الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب حد قاطع الطريق
قاطع الطريق سمي بهذا الاسم؛ لأنه يمنع الناس المرور للخوف منه، وجمعه: قطاع [وقطع]؛ كغائب وغيب، وحائض وحيض.
والأصل في إثبات هذا الحد قوله - تعالى -: {انما جزؤا الذين يحاربون الله ورسوله} الآية [المائده: 33]؛ فإنها نزلت - كما قال ابن عباس، وعامة الفقهاء - في قطاع الطريق من المسلمين، على ما حكاه ابن الصباغ وصاحب "الكافي".
وقد قيل: إنها نزلت في المرتدين من العرنيين حين ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الرعاه، واستاقوا إبل المسلمين، فأنفذ صلى الله عليه وسلم من جاء بهم، وقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم -[وقيل: سمر أعينهم -] وألقاهم بالحرة حتى ماتوا، وهذا قول أنس بن مالك.
قال القاضي الحسين: ونزلت ناسخة للمثلة.
والسمل: أن تفقأ العين بشوكة أو حديدة، والسمر: كحلها بمسامير محماة.
قال القاضي أبو الطيب: وفعله [النبي] صلى الله عليه وسلم بهم؛ لأنهم كانوا قد فعلوه بالرعاة؛ كما [حكاه أبو بكر] بن المنذر.
وقيل: إنه كان مشروعًا في قطاع الطريق، ثم نسخ بالنهي عن المثلة.
وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم فعله باجتهاده ثم نهي عنه.
وقيل: [إنه] أراد ذلك ولم يفعله، وهذا قول السدي [كما] حكاه أبو الطيب.
وقيل: إنها نزلت في قوم من أهل العهد نقضوا العهد وأخافوا السبيل، وتعلق هذا القائل بأن محاربة الله ورسوله إنما تكون من الكفار. قال الماوردي: وهذا قول ابن عباس.
وقد روى أبو داود عنه أنه قال: إنها نزلت في المشركين. لكن في رجاله الحسين بن واقد، وفيه مقال.
وطريق الجمع بين ما نقله ابن الصباغ عنه [و [بين ما نقله] الماوردي – أن: عنه] في ذلك روايتين؛ كما حكاهما القاضي الحسين، وقال: إن الأصح: الأولى، ودليلنا عليها قوله تعالى:{إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} [المائدة: 34]، ولو كان المراد الكفار لكانت التوبة تسقط عنهم القتل قبل القدرة وبعدها، والمحاربة قد تكون من المسلمين، قال الله تعالى في حق المربين:{فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [البقرة: 279]، وسماهم: محاربين؛ لتفاحش جنايتهم وعظم جرمهم.
قال صلى الله عليه وسلم: "من آذى لي وليا [من أوليائي] فقد بارزني بالمحاربة"؛ كذا ذكره القاضي الحسين.
قال: من شهر السلاح وأخاف السبيل، أي: من رجل أو امرأة في مصر أو غيره، وجب على الإمام طلبه، [أي:] سواء أخذ شيئا وقتل، أو لا؛ لأنه إذا ترك قويت شوكته، وكثر الفساد به في قتل النفوس وأخذ الأموال.
والسبيل: الطريق، والمصر: البلد الكبير، وجمعه: أمصار.
والمراد بغير المصر: القرى والبوادي، وإخافة السبيل إنما تحصل كما قال الأصحاب بأن يكون للقطاع شوكة يقدموا معها على المجاهرة بالقتال للقتل وأخذ المال، وأكثر ما يقع ذلك في البوادي والمواضع البعيدة عن العمران، فيرتصدون في المكامن الدقاق، فإذا وافوهم برزوا قاصدين الأموال غير مبالين بالأنفس، وقد يتفق ذلك في البلاد لضعف السلطان، أو بعده بحيث لا يلحق من فيها غوثه لو استغاث، ومن صورة: إذا خرج أهل [أحد] طرفي البلد على أهل الطرف الآخر؛ بحيث لا يلحقهم غوث لو استغاثوا، فلو كان يلحقهم فالخارجون منتبهون لا قطاع، قاله الرافعي، وهذا الحكم إذا كانوا بين قريتين يمكن لحوق الغوث من إحداهما؛ كما قاله القاضي الحسين.
وفي "الحاوي": أنه [إن] اتفق شهر السلاح في وسط المدن الكبار الذين لا يقاومون جميع أهلها، وأخذ بسبب ذلك المال، ففي جريان الحكم عليهم وجهان: أحدهما – وهو قول أكثر أصحابنا -: أنهم قطاع؛ لأنهم تغلبوا بالسلاح [جهارا] فألحق ذلك بالصحراء؛ لأن حد المحاربة: أن لا يقدر على دفع المحارب، وهو موجود.
والثاني – وهو [الأقيس، واختيار] الشيخ أبي حامد -: أنه لا يجري عليهم حكم الحرابة؛ لوجود الغوث فيه؛ فسقط حكم نادره، وهذا ما أورده القاضي الحسين.
ويقرب من هذه الصورة: ما لو دخل جماعة دارا بالليل بالمشاعل شاهرين
[السلاح] مكاثرين، ومنعوا أصحابها من الاستغاثة في قوة السلطان وحضوره
فيهم، فأظهر الوجهين: أنهم قطاع، وبه قال القفال، وهو المذكور في "التهذيب"؛
لأن المنع [من] الاستغاثة كالبعد عن محل الغوث [في التعلق] واعتماد
القوة، ومقابله: أنهم سراق؛ لأنهم يبادرون خوفا من الشعور بهم، ثم إنهم يعتمدون البوادي [خوفا]؛ لأن [الطلب] يلحقهم.
قال الغزالي: ولا يبعد جعلهم مختلسين؛ لمجاهرتهم بفعلهم.
قال الرافعي: وهذا ما يشعر به كلام الروياني وغيره، وقد صرح به البندنيجي فيما إذا كان دخولهم بالنهار، ومنعوا المدخول عليهم من الاستغاثة، وكانوا لو استغاثوا للحقهم الغوث.
ويقوم مقام الشوكة عند القاضي الحسين والأصحاب – كما حكاه الإمام عنهم – فضل القوة إذا خرج [واحد أو] شرذمة قليلة، وفيهم قوة على جماعة لم يكثر عددهم كانوا قطاعا، [وقد] حكاه البندنيجي فيما إذا خرج الواحد، وقهر أهل قرية واستولى عليها.
