ العاقل الحر المسلم العفيف، أي: عن الزنى.
قال ابن الصباغ: وهذا اتفاق.
ولأن الله تعالى شرط في حد القذف إحصان المقذوف، وهو الكمال؛ فاعتبر البلوغ فيه؛ لنقص الصغر، والعقل، لنقص الجنون، والحرية؛ لنقص الرق، والإسلام؛ لنقص الكفر، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"من أشرك بالله فليس بمحصن".
واعتبرت العفة؛ لنقص الزنى، ولقوله سبحانه وتعالى:{ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} ؛ فدل على أنهم إذا أتوا بشهداء لم يحدوا، ولقوله تعالى:{إن الذين يرمون المحصنات الغافلات} [النور: 23].
قيل: أراد: الغافلات عن الفواحش بتركها، والعفة تحصل باشتهار الخير والعفاف.
وهل يحكم بحصولها من غير بحث عنها؟ فيه وجهان في "الحاوي" وغيره في كتاب اللعان.
مختار أبي إسحاق المروزي منهما: المنع، وهو ما اقتضى إيراد المصنف في "المهذب" ترجيحه، واختاره في "المرشد"؛ فلا بد من البحث عنها؛ كما في العدالة.
قال الرافعي: والذي رجحه الأكثرون: عدم الوجوب، وفرقوا بين ذلك وبين العدالة، بأن البحث في الإحصان يؤدي إلى هتك الستر، وإظهار الزنى المأمور بستره، والبحث عن العدالة بخلافه.
ولأن القاذف عصى بالقذف؛ فغلظ عليه بإقامة الحد بظاهر الإحصان، والمشهود عليه لم يصدر منه ما يقتضي التغليظ عليه.
قال الإمام: ولا يقدح في الحصانة مراودته على الزنى، وتحومه على طلبه، وصدور مقدماته، وهذا ما وجدت الطرق متفقة عليه.
ثم حكى عن شيخه احتمالا في قدح ذلك في العفة؛ خرجه من نص الشافعي رضي الله عنه على أنه إذا زنى بعد القذف [تسقط العفة].
ووجه التخريج: أن الزنى اللاحق لا يدل على زنى سابق، وإنما يدل على سبق مقدماته.
قال الإمام: وهذا ليس بشيء.
قال: فإن قذف صغيرا أو مجنونا أو عبدا أو كافرا أو فاجرا – أي: زانيا - أو من وطئ وطئا حراما لا شبهة [له] فيه - أي كوطء جارية والده أو أمه، أو المرهونة عنده، أو ذات محرم له بعقد نكاح مع علمه بالتحريم – عزر، أي: ولا يحد
أما عدم وجوب الحد، فلانتفاء الإحصان الدالة عليه الآية السابقة.
وأما وجوب التعزير، فلما حصل للمقذوف من الأذى بقذفه.
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الصبي والمجنون والعبد والكافر والمسلم
الكامل إذا وطئ وطئا حراما لا شبهة له فيه، ثم بلغ، وعقل، وعتق، وأسلم،
وتاب، وحسنت توبته، فقذفه قاذف - لا حد عليه. والأمر كذلك في العبد،
والكافر، والمسلم الكامل وإن ظهر صلاحه وزهده بعد مائة سنة من زناه، دون الصبي والمجنون؛ صرح بذلك القاضي الحسين في موضعين، وفرق بأن زنى العبد والكافر والمسلم الكامل يكون حقيقة؛ فأسقط حصانتهم، بخلاف الصبي والمجنون.
وقال: الإمام بعد ذكر ما حكيته عنه في المسلم الكامل: وهذه دعوى عريضة، وما أراها تسلم عن الخلاف؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتوبة تمحو الذنب، وترد العدالة، وما يحرم المروءة إذا ترك عادت المروءة، ولم [أر] هذا التصريح على هذا الوجه في شيء من كتبنا.
قال: وإن وطئ بشبهة، فقد قيل: يحد؛ لأنه وطء لا يوجب الحد؛ فلم تسقط به العفة، كوطء الزوجة والأمة حائضا وصائمة ومعتكفة ومحرمة، وبعد الظهار، وقبل إخراج الكفارة، أو جاريته المجوسية.
وقيل: يعزر، أي: ولا يحد؛ لأنه وطء محرم في غير ملك؛ فأسقط العفة، كالزنى.
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي إجراء الوجهين في حد من قذف واطئ جارية ابنه، والجارية المشتركة بينه وبين غيره، وجاريته المحرمة عليه برضاع [ونحوه ومجوسية] ونحوها، [وجاريته] المباحة له في دبرها، أو وطئ في نكاح بلا ولي ولا شهود، وفي نكاح المتعة والشغار وهو يعتقد تحريمه، أو وطئ امرأة زفت إليه، أو وجدها على فراشه فظنها زوجته أو أمته المباحة له، ولا شك في جريان الخلاف في الكل، لكنه في بعض الصور أظهر من بعض، ويظهر لك [ذلك] بما سنذكره من الطرق.
قال ابن الصباغ: إذا وطئ الجارية المشتركة أو المجوسية؛ لا تسقط عفته،
وفي سقوطها بوطء جارية ابنه، أو مكاتبته، أو مطلقته الرجعية في [زمن] عدتها، أو أن يطأ بشبهة أو عقد فاسد - ثلاثة أوجه:
أصحها - كما حكاه الرافعي عن الشيخ أبي حامد -: بقاء العفة.
ومقابله محكي عن اختيار أبي اسحاق، وذكر الروياني أنه أقرب.
وثالثها: أن ما كان زنى لولا [ما ذكره من] الشبهة فإنه يسقط إحصانه، فأما وطء الرجعية في النكاح الفاسد، ووطء المكاتبة، فلا يسقط الإحصان؛ لأنه ليس بزنى لا ظاهرا ولا باطنا.
وما جزم به في الجارية المشتركة، قال الرافعي: إن جماعة أشاروا إلى القطع به.
ومراده بوطء الشبهة: ما إذا وطئ من اعتقدها زوجته أو أمته المباحة له، يدل عليه: أن البندنيجي حكى الوجهين في هذه الصورة، وفي النكاح الفاسد، ووطء [جارية الولد]، وسكت عن الوجه الثالث.
وحكى هو وابن الصباغ فيما إذا وطئ أمه أو أخته من الرضاع أو النسب بملك اليمين، وجهين [في] أن قاذفه: هل يحد أم لا؛ بناء على أنه هل يحد بهذا الوطء أم لا؟ فإن قلنا: يحد، لم يحد قاذفه، وإن قلنا: لا يحد، حد قاذفه.
وقياس ما ذكرا من الوجهين في وطء الشبهة ونحوه: أن يجريا على قولنا: إنه لا يحد الواطئ، وعلى ذلك جرى الرافعي وغيره، فحكموا الوجهين كذلك.
ونظم صاحب التهذيب يقتضي ترجيح عدم حد القاذف – أيضا - وهو الأشبه، وبه جزم الماوردي؛ لدلالة هذا الفعل على قلة محاشاته الزنى؛ فإن غشيان المحارم أفحش من الزنى بالأجنبيات.
وخص الماوردي [محل] الخلاف بالوطء في النكاح بلا ولي ولا شهود ونكاح المتعة والشغار؛ كما صرح به في هذا الباب وفي اللعان، وجزم بأن وطء الجارية المشتركة وجارية الولد يسقط الحصانة وإن كان لا يوجب الحد.
وجزم الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ بأن وطء الزوجة والأمة في الحيض والإحرام والاعتكاف والصيام وقبل إخراج الكفارة بعد الظهار لا يسقط العفة.
وحكى القاضي الحسين وجها آخر فيه؛ لأنه قال: من أصحابنا من حد الوطء الذي يسقط العفة بأنه: كل وطء يعصي به.
قال الإمام: وهذا بعيد لا احتفال به، وليس معدودا من المذهب.
و [قد] حكى الإمام طريقا جمع فيها ما حكاه القاضي الحسين [من الطرق] وما حكيناه، وأورده على أحسن وجه، فقال: إذا وطئ أخته بملك اليمين، ولم نوجب الحد، فهل تسقط عفته؟ فيه وجهان: فإن قلنا: تسقط، فلو وطئ جارية ولده أو الجارية المشتركة، وقلنا: لا حد - ففي بطلان عفته وجهان، ووجه الفرق: أن أحد الشريكين يتوصل إلى نقل ملك شريكه لنفسه بطريق الاستيلاد، وكذلك الولد، وإذ ذاك يثبت الحل، وذوات المحارم لا تستحل بحال، فإن قلنا: تسقط [عفته]، فلو نكح الشافعي بغير ولي، وألم بالمنكوحة - ففي سقوط عفته وجهان؛ للاختلاف في الحد: فإن قلنا: تسقط عفته، فلو وطئ بشبهة في نكاح فاسد أو على ظن زوجية؛ ففي سقوط العفة وجهان:
وجه [البقاء]: القياس على العدالة.
ووجه مقابله: دلالة ذلك على ترك التحفظ؛ فألحق بحرمان القاتل خطأ الميراث.
قال: وألحق أئمتنا بهذه الصورة ما إذا جرت الفاحشة في حال الصبا، وهذا أبعد الصور، وإن لم يكن بد من الخلاف، فليرتب على وطء الشبهة من المكلف. والفارق: سقوط التكليف عن الصبيان بالكلية؛ فلا لوم ولا توبيخ.
وإذا فهمت ما ذكر: انتظم منه عند الاختصار في المسألة أوجه:
أحدها: لا تسقط العفة إلا بما يوجب الحد.
والثاني: يسقطها ذلك ووطء المحرم بملك اليمين.
والثالث: يسقطها ذلك ووطء الأب والشريك.
والرابع: يسقطها ذلك والوطء في النكاح بلا ولي ونحوه على خلاف المعتقد.
والخامس: يسقطها ذلك ووطء الشبهة من المكلف.
والسادس: يسقطها ذلك ووطء الصبي.
والسابع: يسقطها ذلك ووطء زوجته، أو أمته الحائض وما في معناها.
فرع: قال في "التهذيب": إذا وطئ قريب العهد بالإسلام امرأة غصبها على ظن الحل، لا تبطل حصانته.
قال الرافعي: ويشبه أن يجيء فيه الخلاف المذكور في وطء الشبهة.
قلت: قد ذكرنا في باب ما يحرم من النكاح عن صاحب "التهذيب": أن الزنى على صورة الجهل ممن هو قريب عهد بالإسلام، هل يثبت النسب، ويوجب المهر، ويكون الولد به حرا إن كان الفعل بأمة؟ فيه وجهان، أصحهما: الثبوت فإن قلنا به التحق بوطء الشبهة، وإن قلنا بمقابله، فقد جعلنا حكمه حكم الزنى فيما عدا الحد؛ فينبغي أن تسقط الحصانة جزما.
