المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الصلاة الصلاة في اللغة: الدعاء، قال الله- تعالى-: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٢

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌كتاب الصلاة الصلاة في اللغة: الدعاء، قال الله- تعالى-: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}

‌كتاب الصلاة

الصلاة في اللغة: الدعاء، قال الله- تعالى-:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] أي ادع لهم، وقال- عليه السلام:"إذا دعي أحدكم [إلى] طعام فليجب: فإن كان مفطراً فليطعم، وإن كان صائماً فليصل" أي: فليدع.

وفي الشرع: أفعال وأقوال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة، سميت بذلك؛ لاشتمالها على الدعاء؛ كما سميت: قرآناً في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78]؛ لاشتمالها عليه، هذا هو [المشهور] والصواب الذي قاله الجمهور من أهل اللغة وغيرهم من أهل التحقيق.

وقيل: سميت صلاة؛ لما يعود على فاعلها من البركة في دينه ودنياه، والبركة تسمى: صلاة.

وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تفضي إلى المغفرة التي هي مقصود الصلاة ومقصود الشيء أحق بإطلاق اسمه عليه، والمغفرة والاستغفار تسمى: صلاة، قال الله تعالى:{أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 156] يريد بصلوات الله: المغفرة؛ لأنه ذكر بعدها الرحمة، وقال- تعالى-:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 16] يعني: المصلين.

وقيل: سميت بذلك؛ لأن المصلي إذا قام بين يدي الله في الصلاة أصابه من خشيته ومراقبته ما يلين ويقيم اعوجاجه؛ مأخوذ من التصلية، يقال: صلَّيت العود، إذا ألنته بالنار فسهل تقويمه من الاعوجاج. قال النواوي: وهذا فيه غباوة [ظاهرة] من قائله؛ لأن لام الكلمة في "الصلاة" واو، وفي "صليت" ياء، فكيف يصح الاشتقاق

ص: 293

مع اختلاف الحروف؟!.

وقيل: سميت بذلك؛ لأن المصلي يتبع فعل من تقدهم، فجبريل- عليه السلام أول من سبق بفعلها فكان- عليه السلام تابعاً له مصليّاً، ثم المسلمون بعده.

وقيل: سميت بذلك؛ لأن رأس المأموم عند صَلَوَي إمامه؛ ولهذا كتبت في المصحف بالواو، والصلوان: عظمان عن يمين الذنب ويساره في موضع الردف. وقال النواوي: إنهما عرقان من جانبي الذنب، وعظمان ينحنيان في الركوع والسجود.

وقيل: سميت بذلك؛ لأن المصلي يحني فيها ظهره في الركوع والسجود؛ تعظيماً لله- عز وجل وتواضعاً له؛ ولأن العرب تقول: صلى فلان لفلان؛ إذَا عظمه؛ اشتقاقاً من "الصلا": وهو ظهر الإنسان.

والأصل في وجوبها في الجملة- قبل الإجماع- من الكتاب آيات منها قوله- تعالى-: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء: 76]، وقوله:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} إلى قوله: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [البينة: 4]، وقوله:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ..} إلى آخرها [التوبة: 4]، وفي القرآن من ذلك كثير.

قال القاضي أبو الطيب: وما ورد من ذلك فهو محمول على الصلاة الشرعية دون اللغوية؛ لأن الشرع طارئ على اللغة وناسخ لها؛ فالحمل على الناسخ المتأخر أولى.

ص: 294

ولأنه- عليه السلام مبعوث لبيان الشريعة، لا اللغة؛ إذ هو وغيره فيها سواء. وقال الماوردي: إن أصحابنا- في جملة العلماء- اختلفوا في أن لفظ "الصلاة" في قوله- تعالى-: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [يونس: 86] وغيرها من الآيات من المجمل الذي لا يعقل معناه إلا بالبيان، أو هو ظاهر معقول المعنى قبل ورود البيان؟ على وجهين، وبنوا عليهما أن اسم "الصلاة" هل جاء به الشرع؛ كما جاء ببيان الحكم، أو كان معروفاً عند أهل اللسان والشرع، مختصّاً ببيان الأحكام؟ فمن قال بالأول قال: إن الشرع أحدث الاسم [كالحكم]، ومن قال بالثاني قال: إن الاسم مأخوذ من أهل اللغة واللسان.

والذي عليه [جمهور] أهل العلم مذهب ثالث، وهو ما قدمناه.

ومن السنة- مع ما سنذكره في الباب والذي يليه- ما روى ابن عمر أنه- عليه السلام قال: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان" أخرجه مسلم.

قال: يجب فرض الصلاة على كل بالغ عاقل طاهر مسلم، هذا الكلام مسوق لبيان من هو المخاطب بفرض الصلاة، وهكذا فعل في الصيام والزكاة، ولاشك في أن من اتصف بالصفات التي ذكرها مخاطب به، ومن فقد في حقه وصف منها سيأتي الكلام فيه.

والفرض في كلام الشيخ بمعنى: المفروضن فقد يظن بعض الطلبة أن الشيخ ساق ما ذكره؛ لتعريف ما يجب من الصلوات، فيقول: كيف يحسن أني قول: "يجب فرض الصلاة" مع أنه لا فرق عندنا بين الواجب والفرض؛ لأنه يصير معنى الكلام: يجب الواجب، وذلك في غاية الركة؟! وليس الأمر إلا كما ذكرناه، ومنه يظهر لك أنه في غاية الفصاحة؛ لأن اختلاف الألفاظ مع اتحاد المعنى من أساليب البلاغة.

