الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب مواقيت الصلاة
المواقيت: جمع ميقات؛ كميعاد ومواعيد، وهي في كلامهم للحد؛ قال الله- تعالى-:{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 188] أي: حدّاً لآجالهم وعباداتهم، والمراد بها- ها هنا-: بيان أوقات الصلاة، والألف واللام في الصلاة للعهد، وهي [الصلاة المفروضة]؛ إذ مواقيت ما ليس بفرض منها مذكورة في باب صلاة التطوع وما بعده، وقد ذكرنا وقت صلاة الجنازة في بابها.
قال: الصلاة المكتوبة- أي: في اليوم والليلة- خمس.
عدل الشيخ عن قوله: "الصلاة المفروضة" إلى ما ذكر؛ تبركاً بلفظ الكتاب والسنة، قال الله- تعالى-:{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 102] أي: واجباً موقوتاً، وروى مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بارزاً للناس فأتاه رجل، فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال:"أن تؤمن بالله وملاكئته وكتابه ولقائه ورسله، وتؤمن بالبعث الآخر"، قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان
…
" وساق الخبر.
والدليل على حصرها في خمس: ما روى أنس بن مالك في حديث الإسراء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " [فرض] الله على أمتي خمسين صلاة؛ فرضيت بذلك، حتى مررت على موسى فقال: ما فرض الله على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة، قال: فارجع إلى ربك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجعت فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى،
فقلت: وضع شطرها، فقال: ارجع إلى ربك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك فراجعته؛ فقال: هي خمس و [هن] خمسون لا يبدل القول لدي، فرجعت إلى موسى فقال: ارجع إلى ربك، فقلت: استحييت من ربي" أخرجه البخاري.
وروى أنس قال: جاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك .. وساق الحديث إلى أن قال: فزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال:"صدق"، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرنا بهذا؟ قال: "نعم"
…
ثم ساق الحديث إلى أن قال: ثم ولى، وقال: والذي بعثك بالحق نبيّاً لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن صدق ليدخلن الجنة" أخرجه مسلم.
وما تمسك به أبو حنيفة على أن الوتر واجب، [سيأتي] الكلام فيه في باب صلاة التطوع، وقد كان الفرض في ابتداء الإسلام غير الخمس.
قال الشافعي في [باب] استقبال القبلة: "سمعت من أثق بخبره وعلمه يقول: إن الله أنزل فرضاً في الصلاة، ثم نسخه بفرض غيره، ثم نسخ الثاني بالفرض في الصلوات الخمس". وشرح أصحابه ذلك فقالوا: كان الفرض في ابتداء الإسلام قيام نصف الليل، أو أنقص منه، أو زيادة عليه؛ لقوله- تعالى-: {قُمْ اللَّيْلَ إِلَاّ قَلِيلاً
…
} الآية [المزمل: 2].
قال أبو الطيب: وهذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولسائر الأمة.
وكذا دل عليه قول الإمام أيضاً.
قال البندنيجي: وكان- عليه السلام يفعل ذلك وطائفة من الذين معه سنة، ثم تاب الله على عباده، وخفف عنهم، فنسخه بعد السنة إلى اليسير من الليل بقوله:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] فعبر بالقراءة عن الصلاة في آخر السورة، وبالقيام عنها في أول السورة؛ لأنهما ركنان فيها؛ ولذلك سمى الله صلاة الصبح: قرآناً، فقال:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 77] ثم نسخ ذلك.
قال الشافعي: وبقوله: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 78]؛ كذا حكاه البندنيجي.
وكلامه في استقبال القبلة صريح في أن الناسخ له الصلوات الخمس، وقد حكاه البندنيجي قولاً، ولم يسم قائله، ولم يحك القاضي أبو الطيب سواه، وأشار إلى أن الدال على ذلك من الكتاب قوله- تعالى-:{أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 77] أي: زوالها؛ كما قاله ابن عباس وغيره، واختاره الشافعي- رضي الله عنه لخبر ورد فيه:{إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 77] أي: شدة الظلمة، وذلك يستوعب أربع صلوات: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثم قال:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 77] أي: صلاة الفجر؛ قال الشافعي: سمعت ذلك ممن أثق بعلمه انتهى. وقوله- تعالى-: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] إلى قوله: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] يدل عليه أيضاً؛ لأن معناها صلوا لله؛ قال الله- تعالى-: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 142] أي: من المصلين، فسماها تسبيحاً؛ لاشتمالها عليه، فإذا كان كذلك فقوله:{حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 16] يريد به المغرب والعشاء، وقوله:{وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] يريد به الصبح وقوله: {وَعَشِيّاً} [الروم: 18] يعني: صلاة العصر، وقوله:{وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الإسراء: 18] يعني به: صلاة الظهر.
وفي "تفسير القشيري": أن ابن عباس قال: قوله: {حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 16] يريد المغرب، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الإسراء: 17] الصبح، {وَعَشِيّاً} [الإسراء: 18] يريد: العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الإسراء: 18] الظهر، وأما العشاء فدليلها قوله في النور:{وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 57].
وقد قيل: إن [في] الكتاب آيتين دالتين على ذلك، أيضاً:
إحداهما: قوله- تعالى-: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} [ق: 38] أي: صل صلاة الصبح، {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 38] أي: العصر والظهر، {وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} [ق: 39] أي: [صل] صلاة المغرب والعشاء {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40] فيه تأويلان:
أحدهما: أنه ركعتان بعد صلاة المغرب؛ وهو قول مجاهد.
والثاني: أنها النوافل في أدبار المكتوبات.
والثانية: قوله- تعالى-: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ} [هود: 114] ولاشك في أن الطرف الأول صلاة الصبح، والطرف الثاني: قال مجاهد: هو صلاة الظهر والعصر، والزُّلَف: صلاة المغرب والعشاء. رواه الحسن البصري عنه، عليه السلام.
ومعنى الزلف من الليل: الساعات التي يقرب بعضها من بعض.
وهذه الآيات- وإن دلت على المدعي من حيث التلويح- فالسنة مفسِّرة لها، ودالة عليه بالتصريح.
ثم ظاهر كلام الأصحاب هنا: أن النسخ شامل للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته؛ كما قيل: إن قوله- تعالى-: {قُمْ اللَّيْلَ} [المزمل: 2] شامل له ولأمته وهو ما حكاه في "البيان" في
كتاب "النكاح" عن النص.
وإن من أصحابنا من قال: إن قيام الليل كان واجباً عليه صلى الله عليه وسلم إلى أن مات، وهو في "النهاية"، ولم يورد في "الوسيط" غيره، وقائله يقول:[معنى] قوله: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 78]، أي: زيادة لك في درجاتك.
والصحيح الأول، بل كلام الماوردي يدل على أن وجوب قيام الليل إنما كان على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وأنه نسخ؛ فإنه قال: أول ما فرض الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قيام الليل بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم نحواً من قيام شهر رمضان، وعلم به قوم من المسلمين؛ فقاموا معه حتى انتفخت أقدامهم وشق عليهم، فروت عائشة- رضي الله عنها أنه- عليه السلام خرج كالمغضب، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فقال:"يأيها الناس، اكلفوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل، وخير العمل ما دمتم عليه" ثم نسخ ذلك.
قال البندنيجي: وكان فرض الخمس ليلة المعراج، قبل الهجرة بسنة.
وقال الماوردي: إنه يقيل: إنها فرضت في شوال قبل الهجرة بستة عشر شهراً، وفرض الصوم بعد الهجرة بثلاث سنين، وفرض الحج بعد الهجرة بست سنين، [وقيل: في السنة التاسعة، قاله النووي، وقيل إنه الأشهر]، وقيل غير ذلك؛ كما ستعرفه- وفرضت الزكاة قبل الصوم، وقيل: بعده.
قال: الظهر، أي: صلاة الظهر؛ لما ذكرناه من آي الكتاب، وما يأتي من السنة،
وهو إجماع الأمة.
وبدأ الشيخ، والشافعي- رضي الله عنه في "الجديد" بذكر صلاة الظهر، وإن كان في القديم قد بدأ بصلاة الصبح- كما قاله البندنيجي- لأن جبريل- عليه السلام بدأ بها.
قال القاضي الحسين: ولأنها أول صلاة وجبت بعد طلوع الشمس؛ ولذلك سميت الأولى، وفي تسميتها ظهرا تأويلان:
أحدهما: سميت بذلك؛ لأنها أول صلاة ظهرت، حين صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال الماوردي: وفيها حولت القبلة على الكعبة، وفيه نظر ستعرفه في باب استقبال القبلة.
والثاني: أنها سميت بذلك؛ لأنها تفعل عند قيام الظهيرة.
وقال النواوي: هي مشتقة من "الظهور"؛ لأنها ظاهرة وسط النهار.
وقد سكت الشيخ هنا عن استثناء صلاة الجمعة إذا وجدت شروط وجوبها؛ لوضوح ذلك واكتفاء بما ذكره في بابها، ولأن فيه تعريفك أن الأصل هو الظهر، والجمعة- حيث تصح- بدل عنه.
ولا يقال: إنما سكت عن ذلك؛ لاعتقاده أن الجمعة ظهر مقصور، فهي داخلة في كلامه؛ لأنه خلاف الصحيح، وقوله:"من لزمه الظهر؛ لزمته الجمعة" يأباه.
قال: وأول وقتها إذا زالت الشمس، والأصل في ذلك وغيره من مواقيت [الصلوات] الخمس، صلاة جبريل- عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد من طرق ذكر الفقهاء [منها] طريقاً حسناً، وهو ما روى ابن عباس- رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمني جبريل عند باب البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي- يعني: المغرب- حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد
صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إليّ، فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين" رواه أبو داود، وأخرجه الترمذي، وقال: إنه حسن.
وقال عبد الحق في "الأحكام" أصح شيء في إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكره البخاري كما في "كتاب العلل"- حديث جابر، وهو ما رواه النسائي، عن جابر ابن عبد الله: أن جبريل- عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل [و] رسول الله صلى الله عليه وسلم [خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فصلى الظهر حين زالت الشمس، وأتاه حين كان الظل مثل شخصه، فصنع كما صنع: فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني- فصلى صلاة العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس، فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى صلاة [المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق، فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى] صلاة العشاء، ثم أتاه حين انشق الفجر، فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الغداة، ثم أتاه اليوم الثاني، حين كان ظل الرجل مثل شخصه، فصنع مثل ما صنع بالأمس: صلى الظهر، ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثل شخصيه [فصنع كما صنع بالأمس فصلى العصر،] ثم أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس: فصلى [المغرب، فنمنا، ثم قمنا، فأتاه، فصنع كما صنع بالأمس: فصلى] العشاء، ثم قال:"ما بين هذين الصلاتين وقت".
وله في طريق أخرى: "ثم جاءه للصبح حين أسفر جدّاً" يعني: في اليوم الثاني.
وفي أخرى: "ثم جاءه للمغرب حين غابت الشمس وقتاً واحداً لم يزل عنه"
يعني: في اليوم الثاني.