ومثل الخلاف المذكور قد حكاه الرافعي قولين أو وجهين، فيما إذا كان القاتل جاهلا بتحريم القتل: هل يجعل جهله كقتل الخطأ [حتى] تكون الدية على العاقلة، أو تجب في ماله؟ حكاه عند الكلام في عفو أحد الاثنين، وذكرتهما مع وجه ثالث في باب: من لا تجب عليه الدية بالجناية.
هذا حكم الرجل، وأما المرأة المغصوبة، فهل تسقط حصانتها [بذلك؟ قال القاضي الحسين في هذا الباب من أكرهت على الزنى، هل تسقط حصانتها؟] فيه وجهان. ومنهم من قال: إن أولج فيها مقهورة، لم تسقط. وإن أكرهها بالقتل [وغيره] حتى مكنت [من نفسها]، فعلى وجهين، والله أعلم.
قال: وإن قذف ولده أو ولد ولده عزر، بسبب ما حصل للمقذوف من
الأذى، ولا يحد لما ذكرناه من قبل، وهذا ما نص عليه في "الأم". وقضية ما ذكرناه من التوجيه ألا يجب له التعزير – أيضا - لأن الحد أشد ثبوتا [من التعزير]، وقد سقط. وقد سمعت بعض مشايخي يحكيه وجها، لما [طلبت منه] الفرق بينه وبين ما إذا وطئ جارية ابنه، فإنه لا يجب عليه الحد على الصحيح، وكذا التعزير على وجه، وعن أبي ثور وابن المنذر من أصحابنا: أنه يجب عليه الحد؛ لظاهر القرآن، لكنه يكره له إقامته، والصحيح: الأول. والأم في معنى الأب.
قال القاضيان أبو الطيب والحسين وغيرهما: وإذا قذف رجل امرأة محصنة له منها ولد، وماتت - لم يكن للولد المطالبة بالحد، وسقط كما في القصاص، وإن كان لها ابن من غيره، كان له المطالبة، وبكم يطالب؟ يظهر لك من بعد، والذي أورده ابن الصباغ: المطالبة بالجميع.
قال: وإن قذف مجهولا، فقال: هو عبد، وقال المقذوف:[بل] أنا حر - فالقول قول القاذف؛ لأنه يحتمل أن يكون عبدا، والأصل براءة الذمة من الحد مع أنه يسقط بالشبهة، وهذا ما نص عليه هاهنا. فعلى هذا: يعزر.
وقيل فيه قولان، الصحيح منهما:[قبول] قول القاذف، ووجه مقابله - وهو الأصح في "الجيلي" -: أن الأصل في الدار الحرية، وقد تقدم في باب اللقيط في هذه المسألة من الكلام ما يغني عن الإعادة.
فرع: لو اعترف المقذوف والقاذف بأنه كان عبدا، فعتق، وادعى المقذوف أنه أراد نسبته إلى [الزنى] بعد الحرية، وقال القاذف: إنما أردت أنك زنيت في حال الرق - فالحكم كما سنذكره فيما إذا اختلفا في مثل هذه الصورة [في الفصل بعده]، قاله الماوردي.
قال: وإن [قال]: زنيت وأنت نصراني، فقال: لم أزن [ولا كنت]
نصرانيا، ولم يعرف حاله - ففيه قولان:
أحدهما: يحد؛ لأن ظاهر الدار الإسلام، فرجح قول المقذوف به؛ وهذا ما صححه النواوي.
والثاني: يعزر، أي: بعد حلف القاذف؛ لأن ما يقوله محتمل، والأصل براءة الذمة من الحد.
وإذا انتفى الحد، ثبت التعزير باعترافه، وهذا ما أجاب به هنا، أما إذا عرف له حال نصرانية، فلا حد عليه. نعم، لو قال: أردت قذفي بعد إسلامي؛ فعليك الحد، وقال: بل أردت [قذفك] قبل إسلامك؛ فلا حد علي - فالذي حكاه الداركي والشيخ أبو حامد فيما إذا كان المخاطب امرأة: أن القول قول المقذوفة، وعلى القاذف الحد؛ لأن قوله:"زنيت" يقتضي القذف [في الحال]، وقوله:"وأنت نصرانية"، يقتضي الإخبار عن تقدم حالها؛ فصار الظاهر مع المقذوفة.
قال الماوردي: والذي أراه: أن القول قول القاذف مع يمينه، ولا حد عليه؛ لأنه لما وصل قوله "زنيت"، بقوله:"وأنت نصرانية" - كان أظهر احتمالية إضافة الزنى إلى النصرانية؛ لكون أحدهما تعلق بالآخر، ولو استوى الاحتمالان لوجب أن يدرأ بالشبهة، وقد وافق ابن الصباغ في الاحتمال المذكور، واستشهد له بأنه لو قال لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار وأنت مسلمة، تعلق الطلاق بدخول الدار في الإسلام. ومثل هذا يظهر جريانه في مسألتنا. ولو علم أنه لم يزل مسلما، وجب على القاذف الحد للقذف، والتعزير؛ لنسبته إلى الكفر.
قال: [وإن قذفه، وقال: قذفته وهو مجنون، فقال: بل قذفني وأنا عاقل، وعرف له حال جنون - فالقول قول القاذف في أظهر القولين؛ لأنه قد ثبت حال جنون، وما يدعيه كل واحد منهما ممكن، والأصل براءة الذمة.
فعلى هذا: إذا حلف القاذف، عزر إن طلبه المقذوف.
والقول قول المقذوف في الآخر؛ لأن صحته موجودة في الحال، والأصل عدم الجنون في الحالة التي يدعي وجود القذف فيها.
فعلى هذا: [إذا] حلف المقذوف، حد القاذف.
ولا نزاع في أنه إذا لم يعرف له حال جنون، أن القول قول المقذوف؛ كما لو ادعى القاذف أنه قذفه في حال ردته، ولم يعلم له حال ردة؛ فإن القول قول المقذوف. نعم، لو عرفت [له ردة]، وادعى القاف صدور القذف في حال ردته، وقال المقذوف: بل بعد زوالها - فالقول قول القاذف؛ لأن الأصل بقاؤها. صرح به القاضي الحسين، وقياسه: أن يطرد مثله في الجنون. ولو ادعى القاذف صدور القذف في حال الردة المعلومة للمقذوف، وقال المقذوف: بل في الإسلام - فهو نظير مسألة الكتاب، وقد حكى الماوردي فيها وجهين، وبناهما على أنه إذا لم تعرف ردته، فأراد القاذف أن يقيم بينة على ردته، ففي كيفية سماعها قولان:
أحدهما: تشهد بردته، ثم يكون القول قوله مع يمينه.
والثاني: تشهد بأنه قذفه في حال الردة.
ولو ادعى القاذف أن القذف جرى منه وهو مجنون، فقد تقدم الكلام فيه في باب اللعان.
قال: وإن قذف عفيفا، فلم يحد حتى زنى أو وطئ وطئا حراما، أي يزول به إحصانه - لم يحد؛ لأن حد القذف موضوع لإسقاط المعرة عن المقذوف، والمعرة لا تسقط إذا زنى أو وطئ وطئا حراما، فلم يجب في قذفه حد؛ [و] لأن عادة من لا يدين بإجهار المعاصي أن يستر بإخفائها؛ فظهورها منه لا يكون إلا بعد كثرتها وتكررها. [روي أنه] حمل إلى عمر رضي الله عنه رجل زنى،
فقال: [والله] ما زنيت قبل هذه، فقال عمر: كذبت؛ إن الله – تعالى - لا يفضح عبده بأول معصية. فكان فيما ظهر من وطئه دليل على تقدمه منه؛ فلم يحد قاذفه، وهذا هو المذهب. وعن المزني: أنه يحد؛ كما لو ارتد المقذوف بعد القذف.
قال الإمام هنا: وكنا نعد هذا تخريجا في المذهب، فرأيت [للشيخ أبي] علي في "شرح التلخيص" أن هذا قول للشافعي في القديم. وقال في باب الشهادة [على الشهادة]: إنه الذي صار إليه طوائف من أصحابنا، وقد خرج ابن أبي هريرة وجها في طرآن الردة، وقال: إنها تسقط الحصانة أيضا. وحكاه في "المهذب"، وأبداه القاضي أبو الطيب احتمالا لنفسه، و [قد] استشكل الإمام الفرق بين طرآن الزنى وطرآن الردة مع تقرير الصحيح في الصورتين، وقد فرق بينهما بوجوه:
أحدها، علة الحكم السابقة.
والثاني: - قاله الماوردي -: أن حد القذف موضوع لحراسة العفة من الزنى [دون الردة]؛ فجاز أن يسقط بحدوث الزنى وإن لم يسقط بحدوث الردة.
والثالث: - قاله القاضي الحسين -: أن الردة السابقة لا تسقط الإحصان إذا طرأ الإسلام، بخلاف الزنى السابق؛ فكما افترق الكفر والزنى إذا تقدما، فلا يمتنع [أن يفترقا] إذا تأخرا. ولا يقوم مقام الزنى الطارئ في إسقاط العفة والحد، صدور السرقة أو القتل من المقذوف.
وعن كتاب ابن كج: أن أبا الحسين حكى فيه وجهين.
وهل يقوم تمكينه من نفسه حتى وطئ في دبره مقام زناه؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين في باب الشهادة على الحدود؛ بناء على أن اللواط حكمه حكم الزنى أو لا؟
وهذا كله فيما إذا ثبت زنى المقذوف أو وطؤه وطئا حراما عند الحاكم
بإقراره، أو بينة تشهد بمشاهدته، أو على إقراره بذلك، وفي هذه الحالة الأخيرة هل يكفي [في الشهادة بها] شاهدان، أم لابد من أربعة؟
قال الإمام: [إن قلنا: يثبت الإقرار بالزنى بشاهدين كفيا هاهنا أيضا، و] إن قلنا: لا يثبت إلا بأربعة، فهل يكفي في إسقاط الحد شاهدان يشهدان بإقراره بالزنى أم لابد من أربعة؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين - أيضا - في آخر الفصل، والذي أورده الغزالي منهما: الاكتفاء؛ حيث قال: ويكفي في ذلك شاهدان. وأراد ما ذكرناه، وهو ظاهر النص؛ فإنه قال: "ولو جاء الزوج بشاهدين على إقرارها بالزنى لم يلاعن، ولم يحد، ولا حد عليها.