فإن قلت: يلزم- على هذا- ألا يكون الشيخ قد تصدى للكلام في فرضية

ص: 295

الصلاة، حتى يقام الدليل عليها، وهو خلاف ما جرت عليه الأئمة.

قلت: صحيح، لكنْ في كلامه تلويح قائم مقام التصريح، فيحسن إقامة الدليل عليه بما صدرنا به الباب، مع أنه لو لم يكن في كلامه ما يرشد إليه لم يحسن الاعتراض عليه؛ لأن الذي يحتاج إلى التنبيه ما [يمكن] أن يقع الخلاف فيه، وفرض الصلاة معلوم من دين محمد صلى الله عليه وسلم بالضرورة، وبمثل هذا قال في كتاب الزكاة: لا تجب إلا على كذا، وفي كتاب الصيام: يجب صوم رمضان على كذا، فساق ذلك؛ لبيان من يخاطب به، ولم يصنع مثل ذلك في كتاب الحج وإن شارك ما نحن فيه فيما ذكرناه؛ لأن العمرة مما وقع الاختلاف فيها، وهي معطوفة عليه، والله تعالى أعلم.

قال: فأما الصبي ومن زال عقله بجنون أو مرض- أي: وما في معناه- والحائض والنفساء؛ فلا يجب عليهم.

هذا الفصل مسوق لبيان الحكم فيمن احترز عنهم في الفصل قبله، وهو يشتمل على مسائل:

الأولى: الصبي لا تجب [الصلاة] عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل".

ص: 296

....................................................................................................

ص: 297

....................................................................................................

ص: 298

أخرجه أبو دود وابن ماجة، وكذا الترمذي وقال: حديث حسن. وهذا هو المشهور، وعنه احترز الشيخ بقوله:"بالغ".

قال البندنيجي قبيل [باب] اختلاف نية الإمام والمأموم: وقد [أفتى الشافعي] في "الأم" في استقبال القبلة: أنه يجب على الصبي فعلها قبل بلوغه، لكنه لا يعاقب على تركها عقوبة مَنْتَرَكَهَا بعد بلوغه. قال: وليس هذا بمذهب؛ لأنه غير بالغ فلا يكلف بالعبادات.

المسألة الثانية: من زال عقله بجنون أو مرض لا تجب عليه أيضاً: أما الجنون فللخبر، وأما من زال عقله بمرض: كالمغمى عليه والمبرسم، ونحوهما؛ فلأنه في معناه فألحق به، وقد روى الدارقطني أن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يغمى عليه فيترك الصلاة؟ فقال: "ليس من ذلك قضاء، إلا أن يغمى عليه،

ص: 299

فيفيق في وقتها؛ فيصليها".

ومن شرب شراباً لا يرى جنسه مسكراً فكان مسكراً؛ وزال عقله بسببه- يلتحق بما ذكرناه؛ وهذا ما احترز عنه بقوله: "عاقل". واقتصاره على ما ذكر يفهم أن من زال عقله بما سوى ذلك، تجب عليه، وهو يشمل [صورتين]- على رأيه-.

إحداهما: من زال عقله بالنوم، ويقوي هذا المفهوم قوله من بعد:"إلا نائم"، ويشهد له قوله- عليه السلام:"من نسي صلاة، أو نام عنها؛ فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" رواه مسلم.

لكن في "الذخائر": أنمن زال عقله بالنوم فطبق [الوقت] فهو غير مخاطب بتلك الصلاة.

وصار بعض الفقهاء إلى تكليف النائم في بعض الأحكام. ثم قال: فإن قيل: فلم أوجبتم القضاء عليه؟ [قلنا]: للأمر الجديد، وقال: إن الحكم في الساهي والجاهل؛ كالحكم في النائم. وكلام الشيخ الآتي ينازع فيه.

الثانية: من شرب ما جنسه مسكراً فزال عقله بسببه، وإليه أشار في "المهذب"، [وبه] صرح في "التتمة"، ووجهه: أن فعل ذلك معصية، وترك الوجوب [عن المجنون] بمعنى: عدم إيجاب القضاء رخصة، والرخصة لا تنال بالمعاصي.

فإن قيل: لو ألقى نفسه من شاهق جبل عمداً؛ فانكسرت رجله؛ فصلى قاعداً- فلا قضاء عليه على [المذهب] وإن كان ما أتى به معصية.

قيل: من رمى نفسه من شاهق؛ انتهت معصيته بسقوطه؛ فهو غير عاص في دوام القعود، ولا كذلك من ذكرناه.

ص: 300

قال الإمام في باب صلاة المسافر: وهذا يمكن أن يقال في السكر أيضاً؛ لأن نفس السكر ليس بمعصية، فإنه ليس فعلاً مقدوراً للمكلف، ولكن لما كان مرتباً على الشرب لم يتضمن تخفيفاً في باب العبادات، وهكذا ما نحن فيه. ويمكن أن نفرق بأن السكر محبوب في الجبلات، فلا يمنع أن يلحق بالمعاصي؛ حتى ينزجر الناس عن التسبب إليه، ولولا السكر لما اعتمد الشرب؛ فإن الخمر مرة شنعة.

المسألة الثالثة: الحائض والنفساء لا تجب عليهما كما هو مذكور في باب الحيض، وعنهما احترز بقوله:"طاهر".

