المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب التيمم التيمم في اللغة: القصد والعمد، يقال، تيممت، ويممت فلاناً، - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٢

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌باب التيمم التيمم في اللغة: القصد والعمد، يقال، تيممت، ويممت فلاناً،

‌باب التيمم

التيمم في اللغة: القصد والعمد، يقال، تيممت، ويممت فلاناً، إذا: قصدته.

وفي الشرع: إيصال التراب الطاهر إلى الوجه واليدين مع النية بشرائط مخصوصة.

قال: "ويجب التيمم عن الأحداث كلها إذا عجز عن استعمال الماء".

"الأحداث": جمع "الحدث" وإن كان اسم جنس؛ لتعدد أفراد نوعيه: الأصغر والأكبر.

ونظم بقوله: "عجز" العجز بسبب فقده، والعجز بسبب مرض، قام بالمتيمم، أو خوف، كما سيأتي، ودليل وجوبه [في] حالة المرض، وفي حالة العدم في السفر قوله- تعالى-:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] إذ في الآية- كما قال زيد ابن أسلم، فيما حكاه القاضي أبو الطيب، في باب الأحداث، عن الشافعي، عنه-: تقديم وتأخير، وذلك كثير في كتاب الله تعالى، قال الله- تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) قَيِّماً لِيُنذِرَ بَاساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} [الكهف: 1، 2].

وتقديرها: أنزل على عبده الكتاب قيماً، ولم يجعل له عوجاً.

وقال- تعالى-: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ} [هود: 71].

والتقدير: فبشرناها؛ فضحكت.

وقوله- تعالى-: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 5].

والتقدير: جعله أحوى غثاء، لأن الأحوى: الأخضر، والغثاء: اليابس.

وإذا كان فيها تقديم وتأخير، فتقديرها- كما قال-: إذا قمتم من النوم إلى الصلاة، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء- فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين، وإن كنتم جنباً فاطهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر، فلم تجدوا ماء؛ فتيمموا.

وإذا ثبت ذلك في الجنابة، كان الحيض مثلها؛ لأن كلاً منهما يوجب الغسل.

ص: 16

أو نقول: الآية تدل على وجوبه في الحدث الأصغر، وهو إجماع، ويدل عليه في الجنابة قراءة من قرأ:{أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] وحملها على المجامعة، كما صار إليه علي وابن عباس.

والخبر الذي نذكره عن عمران بن الحصين يدل عليه، والحيض والنفاس في معناها.

وفي حالة العدم [في الحضر]: قوله- عليه السلام: "الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ المُسْلِمِ، وَلَوْ لَمْ يَجِدِ المَاءَ، وَلَوْ إِلَي عَشْرِ حِجَجٍ" ولم يفصل. وكذا ما روى عن عمران بن الحصين: "أنه- عليه السلام أمر رجلاً كان جنباً أن يتمم، ثم يصلي، فإذا وجد الماء اغتسل". أخرجه البخاري ومسلم. وظاهر الأمر الوجوب.

قال الإمام: ومع وجوبه فهو رخصة.

وقال البندنيجي: إنه عزيمة. فحصل فيه وجهان صرح بهما غيرهما.

وأثرهما يظهر فيما لو سافر في معصية، وعدم الماء؛ فإنه يتمم، وهل يجب عليه الإعادة؟ إن قلنا: إنه رخصة، فنعم؛ وإلا فلا.

والإمام حكى الوجهين في باب "صلاة المسافر" مع جزمه بأنه رخصة.

ص: 17

ووجه المنع: بأنه وجب عليه فعله؛ فخرج عن مضاهاة الرخص المحضة، وبأن وجوب القضاء يتعلق بالمآل وثاني الحال فلا تؤثر المعصية فيهما.

وقد أطلق الشيخ هنا القول بوجوب التيمم، وعبارته في "المهذب":"يجوز التيمم عن الحدث الأصغر؛ للآية، ويجوز عن الحدث الأكبر".

ولا منافاة بين قوله: ["ويجوز"، وبين قوله]: "يجب"؛ لأن الواجب جائز الفعل، وإذا كان كذلك؛ فلا حاجة إلى التأويل حتى يقال: إن ما ذكره هنا محمول على آخر الوقت، وما ذكره في "المهذب" محمول على أوله. ولو احتاج إلى التأويل لم يكن ما ذكره شافياً؛ لأن التيمم عند وجود شرطه في أول الوقت، واجب أيضاً، لكنه واجب موسع، وهو في آخره واجب مضيق. نعم، قد يقال: عدل في "المهذب" عن لفظ الوجوب إلى الجواز؛ لوقوع الخلاف في الجواز؛ فإن بعض الصحابة قال: لا يجوز عن الجنابة.

ولا جرم صدر كلامه بجوازه في الأصغر؛ لكونه مجمعاً عليه، ثم ثنى بالأكبر، للاختلاف فيه. وفعل هذا في "المهذب" دون "التنبيه"؛ لأنه مبسوط يحتمل مثل ذلك، أو [لأنه لما] قرره في "المهذب"، أراد أن يبين- هنا- أمراً زائداً عليه؛ إذ لا يلزم من جوازه وجوبه، والمراد بكونه واجباً: وجوب الشرائط كاملة، حتى

ص: 18

يقول: يجب على الصبي والمتنفل. والله أعلم.

قال: ولا يجوز التيمم إلا بتراب.

أما جوازه بالتراب؛ فهو إجماع، وأما عدم جوازه بما عداه: كالزرنيخ، والنورة، والكحل، وما سحق من الأحجار، أو نشر من الأخشاب- وإن شابه التراب- فدليله: أن الله- تعالى- أوجب التيمم بالصعيد، وهو- كما قال بعض أهل اللغة- يقع على التراب، وعلى وجه الأرض، وعلى الطريق؛ فهو مجمل بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"جُعِلَتِ الأَرْضُ لِي مَسْجِداً، وَجُعِلَ تُرَابُهَا لِي طَهُوراً". هكذا حكاه [ابن التلمساني] عن رواية مسلم؛ والمشهور: "وَجُعِلَتْ تُرْبِتُهَا لَنَا طَهُوراً؛ إِذَا لَمْ نَجِدِ المَاءَ".

وقوله: "التُّرَابُ كَافِيكَ، وَإِنْ لَمْ تَجِدِ المَاءَ عَشْرَ حِجَجٍ".

ولا يقال: هذا لا حجة فيه؛ لأنه مفهوم لقب؛ لأنا نقول: قد قال بعض أصحابنا: إنه حجة.

ص: 19

وعلى الآخر نقول: التيمم على خلاف الدليل؛ فلا نعدل فيه عما ورد.

أو نقول: لما انتقل النبي- عليه السلام من اسم الأرض إلى التراب، دل على التفرقة بينهما؛ إذ الانتقال من الأعم إلى الأخص لا يكون إلا لذلك.

وقد روى عن ابن عباس، أنه قال:"الصعيد هو تراب الحرث". وعن ابن مسعود، وعلي:"أنه التراب الذي يغبر".

وقال الشافعي: "إنه كل تراب ذي غبار" وقوله حجة في اللغة.

قال ابن الصباغ: ويشهد له قول المفسرين، في قوله- تعالى-:{فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} [الكهف: 40]: إنه التراب الأملس، وفي قوله- تعالى-:{صَعِيداً جُرُزاً} [الكهف: 8]: إنه التراب الذي لا ينبت.

ولأن الطهارة تتنوع نوعين: جامد، ومائع، ثم ثبت أنها في المائع تختص بأعم المائعات وجوداً، وهو الماء؛ فكذلك في الجامد، يجب أن تختص بأعم الجامدات وجوداً، وهو التراب، وما ذكره الشيخ هو المشهور في المذهب.

وقد أغرب الحناطي، فحكى في جواز التيمم بالذريرة، والنورة، والزرنيخ- قولين، وكذا في الأحجار المدقوقة، والقوارير المسحوقة، وأشباهها.

وقد اندرج في لفظ التراب [التراب] الأحمر، والأصفر: وهو الطين الإرمني، والتراب الأسود، قال الإمام: وهو ما يستعمل في الدواء- والتراب الأبيض: وهو المأكول منه، والتراب الأعفر: وهو الذي بياضه ليس بخالص، والسبخ: وهو التراب

ص: 20

المالح الذي لا ينبت لا الذي يعلوه الملح، والمدر: وهو التراب الذي يصيبه المطر؛ فيجف، والبطحاء: وهو التراب الذي في مجرى الماء إذا جف واستحجر، والطين المختوم: إذا دق ذلك وصار له غبار.

وحيث نص الشافعي على أنه لا يجوز بالبطحاء؛ فمراده- باتفاق الأصحاب- إذا لم يكن له غبار.

وكما أدرج في لفظ "التراب" ما ذكرناه، يخرج ما سحق من الخزف والآجر، وإن صار له غبار؛ لأنه بالطبخ استجد له اسماً آخر، وخرج عن أن يكون تراباً، كذا نص عليه الشافعي.

وكذا الطين الإرمني، يخرج- أيضاً- إذا أحرج ظاهره وباطنه، ودق.

نعم، لو أحرق ظاهره فقط؛ ففي جواز التيمم به وجهان جاريان في الطين الخراساني، وهو المأكول، إذا دق:

أحدهما: لا؛ لأن كل واحد منهما أصابته النار؛ فأشبه إذا صار خزفاً.

والثاني: يجوز؛ لأن ذلك الإحراق لا يخرجه عن اسم الطين، [قاله أبو الطيب. والشيخ في "المهذب" أجرى الوجهين في الطين] المحروق مطلقاً.

واختار الإمام: القطع بالجواز، وغلط مقابله.

وتراب الأرضة إن أخرجته من خشب لا يجوز التيمم به، وإن أخرجته من مدر يجوز [به] إذا دق، لأن لعابها طاهر، قاله القاضي الحسين.

قال: "طاهر"؛ لقوله تعالى: {طَيِّبًا} وأراد: طاهراً؛ لأن الطيب يطلق على ما تستطيبه النفس، وعلى الحلال، وعلى الطاهر. والأولان لا يحسن وصف التراب بهما؛ فتعين الثالث.

وقوله- عليه السلام: "وَتُرَابُهَا طَهُوراً" مصرح باعتبار الطهارة، ولا يجوز بالتراب النجس.

والحكم في تراب المقبرة كالحكم في الصلاة عليها، وستعرفه.

والقولان فيما إذا كن الغالب [نبشها يجريان] فيما لو كان على كلب تراب،

ص: 21

وشك في أنه لاقاه وهو مبلول، أو عرقان، أو يابس، وفي حال تيقن أنه أصابه وهو مبلول، لا يجوز، وفي حال تيقن أنه أصابه وهو جاف، يجوز.

[تنبيه]: قيد الطهارة يشعر بأمور:

أحدها: أن التراب لا يؤثر عنده في منع التيمم به الاستعمال؛ إذ لو كان يؤثر لأبدل لفظ "الطاهر" بـ"المطلق" حتى يخرج المستعمل أيضاً.

وللأصحاب في ذلك وجهان:

أصحهما في "الحاوي": أنه لا يؤثر، بخلافه في الماء؛ لأنه يرفع الحدث؛ فصار مستعملاً برفعه؛ بخلاف التراب. وهذا منه إشارة إلى أن [علة] الاستعمال في الماء انتقال المانع إليه لا تأدي العبادة.

والأصح في غيره: مقابله، وهو المنصوص عليه، كما قاله القاضي الحسين.

والمذهب في "النهاية" والمجزوم به في "التتمة"، و"تعليق" القاضي أبي الطيب، وكذا في "المهذب"؛ لأنه قال: لا يجوز التيمم بما استعمل في العضو، فأما ما تناثر من أعضاء المتيمم، ففيه وجهان:

أحدهما: لا يجوز؛ كما لا يجوز الوضوء بما يسقط من أعضاء المتوضئ.

والثاني: يجوز لأن المستعمل ما بقي على العضو، وما يتناثر غير مستعمل فجاز التيمم به، ويخالف الماء؛ لأنه لا يدفع بعضه بعضاً، والتراب يدفع بعضه بعضاً؛ فدفع ما أدى به الفرض في العضو ما تناثر منه؛ فرجع حاصل قوله إلى أن المستعمل في العضو، مستعمل. [وما يتناثر عنه]: هل هو مستعمل، أم لا؟ فيه وجهان:

فإن قلنا: إنه مستعمل، لا يجوز التيمم به؛ وإلا جاز. وكذا صرح به غيره.

وصرح البندنيجي وابن الصباغ بأن المنصوص عليه: أن المستعمل ما تساقط عن العضو، وهو ما ذكره القاضي الحسين والفوراني والإمام والمتولي. وما بقى على العضو بذلك أولى.

ولا جرم، قال في "الكافي": المستعمل [ما] أخذ من وجه المتيمم، أو يديه، أو

ص: 22

أخذ مما يتناثر عنه حال الاستعمال.

ولا خلاف في أنه يجوز لجماعة: التيمم من مكان واحد يضربون عليه؛ كما يجوز أن يتوضئوا من إناء واحد.

الأمر الثاني: أن التراب الممزوج بماء الورد، والخل، ونحوهما، إذا جف؛ يجوز التيمم به، ولا خلاف فيه.

الأمر الثالث: أنه يجوز بالتراب المغصوب، وهو كذلك إذا قلنا: إنه عزيمة، أما إذا قلنا: إنه رخصة؛ ففيه وجهان.

قال: له غبار يعلق بالوجه واليدين؛ لقوله- عليه السلام: "التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةُ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَهُ لليَدَيْنِ" مع تقديم قوله- تعالى-: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ

ص: 23

مِنْهُ} [المائدة: 6] فإنه يقتضي ذلك. إذ ما لا غبار له لا يتصور مع الضرب عليه مسح الوجه واليدين بشيء منه، وتفسير [عَلِيّ و] ابن مسعود والشافعي الصعيد يدل عليه.

وقد أخرج هذا القيد التراب الندي والمعجون، وعليه نص في "المختصر".

قال: فإن خالطه جص، أو رمل، لم يجز التيمم به؛ لأنه ربما حصل منه شيء على العضو، فمنع وصول التراب إليه؛ ومن هنا يؤخذ أن التيمم بالجص والرمل مفرداً لا يجوز، وهو المشهور في الجص، لكن في "الحاوي": أنه يجوز به إذا لم يحرق، وكذا بالإسفيداج، إذا كان لهما غبار، إلا أن يكون ذلك معدناً في الأرض، وليس منها؛ فلا يجوز التيمم به.

وأما في الرمل، فهو نصه في الجديد، و"الأم".

وعن القديم، "والإملاء": أنه يجوز؛ فحصل فيه قولان. وبهذه الطريقة قال ابن القاص.

وقال أبو إسحاق: [ليست المسألة على قولين؛ وإنما هي على حالين: فحيث قال: لا يجوز]، أراد: إذا لم يكن في الرمل تراب.

وحيث قال: يجوز، أراد: إذا كان فيه تراب يعلق باليدين. وهذه الطريقة صححها أبو الطيب، وجماهير الأصحاب، كما قال الإمام، وغلط في "الحاوي" من قال بالأولى، وقال: إن الرمل على ضربين: ضرب منه يكون له غبار يعلق بالوجه؛ فالتيمم به جائز؛ لأنه من جنس التراب، وطبقات الأرض. وضرب منه لا غبار له؛ فلا يجوز التيمم به؛ لعدم غباره الذي يقع التيمم به، لا بخروجه عن جنس التراب.

وهذه الطريقة حكاها هكذا القاضي الحسين، والفوراني، والمتولي، واختارها في "الكافي"، والرافعي، وعليها الجواز بالمختلط به من التراب أولى، فحصل فيما قاله الشيخ طريقان.

ص: 24

وطريقة الشيخ تقتضي أنه لو خالط التراب دقيق، أو سويق، ونحوه، لا يجوز التيمم به من طريق الأولى، لأن علوقه باليد أسرع من علوق الجص والرمل بها، وهذا ما جزم به أبو الطيب، ولم يفصل بين أن يكون [التراب] غالباً أو مغلوباً، وهو المنصوص، كما ذكر البندنيجي وابن الصباغ، وينسب إلى ابن أبي هريرة.

وقال أبو إسحاق وغيره من أصحابنا: إن كان التراب غالباً جاز؛ كما لو كان الماء غالباً.

قال البندنيجي: وليس بشيء.

والغلبة تعتبر بالطهر؛ كما قال الإمام.

وقال الروياني في "تلخيصه": المعتبر في المنع أن يكثر المخالط، أو يغلب طعمه، أو لونه، أو ريحه.

قال: وإذا أراد التيمم، فإنه يسمي الله- تعالى- كما في الوضوء ويضرب يديه على التراب؛ لقوله- عليه السلام لعمار، وقد تمعك في التراب، وصلى، حين أجنب:"إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الأَرْضَ" وهذا ما حكاه المزني، عن

ص: 25

نص الشافعي، في موضع.

وقال في آخر: إنه يضع يديه على التراب.

ونصه الأول محمول على ما إذا كان التراب حرشاً، لا يعلق منه شيءُ بالكف بدون الضرب، [والثاني محمول على ما إذا كان ناعماً، فعلق باليد بدون الضرب]، وهذا مما لا خلاف فيه؛ فليحمل كلام الشيخ على ما حمل عليه كلام الشافعي.

تنبيه: قول الشيخ: [ويضرب يديه على التراب] يعرفك أنه لا فرق فيه بين أن يكون التراب على أرض، أو نابت فيها، أو ثوب، أو حيوان- طاهراً كان الحيوان أو نجساً- إذا كان التراب محكوماً بطهارته، وبه صرح غيره، حتى قالوا: لو كان التراب على عضو من أعضاء بدنه، غير أعضاء التيمم جاز الضرب عليه، وأخذه منه، واستعماله في التيمم.

نعم، لو كان التراب على وجهه، لا يجوز أن يضرب يديه عليه، ويمسح به الوجه، كما أطلقه القاضي الحسين.

وقال الإمام: إن شيخه قال: لا فرق في عدم إجزائه بين أن يردده على الوجه، أو ينقله إلى يديه ثم ينقله إلى الوجه.

وقال الفوراني: إذا [نقله] إلى اليد، ثم مسح به الوجه؛ ففي إجزائه وجهان. وهو الوجه؛ فإن التراب إذا علق باليد، فقد انقطع عنه حكم الوجه؛ فهو الآن تراب على اليد، وفي جواز نقل التراب الذي على اليد إلى الوجه وجهان جاريان في نقل التراب من على الوجه إلى اليدين.

ويتصور ذلك- كما قال القاضي الحسين- بأن يمسح وجهه بتراب ثم يمسحه بخرقة، ثم تلقي عليه الريح تراباً، فينقله من عليه إلى اليدين.

والمجزوم به في "الكافي"- وهو الأصح-: الجواز.

وعلى هذا لو كان التراب على إحدى يديه، فضرب عليها؛ ليمسح به الأخرى: هل يجوز؟ فيه وجهان:

أحدهما: [لا] لأن اليدين كالعضو الواحد؛ فيشبه ما لو كان على أسفل الوجه،

ص: 26

فضرب عليه؛ ليمسح به أعلاه.

فرع: لو كان التراب على بشرة امرأة أجنبية، فهل يجزئ الضرب عليه؟ قال القاضي الحسين: إذا كان التراب كثيراً، يمنع من التقاء البشرتين أجزأ، وإلا فلا؛ لأن الحدث بعد الضرب يبطل حكم الأخذ، وهو مقارن له- هاهنا- فهو بمنعه أولى.

وقال في "التتمة": إن أخذه للوجه، صح، وإذا أخذه لليدين، بطل مسحه على الوجه بالتقاء البشرتين؛ وهذا قاله بناء على أن الحدث بعد الضرب لا يبطل حكم الأخذ، والله أعلم.

قال: ويفرق أصابعه؛ لأن تفريقها أبلغ في إثارة الغبار من التراب الحرش وهو محل الضرب، كما ذكرنا.

وظاهر ما ذكره الشيخ هو ما نقله المزني، وبه أخذ طائفة، منهم: أبو الطيب، والماوردي، والبندنيجي.

والتفريق في الضربة الثانية أولى، وهو متفق على وجوبه فيها.

وذهب طائفة إلى تخطئة المزني فيما [نقله، وقالوا: التفريق إنما يكون في الثانية فقط، وعلى هذا] جرى الفوراني، والقاضي الحسين.

وقال ابن يونس، ومن تبعه: إن هذا هو الصحيح، وتأول كلام الشيخ على التفريق في المرة الثانية.

ص: 27

قلت: إن كان الشيخ ممن يرى تخطئة المزني في ذلك؛ فتأويل كلامه على التفرقة عند مسح الوجه بالضربة أولى؛ لأن كلامه يرشد إليه؛ إذ لو كان مراده: أن التفرقة تكون حال الضرب، لقال: ويفرق أصابعه ويضرب، فلما أن قال:"يضرب ويفرق أصابعه" دل على ما ذكرناه، وإن كانت الواو لا تقتضي الترتيب؛ لأن التفريق عند مسح الوجه أبلغ، خصوصاً فيمن له لحية، لكن الغالب أنه إنما يروي ما حكيناه عن شيخه أبي الطيب، وهو الأصح في "الرافعي".

والقائلون بخلافه اختلفوا في جواز التفريق في الضربة الأولى:

فذهب الأقلون ومنهم القفال إلى منعه، وأنه لا يصح تيممه إذا فعله؛ لأن الغبار الحاصل بسببه من الأصابع يمنع الغبار الواجب إيصاله بالضربة الثانية، ولا يمكن الاكتفاء بالأول؛ فإنه في حكم غبار حصل على المحل قبل فرض النقل إليه، وهو لا يجوز، كما سنذكره.

وذهب الأكثرون منهم إلى جوازه؛ لأنه إذا مسح الوجه، لم يبق على اليد كثير غبار؛ فلا يمنع من إيصال الغبار الثاني إليه.

نعم، إن بقي ما يمنع؛ وجب إزالته قبل الضربة الثانية.

والقول بالجواز وعدم الاستحباب هو الراجح عند الإمام، وقال: إن القائل بخلافه مجاوز للحد، وليس بالمرضي اتباع [شعب الفكر] ودقائق النظر في الرخص، وقد تحقق من فعل الشارع ما يشعر بالتسامح فيها، ولم يوجب أحد من أئمتنا على الذي يهم بالتيمم أن ينفض التراب عن وجهه ويديه، ثم يبتدئ بنقل التراب إليهما، مع العلم بأن المسافر في تقلباته لا يخلو عن غبار يرهقه، ولو صح ما ذكره هذا القائل، لوجب ذلك؛ ولأجل ذلك قال الغزالي: إن ما ذكره القفال بعيد؛ فإنه [تضييق للرخصة].

واعترض عليه بأنه إنما يكون تضييقاً إذا نشأ من أمر يتعذر الاحتراز منه.

وقد تلخص مما ذكرناه أن التفرقة في الضربة الثانية لابد منها، وهل تستحب في

ص: 28

الضربة الأولى، أو لا تجوز، أو فعلها وتركها على السواء؟ فيه ثلاثة أوجه. والله أعلم.

قال: وينوى؛ لما ذكرناه من الآية والخبر في الوضوء، ولأنه عبادة محضة طريقها الفعل؛ فافتقرت إلى النية؛ كالصلاة والزكاة.

واحترزنا بقولنا: "محضة" عن العدة، وبقولنا:"طريقها الفعل" عن إزالة النجاسةن ورد المغصوب؛ فإن طريقهما الترك، وما طريقه الترك: الغالب عدم اشتراط النية فيه.

قال: استباحة الصلاة؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما يبيح الصلاة؛ فتعين أن ينوي ذلك.

والدال على أنه لا يرفع الحدث رواية أبي داود عن عمرو بن العاص، قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك؛ فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبُ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً.

ص: 29

ولأنه لو رفعه، لما عاد برؤية الماء.

وقد قيل: إن نية الاستباحة على هذا لا تتعين؛ بل يجوز أن ينوي رفع الحدث، ويستبيح الصلاة؛ [لأن المعنى المقصود برفع الحدث إنما هو استباحة الصلاة]، والتيمم يبيح الصلاة، وإن لم يرفع الحدث. وهذا ما صححه ابن التلمساني.

والمذكور في أكثر كتب العراقيين: أن نية رفع الحدث لا تجزئ؛ وكذا نية الطهارة عن الحدث، ولم يحك في "الوسيط" غيره.

نعم، حكى عن ابن سريج: أنه يرفع الحدث في حق فريضة واحدة، وجعله ابن خيران قولاً للشافعي. وغلط فيه؛ لأن الحدث لا يتبعض.

وقد حكى الماوردي عن رواية بعض الأصحاب، عن المزني: أنه يرفع الحدث، ولم يخصه بفريضة واحدة.

قيل: هو غلط.

قلت: ويشبه أن يكون وجهه أنه لو كان يرفع الحدث، لما عاد برؤية الماء قبل الشروع في الصلاة، كما صار إليه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وقد وافق المزني على عوده بذلك.

ولأنه لو كان يرفع الحدث، لما بطلت الصلاة برؤية الماء في أثنائها، وهو يرى بطلانها، وبمثل هذا يبطل مذهب ابن سريج؛ لأنه وافقه في البطلان، كما ستعرفه، والله أعلم.

وفي "النهاية"، في باب المسح على الخفين: أن القول بأن التيمم لا يرفع الحدث إذا لم يكن معه غسل، فإن كان التيمم مع الغسل، فهو بمثابة المسح على الخف مع غسل سائر أعضاء الوضوء.

ص: 30

فإذا قلنا: إن التيمم يرفع الحدث كيف كان، أجزأت نية رفع الحدث فيه بلا خلاف.

وله فائدة أخرى سلفت.

والرافعي جعل الخلاف في إجزاء نية رفع الحدث مبنياً على أنه يرفع الحدث أم لا.

والخلاف جارٍ فيما لو نوى [الجنب] بتيممه رفع الجنابة.

واعلم أن الشيخ [ذكر] من وصف النية [ما] لابد منه في كل تيمم، فرضاً كان أو نفلاً، وهو الاستباحة، وسكت عما عداه؛ لأن كلامه في مطلق التيمم، وما ذكره كافٍ فيه؛ فإنه يصح، ويستبيح به النفل، كما لو نوى استباحة صلاة النفل؛ حملاً للمطلق على أقل درجاته.