ويقرب منه – [كما] قال الرافعي – ما أورده ابن كج: أنه إذا أقام خمسة أو عشرة في كهف أو على ساحل جبل، فإن قرب منهم قوم لهم شوكة لم يتعرضوا لهم، وإن مر [بهم] قوم قليلو العدد قصدوهم بالقتل وأخذ المال؛ فحكمهم حكم قطاع الطريق في حق الطائفة اليسيرة، وإن تعرضوا للأقوياء واستلبوا شيئا فهم مختلسون.
وعن المسعودي: أنه لو اجتمع جماعة قليلون في المواضع المنقطعة، فأخذوا المال وقتلوا، أو خرج واحد أو اثنان آخر القافلة، [واستلبوا] شيئا، أو اعترضوهم بغير سلاح – لم يكن حكمهم حكم القطاع.
ورأى الإمام: أن يفصل القول في الرفقة اليسيرة والواحد والاثنين، فقال:
إن كان خروجهم في مثل ذلك الطريق] يعد [تضييعا وتغريرا بالنفس والمال،
فالمتعرضون لهم لا يجعلون قطاعا، وينزل خروجهم – والحالة هذه – كترك
المال في موضع لا يعد حرزا في باب السرقة. وأقام ما رآه وجها.
قلت: وما قاله الإمام هو الذي اقتضاه كلام الأصحاب، وإن لم يصرحوا به؛ لأنهم قالوا: لا بد في [قطع] قاطع الطريق من أن يأخذ المال من حرز على الأصح، وبه جزم أكثرهم، وقالوا: اللحاظ حرز في الصحراء في باب السرقة إذا [كان الملاحظ] يقدر على المنع لو اطلع على السارق، فلو كان ضعيفا، والموضع بعيد عن الغوث – فهو ضائع من المال. ولو كانت الرفقة عددا يتأتى منهم دفع القاصدين ومقاومتهم فاستسلموا حتى قتلوا وأخذت أموالهم – فالقاصدون ليسوا بقطاع؛ لأن ما فعلوه لم يصدر عن شوكتهم وقوتهم، بل الرفقة ضيعوا.
قال الرافعي: ويجوز أن يقال: ليست الشوكة بمجرد العدد [والعدد]، بل يحتاج مع ذلك إلى اتفاق كلمة وواحد مطاع، وعزيمة على القتال واستعمال السلاح، والقاصدون للرفاق هكذا يكونون في الغالب، والرفقة في الغالب لا يجتمع لهم كلمة، ولا يضبطهم مطاع، ولا يكون لهم عزيمة على القتال، وخلوهم عن هذه الأمور ينجر بهم إلى التخاذل، لا قصدا منهم؛ فما ينبغي أن يجعلوا مضيعين، ولا أن يخرج القاصدون لهم عن كونهم قطاعا.
ويستوي في السلاح: الدبوس والسيف والقوس والعصا، قال البندنيجي: وكذا الحجارة.
وحكي القاضي الحسين والإمام: أن القاطع إذا كان له فضل قوة كفى اللكم واللطم باليد.
واعلم أن الشيخ أراد بذكر المصر التنبيه على مذهب الخصم، وهو [الإمام]
مالك – رضي الله عنه – فإنه لا يرى الخارجين [فيه، ولا يقر به ما لم ينتهوا
لى ثلاث مراحل قطاعا، وأبو حنيفة – أيضا – لا يرى الخارجين في] المصر
قطاعا، والشافعي – رضي الله عنه – يقول: أراهم في المصر إن لم يكونوا أعظم
ذنبا فجنايتهم واحدة. وأراد أن جناياتهم في المصر أشنع؛ فلا أقل [من أن] تكون مساوية لما في الصحراء.
قال: فإن وقع قبل أن يأخذ المال ويقتل عزر؛ لأنه تعرض للدخول في معصية عظيمة فعزر، كما لو تعرض للزنى بالقبلة والملامسة، والسرقة بالنقب.
ولا فرق في ذلك بين أن يأخذ أحد من رفقته نصابا ويقتل أو لا، وإن كان ردءا له – كما ذكرنا في السرقة – أنه لا يقطع من لم يأخذ، وإن أخذ رفيقه كان هو رداء له؛ لأنه حد وجب بارتكاب معصية؛ فلا يجب على المعين [دون المباشر] كحد الزنى والقذف، وجنس هذا التعزيز وقدره موكول إلى رأي الإمام عند الجمهور كغيره من التعزيرات.
قال ابن الصباغ حكاية عن ابن سريج: وإذا أراد حبسه فالأولى أن يكون في غير بلده؛ ليكون أزجر له وأوحش عليه، وانتهاؤه غير مقدر أيضا، بل يحبس مدة يحصل بها الردع والزجر.
وفي "الحاوي": أنه هل يتعين الحبس في هذا التعزير؟ فيه وجهان.
فإن قلنا: لا يتعين، جاز للإمام تركه إذا رأى المصلحة فيه.
وإن قلنا: يتعين، فلا يجوز تركه [إلا أن تظهر توبته؛ لأنه واجب بسبب قطع الطريق؛ فلم يجز تركه] كالقطع.
ثم في أي موضع يحبس؟ فيه وجهان:
أحدهما: في بلده.
والثاني – وهو قول ابن سريج -: في غير بلده؛ لأن النفي في الحرابة منصوص عليه، وهو زيادة في حد الزنى؛ لما فيه من ذل الغربة والبعد عن الأهل والوطن، وهل تتقدر مدته؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا، ويعتبر فيه الإنابة وظهور التوبة.
والثاني: تتقدر؛ لأنه قد أقيم في الحرابة مقام الحد، وعلى هذا ففي قدر المدة وجهان:
أحدهما – وهو قول أبي عبد الله الزبيري -: أنه مقدر بستة أشهر؛ كي لا يزيد على تغريب الزنى في حق العبد.
والثاني – وهو الظاهر من قول ابن سريج -: أنه مقدر بسنة.
وحكي في "الذخائر" وجها: أنه يعزر] بضرب ثمانين.
وسيظهر لك مما سنذكره في باب التعزير أنه يعزر [بما دون المائة، وإن زاد على ثمانين، وطريقة الإمام حكاية وجهين في جنس التعزير:
وأصحهما: ما حكيناه عن الجمهور.