وقد أفهم كلام الشيخ: أنه لا فرق في عدم وجوبها على المجنون والحائض والنفساء، بين أن يكون حصل ذلك من غير تسبب فيه أو بتسبب، ولا خلاف في ذلك إذا حصل من غير تسبب، وأما إذا حصل بتسبب: فقد قال بعض الشارحين فيما إذا حصل الجنون بتسببه: إن الصلاة تجب عليه، بمعنى: وجوب القضاء بعد الإفاقة، وهو المذكور في "التتمة" و"تعليق البندنيجي".

وعبارة القاضي الحسين في باب صلاة المسافر: أنه إذا شرب الْبنْجَ وغيره مما يزيل عقله، فعليه قضاء الصلاة والصيام بعد الإفاقة كالسكران؛ لأنه جلب إزالة العقل بنفسه؛ فيؤخذ به.

قال: ويمكن أن يفرق بين شرب الخمر والأدوية المزيلة للعقل بأن: الشارب يقصد به الدوام دون الابتداء؛ لأن ابتداءه يكره بالطبع، ودوامه يورث الطرب والنشاط، فاللذة في دوامه دون ابتدائه؛ فلزمه القضاء، بخلاف الأدوية المزيلة للعقل؛ فإن الإنسان لا يقصد بشربها الدوام ولا الابتداء؛ فإنها لا تفضي إلى ما فيه لذة. وهذا ما ادعى الإمام أنه المذهب؛ حيث قال: إذا تسبب الشخص في إزالة عقل نفسه؛ فجن، ثم أفاق- فالمذهب: أنه لا يلزمه قضاء [تلك] الصلوات الفائتة في زمن جنونه؛ لأن الجنون مناف لتبعات التكليف بخلاف السكر.

قال: وذهب بعض أصحابنا إلى: أنه مأمور بقضاء الصلوات، قال: وهذه مرتبة على

ص: 301

ما إذا رمى نفسه من شاهق كما قدمناه، وأولى بعدم القضاء؛ لأنه [ثم] لم يخرج عن أهلية التكليف. وقال فيما إذا كانت المرأة حاملاً، فسعت في إسقاط جنينها ونفست: فالوجه: القطع بأن ما يفوتها من الصلوات في زمن النفاس؛ لا يلزمها قضاؤه، وذكر بعض الأصحاب فيه وجهاً بعيداً وهو حري ألا يعد من المذهب.

وإذا كان هذا حكم النفساء فالحائض كذلك، وقد جزم ابن الصباغ بعدم القضاء.

فرع: إذا ارتد ثم جن ثم أفاق وأسلم، قال الإمام في باب صلاة المسافر: فظاهر النص لزوم قضاء ما فاته في حال جنونه، وهو ما حكاه القاضي الحسين فيه، وهو بخلاف ما لو ارتدت المرأة أو سكرت، [ثم حاضت]، ثم طهرت وأسلمت أو أفاقت- لا يلزمها قضاء ما فات من الصلوات في زمن الحيض.

قال الإمام: والفرق أن الحائض مخاطبة بترك الصلاة في زمن حيضها، وهي مؤدية ما أمرت به، والمجنون ليس مخاطباً بترك الصلاة في زمن جنونه حتى يقال: إنه أدى ما أمر به.

ولو سكر ثم جن لزمه قضاء ما فاته في أغلب وقت السكر، ولا يلزمه قضاء ما فاته بعد ذلك في أيام الجنون، وإن اتصل بالسكر.

وفيه وجه ضعيف: أنه يجب قضاء ذلك أيضاً، حكاه مجلي والمتولي.

قال: ويؤمر الصبي بالصلاة لسبع، ويضرب على تركها لعشر؛ لقوله- عليه السلام:"علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين، واضربوه [عليها] ابن عشر" رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح.

ص: 302

واختلف الأصحاب في حكمة الضرب في العشر:

فقيل: لأجل المخالفة في سن يحتمل [فيه الضرب]، وعلى هذا يظهر أن تكون الصبية كالصبي.

وقيل: لأنه سن يحتمل أن يكون قد بلغ فيه وكتمه؛ وعلى هذا فتضرب الصبية لِتِسْعٍ؛ وبه صرح في "الحاوي".

والمعنى في الأمر بالصلاة في السن المذكور: أن يبلغ وهو يحسن ذلك. والآمر للصبي بذلك [وليه: وهو] الأب والجد والوصي والحاكم وأمينه؛ كما حكاه البندنيجي وغيره قبيل [باب] اختلاف نية الإمام والمأموم. وهل مخاطبة الولي بأمره الصبي بذلك على وجه الوجوب، أو الاستحباب؟ فيه وجهان: ظاهر النص منهما الأول، وهو الذي حكاه في "الحاوي"، [واختاره في "المرشد".

وكما يؤمر الولي بأمره بالصلاة، يؤمر بأمره بحضور المساجد والجماعات؛ كما حكاه القاضي أبو حامد عن الشافعي، ويؤمر بتعليمه الطهارة، وما يجزئه في صلاته من القراءة. والخلاف في أن ذلك واجب على الولي أو مستحب، [جار فيه أيضاً؛] صرح به القاضي الحسين؛ حيث قال: هل يجب على الأب أن يعلم ولده الصغير الفاتحة، أم لا؟ فيه وجهان: ظاهر النص: الوجوب، ووجه المنع: أن القراءة إنما تجب بعد البلوغ.

قال: وعلى الأول فالأجرة على الأب، فإن كان معسراً ففي مال الابن. قال: وهل له أن يعلمه ما سوى الفاتحة، ويعطي الأجرة من مال الصبي؟ فيه وجهان.