نعم، هل يستبيح عند الاقتصار على نية الاستباحة الفرض [أيضاً؟ الحكم فيه كما لو نوى استباحة صلاة النفل، هل يستبيح الفرض؟] وفيه قولان:

الجديد منهما- وهو الأصح-: لأن وهو ما حكاه البغداديون من أصحابنا: كالشيخ أبي حامد، وأبي الطيب، وكذا الماوردي، وصاحب "الكافي".

والقديم: نعم، وحكاه في "المهذب" عن رواية أبي حاتم القزويني، عن أبي يعقوب الأبيوردي عن "الإملاء".

ص: 31

فعلى هذا لا يحتاج المتيمم مع التعرض لاستباحة الصلاة إلى آخر، ويصلى الفرض والنفل.

وعلى الأول لابد لمن أراد فعل فريضة من التعرض إلى استباحة صلاة الفرض، وهل يشترط تعيين الفريضة: كالظهر والعصر ونحوهما أم لا؟ فيه وجهان:

اختيار أبي إسحاق، وابن أبي هريرة، والصيمري، والشيخ أبي علي: نعم؛ لأنه لما تعين التعرض للفرض، وجب التعرض للفريضة نفسها؛ كما في الصلاة.

والذي دل عليه نصه في "الأم"، والبويطي: لا؛ لأنها طهارة عن حدث؛ فلم تفتقر إلى تعيين الفريضة؛ كالوضوء.

وهذا ما قطع به المراوزة؛ كما قال الإمام، وهو الأصح عند الأكثرين؛ وعلى هذا: لو نوى استباحة صلاة الظهر جاز أن يصلي بها غيرها، وعلى الأول: لا.

فإن قلت: هل يمكن تنزل كلام الشيخ على هذا؟

قلت: نعم، بأن يضمر بعد قوله:"وينوي استباحة الصلاة": أي التي يقصد فعها، والله أعلم.

وقد اختار الإمام فيما إذا نوى استباحة الصلاة، وأطلق، أنه بمنزلة ما لو نوى استباحة الفرض والنفل، [وأن الوجه القطع به فإن الصلاة اسم للجنس يتناول الفرض والنفل] والجمع بينهما في نية التيمم ممكن.

وخالف هذا ما لو نوى المصلي الصلاة حيث نزلنا على النفل فقط؛ لأن الجمع بين الفرض والنفل لا يمكن فيها، مع عدم إمكان استيعاب كل المفروضات، [ووجوب تعيين كل فريضة، وحكى] عن شيخه [أن: نيته] محمولة على النفل فقط.

وجزم [الغزالي] في "الوجيز" بما اختاره الإمام، وجعله في "الوسيط" المذهب، واستبعد مقابله، وهو المحكي عن القفال أيضاً.

وبنى القاضي الحسين الخلاف في ذلك على أن التيمم للنفل من غير تعرض للفرض، هل يستباح به الفرض؟

ص: 32

فإن قلنا: نعم؛ فهنا أولى. وإلا فجوابان بناء على [أن] مطلق نذر الصلاة يحمل على أقل واجبها، أو أقل جائزها؟

فإن حملناها على أقل الواجب، استباح بنية استباحة الصلاة الفرض؛ وإلا فلا.

وهذا البناء يقتضي أن يكون الصحيح: استباحة صلاة الفرض به؛ لأن الصحيح: أن مطلق نذر الصلاة منزل على أقل الواجب الشرعي، وهذا كله تفريع على ظاهر المذهب في أنه لا يشترط تعيين الفريضة.

فرع: قال الإمام: لو نوى أداء فرض التيمم أو فريضة التيمم، هل يكفيه؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم، كما في الوضوء.

قال الروياني في "تلخيصه": وعلى هذا يكون كما لو تيمم للنفل.

وأصحهما في "الرافعي": لا.

والفرق: أن الوضوء قربة مقصودة في نفسها؛ إذ يستحب تجديده، والتيمم لا يعنى إلا لغيره؛ ولهذا لا يستحب تجديده.

قال بعضهم: والوجهان جاريان فيما لو نوى الطهارة الواجبة.

ولو اقتصر على نية التيمم، لم يجزئه، قاله الماوردي.

تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أمرين:

أحدهما: أنه لا فرق في نية استباحة الصلاة بين أن يكون الناوي محدثاً الحدث الأصغر أو الأكبر، وبه صرح غيره، وقالوا: لا فرق بين أن يكون ذاكراً ما عليه من الحدث، أو ناسياً له؛ بل لو تيمم وهو يعتقد أنه جنب، فكان محدثاً، أو بالعكس أجزأه؛ لأنه [لو] ذكر لم يزد على ما نواه.

والثاني: قوله: "وينوي استباحة الصلاة" بعد قوله: "ويضرب بيديه على التراب"- ظاهره يقتضي أنه لا يشترط مقارنة النية للضرب على التراب، أو ما في معناه؛ لأن الواو كما تستعمل في المعية، تستعمل في الترتيب وعكسه على السواء، وظاهر اللفظ الترتيب.

وما اقتضاه كلام الشيخ، به صرح في "المرشد" حيث قال: ومحل النية عند أول

ص: 33

جزء من الوجه.

لكن المذكور في "الرافعي": أن تقديم النية على الضرب، كتقديمها في الوضوء على غسل الوجه، ولا يجوز تأخيرها عن الضرب، بل الواجب اقترانها [به] لأنه أول واجب فيه، فكانت مقارنتها مشترطة به؛ كما في الوضوء.

ومن فوائده: ما ذكره القاضي في "الفتاوى": أنه لو أحدث بعد الضرب، لا يجوز أن يتمم بما حصل من التراب بالضرب؛ لأن النقل ركن من أركانه؛ وكذلك لو أخذ التراب- أي: بكفه- قبل دخول الوقت، وتيمم به بعده- لا يجزئه؛ لأنه أوقع جزءاً منه قبل الوقت.

نعم، لو عزبت نيته قبل إيصال التراب إلى شيء من الوجه، هل يؤثر؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا؛ كما لو قارنت في الوضوء جزءاً من الوجه وعزبت.

وأظهرهما- وهو المذكور في "التهذيب"، و"الكافي" وآخر ما أجاب به القاضي-: نعم؛ لأن النقل وإن كان واجباً، إلا أنه ليس بركن مقصود في نفسه، بخلاف غسل الوجه.

وهذا كله فيما لو تيمم بنفسه، فلو يممه غيره بإذنه بحيث يجوز، قال القاضي: فينوي الضرب- أيضاً- إلا أنه لو أحدث بعد الضرب وقبل المسح، لا يضر، بخلاف ما لو أخذ التراب بنفسه، ثم أحدث؛ لأن هناك وجد القصد الحقيقي منه، والحدث منه؛ فبطل به، وهاهنا لم يوجد منه القصد حقيقة، بل أمره أقيم مقامه [حكماً] فصار هذا كالمعضوب إذا استأجر من يحج عنه، وأحرم الأجير، وجامع هو- لا يفسد حجه، وإن كان الحج واقعاً عنه.

قال: ويمسح وجهه- أي: كله- بالتراب الذي على يديه؛ لقوله- تعالى-: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وقوله- عليه السلام: "التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةُ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةُ للذِّرَاعَيْنِ إِلَى المَرْفَقَيْنِ" كذا حكي عن رواية ابن عمر.

ورواية جابر: "التَّيَمم ضَرْبَةُ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةُ للذِّرَاعَيْنِ إِلَى المَرْفَقَيْنِ".

ص: 34

قال الماوردي: في كيفية مسحه وجهان:

أحدهما: من أعلاه إلى أسفله؛ كما في الوضوء، وهو الذي ذكره الرافعي.

والثاني: أنه يبدأ بأسفل وجهه، ثم يستعلي، وفارق الوضوء؛ لأن الماء إذا استعلى انحدر بطبعه؛ فعم جميع وجهه، والتراب لا يجري على الوجه إلا بإمراره باليد، فيبدأ بأسفل وجهه؛ ليقل ما يحصل في أعلاه من الغبار؛ فيكون أجمل وأسلم لعينيه.

والوجهان في الاستحباب.

وظاهر كلام الشيخ أنه لا يشرع نفخ اليدين بعد الضرب وقبل المسح للوجه بهما، وهو المحكى عن الجديد.

وحكى الزعفراني، عن الشافعي، أنه قال في القديم: إنه يستحب؛ لأن عماراً روى ذلك عنه، عليه السلام.

واختلف الأصحاب في المسألة على طريقين:

أحدهما: أنها على قولين:

والثاني- وعليه الجمهور-: أن نصه في "الجديد" محمول على ما إذا كان ما علق بيديه قليلاً، إذا نفخه لم يبق منه شيء يستعمل، ونصه في "القديم" محمول على ما إذا كان كثيراً، بل قال أبو الطيب: إن الشافعي نص في "القديم" و"الأم" على أن التراب إذا كان كثيراً خففه.

قال: ثم يضرب ضربة أخرى؛ للخبر.

والتفرقة فيها بين الأصابع مشروعة بلا خلاف، [بل] قال جمع من الأصحاب: إنه لو لم يفرق فيها لم يصح، وهو ما حكاه القاضي الحسين والمتولي، ولعل ذلك فيما إذا لم يوصل التراب إلى ما بينهما بالمسح، وبه صرح الرافعي.

قال: فيضع بطون أصابع يده اليسرى- أي: سوى الإبهام- على ظهور أصابع يده اليمنى- أي: غير الإبهام- ويكون ذلك بحيث لا تجاوز أطراف أنامل يده اليمنى المسبحة من يده اليسرى، ولا تجاوز المسبحة من يده اليمنى أطراف أنامل يده اليسرى، ويمرها على ظهر الكف، فإذا بلغ الكوع- أي: وهو العظم الناتئ الذي يلي الإبهام، والكرسوع هو العظم الناتئ الذي يلي المختصر- أمر إبهام يده

ص: 35

اليسرى، على إبهام يده اليمنى؛ لأنا مأمورون بتقليل التراب ندباً؛ كما دل ليه خبر [عمار] الذي سنذكره، [و] باستيعاب اليدين مع المرفقين بالتراب وجوباً، وهذه الهيئة محصلة للمقصودين، وليس فيها نص من جهة الشارع.

وقال الرافعي: وقد زعم بعض الأصحاب أنها منقولة عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الهيئة لم يحك القاضي الحسين عن الشافعي غيرها.

وحكى غيره عنه هيئة أخرى، ونسبها إلى "الأم": أنه يضع ظهر أصابع يده اليمنى على باطن أصابع يده اليسرى، ويمره على ظاهر أصابع يده اليمنى، حتى ينتهي إلى الكوع، ويمر باطن إبهام يده اليسرى على إبهام يده اليمنى؛ لأن هذه الهيئة أحفظ للتراب الذي على العضو.

ولم يذكر أبو الطيب غيرها.

والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهما حكوا الهيئتين.

ثم محل استعمال الضربة الثانية في اليدين، إذا عمت الأولى الوجه، أما إذا لم تعمه؛ فيحتاج إلى تعميمه قبل مسح اليدين، لأن التعميم شرط، كما سيأتي.

وهل يشترط حالة إمرار إحدى اليدين على الأخرى، ألا يرفعها حتى يستكمل مسحها؟ فيه وجهان، حكاهما المراوزة:

أحدهما: نعم؛ لأنه إذا رفع صار التراب الباقي على اليد بالرفع مستعملاً.

والثاني: لا –وهو الأصح- لأن المستعمل هو الذي يبقى على العضو الممسوح، والباقي على اليد في حكم التراب الذي ضرب عليه اليد مرتين.

قال: ثم يمسح بيده اليمنى يده اليسرى مثل ذلك لما سلف.

قال: ثم يمسح إحدى الراحتين على الأخرى، ويخلل بين أصابعهما؛ ليحصل مسمى المسح المأمور به؛ فإن مجرد حصول ذلك على التراب، وعلوقه به حين الضرب- لا يسمى مسحاً.

ص: 36

قال القاضي الحسين: وهذا إذا بقي على الراحتين بعد مسح الذراعين تراب، فإن لم يبق وجب أخذ تراب جديد لهما.

قلت: وهذا بناء على وجوب مسح إحداهما بالأخرى، إذا فعلت الهيئة المذكورة.

قال: والواجب من ذلك النية؛ لما سلف.

قال: ومسح الوجه؛ للإجماع.

وظاهر كلام الشيخ أنه يجب استيعابه، وبه صرح الماوردي وغيره.

قال: إنه لو ترك موضعاً منه كان يغسله بالماء في الوضوء، فلم يمسحه بالتراب في التيمم- لم يجزئه، وإن قل.

وهذا يقتضي أنه يجب إيصاله إلى ما تحت الشعور الخفيبفة، وهو وجه حكاه في "المهذب"، وقال:[إن المذهب] أنه لا يجب.

والفرق: أن ذلك يعسر في التيمم، بخلاف الماء في الوضوء، وهذا ما ذكره البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين وغيرهم.

وادعى الإمام أنه لا خلاف فيه، بل قال القاضي الحسين: إنه ليس بسنة، وفرع عليه: أنه لو كان على يديه شعور، لا يجب [عليه] إيصال التراب إلى البشرة.

وقال: وكذلك المرأة إذا نبتت لها لحية، لا يجب عليها إيصال التراب إلى ما تحتها، على الصحيح من المذهب، وفيه وجه: أنه يجب.

وهل يجب استعمال التراب في ظاهر ما نزل من اللحية عن الذقن أو لا؟ فيه خلاف كما في الوضوء.

قال: "واليدين" أي: مع المرفقين.

أما دليل [وجوب] مسح اليدين فللآية.

وأما وجه تحديدهما بما ذكرناه؛ فلأن الله- تعالى- أطلق اليد في التيمم، وهي حقيقة إلى المنكب، ومقتضى الإطلاق الحمل على الحقيقة.

لكن ادعى الخطابي أنه خلاف الإجماع؛ فتعين استعماله في مجازه، وحملناه

ص: 37

على ما ذكرناه؛ لما أسلفناه من الخبر، وحملاً لمطلق اليد في التيمم على المقيد في الوضوء، ولأنه ممسوح في التيمم؛ فوجب أن يكون مسحه كغسله، قياساً على الوجه.

قال: بضربتين فصاعداً، أي: إذا لم يحصل استيعاب التراب لما ذكرناه بضربتين- زاد عليهما؛ ليحصل الاستيعاب.

وقد روى أبو ثور عن الشافعي في القديم: أن الواجب مسح الكفين إلى الكوعين. ولم يصحح ذلك الشيخ أبو حامد وطائفة.

وقال الإمام: إن في الفصل فائدة لا بد من التنبيه عليها، وهي أن الأصحاب متفقون على أنه يجب إيصال التراب إلى جميع محل التيمم يقيناً، حتى لو تردد المتيمم في ذلك، وأشكل عليه وجب إيصال التراب إلى موضع الإشكال، حتى يتقين انبساط التراب على جميع المحل.

وقد ورد في الشرع الاقتصار على ضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين. والضربة إذا ألصقت غباراً في الكف، فالظاهر أنه يصل ما لصق بالكف إلى مثل وسعهما من الساعد، ولست أرى أن ذلك الغبار ينبسط على الساعدين ظهراً وبطناً، ثم على ظهور الكفين. ولا ينقدح في هذا إلا مذهبان:

أحدهما: القول القديم.

والثاني: استيعاب جميع المحل بالمسح باليد المغبرة من غير ربط الفكر بانبساط الغبار.

وما عندي أن أحداً من الأصحاب يسمح بهذا.

قلت: وإذا لم يسمح به أحد، تعين ترجيح القديم، وعليه يدل ما روى: أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجنبت فلم أجد الماء؟ فقال عمر: لا تصل، فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين؛ إذ أنا وأنت في سرية فاحتلمنا، فلم نجد الماء: فأما

ص: 38

أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعتك في التراب وصليت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيدَيْكَ عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ تَنْفُخَ فِيهِمَا، ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ"؟ فقال عمر: اتق الله يا عمار، فقال: إن شئت لم أحدث به، فقال عمر: نوليك ما توليت". أخرجه الشيخان وقد قال الشافعي في مواضع- كما حكاه الإمام عند الكلام في تحريم الطيب على المحرم-: إذا صح خبر يخالف مذهبي، فاتبعوه، واعلموا أنه مذهبي.

بل قد حكى الماوردي، عن رواية الزعفراني، عن الشافعي، أنه كان في القديم يعلق الاقتصار على اليدين إلى الكفين على صحة خبر عمار.

والقائلون بالجديد قالوا: قد ورد عن عمار أنه أفتى بخلاف ذلك، أو روى خلافه، [ودل ما ذكرناه] من الأخبار على زيادة؛ فوجب الأخذ بها، وتحمل رواية الكفين على التجوز، قال الله- وتعالى-:{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10].

قال: وترتيب اليد على الوجه، أي: سواء كان التيمم عن حدث أكبر أو أصغر، لأنه طهارة في عضوين؛ فكان الترتيب شرطاً فيهما كما في الوضوء.

وقد أفهم قوله: "وترتيب اليد على الوجه": أن الترتيب في أخذ التراب للوجه واليدين ليس بشرط، حتى إنه لو ضرب ضربة واحدة بيديه، ومسح بإحداهما وجهه واستوعبه، ثم بالأخرى يده- يجوز، وهو أصح الوجهين.

قال: وسننه: التسمية، وتقديم اليمنى على اليسرى، كما في الوضوء.

تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أموراً:

أحدها: أن الواجب مسح الوجه واليدين بالتراب، لكن هل ذلك لأنه أقل ما يخرج به عن العهدة؛ كما دل عليه خبر عمار، والواجب إيصال الترابإلى محل التيمم كيف كان، أو لأنه متعين في الإجزاء؟ هذا ما اقتضى كلام الأصحاب فيه خلافاً؛ فإنهم حكوا أن الشافعي قال في "الأم": وإن سفت الريح عليه تراباً ناعماً، فأمر يده على وجهه لم يجز؛ لأنه لم يأخذه لوجهه، والله- تعالى- يقول: {فَتَيَمَّمُوا

ص: 39

صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6][أي: اقصدوا الصعيد وامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه]، وهذا لم يقصده.

واختلف الأصحاب فيه: فقال ابن القاص في "التلخيص"، وأبو على في "الإفصاح" بظاهره، وهو ما حكاه القاضي الحسين والفوراني، واختاره الإمام.

وقال القاضي أبو حامد في "جامعه": النص محمول على ما إذا لم يصمد للريح، وينوي التيمم.

فأما إذا صمد للريح، ونوى التيمم، أجزأه؛ كما يجزئ في الوضوء إذا جلس تحت ميزاب ونوى الوضوء، وهذا ما اختاره الحليمي، وقال ابن كج: إن الشافعي نص عليه.

ولا جرم قال البندنيجي: إنه المذهب.

والإمام حكاه وجهاً عن رواية صاحب "التقريب"، وقال: إنه غير معدود من المذهب.

وعلى هذا إمرار اليد على الوجه: هل هو واجب؟

قال ابن الصباغ: ظاهر ما قالوه أنه واجب.

وقال القاضي أبو الطيب: يجب أن يحمل وجوبه على ما إذا لم يتيقن حصول التراب في جميع الوجه، فأما إذا تيقن ذلك، لم يحتج إليه؛ كما نقول في الطهارة.

وابن الصباغ مال إلى وجوبه مطلقاً؛ موجهاً له بأنه إذا لم يمر يده، لا يسمى مسحاً، والأمر هو بالمسح وليس كغسل الرأس في الوضوء بدلاً عن المسح؛ لأن الدليل قام في الوضوء على قيام الغسل مقام المسح بإجزائه في الجنابة؛ فأجزأ ذلك

ص: 40

في الوضوء ولم يثبت مثل ذلك في التيمم.

فإذا عرفت ما قاله أبو الطيب، وما حكاه ابن الصباغ من ظاهر قول الأصحاب، واختاره عرفت أنه عين ما ذكرناه من الخلاف.

ونظير ما سلف أن غسل الرأس في الوضوء، هل يقوم مقام المسح؟ وفيه خلاف.

وكذا لو وضع يده على الرأس مبلولة، ولم يمرها، هل يجوز كما لو [أمرها؟] فيه خلاف.

والأصح فيهما: الإجزاء؛ كما هو مقتضى قول أبي الطيب في مسألتنا، وقد رأيت في "تعليقه" التصريح بذلك؛ حيث قال: الواجب أن يوصل التراب إلى وجهه ويديه، على أي صفة وجد.

ثم على ما ذكرناه من المأخذين يتخرج ما إذا معك وجهه في التراب ويديه، فوصل إلى جميع ما يجب إيصاله إليه، ونوى- فعلى رأي أبي الطيب: يجزئه، وعلى رأي غيره: لا؛ لأن الوجه ماسح وكذا اليدين، لا ممسوحين.

وقد صرح بالخلاف فيها الأصحاب، وذهب الصيدلاني إلى القطع بالإجزاء.

قلت: وهو ظاهر الآية؛ فإنها تقتضي أن يكون الوجه واليدين ماسحين. والله أعلم.

وقد سلك الماوردي في النص الذي خرجنا منه المأخذين طريقاً آخر، فقال- بعد حكايته-: قد نص الشافعي فيما إذا وقف الجنب تحت ميزاب حتى عم الماء جميع شعره وبشرته أنه يجزئه.

واختلف الأصحاب على وجهين:

أحدهما: أن مراد الشافعي في الموضعين: إذا لم يمر يده على العضو، أجزأ في الغسل؛ لأن الماء يجري بطبعه؛ فيصل إلى البدن كله، وليس كذلك التراب،

وقوله في الغسل: "يجزئه" أراد: إذا أحضر النية عند إصابة الماء الجسد، فإن تأخرت النية، لم يجزئه.

وحاصل الوجهين يرجع إلى أنه في الغسل: إن نوى، أجزأه، قولاً واحداً؛ وإلا فلا.

ص: 41

وأما في التيمم: فإن لم ينو عند إصابة التراب، لا يجزئه، قولاً واحداً، وهو كذلك. وإن نوى، وأمر يده [عليه] أجزأه، وهو ما حكيناه عن القاضي أبي حامد. وإن لم يمر يده فوجهان:

أحدهما: يجزئ كالماء.

والثاني: لا يجزئ؛ لعدم تحقق استيعاب التراب للمحل، فلو تحقق استيعابه أجزأه، وهو ما حكيناه عن أبي الطيب.

وقال في "الكافي": إن سفت الريح التراب على وجهه ويده، ولم يقصد الخروج للتيمم لا يجزئه، قولاً واحداً، وإن اقترنت نية التيمم بهبوب الريح.

ولو وقف في مهب الريح على قصد التيمم، فسفت الريح التراب على وجهه ويديه؛ فمسحهما بنية التيمم: هل يصح؟ فيه وجهان، أظهرهما: لا؛ كما في الصورة الأولى، وما قاله من التفرقة مستمر على قاعدته في اشتراط اقتران نية التيمم بالضرب، كما سلف.

الأمر الثاني: أن الضربة الواحدة لا تجزئ- وإن حصل الاستيعاب بها- لأنه جعل الواجب ضربتين فصاعداً، وهو ما أطلقه ابن الصباغ وغيره، لكن الذي ذكره البندنيجي: أن الواجب استيعاب ما ذكرناه، سواء كان بضربة أو ضربتين أو أكثر، ويجيء بمقتضى ذلك خلاف في المسألة، وقد حكاه الرافعي، وصحح عدم الوجوب.

قلت: ولعل إطلاق من أطلق المنع محمول على ما إذا لم يحصل الاستيعاب بالضربة الواحدة، وهو الواقع، وذلك يظهر لك مما حكيناه عن الإمام، [ثم] على ما قاله البندنيجي؛ فالإتيان بالضربتين مستحب، دون الزيادة عليهما والنقص عنهما.

وقيل: إنه يستحب أن يضرب ضربة للوجه، وأخرى لليد اليمنى، وأخرى لليسرى، وهو بعيد.

الثالث: إيجاب الضرب، وقد قال الإمام: إنه ليس بشرط، حتى لو أخذ كفاً من تراب، فمسح به وجهه، ثم اخذ كفاً أو كفين، ومسح يديه، واستوعبهما جاز.

ص: 42

وعبارة الماوردي: "إن الضرب ليس بشرط، بل الواجب أن يعلق الغبار بيديه، فإن كان يعلق بهما بالبسط عليه [جاز أن يبسطهما عليه، وإن كان لا يعلق بيديه، لزمه أن يضرب بهما؛ حتى يعلق التراب بهما].

قلت: وهذا أقرب ما يمكن حمل كلام الشيخ عليه، وإن كانت عبارة المتولي وغيره تنازع في بعض ذلك؛ فإنهم قالوا: علوق التراب باليد ليس بشرط، حتى لو مسح يده بخرقة عليها تراب جاز، وهذا متفق عليه إذا كانت الخرقة حال حصول التراب عليها ليست معه، أما لو كانت معه؛ فقد حكى الرافعي فيما لو سفت الريح تراباً على كمه، فمسح به وجهه وجهين، أصحهما: الإجزاء، وهما جاريان فيما لو أخذ التراب عند هبوب الريح، ومسح به وجهه، وقلنا بظاهر النص في مسألة هبوب الريح.

والعبارة الصحيحة أن يقال: المعتبر نقل التراب قصداً من محل غير محل التيمم إلى اليدين وما في معناهما من خرقة وغيرها، ثم إلى محل التيمم.

وفي نقله من بعض أعضاء التيمم [إلى البعض الآخر، ثم] إلى المحل الذي يستعمل فيه- خلاف، والأصح: الإجزاء، كما سلف.

الرابع: أنه لو يممه غيره، جاز فإنه جعل الواجب مسح الوجه واليدين، وذلك يصدق إذا فعله غيره به، وهذا ما ذكره البندنيجي، وحكاه ابن الصباغ عن نصه في "الأم".

وعن ابن القاص: أنه لا يجزئ، قاله تخريجاً.

قال ابن الصباغ: وهو خلاف النص، ولأنه يجوز أن يوضئه غيره؛ فكذلك التيمم.

وقال الإمام والمتولي: إن فعل ذلك بأمره، وكان معذوراً في ذلك صح، بل هو الواجب عليه، وإن لم يكن معذوراً، فوجهان: أظهرهما في "الرافعي": الجواز.

ولو يممه بغير إذنه، قال الإمام: فهو كما لو برز لمهب الريح، سواء قدر على أن يمتنع فلم يمتنع، أو لم يقدر.