والثاني: أنه يغربه وينفيه إلى حيث يراه، وليختر جهة يحتف بهم فيها أهل النجدة والناس؛ حتى لا يتأتى منهم الترصد للناس والعود إلى ما كانوا عليه، وإذا عين صوبا منعه من أن يعدل عنه ويسير حيث شاء.
وعلى هذا، فهل يعزره في البلد المنفي إليها بضرب وحبس وغيرهما، [أم يكتفي][بالنفي؟] فيه وجهان.
قال: وإن أخذ نصابا لا شبهة له فيه، وهو ممن يقطع في السرقة قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى.
قد تقدم الدليل على أن قوله تعالى: {إنما جزاؤ الذين يحاربون الله ورسوله} [المائدة: 33] نزلت في قطاع الطريق، وهي وإن اقتضى ظاهرها التخيير، فالمراد بها عندنا: الترتيب، كما سنذكره، ووجهه ما روى الشافعي – رضي الله عنه – عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال في قطاع الطريق: إذا قتلوا [ولم يأخذوا المال، قتلوا، وإن أخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا أخذوا] المال ولم يقتلوا – قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، ونفيهم إذا هربوا: أن يطلبوا حتى يؤخذوا فيقام عليهم الحد. وقد روي مثل ذلك عن قتادة وأبي مخلد.
قال الأصحاب: وقول ابن عباس [إما أن يكون توقيفا أو لغة، وأيما كان وجب المصير إليه.
وقد روى أبو داود في "سننه" – كما قال الماوردي – عن ابن عباس أنه قال]: وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بردة الأسلمي، فجاء ناس يريدون الإسلام، فقطع عليهم أصحابه، فنزل جبريل بالحد فيهم: أن من قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف.
قال: وهذا بمنزلة المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما نزل به جبريل – عليه السلام – لا يعلم إلا منه صلى الله عليه وسلم.
ومن جهة المعنى: أنه ساوى السارق في أخذ النصاب على وجه لا يمكن الاحتراز منه، فساواه في قطع اليد اليمنى، وزاد عليه بإخافة السبيل شهر السلاح، فغلظ [عليه] بقطع الرجل، وقد روي ما يدل على هذا المعنى، روي ابن لهيعة عن يزيد بن [أبي] حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه [أنس] يخبره أن هذه الآية نزلت في العرنيين، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القصاص [فيمن حارب]، فقال:"من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده لسرقته، ورجله لإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه"، ولا تنافي بين ذلك وبين الآية؛ لأن كلمة "أو" قد وردت في الكتاب العزيز للترتيب، قال الله تعالى:{وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} [الصافات: 147][معناه: ويزيدون].
والمحوج إلى ذلك – مع ما ذكرناه -: أن اختلاف العقوبات يوجب اختلاف أسبابها في الغلظ والخفة، والتخيير مفض إلى أن يعاقب من قل جرمه بأغلظ العقوبات، ومن كثر جرمه بأخفها، وهو ضد ما ذكرناه، والترتيب يمنع من هذا التناقض، ويستأنس له بأن الله – تعالى – بدأ بالأغلظ؛ فوجب أن يكون على الترتيب؛ لأنه عرف القرآن، دليله كفارة القتل والظهار، ولو كان المراد التخيير لبدأ
فيها بالأخف مثل كفارة اليمين، والله أعلم.
ثم لا فرق [فيما ذكرناه] بين أن يكون النصاب [المأخوذ] لواحد أو لجماعة الرفقة إذا كان في حرز واحد، كما لا فرق بين أن يكون لواحد [أو جماعة] في السرقة.
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمورا:
أحدها: عدم اعتبار الحرز حيث اعتبر النصاب، وانتفاء الشبهة [في] الآخذ، وكونه ممن يقطع في السرقة، وسكت عن ذكر الحرز، وهو وجه حكاه الماوردي عند انفراد الآخذ عن القتل، ووجهه بأن الإحراز لا يؤثر مع القاهر الغالب، ووجهه القاضي الحسين بأنه في قطع الطريق تفاحشت جنايته فغلظ عليه.
والمشهور – وبه جزم البندنيجي وأبو الطيب وابن الصباغ والمصنف في "المهذب"-: اعتباره حتى لو أخذ مال من انفرد عن القافلة، أو أخذ من الجمال المقطرة، وقد ترك صاحبها تعهدها، ونحو ذلك – لا قطع عليه؛ لأنه قطع يتعلق بأخذ المال، فشرط فيه الحرز كقطع السرقة.
الثاني: أن الآخذ إذا كان له في المال شبهة لا يقطع.
وفي "تعليق" القاضي الحسين أن الابن إذا أخذ مال أبيه هل تقطع يده ورجله؟ فعلى قولين:
أحدهما: يرعى [فيه معنى السرقة فلا يقطع، والآخر يقطع؛ لأنه محض حق الله تعالى، وهذا] الخلاف له التفات على ما إذا قتل من لا يقاد به في المحاربة.
الثالث: أن الذمي يقطع في المحاربة؛ لأنه يقطع في السرقة، وكذا المعاهد على أحد القولين. وقد صرح الأصحاب بعدم قطعهما، وهو خارج – أيضا – من كلام الشيخ؛ لأن الذمي والمعاهد بالحرابة انتقض عهده وصار من أهل الحرب، والحربي لا يقطع في السرقة، فلا يقطع هاهنا، وحينئذ فيكون المراد بمن يقطع في السرقة المسلم أو المرتد البالغ العاقل المختار، رجلا كان أو امرأة.
فروع:
لو كان قاطع الطريق فقيد اليد اليمنى والرجل اليسرى، قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، ولو كان فقيد [اليد] اليمنى [أو الرجل] اليسرى اكتفي بقطع الموجود؛ كما يكتفي بقطع اليد الناقصة في السرقة، وهذا ما حكاه العراقيون.
وقال الإمام: إنه لم يره منصوصا [عليه في طرق المراوزة، ولكنه الذي يقتضيه القياس.
وفي "الحاوي" نسبته] إلى الشيخ أبي حامد، وحكي وجها آخر – وقال: إنه عنده أشبه – أن يكون الموجود تبعا للمفقود، ويعدل إلى يده اليسرى ورجله اليمنى؛ لأن قطع كل طرف [منهما مقصود في نفسه، وليس أحدهما في أصل الخلقة من الآخر، بخلاف الأصابع التي هي من خلقة] الكف؛ فافترقا.