وقال في باب حد الخمر: إن أجرة [تعليم] ما يجب تعليمه من القراءة؛ لأجل الصلاة تجب في مال الصبي، وما زاد على الواجب، وكذا أجرة تعليم صنعة أو أدب، هل يجوز صرفه من مال الابن؟ فيه وجهان.

وهكذا حكى ذلك في "الكافي" ها هنا، وقال: إن الابن إذا كان معسراً وجب في مال الأب أجرة تعليم ما يجب من القراءة، فإن لم يكن، وجب ذلك على الأم.

ص: 303

وسيكون لنا عودة إلى شيء من ذلك في باب السواك.

ثم ما ذكره الشيخ من السن في الحالين هو المشهور، ولم يورد البندنيجي غيره.

وقال القاضي أبو الطيب: إن من أصحابنا من قال: لا يتقدر ذلك بمدة، ومتى حصل تمييز أمرناه بالصلاة، وضربناه على تركها، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قدر السبع؛ لأن التمييز في العادة يحصل عندها.

وحكى عن اليحصبي: أنه إذا صار الصبي يَعُدُّ من واحد إلى عشرين، فقد حصل مميزاً، [و] يؤمر بفعل الصلاة، ويضرب على تركها.

وعلى الأول: هل يكون الأمر والضرب في أثناء السنة أو بعد تمامها؟ فيه وجهان حكاهما الجيلي.

فرع: صلاة الصبي الظهر ونحوها، هل هي نفل حتى تجوز قاعداً مع القدرة على القيام [، أو لا تجوز؟] فيه وجهان.

قال: فإن بلغ في أثناء الصلاة- أي: بالسن- وأكمل الصلاة، أو صلى في أول الوقت وبلغ في آخره-[أي: بالسن أو بالاحتلام] ونحوه- أجزأه ذلك عن الفرض.

ص: 304

هذا الفصل ينظم مسألتين الثانية منهما مبنية على الأولى؛ إذ عليها نص الشافعي في "المختصر"، ولفظه:"ولو دخل غلام في صلاة أو صوم يوم لم يكمله حتى استكمل خمس عشرة سنة- أحببت أن يتم ويعيد، ولا يبين لي أن عليه الإعادة" فظاهر هذا النص وجوب إتمام الصلاة والصوم واستحباب الإعادة، سواء كان الوقت ضيقاً أم واسعاً. ولا جرم، قال الماوردي: إنه ظاهر مذهب الشافعي.

و [قال] البندنيجي: إنه المذهب. واختاره أبو إسحاق المروزي وغيره- كما ستعرف- وقال الإمام: إنه الذي قطع به الأصحاب: القفال وأبو الطيب، [و] ادعى أنه لا خلاف في لزوم الإتمام، واستدل له ابن الصباغ بأن الشافعي قال:"ولا يبين لي أن عليه الإعادة"، ولا يجوز ألا تجب الإعادة والإتمام، وإذا كان هذا معنى النص فعليه ينطبق كلام الشيخ.

ووجهه: أنه شرع في وظيفة الوقت بشرائطها فأجزأته، وإن تغير حاله إلى الكمال في أثنائها؛ كالعبد إذا شرع في الظهر يوم الجمعة ثم عتق قبل إتمام الظهر وفوات الجمعة.

فإن قيل: كيف يصح ذلك، وأوله تطوع وآخره واجب؟

قال أبو إسحاق: لا يمتنع ذلك؛ لأنه لو دخل في صوم أو صلاة نافلة، ثم نذر إتمام ذلك ووجد الشرط؛ وجب عليه.

قال القاضي أبو الطيب: وقد اعترض بعض الناس على أبي إسحاق، وقال: ما ذكره من النذر يصح في الصوم دون الصلاة؛ لأن النذر ينعقد بالكلام، والكلام يبطل الصلاة، واختلف الأصحاب في جوابه:

فقال الداركي: النذر في الصلاة لا يبطلها؛ لأنه مناجاة لله، فهو من جنس الدعاء.

وقال غيره: في النذر إيجاب عبادة بشرط، فهو بخطاب الآدميين أشبه؛ فتبطل به الصلاة، ولم يقصد أبو إسحاق جواز النذر في الصلاة، وإنما قصد جوازه في الصوم،

ص: 305

وأطلق ذلك لما جمع بين العبادتين.

قلت: ويجوز أن يبقى كلام أبي إسحاق على إطلاقه، إذا قلنا: إن النذر يصح بالنية وحدها؛ كما سيأتي، ووراء ما ذكره الشيخ وجهان:

أحدهما- حكاه القاضي الحسين وغيره-: أنه يتم صلاته وصيامه على وجه الاستحباب، ويعيد في الوقت وبعده وجوباً، وقد حكاه الماوردي عن ابن سريج، وكذا العراقيون؛ كما قال الإمام.

وقال في "المهذب": إنه حكى عنه، مثل ما حكيناه عن أبي إسحاق، وهو ما حكاه البندنيجي وحكى عنه هذا أيضاً؛ فيجوز أن يكون له في المسألة وجهان.

وعن المتولي أنه قال: هذان الوجهان ينبنيان على: [أن نية الفرضية للظهر]- مثلاً- هل تصح الصلاة من دونها، أم لا؟ وفيه وجهان يأتيان: فعلى الأول: يجزئه ما أتى به عن الفرض، وعلى الثاني لا.