قال القاضي الحسين: واختلف الأصحاب في ذلك:
فمنهم من قال: أجاب على قوله: يثبت الإقرار بالزنى بشاهدين؛ فلم يحد القاذف؛ لثبوت زناها، ولم يحدها؛ لأن صورة الأمر: أنها أنكرت الزنى، أو رجعت؛ فسقط بذلك الحد عنها.
ومنهم من قال: أجاب على أنه لا يثبت الإقرار بالزنى بأقل من أربعة؛ لأنه لم يحدها، وإنما لم يحد القاذف؛ لأنه يجوز أن يسقط الحد عن القاذف، ولا تحد هي حد الزنى؛ كما لو أقام أربعة من العدول على زناها، وأقامت [هي] أربع نسوة على أنها عذراء - سقط الحد [عن القاذف، ولا تحد هي حد الزنى.
وهذان الوجهان متفقان على سقوط الحد] عنه بشهادة الشاهدين بالإقرار.
ولو لم يكن للقاذف بينة، فأراد إحلاف المقذوف على زناه، فهل له ذلك؟ قال الإمام: وكذا القاضي الحسين: فيه قولان، أظهرهما: لا، وعلى تصحيحه جرى البغوي والمتولي، وهو ما ينسب إلى النص في "الإملاء"، ووجهه: أن شريك بن السحماء الذي رميت به الملاعنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل، فأنكر، فلم يحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومقابله منسوب إلى رواية الشيخ أبي زيد؛ لما فيه من سقوط الحد عن القاذف.
قال الرافعي: وهذا هو الموافق لجواب الأكثرين.
قلت: ويعضده قول القاضي الحسين في باب النكول ورد اليمين: لو قذف رجل شخصا ميتا، وله ورثة، وأرادوا أن يحدوه، فقال: أنا أحلفكم: إنكم لا تعلمون أن مورثكم كان زانيا - فإن له استحلافهم على الصحيح من المذهب.
قال البندنيجي: وهذه اليمين ليست على حد الزنى، لأن اليمين لا مدخل لها فيه، وإنما حلف على ما ادعاه؛ ليسقط حد [القذف الذي هو حق آدمي.
فعلى هذا: إن نكل حلف] القاذف، وسقط حد القذف، ولا يحد المقذوف؛ لأن الزنى لا يثبت بعدلين، فكيف بالنكول ورد اليمين؟! وأشار الإمام إلى حكاية وجه عن رواية الشيخ أبي علي، والصحيح: الأول.
قال: القاضي: وهذا الحكم فيما إذا ادعى سرقة وحلف المدعى عليه، فنكل، وحلف المدعي - لا يقطع المدعى عليه، ويضمن المال؛ لأن القطع لا يثبت [إلا] بعدلين.
وحكى الإمام في كتاب السرقة عن الأصحاب: وجوب القطع في السرقة إذا ثبت المال المسروق باليمين المردودة، وأن من الأصحاب من خرج من مسألة الزنى إلى مسألة السرقة، ومن مسألة السرقة إلى مسألة الزنى، وأثبت فيهما جميعا خلافا.
وستكون لنا عودة إلى ذلك، إن شاء الله تعالى.
قال: ولا يجب الحد إلا أن يقذفه بصريح الزنى أو اللواط أو بالكناية مع النية، أي: ولا يجب بالقذف بغير ذلك.
ووجه وجوبه عند القذف بصريح الزنى: الآية. واللواط في معناه إذا وجب فيه الحد؛ كما هو الصحيح، أما إذا لم يوجب فيه [إلا التعزير، فلا يجب بالقذف [به] إلا التعزير.
ووجه وجوبه عند الإتيان بالكناية مع النية: أن ما لا يعتبر فيه] الشهادة ولا قبول مخاطب، كانت الكناية فيه مع النية كالصريح، أصله الطلاق والعتاق.
ودليل اعتبار النية مع الكناية سيأتي.
ووجه انتفائه عند القذف بغير ذلك فيما هو أعظم من الزنى، وهو الكفر بالله تعالى: أن القذف بالزنى أعير، وبالنسل أضر، والمقذوف بالكفر يقدر على نفيه عن نفسه بإظهار الشهادتين، ولا يقدر المقذوف بالزنى عن نفيه عن نفسه، وما عدا الكفر دون الكفر؛ فمن طريق الأولى ألا يوجبه.
قال: والصريح أن يقول: زنيت، أو: يا زان، أو: لطت، أو: يا لوطي، أو: زنا فرجك، وما أشبهه، أي كقوله: أتيت بهيمة؛ إن جعلنا إتيان البهيمة يوجب الحد، أو: نكت فلانة، أو: أولجت حشفتك في فرجها - لكن مع الوصف بالتحريم وانتفاء الشبهة، أو: زنا قبلك أو دبرك.
قال الرافعي: والخلاف المذكور في باب الإيلاء في الجماع وسائر الألفاظ [هل] هي صريحة، يعود هاهنا: فما كان صريحا وانضم إليه الوصف بالتحريم كان قاذفا.
وهكذا الحكم فيما لو قال: [لامرأة]: زنيت، أو: يا زانية، أو: يا زان، كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه في "المختصر"، أو: يا زاني، كما نص عليه في حرملة، وقال: إنه يرجم، وابن الصباغ قال: إن هذا غير جائز ولا يضر ذلك، ألا ترى أنه لو قال للرجل: يا زانية، كان قذفا، أو قال له: زنيت، وللمرأة: زنيت - كان قذفا.
وفي "الرافعي": أن الداركي قال: سمعت أبا محمد الفارسي يحكي عن نص الشافعي رضي الله عنه في الدعاوى والبينات: أن قوله للمرأة: يا زان، أو يا زاني - لا يكون قذفا. وربما نسب ذلك إلى القديم.
[قال الداركي: وطلبت ما نقله في الموضع، فلم أجده.
وعن صاحب "التقريب" حكاية قول عن القديم] فيما إذا قال [للرجل: يا
زانية، أنه ليس بقذف، والمشهور الأول.
ولو قال:] علوت على رجل حتى دخل ذكره في فرجك، أو: لاط بك فلان - كان قذفا، سواء خوطب بذلك رجل أو امرأة.
وعن المزني: أنه قال في "المختصر الكبير" - كالمنكر لذلك: "لا أدري على ماذا أقيسه؟! "، فقال الأصحاب: قسه على القبل؛ بجامع أنه وطء يتعلق به الحد.
وألحق القاضي الحسين في "فتاويه" بذلك قوله للرجل: يا مؤاجر للعادة، قال مؤلفها: والأصح أنه كناية.
والخنثى المشكل إذا قيل له: زنيت، أو: يا زانية - كان حكمه حكم الرجل، ولو قال له: زنا قبلك، أو: فرجك، قال في "البيان": الذي يقتضيه المذهب أن فيه وجهين:
أحدهما: أنه صريح.
والثاني: أنه كناية كما لو أضاف الزنى إلى اليد؛ لأن كلاهما يحتمل أن يكون عضوا زائدا.
واعلم أن الرافعي عد قوله: يا لوطي، من كنيات القذف، وهو منطبق على ما حكاه القاضي أبو الطيب في "تعليقه": أنه يرجع إليه إذا قال: [أردت بذلك][أنه على دين] قوم لوط، [لم يجب] عليه الحد، وإن قال:[أردت] أنه يعمل عمل قوم لوط، وجب عليه الحد، وعليه جرى في "المهذب".
وقال ابن الصباغ: هذا فيه نظر؛ لأنه مستعمل في الرمي بالفاحشة؛ فلا ينبغي أن يقبل قوله: إني أردت به أنه على دينهم، بل يكون قذفا.
وقد حكاه [صاحب]"الكافي" وجها، مع جزمه بأنه عند الإطلاق [يكون
كقوله]: "يا زاني"، كما حكاه الشيخ، على أن في بعض النسخ بدل قوله: "يا
لوطي"، "يا لائط"، والظاهر: أنها الصحيحة؛ ولذلك لم يتعرض النواوي لكلام عليها.
[وفي "الجيلي": أن في "البحر" أن قوله: "لطت"، أو: "يا لوطي"، ليس بصريح، وقيل: صريح].
قال: والكناية أن يقول: "يا فاجر"، [أو:] "يا خبيث"، أو:["يا] حلال ابن الحلال" [وهما في الخصومة.
أراد الشيخ بقوله: "وهما في الخصومة"، أن هذه الحالة لا تجعل قوله:"يا حلال ابن الحلال" وشبهها صريحا، كما صار إليه الإمام مالك وأحمد - رحمهما الله - لأن الخصومة شرط كونه كناية، لأن هذا اللفظ يحتمل القذف وغيره فكان كناية].
قال: فإن نوى به القذف، وجب الحد، لوجود شرط العمل بالكناية، وإن لم ينو، لم يجب؛ لأنه قد ثبت أن [في] ذلك كناية، والكناية لا تعمل بدون نية، وإلا كانت صريحا، ولأن الخصم قد وافقنا على اعتبار النية في قوله:"يا حلال ابن الحلال" في حالة الرضا كما نقله الماوردي، فنقول: ما كانت النية شرطا فيه في حالة الرضا كانت شرطا فيه في حالة الغضب كالكنايات في الطلاق،
ولأن كل ما نسبه إلى نفسه لم يكن إقرارا بالزنى، وجب إذا نسبه إلى غيره ألا يكون قذفا بالزنى؛ قياسا على حالة الرضا.
وقد عد من جملة الكنايات قول الشخص للشخص: "يا قواد"؛ فإنه كناية عن قذف زوجته، وعن الشيخ إبراهيم المروزي: أنه حكى عن أستاذه: أنه قال: هو صريح؛ لاعتياد الناس القذف به.
ومنهم من يجعله صريحا في العامي خاصة، قاله الرافعي في هذا الباب.
واعلم أن عد لفظ الشيخ: "يا حلال ابن الحلال"، من الكنايات حتى يقع بها القذف إذا نواه هو وجه لبعض الأصحاب، ولم يورد الشيخ أبو حامد وجماعة - كما قال الرافعي – سواه.
قال: والصحيح: أنه وما شابهه: [كقوله]: أما أنا فلست بزان، وأمي ليست بزانية، وما أحسن اسمك في الجيران، وما أنا بابن خباز ولا إسكاف، وما أشبهه - ليس بكناية؛ لأن الكناية هي [التي] تنبئ على المعنى وعلى غيره ولو على بعد، وهذه الألفاظ لا دلالة فيها على القذف، بل هي من المعاريض، وما يتخيل ويفهم منها، فمستنده قرائن الأحوال، وإذا لم تكن كناية، لم يحصل بها قذف وإن أريد، لأن الكناية إنما تؤثر النية فيها.