الخامس: أن الهيئة التي ذكرها ليست بواجبة ولا سنة فيه؛ لأنه لم يذكرها في

ص: 43

واحد منهما، وهو كذلك؛ لأنا ذكرنا أن المقصود إيصال التراب إلى الوجه واليدين كيف كان، وأن الهيئة المذكورة غير منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا قد نسبه الرافعي إلى قول الصيدلاني، وأنه قضية كلام أكثر الشارحين لـ"المختصر".

نعم، من قال من الأصحاب: إن الهيئة المذكورة منقولة عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يبعد أن يقول: إنها سنة.

ولا جرم قال الرافعي: المشهور أنها محبوبة؛ إشارة إلى ما ذكرناه، لكنه قال في آخر الباب: إنها سنة.

والأول أصح؛ لما ذكرناه.

السادس: أن مسح إحدى الراحتين بالأخرى، والتخليل بين أصابعهما إذا أتى بالهيئة المذكورة- لا من واجبات التيمم ولا من سننه؛ لأنه لم يذكرهما في واحد منهما.

وجوابه: أن الشافعي قال ذلك، واختلف الأصحاب في أن ذلك واجب أو مندوب إليه.

فمنهم من قال: إنه واجب، وبه جزم في "الكافي"؛ لأن به يصل التراب من كل يد منهما إلى الأخرى؛ فيحصل استيعاب العضو.

ولا يقال: إن التراب الذي حصل حالة الضرب [بهما، أسقط فرض ذلك المحل؛ لأنا نقول: المتيمم حالة الضرب] قاصد أن يمسح بما حصل في كل يد الأخرى؛ فلا يسقط به فرضها؛ كالمتوضئ إذا أدخل يده الإناء بعد غسل الوجه بنية الاغتراف، ولأنه [لو] سقط بذلك الفرض عن الراحة وما بين الأصابع لم يجز استعماله [في اليد الأخرى؛ لأنه يصير مستعملاً] كما لو أخذ الماء في الوضوء من إحدى اليدين، وأراد أن يستعمله في اليد الأخرى.

ومنهم من قال: إنه مستحب، وبه جزم البندنيجي وابن الصباغ؛ إذ فرض ذلك سقط بمجرد الضرب، ولا يرد جواز استعمال ما علق بذلك من التراب في اليد.

ص: 44

الأخرى؛ لأنا نقول: اليدان تجريان مجرى العضو الواحد، وإنما لم يجز نقل الماء في الوضوء؛ لانفصاله عن المحل المستعمل فيه، وها هنا لا يوجد الانفصال؛ ولأن به- هاهنا- حاجة إلى ذلك؛ ولأنه لا يمكنه أن ييمم ذراعه من يد بكفها؛ فصار بمنزلة نقل الماء في العضو الواحد من بعضٍ إلى بعض، ولا كذلك في الوضوء؛ فإنه يمكنه أن يقلبه من كفه على ذراع تلك اليد؛ فقلنا: لا يجوز أن يستعمل ما رفع الحدث عن كفه في اليد الأخرى.

قلت: ولو خرج الخلاف على أن إمرار التراب على العضو هل هو شرط أم لا؟ لم يبعد، والله أعلم.

السابع: أن الموالاة ليست من الواجبات ولا من السنن.

والمشهور: أن في وجوبها قولين؛ كما في الوضوء.

ومنهم من قطع بالوجوب، ومنهم من قطع بعدمه؛ وعلى هذا تكون من سننه.

وكذلك قال البغوي: إن الموالاة من سننه؛ على الجديد. وعد من المستحبات فيه إمرار التراب على العضد وكذا ذكره غيره، ونازع بعضهم فيه.

ولا يستحب فيه التكرار، كما أفهمه كلام الشيخ.

وتجديده لا يستحب كما قاله الغزالي.

وقال القاضي: سألت القفال عن تجديد التيمم، [هل هو سنة] فقال لي: كدت تغالطني، التجديد لا يتصور في التيمم؛ لأن التيمم إنما يجوز بعد طلب الماء، وطلب الماء يبطل التيمم، فإذا تيمم ثانياً فيكون هو [الفرض] لأنه بطل الأول بخلاف الوضوء.

وفي "الذخائر": أن القفال قال: إنه لا يتصور لعدم الماء، وأما للجرح فيجدد المغسول، وهل يستحب تجديد التيمم؟ فيه وجهان: قال الشاشي وينبغي أن يجدد

ص: 45

لعدم الماء في النافلة.

قلت: وما حكاه القاضي عن القفال مخصوص بالتيمم لعدم الماء؛ إذ هو الذي لأجله يجب الطلب. وهو ما صرح به مجلي عنه، ولا شك فيه إذا كان [التجديد بعد] الانتقال من المكان الذي وقع فيه التيمم الأول.

أما إذا كان في الموضع الذي وقع فيه التيمم أولاً، ولم يغلب على ظنه حدوث ماء فيه، فإن قلنا: لابد في مثل هذه الحالة من تجديد الطلب فالحكم كذلك. وإن قلنا: لا يحتاج إلى طلب، فقد انتفت علة القفال؛ فحينئذ يكون كالتيمم لأجل الجرح؛ فيأتي فيه الوجهان اللذان ذكرهما مجلي عن القفال.

ثم في جزم القفال باستحباب تجديد المغسول، مع تردده في استحباب تجديد التيمم نظر؛ فإنه إذا لم يستحب الإتيان بالتيمم لم يكن آتياً بالطهارة كاملة، والإتيان ببعض الطهارة غير مستحب، اللهم إلا أن يقال: لما لم يمكن استعمال الماء في الباقي والتيمم عنه غير مشروع صار ذلك البعض كالمفقود. وما ذكره الشاشي احتمالاً لا وجه له مع ما ذكره القفال فتأمله، والله أعلم.

قال: ولا يجوز التيمم لمكتوبة إلا بعد دخول الوقت؛ لقوله- تعالى-: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] فإن ظاهرها المنع من الوضوء والتيمم إلا عند القيام إلى الصلاة، والقيام إليها بعد دخول الوقت، [وقد] خرج جواز الوضوء قبل ذلك بالدليل، وبقي التيمم على ظاهرها.

وقوله عليه السلام: "جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِداً، وَتُرَابُهَا طَهُوراً، أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ"؛ فإنه يقتضي أن التيمم إنما يكون بعد إدراك الوقت، ولأنه قبل دخول الوقت مستغنى عنه؛ فلم يصح؛ كما في حالة وجود الماء، ولا يرد جوازه في أول الوقت؛ لأن الصلاة وجبت، وهو محتاج لبراءة ذمته، ولأنه محتاج إليه لأجل حيازة فضيلة [أول الوقت].

نعم، هل يجوز أن يتيمم في أول الوقت ويوقع الصلاة في آخره، أو يشترط تعقب الصلاة [له]، كما في طهارة المستحاضة؟ فيه وجهان في "الحاوي"، والمذكور

ص: 46

في "الرافعي": الجواز، وهو المنصوص.

وهل من شرط هذا [الشرط] العلم به، حتى لو تيمم ظاناً أن الوقت لم يدخل، وكان قد دخل لا يصح تيممه، أو لا يشترط حتى [يصح] تيممه في الصورة المذكورة؟ فيه وجهان في "البحر" في كتاب الحج، ونظيرها ما إذا صلى الرجل خلف خنثى، فظهرت رجوليته بعد ذلك.

تنبيه: المراد بعدم الجواز- كما قال بعضهم- عدم الصحة.

قلت: ويجوز أن يراد به مع ذلك التحريم؛ لأن فيه تلاعباً بالعبادة، وستعرف تقديره في الحيض.

وإذا لم تصح المكتوبة؛ فهل تستباح به النافلة المطلقة؟

المشهور: لا.

ومنهم من خرجه على وجهين؛ بناءً على ما إذا تحرم بالظهر قبل الزوال، وهذه [الطريقة] مفرعة على الصحيح في أنه إذا تيمم للفرض استباح النفل قبله وبعده.

والمراد بالوقت [الوقت] الذي يجوز إيقاع الصلاة فيه أصلاً أو تبعاً في الجمع، إذا قلنا: يجوز الجمع بين الصلاتين بالتيمم وهو الصحيح، دون ما إذا قلنا: لا يجوز للمتيمم الجمع، [وهو] ما جزم به الماوردي هنا.

نعم، على الأول، إذا تيمم للعصر في وقت الظهر، ثم دخل وقت العصر قبل شروعه فيها لا يصليها بذلك التيمم؛ لأن الجمع قد بطل؛ فانحل الرباط، كذا قاله الرافعي.

والمراد بالمكتوبة: إحدى الصلوات الخمس؛ يدل عليه قوله: "الصلاة المكتوبة خمس"، وهو يقتضي أمرين:

أحدهما: أن التيمم للفائتة يجوز أي وقت شاء؛ لأن وقتها قد دخل، ولا شك في ذلك إذا كان ذاكراً لها، ووجهه الأصحاب بأنه تيمم لها بعد دخول وقتها، وهو وقت

ص: 47

الذكر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا".

نعم، قبل الذكر لا يصح، وصور ذلك في "الكافي" بما إذا تيمم لفائتة ظنها عليه، ثم تذكر أنها عليه، وإذا صح فدخل وقت مكتوبة غيرها، فهل له أن يصليها بذلك التيمم؟

المشهور عن ابن الحداد: نعم، وهو الأصح في "الرافعي"، والمختار في "المرشد".

واختيار أبي زيد، والخضري: أنه لا يجوز كما لو تيمم لها قصداً.

وفي "تعليق القاضي الحسين": أن ابن الحداد قال: لو تيمم لفائتة قبل دخول وقت فريضة، ثم دخل وقت الفريضة لا يجوز له أن يصلي به فرض الوقت، ولو تيمم بعد دخول الوقت لصلاة الوقت، ثم ذكر فائتة- له أن يصلي به [تلك] الفائتة، وأن الأصحاب اختلفوا في ذلك:

فمنهم من سوى بين المسألتين في المنع.

ومنهم من سوى بينهما في الجواز.

ومنهم من أقر كلام ابن الحداد، وفرق بأنه: في الصورة الأولى لم يكن الفرض الذي يريد أن يوقعه بالتيمم واجباً عليه حال تيممه، بخلاف الصورة الثانية، فإنه كان واجباً عليه حال تيممه.

وصاحب هذه الطريقة يقول: لو أنه تيمم لفائتة ذكرها في وقت فريضة أخرى، يجوز أن يصلي به فريضة الوقت، وكذا لو تيمم لفريضة الوقت، له أن يصلي به الفائتة التي ذكرها في ذلك الوقت.

والأولان أجريا مذهبهما فيهما، وطردا الوجهين.

ومذهب ابن الحداد، وغيره جارٍ- كما حكاه الإمام- فيما إذا تيمم للنفل يصلي به الفرض، فدخل وقت المكتوبة، هل يصليها به أم لا؟

ص: 48

والخلاف يجري- كما قال القاضي- فيما إذا تيمم لفائتة، ثم تذكر فائتة غيرها، هل له أن يصليها به أم لا؟

وهذا كله تفريع على أن تعيين الفريضة في التيمم ليس بشرط.

الأمر الثاني: أن التيمم لغير المكتوبة يجوز قبل دخول الوقت، وذلك يشمل صوراً، منها:

الصلاة المنذورة في وقت بعينه، ويظهر أن ينبني ذلك على [أن] النذر، [هل] يسلك به مسلك جائز الشرع أو واجبه؟

فإن قلنا بالأول، كان كالنافلة، وإلا فكالفريضة، [وهو المذكور في "التتمة"].

ومنها: السنن الراتبة، وقد ألحق الرافعي بها صلاة الجنازة، وادعى أن المشهور عدم الصحة قبل الوقت، وأن الإمام حكى في ذلك وجهين، ووجه الجواز: أن الشرع تساهل في النفل بجواز القعود [فيه، وفعله] على الراحلة؛ ليكثر، وبهذا خالف الفرائض.

قلت: وعندي أن الخلاف في صلاة الجنازة ينبغي أن يتخرج على أنه [هل] يجوز أن يجمع بينها وبين مكتوبة بتيمم واحد كما يجمع بين المكتوبة والنافلة، أو لا يجوز، كما لا يجوز أن يجمع بين مكتوبتين؟

فإن قلنا بالأول، فهي كالنافلة الراتبة، وإلا فكالفرائض، وعلى هذا فوقتها يدخل بغسل الميت. وهل يدخل بالموت؟ فيه وجهان:

أصحهما- في "الكافي"، وهو المذكور في "تعليق القاضي الحسين"-: لا.

وأصحهما- في "الحلية"، وبه أجاب الغزالي في "فتاويه"-: نعم.

وصلاة الاستسقاء يدخل وقتها، باجتماع الناس لها في الصحراء.

وتحية المسجد يدخل وقتها بدخوله.

ومنها: النافلة المطلقة؛ فإن مقتضى كلام الشيخ جواز التيمم لها في وقت الكراهة وإن قلنا: لا يصح فعلها فيه؛ لأنه [تيمم قبل الوقت.

وقد حكى في "التتمة" عدم الجواز عن نصه في "الأم"].

ص: 49

قال: وهل يصح؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي الحسين- أيضاً- وقال: إنهما ينبنيان على أن الصلاة في الأوقات المكروهة بلا سبب، هل تصح؟

إن قلنا: نعم، صح تيممه، وإلا فلا.

وادعى القاضي أنه: لا خلاف في أنه إذا تيمم قبل الوقت المكروه، ثم دخل الوقت المكروه أنه لا يبطل، وهو صريح في أن التيمم للنافلة، في غير وقت الكراهة، يجوز متى شاء؛ لأنه وقت لها.

قال: وإعواز الماء، أو الخوف من استعماله.

إعواز الماء: عدمه، وتعذره بسبب حائل [وحشي] أو غير حائل، والمعوز: الذي لا شيء معه.

والخوف من الاستعمال، المراد به: توقع تلف نفس أو عضو أو منفعة، وكذا حصول زيادة في المرض، ونحوها على قول يأتي.

والدليل على اشتراط ذلك في التيمم ما ذكرناه [في] أول الباب.

ويشترط أن يكون موجوداً بعد دخول الوقت، كما [هو] ظاهر لفظ الشيخ؛ لأنه وقت جواز التيمم.

ثم ظاهر عطف "إعواز الماء، أو الخوف من استعماله" على "دخول الوقت" – أن يكون قيد المكتوبة قيداً فيهما- أيضاً- حتى لا يكون واحد منهما شرطاً في النافلة وغيرها مما ذكرناه. وليس كذلك بل لا يجوز التيمم كذلك إلا عند إعواز الماء، أو الخوف من استعماله، سواء خشي فوات ذلك أو لم يخشه هذا مذهبنا.

والجواب عما يفهمه ظاهر لفظ الشيخ، أن مراده: أن "وجود" مجموع ما ذكره من دخول الوقت، وإعواز الماء، أو الخوف من استعماله- شرط في المكتوبة.

ومفهومه: أن المجموع ليس شرطاً في غيرها، وهو كذلك، لأن المجموع كما

ص: 50

ينتفي [بانتفاء كله] ينتفي بانتفاء بعضه، والله أعلم.

قال: فإن أعوزه الماء، أو وجده وهو محتاج إليه للعطش، لزمه طلبه، أي: طلب ما يستعمله.

ووجهه في الأولى قوله- تعالى-: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] ولا يقال: لم يجد، إلا لمن طلب؛ فدل على الأمر به؛ كما سلمه الخصم في قوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء:92] ولأن الماء شرط يختص بالصلاة، يتقدمها؛ فوجب إذا تعذر [عليه] أن يطلبه: أصله القبلة إذا تعذر عليه وجهها.

ووجهه في الثانية الآية أيضاً إذ الحاجة صيرته كالمفقود.

فإن قلت: ينبغي أن يجب استعماله في الطهارة، ويجمع، ويشرب، إذا كان ذلك ممكناً؛ إذ به يحصل المقصودان، ولا يقال: إنما لم يجب لأن النفس تعافه؛ فإن الماوردي وأبا علي الزجاجي، وآخرين قالوا فيما إذا كان معه ماء طاهر، وماء نجس، وهو عطشان-: إنه يتطهر بالماء الطاهر، ويشرب النجس، ولا يتمم، وإذا وجب شرب النجس لأجل الطهارة؛ فشرب الطاهر أولى.

ص: 51

ومن قال: إنه لا يشرب النجس في هذه الصورة، بل يشرب الطاهر ويتيمم، وهو الشاشي فإنما منع [منه]؛ لأجل النجاسة؛ فإنه لا يباح تناولها إلا عند الضرورة، ولا ضرورة، بخلاف الماء المستعمل.

قلت: التعليل بالعيافة متعين، وما ذكره الماوردي وغيره دليل عليه؛ إذ لو لم يكن علة في منع استعماله لما جوزوا له شرب الماء النجس مع قدرته على شرب الماء طاهر بعد استعماله.

تنبيه: الضمير في قول الشيخ: "وهو محتاج إليه؛ للعطش" يعود إلى الماء، والتقدير: والماء محتاج إليه؛ للعطش [أي: الحاجة] التي يخشى معها عند عدم الاستعمال ما ذكرناه؛ قاله الإمام [ثم] ومن تبعه.

والمذكور في "الحاوي" و"تعليق أبي الطيب"، عند الكلام في المرض: أنه يختص بخوف التلف.

قال الماوردي: ولو قيل: هما سواء، لكان أصح.

ثم ذلك يكون حقيقة في الحاجة الناجزة، أما في الحاجة المتوقعة، كما إذا كان في برية يتحقق أنه لا يجد الماء فيها في غده، وهو مستغن عنه في وقته؛ فإطلاق الاحتياج إليه في الوقت مجاز، ولا نظر إليه عند الشيخ أبي حامد؛ فإن الشافعي قال في "الأم": إذا كان مع الرجل في السفر إناءان: أحدهما: طاهر، والآخر: نجس، فاشتبها عليه، وكان يخاف العطش فيما بعد إن توضأ بالماء فإنه يتحرى، ويتوضأ بالطاهر في ظنه، ويمسك الآخر، [حتى] إن احتاج إليه لعطشه شربه.

قال الشيخ أبو حامد: وهو صحيح؛ لأن ترك التوضؤ بالماء، والعدول إلى التيمم؛ لخوف العطش فيما بعد لا يجوز؛ [وإنما يجوز] ذلك إذا خاف العطش في الحال؛ كذا حكاه في "البيان"، [في باب الشك في نجاسة الماء والتحري فيه].

والإمام وغيره أقاموا الحاجة المتوقعة في الصورة التي ذكرناها، كالحاجة الناجزة في جواز التيمم.

ص: 52

نعم لو لم يتحقق العدم في الغد، بل كان يرجو وجود الماء فيه: فهل يباح له التيمم، أو لا ويستعمل ما معه من الماء؟ فيه وجهان في "التتمة"، ومثلهما ما حكاه القاضي الحسين- ها هنا: أن من كان معه ماء يفضل عن حاجته في المنزل لكن يحتاج إليه في المنزل الثاني، وهناك من يحتاج إليه في المنزل الأول: فهل يجب دفعه لصاحب الحاجة الناجزة، أو لا؟ فيه وجهان.

ولفظة: "محتاج إليه [للعطش] " تشمل حاجة صاحب الماء، وحاجة [غيره من آدمي أو حيوان محترم: وهو ما لا يباح قتله.

وقيل: إن حاجة] غيره المتوقعة لا تبيح التيمم، وهذا ما أبداه الإمام احتمالاً، وتابعه في "الوسيط".

قال الرافعي: والظاهر الذي اتفق عليه المعظم: أنه يتزود لرفقته؛ غذ لا فرق بين الروحين في الحرمة.

وتقييد الحاجة بالعطش يفهم أن الحاجة لغير العطش لا تبيح التيمم، وليس كذلك؛ لأنه لو فضل عن قدر حاجته للشرب شيء من الماء، ولا طعام معه، واحتاج إلى بيعه؛ لينفق ثمنه في طعام يشتريه- كان الفاضل كالمعدوم، قاله في "التتمة".

وهذا يمكن أن يجاب عنه بأنه في معنى الحاجة إليه للعطش؛ فإن [المأخذ] فيهما واحد.

نعم، من وجد من الماء ما يكفيه لطهارته من الحدث، وعلى بدنه نجاسة، والماء الذي معه قدر ما تزول به، وهو محتاج إليه لإزالتها، إذ لا بدل له عن ذلك- فالماء في حقه كالمفقود، قاله الماوردي [والمتولي وغيرهما].

نعم، هل يصح تيممه قبل استعماله في إزالة النجاسة؟ فيه وجهان في "الحاوي"؛ مأخذهما أن التيمم قبل الاستنجاء، هل يصح، أم لا، كما سلف؟

قال: والأصح: الصحة، لأن المقروح يجوز أن يقدم التيمم على الماء، وإن كان لا يستبيح [به] الصلاة.

ص: 53

قال: فيما قرب منه؛ لأن في تكليفه طلبه فيما بعد مشقةً غير محتملة.

وقد حد الغزالي ومن بعده القرب بما يلحقه فيه غوث الرفاق؛ أخذاً من قول الإمام: لا نكلفه التعدي عن مخيم الرفقة فرسخاً أو فرسخين، وإن [كانت الطريق] آمنة.

ولا نقول: لا يفارق طنب الخيام؛ فالوجه القصد، وهو أن يتردد ويطلب إلى حيث لو استغاث بالرفقة لأغاثوه، مع ما هم عليه من التشاغل بالأشغال، والتفاوض في الأقوال، وهذا يختلف باستواء الأرض واختلافها صعوداً وهبوطاً.

قال الرافعي: ولا يلفى هذا الضبط في كلام غيره، وليس في الطرق ما يخالفه.

قلت: بل عبارة الماوردي توافقه؛ لأنه قال: عليه طلبه في المنزل الذي حصل فيه من منازل سفره، وليس عليه طلبه من غير المنزل الذي هو منسوب إلى نزوله.

وفي عبارة القاضي الحسين ما يقتضي أمراً آخر، سنذكره.

ثم كيفية الطلب- كما قاله البندنيجي وغيره-: أن ينظر في رحله، وفيما تحت يده أولاً- قال البندنيجي: ما لم يتحقق عدمه فيه- فإن لم يجده سأل من أصحابه وأهل رفقته.

قال في "الروضة": قال أصحابنا: ولا يجب أن يطلب من كل واحد من الرفقة بعينه، بل ينادي فيهم: من معه ماء؟ من يجود بالماء؟ ونحوه حتى قال البغوي وغيره: لو قلت الرفقة لم يطلب من كل بعينه.

ص: 54

وفي "الرافعي": أنه إذا كان معه رفقة، وجب سؤالهم إلى أن يستوعبهم، فإن بذلوه له بثمن أو بغير ثمن، فالكلام عليه يأتي.

وإن لم يبذلوه، وكان في القوم من له خبرة بماء ذلك المكان، فعليه أن يسأله عنه، فإن لم يخبره بشيء، فإن كان على مستو من الأرض، نظر في الجوانب الأربع، ويخص المواضع الخضرة واجتماع الطيور [بمزيد في] الطلب.

وقال القاضي الحسين: إنه يجب في هذه الحالة عليه أن يمشي في طلبه غلوة سهم من الجوانب الأربع، وهذا منه قد يقتضي أن الطلب قد يختص بما يوازي هذه [المسافة عند عدم الاستواء] وهذا ما أشرت إليه من قبل.

وإن كان على قلاع تسفل، أو وهاد ترفع.

قال في "الشامل": ثم ينظر حواليه.

قال الشافعي [في "البويطي"]: وليس عليه أن يدور في الطلب؛ لأن ذلك أكثر ضرراً عليه من إتيانه الماء في المواضع البعيدة.

ثم ما ذكرناه من التسفل والترفع مخصوص بما إذا لم يكن عليه ضرر في ذلك، والضرر أن يخاف على رحله إن غاب عنه، أو على ماله أو نفسه في طريقه، أو

ص: 55

انقطاعه عن الرفقة؛ لارتحالهم قبل عوده، أو مشقة تلحقه من المشي كما قاله أبو الطيب، أو فوت وقت الصلاة؛ وذلك بألا يبقى من الوقت قدر الصلاة على وجه، وعلى آخر، بألا يبقى منه قدر ركعة.

وفي "الرافعي" حكاية وجه: أن فوت الوقت ليس بعذر في ترك الطلب وأكثر ما ذكرناه كلام الشيخ الآتي ينبه عليه، كما بينته.

تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أموراً:

أحدها: أن الطلب يكون بعد دخول الوقت؛ [لأنه شرط أن يكون بعد الإعواز، وقد بينا أن الإعواز المعتبر هو الموجود بعد دخول الوقت] وهذا مما لا خلاف فيه بين الأصحاب، حتى قالوا: لو طلب مع شكه في دخول الوقت، أو ظن دخوله- لا يجزئه؛ حكاه الماوردي.

ومن طريق الأولى إذا طلب قبل الوقت، يلزمه أن يعيده بعد الوقت؛ لاحتمال الوجود.

نعم، لو دام نظره إلى [المواضع التي] يجب النظر إليها بعد دخول الوقت كفاه ذلك؛ لأنه لو وجد ذلك بعد الوقت مفرداً كفاه، قاله ابن الصباغ.

قلت: ولو خرج الأمر بتجديد الطلب على ما سنذكره، فيما إذا طلب لصلاة، ثم أراد التيمم لصلاة أخرى- لم يبعد.

الثاني: أنه يجوز أن يطلب الماء بنفسه، وبمن يثق به، وهو المذكور في "الحاوي"، و"تعليق القاضي الحسين"، قال: وخالف طلب القبلة، حيث لا يجوز أن يفوضه إلى غيره؛ لأن أمر القبلة خفي غير معاين؛ فربما يخفى على واحد، ولا يخفى على غيره؛ لأن مبناه على الاجتهاد؛ فلا يقوم اجتهاد غيره مقام اجتهاده، وأما رؤية الماء فشيء مشاهد معاين، يستوي فيه الكل؛ إذ ليس مبناه على الاجتهاد؛ فجاز أن يقوم غيره فيه مقامه.

وفي "التتمة" تخريج جواز الاستنابة في طلب الماء على أنه هل يجوز أن ييممه

ص: 56

غيره بإذنه، أم لا؟

والظاهر منهما في "الرافعي": الجواز؛ حتى لو بعث النازلون واحداً؛ ليطلب الماء لهم أجزأ طلبه عن الكل، ولو بعثه بعضهم دون باقيهم أجزأ ذلك عن الباعثين، دون من لم يأمره به. وهذا في حالة قدرة الباعث على الطلب بنفسه؛ فإن لم يقدر عليه إلا بغيره فهو واجبه.