والثاني: إن كان وقت الصلاة واسعاً أعاد الصلاة واجباً، وإن كان فائتاً أعاد الصلاة استحباباً، ولا يعيد الصوم؛ وهذا قول أبي سعيد الإصطخري؛ كما حكاه الماوردي تبعاً لأبي حامد، وأبي علي، وحكاه عن بعض الأصحاب.

وكيف كان، فقد قال الشيخ أبو حامد: إنه لا يُعرف للشافعي، ولو كان على ما ذكره؛ لوجبت الإعادة وإن لم يبق من الوقت ما يفعل فيه الصلاة؛ لأن المعذور عند الشافعي يدرك الصلاة بإدراك الركعة أو التكبيرة-[على قول]- فلا يصح هذا على أصله؛ وهذا حكم المسألة الأولى.

وأما [المسألة] الثانية: فقد قال القاضي الحسين: إنه لا يجب عليه فيها الإعادة قولاً واحداً؛ كما لو صلت الأمة مكشوفة الرأس في أول الوقت، وعتقت في آخره، والماوردي وغيره قالوا: إن الأوجه السالفة جارية يها.

فرع: إذا صلى [الصبي] يوم الجمعة الظهر قبل فوات الجمعة، ثم بلغ قبل

ص: 306

فواتها، فهل تجب عليه؟ فيه كلام ذكرناه في باب الجمعة.

قال: وأما الكافر: فإن كان أصليّاً لم تجب عليه؛ لأنه لا يصح منه فعلها في حال كفره، وإذا أسلم لا يجب عليه قضاؤها؛ فلا يجوز أن يخاطب بها؛ كالحائض، وهذا ظاهر النص؛ فإن الشافعي قال في قسم الصدقات من "المختصر":"فرض الله على أهل دينه المسلمين في أموالهم حقّاً لغيرهم من أهل دينه المسلمين"، وإذا كان هذا نصه في الزكاة [وهي] من فروع الشريعة- فكذا باقيها؛ إذ لا قائل بالفرق، وبظاهر هذا النص أخذ بعض الأصحاب، ويقال: إنه الشيخ أبو حامد، وإنه طرده في جميع فروع الشريعة، وقال في "البحر" ثَمَّ: إنه قول العراقيين. والذي ذهب إليه أكثر الأصحاب؛ كما حكاه القاضي أبو الطيب والماوردي [وغيرهما ثم] وصححوه: أنهم مخاطبون بالفروع بشرط تقدم الإسلام، وهو المتقرر في الأصول بأدلته، وهؤلاء قالوا: مراد الشافعي بقوله: "فرض الله على أهل دينه"، تخصيص المسلمين بذلك؛ لأنهم إذا امتنعوا من العبادات أجبروا عليها وطولبوا بها، بخلاف الكفار؛ وإن كان المسلمون والكفار سواء في توجه الخطاب إليهم.

قلت: وهذا تأويل كلام الشيخ، أيضاً.

قال: وإن كان مرتدّاً؛ وجبت عليه، أي: بمعنى أنه يطالب بقضائها بعد إسلامه؛ لأنه حق لزمه بإقراره لا يسقط بالشبهة؛ فلا يسقط بالردة، والعود إلى الإسلام كالإقرار بالمال.

قال: ولا يعذر أحد من أهل فرض الصلاة في تأخيرها عن الوقت؛ إذ لو عذر؛ لفاتت فائدة التأقيت وقد قال- عليه السلام: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت أخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين

ص: 307

يتنبه لها" متفق عليه.

قال: إلا نائم؛ للخبر، أو ناس؛ لقوله- عليه السلام:"رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه".

ص: 308

....................................................................................................

ص: 309

....................................................................................................

ص: 310

قال: أو معذور بسفر أو مطر فإنه يؤخرها بنية الجمع؛ لما ستعرفه في بابه، أو من أكره على تأخيرها [للخبر].

فإن قلت: الشيخ جمع فيما استثناه بين ما هو متفق عليه: [وهو ما عدا التأخير بعذر المطر]، وما هو مختلف فيه: وهو التأخير بعذر المطر، وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي مما ينبغي أن يستثني- أيضاً- صور:

منها: تأخير المغرب إلى العشاء بمزدلفة بعذر النسك لا السفر؛ فإن فيه خلافاً ستعرفه.

ومنها: المحرم إذا خاف أنه متى صلى فاته الوقوف بعرفة، ولو مشى للوقوف فاتته الصلاة، فإنه يؤخر الصلاة على رأي لم يحك القاضي الحسين في باب الأحداث غيره، قال في "الروضة": وهو الصواب؛ لأنا نجوز تأخير الصلاة لأمور لا تكاد تقارب المشقة فيها هذه المشقة: كالتأخير للجمع.

ومنها: العاري إذا كان بينه وبين قوم من العراة ثوب، وعلم أن الثوب لا ينتهي إليه إلا بعد خروج الوقت، فإنه: هل يؤخرها عن الوقت [أو يصلي فيه] عارياً؟ فيه قولان ستعرفهما في آخر باب ستر العورة، والمنصوص منهما في "الأم": أنه يؤخر. ومثل هذه المسألة ما تقدم في التيمم.

قلت: إنما لم يستثن الشيخ ذلك- والله أعلم- لأن الخلاف في الصورة الأولى مذكور في طريق المراوزة، [وهو حاكٍ] طريق أهل العراق. وكذا الخلاف في الصورة الثانية محكي عن القفال، ولعل العراقيين لا يوافقون عليه، على أنه لو كان في طريقهم لقلنا: ما وقع استثناؤه لم يوجب فيه الشرع التأخير.