[قال]: وظاهر النص الأول؛ لأنه [قال] كما حكاه القاضي الحسين في أواخر الباب -: ولا حد في التعريض ولا في الكناية ما لم يرد به القذف.
وقد استدل الأصحاب على أن التعريض في حالة الغضب لا يكون قذفا بما
رواه الشافعي مسندا عن أبي هريرة: أن رجلا من فزارة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا
رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاما أسود؟! فقال: له النبي صلى الله عليه وسلم: "ألك
إبل؟ "، قال: نعم، [قال: "ما ألوانها؟ " قال: حمر كلها، قال: "هل فيها من أورق] "؟ قال: نعم،
قال: أنى ذلك"؟ قال: لعل عرقا نزع، قال: "كذلك هذا، لعل عرقا
نُزِعَ". فلم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا التعريض قذفا وإن كان ظاهر الحال يشهد بعضه.
وكذا قول [الرجل] الآخر للنبي صلى الله عليه وسلم: إن امرأتي لا ترد يد لامس، فقال:"طلقها"، قال: إني أحبها، قال:"أمسكها". وهذا تعريض بالقذف، ولم يجعله قذفا، ولا يقال: إن المراد: لا ترد يد ملتمس عما يطلبه من ماله؛ لأنه لو كان كذلك، لم يكن جوابه صلى الله عليه وسلم:"طلقها"، ولكان جوابه للأمر بحبس ماله عنها، على أن الرافعي عد قوله: إن امرأتي لا ترد يد لامس، من الكنايات، وعلى هذا التقدير تكون الألفاظ التي يراد بها القذف [ثلاثة أقسام:]
صريح، وقد سبق.
وكناية: وهي "يا فاجر"، أو:"يا خبيث" كما ذكره الشيخ، و"يا نبطي" للعربي، و"يا عربي" للنبطي، و"يا مؤاجر" كما حكيناه من قبل، و [هو] ما قاله القاضي أبو الطيب في هذا الباب، وقول الأجنبي للأجنبية: لست عذراء، أو: وجد معك رجل. فلو قال: الزوج لزوجته ذلك فكذلك الحكم على الأصح في "الرافعي"، وحكى عن القديم: أنه صريح. ولو قال: يا نذل، كان كناية على الأصح في "النهاية".
وتعريض: وهو "يا حلال ابن الحلال" وشبهه كما تقدم.
وهذا حكاه القاضي الحسين عن القفال في مرة، وعليه جرى الإمام، ثم حكى القاضي عن القفال أنه قال في [كرة ثانية]: جملة الألفاظ على أربعة أقسام:
قسم هو صريح.
وقسم هو كناية: إن أراد به القذف يكون قذفا، وإلا فلا، كقوله:"يا فاسقة"، "يا فاجرة"، "يابن الحلال"، "أما أمي فليست بزانية"، وهذا منطبق على ما أورده الشيخ، ثم قال القاضي: وعندي وجب أن يفرق بين قوله: "يا فاسقة، يا فاجرة" وبين قوله: "يابن الحلال""وليست أمي بزانية"؛ لأن قوله: "يا فاسقة"، أضاف إليها الفسق وعيرها بهذا اللفظ، بخلاف قوله:"يابن الحلال"؛ لأنه لم يضف [اللفظ] إليها.
وقسم ثالث: هل يجعل كناية في القذف إن أراد به القذف كقوله أما أنا فلم أزن، وأما أمي [فلم تزن]؟ فيه وجهان، والأصح: أنه لا يكون قذفا.
وقسم رابع: لا يكون قذفا بكل حال، كقوله:"بارك الله فيك" وما شابهه.
ثم في قوله للعربي: "يا نبطي"، إن قال: أردت به نبطي اللسان، [ليس بفصيح] كفصاحة العرب، أو: نبطي الدار؛ لأنه يسكن دار النبط، وكذبه المقذوف - فإن حلف القاذف فلا حد عليه، قال: القاضي أبو الطيب والحسين: ويؤدب بكلامه؛ للأذى الموهم لنفي نسبه.
وفي "الحاوي": أنه ينظر في مخرج كلامه، فإن لم يرد به الذم والسب فلا يعزر، وإن أراد به الذم والسب؛ عزر عليه للأذى، وإن نكل حلف المقذوف [عليه]- قال الشافعي رضي الله عنه: يحلف: لقد أراد نفيه، ويحد له. وظاهر هذا يدل على أنه أوجب الحد بنفي النسب دون القذف.
واختلف الأصحاب في ذلك:
فمنهم من قال: أراد إذا كان قد أراد قذف أمه بأن يقول: زنت بنبطي وأنت من ماء ذلك النبطي، [أو أراد أن جدته أم أبيه زنت بنبطي، وأنه ابن من خلق من ماء النبطي]، وحينئذ فإن كانت المرمية بالزنى محصنة جلد بطلبها، أو بطلب من يقوم مقامها، وإلا عزر، وهذا ما ذهب إليه أبو علي الطبري وأكثر أصحابنا، كما قاله أبو الطيب.
ومن أصحابنا من قال: بظاهر كلام الشافعي، وقال: نفي السبب يوجب الحد، قال القاضي أبو الطيب: وهو الصحيح عندي؛ لأن كلامه هنا لا يحتمل غيره. وحكى الطحاوي هذا عن الشافعي، رضي الله عنه.
ووجهه: ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا أوتى برجل يقول: كنانة ليست من قريش، إلا جلدته".
وحكى المراوزة وابن الصباغ هذا النص فيما إذا كان نفي النسب من أجنبي، فقال: لست [ابن فلان، وحكوا – أيضا - فيما إذا قال: الرجل لولده: لست] بابني، أنه لا يكون قذفا، وأن الأصحاب اختلفوا فيهما على طرق:
إحداها: حكاية قولين في المسألتين:
أحدهما: يكون قذفا فيهما.
والثاني: أنه كناية [فيهما]، وهو الأقيس عند الغزالي.
والثانية: القطع بالقول الأول، وهي منسوبة لابن الوكيل.
والثالثة: تقرير النصين، وهي الصحيحة في "الرافعي"، وتنسب إلى ابن أبي هريرة، لأن الوالد يحتاج في تأديب الولد إلى [مثل هذا] الكلام؛ زجرا له عما لا يليق بنسبه، فيحمل ذلك منه على التأديب، والأجنبي بخلافه.
والرابعة - عن أبي اسحاق -: أنه لا فرق بين المسألتين، وإنما أراد بقوله: حد لها، إذا اعترف أنه أراد [به] القذف، وكذلك في حق الزوج، كذا نقله ابن الصباغ عن حكاية القاضي أبي الطيب عنه، وحكى الشيخ أبو حامد عنه: أنه إنما أراد الشافعي رضي الله عنه في الزوج إذا [قال]: ليس بابني، لا يكون قذفا إذا كان [ذلك] قبل استقرار نسبه عقيب وضعه، فأما إذا قال: ذلك [بعد استقرار] نسبه منه؛ كان قذفا، وإنما قال في الأجنبي: إنه يكون قذفا؛ لأنه قال
ذلك بعد استقرار نسب المولود، والله أعلم.
قال: وإن اختلفا في النية فالقول قول القاذف؛ لأنه أعرف بكلامه.
قال الجيلي: فلو اعترف بأنه نوى، فهل نقول: وجب الحد من حين التلفظ أو من حين البيان؟ فيه وجهان، تظهر فائدة الثاني فيما إذا وطئ المقذوف بعده، وهذا إذا تأملته لم يظهر له معنى؛ لأن الحد إن وجب من حين اللفظ أو من حين البيان يسقط، وبطرآن الزنى بعده، كما لا يجب إذا كان الزنى قبله. نعم، إن أراد أنا هل نقول: وجب وسقط، أو ما وجب أصلا - لم يبعد.
فرع: هل يجب على القاذف إذا كان قد نوى القذف ولم يحلف، الإظهار؛ ليستوفي منه الحد؟ الحكاية عن الأصحاب: الوجوب؛ كما لو قتل إنسانا في خفية يجب عليه اظهاره، ليستوفي منه القصاص أو يعفى عنه.
قال الرافعي: وهذا قول [من] يوجب الحد عليه فيما بينه وبين الله تعالى.
وفيه احتمال آخر: أنه لا يجب الإظهار؛ لأن إظهار النية إتمام الأذى؛ فيبعد إيجابه.
وعلى هذا فلا يحكم بوجوب الحد ما لم يوجد الإيذاء التام، ونظم الغزالي يميل إلى ترجيح هذا، ويؤيده قول البغوي في باب حد الزنى: إن من قذف أو قتل يستحب له الإقرار؛ ليستوفي منه القصاص وحد القذف؛ لما في حقوق الآدميين من التشديد، وإذا لم يجب الإقرار بالقذف الصريح فعند بينة أولى.
لكن المنقول في "الحاوي" في كتاب السرقة وجوب الإقرار بهما، وهو ما أبداه الرافعي في باب حد الزنى احتمالا آخر: إذا قذف شخصا بحضرة الإمام والمقذوف غائب [معلوم،] فهل يجب على الإمام إعلامه بذلك؟ حكى الماوردي فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: نعم؛ لأنه حق ثبت له؛ فوجب إعلامه به، كما يلزمه إعلامه بما يثبت عنده من أمواله؛ لجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأموال والأعراض.
قال الرافعي: وهذا ما ذكره أكثرهم، وهو الذي اقتضى إيراد ابن الصباغ
والقاضي الحسين ترجيحه، وعليه حمل الشافعي رضي الله عنه[كما قال الإمام]: بعث النبي صلى الله عليه وسلم في قصة العسيف، لا لتعترف بالزنى.
والثاني: لا؛ لأنها حدود تدرأ بالشبهات، فعلى هذا يكون البعث مستحبا، [كما] حكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد.
والثالث - وهو قول ابن سريج -: أنه إن تعدى قذف الغائب إلى قذف حاضر مطالب، كرجل قذف امرأته برجل سماه، فلاعن الزوج عنها - لم يلزم الإمام إعلامه؛ لأن لعان الزوج يسقط حد القذف في حق كل واحد منهما، وكذلك لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم شريك ابن السحماء حين قذفه هلال بن أمية بامرأته، وهكذا لو كان القذف من أجنبي لرجل وامرأة بزنى واحد، فحضر أحدهما مطالبا بالحد - لم يلزم الإمام إعلام الآخر؛ لأن الحاضر إذا استوفى فهو في حقه وحق الغائب؛ لأن في زوال المعرة عن أحدهما بالحد في قذفهما زوالا للمعرة عنهما؛ لأن الزنى واحد، و [إن] لم يتصل قذف الغائب بحاضر مطالب، وجب على الإمام إعلام الغائب؛ ليستوفي بالمطالبة حقه إن شاء، كما أنفذ صلى الله عليه وسلم أنيسا إلى المرأة.