وقال الإمام: قد يخطر للفقيه أنا إذا وجدنا اليد اليمنى ولم نجد الرجل، أنا نعدل إلى اليد اليسرى بدلا عن الرجل اليسرى؛ فإنا لو لم نجد الرجل اليسرى واليد اليمنى لقطعنا اليد اليسرى والرجل اليمنى. وهذا لا تعويل عليه، ولا وجه إلا ما ذكره العراقيون.
ولو عاد بعد قطع اليد والرجل يقطع الطريق، قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى.
ولو قطع الإمام ذلك ابتداء، قال الماوردي: فقد أساء، ولم يضمن، ووقع ذلك موقع الإجزاء، ويخالف ما لو قطع يده اليمنى ورجله اليمنى؛ فإنه يجب عليه القصاص إن كان عالما، والدية إن كان جاهلا، ولا يجزئ عن قطع الرجل اليسرى؛ لأن الله – تعالى – نص على قطعهما من خلاف؛ فأوجبت مخالفة النص الضمان، وتقديم اليمنى على اليسرى] في الحرابة اجتهاد؛ فسقط] بمخالفته الضمان.
واعلم أن ما قطع [هنا] أولا من اليد أو الرجل لا يتوقف قطع العضو الآخر على برئه ولا على حسمه بالنار؛ لأنه حد واحد. نعم، لو خاف على نفسه من القطع الأول إن لم يحسم قبل القطع الثاني فيحسم الأول ثم يقطع الثاني.
والحسم هل هو حق لله تعالى أو للمقطوع؟ فيه الخلاف السابق في السرقة، صرح به الماوردي [والقاضي الحسين].
قال: وإن أخذ دون النصاب [لم يقطع]؛ لأنه قطع يجب بأخذ المال، فاعتبر فيه النصاب كما في السرقة، وهذا ما نص عليه في "المختصر".
فعلى هذا يعزر تعزيز من لم يأخذ كما تقدم.
وقيل: فيه قول مخرج: أنه يقطع، أي: مما إذا قتل في المحاربة من لا يكافئه، وهذا قول ابن خيران.
قال ابن الصباغ وأيده بأن قال: الحرز غير معتبر في هذا القطع؛ فكذلك النصاب.
قال الماوردي: ووجدت لابن أبي هريرة كلاما يدل عليه – أيضا – وأنه يقطع في قليله وكثيره، كما كان [الاستخفاء بأخذه غير معتبر في الحرابة، وإن كان] معتبرا في السرقة.
قال: وليس بشيء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "القطع في ربع دينار فصاعدا"، ولم يفصل.
وأما الحرز فهو معتبر على الصحيح كما ذكرنا، والفرق بين ما نحن فيه والكفارة من وجهين، كما حكاهما مجلي عن الشيخ أبي حامد:
أحدهما: أن القطع المستحق في السرقة والمحاربة جميعا لله – تعالى – فلا يختلف المستحق به، كالزنى لما كان حده لله – تعالى – لم يختلف الأمر فيه بين أن يزني بحرة أو أمة، وفي القتل: المستحق في [المحاربة الله تعالى والولي، وفي] غير المحاربة: الولي؛ فجاز أن يختلف المستحق به كما اختلف المستحق.
والثاني: [أن النصاب [هو الأصل في الموضعين في وجوب القطع، فإذا لم يوجد النصاب] سقط القطع، وليس كذلك القود؛ لأن الأصل في وجوبه هو القتل، والذي عدم صفة من صفات المقتول؛ فجاز أن يثبت حكم الأصل، وإن كان الوصف معدوما].
وقد وافق الشيخ على تضعيف قول ابن خيران الجمهور.
وقال الماوردي عندي أن النصاب في المال معتبر إن انفراد المحارب بأخذه ولم يقتل، [ولا يعتبر] إذا اقترن بأخذه القتل؛ لأن القطع في الحالة الأولى مقصود، وهو مغلظ بقطع الرجل، فلا يغلظ بإسقاط النصاب، وفي حالة اقتران القتل بالأخذ المال تبع، [ولا تغليظ في] القتل؛ فغلظ بإسقاط النصاب.
والنصاب هاهنا: ربع دينار، [أو ما قيمته ربع دينار؛] كما في السرقة، ولا يزاد لأجل قطع الرجل، والقيمة تعتبر في زمان الأخذ ومكانه إن كان موضعا جرت العادة فيه ببيع وشراء، ويوجد فيه من يبيع ويشتري، وإن كان لا يوجد ذلك اعتبرت قيمته [في أقرب] المواضع التي يوجد فيها بيع ذلك وشراؤه، ولا يعتبر قيمة ذلك عند استسلام الناس لأخذ أموالهم بالقهر والغلبة.
قال الماوردي: وهذه صفة القيمة في اعتبار النصاب في هدم المستهلك.
قال: فإن قتل – أي: عمدا عدوانا – من يكافئه؛ لأجل أخذ المال؛ كما قاله البندتيجي – انحتم قتله، لما ذكرناه من الآية مع قول ابن عباس وغيره، ووجه انحتام القتل بالتغليظ عليه؛ لأن كل جرم أوجب عقوبة في غير المحاربة اقتضى تغليظها في المحاربة؛ كأخذ المال.
ومنهم من تمسك بقوله تعالى: {أن يقتلوا} [المائدة: 33]، قال: وظاهره
الإيجاب؛ لأنه أمر مقيد بشرط.
وحكم الجرح [في المحاربة] والموت به بعد أيام قبل الظفر والتوبة، حكم القتل صبرا، قاله الإمام، وأبدى احتمالا فيما لو حصل الموت بعد الظفر والتوبة في عدم تحتمه، وقال: لعله الأظهر؛ نظرا [إلى حالة] الجرح، وأنه يلتفت على ما إذا جرح كافر كافرا، ثم أسلم الجارح ومات المجروح؛ [فإن في] وجوب القصاص على الجارح قولين.
ومعنى الانحتام: أنه لا يسقط بعفو ولي القصاص ولا بعفو السلطان؛ كما في قتل من لا وارث له، ويستوفيه السلطان دون الولي.