ونحن إذا قلنا: إنه يمشي للوقوف ويؤخر الصلاة؛ كان ذلك على وجه الوجوب، وليس من قبيل ما نحن فيه، وبه يقع الجواب عن الصورة الثالثة- أيضاً- وما في معناها؛ كما تقدم في التيمم؛ وبه ينقطع إلحاق مشقة فوات الوقوف بمشقة الجمع؛ كما صار إليه النواوي؛ لأن تلك المشقة لا توجب الجمع.

ص: 311

قال: ومن امتنع من فعلها جاحداً لوجوبها- أي: منكراً لوجوبها- وهو غير معذور؛ بأن كان قد تقدم إسلامه وخالط المسلمين- كفر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "بين العبد و [بين] الكفر ترك الصلاة" رواه مسلم، ولأنه جحد أصلاً مقطوعاً به في الشرع، لا عذر له فيه، فتضمن جحده تكذيب الله ورسوله، ومن كذبهما؛ فقد كفر.

قال الرافعي: وهكذا كل من جحد حكماً مجمعاً عليه [يكفر.

وقال في "الروضة": ليس هذا على إطلاقه، بل هو مختص بمن جحد مجمعاً عليه] فيه نص، وهو من أمور الإسلام الظاهرة، التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام: كالصلاة، والزكاة، والحج، وتحريم الخمر، أو الزنى، أو نحو ذلك. ومن جحد مجمعاً عليه لا يعرفه إلا الخواص: كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، وتحريم نكاح المعتدة، وكما إذا أجمع أهل العصر على حكم حادثة- فليس بكافر للعذر، بل يعرف الصواب ليعتقده، ومن جحد مجمعاً عليه ظاهراً لا نص فيه، ففي الكم بتكفيره خلاف يأتي في باب الردة، وقد أوضح صاحب "التهذيب" القسمين الأولين في خطبة كتابه، والحكم بكفره في مسألة الكتاب مرتب على الجحد لا على الامتناع من الفعل والجحد؛ يدل عليه أن الجحد لو انفرد لاقتضى التكفير.

قال: وقتل بكفره؛ لقوله- عليه السلام: "من بدل دينه فاقتلوه" أخرجه البخاري. وفي قول الشيخ: "وقتل بكفره" تنبيه على أن كيفية قتله كيفية قتل المرتد؛ كما صرح به غيره، وسيأتي حكمه.

أما من كان حديث عهد بالإسلام، وقد نشأ في بادية بعيدة- فيعرف

ص: 312

أن الصلاة واجبة عليه، فإن أصر على الإنكار كان حكمه حكم من نشأ في الإسلام.

قال: ومن امتنع [من فعلها] غير جاحد حتى خرج الوقت، قتل في ظاهر المذهب؛ لأن المزني قال [وقد] قال الشافعي: يقال لمن ترك الصلاة حتى خرج [الوقت] لا يعملها غيرك، فإن صليت وإلا استتبناك، فإن تبت وإلا قتلناك.

ووجهه: مفهوم قوله- عليه السلام: "نهيت عن قتل المصلين"، وقوله- عليه السلام:"من ترك الصلاة فقد برئت منه الذمة"، ولأنها تشتمل على عمل

ص: 313

بالجوارح، ونطق باللسان، واعتقاد بالقلب؛ فشابهت الإيمان؛ ولهذا سماها الله إيماناً

ص: 314

[في قوله]: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، ومن ترك الإيمان بعد تلبُّسِهِ به قتل؛ فكذا شبهه.

فإن قيل: ومن ترك الإيمان فقد كفر؛ فينبغي أن يحكم بكفره.

قلنا: قد قال بن شرذمة من أصحابنا، على ما حكاه الحناطي وصاحب "المهذب" وغيرهما، والقاضي الحسين نسب ذلك في باب قتل المرتد إلى أبي جعفر الترمذي وأبي عبيد بن حربويه من أصحابنا؛ تمسكاً بظاهر قوله- عليه السلام:"بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة"، وقوله- عليه السلام:"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس"

ص: 315

ودمه مستحل وليس بزان ولا قاتل؛ فتعين أن يكون كافراً. لكن الجمهور على: أنه لا يكفر بذلك؛ لقوله- عليه السلام: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق- أدخله الله الجنة على ما كان من عمل" متفق عليه، وقوله- عليه السلام:"خمس صوات افترضهن الله على عباده، من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن- كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل، فليس له عند الله عهد إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه" أخرجه أبو داود؛ ولأن الكفر بالاعتقاد، واعتقاده صحيح، والخبر الأول الذي استدل به الخصم: نحمله على ما إذا كان جاحداً لوجوبها، أو على أن يعامل معاملة من كفر في القتل؛ كما في قوله- عليه السلام:"سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".

ص: 316

والخبر الثاني مخصوص بالأحاديث المستوجبة للقتل، ولعله كان قبل وجوب القتل بترك الصلاة؛ كما قيل في قوله- تعالى-: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً

} الآية [الأنعام: 145].

وقد وافق الشيخ في ادعاء أن قتله بترك صلاة واحدة بظاهر المذهب- القاضي أبو الطيب وغيره، وهو اختيار أبي علي في "الإفصاح"، وظاهر كلامهم: أنه يقتل بعد خروج وقتها الاختياري.

وفي "النهاية": أن الصيدلاني وغيره قالوا: لا يقتل ما لم يخرج وقتها الضروري- أي: إن كان- فلا يقتل بصلاة الظهر، حتى تغرب الشمس، ولا يقتل بصلاة المغرب، حتى يطلع الفجر، ويقتل بصلاة [الصبح] إذا طلعت الشمس.