وعن أبي الفرج الزاز: أن النص في مسألتنا وجوب الإعلام، وفيما إذا أقر عنده مقر لآخر بدين: أنه لا يجب عليه إخبار المقر له، وأن للأصحاب ثلاثة طرق:
أحدها: تنزيل النصين على حالين: إن كان الذي يتعلق به الحاضر حاضرا عالما بالحال فلا حاجة إلى إخباره في النوعين، وإن كان غائبا أو غافلا عما جرى، وجب إخباره؛ كي لا يضيع حقه.
والثاني: الفرق بين الحد والمال؛ فإن الحد يستوفيه الإمام ويتعلق به، فيخبره ليستوفي إن أراد، والمال لا يختص استيفاؤه بالإمام.
والثالث: جعلهما على قولين بالنقل والتخريج، ويحكى هذا [الطريق] عن رواية صاحب "التقريب".
وعن القفال عن بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث أنيسا؛ لأنه كان قد شهد على
إقرار المرأة بالزنى أبو الزاني مع آخر، فبعث [أنيسا] ليستثبت إن رجعت عن إقرارها تركها، وإلا أقام الحد عليها.
قال: وإن [قال]: زنأت في الجبل، أي: بالهمز، [أي]: ولم ينو القذف - لم يحد؛ لأن "زنأت" في اللغة عبارة عن: صعدت، يقال: زنأ يزنأ زنئا، وزنئوا: إذا صعدوا، وزنى يزني زناء وزنى: إذا فجر.
والفرق بينهما في حقيقة اللسان وعرف الاستعمال مشهور، حكي أن امرأة [من العرب] كانت ترقص ابنا لها، وتقول:
أشبه أبا أمك أو أشبه حمل
…
ولا تكونن كهلوف وكل
يصبح في مضجعه قد انجدل
…
وارق إلى الخيرات زنئا في الجبل
وأرادت بالحمل: نجيبا من قومه، ولعله أبوه.
والهلوف: الرجل [الجافي] العظيم.
والوكل: الضعيف.
فكأنها قالت: لا تكونن رجلا ثقيل الجسم مسترخيا.
وأرادت بقولها: "قد انجدل" أي: وقع على الأرض؛ [لأنها تسمى] الجدالة.
وبقولها: "وارق" أي: اصعد.
وبقولها: "زنئا في الجبل" أي: كصعودك في الجبل.
[ومعناه: أنك تعلو بصعودك إلى الخيرات كما تعلو بصعودك إلى الجبل].
وإذا كانت حقيقة في الصعود لم يحمل على المجاز من غير نية.
وحكى الماوردي عن أبي الطيب بن سلمة: أن قائل هذا اللفظ: إن كان من أهل العربية لم يكن قذفا، وإن كان ممن لا يعرفها كان قذفا، لأن العامي [لا
يفرق] بين "زنأت" و"زنيت"، وهذا نظير ما ذكرناه في قوله لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار. أما إذا نوى القذف حد.
ولو قال: زنيت في الجبل، من غير همز، وقال: أردت الصعود - ففي القبول ثلاثة أوجه حكاها الغزالي والشيخ أبو الفرج:
أصحها: أنه قذف.
والثاني: [أنه ليس بقذف إلا أن يريده، ويروى] هذا عن صاحب "التلخيص".
والثالث: إن كان جاهلا باللغة عزر، وإن كان بصيرا بها فلا [يقبل قوله].
قال: وإن قال: "زنأت"، [أي]: بالهمز، ولم يقل: في الجبل - فقد قيل: يحد كما لو قال: "زنيت" بالياء؛ لأن ذوات الياء تهمز؛ كقوله: عنأت وعنيت، ولأنه لم يصله [فهو قذف بظاهره، وإنما يصرفه عن ذلك إقرانه بالجبل؛ لأنه يستعمل في غير لفظ] الزنى مع لفظ "الجبل". وعن الداركي: أن أبا أحمد الجرجاني نسبه إلى النص في الجامع الكبير.
وقيل: لا يحد إلا بالبينة وهو الأصح؛ لأن [اللفظ] ظاهر في الصعود.
وقد وافق الشيخ على التصحيح القاضي الحسين، وكذا أبو الطيب والرافعي ونسبه إلى القفال، وحكيا معا وجها ثالثا: أن القائل إن كان من أهل اللغة يعرف ألفاظها، لم يكن قذفا إلا أن يريده، وإن لم يكن كذلك فهو قاذف به.
وهذا منسوب في "المهذب" إلى أبي الطيب بن سلمة، وكلام ابن الصباغ يفهم حكايته عنه أيضا.
ولو قال: زنأت في البيت، فالظاهر: أنه قذف؛ قاله القاضي الحسين والرافعي؛ لأنه لا يستعمل بمعنى الصعود في البيت ونحوه.
قال: وإن قال: أنت أزنى الناس، أو: أزنى من فلان، لم يحد من غير
نية، لأنا لا نعلم أن الناس زناة، ولا أن فلانا زان حتى يكون هذا أزنى منهم
ومنه، ولأنا في الصورة الأولى نتحقق كذبه، فإن الناس كلهم ليسوا بزناة حتى
يكون هذا أزنى منهم. ووجه القاضي الحسين ذلك بأن قوله: "أنت أزنى الناس" يريد به: أنت أعلم الناس بالزنى، وكذا: قوله: "أنت أزنى من فلان" يريد: أنت أعلم [منه] بالزنى.
قال الإمام: وهذا كلام سخيف؛ كأن التعرض للزنى لا يجوز أن يحمل على العلم بالزنى، وهذا ما نص عليه الشافعي، رضي الله عنه.
وقال الماوردي: [الصحيح عندي] أنه يكون قذفا صريحا للمخاطب في الصورتين، وقد حكاه أبو الفرج السرخسي عن الداركي.
وفي "الوجيز" و"تعليق" للقاضي الحسين: أن فلانا إذا كان قد زنا، وثبت زناه بالبينة أو بالإقرار، وكان عالما به - فهو قاذف للمخاطب؛ فيحد له، ويعزر لفلان.
وإن كان جاهلا بثبوت زنى فلان، فليس بقاذف. ولو قال: أنت أزنى مني، ففي كونه قذفا وجهان رواهما ابن كج والماوردي، وقال: إن جواب الصيمري منهما: أنه صريح في القذف؛ كما لو قال لامرأة ابتداء: زنيت بك.
واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه إذا نوى بما ذكر القذف حد، وهو ظاهر لفظ "المختصر" – أيضا، وهو مما لا شك فيه في الصورة الثانية، وأما [في] الأولى: فقد قال القاضي [الحسين]: إنه يكون قذفا أيضا، وحكي عن المزني أنه لم يجعله قذفا؛ لأن القذف ما احتمل الصدق والكذب، فأما ما قطع فيه بأحدهما فليس بقذف، وهذا مقطوع فيه بالكذب؛ فصار كما لو قال لبنت اليوم: هذه زانية. ولم يورد ابن الصباغ والبندنيجي سواه.
نعم، لو قال: أردت أنه أزنى من زناة الناس، كان قذفا له دون زناة الناس؛ لأنهم غير متعينين. وعن المزني أنه لا حد عليه للمخاطب أيضا.
قال: وإن قال: فلان زان وأنت أزنى منه، حد؛ [أي:] لهما؛ كما لو قال: فلان زان وأنت زان.
وعن أبي الحسين بن القطان وابن سلمة: أنه لا يكون قذفا للمخاطب.
ولو قال: في الناس زناة وأنت أزنى منهم، أو: أزنى زناة الناس - كان قذفا له.
قال في "البسيط": وقد يعتاص الفرق بينه وبين أن يقول: أنت أزنى الناس؛ لأنا نعلم أن في الناس زناة، ولعل السبب انقطاع لفظه، وليس في لفظه إثبات زناهم، ولفظ "الناس" يتناول الكل، ومعلوم أن الناس كلهم ليسوا زناة.
قال: وإن قال: [زنت] يدك أو رجلك، لم يحد، [أي:] إلا أن ينوي به القذف؛ لأن الزنى لا يوجد في هذه الأعضاء حقيقة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما اللمس، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، ويصدق ذلك [ويكذبه] الفرج".
و [إذا كان] كذلك، لم يكن بإضافة الزنى إليهما قاذفا؛ كما لو قال: زنت عينك، وقد ادعى الماوردي: أنه لا خلاف فيه، وهذا ظاهر كلام الشافعي في القديم، وقال: البندنيجي: إنه المذهب. وبه قال أبو اسحاق، وابن أبي هريرة، ونسبا المزني فيما نقله - كما سنذكره - إلى الخطأ.
وقيل: يحد؛ لأنه أضاف الزنى إلى عضو منه، فأشبه إضافته إلى الفرج، وهو مما لم يختلف فيه، وإن كان منسوبا للقديم، وهذا القول ظاهر ما نقله المزني في "المختصر". قال الماوردي: ولم يذكره في "جامعه".
وفي "تعليق" البندنيجي: أن أبا الطيب [قال]: إن أبا اسحاق رجع عن الأول وقال بهذا. وقد حكى المصنف والغزالي [إجراء] هذا القول في إضافة الزنى إلى العين – أيضا - فتحصلنا فيه على طريقين.
قال: [وإن قال]: زنى بدنك، لم يحد على ظاهر النص، أي: في القديم؛
لأن الزنا بجميع البدن لا يكون إلا بالمباشرة؛ فلا يكون صريحا كلفظ المباشرة؛ وأيضا فإنه لو قال: زنا بدني، لم يكن صريحا في الإقرار بالزنى؛ كما قاله الإمام في كتاب الظهار؛ فكذلك إذا أضافه إلى بدن غيره، وهذا ما اختاره أبو إسحاق وابن أبي هريرة.
وقيل: يحد وهو الأظهر؛ لأن البدن هو الجملة التي فيها الفرج؛ فلم يجز أن يكون بالفرج قاذفا، وبالبدن الذي فيه الفرج ليس بقاذف، وهذا قول ابن سريج، واختاره الماوردي والمزني في "الجامع الكبير"، كما قاله ابن الصباغ، وصححه الرافعي أيضا.
ولا يخفى أن الوجهين في هذه الصورة مفرعان على [عدم وجوبه] في الصورتين قبلها، أما إذا قلنا بوجوبه ثم، فهاهنا أولى.