وقد قدمت في باب من لا يجب عليه الدية بالجناية، عن الماوردي شيئا في ذلك، وقد وافق الفريقان على ما ذكرناه من الانحتام، لكن اختلفوا في أن هذا القتل لمحض حق الله – تعالى – أو للحقين والمغلب فيه حق الله – تعالى – [أو حق] الآدمي كما ذكرته في باب: من يجب عليه القصاص، مع بعض الفروع المترتبة عليه، وما يرد على الغزالي وإمامه فيه، وبقية الفروع نذكرها هنا، إن شاء الله تعالى.
قال الأصحاب حكاية عن النص: وإذا قتل سلم إلى أهله ليغسلوه ويصلوا عليه؛ لأنه مسلم قتل بحق.
قال الرافعي: وقد حكينا وجها مطلقا: أنه لا يصلى على قاطع الطريق؛ استهانة له، ولا يبعد أن يجيء في هذه الصورة وكأنه هو.
أما إذا كان القتل خطأ؛ بأن قصد شخصا، فأصاب غيره، أو عمد خطأ – فلا يقتل بحال، وحكم الدية حكمها فيما لو صدر ذلك في غير المحاربة، ولو قتل من لا يكافئه مع وجود عصمة المقتول؛ فقد تقدم حكاية قولين فيه، والصحيح: المنع؛ فإنه لو وجب لكان منحتما، وهو تغليظ؛ فلا يغلظ بإيجابه بغير المكافئ حتى لا يجتمع تغليظان.
والخلاف مبني عند المراوزة على أنه يقتل لمحض حق الله – تعالى – حدا، أو يقتل للمجموع والمغلب شائبة حق الآدمي؟
وأجراهما القاضي الحسين وابن أبي هريرة تخريجا فيما لو قتل عبد نفسه.
ورأى [الإمام] اختصاص ذلك [فيما إذا كان العبد] مستأجرا أو مأذونا له في الحفظ – قال الغزالي: وهو لا يشعر بأنه عبده – أو مكاتبا.
وعن أبي إسحاق: أنه لا يقتل جزما كما لو أخذ مال نفسه. وهو ما أورده في "التهذيب" وادعى نفي خلافه، واختاره الصيدلاني؛ لأنه لا يفرض انحياز العبد عن المولى بمصيره إلى حرب الرفقة، بل لو فرض فارض المقتول عبدا مستأجرا، فإن له أن يذب سيده عن الرفقة، ولكنه مملوك [قن]، والقتل يقع برقبته، ولو فرض مكاتبا لهذا المحارب القاتل وهو في الرفاق لا يقتل به؛ لأنه بالموت انقلب قنا.
قلت: وهذا اللفظ منه قد أطلقه القاضي أبو الطيب وغيره في كتاب القسامة، لكن فيه نظر؛ فإن الغزالي قد ادعى في كفارة اليمين أن القن بالموت يزول عنه الرق، وإذا كان كذلك فكيف يعود بالموت.
ولو لم يكن المقتول معصوما كالمرتد، ففي "الحاوي": أن القاتل إن لم يعلم بردته، كان في قتل قاتله الخلاف السابق، وإن علم بردته فلا يقتل جزما؛ لأن قتله مباح، ولو كان القتل العمد المحض العدوان لغير أخذ المال لم ينحتم القتل، قاله البندنيجي، والله أعلم.
فرع: لو قتل جماعة على الترتيب، ففيه وجهان [حكاهما القاضي أبو الطيب وغيره في كتاب الجنايات وهاهنا:
أحدهما]- عن ابن – سريج -: أنه يقتل بالأول.
والثاني: [يقتل] بالجميع؛ [نظرا] لحق الله – تعالى – وهذا ما نسبه الماوردي إلى الجمهور.
وبنى المراوزة هذا الخلاف على أن القتل يقع قصاصا أو حدا، وأنا على الأول نوجب الدية للباقين، ولا نوجبها على القول الثاني.
وكذا إذا مات قبل القتل، أو وقع القتل [دفعة واحدة؛ فإنه يقتل بواحد، وتجب الدية للباقين على القول الأول، ولا تجب] على القول الثاني.
ثم قضية ما تقدم في الجنايات أن [ولي الأول] لو عفا عن القصاص يقتل للثاني، ولا ينافيه كونه محتوم القتل، فإن القصد قتله كيف كان، ويؤيد ذلك: أنا قدرنا من قبل أنه [لو] لم يقتل إلا واحدا، وعفا عنه ولي القتيل، وعليه شائبة القصاص – قتلناه لله تعالى؛ كمرتد استوجب القتل قصاصا فعفى عنه. ونحن نقول: لو قتل جماعة على الترتيب، وهو مرتد، فعفا ولي الأول – قتلناه عن الثاني.
وفي "التهذيب"[في] مسألتنا: أن الأول لو عفا لم يسقط.
آخر: هل يجب على قاطع الطريق بالقتل الكفارة؟ حكي الرافعي عن "الرقم" للعبادي: أنا إن قلنا: قتله يراعى فيه معنى القصاص، وجبت.
قال: وإن أخذ المال وقتل، قتل وصلب، أي: على خشبة أو نحوها؛ لما ذكرناه من الآية، وقول ابن عباس وغيره.
والصلب منحتم – أيضا – كما صرح به الأصحاب، ودل عليه كلام الشيخ من بعد؛ لأنه محض حق الله – تعالى – وجب بسبب أخذ المال في هذه الحالة؛ فكان كالقطع.
وقيل: يصلب حيا، ويمنع [من] الطعام والشراب حتى يموت؛ لأن الصلب إذا كان حدا وجب أن يكون في الحياة؛ لأن الحدود لا تقام على ميت، ولأن ذلك أبلغ الانزجار، وهذا ينسب إلى رواية صاحب "التلخيص" وغيره.
[وفي "الكافي" نسبته إلى قول أبي حامد، ولعله أراد أن أبا حامد رواه]، كما هو مذكور في الشامل.
وفي "تعليق" القاضي الحسين و"النهاية": أن الشافعي – رضي الله عنه – حكي هذا المذهب عن بعض السلف حكاية أشعرت بارتضائه؛ فصار صائرون من الأصحاب إلى أنه قول للشافعي، رضي الله عنه.