الثالث: أن محل وجود الطلب، إذا جوز وجود الماء، دون ما إذا تحقق عدمه؛ بأن كان في رمال [بعض] البوادي، ولا رحل له، ولا رفيق؛ فإن طلبه مع تحقق عدمه- عبث، وهذا هو الصحيح، وكلام البندنيجي السابق يفهمه.

وفي "التتمة" حكاية وجه آخر: أنه يجب في هذه الحالة؛ لعموم قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا} [المائدة: 6].

وفي "النهاية": الجزم- في هذه الصورة- بعدم إيجاب الطلب؛ لما ذكرناه.

وحكي عن بعض المصنفين حكاية وجهين في وجوبه في الموضع الذي يغلب على الظن فيه العدم ولا يتحقق، واستبعده.

ثم وجه عدم الوجوب بأن طلبه [يحصل غلبة] الظن بالعدم، وهي حاصلة قبله؛ فلا معنى له.

الرابع: وجوبه عند كل تيمم، سواء انتقل عن ذلك الموضع أو أقام به، [أو] غلب على ظنه حدوث ماء أو لم يغلب على ظنه، وهو مقتضى إطلاق العراقيين، وبه صرح الماوردي، لكنه قال:[إنه] ليس عليه إعادة طلبه في رحله؛ لأن عدم الماء في رحله متيقن، ووجوده في غيره يجوز.

وقال المراوزة: إن انتقل من ذلك المكان إلى موضع لو كان فيه ابتداء لوجب عليه طلبه فيه- وجب، وكذا إذا لم ينتقل، وحدث ما يحتمل بسببه وجوده، مثل غيم أو قدوم ركب.

أما إذا لم يحدث شيء من ذلك؛ فإن كان قد تيقن بالطلب الأول أنه لا ماء في ذلك الموضع؛ فلا يجب الطلب؛ بناء على ظاهر المذهب، وهو مقتضى تعليل

ص: 57

الماوردي السالف، وفيه الوجه السابق.

وإن لم يتحقق العدم؛ بل غلب على ظنه؛ ففي وجوب إعادة الطلب وجهان: أصحهما في "الكافي": أنه لا يجب.

وأصحهما في "النهاية" والأظهر في "الرافعي": وجوبه.

قال الإمام: لكن يكون أخف من الطلب الأول.

ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون التيمم الثاني لصلاة غير الصلاة التي تيمم لها أولا، أو لها نفسها؛ بأن أحدث بعد التيمم الأول، وقبل الصلاة، قال الرافعي: أو حدث ركب قبل الصلاة.

قلت: ولعل هذا محمول على وجوب الطلب فيما عدا سؤال أهل الركب؛ فإنه قد تقدم أنه إذا حدث ركب، وجب الطلب، بلا خلاف.

وكل هذا فيما إذا لم يتحقق وجود الماء، فإن تحقق وجوده، فسنذكر حكمه.

قال: فإن بذل له- أي: على وجه الهبة- أو بيع منه بثمن المثل- أي: وهو قادر عليه- لزمه قبوله: أما في الأولى فلأنه يعد واجداً للماء؛ فإن المسامحة غالبة به، ولا تعظم منه في قبوله- وأما في الثانية؛ فبالقياس على ما لو بذلت له الرقبة في الكفارة [كذلك].

وقيل في الأولى: إنه لا يجب قبوله؛ لما فيه من المنة في تلك الحالة، وبالقياس على هبة ثمن الماء؛ فإنه لا يجب [عليه] قبوله إجماعاً؛ كما قال الإمام.

والمنصوص في "الأم"، وبه جزم الجمهور، ومنهم القاضي الحسين والإمام: الأول.

ثم محل الإجماع على أن بذل ثمن الماء لا يجب قبوله- كما قال الرافعي- إذا كان الواهب أجنبياً.

أما لو كان ولد المعوز أو أباه، فقد حكى بعض الأصحاب في وجوب قبوله وجهين، كالوجهين فيما إذا بذل الابن لأبيه- أو بالعكس- المال في الحج: هل يلزمه القبول، وهل يصير مستطيعاً به؟

ص: 58

قال: وهذا حسن، لكن الأظهر ثم أنه لا يجب [القبول] فيجوز [أن] يكون إطلاق من أطلق الجواب بعدم وجوب القبول جرياً على الأظهر واقتصاراً عليه.

قلت: أو لأن الفرق بين البابين لائح، وهو أن للماء بدلاً-[وهو التراب]- بخلاف الحج- والله أعلم.

والقدرة التي أردناها أن يكون واجداً له، أو لعرض تفي قيمته به في موضع البيع، أو واجداً لذلك في بلده، وقد رضي صاحب الماء ببيعه بثمن مؤجل؛ نص عليه في "البويطي"، وبه جزم في "الكافي" وغيره.

وقيل: إنه في الصورة الثانية غير قادر؛ لأنه يحتمل أن يهلك ماله قبل وصوله إليه؛ وهذا ما جزم به الماوردي، وصححه بعضهم.

والخلاف جار فيما لو أقرضه ثمن الماء، وهو واجد له في بلده، عادم له في موضعه.

والأصح منه في "الكافي": وجوب القبول.

وفي "الرافعي" مقابله؛ لما ذكرنا من العلة.

وهو جار- أيضاً- فيما أقرضه الماء نفسه.

وصحح في "الكافي" الوجوب- أيضاً- ووافقه الرافعي عليه، ووجهه بأنه إنما يطالب عند الوجدان؛ وحينئذ يهون الخروج عن العهدة.

قلت: وفي ذلك نظر؛ لأنه إن أراد وجدان الماء، فقد نص الشافعي على أنه: إذا أتلف عليه ماء في مفازة، ولقيه في بلد [آخر] فإن الواجب قيمته في المفازة؛ فإن الماء في البلد تقل قيمته، وستعرف ذلك في كتاب الغصب.

وإن أراد وجدان قيمته في البلد، فقيمته وثمنه الذي يقرضه إياه سواء في المعنى؛

ص: 59

فلا فرق، والله أعلم.

ومع وجدانه لقيمة الماء المبذول نقداً أو عرضاً؛ بشرط أن يكون ذلك فائضاً عن [قضاء ما عليه من دين حال أو مؤجل] وعما يحتاج إليه في سفره لنفسه وأتباعه في ذهابه ورجوعه.

وقيل: إن كان غريباً، لا يشترط فضله عن حاجته في الرجوع؛ كما في نظيره في الحج، وأشار إليه الإمام.

وثمن المثل: هو الذي يبذل في مقابلته في ذلك الموضع، في عموم الأحوال؛ قاله أبو إسحاق المروزي، ولم يحك البندنيجي والماوردي وابن الصباغ غيره، واختاره الروياني.

وقيل: ما يبذل في مقابلته في ذلك الموضع مع السلامة واتساع الماء؛ حكاه الإمام عن بعض المصنفين، وهو في "الإبانة".

وقيل: ما يبذل في مقابلته في تلك الحالة؛ وهو ما حكاه الإمام عن الأكثرين، والأصح في "الإبانة"، ولم يحك الشيخ أبو حامد- كما قيل- غيره.

وقيل: إن الماء لا ثمن له؛ و [إنما] المعتبر أجرة مثل استقائه ونقله إلى ذلك

ىم بغؤبلي

ص: 60

المكان؛ وعلى هذا فالأجرة تختلف باختلاف المسافة طولاً وقصراً.

قال الرافعي: فيجوز أن يعتبر المقصد الوسط، ويجوز أن يعتبر الحد الذي يسعى إليه المسافرون [عند تيقن] الماء؛ فإن ذلك الحد لو لم يقدر على السعي إليه بنفسه، واحتاج إلى بذل الأجرة لمن ينقل الماء منه إليه، يلزمه البذل إذا كان واجداً لها.

قلت: والأشبه: اعتبار أجرة ذلك من أقرب المواضع التي جرت العادة بنقله منها إلى ذلك الموضع، سواء كان يجب على الحال به طلبه منه عند تيقنه أو لا، وهذا الوجه قال الإمام: إنه مبني على أن الماء لا يملك، وهو وجه سخيف، وقضية البناء تضعيفه.

والغزالي قال: إنه جار وإن قلنا: إن الماء مملوك- على الأصح- وإنه الأعدل.

قال الرافعي: ولم أر من رجحه غيره، ومن تبعهظتا بل يق يا يب لغ.

ص: 61

وقد أفهم كلام الشيخ أموراً:

أحدها: أن محل وجوب القبول إذا كان البذل بعد دخول الوقت؛ لأنه وقت وجوب الطلب، كما تقدم، وبه صرح الماوردي، وقال: إنه لا يجب إذا بذل له قبل دخول الوقت؛ لأنه لا يجب عليه طلب اتهابه؛ [لأنه جعل] محل وجوب قبول الهبة إذا بذل له.

وقد حكى المراوزة؛ [في وجوبه وجهين:

أحدهما: أنه لا يجب]؛ لأن السؤال صعب على ذوي المروءات وإن هان قدر المسئول.

وأصحهما في "التهذيب"، و"الرافعي": أنه يجب، وادعى البندنيجي أنه ظاهر نصه في "البويطي"، ولم يحك غيره؛ لأن ما وجب قبوله وجب طلبه؛ كالبيع.

وعلى هذا فيجوز أن يقال: كلام الشيخ لا ينفيه، ويكون تقديره: إذا طلب اتهابه؛ فبذل له لزمه قبوله؛ وحينئذ يكون فيه [تنبيه] على وجوب السؤال عنه من رفقته، كما سلف.

والوجهان جاريان- كما قال في "الوسيط"-[في وجوب] طلب استقراض ثمنه، إذا قلنا بوجوب قبوله عند بذله. ورأيت في كلام غيره القطع بعدم الوجوب.

الثاني: أنه لو بذل له بأكثر من ثمن مثله لا يلزمه قبوله، قلت الزيادة أو كثرت، وهو ما حكاه الماوردي، والبندنيجي، والقاضي الحسين، والإمام.

وفي "التتمة": أن القاضي الحسين قال: إن قلت [بحيث لو غبن] الوكيل بمثلها، صح البيع- يلزمه قبوله، ولا يباح له التيمم، وهو المذكور في "التهذيب".

ثم ظاهر كلام الأصحاب: أنه لا فرق في الزيادة المانعة من لزوم القبول بين أن تكون بسبب تأجيله، إذا أوجبنا الشراء بثمن مؤجل يقدر عليه في بلده، أو لا، وبه صرح القاضي الحسين في "تعليقه".

وفي "الرافعي" وجه آخر: أن الزيادة بسبب التأجيل إذا كانت لا تزيد على ثمن مثله

ص: 62

مؤجلاً ليست بزيادة، وجعله أظهر.

الثالث: أنه لو خالف عند وجوب قبول البذل، وتيمم، لا يصح.

وفي "الكافي" وغيره: أن الماء المبذول إذا كان باقياً عند تيممه، والباذل باق على بذله- لم يصح، وإذا صلى به أعاد.

وإن كان تالفاً، أو رجع الباذل عن بذله؛ ففي الإعادة وجهان: فإن قلنا: يعيد؛ فمحل الإعادة إذا وجد الماء؛ فيستعمله، ويعيد، ولا يعيد قبل ذلك؛ قاله في "التتمة".

وفيما يعيده وجهان، في "الإبانة" وغيرها:

أحدهما: صلاة واحدة، وهي التي بذل له الماء عند التيمم لها ولم يقبل.

والثاني- وهو الأصح-: ما يغلب على ظنه أداؤه بتلك الطهارة لو تطهر به.

وفي "الرافعي" حكاية وجه ثالث، في نظير المسألة: أنه يقضي كل صلاة صلاها بالتيمم. وهو غريب.

والحكم فيما لو كان معه ماء، فصبه عامداً بعد دخول الوقت- كالحكم فيما إذا لم يقبل الماء المبذول، وتيمم بعد تلفه.

ولو وهب الماء الذي يجب عليه التطهر به بعد دخول الوقت- كالحكم فيما إذا لم يقبل الماء المبذول، وتيمم بعد تلفه.

ولو وهب الماء الذي يجب عليه التطهر به بعد دخول الوقت، أو باعه؛ ففي صحة ذلك وجهان، أصحهما: الصحة، وشبههما الخلاف المذكور فيما إذا وهب الماء على سبيل الرشوة: فهل يملكه المرتشي، أم لا؟

ص: 63

فإن قلنا: إنه لا يملك الماء الموهوب، ولا يصح بيعه- وجب استرداده إن كان باقياً، ولا يصح مع وجوده تيمم مالكه، فإن تيمم وصلى، أعاد.

وإن كان تالفاً، أو قلنا: يصح- فالحكم كما في مسالة الصب.

ولا خلاف في أن ذلك لو كان لغرض صحيح، في صحة التيمم وعدم وجوب القضاء، وكذا لو استعمله في غسل وسخه وإزالة أذى وتبرد. ولو فرض إزالته عن ملكه، أو صبه قبل الوقت- صح تيممه بكل حال.

فإن قيل: لو مر في أول الوقت بماء، وجاوزه إلى موضع لا ماء فيه جاز تيممه، ولا قضاء، وكان قياس ما ذكرتم أن يطرد فيه [أيضاً].

قيل: الفرق أنه لم يضع- هاهنا- شيئاً، وإنما امتنع من التحصيل، وثم فوت الحاصل، والتقصير في تفويت الحاصل أشد منه في الامتناع من تحصيل ما ليس بحاصل.

قلت: وهذا الفرق قد يلغيه إجراء الخلاف في مسألة الصب، فيما إذا امتنع من قبول الهبة مع أنه لم يوجد منه إلا عدم التحصيل، ولا جرم حسن تخريج الشيخ أبي محمد الخلاف في المسألة الأخرى، وإن كان المذكور في "التهذيب" وغيره القطع فيها بما ذكرناه فيها أولاً.

وعلى طريقهم يمكن الفرق بين ذلك وبين ما إذا امتنع من قبول المبذول: أن أهل العرف قاضون بأنه واجد الآن [والماء على الماء] في أول الوقت إذا جاوزه غير واجد له وقت التيمم، والله أعلم.

فرع: هل يجب على السيد أن يشتري لمملوكه الماء للوضوء، والغسل من الجنابة، والحيض؟

فيه وجهان في "التتمة"، عند الكلام في الاغتسالات المسنونة.

والمذكور منهما في "تعليق القاضي الحسين" هنا: لا؛ لأن له بدلا؛ فهو كالحر المعسر.

ص: 64

[قال وإن دل على ماء بقربه- أي: مما يقدر شرعاً وحساً على استعماله- لزمه قصده؛ لأنه فائدة الطلب، ولأنه يعد واجداً له].

قال: ما لم يخش الضرر في نفسه، أو ماله؛ لقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ولأن الشرع أباح للخائف منه أن يترك أركان الصلاة من القيام والركوع والسجود، وكذا أن يصلي إلى غير القبلة، وكذا ترك استعمال الماء في الطهارة.

وخشية الضرر في النفس تشمل ما إذا خاف من لص أو سبع، ونحو ذلك في طريق الماء، وما إذا خشي ذلك في طريقه إلى مقصده؛ بسبب ارتحال رفقته قبل عوده إليهم، والطريق غير آمن.

نعم، لو كان الطريق آمناً، لا يخشى فيه- عند الانفراد- على نفسه وماله شيئاً، فالمشهور أنه لا يجب قصده- أيضاً- لأن الانفراد يؤثر وحشة، وهي ضرر.

وقال الغزالي: إن في ذلك غموضاً.

وعبارة الإمام: أن فيه احتمالاً.

وقد حكى الرافعي وجهاً آخر: أنه يجب قصده، وهو ما يفهمه كلام الشيخ.

وخشية الضرر في المال تشمل ما إذا خاف على ماله الذي معه، أو ماله الذي يخلفه في المنزل.

وكلام الشيخ يفهم أنه مع الأمن على النفس والمال يجب قصد الماء الذي دل عليه بقربه، سواء كان الوقت لا يخرج قبل وصوله إليه أو يخرج. وهو يوافق الوجه الذي حكيناه عن رواية الرافعي: في أن الطلب من جميع الرفقة يجب، وإن خرج الوقت.

وقد قال الرافعي: إن ما أفهمه كلام الشيخ هو ما اقتضاه كلام الأئمة؛ إلحاقاً لذلك بالماء الذي في رحله، إذا كان الوقت يخرج لو استعمله.

وقد رأيت في "الإبانة" حكاية ذلك عن نص الشافعي، لكن الذي حكاه في "التهذيب"، وأبو الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ: أنه إنما يجب طلب الماء الذي

ص: 65

دل عليه إذا كان الوقت لا يفوت؛ فإن كان يفوت لم يجب قصده.

وطرد البندنيجي ذلك فيما إذا كان قد رأى الماء.

وبذلك يحصل في المسألة خلاف، ويشهد لمفهوم كلام الشيخ [نصوص حكاها] الإمام في مسائل:

منها: إذا ضاق الوقت، ولاح للمسافر الماء، ولا عائق، وعلم أنه لو اشتغل به لفاتته الصلاة- أنه يطلبه، ويستعمله.

ومنها: إذا انتهى طائفة في السفر إلى بئر، وكانت لا تحتمل إلا نازحاً واحداً، [ولم يكن معهم إلا دلو واحد]، وكانوا يتناوبون على ذلك، فعلم واحد أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد الوقت- يصبر حتى تأتي نوبته، ثم يقضي الصلاة.

ومنها: [ما] إذا كان بين قوم من العراة ثوب يتناوبونه، فعلم واحد أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد انقضاء وقت الصلاة يصبر، ولا يصلي في الوقت عارياً.

ويشهد لما قاله في "المهذب" وغيره نصه فيما إذا كان جماعة في بيت ضيق أو سفينة، وليس هناك إلا موضع واحد يتأتى فيه القيام للصلاة، وكانوا يتناوبون عليه، فعلم واحد أن نوبته بعد خروج الوقت أنه يصلي قاعداً في الوقت.

وقد أشكل الفرق على أبي زيد، مع أنه أذكى الأئمة قريحة، فنقل وخرج، وجعل في كل مسألة من مسائل النص قولين: وتبعه غيره.

وبعض الأصحاب أقر النصوص، وفرق بأن أمر القيام أهون؛ لأنه لا يشترط في النفل، بخلاف غيره.

قال الإمام: وهو فاسد؛ مع القطع بأن القيام ركن في الصلاة.

والقاضي الحسين قال: إنه لا نص للشافعي في مسألة البئر والدلو، لكنه [نص] في مسألة الثوب والسفينة على ما ذكرناه.

واختلف الأصحاب فيهما: فمنهم من نقل وخرج.

ومنهم من فرق بأن للقيام بدلاً بخلاف السفينة. ثم قال: فإن قلنا بطريقة القولين، طردناها في مسألة البئر والدلو.

ص: 66

وإن قلنا بالطريقة الأخرى، فمسألة البئر والدلو كنظير مسألة السفينة؛ لأن للماء بدلاً، وهو التراب، وعلى هذا التخريج جرى المتولي.

وعلى النص في السفينة إذا صلى قاعداً يعيد إذا قدر؛ كما حكاه الماوردي في باب صلاة المسافر، والخلاف الآتي مطرد فيه.

أما إذا كان ما دل عليه من الماء لا يقدر على استعماله شرعاً، وهو ما إذا كان في صهريج أو جب ونحوه- فإنه لا يجب عليه قصده؛ لأنه لا يجوز استعماله في الطهارة- كما قال في "التتمة" وغيرها- لأنه إنما يوضع كذلك للشرب، لا للاستعمال.

ولو كان غير قادر على استعمال حساً؛ لكونه في بئر أو نهر لا يصل إليه بنفسه ولا بغيره إلا بدلو ورشاء فهو عادم له؛ لأنه لا يجب عليه قصده؛ لأنه عند حضوره كالمفقود في حقه، ويجوز له التيمم؛ فلا فائدة في طلبه.

نعم، لو قدر غيره على النزول إليه، وقدر على ذلك بأجرة المثل، أو غير أجرة- وجب عليه. وكذا لو وجد من يبيعه أو يؤجره الدلو والرشاء بقيمة ذلك، وهو يجدها في الحال، وكذا لو كان لا يجدها إلا في بلده، ورضي صاحبه بالتأجيل، على أحد الوجهين.

ولو وجد من يعيره ذلك، أطلق الجمهور الوجوب.

وفي "الحاوي" وجه آخر: أن قيمة ذلك إن لم تزد [عن ثمن مثل الماء] وجبت، وإن زادت لم تجب؛ لأن العارية مضمونة.

ولو كان يقدر على الوصول إليه بأن ربط عمامته في الدلو، ولو شقها نصفين، أو وضع طرفها في الماء، ورفعه، وعصره وجب ذلك إذا كانت قيمة العمامة لا تنقص بذلك، أو تنقص قدراً يوازي قيمة الماء.

وإذا زاد النقص على ذلك، لم يجب، كذا قاله القاضي أبو الطيب، والماوردي.

وقال المتولي وغيره: المعتبر ألا يزيد النقص عن أجرة مثل ذلك؛ فإن زاد لم يجب.

ص: 67

والحق ما قاله بعضهم: إن المعتبر ألا يزيد على قدر ثمن [مثل] الماء، أو أجرة مثل ذلك؛ فإن زاد لم يجب.

وهذه الفروع كلها مذكورة فيما لو كان حاضراً عند الماء.

وإذا لم يقدر على أخذه، قال في البويطي: فيؤخر الصلاة إلى آخر الوقت، أي: لعله أن يتمكن من أخذه، فإن صلى في أوله، ثم وجد ما يتوصل به إلى الماء في آخره، قال الشافعي: أحببت أن يعيد الصلاة.

قال في "الأم": ولو ركب البحر، وعدم الماء في مركبه، كان ماء البحر [في حقه بمنزلة الماء] الذي ذكرناه في التفصيل.

واعلم أن كلام الشيخ في هذا الفصل مشير إلى وجوب طلب الإرشاد إلى الماء، كما سلف، و [هو يفهم أيضاً أنه] لو كان في موضع أزيد من الموضع الذي يجب [عليه] طلبه فيه، لا يلزمه قصده؛ لأنه جعل المحل الذي يجب طلبه فيه والموضع الذي يجب قصده إذا دل عليه، منوطاً بالقرب، وأكد ذلك قوله من بعد:"وإن تيمم، وصلى ثم علم أن في رحله ماء، أو حيث يلزمه طلبه- أعاد".

ص: 68

وقد صرح الماوردي؛ حيث قال: كل موضع لو تيقن وجود الماء فيه منع من التيمم- وجب إذا جوز وجود الماء فيه ألا يجوز له التيمم؛ قياساً على رحله.

وقضية ذلك: أنه إذا كان عن يمين المنزل الذي نزله، أو [عن] يساره، أو أمامه- أنه لا يجب عليه قصده؛ لأنه لا يجب [عليه] طلبه لو لم يدل عليه في ذلك، وعليه يدل قوله:"إِنَّ تيقنَهُ لوجود الماء في آخر الوقت، إن كان في منزله الذي هو فيه عند دخول الوقت- كان تأخير الصلاة إلى استعمال الماء واجباً؛ لأن المنزل كله محل للطلب. وإن كان تيقنه لوجود الماء في غير منزله- كان تأخير الصلاة مستحباً".

وقد حكى الإمام عن رواية شيخه وبعض المصنفين عن النص: أنه يجب طلبه بالشروط السالفة؛ إذا كان عن يمين المنزل أو يساره دون ما إذا كان أمامه.

واختلف الأصحاب في النصين:

فمنهم من نقل، وخرج، وأثبت قولين فيهما.

ومنهم من أقر النصين، وفرق بأن الماء إذا كان عن اليمين واليسار، فهو منسوب إلى المنزل، والنازل قد يتيامن، ويتياسر، وينتشر في حوائجه، ولا يمضي في صوب قصده، ثم يرجع القهقهري، وليس الماء بين يدي المسافر منسوباً إليه. ويشهد له ما روي: أن [ابن] عمر قفل من سفر له إلى المدينة، فلما انتهى إلى الحرة، دخل وقت العصر؛ فتيمم، وصلى. فقيل له: أتتيمم وجدران المدينة تنظر إليك؟ فقال: أو أحيا حتى أدخلها؟ ثم دخل المدينة والشمس حية، ولم يقض الصلاة.

[وقد حكى صاحب "التهذيب" الطريقين على غير هذا النحو، كما سنذكره].

قال الإمام: فإن قلنا: لا يجب قصده فيما عدا المنزل، ويتمم: فلو كان أبعد من مسافة الطلب عند الإشكال، أي: ودون يمنة المنزل ويساره، وهو إذا كان على مسافة ينتشر إليها النازلون في الاحتطاب والاحتشاش، وتنتهي إليه البهائم في الرعي، ولم يكن حائل، وهو محقق الوجود فلا يبعد وجوب طلبه.

وهذا ما جزم به الرافعي، ووجه بأنه إذا كان يسعى لاشتغاله إلى هذا الحد

ص: 69

فَلِمُهِمِّ العبادة [أولى].

قال: وهذا فوق حد الغوث الذي يسعى إليه عند التوهم. وإن محمد بن يحيى قال: ولعله يقرب من نصف فرسخ.

قال: فإن لم يجد، أي: من يبذل الماء بعد طلبه ولا من يدل عليه، كان على ثقة من وجود الماء في آخر الوقت- أي: بأن كان سائراً عند دخول الوقت أو بعده، ويعلم أن أمامه ماء، وأنه يصل إليه قبل خروج الوقت.

قال: فالأفضل أن يؤخره، أي: يؤخر فرض الصلاة بالتيمم؛ ليحوز فضيلة الطهارة بالماء؛ فإنها أبلغ من فضيلة الصلاة بالتيمم في أوله.

ألا ترى أن تأخير الصلاة إلى آخر الوقت جائز مع القدرة على أدائها في أوله، ولا يجوز التيمم مع القدرة على الوضوء. فإن تيمم في أول الوقت، وصلى به جاز؛ لأنه فاقد للماء في الحال، وعليه تدل قصة ابن عمر السالفة.

وفي "التتمة" حكاية وجه آخر: أن الأفضل التعجيل في أول الوقت في هذه الصورة.

والصحيح الأول، وهو الذي حكاه البندنيجي، وأبو الطيب، وابن الصباغ.

وهذا كله تفريع على [أنه لا يجب الصبر إلى آخر الوقت، وهو المذهب في "التهذيب" والمذكور من طريق العراقيين و"الحاوي".