قال العلماء: وفي قول جبريل: "الوقت ما بين هذين" إشارة إلى أن ما بين أولاهما وآخر أخراهما وقت؛ فيكون على هذا قد بين الجمع بالقول، وقيل: أبان بصلاته الوقتين، وبقوله:"ما بينهما".
وقد روى مسلم، عن أبي موسى الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه شيئاً، قال: فأقام بالفجر حين انشق الفجر، والناس لا [يكاد] يعرف بعضهم بعضاً، ثم أمره فأقام [بالظهر] حين زالت الشمس،
والقائل يقول: قد انتصف النهار، وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة، ثم أمره فأقام [بالمغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام بالعشاء]، حين غاب الشفق، [ثم أخر] الفجر من الغد، حتى انصرف منها والقائل يقول: قد طلعت الشمس أو كادت، ثم أخر الظهر، حتى كان قريباً من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول: قد احمرت الشمس، ثم أخر المغرب عند سقوط الشفق، ثم أخر العشاء، حتى كان ثلث الليل [الأول]، ثم أصبح فدعا السائل، فقال:"الوقت ما بين هذين".
قال القاضي الحسين، وابن عبد البر، وابن المنذر: وقد أجمعت الأمر على أن أول وقت الظهر إذا زالت الشمس، وفيه نظر؛ لأن القاضي أبا الطيب حكى أن بعض الناس قال: أول وقتها إذا كان الفيء قدر الشِّراك بعد الزوال؛ لحديث جبريل.
وحكى الماوردي وغيره عن مالك: أنه لا يجوز فعلها إلا بعد الزوال بقدر الذراع، ولا يصح مع ذلك إجماع، وحجتنا عليهم ما سلف.
والزوال: عبارة عن انحطاط الشمس بعد منتهى ارتفاعها، ويظهر ذلك بحدوث الظل وزيادته في جانب المشرق، بعد تراجعه من جانب المغرب.
وإنما قلنا ذلك؛ لأن [في] بعض البلاد في بعض الأوقات لا يكون للشخص فيء عند الاستواء، والزوال في ذلك الموضع في ذلك الوقت، يظهر بحدوث فيء الشخص وإن قل.
قال الشيخ أبو حامد: وذلك يكون بمكة يوماً واحداً في السنة، وهو أطول يوم فيها.
وقال أبو الطيب- وتبعه مجلي-: إن أبا جعفر الشاشي ذكر في "كتاب الزوال": عند انتهاء طول النهار في الصيف، لا يكون بمكة ظل لشيء من الأشخاص، مائة وعشرين يوماً قبل انتهاء الطول، ومائة وعشرين يوماً بعده.
وقال القاضي الحسين: في "صنعاء اليمن"، في الصيف الصائف في أطول يوم في السنة، إذا استوت الشمس، لا يبقى لشيء ظل البتة؛ ولهذا قال الشافعي- رضي الله عنه: ومعرفة زوال الشمس يقرب في البلاد الحارة، ويبعد في البلاد الباردة؛ لأنه في البلاد الحارة يعرف الزوال بنقص ظهور الظل، وفي البلاد الباردة تستوي الشمس ولكل شخص ظل، والزوال يكون بزيادته.
قال أبو الطيب وغيره: وطريق معرفة ذلك في هذه الحالة: أن يقيم شيئاً، ويعلم موضعاً فيه، ثم ينظره بعد ساعة، فإن زاد فيه، فاعلم أن الشمس قد زالت، وإن نقص فيه فاعلم أنها لم تزل بعد.
[واعلم أن] متعلق الوجوب وصحة الصلاة؛ حدوث الظل أو زيادته، وإن [كنا نعلم] قطعاً أن الزوال وجد قبل الظهور بلحظة، فلو صادفت التكبيرة ما قبل ذلك، ثم اتصل على القرب بها ظهور الفيء أو زيادته، لم نحكم بانعقاد الظهر؛ لأن ما قبل ذلك معدود في وقت الاستواء.
وأيضاً فإن المواقيت الشرعية مبناها على ما يدرك بالحواس، وفي مساق حديث جبريل ما يدل عليه.
قال: وآخره إذا صار ظل كل شيء [مثله؛ للخبر.
وحكى الفوراني: أن المزني قال: آخره إذا صار ظل كل شيء مثليه]، والمشهور عنه خلافه؛ كما سنذكره.
ثم المراد بصيرورة ظل الشيء مثله: أن يصير ما يحدث من ظل الشيء بعد
الزوال مثله، فإن كان ظل الشخص وقت الزوال قدر قدم، وطول الشخص أربعة أقدام، فإذا بلغ مجموع [فيء] الشخص خمسة أقدام؛ انتهى وقت الظهر، وعلى هذا المثال.
قال: والعصر؛ لمثل ما قدمناه في الظهر.
قال: وأول وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله، أي: على النعت الذي سلف للخبر.
قال: وزاد أدنى زيادة؛ لأن بها يحصل تحقق صيرورة ظل الشيء مثله؛ كما أن بظهور الفيء أو زيادته بعد الاستواء، يتحقق الزوال وإن كان سابقاً على الظهور.
وما ذكره الشيخ هو ما نقله القاضي أبو الطيب وأكثر العراقيين، وهو ظاهر ما نقله المزني عن الشافعي، حيث قال: فإذا جاوز المثل أدنى زيادة؛ دخل وقت العصر.
وظاهر هذا مع ما تقدم: أن الزيادة فاصلة بين وقت الظهر والعصر، وبه قال بعض الأصحاب؛ كما حكاه مجلي والروياني في "تلخيصه".
وبعضهم قال: إن ظاهر النص أنها من وقت الظهر.
قال مجلي: وعليه كثير من الأصحاب، وبعضهم قال: إن الزيادة من وقت العصر؛ لظاهر الخبر، وإنما اعتبرها الشافعي- رضي الله عنه لأنه قلما يعرف دخول [وقت] العصر إلا بها.
وبقولهم: "قلما يعرف
…
" إلى آخره يقع الاحتراز عما سلف في الزوال؛ لأنه لا يعرف وجوده إلا بحدوث الظل أو زيادته؛ فلذلك تعلق به التكليف؛ وهذا ما ادعى الروياني: أنه المنصوص، ولم يحك الإمام وكذا الرافعي سواه، وقال: إنه لا خلاف فيه، وعبارة بعضهم: أن المزني وهم في النقل.
قال بعضهم: ومذهب الشافعي- رضي الله عنه ما نص عليه في "الأم": أنه لا فصل بين وقت الظهر والعصر، فإذا صار ظل كل شيء مثله، فقد خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر، وهو المختار في "المرشد". نعم، لو وقع التكبير قبل الزيادة، ثم اتصل ظهورها بالتكبيرة لم تصح؛ لأنه أوقعها مع التردد في دخول الوقت.
فإن قيل: حديث جبريل يدل على أن وقت الظهر مشترك مع وقت العصر بمقدار أربع ركعات، وبه قال المزني، فلم عدلتم عنه؟
قلنا: الشافعي- رضي الله عنه حمل صلاته العصر في اليوم الأول، على أنه شرع فيها حين صار ظل كل شيء مثله؛ لأنه بيان لأول وقتها، ويشهد له: الإجماع منا ومن الخصم على ذلك في وقت الظهر؛ إذ لو كان المراد: أنه صلى بمعنى: فرغ منها، لكان قد أحرم بها قبل الزوال، وذلك لا يجوز إلا على رأي ابن عباس. وحمل صلاته الظهرَ في اليوم الثاني على الفراغ منها، حين صار ظل كل شيءٌ مثله؛ لأنه بيان لآخر وقتها؛ وبهذا الحمل ينتفي الاشتراك في الوقت المفضي إلى خروج هاتين الصلاتين عن نظائرهما في فصل أواخر الأوقات عن أوائل ما يعاقبها، ويبقى قوله- عليه السلام:"إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ: أَنْ تُؤَخَّرَ الصَّلَاةُ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى"- على عمومه؛ فإنه لو كان الوقت مشتركاً بينهما، لما سمَّى من أوقع الظهر فيه مفرطاً.
وأيضاً فقد روى مسلم أنه- عليه السلام قال: "وقت الظهر ما لم يحضر العصر"، وخبر أبي موسى الأشعري- الذي ذكرناه- يدل على ذلك- أيضاً- وهو متأخر عن بيان جبريل.
قال: وآخره إذا صار ظل كل شيء مثلَيْهِ، أي: على النحو الذي ذكرناه؛ لحديث جبريل.
قال: ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الجواز إلى الغروب؛ لظاهر قوله- تعالى-:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 38]، وقوله- عليه السلام:"من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر" أخرجه مسلم. وخبر أبي موسى يدل عليه أيضاً.
قال الإمام: وقد ذهب الأقلون- أي: من الأصحاب-: إلى أنه يفوت وقتها بصيرورة ظل كل شيء مثليه؛ تمسكاً بحديث جبريل. قال: وهو غير معدود من متن المذهب، وقد عزاه الناقلون إلى الإصطخري، والذي نص عليه الشافعي- رضي الله عنه وتابعه عليه الأئمة: الأول.
وقد أفهم كلام الشيخ أن من صيرورة ظل الشيء مثله إلى أن يصير [ظله مثليه] كله وقت اختيار، [ومنه] يفهم- أيضاً- أن جميع وقت الظهر [وقت] اختيار؛ لأن مستند جعل ما بين صيرورة ظل الشيء مثله إلى أن يبلغ مثليه، بيان جبريل، [وجميع وقت الظهر شمله بيان جبريل]، ولاشك في أن ما اشتمل عليه بيان جبريل في وقت العصر وقت اختيار، لكن منه ما يسمى وقت فضيلة: وهو أول الوقت؛ وعليه يدل قوله من بعد: "والأفضل تقديم الصلاة في أول الوقت" وسنذكره، [وباقيه] إلى آخر بيان جبريل وقت اختيار لا غير؛ ولأجل ذلك قال أبو علي الطبري: للعصر ثلاثة أوقات: وقت فضيلة، ووقت اختيار- وقد بيناهما- ووقت جواز، وهو ما جاوز بيان جبريل إلى غروب الشمس. وبعضهم يقول: للعصر أربعة أوقات: وقت فضيلة، ووقت اختيار- كما ذكرنا- ووقت جواز من غير كراهة- وهو ما جاوز بيان جبريل إلى الاصفرار- ووقت جواز مع الكراهة: وهو وقت الاصفرار للمؤخِّر [من غير] عذر. والمعنيُّ بكون هذا وقت كراهة: أنه يكره تأخير الفعل إليه؛ لأنه روي أنه- عليه السلام قال: "تلك صلاة المنافقين: يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً".
وهذا كله بالنسبة [إلى أرباب] الرفاهية الذين لا عذر لهم، ولا ضرورة بهم. أما من له عذر: وهو المسافر والمقيم في موضع يصيبه المطر؛ [فيزداد] في حقه
وقت خامس: وهو وقت جمعهما بالتقديم في وقت الظهر.
ومن به ضرورة: وهو الحائض [تطهر]، والمجنون يفيق، والصبي يحتلم، وقد بقي من الوقت ركعة أو دونها على الخلاف- فليس له في حقه إلا وقت [واحد] وهو ما ذكرناه، ولا كراهة تلحقهم.