وعلى هذا: [إلى] متى يستدام صلبه بعد موته؟ فيه الخلاف الآتي فيما إذا قتل ثم صلب، حكاه الإمام وكذا الرافعي، وقال: إنا إذا قلنا بالقول الذي رواه صاحب "التلخيص"، فإنه ينزل بعد الثلاث فيغسل ويصلى عليه بعد ذلك، وإن قلنا: لا ينزل، كما هو مذهب] أبي [علي بن أبي هريرة فلا يغسل ولا يصلى عليه [وهو ما حكاه القاضي الحسين في باب الجنائز عن أبي هريرة].
ولفظ الغزالي في كتاب الجنائز يفهم أن إذا قلنا: يقتل مصلوبا، [فلا يغسل ولا يصلى عليه على القولين؛ لأنه قال:] ومن رأى [أن يقتل مصلوبا] فقد قال: لا يصلى عليه. وأشعر ذلك بسؤال أورده الإمام حيث قال: وكان لا يمتنع أن يقتل مصلوبا، وينزل [فيغسل ويصلى] عليه، ثم يرد. ولكن لم يذهب إليه أحد، واستبعد هاهنا تصور غسله والصلاة [عليه] بعد تساقطه، وإنه لو قيل: تجمع عظامه ويصلى عليها؛ لكان على نهاية البعد، ومجلي قال: لا يبعد ذلك؛ لإمكانه مع [أن] القصد بالصلاة عليه الدعاء، وهذا يلحقه، وإن كان قد تهرأ بلي مع البلى، والله أعلم.
قال: والأول أصح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة"؛ ولأن في ذلك مثله، وقد تقدم أن الآية نزلت ناسخة للمثلة، حتى روي عن عمران بن حصين أنه قال: ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فينا خطيبا إلا ونهانا عن المثلة، وحثنا على الصدقة.
والصلب وإن كان حدا فالقصد به ردع غيره؛ لأن المقتول [لا يردع، وإنما يردع به الأحياء]، والردع بالصلب موجود في الأحياء، وإن كان بعد القتل.
وقد وافق الشيخ على تصحيح الأول العراقيون والمراوزة، وبعضهم جعله المذهب، ووراء ما ذكرناه أقوال، [ووجوه]:
أحدها – حكاه القاضي أبو الطيب، وتبعه في "المهذب" عن رواية ابن القاض في "التلخيص" عن الشافعي – رضي الله عنه: أنه يصلب ثلاثا قبل القتل، ثم [قال]: قال أصحابنا: وهو مذهب أبي حنيفة ولا يعرف للشافعي، وإن أثبتناه.
قال البغوي والرافعي: وينزل بعد الثلاث ويقتل.
وفي "الوسيط" و"التهذيب" وغيرهما: أنه يصلب [حيا]، ويقصد مقتله بحديدة مذففة على وجه، وهو مذهب أبي حنيفة، ولم يقيد ذلك بمدة، وهذا هو الوجه الذي أشرت إليه.
والثاني – حكاه الإمام الرافعي وغيرهما عن تخريج أبي الطيب بن سلمة -: أنه تقطع يده ورجله لأجل المال، ويقتله [لأجل القتل]، ويصلبه لجمعه بينهما.
ووجه القاضي الحسين بأن كل واحد من القتل وأخذ المال لو انفرد لوجبت فيه العقوبة، فإذا اجتمعا كان [ذلك] زيادة جناية؛ فغلظ وزيد الصلب.
وهذا التعليل يقتضي أن محل خلافه إذا كان [المال] المأخوذ نصابا؛ فيكون خلاف المذهب في ضم القطع إلى القتل والصلب [لا غير].
والثالث – حكاه الرافعي والإمام وغيرهما عن رواية صاحب "التقريب" –: أنه إن أخذ نصابا وقتل قطع وقتل ولم يصلب، وإن أخذ أقل منه قتل وصلب، ويكون الصلب [لأجل أخذ] المال، وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن أبي الطيب بن سلمة، وهذا فيه مخالفة للمذهب في أمرين:
أحدهما: في جعل القطع عوضا عن الصلب عند أخذ النصاب.
[والثاني: إيجاب الصلب عند أخذ دون النصاب] مع القتل، وهو الذي اختاره الماوردي لنفسه كما حكيناه من قبل، وأن المذهب – كما حكاه الرافعي -: أن المال المأخوذ إذا كان دون النصاب لا يوجب الصلب، وهذا ما أفهمه كلام الماوردي ثم، وعلى رأي ابن خيران: يجب، والله أعلم.
قال: ولا يصلب، [أي]: على القول الأول، أكثر من ثلاثة أيام.
هذا الفصل يقتضي أمرين:
أحدهما: جواز صلبه ثلاثة أيام، وهو الذي نص عليه الشافعي – رضي الله عنه – لأن في ذلك إشهارا لحاله وتتميما للنكال، لكن ظاهر النص أنه لا فرق [في ذلك] بين أن يخشى تغيره فيها أو لا، وقد قال به بعض الأصحاب، وقال القاضي أبو الطيب: إنه سمع الماسرجسي يقول هذا.
قاله الشافعي – رضي الله عنه – إذا كان البلد باردا والزمان معتدلا، فأما إذا كان الحر شديدا فإنه يصلب إلى وقت إن ترك بعده تغير، ثم يحط فيغسل، ويكفن ويصلى عليه؛ لأن في إدامة الصلب تفويتا لأمر الغسل وغيره، وهذا ما أورده في "المهذب"، والقاضي الحسين في "تعليقه"، والماوردي، وصححه الرافعي.
الثاني: ألا يزاد على الأيام الثلاثة، ووجه اعتبار ذلك: أن للثلاث اعتبارا في الشرع، وليس لما زاد عليها غاية إلا أن يسيل صديده، وذلك يسقط واجبات الغسل والتكفين والصلاة والدفن، وهذا لا يجوز؛ لأن الحدود كفارات لأهلها؛ كذا قاله أبو الطيب والمصنف، ومقتضاه: أنا لا نغسله ولا نكفنه ولا نصلي عليه قبل الصلب، بل نفعله بعد الحط، وقد صرح به الإمام هنا والقاضي الحسين والبغوي وصاحب "المرشد"، وحكاه البندنيجي عن النص، وجزم الغزالي والرافعي في كتاب الجنائز وهاهنا بأنا نغسله ونصلي عليه قبل الصلب، ثم نصلبه مكفنا.