قلت: وعلى قياسه أنه يقتل بصلاة العصر إذا غربت الشمس، وبصلاة العشاء إذا طلع الفجر.

قال الإمام: وما ذكره الصيدلاني لم أر في الطرق ما يخالفه، وهو حسن، وهذا ما حكاه الروياني في "تلخيصه" عن القفال، وقال: إنه خلاف النص؛ فإنه لم يعتبر فيه خروج وقت العذر والضرورة.

قال: وقيل: يقتل بترك الصلاة الرابعة إلى أن يضيق وقتها؛ لأنه إذا ترك ذلك علم تهاونه، وإذا ترك دونها جاز أن يكون قد تركها؛ لعذر، وتأويلٌ مِنْ تَرْكه- عليه السلام الصلوات يوم الخندق.

قال: وقيل يقتل بترك الصلاة الثانية إلى أن يضيق وقتها؛ لأن الصلاة الواحدة يجوز أن يكون قد تركها بشبهة جواز الجمع، وأما تركه- عليه السلام الصلوات يوم الخندق؛ فقد عرف من دين محمد- عليه السلام أن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف؛ فلم تبق شبهة.

تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي [أمرين:

أحدهما:] أنه لا فرق في قتله بسبب ترك الصلاة- عند فقد الأعذار السالفة- بين أن يبدي عذراً غيرها من برد أو نجاسة، أو يقول: تركتها كسلاً وتهاوناً، أو لا

ص: 317

يذكر شيئاً من ذلك، وهو ظاهر كلام الأصحاب، لكن في "التتمة": أنه إذا قال: تركتها ناسياً، أو للبرد، أو لعدم الماء، أو لنجاسة كانت عليَّ، ونحو ذلك من الأعذار- صحيحة كانت أو باطلة- يقال له: صل، فإن امتنع لم يقتل على المذهب؛ لأن القتل بسبب تعمد تأخيرها عن الوقت، ولم يتحقق. وفيه وجه: أنه يقتل لعناده. نعم، لو قال: تعمدت تركها ولا أريد أن أصليها، قتل قطعاً، وإن قال: تعمدت تركها بلا عذر، ولم يقل: ولا أصليها- قتل أيضاً على المذهب؛ لتحقق جنايته.

وفيه وجه: أنه لا يقتل ما لم يصرح بالامتناع من القضاء.

الثاني: أنتارك الصلاة، يقتل- على ظاهر المذهب- بالامتناع من قضاء الصلاة الواحدة الفائتة؛ وهو ما قال البندنيجي: إنه ظاهر النص، وعلى الطريقة الثانية: يقتل بالامتناع عن فعل الرابعة عند ضيق وقتها؛ وهو ما حكاه في "المهذب"[عن الإصطخري، وعلى الطريقة الثالثة: يقتل بالامتناع عن فعل الثانية عند ضيق وقتها؛ وهو ما حكاه في "المهذب"] عن أبي إسحاق. والأصحاب مفترقون في المسألة على فرق: فمن قائل: إنا- على ظاهر المذهب- نقتله بالامتناع عن الصلاة الواحدة عند ضيق وقتها، وهو قول أبي علي في "الإفصاح"، وعلى قول الإصطخري وأبي إسحاق: أن لحكم كما سلف؛ وهذه طريقة الروياني في "التلخيص"، وقال: إن ما صار إليه أبو علي هو الصحيح من المذهب؛ لأن الشافعي لم يعتبر التكرار ولا خروج وقت العذر والضرورة، ولا تضييق وقت الثانية.

ومِنْ قائل: إن مذهب الشافعي: أنه إذا ترك صلاة واحدة متعمداً من غير عذر- استوجب القتل إذا امتنع من القضاء، وأن العراقيين حكوا عن أبي سعيد الإصطخري: أنه يستوجب القتل [إذا ترك] أربع صلوات وامتنع عن القضاء، فيقتل بعد الرابعة. وعن أبي إسحاق المروزي: أنه لا يستوجب القتل بترك صلاة واحدة، فإذا ترك الثانية، فقد عاد ملتزم القتل إذا لم يقض؛ وهذه طريقة الإمام، وحكى عن شيخه:

ص: 318

أن مذهب الإصطخري: أنه يستوجب القتل بترك ثلاث صلوات، والامتناع من القضاء بعد الثالثة، وأن في بعض التصانيف نقل مذهب الإصطخري: أنه لا تخصيص للقتل بعدد، ولكن إذا ترك من الصلوات ما انتهى إلى ظهور اعتياده ترك الصلاة قُتِلَ، وإن لم ينته إلى ذلك لم يقتل، وعنه عبر الغزالي بقوله: وقيل: لا يقتل إلا إذا صار الترك عادة له. قال الإمام: وهو غير معتد به.

ومِنْ قائل: إن ظاهر كلام الشافعي: أنه يقتل بترك الفائتة الواحدة، ولا خلاف على المذهب: أنه لا يقتل بالفائتة، ولا بترك صلاة واحدة، ولكن بماذا يقتل؟ فيه وجهان:

أحدهما- قاله الإصطخري-: بما إذا ترك ثلاث صلوات وضاق وقت الرابعة، فلم يعملها- فحينئذ- يجب قتله.

والثاني- قاله أبو إسحاق-: بما إذا ترك واحدة، وضاق وقت الثانية- فحينئذ- يجب قتله.