وفي "التهذيب"] أنه نص في "الإملاء"[على] أنه: لا يجوز له التيمم في أول الوقت؛ بل يؤخره حتى يأتي الماء في آخره. قال: وهذا بخلاف ما لو كان الماء على يمينه أو يساره في حالة سيره، أو وراءه، فإنه لا يلزمه إتيانه، قولاً واحداً، وإن أمكن في الوقت؛ لأن في زيادة الطريق مشقة عليه، وقيل بجريان الخلاف السابق فيهما [أيضاً].

ص: 70

قال: وإن كان على إياس من وجوده، أي: بأن كان قد سلك تلك الطريق وخبرها، وعلم أنه لا ماء بها، وأنه لا يقطعها في الوقت.

قال: فالأفضل أن يقدمه، أي: يقدم فرض الصلاة بالتيمم؛ ليحوز فضيلة أول الوقت.

قال بعضهم: وكان الصواب أن يقول: "على يأس"؛ فإن "إياس" مصدر: "آسه، يئوسه، إياساً وأوساً": إذا أعطى.

قال: وإن كان يرجو- وهكذا عبارته في "الشامل"- ففيه قولان:

أصحهما: أن التقديم أفضل؛ لأنه- عليه السلام سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: "الصَّلاةُ لأَوَّلِ وَقْتِهَا"؛ فكان على عمومه، ولأن فضيلة الأولية ناجزة، وهي تفوت بالتأخير يقيناً، وفضيلة الطهارة بالماء غير معلومة؛ فلا يترك المحقق لأمر موهوم، وهذا ما نص عليه في "الأم".

ومقابله [ما] نص عليه في "الإملاء" والبويطي: أن التأخير أفضل؛ لأن تأخير الظهر في الحر لأجل الإبراد مأمور به؛ حتى لا يختل معنى الخشوع؛ فالتأخير لإدراك الوضوء أولى.

وقد جعل في "الوسيط" محل القولين إذا كان يتوقع وجود الماء بظن غالب. وقاس التقديم على ما إذا كان يرجو حضور الجماعة في آخر الوقت؛ فإن الأفضل صلاته منفرداً في أوله؛ فإن فضيلة الأولية ناجزة، والأخرى موهومة، وهكذا قاله الإمام، وادعى أنه لا خلاف في مسألة الاستشهاد، وفرق بينها وبين مسألتنا: بأن صلاة الجماعة فضيلة محضة، وكذا التعجيل- فكان تحصيل الناجز مع التساوي أولى، ولا كذلك في مسألتنا؛ فإن التعجيل محض فضيلة، والوضوء فريضة؛ فقوى التعجيل

ص: 71

بالتحقق، والتأخير بالفريضة، فتعارضا؛ فجاز القولان، هذا مبسوط كلامه.

وقد جعل أبو علي في "الإيضاح" والماوردي مسألة الجماعة أصلاً للقول الثاني، وبمجموع النقلين يحصل فيها خلاف، وقد حكى البندنيجي- هاهنا- قولين، فيما إذا كان بين الخوف والرجاء في إدراكها في آخر الوقت، ونسب التعجيل إلى نصه في "الأم"، ومقابله إلى نصه في "الإملاء".

وابن الصباغ حكى وجهين مخرجين من مسألتنا، وهما جاريان في المريض الراجي للقيام، والعريان الراجي للسترة؛ قاله في "البيان" وغيره.

قال الرافعي: واحترز الغزالي بقوله: "بظن غالب" عما إذا تساوى الطرفان عنده، فلم يظن الوجود في آخر الوقت، ولا العدم.

وأما إذا ظن العدم في آخر الوقت، وجوز الوجود فإنه لا جريان للقولين في هاتين الحالتين؛ بل التعجيل أولى لا محالة.

ومحل القولين: ما إذا ترجح عنده الوجود على العدم، ولم يتيقنه، وربما وقع في كلام بعضهم نقل القولين [فيما] إذا لم يظن الوجود ولا العدم، ولا وثق به، وكأن هذا القائل أراد بالظن اليقين.

قلت: وما ذكره الرافعي من القطع باستحباب التعجيل عند غلبة الظن بالعدم لا نقل فيه، وقطعه بذلك عند تساوي الطرفين، اتبع فيه الإمام، والقاضي الحسين، ومن تبعه؛ وإلا فكلام العراقيين مصرح بإجراء القولين فيها؛ ألا ترى إلى قول أبي الطيب: فإن كان يرجو وجود الماء، ويرجو عدمه، ففيه قولان. وإلى قول البندنيجي: وإن وقف بين الأمرين، فقولان، وإلى قوله في "المهذب": وإن كان يشك؛ ففيه قولان. وإلى قول الماوردي: إذا لم يكن أحد الأمرين غالباً، ففي الأفضل منهما قولان.

ثم الخلاف فيما إذا أراد الاقتصار على صلاة واحدة، [أما لو أراد إيقاع صلاة في

ص: 72

أول الوقت بالتيمم، وأخرى في آخره] بالوضوء- قال الإمام: فهو النهاية في إحراز الفضيلة.

قلت: وفيه نظر، إذا قلنا: إن الأولى هي الفرض؛ لأن فضيلة الطهارة بالماء لم تشملها، ولا يقال: إن هذا بعينه موجود في إعادة الصلاة في جماعة، ومع هذا فلا خلاف في استحبابها، ونقدر أن الوصف الزائد في الصلاة الثانية كأنه وقع في الأولى؛ لأن وصف فضيلة الجماعة يمكن إضافته إلى الصلاة الأولى، وفضيلة استعمال الماء بخلافه؛ لأنها فضيلة واجب، ولا يتصور أن يكون واجباً في الأولى.

وقد رأيت في "تعليق القاضي الحسين" عند الكلام في رؤية المتيمم الماء في أثناء الصلاة- الجزم بأن من صلى بالتيمم، ثم وجد الماء لا يستحب له إعادتها بالطهارة بالماء، بخلاف ما لو صلى منفرداً، ثم أدرك جماعة يصلون؛ فيشبه أن يكون ما ذكرته مادته والله أعلم.

قال: وإن وجد بعض ما يكفيه- أي: في غسله أو وضوءه- استعمله، ثم تيمم للباقي في أحد القولين، ويقتصر على التيمم في القول الآخر، فالتيمم على كل قول لابد منه، والخلاف في وجوب استعمال ما وجده من الماء.

ووجه الوجوب قوله- تعالى-: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ .....} الآية، إلى قوله:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] فجعل التيمم مشروطاً بعدم ما ذكره على وجه النكرة في سياق النفي؛ فاقتضى أن يكون معتبراً بما ينطلق عليه اسم الماء.

وأيضاً: فالآية موجبة لغسل جميع الأعضاء عند القدرة؛ فإذا عجز عن البعض- وجب أن يأتي بالمقدور؛ لقوله- عليه السلام: "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَاتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ". أخرجه البخاري.

ولأن استعمال الماء في الطهارة شرط من شرائط الصلاة؛ فلا يسقط الميسور منه

ص: 73

بالمعجوز عنه؛ كستر العورة، وإزالة النجاسة.

ووجه الثاني: قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} إلى قوله {مَاءً} [المائدة: 6] فإن فيه إشارة إلى ما تقدم ذكره من الماء المشروع في الاستعمال لجميع الأعضاء.

ولأن في استعمال الموجود والتيمم جمعاً بين بدل ومبدل، والجمع بينما في الأصول لا يلزم؛ كالعتق والصوم في الكفارة، وهذا ما حكاه الجمهور عن القديم، "والإملاء".

وقال ابن الصباغ: إنه نص عليه في موضع من "الأم" واختاره المزني.

وعلى هذا: فالفرق بينه وبين السترة وإزالة النجاسة إن قلنا بوجوب استعمال الموجود فيهما، وهو المذهب في "تعليق القاضي الحسين": أن ذلك لا بدل له، بخلاف طهارة الحدث.

نعم، نظير ذلك ما إذا وجد بعض ما يكفيه من الماء، ولم يجد التراب؛ فإن الأصحاب قالوا- كما حكاه الروياني والمتولي-: يجب استعماله؛ قولاً واحداً؛ لفقد البدل، بخلاف واجد نصف رقبة في الكفارة، وهو عاجز عن الصوم والإطعام- لا يجب عليه عتقها؛ لأن الكفارة ليست على الفور.

قال الروياني: ويحتمل في مسألتنا في هذه الحالة- ألا يجب استعمال الماء، ويجعل كمن لم يجد ماء ولا تراباً؛ لأن هذا الماء وجوده كعدمه.

وقد حكاه الرافعي؛ لأنه قال: وقد قيل بطرد القولين في هذه الحالة- أيضاً- والأظهر: الأول.

قال الأصحاب: وعلى هذا القول [الثاني] الذي اختاره المزني، يستحب له أن يستعمل الموجود من الماء قبل تيممه.

[ثم إن] كان الواجب عليه الوضوء، بدأ بغسل الوجه، ثم اليدين، على الترتيب وإن كان الواجب عليه الغسل- استحب [له] أن يبدأ بالرأس؛ لما سنذكره.

ص: 74

والصحيح عند كافة الأصحاب، وهو الذي نص عليه في "الأم"، في الباب الأول من التيمم، والجديد:[وجوب] استعمال الموجود من الماء، والآية دالة له؛ كما ذكرنا.

ولو كان الماء المذكور ثانياً يعود إلى الأول- لم ينكره؛ لأن العرب إذا ذكرت شيئاً منكراً، ثم أرادت ذكره ثانياً- عرفته؛ قال الله- تعالى-:{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15، 16] وقد قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً .....} الآية: [المؤمنون: 13، 14] وإذا لم ترد العود إليه نكرته؛ قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)} قال ابن عباس: لن يغلب عسر يسرين.

ولا نسلم أنه إذا استعمل الماء، كان جامعاً بين بدل ومبدل؛ لأن التيمم بدل عما لم يستعمل الماء فيه، ومثله ما إذا عجز عن [بعض] الفاتحة؛ [فإنه] يأتي بما قدر عليه منها، وبالبدل عن باقيها.

والفرق بين ما نحن فيه والكفارة من أوجه:

أحدها- قاله أبو إسحاق-: أن الصوم بدل عن جميع الرقبة، ولا يجب عن بعضها، والتيمم يجب عن بعض الأعضاء، كما يجب عن كلها؛ بدليل الجرح.

والثاني- قاله ابن أبي هريرة-: أن إعتاق بعض الرقبة لا يحصل مقصوداً، بخلاف [بعض] الطهارة؛ فإنه يمكنه البناء عليه.

والثالث: أن الماء مستعمل في الوضوء على التبعيض والتجزئة؛ لأنه يستعمل في عضو دون عضو؛ فجاز أن يتبعض في الوجوب، والعتق لا ينبني على التبعيض والتجزئة؛ فلم يتبعض في الوجوب.

ثم القولان مستقلان بأنفسهما، أو مبنيان على تفريق النية على أعضاء الوضوء، أو على وجوب الموالاة؟ فيه [خلاف:]

ص: 75

الذي مال إليه الإمام الثاني، والذي صححه الفوراني الأول، وقال: إن الثالث ليس بصحيح؛ لأن تفريق الوضوء بالعذر جائز قولاً واحداً، وهو هنا بعذر؛ فقياسه أن يجب استعمال الموجود من الماء، قولاً واحداً.

تنبيه: قول الشيخ: "استعمله، ثم تيمم للباقي" يفهم أمرين:

أحدهما: أن محل الخلاف [إذا أمكن التيمم، أما] إذا لم يمكن؛ لفقد التراب- فقد مر الخلاف فيه، ومثله جارٍ فيما لو وجد من التراب بعض ما يكفيه: هل يجب استعماله أو لا؟ والصحيح: طريقة القطع بالوجوب.

الثاني: وجوب استعمال الموجود من الماء قبل التيمم على هذا القول سواء كان الواجب عليه الوضوء أو الغسل؛ وبه صرح الأصحاب.

ورأيت في شرح [ابن] التلمساني حكاية وجه، فيما إذا كان الواجب عليه الغسل: أنه يتخير، إن شاء استعمل الماء أولا أو تيمم، ولم أرَ في غيره سوى الأول، ومنه يؤخذ أمران:

أحدهما: أن محل القولين، إذا كان ما وجده يقدر على غسل بعض البدن به، دون ما إذا كان لا يقدر أن يفعل به سوى المسح: كالثلج، والبرد الذي لا يذوب؛ لأن ما يجب فيه المسح- وهو الوضوء- لا يجوز البداءة فيه بالمسح.

وقد قلنا: إن الشرط على هذا القول البداءة باستعمال الموجود، ولأن ما احتججنا به من الآية مفقود في هذه الصورة؛ لأن ما لا يذوب من الثلج والبرد لا يطلق عليهما.

وقد أغرب بعض الأصحاب؛ فطرد القولين في هذه الصورة- أيضاً- وقال: إذا قلنا بوجوب الاستعمال تيمم عن الوجه واليدين، ثم يمسح رأسه بالموجود من الثلج أو البرد، ثم يتيمم للرجلين؛ كذا حكاه الرافعي عن أبي العباس الجرجاني من أصحابنا.

الثاني: أنه إذا كان الواجب عليه الوضوء، استعمل الموجود في الوجه، ثم اليدين

ص: 76

على الترتيب وهذا مما لا خلاف فيه.

ولو كان الواجب الغسل، تخير في استعماله في أي موضع شاء من بدنه؛ لأنه لا ترتيب فيه.

والأولى أن يبدأ بالرأس؛ لأن المستحب البداءة في الغسل بها.

التفريع: إن قلنا بالقول بوجوب استعمال الموجود من الماء، فتيمم الجنب؛ لفقد الماء، وصلى الظهر مثلاً؛ فإن له أن يصلي بعده ما شاء من النوافل، على المذهب، كما سيأتي.

فلو أحدث، ثم وجد من الماء ما لا يكفيه للغسل، ويكفيه للوضوء- وجب استعماله في الغسل، وتيمم عن الباقي، واستباح الفرض والنفل بشرطه.

وإن قلنا بأنه لا يجب استعمال ما لا يكفي من الماء، ففي هذه الصورة قال العراقيون: له أن يتوضأ به، ويصلي به النافلة دون الفريضة؛ لأن الوضوء رده إلى ما كان عليه قبل الحدث، وقد قلنا: إنه قبل الحدث يباح له النفل على المذهب دون الفرض.

قال البندنيجي: ويجوز أن يقال: هو بالخيار بين أن يتيمم ويصلي النافلة، وبين أن يتوضأ به ويصلي النافلة.

[وهذا ما حكاه ابن الصباغ وجهاً في المسألة.

وعن القاضي أبي الطيب قال: لا يصح تيممه، لأجل النافلة]؛ لأنه قادر على صحة الوضوء لها.

نعم، يصح تيممه للفريضة؛ لأنه غير قادر على الغسل لها، وهذا ما حكاه في "شرح الفروع".

وقال الإمام: الوجه أن يقال: الوضوء مع الجنابة لا أثر له، ولا يتضمن رفع الحدث الطارئ، ووجوده وعدمه بمثابة واحدة؛ فلا يستبيح النافلة إلا بالتيمم عن الجنابة؛ إذ الوضوء يندرج تحت الغسل في حق من أحدث وأجنب، على المذهب.

ص: 77

وما قاله العراقيون يقتضي إفراد الوضوء بحكمه، مع وجوب الغسل، وفيه بعد، وعلى الجملة: ففي المسألة احتمال.

قال: وإن تيمم- أي: بعد [أن] طلب الماء فلم يجده، وصلى، ثم علم أن في رحله ماءً- أي: يجب [عليه] استعماله- وكان قد وضعه، ونسي، أو حيث يلزمه طلبه- أي: وكان قد علم به ونسيه- أعاد في ظاهر [المذهب] لأنه فات إمعان النظر في الطلب، الذي هو شرط الصحة.

والرحل: منزل الإنسان، سواء [أكان] من شعر ووبر، أو حجر ومدر.

وفي "حيث" ست لغات: ضم الثاء، وفتحها، وكسرها، و"حوث" بالواو كذلك.

والمذهب الذي أشار الشيخ إليه في الأولى: هو نصه في عامة كتبه على وجوب الإعادة، وفي الثانية: هو نصه في "البويطي"؛ فإنه قال فيه: وكذلك البئر يكون إلى جنب المسافر، والبركة [في الموضع] الذي عليه فيه أن يطلبه، ويبلغه قبل تيممه، فإذا تيمم وهو لا يعلم [به]، ثم علم فعليه الإعادة.

ووراءه في كل من الصورتين كلام للأصحاب:

أما الأولى: فلأن أبا ثور قال: إنه سأل أبا عبد الله، فقال: لا إعادة [عليه] واختلف الأصحاب فيه: فأجراه أبو إسحاق على ظاهره، وأثبت في المسألة قولين:

أحدهما: ما سلف.

والثاني: لا إعادة عليه؛ لأن النسيان عذر حائل من استعمال الماء؛ فصح معه التيمم؛ كما لو حال بينه وبين الماء سبع أو غاصب.

وقد زعم بعض الأصحاب أن أبا إسحاق خرج القول الثاني من نصه في القديم على أنه إذا نسي القراءة في الصلاة، أو الترتيب في الوضوء- لا يضره.

وبعضهم يقول: إنه صوب أبا ثور فيما نقله. وقال: [لعل] الشافعي قال ذلك تفريعاً على ما ذكرناه.

وبعضهم يقول: إنه خرجه من نصه في "الأم"، في المسألة الأخرى، كما سنذكره وغير أبي إسحاق قال: المسألة على قول واحد؛ وهو وجوب الإعادة.

ص: 78

وما نقله أبو ثور منهم من لم يثبته عن الشافعي، ويقول:[أراد بأبي] عبد الله مالكاً، [أو أحمد بن حنبل].

وضعف ابن الصباغ هذه الطريقة؛ فإن أبا ثور لم يلق مالكاً] ولم يرو عن أحمد شيئاً، وأيضاً فإن مذهب أحمد: وجوب الإعادة.

ومنهم من أثبته عن الشافعي، لكن اختلفوا في تأويله مع النص الآخر:

فقال ابن أبي هريرة: نصه في عامة كتبه محمول على أن رحله صغير يمكن الإحاطة به. ورواية أبي ثور محمولة على أن رحله كبير لا يمكنه الإحاطة به.

وقال أبو الفياض: نصه في عامة كتبه محمول على ما إذا كان الماء موجوداً في رحله قبل الطلب، ورواية أبي ثور محمولة على ما إذا وضع الماء [في رحله] بعد الطلب.

وطريقة أبي إسحاق هي التي مال إليها ابن الصباغ، وهي المذكورة في "الوجيز"، و [قد] قيل بطردها فيما إذا أدرج الماء في رحله قبل الطلب، وترك هو الطلب؛ لعلمه من قبل بأنه لا ماء فيه، وهو ما حكاه في "التتمة".

وصحح في "الكافي" القول بوجوب الإعادة فيها، وجزم به في الصورة قبلها.

والصحيح في "تلخيص الروياني" وغيره، وهو المذكور في "الإبانة": طريقة القطع بعدم الإعادة؛ لأنه غير منسوب إلى تفريط.

وقال الإمام: إنها الطريقة المرضية، وقد حكاها القاضي أبو الطيب وجهاً في المسألة مع وجه آخر: أنه إن كانت على الماء أمارة وجبت الإعادة؛ وإلا فلا.

وأما الثانية: فلأن الربيع حكى في "الأم"، عن نص الشافعي: أنه إن علم أن بئراً كانت قريبة منه، يقدر على مائها لو كان عالماً بها- فلا إعادة عليه، ولو أعاد كان احتياطاً.

وحكاه البويطي عن رواية الربيع، وقال: إنه أصح القولين؛ فأثبت فيها القولين، لاختلاف النصين، وبها قال بعض الأصحاب.

و [بعضهم] قال: إن كان قد علم بذلك، ثم نسيه، فهو كمسألة الرحل، أي: إذا

ص: 79

وضع الماء فيه، ثم نسيه فيكون فيها طريقان. وإن لم يكن قد علم به، فلا إعادة، قولاً واحداً، وهذه طريقة الفوراني.

ومنه من قال: النصان على حالين: فنصه في "الأم" محمول على ما إذا "لم يعلمها أصلاً، وقد طلب مثله، ونصه في البويطي محمول على ما إذا] قصر في الطلب، مثل أن كان لها علامات قائمة وأعلام ظاهرة فتوانى فيها.

وهذه مع الأولى نقلهما البندنيجي وغيره من العراقيين.

والماوردي [قال]: إن كان قد علم به، ثم نسيه، فهو كمسألة البئر، وإن لم يكن قد علم به، فعن أبي علي بن خيرا،: أن عليه الإعادة.

وعن ابن سريج: أنه لا يعيد.

وقال أبو حامد وأبو الفياض وجمهور أصحابنا البغداديين والبصريين: إن كانت البئر ظاهرة الأعلام بينة الآثار؛ فعليه الإعادة. وإن كانت غير ظاهرة؛ فلا إعادة.

وقد رجع حاصل ما ذكرنا في المسألتين إلى طريقين؛ لأنه إن كان علم بالماء في رحله، أو في الموضع الذي يلزمه طلبه، ثم نسيه- فمن الأصحاب من قطع فيهما بوجوب الإعادة، ومنهم من جعلهما على قولين.

وقال الإمام في المسألة الثانية: وقد يكون للفقيه مزية نظر فيه، إذا كان عهد البئر، [وتقادم العهد]، بحيث لا يكون الناسي في مثل ذلك [الأمد] منسوباً إلى الذهول.

وإن لم يكن قد علم بالماء في المسألتين، ولم يعد مقصراً في طلبه فمن الأصحاب من قطع بعدم الإعادة فيهما، ومنهم من جعلهما على قولين.

فروع:

إذا تاه عن رحله، وله فيه ماء، فلم يجده بعد طلبه- قال البندنيجي وغيره: فهو فاقد للماء؛ فيصح تيممه، ويصلي ولا إعادة [عليه].

ص: 80

ولو ضل رحله في الرحال، قال في "الأم": تيمم وصلى. ولم يذكر الإعادة.

واختلف الأصحاب فيها على وجهين:

أحدهما: أنها تجب؛ كما في الناسي.

والثاني: لا؛ كما في المسألة قبلها.

وهذا ما حكاه الماوردي والفوراني واختاره في "المرشد"، وكذا القاضي الحسين. و [أشار إلى أن] الخلاف يجري فيما لو أضل [ماء بين] رحال نفسه. وبه صرح في "التتمة".

وجزم الفوراني فيها بالإعادة، وهو الأصح في "الكافي".

والغزالي حكى الخلاف فيها [على] قولين.

وقال الإمام وغيره: إنهما مخرجان من القولين فيما إذا طلب القبلة، وصلى، ثم تيقن الخطأ.

وحكوا في المسألة قبلها طريقين:

إحداهما: أنها على القولين.

والثانية: القطع بعدم الإعادة.

والفرق بينهما من وجهين:

أحدهما: أن مخيم الرفقة أوسع من الرحل، ورحله أضبط للماء من المخيم للرحل، وإذا كان كذلك، كان أبعد عن التقصير هاهنا.

والثاني: أن من ضل الماء في رحله صلى بالتيمم مع الماء، ومن ضل رحله فقد صلى، وليس معه ماء.

وإذا كان الماء يباع، فنسي الثمن، وتيمم، وصلى ثم تذكر-[قال ابن كج: يحتمل أن يكون مثل نسيان الماء في رحله، ويحتمل غيره].

قال الرافعي: والأول أظهر.

قال: وإن تيمم، ثم رأى [الماء] قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه؛ لما روى

ص: 81

أبو ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " [إِنَّ] الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ المُسْلِمِ، وَلَوْ لَمْ يَجِدِ المَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ المَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرُ". قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح.

ولأنه قدر على المبدل قبل تلبسه بالمقصود- وهو الصلاة- فوجب الإتيان به، وبطلان البدل؛ كما لو رأى الماء في أثناء التيمم؛ فإن الإجماع على أنه يبطل.

فإن قيل: الفرق بينهما: أن بالفراغ من البدل قبل القدرة على مبدله- تم الأمر؛ فلا ينقض؛ كما إذا رأت المعتدة بالأشهر الدم بعد فراغ الأشهر- لا تنتقل إلى الأقراء، ولا كذلك قبل الفراغ منه؛ ولهذا قال أبو موسى الأشعري، و [أبو سلمة بن] عبد الرحمن بالتفرقة.

قلنا: هذا الفرق إنما يتم إذا قلنا: إن الإجماع بعد الاختلاف لا يؤثر، أما إذا قلنا: إنه مؤثر، فهو ملغًى؛ لأن الإجماع قد انعقد بعد موت أبي سلمة على بطلانه.

وعلى الأول: فالفرق بين ما نحن فيه والعدة: أن مقصودها براءة الرحم؛ بدليل وجوبها وإن لم ترغب في زوج، وقد حصل بالأشهر، والتيمم مقصوده الصلاة؛ بدليل عدم وجوبه على من لم يردها.

تنبيه: الألف واللام في "الماء" للعهد، وهو الماء الذي يقع في نفسه أنه يجب عليه استعماله، ولو على بعد. فلو رأى ماء علم حال رؤيته أنه لا يكفيه لطهارته، وقلنا: لا يجب عليه استعماله- لا يبطل تيممه؛ كما صرح به ابن الصباغ وغيره.

وكذا لو رأى ماء علم حال رؤيته أنه لا يقدر على استعماله؛ لحائل حسي أو شرعي- لا يبطل.

ولو توقع حال رؤيته أنه يكفيه، أو أنه لا مانع من استعماله، ثم ظهر خلافه- بطل.

وقد اعترض بعضهم على عبارة الشيخ، فقال: لو قال: ثم شك [في وجود الماء]- كان أجود؛ ليعم [مع] ما ذكره ما لو رأى سراباً حسبه [ماء، أو

ص: 82

ركباً]، أو رجلاً قدم عليه، أو سمع شخصاً يقول: عندي ماء [ووديعةً] فإنه يبطل تيممه في هذه الصور لأنه تعين عليه عند سماع ذكر الماء طلبه، وهو مبطل للتيمم. ولو انتفى وجوب الطلب مع سماع ذلك، مثل أن قال شخص: عندي وديعة جرة ماء، أو رأى الشخص القادم عارياً [كما قال القاضي الحسين] – لا يبطل [تيممه] لأنه لا يتوجه عليه الطلب.

وجوابه: أن الشيخ اتبع في العبارة الشافعي؛ فإنه قالها في "المختصر".