وقيل: يصلب حتى يسيل صديده؛ لأن الصليب – وهو الخشبة – إنما
سمي صليبا؛ لسيلان صليب المصلوب عليها، وهو الودك؛ فيجب أن يترك إلى أن يحصل السيلان، ولأن الصلب شرع في حقه تغليظا عليه، كذلك هذا يكون تغليظا عليه، وهذا قول ابن أبي هريرة.
وبعضهم زاد في الحكاية عنه أنه يترك حتى يتهرأ ويسيل صديده.
وفي "تعليق" القاضي الحسين نسبة هذا الوجه على هذا النعت إلى صاحب "التخليص"، وحكاه الإمام كذلك، ولم يعزه لأحد.
ثم حكي عن الصيدلاني أنه يترك حتى يتساقط، ثم قال: وفي القلب شيء منه؛ فإني لم أره لغيره.
والذي ذكره بعض الأصحاب: أنه يترك حتى يسيل صليبه، والتساقط يقع بعد سيلان الصليب بمدة طويلة، ثم على هذا لا يبالي بإنتانه؛ إذ لا بد منه. انتهى.
وفي "التهذيب" عن ابن أبي هريرة أنه يترك حتى يسيل صديده، إلا أن تتأذى به الأحياء.
وقد حكي القاضي الحسين ذلك وجهين في المسألة من غير أن ينسبهما لأحد.
ثم ما ذكرناه عن الأصحاب من قبل يقتضي أن ابن أبي هريرة لا يرى إيجاب غسله والصلاة عليه، وقد صرح به البغوي عنه، وحكاه الإمام في الجنائز ولم يعزه إليه، وحكي هاهنا عن الصيدلاني – تفريعا على أنه] يصلب حتى يسيل صديده: أنه [يقتل ويغسل ويصلى عليه، ثم يصلب، وأن الأصحاب اتفقوا على أن الغسل والصلاة لا يتركان، وهذا ذكره القاضي الحسين.
وقد حكي الإمام في الجنائز وجها مطلقا: أن قاطع الطريق لا يغسل ولا يصلى عليه؛ استهانة له وتحقيرا لشأنه.
قال: وليس بشيء؛ لفوات ما ذكرناه، مع تأذي الناس بريحه.
وقد وافق الشيخ في هذا اللفظ القاضي أبو الطيب.
وما ذكرناه من الصلب هو المشهور [من المذهب]، وفي "تعليق" القاضي
الحسين: أنه قيل: معنى الصلب: أنه يطرح في الشمس حتى يسيل صليبه، لا أنه
يصلب على الخشبة بحال، وأن هذا يحكى عن ابن أبي هريرة، وفي "الرافعي" أن الروياني حكي ذلك عن القاضي في "جمع الجوامع".
تنبيه: الصديد: الدم المختلط بالقيح، كذا قاله ابن فارس.
وقال الجوهري: [هو] ماء رقيق يخرج من الجرح مختلطا بدم قبل أن تغلظ المدة.
والفعل منه – كما قال ابن فارس –: أصد الجرح.
فرع: لو مات قاطع الطريق قبل القتل ففي "المهذب" حكاية وجهين في صلبه:
أحدهما – وهو قول الشيخ [أبي حامد]-: أنه يسقط؛ لأن الصلب تابع للقتل وصفة له، وقط سقط.
وقد حكي الماوردي وابن الصباغ هذا عن رواية الحارث بن سريج النقال عن الشافعي – رضي الله عنه] قال الماوردي: وكذا لو قيل: إنه يقتل ثم يصلب.
والبندنيجي حكاه عن الشافعي – رضي الله عنه –] وقال: إنه قال: حسابه على الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.
والثاني: وهو – كما قال – قول شيخنا القاضي أبي الطيب: يصلب؛ لأنهما حقان؛ فإذا تعذر أحدهما لم يسقط الآخر.
قال: وإن جنى قاطع الطريق جناية توجب القصاص فيما دون النفس، أي: كما إذا قطع اليدين أو الرجلين أو الأذنين أو الأنف] وفقأ العين [، ونحو ذلك ففيه قولان:
أحدهما: يتحتم القصاص؛ قياسا على النفس، وهذا [ما] قاله في سائر كتبه عن الجديد.
قال الماوردي: وعلى هذا هل يراعى فيه الكفاءة؟ فيه قولان كالقصاص في النفس.
والثاني: لا يتحتم؛ لقوله تعالى: {إنما جزؤا الذين يحاربون الله ورسوله} [إلى قوله: {أن يقتلوا}][المائدة: 33] فحتم القتل، ولا يخلو إما أن يكون – تعالى – نبه [به] على الجرح، أو قصد بذلك المخالفة بينهما، والأول لا يجوز؛ لأن القتل أغلظ، ولا ينبه بالأعلى على الأدنى، وإنما ينبه بالأدنى على الأعلى؛ كما في قوله تعالى:{فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23]، وقوله تعالى:{مثقال ذرة خيرا يره} [الزلزلة: 7]؛ فتعين الثاني.
ومن جهة المعنى: أنه نوع تغليظ لا يتبعض يجب في النفس؛ [فلم يجب فيما دون النفس] كالكفارة، وهذا هو المنصوص كما قال القاضي أبو الطيب، [وعنى به] أنه [المنصوص] في "المختصر"؛ كما قاله الماوردي، وهو الصحيح في "الكافي"، وعند الرافعي والنواوي.
والفرق بين النفس والطرف – كما حكاه القاضي أبو الطيب عن رواية الماسرجسي عن ابن مهران صاحب أبي إسحاق المروزي –: أن قاطع الطريق يقصد بالقتل في أخذ المال؛ فغلظ عليه بالانحتام.
وعلى هذا: لا بد في الاستيفاء من الكفاءة.
وقد حكي الإمام عن بعضهم تخصيص الخلاف بما عدا اليدين والرجلين، وأنه قطع بالانحتام في اليدين والرجلين؛ لأنهما مما يستحقان في المحاربة.
وفي "الإبانة" الجزم بعدم الانحتام في قلع العين وقطع الأذن، وحكاية القولين في اليدين والرجلين.
وعند الاختصار يجتمع في المسألة ثلاثة أقوال [أو أوجه]؛ كما أوردها
الإمام والغزالي في "الوجيز"، ولا خلاف في أن عقوبة سائر الجرائم الواقعة في
الحرابة – غير ما ذكرناه – لا نتحتم؛ لأن القصد بالحرابة القتل وأخذ المال دون
ما عداهما من سائر المعاصي؛] فغلظ منها [ما كان مقصودا بها، ولم يغلظ ما لم يكن مقصودا بها.