وهذه طريقة البندنيجي، ويقرب منها إيراد "المهذب"؛ ولأجل ذلك يقال: إن بعض علماء العصر كان يقول: ما يوجد في النسخ من قول الشيخ: "وقيل: يقتل بترك الصلاة الرابعة" بالواو غلط، وإنما هي [بالفاء]، وحينئذ لا يكون الشيخ قد حكى في المسألة إلا وجهين: وجه الإصطخري، ووجه أبي إسحاق، وهما مفرعان على استحقاقه القتل بترك الصلاة، وكما قال: إنه ظاهر المذهب، ويكون احترز بقوله:"في ظاهر المذهب"، عما قاله المزني؛ فإنه ذهب إلى أنه يحبس ويضرب [ولا] يقتل؛ لأن قتله إما أن يكون لأجل ترك الصلاة الحاضرة أو الفائتة: فإن كان للحاضرة، فهي لا تتعين عليه ما لم يضق الوقت؛ فلا يتوجه بسببها قتل. وإن كان بسبب الفائتة، فقد ترتبت في ذمته، وقضاؤها لا يجب على الفور، فكيف يقتل بسببها؟! فامتنع القتل.

قال القاضي أبو الطيب: وما قاله يلزمه مثله في حبسه وضربه، وما أجاب به فهو

ص: 319

جواب لنا، على أنا نقول: إذا ضاق [وقت الصلاة]- بحيث يتحقق فواتها إذا لم [يؤدها- لوجب] عليه القتل في تلك الحال. وهذا جواب من لم ير وجوب القضاء على الفور، عند عدم العذر في الفوات. ومن يقول بوجوبه على الفور وهم المراوزة- كما ستعرفه- يقولون بقتله بالامتناع من القضاء؛ فبطل ما قاله من الحكم بإبطال القسمين.

قال: ويستتاب كما يستتاب المرتد؛ لأنه ليس أسوأ حالاً منه، وفي مدة استتابة المرتد قولان تعرفهما في بابه، قال الإمام: وإجراؤهما هنا أظهر؛ لغموض مأخذ القتل في أصل الباب.

وقال القاضي الحسين: إن المزني اختار للشافعي- رضي الله عنه أنه يقتل في الحال؛ أي: لأن في تركه تفويت صلوات.

ثم إذا ضربنا له مدة فقتله فيها قاتل، قال صاحب "البيان": لم يأثم، ولا ضمان عليه؛ كقاتل المرتد. وهذا إذا قتله من ليس مثله، أما لو قتله مثله، ففيه خلاف مذكور في الجنايات.

قال: ثم يقتل إن لم يتب؛ لتحقق المفسدة الموجبة لقتله، أما إذا تاب فلا يقتل بحال؛ لأنه فائدة الاستتابة، وسكت الشيخ عن ذلك؛ لوضوحه. وتوبته بفعل الصلاة التي قيل: إنه يقتل؛ لأجل الامتناع من فعلها، وظاهر كلام الشيخ: أنه على الطريقة الثانية، التي نسبها في "المهذب" إلى الإصطخري: إذا صلى الرابعة، ولم

ص: 320

يصل ما قبلها لا يقتل؛ وكذا على الطريقة الثالثة المنسوبة إلى أبي إسحاق: إذا صلى الثانية دون الأولى لا يقتل؛ وهو ما أفهمه كلام أبي الطيب عند جواب المزني. وعلى طريقة المراوزة: لا يخفى الحكم.

فرع: لو لم يصل بحضرتنا لكن قال: أنا أصليها في بيتي، أو حيث أوثر- ترك إلى أمانته.

وقتله يكون بضرب عنقه؛ لقوله- عليه السلام: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة" وهذا نصه في البويطي، واختاره أبو إسحاق وأكثر الأصحاب؛ كما قال ابن الصباغ.

وقيل: إنه يضرب بالخشب إلى أن يصلي أو يموت؛ قاله ابن سريج.

وعن صاحب "التلخيص": أنه ينخس بحديدة، ويقال له: صل، فإن لم يفعل وإلا بالغ في نخسه إلى أن يموت، وهو متروك عليه.

قال: [ويُغسل]، ويصلي عليه، ويدفن في مقابل المسلمين؛ هذا من الشيخ إشارة إلى أنه لا يكفر بذلك؛ كما تقدم تقريره، وإذا لم يكفر؛ عومل بذلك كسائر المسلمين.

وحكى القاضي الحسين وغيره في كتاب الجنائز تفريعاً على هذا- أيضاً- أنه لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يرفع نعشه، ويطمس قبره؛ إهانة [له].

قال القاضي: وهذا لا يصح؛ إذ ليس أسوأ من الكافر، والكافر يكفن ويدفن، ويعرف موضع قبره.

فرع: تارك الصلاة يقتل على الصحيح في "الروضة".

وتارك الجمعة: إذا قال: أصلي الظهر، ولا عذر له، لم يقتل؛ قاله الغزالي في "الفتاوى"؛ لأنه لا يقتل بترك الصوم، فالجمعة ولى؛ لأن لها بدلاً، وتسقط بأعذار كثيرة.

ص: 321

[قال في "الروضة"]: لكن الشاشي جزم في "فتاويه" بأنه يقتل؛ لأنه لا يتصور قضاؤها، وليست الظهر قضاء عنها.

قال: وقد اختار هذا غير الشاشي، واستقصيت الكلام عليه في كتاب الصلاة من شرح "المهذب". والله أعلم.

***

ص: 322