قال الأصحاب: والكافر إذا أسلم ملحق بأرباب الضرورات في الحكم؛ من حيث إنه لا يؤاخذ بعد الإسلام. وتقبح تسمية الكفر عذراً أو ضرورة.
وقد جمع بعض الأصحاب بين ما ذكرناه، وعد للعصر ستة أوقات في الجملة. وبعضهم جعل وقت العذر والضرورة قسماً واحداً، وينسب هذا إلى أبي إسحاق.
قال الروياني: وهو أصح، مع أنه لا خلاف في المعنى؛ فعلى هذا تكون الأوقات خمسة، وهي طريقة القاضي الحسين.
وأما وقت الظهر فقد صرح مجلي فيه بما أفهمه كلام الشيخ، وحكى عن القفال: أنه قال: للظهر وقت اختيار: وهو من الزوال إلى [نصف] بيان جبريل، وما بعده إلى [آخر وقته] وقت جواز.
وقال غيره: للظهر ثلاثة أوقات: وقت فضيلة: وهو أول الوقت، وإليه يرشد قول الشيخ:"والأفضل تقديم الصلاة في أول الوقت"، ووقت اختيار: وهو باقي وقته، ووقت جمعه مع العصر في وقت العصر.
والقاضي الحسين قال: إن لها أربعة أوقات: وقت فضيلة: وهو من [أول] الزوال إلى أن يصير ظل [كل] شيء مثل نصف نصفه، ووقت اختيار: وهو ما بعد ذلك إلى أن يصير ظل الشيء مثل نصفه، ووقت جواز: وهو ما جاوز ذلك إلى آخر وقته، ووقت أرباب الأعذار: وهو إذا جمع بينها وبين صلاة العصر في وقت العصر.
ويجيء على طريقة من يقول: إن وقت العذر غير وقت الضرورة- وقت خامس: وهو قدر ركعة أو دونها، أو خمس ركعات من آخر وقت العصر، كما ستعرفه.
قال: والمغرب لمثل ما قدمناه في الظهر، وسميت بذلك؛ لأنها تفعل [عقيب] الغروب.
قال الأصحاب: ويكره أن تسمى: العشاء؛ لما روى البخاري في "صحيحه" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلبنكم العرب على اسم صلاتكم إنها المغرب"[والعرب] يسمونها العشاء.
قال: وأول وقتها إذا غابت الشمس؛ لما قدمناه من الأخبار، وعن علي، وابن مسعود: أن المراد بدلوك الشمس في قوله- تعالى-: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 77]: غروبها، لأنه قال:{إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} ، وبين الزوال والغسق أوقات تكره فيها الصلاة، وهي من بعد [صلاة] العصر إلى الغروب؛ فلا يجوز استدامة الصلاة من الزوال إلى الغسق، ويصح ذلك في المغرب؛ لأنه تستمر الصلاة من ذلك الوقت إلى آخر وقت العشاء؛ فكان الحمل عليه أولى.
ثم المعتبر في الغروب سقوط كل القرص.
قال بعضهم: وقد شذ بعض الأصحاب فقال: المعتبر سقوط حاجب الشمس وهو الضوء المستعلي عليها كالمتصل بها. وكأنه يشير إلى الماوردي؛ فإنه هكذا قال، ولم يحك سواه، ويشهد له ما رواه أبو داود عن سلمة بن الأكوع قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس، إذا غاب حاجبها"، وأخرجه البخاري
ومسلم وغيرهما بنحوه.
ثم معرفة الغروب تحصل بالمشاهدة، ومن هو قاطن في موضع محفوف بالتلال والجبال، يعرف ذلك بإقبال الظلام من المشرق وانهزام الضوء من المغرب؛ قال- عليه السلام:"إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من هاهنا وغابت الشمس؛ فقد أفطر الصائم" متفق عليه.
قال: ولا وقت لها إلا وقت واحد، أي: لا وقت لها يجوز افتتاحها فيه ولا يجوز تأخيرها عنه إلا وقت واحد في أظهر القولين؛ لأن جبريل- عليه السلام صلاها في اليومين في وقت واحد لم يزل عنه.
قال الإمام: ويشهد له اتفاق طبقات الخلق في الأعصار، على مبادرة هذه الصلاة في وقت واحد، مع اختلافهم فيما سواها من الصلوات.
وقال غيره: إنما جعل وقتها واحداً؛ لأن علاماتها ظاهرة، وتلحق الناس على فراغ وتيقظ، بخلاف غيرها من الصلوات.
قال: وهو بمقدار ما يتوضأ ويستر العورة ويؤذن ويقيم؛ لأن الوضوء لا يتعين فعله قبل الوقت، وكذا ستر العورة لأجل الصلاة، والأذان والإقامة لا يصحان قبل الوقت؛ لفوات مقصودهما، وهما مشروعان إجماعاً؛ فاقتضى ذلك جواز تأخير الإحرام عن أول الوقت هذا القدر، فإن أخر الافتتاح عنه، فقد عصى وجهاً واحداً؛ قاله البندنيجي، وقال: إن التقدير بما ذكره الشيخ هو المذهب، وعليه قال الشيخ: وله أن يستديمها- أي: إذا أحرم بها في الوقت المذكور- إلى أن يغيب الشفق؛ لقوله- عليه السلام:
"إذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق" رواه مسلم، ولا يمكن حمله على الافتتاح؛ لحديث جبريل؛ فتعين حمله [على] الاستدامة؛ جمعاً بين الحدثين.
وقد روى مسلم والبخاري، عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ "والطور" في المغرب، وقراءته لها مرتلة تستغرق ما ذكرناه.
وروى البخاري عن زيد بن ثابت: أنه- عليه السلام كان يقرأ في المغرب: بـ "الأعراف"، ورواية النسائي أنه قرأها في ركعتين منها، وهذا ما ادعى البندنيجي أن أبا إسحاق المروزي قال في:"الشرح": إنه المذهب، وابن الصباغ وأبو الطيب وغيرهما نسبوه إلى أبي إسحاق، والماوردي حكاه عن الإصطخري، وقال: إن أبا إسحاق اختاره.
وقيل على ما ذكرنا أنه المذهب: [ليس] له أن يستديمها بعد ما ذكرناه، إلا بقدر ما يصلي فيه ثلاث ركعات كاملة [في تمام]، حكاه في "المهذب"، ونسبه البندنيجي إلى
رواية أبي إسحاق، وعليه ينطبق قول بعض الأصحاب: إن وقت المغرب بمقدار ما يتوضأ ويستر العورة ويؤذن ويقيم ويصلي ثلاث ركعات متوسطات، فإذا جاوز هذا الوقت، فقد خرج وقت المغرب، وصارت قضاء وإن هذا [معنى] قول الشافعي- رضي الله عنه:"ولا وقت للمغرب إلا [وقتاً] واحداً"، كذا حكاه أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما، وقال الماوردي: إنه الأشبه بمذهب الشافعي، رضي الله عنه.
ولما رآه بعض الشارحين هكذا قال: قد أهمل الشيخ مقدار الصلاة؛ فكان ينبغي أن يقول: وهو بمقدار ما يتوضأ ويستر العورة ويؤذن ويقيم ويصلي ثلاث ركعات متوسطات.
قلت: وحَذْف ما لم يذكره الشيخ متعين؛ لأن القائل بهذا: إما أن يكون يُجَوِّز إخراج بعض غيرها من الصلوات عن وقتها، أو لا يجوزه- كما ستعرف-[وأيّاً ما] كان، فلا يحسن معه القول: بأن له أن يستديمها إلى أن يغيب الشفق، ويجعل ذلك غاية الاستدامة، والشيخ قد جزم القول بأن له أن يستديمها إلى أن يغيب الشفق، فهو ضده؛ فتعين ما ذكرناه.
وهذان مُفَرَّعان على: أن وقت افتتاحها بقدر ما يتوضأ ويستر العورة ويؤذن ويقيم.
وقد حكى الماوردي [وجهاً]: أن وقت افتتاحها بقدر ما يتوضأ ويستر العورة، ويؤذن [ويقيم][ويصلي] ثلاث ركعات على مهل.
قال الروياني في "تلخيصه": ولا تعتبر صلاة كل رجل [وطهارته] في نفسه؛ لأن عادات الناس مختلفة، بل يعتبر الوسط من الدرجتين. قال: وهذا في الحقيقة تقدير وقته بالزمان لا بالفعل.
وحكى وجهاً آخر: أن وقت افتتاحها بمقدار فعل ما ذكرناه وخمس ركعات، [قالي: وهو خلاف المذهب.
وحكى البندنيجي عن رواية أبي إسحاق في "الشرح" وجهاً آخر، ملخصه: أن وقت الإحرام بالمغرب ووقت استدامتها، بمقدار أول الوقت من كل صلاة. قال: وإنما يقال: أوقع الظهر [أو] العصر في أول وقتها، لمن فرغ منها مع نصف الوقت، أو قبل نصفه.
وابن الصباغ قال: إن أول الوقت من كل صلاة [ما] لا يبلغ نصف وقتها. وهذا الوجه قد حكاه في "المهذب" بما يقرب من هذه العبارة، قال مجلي: وعليه يجوز أن يتراخى الإحرام بها عن غروب الشمس إلى أن يبقى لغيبوبة الشفق قدر فعل الصلاة؛ لأن الوقت الأول من كل صلاة قدر نصفه، ووقت المغرب جميعه قدر ذلك، وربما ينقص عنه.
وهذا مجموع ما رأيته في كتب العراقيين، تفريعاً على هذا القول. وقالوا- على ما حكاه أبو الطيب وغيره في باب صلاة التطوع-: إن وقت سننها يدوم إلى غيبوبة الشفق. ولم يحكوا سواه.
وأما المراوزة فلهم في وقتها على هذا القول أوجه:
أحدها- ما قاله [النووي]-: أنه بمقدار زمان الطهارة والأذان [والصلاة، وحينئذ يخرج وقتها.
والثاني- قاله الإمام-: أنه بمقدار ما يمضي وقت الأذان والإقامة والطهارة]، مع الاقتصاد بين التطويل وبين التعجيل، ومضيّ وقت يسع خمس ركعات بفاتحة الكتاب وقصار المفصل.
قال: وإنما ذكرنا الخمس؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون ركعتين خفيفتين بين الأذان والإقامة بصلاة المغرب؛ فإن المؤذن كان لا يَصِلُ أول كلمة الإقامة، بآخر كلمة الأذان في المغرب.
قلت: وفي هذا الاستدلال نظر؛ لأن المدعي أن يمضي بعد غروب الشمس قدر زمن الطهارة والأذان والإقامة، والصحابة- رضي الله عنهم حين كانوا يصلون
الركعتين، لم يكونوا يؤخرون الطهارة إلى ما بعد الغروب؛ فجاز أن يكون إيقاعهم الركعتين في مثل الوقت الذي يسع الطهارة، وحينئذ لا يدل فعلهم على جواز التأخير بقدر زمن الطهارة وصلاة ركعتين، والله أعلم.