وما ذكره القاضي من عدم البطلان عند رؤية القادم عارياً، فيه نظر؛ لأنه يجوز أن يدله على ماء؛ فيجب [عليه] طلبه.

وقد رأيت في "تعليقه" فيما إذا قال لفلان: عندي ماء وديعة [لفلان]- أن بطلان تيممه يتخرج عندي على ما إذا قال: لفلان على ألف من ثمن خمر؛ هل يلزمه الألف؟ فإن قلنا: يلزمه، بطل تيممه؛ وإلا فلا.

قال: وإن كان بعد الفراغ منها، أجزأته صلاته، إن كان مسافراً؛ لما روى عطاء ابن يسار عن أبي سعيد الخدري: أن رجلين خرجا في سفر، فعدما الماء، فتيمما صعيداً طيباً، وصليا، ثم وجدا الماء؛ فأعاد أحدهما في الوقت، ولم يعد الآخر، فجاءا [إلى] النبي صلى الله عليه وسلم فقال للذي لم يعد:"أَصَبْتَ السُّنَّةَ، وَأَجْزَأَتْكَ صَلاتُكَ"، وقال للآخر:"لَكَ الأَجْرُ مَرَّتَيْنِ".

ص: 83

ولأنه عذر معتاد؛ فلم تجد معه الإعادة كالمرض.

وقد أفهم كلام الشيخ أموراً.

أحدها: أنه لا فرق بين أن يراه في الوقت أو بعده، وهو عندنا كذلك؛ للخبر، [ولما تدل عليه] قصة ابن عمر السالفة.

الثاني: أنه لا فرق بين السفر الطويل والقصير [في ذلك]، وهو المنصوص

ص: 84

عليه في عامة كتبه، وبه جزم البندنيجي؛ لعموم الآية، ولأنه عدم الماء في موضع يعدم مثله في العادة؛ فوجب أن تسقط الإعادة في قصيره كطويله.

وقد حكي عن نصه في "البويطي": أن ذلك يختص بالطويل كما في القصر [والفطر في السفر].

والصحيح: الأول.

[قال أبو إسحاق:] والفرق بين ذلك والقصر والفطر: أنهما جوزا له والتيمم واجب عليه.

وغيره فرق بأنهما جوزا لأجل الحاجة، ولا حاجة إليهما في القصر، والتيمم جوز لأجل الضرورة، والضرورة يستوي فيها طويل السفر وقصيره.

الثالث: أنه لا فرق فيه بين سفر المباح وسفر المعصية، وهو في المباح بلا خلاف وكذا في سفر المعصية، إن قلنا:[إنه] ليس برخصة، وإن قلنا: إنه رخصة، فوجهان، ووجه الفرق ما سلف: أن التيمم واجب في السفر، والمعصية لا تمنع من صحة الواجب، ولا كذلك القصر والفطر.

وفي "الرافعي": أن الحناطي حكى مع هذا الخلاف وجهاً آخر: أنه لا يتمم أصلاً، وقد حكاه العمراني في "الزوائد" عن "الفروع"، وأنه يقال له: تب ثم تيمم، كما يقال له إذا اضطر [إلى أكل] الميتة، تب وكل.

الرابع: أنه لا فرق بين أن يعدم الماء وهو مسافر في بلدة لم ينو المقام فيها، أو في مفازة.

وفي "التتمة" حكاية وجهين في الإجزاء فيما إذا كان تيممه [في بلد] لم ينو المقام فيه:

ص: 85

أحدهما: نعم، كما يجوز القصر والفطر فيه.

والثاني: لا؛ لأن عدم الماء في البلد نادر، وهذا أظهر في "الرافعي".

وقد قيد بعضهم كلام الشيخ بما إذا لم يكن تيممه عن جنابة خرجت بعد استنجائه بالحجر أو عن جماع، وقلنا: إن رطوبة فرج المرأة نجسة، ولم يغسل ذكره- فإنه في هذه الحالة يجب عليه الإعادة.

قلت: ولا حاجة لهذا التقييد؛ لأن الإعادة لأجل النجاسة، [وقد دل عليها كلام الشيخ في باب إزالة النجاسة].

قال: ويلزمه الإعادة إن كان حاضراً لأن عدم الماء في الحضر نادر؛ فلا مشقة في الإعادة، وهذا هو الجديد.

والقديم: أنه لا يلزمه الإعادة، وهو اختيار المزني.

وعدول الشيخ عن قوله: إن كان مقيماً، إلى ما ذكر فيه تنبيه على [أن] من أقام بموضع يعدم فيه الماء، وصلى بالتيمم لا إعادة عليه، وبه صرح ابن الصباغ، حيث قال: إن الاعتبار بالتيمم بالموضع الذي يوجد فيه الماء نادراً أو معتاداً.

ويؤيده حديث أبي هريرة، قال:[يا] رسول الله، "إِنَّا نَكُونُ بِأَرْضِ الرَّمْلِ فَلَا نَجِدُ المَاءَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرِ أَوْ خَمْسَةً، فَتُصِيبُنَا الجَنَابَةُ؟ فقال: "عَلَيْكُمْ بِالأَرْضِ".

ص: 86

[وهذه إقامة].

لكن لك أن تقول: هذا يقتضي أنه: إذا كان حاضراً في بلد لم ينو فيها الإقامة، ولا حكمنا عليه بأنه مقيم- أنه يعيد إذا تيمم فيها لعدم الماء، وقد قلتم: إن كلامه يقتضي أنه لا إعادة عليه؛ وحينئذ يكون كلام الشيخ آخراً، يخص كلامه الأول؛ بناء على ما ذكرنا أنه الأظهر، وهذا حسن، والله أعلم.

فرع: إذا تيمم لعدم الماء، وطاق، ثم وجده بعد ذلك، فهل يعيد الطواف؟

فيه وجهان في "البحر"، في كتاب الحج:

أحدهما: نعم؛ لأن الطواف في البلد، فهو كالصلاة.

والثاني: لا؛ لأن الحائض لو انقطع دمها، ولم تجد الماء، فتيممت، ثم طافت، وسافرت- لا يلزمها الدم بلا خلاف. ولو كان يجب عليها إعادة الطواف عند وجود

ص: 87

الماء لكان في وجوب الدم عليها قولان، كما لو نفرت بلا وداع.

وهذا فيه نظر؛ من حيث إن الماء لم تجده وهي في محل الطواف، والإعادة إنما تجب عند القدرة عليه؛ فلا حجة في ذلك.

قال: وإن رأى الماء في أثنائها- أي: وكذا ما في معنى الرؤية- أتمها إن كانت الصلاة مما يسقط فرضها بالتيمم- أي: وهي صلاة السفر- لأنه متيمم دخل في صلاة لا يعيدها لو رأى [الماء] بعد فراغها؛ فوجب ألا تبطل برؤيته في أثنائها؛ كصلاة الجنازة والعيدين.

وقد وافق الخصم- وهو أبو حنيفة والثوري- على عدم بطلانها، وهذا ما نص عليه.

وذهب المزني وابن سريج إلى بطلانها؛ تمسكاً بعموم قوله- عليه السلام: "فَإِذَا وَجَدَ المَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ".

والقاضي الحسين يقول: إن ابن سريج خرجه من نصه في المستحاضة إذا انقطع دمها في أثناء الصلاة، كما خرج- من نصه هنا إلى ثم- قولاً: أنها لا تبطل.

والصحيح: تقرير النصين، والفرق ما ذكرناه في باب الحيض.

والخبر محمول على ما إذا كان خارج الصلاة؛ لأنه قال: "كافيك .. "، وهذا خطاب له قبل الصلاة.

فعلى هذا، هل يسلم التسليمة الثانية؟

حكى الروياني عن والده: أنه لا يسلم؛ لأنه خرج من الصلاة بالأولى وعندها يبطل التيمم، أو قبلها، كما ستعرفه. ومن طريق الأولى: ألا يصلي النفل بعدها حتى يتوضأ، وبه صرح الأصحاب.

ولا فرق عند العراقيين في ذلك بين أن يكون الماء باقياً، أو تلف بعد سلامه، أو قبله، وعلم [به]؛ لأن التيمم بطل برؤية الماء، وإتمام الصلاة؛ لأجل الحاجة.

وقال المراوزة: إذا علم بتلفه قبل السلام، فله التنفل، وهو ما أبداه ابن الصباغ احتمالاً.

ولو كان قد شرع في نافلة، ثم رأى الماء في أثنائها، فعن ابن سريج [أنها]

ص: 88

تبطل؛ لأن حرمة النفل قاصرة عن حرمة الفرض؛ لأنها لا تلزم بالشروع.

[والمشهور: لا].

وعلى هذا إن كان قد نوى عدداً أتمه على المشهور، وهو الذي أورده العراقيون، والماوردي، وحكاه البندنيجي عن نصه في "الأم".

وفي "النهاية" وجه: أنه يقتصر على ركعتين.

وعن القفال: أنه إذا كان قد نوى ركعتين، فأراد أن يتمهما بعد رؤية الماء أربعاً، جاز.

والمذهب خلافه.

وإن كان قد أطلق النية، فإن قلنا عند نية العدد: إنه يقتصر على ركعتين أو يزيد- فهاهنا أولى؛ وإلا فوجهان:

أحدهما: أنه يقتصر على ركعة.

والثاني: على ركعتين؛ بناء على أن مطلق النذر يحمل على ماذا؟

وبالثاني أجاب الماوردي وابن الصباغ، وهو المحكى عن "الأم".

ووجهه: أن المستحب أن يكون النفل مثنى مثنى.

وعلى هذا، لو كان حين رآه في ثالثة، قال أبو الطيب: عندي: أنه يتم هذه الركعة، ويسلم.

قال الروياني في "تلخيصه": وهو على ما قال.

وفي "الرافعي": أن القاضي الحسين قال: إذا أطلق النية، كان له أن يزيد ما شاء.

وقد أفهم قول الشيخ: "أتمها"، وجوب الإتمام، وهو وجه حكاه القاضي أبو الطيب ومن بعده، موجهاً بأنها صلاة انعقدت فريضة؛ فلا ينصرف عنها كما لو كانت بالوضوء.

قال ابن الصباغ: وهذا القائل تعلق بقول الشافعي في "البويطي": "الذي تيمم، ودخل في الصلاة، ثم طلع عليه الماء- مضى في الصلاة، ولا إعادة عليه".

ويجوز أن يحمل قول الشيخ على الاستحباب، وهو وجه حكاه الماوردي، وكذا

ص: 89

الإمام عن العراقيين؛ لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] لكن الذي عليه أكثر الأصحاب، وعليه نص في "الأم" – كما قال أبو الطيب-: أن الأفضل الخروج منها؛ ليصلي بطهر مقطوع به. فإن من العلماء من حرم الاستمرار، وظاهر هذا أنه لا يقلبها نفلاً؛ بل يبطلها. وهو ما حكاه الإمام عن العراقيين، موجهاً له بأنهما لا يختلفان فيما يتعلق بالطهارة.

وهذا مجموع ما حكي عن العراقيين.

والمراوزة قالوا: لا يمتنع عليه الخروج من الصلاة أصلاً.

قال الإمام: اللهم إلا أن يكون في آخر الوقت؛ فإن الذي أراه: أنه لا يجوز كما في غير التيمم.

وحيث يجوز الخروج، قال الشيخ أبو محمد: لا ينبغي أن يخرج من الصلاة؛ فيحبط عمله، ولكن هل يتمها على الفريضة أو يقلبها نفلاً؟ فيه وجهان.

وهذه الطريقة قالها القاضي الحسين في "تعليقه" عن نفسه؛ حيث قال: قال أصحابنا: هل يستحب له الخروج من الصلاة، وأداؤها بالوضوء؟ فيه وجهان. وعندي: يكره له [إبطال] العبادة والخروج عنها، وجهاً واحداً.

وهو ما حكاه الفوراني عن القفال.

وعبارة المتولي: أن القاضي قال: لا يجوز [عندي] إبطال [الصلاة][بالتيمم]، وجهاً واحداً.

والوجهان في أنه: هل يستحب أن يقلب الصلاة نفلاً ويسلم عن ركعتين، أم لا؟

فمن قال بالأول، قاسه على ما نص عليه الشافعي في الجديد، فيمن أحرم منفرداً، ثم وجد جماعة- أنه يستحب له أن يقلب الفرض نفلاً، ويسلم عن ركعتين، ويقتدي بالإمام.

ومن قال: لا يستحب، فرق بأن صلاته جماعة أفضل من صلاته منفرداً، ولا كذلك الصلاة بالماء؛ فإنها في الفضيلة كالصلاة بالتيمم. أو لأنه لو صلى منفرداً كل

ص: 90

الصلاة، ثم أدرك جماعة- استحب له الإعادة معهم، ولا كذلك لو صلى بالتيمم، ثم وجد الماء: لا يستحب الإعادة بالوضوء.

وإذا جمعت ما ذكرناه، واختصرت، قلت: في المسألة أوجه:

أحدها: أنه يجب إتمامها فرضاً.

والثاني: يستحب.

والثالث: يستحب إبطالها.

والرابع: يستحب قلبها نفلاً، وقد حكاه الغزالي.

والخامس: أنه يجوز إتمامها، وقلبها نفلاً، ولا يجوز إبطالها، والله أعلم.

قال: وتبطل إن لم يسقط فرضها بالتيمم، أي: وهي صلاة الحضر؛ لأنها صلاة لا [يعتد] بها لو تمت؛ فلا حاجة إلى أن نأمره بإتمامها وإعادتها.

[وفي "تعليق القاضي الحسين" وجه آخر: أنها لا تبطل؛ كسائر الصلوات. والصحيح: ما ذكره الشيخ].

قلت: وهو فيما إذا بقي من الوقت ما يمكن إيقاع الصلاة فيه أداء بالطهارة بالماء- ظاهر. أما إذا لم يمكن فيظهر أن يبنى على أن من قدر على الماء، وضاق الوقت عن استعماله: هل يؤخر الصلاة حتى يتوضأ، أو يتمم ويصلي في الوقت ثم يعيد بالوضوء؟ وفيه وجهان في "التهذيب"، المذهب منهما: الأول؛ فإن قلنا [به] لا يتم الصلاة [هنا]؛ وإلا أتمها.

فرع على المذهب: إذا تحرم المسافر [بالصلاة]، ثم نوى الإقامة في أثنائها- فحكمه إذا أتمها كحكم المصلي في الحضر.

ولو رأى الماء قبل نية الإقامة، فقياس المذهب بطلانها، وهو ما نقله أبو الطيب، وكذا الرافعي، يعرفه من تأمل بناءه، وهو في "الشامل" و"النهاية" محكي عن ابن القاص.

ص: 91

وقال الماوردي: إنه طرده فيما إذا نوى الإتمام. ووجهه بأن تيممه صح لركعتين من غير زيادة، وقد لزمه بذلك الأربع؛ فكانت رؤية الماء مبطلة لصلاته.

وفي "النهاية": أن من أصحابنا من قال: لا حكم لرؤيته وهو في حكم المعدوم، وهذا ما حكاه الماوردي عن سائر الأصحاب.

فرع آخر: إذا رأى المتيمم الماء في أثناء الطواف، قال الفوراني: إن قلنا: لا يجوز تفريقه، فحكمه حكم الصلاة. وإن قلنا: يجوز تفريقه توضأ، ثم بنى، وقلما يتصور هذا؛ لأن الطواف في الحضر، وقلما يفقد الماء في الحضر.

قال: وإن خاف من استعمال الماء التلف لمرض، تيمم وصلى؛ للآية، وليس عدم الماء شرطاً في ذلك؛ كما صار إليه الحسن البصري وعطاء؛ لاعتقاده أن الآية تقتضيه.

ووجه ما [ذكره الشيخ] قد سلف، ويؤيده ما رواه الشافعي بسنده عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف أنه- عليه السلام بعث رجلاً في سرية، فأصابه كلم، فأصابته جنابة، فصلى ولم يغتسل، وخاف على نفسه؛ فعاب عليه أصحابه ذلك، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك له؛ فأرسل إليه، فجاء فأنزل الله- تعالى-:{وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29].

قال: ولا إعادة عليه؛ لأن المرض عذر عام، يشق معه الإعادة؛ فلم تجب؛ لقوله

ص: 92

تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].

قال أبو الطيب: وهذا مما لا خلاف فيه بين الفقهاء، ولا فرق بين أن يكون ذلك في السفر أو الحضر، ولا بين خوف تلف المهجة أو تلف عضو، ثم الخوف الذي ذكرناه يكفي فيه [ظن] المتيمم إن كان عارفاً بالطب؛ وإلا فيرجع فيه إلى قول طبيب [حاذق] بالغ مسلم عدل.

وعن أبي عاصم العبادي رواية وجهين في اشتراط العدل، والمذكور في "تعليق القاضي الحسين" و"التتمة": الأول، وجزما القول بأنه [لا] يقبل في ذلك قول الكافر.

وفي "الرافعي" في كتاب الوصية، عند الكلام في المرض المخوف، عن أبي سليمان الخطابي وجه: أنه يجوز أن يعتمد على قوله.

وعلى الأول، هل يجوز أن يعتمد [فيه] على قول الفاسق؟ فيه وجهان في "التتمة"، أجراهما القاضي الحسين في قبول قول المرأة والعبد في ذلك.

ووجه المنع: أنهما لا يقبل قولهما في الشهادة؛ وعلى هذا لا يقبل قول الصبي المراهق؛ لأنه ليس من أهل الشهادة.

وعلى مقابله، هل يقبل قوله؟ فيه وجهان، بناهما المتولي على القولين في قبول دلالته على القبلة.

قال: وإن خاف الزيادة في المرض أي: مثل أن كان به نوع من المرض، ويحصل [له] باستعمال الماء نوع آخر منه، أو كان به نوع منه، ويزداد باستعمال الماء ففيه قولان:

أصحهما: أنه يتيمم ويصلي، ولا إعادة عليه؛ لعموم الآية.

ولأنه يخاف من استعمال الماء ضرراً؛ فأشبه ما إذا خاف التلف.

ولأن هذا القدر من الضرر أشق من طلب الماء من فرسخ، وقبوله بزيادة يسيرة على ثمن مثله.

ص: 93

وهذا ما نص عليه في القديم، و"الإملاء"، و"البويطي"، وعامة كتبه؛ كما قال البندنيجي.

واقتصر القاضي الحسين والفوراني على نسبته إلى القديم، واتفقوا على أنه الأصح.

وعن ابن سريج والإصطخري: القطع به؛ كما حكاه ابن الصباغ عن رواية الشيخ أبي حامد مؤولاً ما سنذكره عن نصه في "الأم" على ما إذا كان لا يحصل له من ذلك إلا مجرد الألم والمشقة.

[ومقابله] أنه لا يتيمم، بل يستعمل الماء؛ لأنه وجد ماء طاهراً، لا يخاف من استعماله التلف؛ فلم يجز له التيمم. أصله: إذا كان مريضاً من وجع الضرس أو حمى.

قال الماوردي: ولأن كل معنى يستباح به التيمم مشروط بخوف التلف: كالعطش، وهذا ما حكاه أبو الطيب وغيره عن نصه في "الأم" ونقله المزني، وبه قطع بعضهم، وقال: ما نقل عن القديم وغيره محمول على ما إذا خاف زيادة مخوفة، وهذا منه يقتضي [أني] الزيادة إن كانت مخوفة تيمم قولاً واحداً.

وهو ما حكاه المسعودي والفوراني وغيرهما، وقال الرافعي: إنه الذي يقتضيه كلام العراقيين.

والإمام حكى الطريقة الأولى والثانية فيما إذا كانت الزيادة مخوفة، ونسب ذلك إلى رواية العراقيين.

والصحيح من الطرق فيما ذكرناه طريقة القولين؛ كما ذكره الشيخ، ولم يحك أبو الطيب والبندنيجي غيرهما، وهما جاريان فيما لو خاف بطء البرء أو شدة الوجع؛ كذا حكاه الإمام عن رواية العراقيين. قال: وعندي أنهم [فهموا من إبطاء] البرء وشدة الوجع المرض المخوف، وأجروا الكلام في الجميع مجرىً واحداً، والذي تحققته من الطرق: أنا إذا قلنا: إن توقع المرض المخوف يبيح التيمم ففي هذه الصورة وجهان، وقد أجرى القاضي أبو الطيب القولين فيما إذا خاف شيئاً كثيراً. وقال في

ص: 94

اليسير: إنه لا يبيح التيمم، قولاً واحداً.

وفي "الشامل" و"البيان": أن أبا إسحاق قال: لا يختلف قول الشافعي في أنه ليس له أن يتيمم.

وقال غيره: إن كان يسيراً كأثر الجدري والجراحة- فكما قال أبو إسحاق. وإن كان يشوه خلقه، أو كان يسود أكثر وجهه فيكون على القولين، وهذا [تفسير ما] أطلقه القاضي من الكثير واليسير.

وفي "الحاوي": أن القولين فيه خرجهما أبو إسحاق من القولين في خوف بطء البرء، وأن ابن سريج والإصطخري قالا: يتيمم، قولاً واحداً، وإن جرى القولان في بطء البرء.

والفرق: أن [ضرر هذا] متأبد، وضرر ذلك غير متأبد.

ولو كان [يخاف] شللاً في عضو، قال الإمام: فالظاهر- عندي- القطع بإباحة التيمم؛ لأن شلله كتلفه، وهذا ما حكاه الرافعي.

وفي "الحاوي": أن الطريقين السالفين عن أبي إسحاق وابن سريج والإصطخري محكيان فيه، وأن أبا الفياض قال: إنه يتيمم في الشلل ولا يتيمم في الشين؛ لأن في الشلل إبطال العضو، وفي الشين قبحه؛ فكان الشلل ضرراً، ولم يكن الشين ضرراً.

وفي "النهاية": أن الشين إن كان في عضو باطن؛ فلا أثر له، وإن كان في عضو ظاهر، قال الرافعي: وهو الذي يبدو في المهنة غالباً، كالوجه واليدين- ففيه وجان، حكاهما العراقيون، وأشار إليهما شيخي.

وأصحهما في "التتمة": إباحة التيمم.

قال: وإن خاف من شدة البرد- أي: أمراً لو خافه مع المرض لصلى بالتيمم ولا إعادة عليه- تيمم وصلى؛ لأنه مضطر إلى ذلك.

قال الأصحاب: وذلك إنما يتحقق إذا لم يمكنه تسخين الماء، ولا يقدر على غسل شيء من بدنه وتدثيره، ولو قدر على ذلك؛ لم يتيمم.

ص: 95

قال: وأعاد إن كان حاضراً؛ لأنه لو عدم الماء في الحضر؛ أعاد فلأن يعيد إذا لم يعدمه أولى.

وعن أبي الحسين [بن] القطان: أنا إذا قلنا: لا يعيد إذا كان مسافراً، فهل يعيد إذا كان حاضراً؟ قولان، والصحيح الأول.

وهذا تفريع على [أن] المتيمم؛ لعدم الماء في الحضر، يعيد الصلاة.

أما إذا قلنا: لا يعيد، فكذا هذا.

وكذلك قال في "الإبانة": تلزمه الإعادة في ظاهر المذهب.

قال: وإن كان مسافراً، أعاد في أحد القولين؛ لعموم قوله- عليه السلام:"لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ"، ولأنه عذر نادر لا يتصل؛ فلا يسقط القضاء؛ كالحيض مع الصوم.

قال: ولم يعد في الآخر؛ كما لو خشى ذلك لأجل المرض. ولأنه- عليه السلام لم يأمر عمرو بن العاص بالإعادة حين أخبره أنه تيمم في السفر، وقد تقدم الخبر متستوفى، وهذا ما صححه في "التتمة".

ومال القاضي أبو الطيب إلى تصحيح الأول، واعتذر عن الحديث بأن الإعادة ليست على الفور؛ فلذلك لم يأمر بها، مع أنه يحتمل أنه علم أن عمراً لا يخفى عليه ذلك. وقد استنبط الحكم من الآية. والقولان منصوصان في "البويطي".

قال: وإن كان في بعض بدنه قرح يمنع من استعمال الماء- أي: وجوده في محله؛ للخوف من فوات المهجة، أو عضوٍ، أو الزيادة في المرض، أو نحوها على الصحيح: غسل الصحيح- أي: إذا كان لا يتأذى به موضع القرح- وتيمم عن الجريح؛ لما روى أبو داود بإسناده عن جابر قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا [حجر]؛

ص: 96

فشجه في رأسه، ثم احتلم، فقال لأصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء؛ فاغتسل؛ فمات، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك؛ فقال:"قَتَلُوهُ، قَتَلَهُمُ اللهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ العِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ ويعصر، أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ".

قال: في الوجه واليدين؛ لأنهما محل التيمم، كما سبق؛ وذكر الشيخ ذلك نفياً لتوهم من يتوهم: أنه يمر التراب على المحل المعجوز [عنه] ولتوهم من يقول: إن القرح إذا كان في [غير] الوجه واليدين، لا يتيمم؛ لأنه يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل في أعضاء التيمم.

ومثل عبارة الشيخ عبارة الماوردي وابن الصباغ والفوراني.

قال: وصلى، ولا إعادة عليه؛ لأنه- عليه السلام علق الكفاية على ذلك، ولم يتعرض للإعادة، وهذا ما نص عليه الشافعي، رضي الله عنه.

وعن أبي إسحاق والقاضي أبي حامد وابن أبي هريرة تخريج قول: أنه يقتصر على التيمم، من نصه على قولين، فيما إذا وجد [بعض] ما يكفيه من الماء، وأثبتوا فيما نحن فيه قولين؛ لأنه عجز في الموضعين عن استعمال كل الأصل.

والصحيح الذي ذهب إليه الجمهور: القطع بالمنصوص، وفرقوا بأن العجز ثم عن بعض الأصل [والعجز عن بعض الأصل] إذا كان له بدل، كالعجز عن كله.

ص: 97

دليله: وجدان بعض الرقبة في الكفارة.

والعجز هنا عجز عن بعض المحل الذي يستعمل [فيه]، وذلك لا يجعل المقدور عليه كالمعدوم.

دليله: ما لو كان مقطوع بعض الأعضاء. ولا يقال: إن القطع يسقط فرضه بالكلية، وليس عنه بدل، وإذا اعتل العضو، وجب بدله، والجمع بين البدل والأصل مستنكر؛ لأنا نقول: ذلك ينتقض بالمسح على الخفين، وبالمسح على الجبائر مع الغسل؛ فإنه جمع في كل منهما بين المبدل والأصل.