قال: وإن قال: وطئك فلان وأنت مكرهة، فقد قيل: يعزر؛ لأن فيما ذكره عارا وتذكارا لما جرى، فأشبه قذف المجنونة، بل أولى؛ فإن المجنونة تزجر عن الشيء القبيح بالضرب ونحوه؛ لأن لها نوع طلب، والمكرهة بخلاف ذلك؛ وهذا ما نسبه المتولي إلى النص، ويوافقه [دعوى] القاضي الحسين: أنه ظاهر المذهب، وفي "تعليق" البندنيجي نسبته إلى أبي إسحاق، ويوافقه حكاية ابن الصباغ والبغوي والرافعي ذلك وجها، وصححوه.
وقيل: لا يعزر؛ لأنه لم يضف إليها فعلا فيه، ولأنها [لا عار] عليها في الزنى مع الإكراه. ولهذا الخلاف التفات في أن وطأها مكرهة هل يسقط عفتها كما سبق؟ ويجري الوجهان فيما إذا قال: وطئت بشبهة؛ كما قال الماوردي، وفيما إذا قال: وطئت وأنت نائمة، كما قاله ابن الصباغ، ولا خلاف [في] أنه لا يجب الحد.
قال: وإن قذف جماعة، لا يجوز أن يكونوا كلهم زناة، أي: بكلمة واحدة: كأهل بغداد وغيرهم، [أي]: من أهل المدن الكبار – عزر، للكذب، ولا حد عليه؛ لأن الحد لنفي العار، ولا عار عليهم؛ للقطع بكذبه.
قال: وإن قذف جماعة، يجوز أن يكون كلهم زناة، أي: كالاثنين والعشرة والعدد المحصور.
فإن كان بكلمات، أي: مثل أن قال: لكل واحد منهم: زنيت، ونحوه - وجب لكل واحد منهم حد؛ لإلحاقه العار بكل واحد منهم.
قال: وإن كان بكلمة واحدة [،أي:] كقوله لجماعة: أنتم زناة، أو لواحد: يابن الزانيين، ففيه قولان:
أصحهما: أنه يجب لكل واحد منهم حد؛ لأنه أدخل على كل واحد منهم المعرة بقذف لم يحققه؛ فلزمه حد كامل، كما لو قذفهم على الانفراد، ولأنه من حقوق الآدميين، فلم يتداخل كالقصاص، وهذا هو الجديد.
ووجه مقابله - وهو القديم: أن الزنى آكد من الرمي به، وقد ثبت أنه إذا زنى بجماعة نسوة، لزمه عن الجميع حد [واحد]؛ فكذلك القذف.
[و] لأن الذي صدر منه لفظ واحد؛ فوجب أن يجب به حد واحد؛ كما لو قال ذلك لواحد.
فعلى هذا: لو كان بعضهم غير محصن؛ دخل التعزير في الحد من طريق الأولى.
وإذا جاء أحد المقذوفين فطلب، أقيم الحد، وسقط حق الباقين. ولو عفا أحدهم، استوفاه الباقون، حتى لو لم يبق إلا واحد استوفاه.
فرع: لو قال لامرأة: زنى بك فلان، فعلى القديم: الواجب حد واحد، وعلى الجديد: فيه قولان حكاهما ابن الصباغ وغيره:
وجه الاتحاد - وهو ما [حكاه] الماوردي وصححه، وقال: إن عليه جمهور أصحابنا -: أنه فعل واحد.
والذي رجحه الرافعي: مقابله.
قال: وإن قال لامرأته: يا زانية بنت الزانية، وجب حدان، أي: إذا كانتا
محصنتين؛ لأنه قذفهما، ولا يجئ القول القديم هنا؛ لتعدد اللفظ. نعم، لو قال: أنت وأمك زانيتان، جرى.
وفي "تعليق" القاضي الحسين و"النهاية": أنا إذا قلنا باتحاده في الأجنبيتين فهاهنا وجهان؛ لأن موجب القذفين هنا مختلف، فتعدد الحد؛ لاختلاف موجبهما.
قال القاضي: والأظهر الاتحاد.
قال: فإن حضرتا وطالبتا؛ بدئ بحد الأم؛ لأنه آكد؛ [فإنه واجب] بالإجماع. وقذف الزوجة [اختلف في وجوب الحد به؛ ولأنه لايسقط إلا بالبينة أو بالإقرار، وحد الزوجة] يسقط بهما وباللعان.
وقيل: يبدأ بحد البنت؛ لأن قذفها أسبق؛ فصار كما لو قتل رجلا ثم آخر؛ فإن القصاص [لولي الأول]، وهذا قول أبي إسحاق وابن خيران وغيرهما.
قال: والأول أصح؛ لما ذكرناه، وهو ما ادعى الماوردي: أنه ظاهر المذهب، ورجحه القاضي الحسين.
وفي ["تعليق" القاضي الحسين] و"النهاية" وجه ثالث: أنه يقرع بينهما.
ويجئ الوجهان الأخيران فيما إذا قذف أجنبيتين، إحداهما بعد الأخرى، ولا يجئ الوجه الثاني من وجهي الكتاب فيما إذا بدأ بقذف الأم أولا، ثم بالبنت بعدها؛ لفقد العلة المذكورة وترادفها مع العلة الأولى، ويجئ الوجه الأخير، وقد أشار إليه الإمام.
قال: وإن حد لإحداهما: لم يحد للأخرى حتى يبرأ ظهره؛ لأن القصد بالحد الردع والزجر مع البقاء؛ فلو جمع بين الحدين ربما أدى إلى تلفه، وكان خلاف المقصود، وبهذا خالف ما لو وجب عليه قطع اليدين في [حد] القصاص لشخصين؛ فإنه يقطع لهما في وقت واحد؛ لأن القصد من القصاص فلو أخر قطع الأخرى، ربما مات بقطع الأولى؛ فيفوت الحق.
قال ابن الصباغ: وهذا الفرق يلزم عليه أن تقطع يده في شدة الحر والبرد،
والأولى أن يقال: إن الحد مقدر بالشرع لا يزاد عليه؛ ولهذا لو كرر سببه لم يتكرر، فلو والينا بين الحدين أضر به، وأدى إلى خلاف موضوعه.
وأما القصاص: فيجوز أن يجب قطع الأطراف كلها في قصاص واحد، وإذا جاز أن يجب قطع اليدين لواحد [فيستوفيهما؛ كذلك جاز أن يستوفيهما الاثنان.
قلت: وما قاله من الإلزام في قطع اليد] في شدة الحر والبرد، قد قال به القاضي الحسين في باب [حد] الزنى إذا كانت الجناية قد صدرت في شدة الحر والبرد.
وقيل: إن كان القاذف عبدًا؛ جاز أن يوالى عليه بين الحدين؛ لأنهما كالحد الواحد على الحر.
أما إذا لم يحضر إلا إحداهما، وطلبت الحد، استوفى لها، ولم يتوقف على حضور الأخرى.
قال: وإن [قذفه بزنى واحد مرتين]؛ لزمه حد واحد؛ لأنه يحصل المقصود، وهو تكذيبه بإقامة الحد عليه، ولا فرق في ذلك بين أن يوالي بين اللفظين أو يتخللهما زمان طويل.
قال: وإن قذف بزنيين، [أي:] مثل أن قال زنيت بعمرة وزنيت ببكرة، ولم يتخللهما إقامة حد- فالمنصوص، أي: في "الأم" والقديم؛ كما قال البندينيجي: أنه يلزمه حد واحد؛ لأن فعل الزنى أغلظ من القذف به، وقد ثبت أنه لو زنى، فلم يحد حتى زنى- حد لهما حدا واحدا. وهذا ما صححه في "المهذب" ورأى ابن كج القطع به، ونسبه القاضي أبو الطيب في هذا الباب إلى قول أبي اسحاق.
قال: وقال في القديم: لو قيل: يحد حدين، كان مذهبا. فجعل ذلك قولا آخر؛ لأنهما حقان لآدمي شرعا عقوبة، فلم يتداخلا كالقصاص، بخلاف الزنى، فإنه من حقوق الله -تعالى - المحضة وهي مبنية على المسامحة.
تنبيه: ما ضبطناه من قول الشيخ بزنيين، وهو الصواب، كما قال النواوي، ويقع
في أكثر النسخ بزناءين، وهو خطأ إن قصر "الزنى"، وجائز إن مد.
قال: وإن قذفه، فحد، ثم قذفه ثانيا بذلك الزنى -عزر؛ لأجل الكذب والأذى، ولا يحد ثانيا؛ لئلا يجتمع في القذف بالزنى الواحد حدان، و [هو غير جائز؛ كما لا يجوز أن يجتمع في فعل الزنى الواحد حدان،] ويعضده [ما روي] أن أبا بكرة لما شهد على المغيرة بن شعبة بالزنى مع اثنين، ولم يكمل الرابع شهادته -جلده عمر وجلد الشاهدين، فقال أبو بكرة بعد الجلد: والله، لقد زنى، فأراد عمر رضي الله عنه أن يجلده، فقال له علي -كرم الله وجهه-: إن جلدته فارجم صاحبك فترك عمر جلده. وسيأتي معنى قول علي، إن شاء الله تعالى.
قال: وإن قذفه بزنى آخر، فقد قيل: يحد؛ لأنه قذف بزناءين، فإذا حد لأحدهما قبل وجود الآخر وجب أن يحد للآخر؛ كما لو زنى فحد، ثم زنى ثانيا، فإنه يحد ثانيا، وهذا ما جزم به المارودي، وهو الأصح عند الإمام وغيره.
[قال]: وقيل يعزر، [أي]: ولا يحد؛ لأنه قد ثبت كذبه في حقه [مرة]؛ لإقامة الحد عليه؛ فلا حاجة إلى إظهاره ثانيا؛ وهذا ما صححه النواوي، وقال ابن كج: إنه المذهب. وأثبت الخلاف في المسألة قولين، وغيره رواهما وجهين.
قال: وإن قذف أجنبية، ثم تزوجها، ثم قذفها ثانيا، إي: بغير ذلك الزنى، فإن بدأت وطالبت بالقذف الأول، فلم يقم البينة -حد؛ لأنه قذف أجنبية، وعجز عن إقامة البينة.