قال الإمام: وعلى هذا له أن يأكل ما لا يُحَسُّ له أثر في الوقت؛ ولذلك قال الغزالي: ولا بأس بأكل لقمة أو لقمتين يكسر بهما سَوْرة الجوع، وعليه حمل الأصحاب قوله- عليه السلام:"إذا قُرِّب العَشاء وحضرت الصلاة؛ فابدءوا به، قبل أن تصلوا صلاة المغرب" رواه مسلم.
والثالث: حكاه في "التتمة"، واقتضى إيراده ترجيحه-: أنه بمقدار ما يتوضأ ويستر العورة ويؤذن ويقيم ويصلي ثلاث ركعات [المغرب]، بقصار المفصل، وركعتين سنتها.
فإن قلت: هذا عين الوجه قبله؛ إذ لا فرق بين أن تتقدم الركعتان على المغرب أو تتأخر.
قلت: لا؛ لأن الركعتين إذا فعلتا قبل المغرب، فعلتا في وقت التخلل، بين
الأذان والإقامة، وهو محبوب بالنسبة إليهما؛ فإن السنة أن يؤذن على موضع عال، وأن يكون [الذي يؤذن] هو الذي يقيم، وألا يقيم وهو ماش، بل يقيم في غير موضع أذانه، وإذا فرغ مشى إلى الصف كما ستعرفه.
وإذا كان كذلك، فالركعتان الواقعتان بين الأذان والإقامة واقعتان في وقتهما، بخلاف الركعتين بعد الصلاة، ويشهد لذلك أن الإمام قال بعد ذلك: إذا مضى بعد الغروب على قول التضييق ما وصفناه، فإقامة السنة بعد الفريضة محبوبة، ثم هي مؤداة. وفي هذا بقية نظر؛ فإن السنة التابعة للفريضة وقتها وقت الفريضة؛ فينبغي على قياس جواز أداء سنة صلاة المغرب، أن يجوز افتتاح أداء الفرض في وقت أداء السنة.
ثم قال: والوجه عندي: أنا إن اعتبرنا مقدار خمس ركعات بعد التأهب، فإن مضى ما يسع خمساً فالسنة بعدها نافلة محبوبة، تسمى: صلاة الأوابين، وما أراه بمثابة سنة الظهر التي تلي الصلاة. وإن وقعت الركعتان قبل الفرض فذاك، وإن قدرتا بعد الفرض فوقتهما وقت افتتاح الفرض. أما ما يزيد على ذلك؛ فهو خارج عن الوقت.
والرابع- حكاه المتولي أيضاً-: أنه بمقدار ما يؤذن ويقيم ويصلي ثلاث ركعات المغرب وركعتي السنة، وهذا والذي قبله، لم يَحْكِ القاضي الحسين غيرهما.
ثم قال: فإن قيل: لا يجوز أن يقال: إن للمغرب وقتاً واحداً؛ لأنه يجوز الجمع بين المغرب والعشاء تقديماً، ومن شرط صحة الجمع: أن يقع أداء الصلاتين في وقت إحداهما، وذلك يدل على أن وقت المغرب [يمتد] أكثر مما وصفتم؛ حتى يصح الجمع فيه بين الصلاتين.
قلنا: لا نسلم أن من شرط صحة الجمع ما ذكرتم، بل شرط صحته: أن تؤدي إحدى الصلاتين في وقتها، ثم توجد الأخرى عقيبها فحسب. وأيضاً: فإن عندنا وقت
المغرب يمتد إلى أن يصلي خمس ركعات متوسطات، ويمكنه الجمع بينهما في هذا الوقت: بأن يصلي المغرب ثلاث ركعات، ويصلي العشاء ركعتين- إن كان [مسافراً]- ولا يصلي السنة؛ حتى يقع الكل في وقت المغرب، وإن كان مقيماً يقع بعض صلاة العشاء في الوقت، فيجعل كما لو وقع الكل في الوقت على أحد الوجهين.
قلت: وعلى الوجه الآخر يكون الجواب: أن الصلاتين في حالة الجمع كالصلاة الواحدة، وقد تقدم أن المغرب يجوز أن يستديمها؛ فكذا ما جعل في معناها، وهذا ما رأيته في كتب المراوزة، وفرعوا عليه: أنه لو أخر الإحرام بالصلاة حتى وقع بعضها في الوقت المحدود لها، فهل تكون قضاء أو أداء، أو ما فعله في الوقت أداء، وخارج الوقت قضاء؟ فيه خلاف كما في غيرها من الصلوات، وستعرف للشيخ أبي محمد تردداً في أنا إذا قلنا: إن كلها أداء، هل يجوز تعمد ذلك أم لا؟ وقضيته: أن يأتي
هنا. وقد حكي عنه أنه قال: [إنا إذا] جوزنا في غير صلاة المغرب إيقاع بعض الصلاة خارج الوقت، ففي تجويز ذلك في صلاة المغرب خلاف؛ لاختصاصها بالتضييق. قال الإمام: وهو غلط، والغزالي عكس ذلك فقال: إذا قلنا: إن غير هذه الصلاة مقضية، ففي هذه الصلاة وجهان، والإمام حكاهما عن العراقيين.
ثم هذا كله تفريع على القول الذي ادعى الشيخ أنه أظهر القولين، وعليه نص في القديم، والبويطي و"الأم"، وحكاه المزني، ومقابله: أن وقتها يمتد إلى دخول وقت العشاء؛ كما أن وقت الظهر يمتد إلى وقت العصر؛ لما روى أبو داود، عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"وقت الظهر ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تَصْفَّرُ الشمس، ووقت المغرب ما لم يسقط فَوْر الشفق- ويروي: ثور الشفق، بالثاء المثلثة- ووقت العشاء إلى نصف الليل، ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس" وأخرجه مسلم.
وفور الشفق- بالفاء-: بقية حمرته في الأفق، سمى: فوراً؛ لفورانه وسطوعه، وعلى الرواية الأخرى سمي بذلك؛ لثورانه، وانتشار حمرته، وهذا القول رواه أبو ثور، عن الشافعي، رضي الله عنه.
وقال في "التتمة": إنه يحكى عن القديم، والقاضي الحسين صرح بحكايته عن القديم، وتبعه غيره.
[وقال ابن الصلاح: إنه علق القول به في "الإملاء" على صحة الحديث]، وقد اختاره ابن المنذر، والزبيري، وابن خزيمة، والخطابي، والبيهقي، والغزالي في "الإحياء" والبغوي [في "التهذيب"].
قال النواوي وغيره: وهو الصواب. وقال الرافعي: إن به الفتوى. وكذا قال
الروياني: وبه أفتي؛ لأجل ما ورد من الأخبار [الصحيحة] الدالة عليه، ومنها: ما سلف من حديث أبي موسى الأشعري وغيره، وذلك متأخر عن بيان جبريل.
والذي أطلقه المتقدمون تصحيح الأول، بل حكى الماوردي: أن جمهور الأصحاب أنكروا خلافه؛ لأن الزعفراني- وهو أثبت أصحاب القديم- حكي عنه أن للمغرب وقتاً واحداً، والأحاديث المستشهد بها لمقابله محمولة على الاستدامة؛ جمعاً بين الأخبار.
قال الأصحاب: وإذا قلنا بالقديم، كان للمغرب أربعة أوقات: وقت فضيلة: وهو مقدار نصف نصف وقتها، ووقت اختيار: وهو ما بعد ذلك إلى نصف وقتها، ووقت جواز: وهو ما بعد نصف الوقت إلى آخره، ووقت الجمع والضرورة عند من يراهما واحداً، وعند من يجعلهما وقتين يكون لها خمسة أوقات.
قال: والعشاء؛ لمثل ما ذكرناه في الظهر.
قال: ويكره أن يقال لها: العتمة؛ لما روى مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء؛ فإنها في كتاب الله: العشاء، وإنما يعتم بحلاب الإبل"، أي: يؤخر الحلب إلى أن يعتم الليل، وهو ظلمة أوله، ويسمون الحلبة الآخرة: العتمة؛ فلا تسموا القربة [باسم] ما ليس بقربة، وتسميتها في كتاب الله- تعالى- العشاء في قوله- تعالى- {وَمِنْ
بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 57].
قال: وأول وقتها إذا غاب الشفق؛ لما سبق، وهو إجماع.
قال: الأحمر؛ لما روى مالك، عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشفق: الحمرة، فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة"، وهذا الخبر قد رواه الشافعي- رضي الله عنه موقوفاً على ابن عمر، وغيره أسنده- كما ذكرناه- وهو حجة على من زعم أن المراد بالشفق: البياض الذي بعد الحمرة، وهو المزني وغيره؛ تمسكاً بقوله- تعالى-:{إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 77][وهو ظلمته، وبأن العشاء: آخر صلاة الليل]، والصبح: أول صلاة النهار، ولما وجب الصبح بالبياض المتقدم على الشمس، اقتضى أن تجب العشاء بالبياض المتأخر عن الشمس.
ونحن نقول- مع ما ذكرناه-: قد روى أبو إسحاق بسنده أنه صلى الله عليه وسلم صلى العشاء قبل غيبوبة الشفق، وقد أجمعنا على أن ذلك لا يصح قبل غيبوبة [الشفق] الأحمر؛ فدل على أنه قبل غيبوبة الأبيض، ولأن الشفق في الخبر مطلق، والحكم إذا علق [على] اسم اقتضى أول ما ينطلق عليه الاسم، وقد قال الأزهري: الشفق عند العرب: الحمرة، قال الفراء: سمعت بعض العرب تقول: عليه ثوب مصبوغ؛ كأنه الشفق، وكان أحمر، وقد قيل في قوله- تعالى-:{فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 15]-: إنه الحمرة.
ولأنها صلاة تتعلق بأحد النَّيِّرين المتفقين في الاسم الخاص، فتعلق بأظهرهما وأنورهما؛ كالصبح.
وما ذكره الشيخ هو الموافق لإطلاق المعظم، ولفظ الشافعي- رضي الله عنه دال عليه؛ ألا تراه قال في "المختصر": وإذا غاب الشفق وهو الحمرة [فهو أول وقت العشاء. وعليه جرى في "الوسيط" فقال: والشفق: الحمرة] دون الصفرة والبياض.
وقال بعضهم: إنه سهو، وصوابه: وهو الحمرة والصفرة، دون البياض؛ لأنه هكذا [قال] في "البسيط" اتباعاً للإمام، ولفظه:"إن الشمس تعقبها حمرة، ثم تَرِقُّ إلى أن تنقلب صفرة، ثم تبقى بياضاً، وأول وقت العشاء يدخل بزوال الحمرة والصفرة".
قال: وبين غيبوبة الشمس إلى زوال الصفرة يقرب مما بين الصبح الصادق إلى طلوع قرن الشمس، وما بين زوال الصفرة إلى إلحاق البياض، يقرب مما بين الصبح الصادق والكاذب.
فرع: إذا كان أهل [بلد] يقصر ليلهم، ولا يغيب عنهم الشفق- قال في "التتمة": اعتبرنا أقرب البلاد إليهم؛ كعادم القوت المجزئ في الفطرة في بلده. والرافعي نقله عن "فتاوى" القاضي.