فإن قيل: هنا يأتي ببدل كان يأتي به لو عجز عن جميع الطهارة، وهو بدل عن الكل، ولا كذلك فيما ذكرتم.

قيل: ليس هو في هذه الحالة بدلاً عن الكل؛ فإنما هو بدل عما لم يغسله، ويجوز ذلك عما يقع تارة بدلاً عن غسل جميع البدن، وتارة بدلاً عن الوضوء.

أما إذا كان غسل الصحيح يتأذى به موضع القرح؛ بأن كان يخاف إن غسله [أن] يسيل الماء إلى القرح، فإن لم يمكنه أن يمسحه [بخرقة] رطبة ينغسل الموضع بها، ولا يسيل الماء، ولا قدر على من يغسله له من غير سيلان فإنه يكتفي بالتيمم، ويصلي، ويعيد إذا قدر؛ كالمريض إذا [لم يجد] من يحمل إليه الماء- يصلي على حسب حاله، ويعيد إذا وجد.

فإن وجد شيئاً مما ذكرناه، وجب، حتى لو لم يجد من يغسله إلا بأجرة المثل، وجبت؛ لأنه قادر على الغسل بهذه الطريق، ولو كان لا يتأتى فعل ذلك منه ولا من غيره إلا بضرر يلحقه؛ كما إذا كان في وجهه جراحات، وهو جنب لا يمكن غسل رأسه إلا بوصول الماء إلى الجراحات؛ فقد سقط فرض غسل الرأس عنه، قاله أبو الطيب وغيره، ومن

ص: 98

قول الشيخ: "يمنع من استعمال الماء" يمكن أخذه، والله أعلم.

تنبيه: القرح- بفتح القاف وضمها- هو الجرح، قاله النووي.

وقال غيره: إنه كالجدري على البدن، وإن الجرح في الحكم كهون وعلى هذا ينطبق قول الماوردي:"إذا كان بعض بدنه جريحاً أو قريحاً"، وقول الشيخ:"ويتيمم عن الجريح"، يجوز الأمرين، فتأمله.

وقد أفهم كلام الشيخ أموراً:

أحدها: أنه لا فرق فيما ذكره بين أن يكون الجريح أقل أو أكثر، أو هما سواء، ولا خلاف في ذلك عندنا.

الثاني: أنه لا يجب عليه مع غسل الصحيح والتيمم عن الجريح شيء آخر. وظاهر الخبر يقتضي إيجاب تعصيب الجرح؛ ليمسح عليه؛ فإنه علق الكفاية به مع ما ذكرناه.

وقد صار الشيخ أبو محمد إلى القطع بإيجاب إلقاء لصوق [على] الجرح إذا

ص: 99

أمكن من غير ضرر يلحقه، لكنه وجهه بأنه لو فعله لوجب عليه المسح بدلاً عما تعذر من الغسل؛ فيجب السير إليه إذا كان ممكناً.

[و] قال الإمام: إنه لم يره لأحد من الأصحاب، وإن في إيجاب ذلك بعداً؛ لأنه لا نظير له في الرخص، وليس للقياس مجال فيها، بل هو يقتضي عدم الوجوب؛ فإنه لا خلاف في أنه إذا أمكن مسح القرح من غير حائل، لا يجب.

ثم رتب على هذا مسألة، وهي: أن من كان على طهارة كاملة، وقد أرهقه حدث، ووجد ما يكفيه من الماء لو مسح على الخف، ولا يكفيه لو غسل الرجلين- فهل يجب عليه لبس الخف قبل أن يحدث؟

قال: قياس ما صار إليه شيخي: وجوبه، وهو بعيد؛ لأن [المسح على] الخف رخصة؛ فلا يليق بها إيجاب لبس الخف.

وقد يفرق بين ما نحن فيه وما ذكره شيخي، بأنه من مسالك الضرورات؛ فيجب الإتيان فيه بالممكن، ومن الممكن إلقاء خرقة يمسح عليها.

قلت: وهذا التردد في وجوب لبس الخف يظهر أن يكون محله إذا أرهقه الحدث بعد دخول وقت [الصلاة، ولم يصلها، دون ما إذا كان في غير وقت] صلاة [أو في وقت صلاة] صلاها؛ فإن الوضوء حينئذ يكون لصلاة لم تجب بعد؛ فلا يجب، وهذا مما لا نزاع فيه.

وإن قلنا: إن الوضوء يجب بالحدث، [وجب لبس الخف]، ويشهد له ما ذكرناه من أنه لو صب الماء قبل دخول وقت صلاة- لم يأثم، بخلاف ما بعده.

وأما في وضع اللصوق، فيظهر أن يكون محله كما ذكرناه في لبس الخف، وقد أورد الرافعي على تصوير محل الخلاف فيه سؤالاً اعتقد صحته، واستضعف به قول

ص: 100

أبي محمد، فقال: اعلم أن ظاهر المذهب اشتراط الطهارة عند إلقاء الجبيرة واللصوق؛ ليجوز المسح عليهما، وإذا كان كذلك، فالشيخ أبو محمد يأمر به قبل الحدث؛ ليمسح عليه إذا تطهر بعد الحدث، كما في مسألة لبس الخف، وذلك يضعف قوله؛ لأن الشخص إذا كان متطهراً، وقد أدى فريضة الوقت؛ فليس عليه طهارة أخرى حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى؛ فلا يكلف بإعداد أسباب الطهارة التي لم تلزمه بعد؛ لما ذكرناه.

وإن لم يكن قد أدى فريضة الوقت، وهو متمكن من أدائها في الحال؛ فلا يكلف بأسباب طهارة لم تجب.

قلت: ويمكن أن يجاب عما ذكره بوجهين:

أحدهما: أن يصور ذلك بما إذا كان متطهراً، وقد أرهقه الحدث بعد دخول الوقت، وقبل فعل الصلاة.

وأحسن منه: الثاني، وهو أن الطهارة إنما هي شرط عند إلقاء الجبيرة واللصوق، على ظاهر المذهب في إسقاط الإعادة لا في جواز المسح على ذلك، كما صرح به هو من قبل وإذا كان كذلك لم يقدح ما قاله فيما صار إليه الشيخ أبو

ص: 101

محمد، والله أعلم.

الأمر الثالث: [أنه] لا ترتيب في استعمال الماء والتراب في هذه الحالة، وهو مما ادعى القاضي الحسين أنه المذهب، سواء كان الواجب عليه الغسل أو الوضوء، وحكى معه وجهاً آخر: أنه يجب تقديم استعمال الماء؛ كما يجب فيما إذا [وجد] بعض ما يكفيه من الماء، وقلنا: يجب استعماله.

لكن الذي جزم به العراقيون فيما إذا كان واجبه الغسل: أنه مخير في تقديم ما شاء من استعمال الماء والتيمم، وقالوا: وقد نص الشافعي على أنه يبدأ بالتيمم؛ وإنما قال ذلك؛ لأنه إذا تيمم [ثم اغتسل، أذهب الماء التراب، وإذا اغتسل ثم تيمم] صار على وجهه طين.

وجزموا فيما إذا كان واجبه الوضوء: أنه يمشي على ترتيب الأعضاء، ولا ينتقل عن عضو حتى يكمل طهارته بغسل ما صح منه والتيمم عما هو جريح فيه، وهو مخير في كل عضو بين تقديم التيمم عنه أو غسل الصحيح منه؛ لأنه لا ترتيب في [كل عضو][من أعضاء الوضوء] كما لا ترتيب في كل البدن بالنسبة إلى الغسل، وهذا ما صححه جمهور المراوزة في الحالين.

وحكوا وجهاً آخر فيما إذا كان واجبه الوضوء: أنه يتخير في تقديم أيهما شاء، كما إذا كان واجبه الغسل.

ووجهاً آخر فيما إذا كان واجبه الوضوء [أو الغسل: أنه] يجب تقديم استعمال الماء على التيمم مطلقاً، سواء كان الجريح آخر أعضاء الوضوء أو أولها.

وأثر الخلاف يظهر في أمرين:

أحدهما: إذا كان الواجب الوضوء، وكان في كل عضو من أعضائه جرح وباقي العضو صحيح؛ فيجب عليه-[على] ما عدا مذهب العراقيين- تيمم واحد، وعلى مذهب العراقيين لابد من ثلاث تيممات: واحد يتم به طهارة وجهه، وآخر يتم به طهارة يديه والثالث: يتم به طهارة رجليه.

ص: 102

ولا يحتاج إلى تيمم للرأس؛ لأن مسح الصيح منها يكفي. نعم، لو كان جميع الرأس جريحاً احتاج إلى تيمم رابع عنها.

فإن قيل: ألا يكفيه عن تتمة طهارة الوجه وتتمة طهارة اليدين تيمم واحد إذا غسل الصحيح من الوجه أو لا؟ مع أنه لا يجب [عليه] تخلل غسل بين التيممين في هذه الحالة.

قلنا-: لو جاز ذلك [أدى] إلى أن يسقط الفرض عن جزء من الوجه واليدين في حال واحد، وذلك مبطل للترتيب.

فإن قيل: يلزمكم مثل هذا فيما إذا كان جميع أعضاء الوضوء جريحاً؛ فإنه يكفيه تيمم واحد، وهو يسقط الفرض عن جميعها في حال واحد، وذلك مبطل للترتيب.

قلنا: في هذه الحالة سقط حكم الوضوء، وحصل الترتيب للتيمم، ولا كذلك فيما ذكرناه؛ فإن ترتيب الوضوء باق.

الثاني: إذا غسل الصحيح وتيمم عن الجريح، ثم صلى فريضة، ثم أراد أن يصلي أخرى قبل أن يحدث- فلا بد من إعادة التيمم؛ لما ستعرفه، وهل يحتاج إلى إعادة غسل الصحيح؟

المذكور في "الحاوي" و"الإبانة": لا، وهو ما حكاه ابن الصباغ عن ابن الحداد.

وقال الإمام في الوضوء: رأيت الأصحاب مجمعين عليه، وإن كان يتطرق إليه احتمال [في الوضوء].

وقد أبدى الاحتمال ابن الصباغ، فقال: إن كان الجرح في رجله فلا يحتاج إلى الإعادة، وإن كان في وجهه أو يديه، فينبغي عندي أن يعيد التيمم وما بعده من الغسل؛ ليحصل الترتيب.

ولا يقال: إن بحضور فريضة أخرى لم يعد الحدث إلى موضع الجرح؛ بدليل استباحة النوافل؛ لأنا نقول: حكم الحدث عاد إليه في حكم الفريضة؛ ولهذا منعناه من أن يصليها، فإذا أراد استباحتها تيمم لها؛ فينوب هذا التيمم عن غسل العضو في

ص: 103

حق الفريضة، فيحتاج إلى إعادة ما بعده؛ ليحصل الترتيب.

وما أبداه ابن الصباغ احتمالاً هو ما ذكره القاضي الحسين تفريعاً على ما ذكرناه، وصرح بأنه لا يعيد ما غسله قبل التيمم، [وأن من أصحابنا من قال: يلزمه غسل ما غسله قبل التيمم] وما بعده؛ تخريجاً من القول بأنه لا يجوز تفريق الوضوء.

والمتولي قال: إنه خرجه من القول بأن مدة المسح إذا انقضت يستأنف الوضوء؛ لأن الطهارة في الصورتين كملت من جنسين: أصل، وبدل؛ فإذا بطل حكم البدل بطل حكم الأصل.

قلت: وهذا هو الحق، وما ذكره ابن الصباغ يرد عليه شيء سلف في باب المسح على الخفين.

وهذا الطريق على اختلاف أصله جار فيما إذا كان واجبه الغسل، فغسل الصحيح من بدنه، وتيمم عن الجريح منه، وصلى فرضاً، ثم أراد أن يصلي فرضاً آخر، ولا تأتي الطريقة الأولى؛ لأنه لا ترتيب فيه.

والطريقة الأولى هي الصيحة؛ لأن تفريق الوضوء بالعذر جائز، وهو هاهنا بعذر، واستئناف الوضوء عند ظهور الرجل أو انقضاء مدة المسح؛ بناء على أن المسح على الخف يرفع الحدث والتيمم لا يرفع الحدث عندنا.

واعلم: أن ما أبداه ابن الصباغ احتمالاً فيما ذكرناه، قد حكى مثله نقلاً فيما إذا غسل الصحيح، وتيمم عن الجريح، ثم برأ الجرح؛ فإنه قال: إن تيممه يبطل، ووجب [عليه] غسل ما برأ. وهل يجب إعادة ما غسله من قبل؟ نظر: فإن [كان] في الوضوء غسل ما بعد ذلك العضو، فأما ما قبله أو كان جنباً، ففي غسل بقية بدنه قولان كالقولين فيما إذا ظهرت الرجل.

فكأن الفرق بين المسألتين أن التيمم هاهنا بطل بالنسبة إلى [الفرض والنفل، وفي المسألة قبلها لم يبطل] بالنسبة إلى النافلة.

ص: 104

وقياس من منع النافلة بعد الفريضة مطلقاً، أو إذا خرج وقت الفريضة- أن يسوي بين المسألتين، والله أعلم.

وهذا كله تفريع على الوجه الصحيح الذي لم يذكر العراقيون غيره.

أما إذا قلنا بخلافه، فلا يجب إعادة غسل ما بعد العضو الجريح [فقط]. نعم، يأتي الخلاف في استئناف جملة المغسول؛ بناء على ما ذكرناه.

فإن قلت: إذا كان مذهب العراقيين والصحيح [فيما] عند المراوزة: ما ذكرتم، وهو أنه لا ينتقل عن عضو حتى يكمل طهارته، فما وجه عدول الشيخ عنه، كما قلتم: إن كلامه يفهمه؟

قلنا: كلام الشيخ لا ينافيه؛ لأنا نقول: مراده: أنه لا ترتيب في استعمال الماء والتراب في [أي] عضو خلا منه.

الرابع: أن القرح لو كان في محل التيمم [لا يسقط التيمم] وبه صرح الأصحاب، وقالوا: إن لم يكن للجرح غور، مسح التراب عليه، وإن كان له غور وأفواه مفتحة مسح على أفواهه؛ لأنها ظاهرة، ولا ضرر عليه في التراب. نعم، لو خاف من استعمال التراب [ما يخاف من استعمال الماء] لم يجب.

الخامس: أن محل ما ذكره من عدم الإعادة إذا لم يكن على قرحه دم يخاف من غسله، فإن كان، فقد ذكره في باب إزالة النجاسة.

قال: ولا يصلي بتيمم واحد أكثر من فريضة واحدة؛ لقوله- تعالى-: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} إلى آخرها [المائدة: 6] فإن ظاهرها يقتضي إيجاب الوضوء أو التيمم عند كل صلاة [وقد] خرج منها الوضوء بفعله- عليه السلام فإنه صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد، فسأله عمر عن ذلك؟ فقال:"عَمْداً صَنَعْتُ يَا عُمَرُ" وبقى التيمم على مقتضى الظاهر، ولا يمكن أن يقاس عليه؛ لأنه

ص: 105

طهارة ضرورة، والطهارة بالماء طهارة رفاهية.

وقد روى الدارقطني عن ابن عباس أنه قال: "من السنة ألا يصلي بتيمم واحد إلا صلاة واحدة، ثم يحدث للثانية تيمماً [ثانياً] والصحابي إذا قال: "من السنة" فإنما يعني سنته عليه السلام.

ثم مفهوم قوله- عليه السلام: "أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ" يدل على ما ذكرنا.

وقد صار المزني إلى أنه يصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الفرائض والنوافل؛ [بناء] على أصله في أنه يرفع الحدث؛ كالطهارة بالماء، وقد دللنا على خلافه.

ثم فائدة ما ذكره الشيخ [تعريفك أن] نية استباحة الصلاة- إذا اكتفى بها- ونية استباحة صلاة الفرض، لا تبيح أكثر من فريضة واحدة، وأنه لا يجوز أن ينوي

ص: 106

استباحة صلاتين فرض، قضاء أو أداء. نعم، لو نوى ذلك فهل يصح تيممه، ويستبيح به فرضاً واحداً منهما، أو لا يصح؟ فيه وجهان خرجهما الإمام من الخلاف فيما إذا نوى استباحة صلاة بعينها ونفى غيرها.

والأصح في "الرافعي" في مسألتنا: الأول.

وهذا إذا قلنا بالصحيح: أن تعيين الفريضة ليس شرطاً.

قال: وما شاء من النوافل، أي: ويصلي بتيمم واحد ما شاء من النوافل، إذا نوى استباحة الصلاة أو استباحة صلاة النفل، وإن كان القياس يقتضي أن يتيمم لكل نافلة؛ لأن النفل كالفرض في اشتراط الطهارة، وهو مقتضى ظاهر الآية، إلا أن النافلة- وإن تعددت- في حكم الصلاة [الواحدة]؛ بدليل: أنه إذا أحرم بركعة له أن يجعلها مائة وبالعكس، ولأن في تكليفه لكل نافلة تيمماً مشقة تؤدي إلى تركها، والشرع بنى أمر النوافل على التخفيف؛ فجوز فيها ترك القيام مع القدرة عليه، وترك استقبال القبلة وفعلها على الراحلة في السفر؛ لتكثر ولا ينقطع الشخص عنها؛ فيصير الترك له عادة؛ ولهذا المعنى قيل بجواز فعلها بالتيمم وإن كان القياس خلافه؛ من جهة أن التيمم [طهارة] ضرورة، ولا ضرورة في النوافل. نعم، الحاجة إليها ماسة؛ فإنها جبران للنقص الحاصل في الفرائض- كما [صح] في الخبر- والحاجة العامة بمنزلة الضرورة الخاصة؛ ولذلك قال بعض الأئمة: لا نافلة إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ليس له ذهول عن ربه فتقع فريضته كاملة بخلاف غيره.

تنبيه: الفريضة: تطلق على الصلاة الواجبة بأصل الشرع عيناً: كالخمس، وركعتي الطواف إذا قلنا بوجوبهما، أو على الكفاية [كالصلاة على الجنازة]، أو بالتزام

ص: 107

المكلف كالمنذورة.

وتطلق على الطواف الواجب بأصل الشرع، وبالنذر.

والمتبادر إلى الذهن منها عند الإطلاق: القسم الأول، ولا شك في أنه مراد الشيخ، ولا نزاع فيه عند الأصحاب.

وأما غيره، فهل هو مراد له [كذلك؟] يتوقف على معرفة ما قيل فيه، وقد قال الأصحاب في صلاة الجنازة: هل يجوز أن تصلي مع الفرض بتيمم واحد، ويصلي بتيمم واحد على جنازتين ولو دفعة واحدة، أو يحتاج [لكل] جنازة [تيمما؟] الذي نص عليه في "المختصر": الأول، ويعضده قوله في "البويطي": إنه لو تيمم لنافلة جاز أن يصلي على الجنازة، واختلفوا فيه:

فحمله ابن أبي هريرة والإصطخري على ما إذا لم تتعين، وقالا: إذا تعينت لا يجوز؛ لأنها فرض في حقه فتشابه الصلاة المكتوبة، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد في "التعليق"، وصححه البندنيجي.

وقال ابن سريج وأبو إسحاق بظاهره، [وأنه لا فرق بين أن تتعين أو لا.

ووجهه- حالة عدم التعين- ظاهر]، وفي حالة التعين: أن جنسها ليس من فرائض الأعيان، ولأنه لم يجز عند التعين [ما يتحرى عند عدم التعين] لأنه

ص: 108

إذا دخل فيها وجبت، وتعين عليه إتمامها، وهذا ما اختاره القاضي أبو الطيب، وقال ابن الصباغ: إنه أشبه.

وسلك المراوزة طريقاً آخر، فقالوا: نص هنا على ما ذكرنا، ونص على أنها لا تفعل قاعداً مع القدرة على القيام، ولا على الراحلة.

ومن الأصحاب من نقل، وخرج، وأثبت في المسألتين قولين.

ومنهم من حمل النصين على حالين، فقال: نصه في التيمم محمول على ما إذا لم تتعين، فأما إذا تعينت لا يجوز قولاً واحداً، [ونصه الآخر محمول على ما إذا تعينت أما إذا لم تتعين فيجوز قولاً واحداً].

ومنهم من أقر النصين على ظاهرهما، وفرق بأن القيام أظهر أركانها، وتركه مع القدرة عليه يمحو صورتها.

ومن مجموع ذلك يحصل في المسألة ثلاثة أقوال، ثالثها: إن تعينت لا يجوز أن يصلي على جنازتين بتيمم واحد: لا قاعداً، ولا على الراحلة، وإن لم تتعين جاز.

وقالوا في الصلاة المنذورة: الصحيح أنها كالمكتوبة، وبه جزم القاضي أبو الطيب.

وحكى الماوردي وجهاً آخر: أنها كالنافلة، قال: والفرق بينها وبين ركعتي الطواف إذا قلنا بوجوبهما حيث لا يجوز جمعهما مع مكتوبة بتيمم واحد أن وجوبهما راتب بأصل الشرع، بخلاف النذر.

والمراوزة بنوا الخلاف فيها على أن النذر يسلك به مسلك واجب الشرع أو جائزه، وقالوا في الطواف: لا يجوز أن يجمع بينه وبين مكتوبة بتيمم واحد ولا بين طوافين.

ولم يقيد ابن الصباغ ذلك بالطواف الواجب؛ [بل] أطلق الكلام فيه.

والماوردي والمراوزة خصوه بالطواف الواجب، فقالوا: هل يجوز أن يجمع بين الطواف وركعتيه؟ إن قلنا: [إنهما سنة]، فنعم على المذهب، وإن قلنا: إنهما واجبتان، فلا، على أصح الوجهين في "تعليق القاضي الحسين".

ص: 109

ووجه مقابله- وهو المذكور في "الحاوي" و"التتمة"-: أنهما كالجزء منه.

وإذا عرفت ما ذكرناه عرفت أن صلاة الجنازة [مرادة]؛ إذ الشيخ تابع في هذا الكتاب طريق أبي حامد، وكذا الصلاة المنذورة؛ لأن الصحيح أنها [كالصلاة المكتوبة] وأما الطواف: فلولا قول الشيخ: "ولا يصلي بتيمم واحد أكثر من فريضة واحدة" لقلنا: إنه مراد؛ [إذ] المتبادر إلى الذهن عند إطلاق الصلاة غير الطواف، وإن أردنا إدراجه قلنا: الطواف يطلق عليه صلاة مجازاً؛ فيجوز أن يكون مراد الشيخ بلفظ "الصلاة" حقيقتها ومجازها، وهو جائز عند بعض الأصحاب.

فإن قلت: كان الأحسن على هذا أن يقول: ولا يؤدي بتيمم واحد أكثر من فريضة واحدة.

قلت: [لا؛ لأن] تمكين المرأة زوجها من الوطء فريضة، ويجوز لها بالتيمم الواحد تمكينه [من الوطء] مراراً، والصلاة، والله أعلم.

فروع:

إذا نسي صلاة من الخمس، ولم يعرف عينها، فإنه يصلي الخمس، وهل يكفيه تيمم واحد؛ نظراً إلى أن الأصل صلاة واحدة، أو لابد من خمسة تيممات؛ لأن كلاً

ص: 110

من الخمس واجبة؟ فيه وجهان:

الذي [نص] عليه أكثر الأصحاب كما قال الإمام وابن الصباغ وصححه الأول، وهما جاريان فيما لو نسي صلاتين من الخمس.

فعلى الأول: يكفيه تيممان يصلي بكل [واحد] منهما الخمس، أو يصلي بالأول [الصبح والظهر والعصر والمغرب، وبالثاني: الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ إذ بذلك يخرج عن العهدة، فلو عكس فصلى بالأول] الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وبالثاني:[الصبح و] الظهر [والعصر] والعشاء- لم يخرج عن العهدة لجواز أن يكون الفائت: الظهر والعشاء؛ فيكون الظهر قد تأدى بالأول فلا يؤدي [به] العشاء؛ فطريقه أن يصلي العشاء مرة أخرى.

وعلى الثاني: يلزمه خمسة تيممات.

ولو نسي صلاتين من صلوات يومين: فإن كانتا مختلفتين؛ فعلى الوجه الأول يلزمه تيممان، كما ذكرنا.

وعلى الثاني: يلزمه عشرة تيممات.

ص: 111

[وإن كانت الصلاتان من جنس واحد: فعلى الأول: يلزمه عشرة تيممات] يصلي بكل واحد صلاة يوم.

وعلى الثاين: يأتي بعشرة تيممات.

ولو شك هل هما متفقتان أو مختلفتان؟ بنى الأمر على اختلافهما؛ لأنه أحوط.

وإذا صلى منفرداً بالتيمم، ثم أراد أن يصلي في جماعة: هل يحتاج إلى تيمم آخر؟

قال القاضي الحسين: إن قلنا: إن الفريضة الأولى، [فلا] على المذهب.

[وإن قلنا: كلاهما فرض، فنعم].

وإن قلنا: يتقبل الله أيتهما شاء، فوجهان؛ كما لو نسي صلاة من الخمس [ولم يعرف عينها] وأراد أن يعيدها بالتيمم.

قال الإمام: والاكتفاء في هذه بتيمم واحد أولى؛ فإنه لا يجب الإقدام على الصلاة الثانية وإن قلنا: إنها فرض، ومن نسي صلاة من الخمس يتحتم عليه الإقدام على الكل.

ص: 112

قال: ومن تيمم للفرض صلى به النفل؛ [لأن النفل] تابع للفرض ومكمل له، فإذا نوى استباحة المتبوع، تضمنت نيته استباحة التابع، وهذا مما لا خلاف فيه عند العراقيين والصيدلاني.

نعم، هل يشمل ذلك [النفل] قبل الفرض وبعده؛ لأن التبعية تشملهما، أو يختص بالذي بعده؛ لأنه اللائق بالتبع؟ فيه قولان:

الذي نص عليه في "الأم": الأول، وهو الأصح.

والمذكور في البويطي: الثاني، وهو مقيس على الجمع في وقت الظهر.

وفرق القائلون بالأول بينهما، بأن التبعية ثم في الفعل، وهنا في الاستباحة لا في الفعل؛ إذ لو كانت في الفعل لوجب أن تكون عقب الفرائض خاصة.

وحكى الشيخ أبو محمد قولاً آخر: أنه لا يتنفل [بعده] أيضاً.

قال الرافعي: و [هذا] هو اختيار القفال.