فرع: لو كان الجرح مما يجري في بعضه القصاص كالهاشمة، وقلنا: ينحتم القصاص، استوفي منه في الموضحة، وتعين للمجني عليه خمس من الإبل في مقابلة الهشم، قاله الماوردي.
قال: وإن وجب عليه الحد فلم يقطع، طلب أبدا إلى أن يقع، فيقام عليه [الحد]؛ لما ذكرناه من الآية، مع قول ابن عباس، ولأنه إذا طلب ليقام عليه الحد التحق ببلاد الكفر فانتفى من دار الإسلام.
وحكى الإمام عن شيخه: أنه كان يقول من تغليظات حد المحاربين أن الأئمة اختلفوا في أن من استوجب حدا وهرب، هل يسقط الحد عنه؟ وهؤلاء استوجبوا الحدود وإن هربوا فلا يجوز أن يتركوا، بل يلحق الطلب بهم؛ فإن تركهم يجر شرا عظيما قد يتفاقم ويبلغ مبلغا يعجز الإمام عن استدراكه.
قال: فإن تاب قبل أن يقدر عليه، سقط انحتام القتل والصلب وقطع الرجل؛ لقوله تعالى:{إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} الآية [المائدة: 34]، ولا يحتاج في سقوط هذه الأشياء بالتوبة إلى إصلاح العمل، بخلاف حد السرقة والزنى ونحوهما، وإن قلنا: إنها تسقط بالتوبة، [فإنه لا] بد [فيها] من إصلاح العمل.
قال الأصحاب من العراقيين كالماوردي وأبي الطيب وابن الصباغ: والفرق بينهما من المعنى – وإن [كان] الله تعالى قد فرق بينهما في الكتاب العزيز –: أن المحارب إذا تاب، فالظاهر أنه ما تاب تقية، بخلاف غيره.
على أن الإمام قد نسب ما ذكرناه في غير الحرابة إلى اختيار القاضي
الحسين، وحكي وجها آخر ونسبه إلى سائر الأصحاب، وأنهم مجمعون عليه:
أن حكم غير الحرابة كحكم الحرابة.
ثم إذا سقط انحتام القتل، هل يبقى معه الخيار في القتل؟ قال الأصحاب: إن كان القاتل لا يقتل بالمقتول في غير الحرابة، فلا يبقى – أيضا – صرح به أبو الطيب والبغوي، [وإن كان يقتل به بقي فيقتل به إذا رأى الولي، وهذا ما أورده العراقيون والبغوي]، وبعض المراوزة بنى ذلك على أنه يقتل في الحراية لمحض حق الله – تعالى – أو [يقتل بحق الله – تعالى – والآدمي]؟ فعلى الأول: لا شيء عليه، ويسقط أصل القتل، وعلى الثاني – وهو الأظهر –: يبقى الخيار للولي.
وحكي الرافعي: أنه يحكي تخريج وجه في القصاص وحد القذف أنهما يسقطان بالتوبة؛ لأنهما يسقطان بالشبهة كحدود الله تعالى، وعن كتاب ابن كج: أن أبا الحسين نقله قولا عن القديم في حد القذف.
وقيل: يسقط قطع اليد؛ لأنه من أحكام الحرابة، من حيث إنه لا يراعى فيه الاستخفاء في أخذ المال، وهذا قول ابن أبي هريرة وأبي علي الطبري كما قاله ابن الصباغ، وأكثر الأصحاب كما قاله في "الكافي"، وبه أجاب البغوي، وفي "الوجيز" وصححه في "الوسيط"، وكذلك الرافعي.
وقيل: لا يسقط، أي: بنفس التوبة؛ لأن القطع ليس من أحكام المحاربة، بل هو من أحكام أخذ المال على وجه يتعذر الاحتراز منه؛ ولذلك اعتبرنا فيه أخذ النصاب والحرز كالسرقة، وهذا قول أبي إسحاق، واختاره الشيخ أبو حامد؛ كما قاله البندنيجي، وتبعه النواوي، وعلى هذا: هل يسقط إذا انضم إلى التوبة إصلاح
العمل؟ فيه الخلاف الآتي في [حد] السرقة، ولو تاب بعد الظفر لم تنفعه التوبة عند العراقيين.
وحكي القاضي الحسين، وتبعه الإمام والبغوي: أن في سقوط ما يختص بقطع الطريق وما لا يختص [به] قولين، وهذا الطريق محكي عن الفوراني والصيدلاني – أيضا – وقد يقال: لا مخالفة بين الطريقين؛ لأن القائل بسقوط حد الحرابة بالتوبة بعد الظفر، جعله كسقوط حد السرقة والزنى؛ فيعتبر فيه إصلاح العمل، بخلاف ما قبل الظفر كما تقدم، وإلى هذا أشار القاضي.
لكن الماوردي وغيره جزموا القول بأن التوبة في حد السرقة والزنى ونحوهما بعد الظفر لا تسقط الحد [كما] في المحاربة، وأن محل الخلاف في إسقاطها الحد إذا كانت قبل الظفر كما سنذكره، وهذا [يمنع الجمع]، وسيكون لنا عودة لذلك، إن شاء الله تعالى.
ثم إذا قلنا بما حكاه العراقيون، فلو ادعى المحارب بعد القدرة عليه أنه تاب قبل القدرة، قال الماوردي في "الأحكام السلطانية": إن لم تقترن بالدعوى أمارات تدل على التوبه؛ لم تقبل دعواه في سقوط حد قد وجب، وإن اقترن بها أمارات تد على التوبة، ففي القبول بغير بينة وجهان محتملان:
أحدهما: تقبل؛ لكون ذلك شبهة [يسقط بها الحد.
والثاني: لا تقبل إلا ببينة عادلة تشهد] بالتوبة قبل القدرة؛ لأنه حد قد وجب، والشبهة: ما اقترنت بالفعل، لا ما تأخرت عنه.
وقد نجز شرح مسائل الباب، وقد ضمنه الأصحاب مسائل ذكر الشيخ بعضها في الباب الذي يليه، فلنقتد به [في ذلك] ونذكرها فيه، إن شاء الله تعالى.