قال: وآخره إذا ذهب ثلث الليل في أحد القولين؛ لأنه تضافر على ذلك خبر جبريل الذي رواه ابن عباس- رضي الله عنهما وخبر أبي موسى الأشعري، وهذا ما نص عليه في الجديد.
قال القاضي أبو الطيب: قال أصحابنا: وهو الصحيح.
قال: ونصفه في الآخر؛ لأنه- عليه السلام قال في خبر ابن عمر الذي سلف: "وقت العشاء إلى نصف الليل".
وقال: "لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت العشاء إلى نصف الليل"، وهذا ما نص عليه في القديم "والإملاء".
قال أبو الطيب: قال أبو إسحاق: [وهو الصحيح، وغيره قال: إن الشيخ أبا حامد
صححه، واختاره في "المرشد"، قال] في "التتمة": وسبب [اختلاف قول الشافعي- رضي الله عنه] اختلاف الرواية في حديث جبريل؛ لأنه جاء في رواية: "حين ذهب ثلث الليل"، وفي أخرى: نصف الليل"، فمن قال بالجديد، قال: الثلث محقق لا تعارض فيه؛ فعمل به، وترك ما وقع فيه التعارض، ومن قال بالقديم قال: الأخذ بالزيادة أولى.
وفي "الحاوي": أن ابن سريج كان يمتنع من جعل المسألة على قولين، ويجعل اختلاف الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم واختلاف نص الشافعي- رضي الله عنه على اختلاف حال الابتداء والانتهاء: فيستعمل رواية من روى: ["إلى ثلث الليل" على أنه آخر وقت الابتداء بها، ورواية من روى: "إلى] نصف الليل" على أنه آخر وقت انتهائها؛ حتى لا يعارض بعضها بعضاً، ولا يكون قول الشافعي- رضي الله عنه مختلفاً.
قال: ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني؛ لقوله- عليه السلام:"ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة: أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقتُ أخرى" رواه أبو داود، وأخرجه مسلم بنحوه، وبالقياس [على العصر]؛ وهذا ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه في القديم؛ كما قال الماوردي.
وعن أبي سعيد الإصطخري: أن وقت الاختيار والجواز يخرج إذا ذهب ثلث الليل الأول، وتكون قضاء بعده، وإنما يكون ما بعد ذلك إلى طلوع الفجر وقتاً لأصحاب الأعذار دون الرفاهية، كذا حكاه عنه الماوردي، وقال: إن الشافعي أشار إليه في موضع من كتاب "الأم"- أي: في استقبال القبلة- بقوله: "وآخر وقتها إلى أن يمضي ثلث الليل، فإذا مضى فلا أراها إلا فائتة"؛ ولأجل هذا قال الشيخ أبو حامد: إن الشافعي- رضي الله عنه نص على أنها تكون بعد الثلث قضاء، لكن الصحيح الأول، وادعى أبو الطيب: أنه لا خلاف فيه عندنا، وما قاله الشافعي في استقبال
القبلة، قال [أصحابنا]: قصد به أن وقت الاختيار قد فات دون وقت الجواز؛ لأن الشافعي قال في هذا الكتاب: "إذا زالت أعذار المعذورين قبل طلوع الفجر بتكبيرةٍ، وجب عليهم العشاء والمغرب"، فلو لم يكن ذلك وقتاً لها، لما أوجبها عليهم.
وقد حكى الإمام عن الإصطخري: أن وقتها يخرج بثلث الليل، وأن بعض الأصحاب وافقه، وإن خالفه في العصر والصبح؛ لأجل ورود الخبر فيهما.
قال: وهذا غير مرضي؛ فإنا لا نعرف خلافاً أن الحائض إذا طهرت وقد بقي من الليل مقدار ركعة، تصير مدركة لصلاة العشاء، ولو لم يكن ذلك معدوداً من وقت العشاء، لما صارت مدركة لها؛ كما لو طهرت مع الفجر.
والمنقول في "تعليق أبي الطيب" و"المهذب" وغيرهما، عن الإصطخري: أن وقت جوازها يخرج بوقت الاختيار: الثلث أو النصف، وهذا يقوي ما ذكره المتولي: أن سبب القولين اختلاف الرواية في صلاة جبريل؛ فإنه اقتصر عليها.
قال: والصبح؛ لمثل ما ذكرناه في الظهر، وسميت بذلك؛ لأنها تقع بعد الفجر، الذي يجمع بياضاً وحمرة؛ فإنه يقال: وجه صبيح، للذي [ظهر] فيه بياض وحمرة.
قال الشافعي في "الأم": وأحب ألا تسمى إلا بأحد اسمين: إما الصبح؛ لأنه- عليه السلام سماها به، أي: في قوله: "من أدرك ركعة من الصبح"، وإما الفجر؛ لأن الله سماها به، أي: في قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 77]، ولا يستحب أن تسمى بصلاة الغداة.
وكذلك قال [الشيخ] في "المهذب" وغيره: إنه يكره أن تسمى: صلاة الغداة. وبهذه الصلاة تمت الخمس، التي قدم الشيخ ذكرها في أول الباب، وقد ذهب الشافعي- رضي الله عنه في "الأم" وأصحابه إلى أن صلاة الصبح: هي الصلاة الوسطى في الآية؛ لأن الله- تعالى- عقَّبها بقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 237]، والقنوت: طول القيام، وصلاة الصبح مختصة باستحباب طول القيام
فيها، ولأن الله بين فضلها في آية أخرى، فقال:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 77] قال المفسرون: تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، ولأنها بين [صلاتين ليليَّتين وصلاتين نهاريتين،] وبين صلاتين تجمعان وتقصران، وهي لا تجمع ولا تقصر، وهي حَرية بمزية الاستحباب من حيث إن وقتها يوافي الناس وأكثرهم في غمرات النوم والغفلات.
وقد قيل: إنها الظهر؛ لأنها بين صلاتي نهار؛ إذ الصبح من صلاة النهار عندنا، وعند جماهير العلماء؛ لقوله- تعالى-:{وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ} [هود: 113]، والطرف الأول صلاة الصبح- في قول جميع المفسرين، ولأنها تفعل في وقت تحريم الطعام والشراب على الصيام، وذلك دليل [على] من قال: إن بطلوع الفجر ينقضي الليل، ولا يدخل النهار إلا بطلوع الشمس، وعليه يدل- أيضاً- قوله- تعالى-: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ
…
} [الحج: 60]؛ فإنه يقتضي نفي الفاصل بينهما، قال العلماء: ومعنى إيلاج أحدهما في الآخر، أخذه منه؛ حتى يكون أحدهما تسع ساعات [مستوية] والآخر خمس عشرة ساعة مستوية.
وقيل: إنها العصر؛ لأنها بين صلاتي ليل [وصلاتي نهار]، وعليه تدل رواية مسلم عن عبد الله بن مسعود، قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس- أو اصفرت- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً"، أو:"حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً".
وعن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى:
صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً. ثم صلاها بين العشاءين: المغرب والعشاء".
وقد أشار في "الحاوي" إلى أن هذا قول للشافعي- رضي الله عنه لأنه قال: نص الشافعي على أنها الصبح، وصحت الأحاديث أنها العصر، ومذهبنا إتباع الحديث فصار مذهبه أنها العصر.
قال: ولا يكون في المسألة قولان كما وهمه بعض أصحابنا.
ومن انتصر للأول قال: العصر في كلام العرب يطلق على الصبح- أيضاً- فيحمل عليه، قال ابن قتيبة: يقال لصلاتي الفجر والعصر: العصران والبردان، ويدل عليه ما روى عبد الله بن فضالة الليثي، عن أبيه أنه قال: كان فيما علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: "حافظ على العصرين"، فقلت: وما العصران؟ قال: "صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها"، ثم على تقدير: أن يدل ما ذكرناه من الخبر على أنها العصر، فقد ورد ما يدل على أنها غيره.
روى مسلم، عن [أبي] يونس- مولى عائشة- أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] قال: فلما بلغتها آذنتها، فأملت علي:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين"، قالت عائشة- رضي الله عنها: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذا صح عن حفصة في هذه الآية: "وصلاة العصر"؛ ذكره [أبو] عمر بن عبد البر.
وروى [مسلم]، عن شقيق، عن البراء قال: نزلت هذه الآية "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله فنزلت:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} ؛ فقال رجل- كان جالساً عند شقيق-[له]: هي إذن صلاة العصر؟ فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله، والله أعلم.
وإذا تعارضت الأخبار بقي ما ذكرناه سالماً عن التعارض؛ فعمل به.
على أنا نقول بموجب الحديث وأنه يدل على أنها وسطى، لا أنها الوسطى المذكورة في الآية، ويشهد له ما قاله القاضي الحسين: إنه روي أنه- عليه السلام قال في يوم الخندق: "شغلونا عن صلاة الوسطى: صلاة العصر، ملأ الله بطونهم وقبورهم ناراً"؛ فأنزل الله- تعالى- ذلك اليوم: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ....} الآية [البقرة: 238]؛ فإن ذلك يقتضي أن ما قاله- عليه السلام[ليس] تفسيراً للآية.
وقيل: إنها المغرب؛ لأنها بين صلاتين يُجْهَرُ فيهما، وبين صلاتين يُسَرُّ فيهما، وهي متوسطة في الركعات بين الأربع والاثنتين.
وقيل: إنها العشاء؛ لأنها بين صلاتي ليل، وصلاتين يجهر فيهما، وصلاتين لا تقصران.
قال البغوي: ولم يقله أحد من السلف.
وقيل: إنها جميع الصلوات.
قال الماوردي: وهو ضعيف؛ لأن [أهل اللغة] لا يقدمون في كلامهم المفصل، ثم يردفونه بالمجمل.
وقيل: إنها الجمعة؛ قاله المازري في "المعلم"، قيل: وهو ضعيف؛ لأن
المقصود الحث على الوسطى؛ لما فيها من المشقة المكسلة عنها، والجمعة لا مشقة [فيها]؛ لأنها تجب في سبعة أيام مرة.
قال الإمام: والذي يليق بمحاسن الشريعة ألا تُبنى على يقين؛ حتى يحرص الناس على أداء جميع الصلوات كدأب الشرع في ليلة القدر.
وهذا الاحتمال قد قاله القاضي الحسين في أول باب صلاة الخوف، وقال: إنه الصحيح، واستشهد له بليلة القدر وساعة يوم الجمعة، والله أعلم.
قال: وأول وقتها إذا طلع الفجر الثاني؛ لأن خبر جبريل يقتضي أنه أوقع الصلاة في اليوم الأول حين حرم الطعام والشراب على الصِّيام، وإنما يحرم بالفجر الثاني، وهو المسمى بالصادق؛ لأنه صدق في إشعاره بالصبح، ويسمى: المستطير؛ لأنه يتطاير في الأفق. والفجر الأول أزرق يطلع مستطيلاً، وهو الكاذب؛ لأنه ينور ثم يسودُّ، والعرب تشبهه بذنب السِّرْحان، وهو الذئب إما لطوله، أو لكون الضوء في أعلاه دون أسفله؛ كما أن الشعر على أعلى ذنب الذئب دون أسفله.
قال- عليه السلام: "لا يغرنكم الفجر المستطيل، وكلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير".
قال: وآخره إذا أسفر؛ لبيان جبريل.