وقال الإمام: إنه بعيد لا يتخرج إلا على الوجه المزيف في اشتراط التعيين. نعم، إذا قلنا بما نص عليه في "الأم" وهو المفهوم من كلام الشيخ، فخرج وقت الفريضة، هل يتنفل؟ فيه وجهان حكاهما العراقيون، وما ذكرناه على عمومه لا يستثنى [منه] إلا صورة واحدة على رأي أبي الطيب، و [هي] ما إذا أجنب وتيمم، وصلى فريضة، ثم أحدث الحدث الأصغر، ثم وجد من الماء ما يكفيه لوضوئه، ولا يكفيه للغسل، وقلنا: إذا وجد بعض ما يكفيه لا يجب عليه استعماله- فإن القاضي قال: يتيمم للفرض، ولا يصلي النفل؛ لأنه يقدر على الوضوء له، وقد تقدم، والله أعلم.

قال: ومن تيمم للنفل لم يصل به الفرض؛ لأن نيته لم تتضمنه؛ فإنه غير تابع لما نواه، وإذا لم ينو ذلك ولا تضمنته نيته لم يستبحه؛ لقوله- عليه السلام:"وَإِنَّمَا [لِكُلِّ] امْرِئٍ مَا نَوَى" وبالقياس على ما لو لم ينو.

وفي المسألة قول آخر: أنه يصلي به الفرض، وقد سلف في أول الباب، والصحيح:

ص: 113

الأول، ولم يتعرض الشيخ- تفريعاً عليه- إلى أنه يصلي به النفل؛ اكتفاء بقوله:"وما شاء من النوافل".

والمراوزة قالوا: إذا قلنا به، فهل يستبيح به ما نواه من النفل؟ فيه قولان، ووجه المنع أنه تابع فلا يفرد بتيمم.

قال القاضي الحسين: والخلاف أخذ من قوله في "المختصر": "وينوي بالتيمم الفريضة": فمن أصحابنا من قال: أراد به صلاته الفرض، أي: ولا يجوز أن ينوي به النفل؛ لأنه لا ضرورة فيه؛ كما قاله في "التتمة".

ومنهم من قال: أراد به فرض التيمم.

ويجوز التيمم للنافلة؛ لأن التيمم للنافلة فرض كالفريضة، والخلاف مشبه بالخلاف في جواز الاستئجار على حج التطوع.

فإن قيل: قد حكيتم قولاً: أنه إذا تيمم للفرض لا يصلي [به النفل]، وقولا: أنه لا يجوز أن يتيمم للنفل، وإذا جمعت بين القولين جاء منهما قول: أنه لا يصلي النفل بالتيمم أصلاً.

قلت: وقد [حكاه في "التتمة" وجهاً، و] نسبه الإمام إلى إشارة بعض المصنفين، وزيفه، لكن المشهور خلافه.

وعلى هذا فالجواب من وجهين:

أحدهما: أن نقول: حيث قال الشافعي: إنه [إذا تيمم للفرض، لا يصلي به النفل- قال بأنه يجوز أن يتيمم للنفل.

وحيث قال: لا يجوز التيمم للنفل- قال: إنه] إذا تيمم للفرض صلى به النفل؛ فلم يجتمع القولان.

ومثل هذا الجواب يأتي في قسم الصدقات عند الكلام في المؤلفة.

لكن لك أن تقول: الصحيح أنه إذا تيمم للفرض صلى به النفل، وأنه يجوز التيمم للنفل، وذلك يمنع الجواب.

ص: 114

والثاني: أن له طريقاً في صلاة النفل بالتيمم بأن ينوي استباحة صلاة الفرض والنفل؛ فإنه لا خلاف في أنه يستبيحهما، ويقدم ما شاء منهما، كما قاله الإمام والقاضي أبو الطيب وغيرهما، ووجهه ظاهر؛ فإنه قد يغتفر الشيء تبعاً، ولا يغتفر مقصوداً.

فرع: إذا تيمم الصبي بعد دخول الوقت لصلاة الوقت، ثم بلغ- قال مجلي: قال أصحابنا: لا يجوز أن يصلي به؛ لأنها لم تكن واجبة عليه؛ فصار بمثابة من تيمم للفرض قبل دخول الوقت، وهذا ما حكاه الماوردي في باب نية الوضوء.

قال أبو بكر الشاشي: فيه نظر، ولم يبينه.

قلت: وكأنه- والله أعلم-[يشير إلى] أنه ينبغي أن يصلي به إذا قلنا: إنه لو صلى في أول الوقت، وبلغ في آخره يجزئه عن الفرض.

وقد يفرق بينهما بأن الصلاة هي المقصودة، فإذا شرع فيها اتصل فعله بالمقصود؛ [فلا يبطله، والتيمم مقصود لغيره، فإذا تغير الحال قبل اتصاله بالمقصود]، [لم يمض] فيه.

والمذكور في "الكافي" في باب ما يوجب الغسل: أنه لا يبطل ببلوغه؛ كالوضوء.

واعلم: أنه حيث يستبيح صلاة النفل يجوز له مس المصحف، وحمله، وقراءة القرآن وإن كان جنباً، والجلوس في المسجد، وكذا الحائض تستبيح ذلك، وتمكن الزوج من وطئها، اللهم إلا أن يكون تيممها للفرض وقد صلته؛ فإن في حلها للزوج بدون تيمم له وجهين ذكرناهما في الحيض، ويجوز أن يكون أصلهما: أنها هل تتنفل بعد الفرض، أم لا؛ وحينئذ فلا حاجة إلى استثناء؟

وإذا تيمم الشخص لاستباحة شيء مما ذكرناه، قال في "التتمة": فهو كما لو تيمم للنفل؛ فيجري الخلاف في استباحة النفل والفرض به، والمذكور في "الحاوي" و"الشامل"، [وعليه جرى الرافعي:] أنه إذا تيمم لشيء من ذلك استباحه، ولا

ص: 115

يستبيح به الفرض، وهل يستبيح به [صلاة] النفل؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم؛ لأنه مثل صلاة النفل.

والثاني: لا؛ لأن النفل في باب الطهارة آكد؛ فإنه لم يختلف [فيها]، ولا كذلك ما ذكرناه.

وقد حكى الرافعي وجهاً: أن الحائض إذا نوت بتيممها استباحة الوطء لا تستبيحه؛ كما تقدم مثله في الغسل، وليس [بشيء].

ثم إذا أبحنا للمتيمم شيئاً مما ذكرناه، لا يحتاج عند تكراره إلى تجديد تيمم، بل التيمم في حقه بالنسبة إلى ذلك كالغسل والوضوء: لا ينقضه إلا ما ينقضهما، وأما بالنسبة إلى الفرض فلا بد منه عند كل فريضة، صرح به الأصحاب.

قال: ومن لم يجد ماء ولا تراباً، أي: لكونه محبوساً في موضع ليس فيه [تراب ولا ماء] أو على [جبل] هما معدومان فيه، ونحو ذلك- صلى الفريضة وحدها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَاتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ". وقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أناساً؛ لطلب قلادة أضلتها عائشة، فحضرت الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك [له] فنزلت آية التيمم، ولم ينكر عليهم، ولو كان لا يجوز لأنكره؛ إذ هو وقت الحاجة إليه؛ لأن الطهارة [شرط] في صحة الصلاة،

ص: 116

والعجز عنه لا يسقط وجوب فعلها؛ كالعجز عن ستر العورة، وإزالة النجاسة عن البدن، واستقبال القبلة. نعم، لو كان جنباً- أو حائضاً طهرت- فهل يقرأ [الفاتحة]؟ فيه وجهان، [المذكور منهما في "التهذيب": أنه لا يقرأ، وفي "الشامل": أنه يقرأ ما لا بد منه]، وهو ما يقتضيه كلام الشيخ.

ووجهه: أن الصلاة آكد من القراءة؛ لأنه يشترط [فيها ما لا يشترط] في القراءة وقد أبيح له فعلها.

وعلى الأول يأتي بالذكر [كالعاجز].

والخلاف جار- كما قال القاضي الحسين وصاحب "الكافي" –فيمن صلى في الحضر بالتيمم، وقلنا: تجب عليه الإعادة.

قال في "الكافي": وهل يجوز له مس المصحف بعد التيمم؟ فيه الوجهان.

وأما من فقد الماء والتراب: لا يجوز [له] التنفل، ولا مس المصحف، ولا حمله، ولا قراءة غير الفاتحة بلا خلاف. وإن كان امرأة: لا يباح وطؤها.

قال: وأعاد إذا قدر على أحدهما، استدراكاً للمصلحة بقدر الإمكان، لأن عدمهما عذر نادر غير متصل؛ فلم يسقط القضاء؛ كالحيض في حق الصائمة.

ثم ظاهر كلام الشيخ ومن وافقه في العبارة- وهو صاحب "الكافي"-: أنه يعيد عند قدرته على التراب، سواء كانت صلاته به يسقط فرضها بالتيمم أو لا، في الوقت أو بعده؛ كما أن هذا حكمه إذا قدر على الماء.

وفي إعادته إذا قدر على التراب قبل فوات الوقت- والصلاة لا تسقط به- نظر يقوى في حالة قدرته عليه بعد خروج الوقت.

ولا جرم خص الفوراني والماوردي وجوب الإعادة بحالة قدرته على الماء، والإمام خصه بحالة قدرته على طهور، وغيرهم لم يتعرض لحالة وجوب الإعادة.

ص: 117

وقد حكي عن الشافعي قول [آخر]: أنه لا إعادة عليه مطلقاً؛ لما ذكرناه من الخبر الذي [رواه] مسلم؛ [فإنه لم يأمرهم] بالإعادة، ولو كانت واجبة لأمر بها، وهذا ما اختاره المزني وطرده في كل [من] أمر بصلاة في الوقت على خلل فيها، ويقال: إنه قول الشافعي.

وحكي عنه قول آخر: أنه لا يصلي في الوقت، ويصلي إذا قدر على الماء والتراب، واختلفوا في مراده بقوله:"لا يصلي": فقيل: إنه على وجه التحريم كمذهب أبي حنيفة، وقيل: على وجه الوجوب، وإلا فالمستحب له أن يصلي، وهذا ما حكاه البندنيجي عن القديم، وكذا الشيخ أبو حامد، وهو المشهور، وعبارته [فيه]: "يعجبني فعل الصلاة.

والذي نص عليه في عامة كتبه، ولم يحك أبو الطيب غيره، وهو الصحيح- ما ذكره الشيخ؛ لما ذكرناه، والخبر الذي استدل به للثاني لا حجة فيه؛ لأن الإعادة لا تجب على الفور؛ ولذلك لم يأمر بها مع أنه يحتمل أنه- عليه السلام علم أنهم عالمون بها؛ [كذا] قاله الأصحاب.

ص: 118

وعندي أنه- عليه السلام إنما لم يأمر بالإعادة؛ لأن ذلك كان قبل نزول آية التيمم، وعدم الماء في السفر ليس بنادر؛ فصلاتهم- إذ ذاك- بغير طهارة نشأت عن عذر عام؛ كصلاتهم بعد ذلك بالتيمم في السفر، وذلك لا يقتضي إعادة، والله أعلم.

ثم على الصحيح [فرعان:].

أحدهما: إذا أحدث في الأولى بطلت صلاته، قاله في "الكافي".

الثاني: إذا صلى في الوقت، وأعاد؛ فأيهما الفرض؟ فيه أربعة أقوال حكاها الإمام، وقال: إنها مطردة في كل من أقام صلاة في الوقت على اختلالها مع عدم الإمكان، ثم أمرناه بالقضاء فقضاها.

والماوردي حكاها أوجهاً عن رواية ابن أبي هريرة:

أحدها: أن الفرض: الأولى؛ وإنما أمر بالثانية تلافياً لما اختل من شروط الأولى؛ فإنه لا يتأتى استدراكه وحده.

والثاني: [أن] الفرض الثانية، وهو ما حكاه أبو الطيب عن نصه في "الأم"، واختاره في "التهذيب"، ولم يحك البندنيجي غيره، ونفى ما سواه؛ وإنما أمر بالأولى لحرمة الوقت؛ كما نقول فيمن نسي النية في رمضان، يجب عليه الإمساك؛ تشبهاً بالصائمين، واستبعده الإمام.

والثالث: كلاهما فرض، وهو المنصوص في "الإملاء" والأصح.

والرابع: أن الفرض أحدهما لا بعينه، خرجه أبو إسحاق من قول الشافعي في القديم فيمن صلى الظهر في بيته بعذر، ثم سعى إلى الجمعة، فصلاها يحتسب الله له بأيهما شاء.

قال: وإذا وضع الكسير- أي: الشخص الكبير –الجبائر- أي: على موضع الكسر وما لابد منه من الصحيح- على غير طهر- أي: بأن وضعها، وهو محدث الحدث الأصغر، أو الأكبر، أو هما، وخاف من نزعها التلف- مسح عليها، أي: بالماء؛ لما روى عن علي- كرم الله وجهه – أنه انكسرت إحدى زنديه؛ فسأل

ص: 119

رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يمسح على الجبائر. رواه ابن ماجه، وحديث المشجوج يدل عليه أيضاً.

والمسح عليها واجب بلا خلاف بين أصحابنا، كما قال الإمام وغيره، وفيه شيءُ سنذكره. ولا يجب عليه أن يضعها على الكسر إذا كان ممكناً؛ ليمسح عليها على الأصح، خلافاً للشيخ أبي محمد كما سلف.

أما إذا كان غير ممكن: فلا يجب بلا خلاف.

والتلف المشار إليه: تلف النفس أو العضو، وخوف الزيادة في المرض، ونحوهما مما ذكرناه يلحق بهما على أصح القولين، وسكت الشيخ عنه؛ لفهمه مما تقدم مع ما ذكره هنا.

وسكوت الشيخ عن التصريح بغسل الصحيح في هذه الحالة؛ استغناء بما سلف منه؛ لأن فيه دليلاً عليه، وغيره صرح به.

وفي "الرافعي" حكاية طريقة أخرى حاكية لقولين في وجوبه، كالقولين فيمن وجد بعض ما يكفيه: هل يستعمله، أم يقتصر على التيمم؟

أحدهما: ما ذكرناه.

والثاني: أنه يقتصر على التيمم.

وهذه الطريقة مفرعة على أن التيمم لابد منه في مسألتنا، كما هو الصحيح.

ص: 120

والقول بعدم وجوب غسل الصحيح على هذه الطريقة، يجري في المسح على الجبيرة من طريق الأولى.

وقد حكى الرافعي عن رواية أبي عبد الله الحناطي: أنه لا يمسح، ويكفيه التيمم.

وعن القاضي أبي الطيب أنه قال: عندي يكفيه التيمم، وغسل الصحيح.

والصحيح ما ذكره الشيخ، وهو المشهور في الطرق.

قال: وأعاد الصلاة؛ لأن ذلك عذر نادر لا يتصل غالباً؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، وبه قطع بعض الأصحاب.

وبعضهم قال بطرد القولين الآتيين فيه، حكاهما البندنيجي وغيره.

وفي "النهاية" و"الإبانة": أن الذي نص عليه في الجديد في هذه الحالة ما ذكره الشيخ، وأنه نص في القديم فيها على قولين.

قال: وإن وضعها على طهر مسح عليها، وصلى؛ لما ذكرناه.

وفي الإعادة قولان: وجه اللزوم ما تقدم، ووجه عدمه وهو الصحيح عند بعضهم: القياس على من به سلس البول والاستحاضة والجريح؛ فإنهم لا يعيدون؛ وكذا الماسح على الخف.

قال الغزالي: ولعل هذا أولى.

والقولان في هذه الحالة- كما قال الإمام والفوراني- في الجديد، وفي القديم: القطع بأنه لا إعادة.

وإذا جمعت ما ذكرناه في الأولى وهذه واختصرته- قلت: فيهما ثلاثة أقوال:

ثالثها: إن وضعها على غير طهر أعاد، وإن وضعها على طهر لا يعيد، وهكذا حكاه الإمام والمتولي أيضاً: وصحح الثالث.

وقد قيل: أصل الخلاف في الإعادة قول الشافعي: إن صح حديث علي قلت به، في أنه لا يجب عليه الإعادة؛ لأنه- عليه السلام لم يأمره بذلك.

واختلف الأصحاب: فمنهم من قال: إن صح حديث على لم تجب الإعادة، قولاً واحداً، وإن لم يصح، ففيه قولان، ووجههما ما سلف.

ص: 121

ومنهم من قال: لا يصح حديث علي؛ لأن راويه عمرو بن خالد الواسطي، وهو كذاب وضاع؛ فالمسألة على قولين.

ومنهم من قال: هي على قولين ولو صح حديث على، حكاه الفوراني وغيره، وليس بشيء.

فرع: التطهر قبل وضع الجبائر على الكسر هل يجب؟ قال في "البسيط": ذلك يبني على أنه إذا وضعها على غير طهر يعيد أم لا؟ فإن قلنا: يعيد، كان واجباً، وإلا كان مستحباً، والإمام حكاه عن شيخه.

قلت: وبناء عدم وجوبه على القول بعدم الإعادة ظاهر.

وأما بناء وجوبه على القول بالإعادة: [ففيه نظر] إذا قلنا: إنه لو وضعها على طهر يعيد أيضاً، ولا يخفي ذلك على متأمل.

ثم ما سلف من سؤال الرافعي على قول [الشيخ] أبي محمد بوجوب إلقاء اللصوق عند إمكانه- يأتي هنا؛ لأنه حالة إرادة وضع الجبائر: إما أن يكون في وقت صلاة لم يؤدها، أو في وقت صلاة أداها، أو لا في وقت صلاة أصلاً.

فإن كان لا في وقت صلاة، أو في وقت صلاة أداها، فهو لا يجب عليه [الآن] التطهر لصلاة أخرى.

وإن كان في وقت صلاة لم يؤدها، فالتطهر واجب عليه- بلا خلاف- لأجلها، ولا معنى للاختلاف.

ولا جرم جزم القاضي أبو الطيب والماوردي والمتولي بوجوب التطهر حالة الوضع مع حكاية الخلاف في القضاء.

ومن ذلك يؤخذ أن المسألة مصورة بما إذا كان الخوف في نزع الجبائر، لا في غسل العضو، أو لم يكن عليه جبائر، وبه صرح الإمام والرافعي وابن الصباغ عند الكلام في وجوب التيمم.

ص: 122

قال: وهل يضم إلى المسح التيمم، أي: في الصورة الأولى والثانية؟ فيه قولان، أي: منصوصان في "البويطي"، كما قال البندنيجي وغيره.

والفوراني والإمام والغزالي حكوهما وجهين:

وجه المنع: أنه مسح على حائل دون العضو، فاقتصر عليه كالمسح على الخف، وهذا ما نص عليه في القديم، [ونقله][المزني] إلى "المختصر"، وهو الأظهر في "تلخيص الروياني".

ووجه الوجوب: أن هذه طهارة [ضرورة]؛ فاعتبر الإتيان فيها بأقصى الممكن، ولا كذلك المسح على الخف؛ فإنه رخصة لا يليق بها التشديد.

وبعضهم استدل له بالخبر الذي ورد في المشجوج. ولا حجة فيه؛ لأنه ثم لا يتمكن من استعمال الماء على الجرح، وهنا هو متمكن منه، لكن المانع فعله: وهو وضع [الجبائر، وهذا ما نص عليه في "الأم"، وهو الصحيح في "النهاية" و"الرافعي"، والأظهر في "الكافي"، والقولان جاريان فيما إذا وضع اللصوق على الجرح؛ صرح به البندنيجي والإمام وغيرهما، حيث قالوا: إن ما ذكرناه في] الجبائر يجري فيما إذا ألقى اللصوق على الجرح حرفاً حرفاً.

وصاحب "الكافي" خص ذلك بما إذا كان لا يخاف من استعمال الماء على الجرح ضرراً، لكنه يخاف من نزع اللصوق، وهو حسن؛ لأنه نظير مسألتنا.

ومن المراوزة من نفي الخلاف في مسألة الجبائر، وقال: النصان محمولان على حالين:

فحيث قال: "يتمم"، [أراد] [إذا كان بصفة لو رفع الجبيرة لا يمكنه استعمال الماء؛ فصار كمن كان بعض أعضائه صحيحاً وبعضه جريحاً.

وحيث قال: "لا يتيمم"] أراد به إذا كان بصفة لو رفع الجبيرة يمكنه غسل ما تحتها؛ كذا قاله الرافعي والقاضي الحسين.

وعبارة غيره في [حكاية] هذه الطريقة: أن نصه على وجوب التيمم، محمول

ص: 123

على ما إذا كان تحت الجبائر جرح؛ لأنه لابد من موضع صحيح كان يمكنه أن يغسله فالتيمم لأجله. ونصه على عدم وجوبه محمول على ما إذا كان ظاهر البدن صحيحاً. والمشهور طريقة القولين.

وإذا قلنا بالصحيح منهما- وهو وجوب التيمم- فعليه فروع:

أحدها: هل يجب تقديم استعمال الماء في الغسل والمسح عليه، أم لا؟ فيه [من] التفصيل [والخلاف ما سلف في الجريح].

[والثاني: يجب [إعادة التيمم] عند كل صلاة، وهذا يؤخذ من كلام الشيخ:"وفي إعادة المسح والغسل ما سلف في الجريح"]؛ صرح به القاضي الحسين وغيره.

الثالث: لو كانت الجبائر على أعضاء التيمم أو بعضها، فهل [يمسح] على ذلك بالتراب؟ فيه وجهان:

أصحهما في "الوسيط"، و"الرافعي": لا؛ لأن التراب ضعيف لا أثر له على ساتر، وهذا ما حكاه في "الحاوي" و"الكافي".

والمذكور في "الشامل" و"التتمة" مقابله، قالا: وتجب الإعادة في هذه الصورة قولاً واحداً؛ لأن البدل لا يكون على بدل، وأعجب من صاحب "الكافي"؛ كيف جزم بوجوب إمرار التراب على اللصوق وبعدمه هاهنا مع عسر الفرق؟

تنبيه: الجبائر: جمع جبيرة، وهي الخشبة أو القصبة التي تعد للوضع على الكسر، ويشد عليها؛ لينجبر الكسر.

وكلام الشيخ يقتضي أمرين:

أحدهما: أنه يجب استيعاب الجبائر بالمسح، وهو أحد الوجهين؛ لأنه مسح أتى به بدلاً عن الغسل للضرورة؛ فوجب استيعاب الممسوح [به] كالوجه واليدين في التيمم؛ وهذا إليه ميل [كلام] أبي الطيب، والأصح في "الكافي" و"الرافعي".

ص: 124

ومقابله: أن الواجب ما ينطلق [عليه] اسم المسح: كمسح الخف، وهو المختار في "المرشد".

ومن قال بالأول احترز عن ذلك بقوله: "للضرورة"، وفرق بأمر آخر: وهو أنه لا ضرر عليه في الاستيعاب هنا، بخلاف الخف؛ فإن الاستيعاب يبليه وهو ضرر.

الثاني: أنه لا يتأقت المسح على الجبائر، وهو ما ذكره العراقيون والماوردي والقاضي الحسين والصيدلاني والمتولي وصاحب "الكافي".

ومن المراوزة من حكى وجهاً آخر: أنه يتأقت في حق المقيم بيوم وليلة، والمسافر [بثلاثة أيام ولياليهن] كالمسح على الخفين.

وأصل الخلاف في ذلك، وفي استيعاب [المسح على الجبيرة]، ووجوب التيمم: أن المسح على الجبيرة أخذ شبهاً من أصلين:

أحدهما: المسح على الخفين؛ لأن ما تحت الجبيرة صحيح يمكن غسله.

والثاني: الجرح إذا خاف من غسله التلف؛ لأنه يخاف هنا من الغسلح بسبب النزع- التلف.

فبعض الأصحاب يغلب شبه المسح على الخفين؛ فيقول بمقتضاه، وبعضهم يغلب شبه الجرح ويطرد حكمه.

وقد استشكل المتأخرون تصوير محل الخلاف في تأقيت المسح؛ من حيث إنه [إن] كان يخاف من نزعها عند انتهاء مدة مسح الخف ما يجوز المسح عليها ابتداء- فلا يجب، بلا خلاف. وإن كان لا يخشى منه ضرراً، وجب نزعها وغسل المحل، بلا خلاف. وعليه نص في "الأم"، كما قال البندنيجي.

والإمام صوره بما [إذا] كان يتأتى النزع عقيب كل يوم وليلة، وهذا لا يشفى الغليل؛ لأنه الحالة الثانية.

وبعضهم قال: محل الخلاف إذا كان لا يتأتى النزع بسبب الخوف، وفائدة التأقيت: أنه يعيد ما صلاه بعد المدة.

ص: 125

والذي يظهر لي: أن يكون [محل الخلاف] إذا كان في النزع خوف، وفائدة التأقيت: أنه بعد المدة [لا] يصلي ما لم يجدد المسح؛ تنزيلاً للمسح بعد المدة منزلة التيمم بعد فعل الفريضة. وإن صح هذا كان في احتياجه إلى تجديد الغسل ما سلف.

[فرع:] إذا توهم الجريح أو الكسير الاندمال، فكشف الجبائر أو اللصوق، فوجده قد برئ- بطلت طهارة ما تحت ذلك وما بعده في الوضوء.

وفي بطلان طهارة ما قبله وبطلان باقي جسده في الغسل- خلاف سبق.

ولو وجده لم يبرأ، لم تبطل طهارته. نعم، لو كان قد تيمم، ففي بطلان تيممه في هذه الحالة وجهان:

أحدهما: نعم؛ كما لو توهم وجود ماء [فطلبه] فلم يجده.

والثاني: لا، وهو المذكور في "تعليق القاضي الحسين" و"الكافي"، والفرق: أن

ص: 126

طلب البرء غير واجب عليه؛ إذ الأصل بقاء المرض وطلب الماء واجب [عليه]؛ إذ الأصل وجوده.

ولو كان الجرح أو الكسر في عضوين: كاليدين [والرجلين]، أو اليد والرجل، فكشف عن أحدهما، فوجده قد برئ دون الآخر- بطلت طهارة ما برئ، ولا يجب عليه نزع ما لم يبرأ، بخلاف ما إذا ظهرت إحدى الرجلين من الخف؛ [فإنه] يجب نزع الآخر؛ لأن لبسهما قبل المسح شرط فيه، ولا كذلك هنا؛ قاله في "التتمة" وغيره.

فرع آخر: قال في "الكافي": إذا خاف من افتصد من إفاضة الماء على محل الفصد فهو كالجريح، ولو كان محل فصده مشدوداً بالعصابة، وخاف من حلها- فكالجبيرة. والله أعلم [بالصواب].

ص: 127