[قال]: وإن طالبت بالثاني، ولم يلاعن، أي: ولم يقم البينة –حد
حدا آخر؛ لأنه تعذر ما يسقط الحد من بينة ولعان وهذه طريقة أبي اسحاق
المروزي والشيخ أبي حامد، ولم يورد المارودي والبندنيجي سواها،
[سواء] قلنا في المسألة السابقة: يجب عليه حدان، كما قو القديم، أو لا يجب [عليه] إلا حد واحد؛ لأن القذف في غير الزوجة يوجب حدا [لا يسقط بالبينة واللعان، فلما اختلف حكم القذف، وجب أن يجمع عليه بين الحدين؛ ألا ترى أنه لو زنى وهو بكر، فلم يحد حتى زنى وهز محصن -جلد، ثم رجم، ولم يتداخلا؟! بخلاف المسألة السابقة؛ فإن القذفين فيها متفقا الحكم؛ فتداخلا.
وقد حكى ابن الصباغ ذلك -أيضا- عن الأصحاب، وقال هو والبنديجي: إن المزني قال في جامعه الكبير: إنه لا يحد إلا حدا واحدا.
وقد حكى الرافعي وغيره -لأجل هذا- طريقة أخرى بإجراء القولين في هذه الصورة -أيضا- وقال: أن مرجحين رجحوها، ومنهم القاضي الحسين في تعليقه، وقال: إن موجب القذفين واحد، وإنما اختلفا في المخرج، واختلاف المخرج لا يوجب اختلاف الوجهين. وإيراد صاحب التهذيب يوافقه، ولم يورد الإمام في كتاب اللعان سوى هذه الطريقة.
قال: وإن بدأت وطالبت بالثاني، ثم بالأول، فلم يلاعن، ولم يقم البينة -فعلى قولين، أي: السابقين في المسألة قبلها؛ كما قاله ابن الصباغ:
أحدهما: يحد حدا واحدا.
والثاني: يحد حدين.
وقد سبق توجيههما. وهكذا أوردهما البنديجي وابن الصباغ، ولم يحكيا الطريقة الجازمة بوجوب الحدين عند البدأة بطلب الأول ثم الثاني. وكان القياس طردها هاهنا أيضا.
وكذلك صحح النواوي قول إيجاب الحدين.
أما إذا أقام البينة، سقط الحدان، وعزر.
وإن لم يقم البينة، ولاعن، سقط الثاني دون الأول؛ لأن اللعان حجة خاصة بالنكاح؛ فلا يسقط ما وجب قبله، بخلاف البينة.
ولو طالبت بالحدين في وقت واحد، [لم يمكن] استيفاؤهما معا، ويحد للأول لسبق وجوبه إن لم يقم بينة، ثم للثاني إن لم يقم بينة ولم يلاعن.
وفي الحاوي: أنه يقال لها: الحق في القذف الثاني مشترك [بينكما؛ لأن له أن يلتعن منه، وهو في الأول خالص] لك؛ فحقك فيهما أقوى، ولا يمكن استيفاؤهما معا، فعيني ما شئت.
فلو اختلفا، فطلب الزوج تقديم الثاني ليلتعن، وطلبت تقديم الأول ليحد -كان المرجع إليها.
ولو أقيم [عليه] حد فقال: [إنما أقيم] الأول، وقالت: بل [المقام] الثاني فالقول قول الزوج؛ لأنها تريد [اسقاط حقه] من اللعان، والأصل بقاؤه.
ولو كان القذف الثاني تعين الأول؛ فلا يحد فيه قطعا، بل الواجب فيه التعذير.
وهل يلاعن؟ سبق الكلام فيه في بابه.
وهذا كله إذا لم يحد قبل القذف الثاني، أما إذا حد قبله، ولم يلاعن؛ لأجل الثاني -فيحد ثانيا.
[وقال ابن الحداد: لا يحد للثاني.
قال الشيخ أبو علي: وهذا ما رضيه أحد من أصحابنا، وقالوا: يحد ثانيا]؛ تفريعا على قول التعدد، ولا فصل بين أن يقذف في النكاح بعد أن يحد للأول أو قبله في أنه يحد للثاني إذا لم يلتعن.
فرع: إذا قذف زوجته، ثم أبانها بغير لعان، ثم قذفها بزنى آخر -فهي عكس مسألة الكتاب، وقد جزم المارودي بوجوب الحدين فيهما -أيضا_ وفي الرافعي: أنه إن التعن للقذف الأول، فهل يحد للثاني؟ فيه طريقان:
أحدهما - وبه قال ابن سريج-: نعم.
والثاني: حكاية قولين فيه.
وإن لم يلتعن، فالواجب حدان أو حد واحد؟ فيه طريقان:
أحدهما: أن فيه قولين.
والثاني: القطع بوجوب حدين؛ لاختلاف القذفين، وبه قال ابن الحداد.
قال: ولا يستوفى حد القذف إلا بحضرة السلطان؛ لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء
…
} الآية [النور: 4]، وهذا خطاب لأولي الأمر؛ فاختص بهم؛ ولأنه يحتاج إلى اجتهاد، ويدخله التخفيف، فلو فوض للمقذوف، لم يؤمن أن يحيف للتشفي، والمستوفي له بحضرة السلطان [هو] الوكيل عن المقذوف؛ كما دل عليه كلام الشيخ وغيره في باب الوكالة؛ فإن لم يوكل فمن يأمره السلطان، ولا يجوز أن يوكل فيه المقذوف، فلو فعله بإذنه لم يقع الموقع، قاله الرافعي في كتاب الجنايات.
ولو استوفاه المقذوف بنفسه دون حضرة السلطان أو نائبه، لم يقع المموقع.
وقال الإمام في هذا الباب: لا يبعد عن القياس الاعتداد به، لاسيما إذا صدر عن استسلام المحدود، وإقدام من المقذوف [صادر] عن رضاه، والذي سمعته من الأئمة، ودل عليه فحوى كلامهم في مجموعاتهم: أنه لا يقع الاعتداد به. انتهى.
وقد حكى الرافعي احتمال الإمام وجها؛ كما لو استقل من له القصاص باستيفائه.
ثم على الأول: يترك حتى يبرأ، ثم يحد.
ولو مات من الجلد، وجب القصاص إن جلده دون إذنه. وإن كان بإذنه فلا قصاص، وفي الدية وجهان كما لو قتله بإذنه، قال الرافعي في كتاب الجنايات.
قال: ولا يستوفي إلا بمطالبة المقذوف؛ لأنه محض حقه، فلم يستوف [بغير طلبه]؛ كحق القصاص، وإنما قلنا: إنه محض حقه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا". فأضاف أعراضنا إلينا؛ كإضافته دماءنا واموالنا. [والدماء] والموال مختصة بنا؛ فكذلك العراض. وقروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان إذا خرج من منزله يقول: اللهم إني
تصدقت بعرضي على عبادك". وهذا دليل على [أن عرضه] حقه، وإلا لما سقط باسقاطه، ولأنه حق لا يستوفيه الإمام إلا بمطالبة المقذوف، بوفاق الخصم -وهو أبو حنيفة- فكان من حقوق المقذوف كالدين.
وقد ادعى الغزالي والرافعي في هذا الباب: أن فيه مشابهة حقوق الله تعالى؛ لكونه لا يقع الموقع باستيفاء المقذوف، وينشطر بالرق، ولا يسقط بقوله للقاذف: اقذفني؛ كما سنذكره.
وهذا [القول] لا يخرجه عن أن يكون محض حق الآدمي؛ كما حكى المارودي: أنه مذهب الشافعي. ألا ترى أن القصاص فيه مشابهة حقوق الله تعالى؛ فإن الغرض الأظهر منه الزجر؛ لقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179]، ومع هذا لم تخرجه المشابهة عن كونه محض حق الآدمي.
قال: فإن عفا، سقط؛ لأنه محض حقه كما ذكرنا؛ فسقط بعفوه كالقصاص والدين.
وأراد الشيخ بقوله: ولا يستوفي إلى بمطالبة المقذوف، فإن عفا سقط -التنبيه على مذهب الحسن البصري- رحمه الله فإنه [جوز استيفاءه] بدون المطالبة، و [وقال: إنه] لا يسقط بالعفو.
ووافقه أبو حنيفة في عدم السقوط بالعفو.
قال: وإن قال لرجل: اقذفني، فقذفه -فقد قيل: يجب الحد؛ لأن العار يلحق بالعشيرة، فالإذن فيه لا يؤثر في حقهم، وهذا ما ادعى الإمام إجماع الأصحاب عليه [إلا من] سنذكره، وصححه القاضي الحسين قبيل باب الوقف في نفي الولد، وجزم به في "الوجيز".
وقضية ما ذكرناه من التعليل: ألا يسقط بعفوه عنه، ولم أره لأحد من الأصحاب. نعم، رأيت فيما [طالعته من الكتب -وإن لم أستحضره- حكاية وجهين فيما] إذ عفا عنه الوارث: هل يسقط، أو ينتقل إلى من لولا العافي لكان هو الوارث؟
وقيل: لا يجب لأنه محض حقه؛ فلم يجب مع بذله؛ كما لو قال له: اقطع يدي، فقطعها؛ فإنه لا يجب القصاص وفاقا.
وقد حكى الرافعي هذا الوجه -أيضا- وقال: إنه الذي عليه الأكثرون. وهو في ذلك متبع لابن الصباغ فإنه قال ذلك، وأن القاضي أبا الطيب لم يحك وجها آخر.
وقال الإمام: إنه رآه للقاضي أبي الطيب في كتابه الملقب بالمنهاج وأنه حكاه عن شيخه [الشيخ] أبي حامد، وقال: كان يرى ذلك ويزيف غيره.
قال الإمام: والفرق على الجملة عسير.
وقد فرق المرجحون الأول -ومنهم القاضي الحسين- بينه وبين قطع اليد: بأن أحدا لا يستعير لسان الغير حتى يخبر به، وقد يستعير يد الغير حتى تقطع يده إذا وقعت قيه الأكلة.
قال: وإن وجب الحد فمات انتقل الحد إلى جميع الورثة، [لأن] حد القذف موروث عندنا؛ لأنه محض حق الآدمي، كما ذكرنا؛ فكان موروثا كسائر الحقوق، وإذا ثبت أنه موروث انتقل إلى جميع الورثة [كالمال وحقوقه.
وقيل: ينتقل إلى من يرث بنسب] دون [من يرث] بسبب، أي:
كالزوج والزوجة كما صرح به أبو علي بن أبي هريرة والطبري، ونقله عنهما
القاضي أبو الطيب، ووجهه: أن الحد وجب لدفع العار، [ولا عار] على
الزوج والزوجة [لزوال الزوجية بالموت]؛ [فكانا كالأجانب]، قال الرافعي: وهذا يحكى عن ابن سريج.