قال: ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الشمس؛ لقوله- عليه السلام:"من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس؛ فقد أدرك الصبح"
رواه مسلم، وخبر أبي موسى السالف يدل عليه.
وقد خالف الإصطخري، وقال: وقت الجواز يخرج بالإسفار؛ تمسكاً بخبر جبريل.
وعلى الأول: فما ذكر الشيخ أنه وقت للجواز: منه ما يشتمل على كراهة في حق من لا عذر له، وهو من طلوع الحمرة إلى طلوع الشمس؛ قاله الشيخ أبو محمد والبغوي، وبه يكمل للصبح أربعة أوقات غير وقت أرباب الضرورات.
قال: ومن أدرك من الصلاة ركعة قبل خروج وقتها فقد أدركها- أي: أداء- جميعها؛ لقوله- عليه السلام: "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة"
أخرجه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة، ولأنه لو أدرك ركعة من الجمعة كان مدركاً لها، وهي مما لا يُقْضَى، وهذا ما حكاه البندنيجي عن نصه في القديم والجديد، وابن الصباغ [عن "الأم"] و"المختصر"، وبه قال ابن سريج، وأبو علي الطبري، وابن خيران.
وقال أبو إسحاق المروزي: ما فعل في الوقت أداء، وما فعل بعده قضاء؛ نظراً إلى الواقع، ولأنه لو وقع ركعة من الجمعة في الوقت، وباقيها خارج الوقت؛ لا تتم جمعة، ولو كان الكل أداء لتمت؛ كما لو وقع [جميعها] في الوقت، قال: وما قاله الشافعي- رضي الله عنه مختص بأرباب الأعذار، فأما غير المعذورين إذا أخر الصلاة عن وقتها كان مفرطاً، وكان فعل الصلاة قضاء. وقال: إن الشافعي- رضي الله عنه نص عليه في غير ما موضع.
وقد تحصل من هذا: أنه إن أخر بعذر كانت كلها أداء، وإلا فهو محل الخلاف، وبه صرح الماوردي، لكنه أثبت الخلاف وجهين.
وحكى المراوزة وراءهما وجهاً ثالثاً: أن جميعها قضاء؛ نظراً إلى التسليم.
وأصحهما ما ذكره الشيخ، بل قال أبو الطيب- على ما حكاه ابن الصباغ-: إن ما حكاه أبو إسحاق عن الشافعي- رضي الله عنه لم أجده له.
قال العراقيون والماوردي: وفائدة الخلاف: أنا إذا قلنا: إن كلها أداء، لا يأثم بتأخير الإحرام إلى أن يبقى من الوقت قدر ركعة، وإن قلنا بخلافه، أثم إذا أخر بحيث لم يبق قدر الصلاة.
وعن الشيخ أبي محمد تردد جواب فيما إذا قلنا: إن كلها أداء في جواز التأخير، واختار الإمام المنع، قال: فإن جَعْل الصلاة مؤداةً مأخوذٌ عندي من وقت العقد والنية، وما أرى إخراجَ بعض الصلاة عن الوقت قصداً، جائزاً؛ وهذا ما أورده في "التهذيب" من غير ترديد.
وقال في "التتمة": إن فائدة الخلاف تظهر في مسافر شرع في الصلاة بنية القصر، فخرج الوقت، وقلنا: إن المسافر إذا فاتته الصلاة يلزمه الإتمام، فإن قلنا: صلاته أداء كلها، فله القصر، وإلا لزمه الإتمام، وهذا ما حكاه الرافعي، والقاضي الحسين ادعى إجماعنا على أنه لا يلزمه الإتمام في [مثل] هذه الصورة، مع التفريع على ما ذكرناه وجعلناه دليلاً للقول بأن كلها أداء.
ثم على الأوجه كلها صلاته صحيحة، قطع به الأئمة، وقالوا: إن خطر للناظر أن القضاء لا يصح بنية الأداء، فهو مردود عليه؛ فإنا نصحح نية الأداء في محل الضرورة؛ كما لو صام المحبوس بالاجتهاد شهراً بعد رمضان.
قال الإمام: وهذا عندي صحيح، إذا كان لا ينضبط الوقت الذي إليه التأخير، وكان يزعم المؤخر أنه يسع الصلاة، ثم يتفق خروج بعضها، فأما إذا كان ينضبط في العلم أن الوقت لا يسع إتمام الصلاة، وقلنا: إن الصلاة مقضية، فإذا نوى الأداء، [والوقت وقت القضاء على بصيرة- لم تصح الصلاة أصلاً؛ كما لو نوى الأداء] بعد خروج الوقت. نعم، لو أنشأ الصلاة في الوقت، وكان يسع تمامها، ثم مدها قصداً حتى خرج الوقت- فالذي رأيت الطرق متفقة عليه: أن الصلاة لا تبطل وإن قلنا: إنها مقضية؛ فإنه لما نوى الأداء كان ممكناً، فَطَرَآنُ حكم القضاء غير ضائر، وليس كما إذا وقع بعض الجمعة خارج الوقت؛ فإن الإيقاع في الوقت شرط في صحتها، وليس هو شرطاً في غيرها.
وقد أفهم تقييد الشيخ والخبر الإدراك بإدراك ركعة، [عدمه] بدونها، وبه صرح المتولي، وادعى أنها تكون قضاء بلا خلاف. وفي "تعليق أبي الطيب" في صلاة المسافر: أن الداركي قال: ما دون الركعة فيما ذكرناه كالركعة. قال البندنيجي ثَمَّ:
وعليه ظاهر النص. ولم يَحْكِ في "الذخائر" غيره.
وحكى الإمام عن شيخه: أنه كان يرد ذلك إلى تفصيل المذهب في إدراك الفريضة في حق أرباب الضرورات، وهو غير بعيد.
والذي حكاه القاضي الحسين عن المذهب ما أفهمه الخبر، وأبدى القول بالإدراك احتمالاً من إدراك الفريضة بذلك، كالشيخ أبي محمد.
قلت: ولو خرجه على خلاف ذكره، وتبعه فيه المتولي: أن ما ذكرناه من المواقيت، وقت للدخول والخروج، أو للدخول فقط؟ فإن قلنا: إنه وقت للدخول فقط، كان مدركاً؛ لأنه يدخل فيها بتكبيرة الإحرام- لكان أولى.
وعبارة الغزالي تقتضي إجراء الخلاف في الإدراك بالركعة وما دونها من غير فرق؛ لأنه قال: لو أدى في آخر الوقت، ووقع بعضها خارج الوقت، فهي مؤداة على وجه، ومقضية على وجه، والواقع في الوقت أداء والخارج قضاء على وجه، وهي- أيضاً- تقتضي إجراء الخلاف فيما لو شرع فيها، وقد بقي من الوقت ما يسع الجميع، لكنه مدها بطول القراءة حتى خرج الوقت، وقد حكاه القاضي الحسين، وقال: إنه هل يعصي بذلك أم لا؟ فيه وجهان، المذكور منهما في "الرافعي" المنع، وحكاية الخلاف في الكراهة؛ عملاً بظاهر قول المتولي: إن ذلك هل يكره أم لا؟ بناءً على أن الأوقات للافتتاح والخروج، أو للافتتاح فقط؟ فإن قلنا: للمجموع كره، وإلا فلا، وهو الذي صححه الرافعي، وقد يستدل له بما روى أن أبا بكر مد الصبح، فقال له عمر: لقد كاد حاجب الشمس أن يطلع، فقال: لو طلعت الشمس ما وجدتنا غافلين.
قال: ومن شك في دخول الوقت، أي: لكونه محبوساً في موضع لا يتمكن معه من العلم بالوقت، أو كان أعمى وارتجت عليه الدلائل، فأخبره ثقة، أي: بدخول الوقت [عن] علم- عمل به؛ لأنه خبر من أخبار الدين؛ فيرجع فيه المجتهد إلى قول الثقة؛ كما في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد شمل قول الشيخ: "ثقة" الذكر والأنثى، والحر والعبد، وخصص المسلم به؛ إذ الكافر [لا يوثق بخبره]، وكذا البالغ؛ إذ الصبي لا يوثق بخبره، وفيه ما ستعرفه في باب استقبال القبلة.
قال: وإن أخبره عن اجتهاد لم يقلده، بل يجتهد، أي: بما يعتاده من قراءة، أو درس، وعمل منه أو من غيره، ويعمل على الأغلب عنده؛ لأنه يمكنه أداء فرضه بالاجتهاد؛ فلا يسوغ له التقليد؛ كالمجتهد في الأحكام لا يقلد فيها. وفي الأعمى وجه: أنه يجوز له التقليد، ويجوز له الاجتهاد، وصححه الرافعي. وعن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني: أنه لا يجوز الاجتهاد لمن قدر على الدخول في الصلاة في الوقت بيقين؛ كما قيل بمثله فيمن معه ماء طاهر بيقين: لا يجتهد فيما وقع الشك فيه، ويحكي هذا عن ابن المرزبان- أيضاً- والمشهور الأول.
ويستحب له أن يصبر حتى يتحقق دخول الوقت وبقاءه، فلو لم يفعل ذلك وصلى من غير اجتهاد، ثم بان [أن] الوقت قد دخل- لم يصح فرضه، وإن صلى باجتهاد، ولم يظهر له شيءٌ يخالف ما اعتمد عليه، [فإذا ظهر له أنه في الوقت [صح] من طريق الأولى، ولو ظهر له أن صلاته وقعت بعد الوقت، فلا قضاء عليه]، لكن هل ما فعله أداء أو قضاء؟ فيه وجهان، أصحهما في "الرافعي": أنه قضاء حتى لو كان مسافراً يجب عليه إعادة الصلاة تامة إذا قلنا: لا يجوز له قصر الصلاة. قال الأصحاب: وأغنته نية الأداء عن القضاء للضرورة. وإن ظهر أن صلى قبل الوقت: إما بقول ثقة أخبر عن علم، أو بمشاهدته ذلك- فقد أطلق العراقيون والماوردي أنه يعيد.
قال الماوردي: وخالف هذا ما لو تيقن الخطأ في القبلة على أحد القولين؛ لأن
الخاطئ في الوقت فاعل للصلاة قبل وجوبها فلم تجزئه، والخاطئ في القبلة فاعل لها بعد وجوبها فأجزأته.
قلت: وهذا إن خصوه بما إذا ظهر ذلك في الوقت فهو ظاهر، وإن أجروه فيه، وفيما إذا كان بعد فوات الوقت- كما حكى الإمام عن الأصحاب القطع به- فيشكل بصوم الأسير، ولا جرم قال الشيخ أبو محمد: إن الخلاف في مسألة الأسير مذكور فيه، بل هنا أولى من الصوم؛ فإن الأمر فيها أخف؛ ولذلك سقط قضاؤها عن الحُيَّض دون الصَّوم.
وبنى الرافعي هذا الخلاف على الخلاف السابق فيما إذا ظهر: أنه فعلها بعد الوقت، [هل] تكون أداء أو قضاء؟ فإن قلنا: أداء، لا يعيد ها هنا، وإلا أعاد؛ إذ القضاء لا يسبق الأداء.
وقال الإمام في باب استقبال القبلة: الذي أراه في ذلك: أن المجتهد في الوقت إن كان ممن يتأتى منه الوصول إلى اليقين؛ بأن يصبر ساعة، فإذا فرض الخطأ في التقديم، فالوجه القطع بما قاله الأصحاب، والفرق بينه وبين الأسير: أن الأسير لا يمكنه الوصول إلى اليقين، وهذا يمكنه؛ فشرط في صحة الاعتداد بصلاته بالاجتهاد وقوع الإصابة، وكذا يقع بهذا الفرق بينه وبين الخطأ في القبلة. وإن كان المجتهد في موضع لا يتأتى منه الوصول إلى إدراك اليقين، فهو كالأسير. وعلى هذا جرى الغزالي عند الكلام في القبلة.
ثم حيث قلنا: لا يعتد بما أتى به قبل الوقت، فهل يحكم ببطلانه، أو يحكم بانعقاده [نفلا]؟ فيه قولان، أصحهما: الثاني، وهو ما حكاه أبو الطيب في أول صفة الصلاة عن النص. والقولان يجريان فيما لو تعمد الإحرام بالصلاة قبل الوقت مع العلم، لكن أصحهما- في هذه الحالة-: البطلان؛ لأنه كالمتلاعب.
أما إذا كان الشاك في دخول الوقت بموضع يمكنه الوصول إلى العلم بدخول الوقت، فأخبره ثقة بدخوله عن علم، فهل يرجع إليه؟ قال الماوردي: لا، وظاهر كلامه: نعم.
قلت: ويشبه [أن] يبنى ذلك على: أن من قدر على الوصول للصلاة في الوقت يقيناً بالصبر، هل يجتهد؟ فإن قلنا: نعم، جاز الرجوع إليه، وإلا فلا. وإن كان المحبوس لا يتمكن من معرفة الوقت بالاجتهاد، فقد قال ابن الصباغ والمتولي: إن ظاهر نص الشافعي في استقبال القبلة يدل على جواز التقليد له. وحكينا عن أبي حامد منعه؛ لأنه من أهل الاجتهاد؛ فأشبه غير المحبوس، وفارق القبلة؛ فإنه ليس من أهل الاجتهاد فيها.
فرع: إذا سمع من لا يسوغ له التقليد مؤذناً، فهل له أن يقلده ويصلي؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي أبي الطيب" وغيره:
أحدهما: لا؛ لأنه ربما قد أذن باجتهاد، وهذا أخذ من قول الشافعي- رضي الله عنه:"وللأعمى أن يقلد البصير، ويقلد المؤذن"؛ فإنه يفهم أن البصير لا يقلدهما.
والثاني: نعم، وهو ما أورده القاضي الحسين في استقبال القبلة، والبندنيجي هنا.
قال الشيخ أبو حامد: ولا فرق فيه بين البصير والأعمى، وإن كان نصه في "الأم" في الأعمى، وبه قال ابن سريج، قال: ولعله إجماع؛ فإن الناس يحضرون [الجمعة] من صلاة الصبح، ويتشاغلون بالنفل، فإذا أذن المؤذن، عمل الكل على الأذان، ولم يعمل كل واحد منهم على مطالعة الشمس؛ فثبت أنه إجماع.
وفي "الحاوي": أن بعض أصحابنا قال: يجوز الاعتماد عليه في الصحو دون الغيم، وقد أبداه ابن الصباغ احتمالاً لنفسه، وتردد على هذا في الأعمى في وقت الغيم؛ بناءً على أنه هل يجوز أن يقلد أم لا؟ وعليه جرى المتولي.
قال الماوردي: ومذهب الشافعي: أنه إذا سمع المؤذن لا يسعه تقليده؛ حتى يعلم ذلك بنفسه، إلا أن يكون المؤذنون عدداً في جهات شتى، لا يجوز على مثلهم الغلط والتواطؤ.
فرع آخر: هل يجوز أن يعتمد على صياح الديك في وقت صلاة الصبح وقت الغيم؟ قال القاضي في "تعليقه" في باب استقبال القبلة، وتبعه المتولي: إنه ينظر، فإن
اختبره في الأيام المتكشفة، فوجده يصيح في وقت الصبح في جميع الأيام- فإنه يجوز أن يعتمد عليه، وإلا فلا، وعن "فتاويه" حكاية وجهين فيه.
قال: والأفضل تقديم الصلاة في أول الوقت؛ لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 237]، ومن المحافظة عليها الإتيان بها أول وقتها؛ فإنه إذا أخرها عرضها للنسيان، وحوادث الزمان، وقوله تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48]{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] والصلاة من الخيرات وتكسب المغفرة وقوله- عليه السلام: "الْوَقْتُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّلَاةِ رِضْوَانُ الله، وَالْوَقْتُ الْأَخِيرُ عَفْوُ الله" قال الترمذي: هذا حسن غريب. وقد روي أن أبا بكر قال لما
سمعه: " [يا رسول الله،] رضوان الله أحب إلينا من عفوه .. "
وقال الشافعي- رضي الله عنه: الرضوان لا يكون إلا للمحسنين، والعفو يشبه أن يكون للمقصرين.
وعن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ فقال: "الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا"، وفي رواية:"الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا" متفق عليه.
ثم ما المراد بالوقت الأول؟ فيه أوجه:
أحدها- وهو ما حكاه العراقيون-: أن ينصرف منها نصف الوقت أو قبله؛ كما تقدم ذكره عند الكلام في المغرب.
قال الإمام: وهذا بعيد عندي؛ فإن إقامة الصلاة في أول الوقت يقتضي بداراً، ومن أخر الصلاة إلى قريب من نصف الوقت في حكم المؤخر، ثم هؤلاء لاشك أنهم يجعلون البدار أولى، وهذا يقسم الأولى إلى الأفضل وغيره، وهذا وإن استبعده الإمام فلم يحك القاضي الحسين في التيمم غيره، وحمل عليه قول الشافعي:"والسنة أن يصلي فيما بين أول الوقت وآخره" أي: آخر أول الوقت، وقال: إنه لو قال لامرأته: "أنت طالق مع آخر أول الوقت" يقع الطلاق عليها عند انتصاف الوقت.
والثاني: أن تنطبق تكبيرة الإحرام على أول الوقت.
قال الإمام: وهو سرف؛ فإن مريد تحصيلها لا يمكنه الأذان والإقامة ولا إجابة ذلك إن لم يفعله بنفسه؛ وعلى هذا: لا يدرك فضيلة أول الوقت متيمم.
قلت: اللهم إلا أن تجوز صلاة الوقت بالتيمم للفائتة.
والثالث- ذكره صاحب "التقريب"، وهو الأعدل عند الإمام-: أن يشمِّر الإنسان لأسباب الصلاة عقيب دخول الوقت، بحيث لا يعد متوانياً ولا مؤخراً لها، والأذان والإقامة من الأسباب.
وعن الشيخ أبي محمد اعتبار تقدم السترة على الوقت؛ لاستمرار وجوبها، بخلاف الطهارة، ولا يضر في ذلك أكل لُقَمٍ، ومخاطبة إنسان من غير تطويل، وكذا تقديم السنن التي قدمها الشرع عن الفرائض.
وعن الشيخ أبي محمد: أنه كان يميل إلى ضبط الأَوَّلية بنصف الوقت، الذي دخل تحت بيان جبريل، وعليه ينطبق قول ابن الصباغ: وأول الوقت: ما لم يبلغ نصف وقت الاختيار.
قلت: وهذا الوجه [يوافق] الوجه الأول في الظهر، ويخالفه في العصر والعشاء والصبح.
قال القاضي الحسين: ولا خلاف في أنه لو افتتح الصلاة في أول الوقت، وطوَّل القراءة حتى يبلغ الوقت آخره، ثم سلم قبل خروج الوقت أنه يكون مستحبّاً.
قال: إلا الظهر [في الحر] لمن يمضي إلى جماعة؛ فإنه يُبْرِدُ بها؛ لم روى [مسلم عن أبي] ذر الغفاري، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال- عليه السلام:"أَبْرِدْ"، ثم أراد أن يؤذن، فقال: له: "أَبْرِدْ" حتى رأينا فيء التلول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ شِدَّةِ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ؛ فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ".
وعن المغيرة بن شعبة قال: كنا نصلي الظهر بالهاجرة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَبْرِدُوا بِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ".
وقد حكى الإمام عن بعض المصنفين حكاية وجهين في استحبابه في المسجد المطروق الكبير، وهما في "تعليق القاضي الحسين" أيضاً.
وقد أفهم كلام الشيخ أموراً:
أحدها: أن الإبرام بالظهر بالشرط الذي ذكره، أفضل من إيقاعه في أول الوقت، وهو ما قال في "العدة": إن بعض الأصحاب قال: إنه ظاهر المذهب، والرافعي قال: إنه المذهب، وقال الإمام: إنه الذي ذهب إليه معظم الأصحاب. ومنهم من قال: إن التعجيل أفضل، وعبارة القاضي الحسين: أنه لا خلاف في أن الإبراد [مستحب، لكن الإبراد] أفضل أم التعجيل؟ فيه وجهان.
الثاني: أنه لا فرق في ذلك بين البلاد الحارة والباردة والمتوسطة، وهو وجه حكاه الماوردي، والإمام حكاه عن شيخه في البلاد المعتدلة. والذي نص عليه في "الأم"- كما قال أبو الطيب-: اختصاص ذلك بالبلاد الحارة: كالعراق والحجاز، ولم يحك البندنيجي غيره، وكلام الشيخ يجوز أن يحمل عليه؛ لأن بذلك يتحقق وجود الحر.
الثالث: أنه لا فرق بين أن يكون موضع الجماعة قريباً أو بعيداً، وهو قول حكاه أبو الطيب عن رواية البويطي، واختاره في "المرشد"، وبعضهم قال: إنه الأصح، ويشهد له ظاهر الخبر.
والذي نص عليه في "الأم"- ولم يحك البندنيجي غيره-: اختصاص ذلك بالموضع البعيد، وقائله يقول: لعل منازل من [كان زمن] النبي صلى الله عليه وسلم متفرقة بعيدة بعضها من بعض؛ على عادة المسافرين في النزول، والمسافة اليسيرة في البرية- فيما يرجع إلى المشقة- أعظم من المنازل البعيدة في الحضر.
الرابع: إجراء خلاف في استحباب الإبراد بالجمعة؛ لأنها ظهر مقصور- على رأي فتندرج في قوله، وصلاة مستقلة على آخر، وكلامه يفهم إخراج غير الظهر.
وقد صرح بالخلاف فيها غيره من العراقيين والمراوزة، واختار الغزالي: الإبراد. وما ذكرناه من كلام الشيخ يقتضي عكسه، وهو المختار في "المرشد" والأظهر في "الرافعي"، ويشهد له قول سلمة بن الأكوع:"كنا نُجَمِّع مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس" متفق عليه.
الخامس: أن من يصلي في بيته لا يستحب له الإبراد، وبه صرح أبو الطيب- عن نصه في "الأم"- وحكاه القاضي الحسين والمتولي وجهاً مع آخر: أنه يستحب؛ كما في القصر في السفر وإن انتفت منه المشقة.