وقيل: ينتقل إلى العصبات خاصة، أي: وهم الذكور، كما قاله المارودي؛ لأنهم أخص بدخول العار عليهم، كما اختصوا -لأجل ذلك- بولاية النكاح، وهذا ما نسبه المارودي إلى ابن سريج.
وقال القاضي الحسين في كتاب [اللعان: إنه الأظهر. وهو مأخوذ من قول الشافعي رضي الله عنه في كتاب] ابن أبي ليلى وأبي حنيفة: ويأخذ حد الميت ولده وعصبته.
وقال الإمام في [كتاب] اللعان: لا شك أنا إذا فرعنا على هذا: أن الأب يستحق، وفي الابن كلام، فمي أصحابنا من ورثه، وجعله على ترتيبه في العصوبة، وقدمه على من عداه، وهو ما حكاه هنا [وادعى] أنه لا خلاف فيه. ومنهم من لم يثبت [له هذا الحق؛ كما لم يثبت له حق ولاية التزويج، وهذا مخالف لنص الشافعي رضي الله عنه فإنه قال:"لو قذف ميتة، استحق ولدها حد قذفها".
وعلى هذا: هل يثبت] للمولى المعتق على هذا الوجه، كما ينتهي إليه ولاية التزويج؟ حكى الإمام [فيه هاهنا] وجهين.
قال: والمذهب: الأول؛ لما ذكرناه، وهو نصه في كتاب اللعان، حيث قال: فإن قذفها، ثم ماتت، أو قذفها بعد الموت، وانتفى من ولدها، ولم يلتعن فلورثتها أن يحدوه. وقد صححه البندنيجي والرافعي وغيرهما.
وهذا الخلاف حكاه المارودي في هذا الباب أقوالا، وفي كتاب اللعان وجوها، وهي تجري في رواية التعزير؛ كما صرح به ابن الصباغ وغيره.
ولا شك في أن الوجهين الأخيرين يجريان فيما إذا صدرا القذف بعد الموت، وهل يجري الوجه الأول حتى يرثه الزوج والزوجة؟ حكى القاضي الحسين والإمام فيه وجهين.
والفرق: أن القذف إذا كان في حال الحياة جرى والسبب قائم وهو الزوجية، وهنا انشاء القذف بعد ارتفاع السبب.
قال الإمام هنا: وهذا لا فقه له؛ لأنه الزوجية تنتهي بالموت، فلو صح هذا الاعتبار لوجب القطع بإن الزوج لا يرث شيئا أصلا.
فرع: لو قذف من لا وارث له خاص، فمات، فهل يقيم السلطان الحد؟ فيه وجهان - كما في القصاص - حكاهما المارودي.
قال الرافعي: وكذا فيما إذا قذفه ميتا، والأظهر: أنه يقيمه. و [هو] ما أورده ابن الصباغ، وقال: إن له العفو عنه؛ نيابة عن المسلمين، فإنهم يرثونه.
قال: وإن كان للمقذوف ابنان، فعفا أحدهما، كان للآخر أن يستوفي جميعه؛ لأنه حق شرع مقدارا لدفع المعرة، وهي باقية في حق غير العافي؛ فكان له استيفاؤه، فعلى [هذا] قال المارودي في هذا الباب: إذا لم يعف واحد منهما كان لكل [واحد] منهما أن يستوفيه. ولعله محمول على ما إذا غاب أحدهما وحضر الآخر ولم يعف، [وهو ما صرح به كذلك في كتاب اللعان، فإذا استوفى سقط حق الآخر] كما ذكرنا فيما إذا قذف شخصين بكلمة واحدة، وقلنا: يتحد الحد.
وقيل: يستوفي النصف؛ لأن حد القذف متبعض؛ فاستوفى منه بقدر ميراثه، ولا يستوفي جميعه كالدية، وهذا قول أبي الحسين بن القطان؛ كما قال الماوردي في كتاب اللعان.
فعلى هذا: لو كان للميت أكثر من ابنين، واقتضى التوزيع كسرا - كمل الكسر في الإسقاط.
وقيل: يسقط الباقي كالقصاص.
قال: والمذهب الأول كما ذكرناه، وهو الذي أورده ابن الصباغ والبندنيجي، وكذا المارودي في هذا الباب، وقال القاضي الحسين والإمام والرافعي: إنه الأظهر.
وفرق بينه وبين القصاص: [بأن القصاص] إذا سقط رجع فيه إلى بدل وهو الدية؛ فلم يسقط حقه بالكلية بعفو غيره، ولا كذلك حد القذف؛ فإنه لو سقط لسقط لا إلى بدل، ولأن تأثير الجناية لا يتعدى المجنى عليه؛ فقام جميع ورثته فيه مقامه، ولا كذلك القذف.
والفرق بينه وبين الدية: أن الدية لما تبغضت في الوجوب جاز أن تتبعض في الاستحقاق، وحد القذف لما لم يتبعض في الوجوب لم يتبعض في الاستحقاق.
وقد حكى القاضي الحسين في هذا الباب الخلاف في [هذه] المسألة وجوها ثلاثة عن تخريج ابن سريج، وعليه يتخرج ما لو كان القاذف أحد الورثة، سواء وقع القذف قبل الموت أو بعده.
وعلى المذهب قال البندنيجي: تكون جملة الحقوق على ثلاثة أضرب:
أحدها: حق يثبت لجميع الورثة، وإذا عفوا إلى واحدا ثبت له، وهو ما ذكرناه، وحق الشفعة، والغنيمة.
[قال]: ومنه الولاية على اللقيط؛ على المذهب.
والثاني: حق يثبت للجماعة على الاشتراك، ولكل واحد منه حصته، سواء ترك شريكه حقه أم لا، وهو المال.
والثالث: [حق] يثبت على الاشتراك [لجماعة]، فإذا عفا بعضهم سقط الجميع، وهو القصاص.
قال: وإن قذف عبدا ثبت له التعزير، أي: دون سيده؛ لأن السيد إنما يملك من الرقيق ما يعود إلى معنى المالية، وهذا يثبت لأجل العرض، وهو لا يملكه كما لا يملك دمه.
والعرض، قال القاضي الحسين: عبارة عن محل المدح والذم من الإنسان. وعلى هذا: لو قذفه المولى عزره القاضي؛ لأنه تصرف فيما ليس له؛ كما لو قذف عبد الغير؛ قاله القاضي الحسين، وهو محكي في "الرافعي" في باب حد الزنى عن "التهذيب"، وهو الأصح في "الوجيز".
وفي "الرافعي" وغيره وجه: أنه ليس له طلب التعزير، ولكن يقال للسيد: لا تعد، فإن عاد، عزر حينئذ؛ كما يعزر إذا استخدمه فوق ما يتحمله.
قال: فإن مات سقط؛ لأن العبد لا وارث له، والمولى لا يملك عنه بجهة الملك، فإذا لم يملك عنه في حياته فبعد موته أولى. وهذا أظهر في "تعليق" القاضي الحسين، وربما نسب إلى القفال.
وقيل: ينتقل إلى السيد، وهو الأظهر؛ لأنه حق ثبت للملوك؛ فكان المولى أحق به كمال المكاتب، وهذا ما رجحه أبو حامد والروياني.
قال الأصحاب: وليس هو على سبيل الإرث، [بل] لكونه أخص به؛ كما نقول فيما خلفه من بعضه حر [وبعضه رقيق]، فيما جمعه بحريته: إنه يكون لمالك الرقيق منه.
وفي "المهذب" و"الحاوي" و"الشامل" وجه آخر: انه ينتقل إلى عصبات العبد الأحرار؛ لأنه [حق ثبت له لنفي العار فكان عصابته أحق به.
وقيل: إذا قلنا:] لا يستوفيه السيد، فهل يستوفيه السلطان؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه فيمن لا وارث له.
قال الرافعي: فيخرج من هذا وجه رابع: أنه يستوفيه السلطان.
وقد نجز شرح [ما في] الباب، ولنختمه بفروع:
إذا قال: زنيت بفلانة، وكذبته - حد حد الزى، وحد القذف إن لم يقم بينة، فلو كذب نفسه سقط عنه حد الزنى، وهل يسقط حد القذف؟ ذكر في "العدة" فيه قولين:
أحدهما - ولم يذكر صاحب "التلخيص" غيره -: أنه لا يسقط.
[والثاني - وهو المنصوص عليه للشافعي -: أنه يسقط]؛ لأن قوله: زنيت بفلانة، إقرار واحد وكلام واحد، والمقصود [منه]: الإقرار بالزنى، فإذا رجع
قبل في الكل. قاله في الزوائد.
للسيد أن يقيم حد القذف على مملوكه عبدا كان أو أمة، صرح به الماوردي والقاضي الحسين، وقضيه ما سنذكره من إجرء الخلاف في حد الشرب أن يجري هاهنا.
حد القذف، هل يستوفي في شدة الحر والبرد؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم؛ كالقطع في القصاص.
والثاني: لا؛ لأن الحد [ليس] من أسباب التلف غالبا، بخلاف القطع، قاله القاضي الحسين.
وإذا وجب على مريض، قال في "الحاوي": كما إذا وجب الجلد في حد الزنى.
وقال ابن كج: يقال للمستحق: إما أن تصبر إلى البرء، أو تقتصر على الضرب بالعثكال.
وفي "التهذيب": أنه يجلد بالسياط، سواء كان مما يرجى زواله أو مما لا يرجى؛ لأن حقوق العباد مبنية على الضيق.
إذا عفى عن حد القذف على مال، هل يثبت؟ فيه وجهان، المنسوب إلى أبي اسحاق: الثبوت. إذا تقاذف شخصان، لم يتقاصا؛ لأن التقاص إنما يكون عند اتفاق الجنس والصفة، والحدان لا يتفقان في الصفة؛ إذ لا يعلم [فيهما] التساوي؛ لاختلاف القاذف والمقذوف في الخلقة والضعف؛ ذكره القاضي الحسين وغيره.
إذا قال لامرأته: زنيت بفلانة، أو: زنيت بك أو أصابتك [فلانة]، أو: وطئك رجلان في حالة واحدة – عزر.
إذا قذف الصغيرة التي لا يجامع مثلها؛ عزر، هل يعزر في الحال أو [لا يعزر إلا] بعد بلوغها؟ فيه وجهان، فإن قلنا بالأول، فهل يتوقف على مطالبة وليها به، أو هو موكول إلى الإمام؟ فيه وجهان في "الحاوي".
ولو كانت من يجامع مثلها، وقف على بلوغها جزما، فلو كانت زوجته، وأراد أن يلتعن قبل بلوغها، ففيه وجهان سبقا [في موضعهما. والله أعلم].