قال القاضي: وهما مبنيان على أن الجمع بين الصلاتين بعذر المطر، هل يجوز في مسجد في كِنِّ من الأرض، أم لا؟ وفيه قولان: إن قلنا: لا يجوز ثَمَّ، فلا يستحب ها هنا، والذي أورده الجمهور الأول، ومنه يظهر لك: أنه لو كان يمشي في كِنٍّ إلى جماعة لا يستحب له الإبراد، لاستوائهما في نفي المشقة، وهو الصحيح عند المراوزة، ومنه يؤخذ: أن الحد الذي يبرد إليه أن يصير للجدران فيء يمشي فيه، وبه صرح الغزالي والقاضي الحسين، وعبارته في "المهذب" تقرب منه، ويشهد له ما ذكرناه من الخبر، ورواية أبي داود والنسائي، عن ابن مسعود، قال:"كان قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيف ثلاثة أقدام". والشيخ أبو علي حَدّهُ في شرح "التلخيص": بأن يحصل للجُدُر ونحوها فيء يمشي فيه، ولا تخرج الصلاة بسبب ذلك عن نصف الوقت.
قلت: وهذا يظهر أن يكون تفريعاً منه على أن وقت الفضيلة لا يمتد إلى نصف الوقت؛ إذ لو كان كذلك لم يكن الإبراد مستثنى.
ثم الظاهر: أن هذا القائل يحمل قول الشافعي: "ولا يبلغ بتأخيرها إلى آخر الوقت، بل يكون بين الفراغ منها وبين آخر الوقت فصل" أي: حمله على وقت الاختيار، دون وقت الجواز.
ومنهم من أجرى النص على ظاهره، فقال: المعتبر أن ينصرف منها قبل آخر وقتها، وهو ما حكاه البندنيجي وأبو الطيب لا غير، وحكاه مجلي، عن سليم، [عن المذهب].
السادس: أن تأخير الصلاة عن أول الوقت؛ لأجل انتظار الجماعة، أفضل من تعجيلها منفرداً.
وقد قال البندنيجي وغيره في كتاب "التيمم": إنه إن وثق بحصول الجماعة في آخر وقتها، فالأفضل التأخير، وإن أَيِسَ منها؛ فالأفضل التقديم. وإن كان يرجو فعلى قولين: قال في "الأم": التقديم أفضل، وقال في "الإملاء": التأخير أفضل.
ثم اعلم أنه قد يقال: الشيخ لم يستثن من تفضيل التقديم في أول الوقت إلا الظهر في حال الحر، وقد قال في باب صلاة المسافر: المستحب لمن هو سائر: أن يؤخر الأولى على الثانية، وكان ينبغي أن يستثني ذلك- أيضاً.
وجواب هذا: أني قدمته في باب صلاة المسافر.
قال: وفي العشاء قولان:
أصحهما: أن تقديمها أفضل؛ لما ذكرناه في غيرها، وقد روى النسائي، عن النعمان بن بشير قال:"أنا أعلم الناس بميقات عشاء الآخرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثلاث"، وهذا إخبار عن دوام فعله؛ وهذا ما نص عليه في
القديم؛ كما قال البندنيجي وأبو الطيب، وحكاه ابن الصباغ عن "الأم" أيضاً.
والشيخ- في تصحيحه- اتبع أبا حامد وميل كلام ابن الصباغ غليه.
ومقابله منسوب في "الشامل" إلى الجديد، وفي غيره إلى "الأم": أن تأخيرها ما لم يجاوز وقت الاختيار أفضل؛ لما روى جابر: أنه- عليه السلام أعتم ليلة بالعتمة حتى ذهب غابر الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج وصلى، وقال:"إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي" أخرجه مسلم.
قال الماوردي: وكان أبو علي بن أبي هريرة يمنع من جعل المسألة على قولين، ويحملها على حالين: فحيث قال: "التعجيل أفضل"، فهو في حق من يخاف أن يغلبه النوم عليها، وحيث قال:"التأخير أفضل"، فهو في حق من لا يخاف ذلك، وهو ما اختاره في "المرشد"، ومنه يؤخذ: أن النوم قبلها لا يؤثر، ويشهد له أنه- عليه السلام نهى عن النوم قبلها والحديث بعدها؛ كما جاء في الصحيح.
قال: ومن أدرك من الصلاة قدر ما يؤدي فيه الفرض، ثم جن، أي: ودام جنونه إلى أن خرج الوقت، أو كانت امرأة فحاضت- وجب عليهما القضاء، أي: عند الطهر والإفاقة.
هذا الفصل يتضمن مسألتين: إحداهما أصل للأخرى، وتعرض الشيخ للفرع منهما؛ لأنه ينبه على الأصل:
فالأصل منهما: أن الصلاة تجب بما أدركه المكلف من وقتها وجوباً موسعاً، إن
كان في الوقت فضلة عن مقدارها، بأن دخل الوقت وهو مكلف، أو دخل وهو غير مكلف، [ثم] وجدت شرائط التكليف في أثنائه وفي الوقت اتساع، ووجهه: قوله- تعالى-: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 77]، وهذا أمر وظاهره الوجوب، وقوله- عليه السلام:"الشفق: الحمرة، فإذا غاب الشفق؛ فقد وجبت الصلاة"، وقول جبريل لنبينا صلى الله عليه وسلم حين بيَّن له في اليومين أول الوقت وآخره:"ما بين هذين وقت"، أي: وقت للوجوب والأداء؛ لأنه قصد بيان الأمرين، ولأن الوجوب أصل والأداء فرع، فلما كان أول الوقت يتعلق به الأداء- وهو فرع- لم يجز أن ينتفي عنه الوجوب، الذي هو أصل.
ثم المعنيُّ بكونه موسعاً: أن المكلف مخير بين أن يوقعها في أول الوقت أو أثنائه أو آخره، لكن هل يجب عليه- إذا لم يفعل في أول الوقت- نية الفعل في الوقت أم لا؟ فيه وجهان في "الحاوي"، المذكور منهما في "تعليق أبي الطيب" الوجوب.
وإذا فعلها في أول الوقت، ثم أفسدها، قال القاضي الحسين في ول باب صفة الصلاة، وتبعه المتولي: يجب عليه أني صليها في الوقت ثانية بنية القضاء؛ لأنها قضاء لا أداء؛ وكذا قال في أثناء الباب: أما إذا قلنا: يصح القضاء بنية الأداء، والأداء بنية القضاء، فلو أفسد صلاة الوقت فأراد قضاءها، فمقتضى قول أصحابنا: أنه ينوي القضاء؛ لأنه يقضي ما التزمه في الذمة؛ لأن الشروع يلزم الفرض في الذمة؛ بدليل أن
المسافر لو نوى إتمام الصلاة، وشرع فيها، ثم أفسدها- لا يقضيها مقصورة بل تامة؛ لأنه التزم الإتمام؛ وهذا ما أورده المتولي، أيضاً.
والفرع منهما- ما صرح به الشيخ-: أنها تستقر بإمكان الأداء، ووجهه: أنها وجبت عليه، وتمكن من أدائها؛ فاستقرت في ذمته؛ كما لو هلك النصاب بعد الحول والتمكن؛ وهذا ما نص عليه الشافعي، رضي الله عنه.
وخرج ابن سريج قولاً آخر من نصه في الشخص إذا سافر بعد إمكان فعل الصلاة: "أن له القصر": أنه لا يستقر الوجوب إلا أن يخرج الوقت من غير عذر يمنع الوجوب، والفرق بينه وبين الزكاة: أن أداءها على الفور، بخلاف الصلاة.
والصحيح الأول: لما ذكرناه، وخالف القصر في الصلاة؛ لأن القصر من صفات الأداء: كالصحة والمرض، ولا كذلك ما نحن فيه.
أما إذا أدرك من وقت الصلاة قدر ما يؤدي فيه الفرض، ثم جُنَّ وأفاق؛ فالذي يظهر أن يقال: يجب عليه أن يأتي بها في الوقت أداء لا قضاء، بخلاف الصورة التي حكينا فيها عن القاضي ما سلف؛ لأنه ثَم عيّن الوقت بشروعه.
ثم من المعلوم أن الجنون إذا لم يمنع وجوب القضاء في الصورة التي ذكرها، فالإغماء أولى؛ لأنه دونه؛ ولهذا لا يمنع قضاء الصوم على رأي دون الجنون.
والنفاس كالحيض كما تقدم.
والموت يلحق بذلك إن قلنا: إن من مات وعليه صلاة يصلي عنه، أما إذا قلنا: لا يصلى عنه- كما هو المشهور- ففائدة الاستقرار عند بعض الأصحاب: الحكم بتأثيمه، وعند قوم: لا فائدة له، وهم القائلون: بأنه إذا مات في أثناء الوقت لا يقضي، وهو الصحيح، بخلاف نظيره في الحج، والفرق مذكور فيه.
فلو أدرك من وقت الصلاة قدر ما يؤدي فيه بعض الفرض، ثم طرأ الجنون أو الحيض أو [ما] في معناهما- فلا يجب القضاء على المنصوص في "الإملاء"، وعليه عامة أصحابنا؛ كما في الزكاة والحج والصيام.
وعن أبي يحيى البلخي: أنها تجب بإدراك بعض الوقت وجوباً مستقراً، وليس إمكان الأداء فيها معتبراً؛ كما في آخر الوقت.
قال الرافعي: وحكاه ابن كج، عن غيره من الأصحاب، وقد قيل: إن البلخي رجع عنه.
والأصحاب فرقوا بين أول الوقت وآخره: بأنه في آخره يمكنه البناء لو شرع، ولا كذلك في أوله، ولا تفريع على هذا.
وعلى مذهب البلخي: يلزمه العصر إذا أدرك من وقت الظهر ما يسع الصلاتين؛ كما قاله أبو الطيب وابن الصباغ، قال أبو الطيب: وهو فاسد؛ إذ يلزمه أن يقول: يلزمه العصر إذا أدرك من وقت الظهر خمس ركعات؛ كما في العصر.
قلت: وهذا من القاضي مشعر بأنه لا يقول بذلك، وقد حكى غيره عنه أنه قال:[إنه] يكون مدركاً للعصر بإدراك ركعة من وقت الظهر على قول، وبإدراك قدر تكبيرة على آخر؛ بناءً على أنه يدرك العصر بإدراك ذلك من آخر وقته، ويدرك بذلك- أيضاً- الظهر.
وعلى هذا ففساد مذهبه بالفرق بين ما نحن فيه وبين إدراك الظهر بما يدرك به العصر، وهو [أن] وقت العصر- تقديماً- تبعٌ لفعل الظهر؛ بدليل عدم صحة العصر قبل الظهر [في] وقت الظهر جمعاً.
ووقت الظهر- تأخيراً- ليس تبعاً لفعل العصر؛ بدليل صحته قبل العصر [جمعاً]، وإذا كان كذلك فوقت العصر وقت الظهر؛ فلزم بإدراكه الصلاتان، ووقت الظهر ليس وقتاً للعصر؛ فلا يلزم من إدراكه الصلاتان.
تنبيه: الألف واللام في "الفرض"[الظاهر] أنها [هنا] مستعملة للعهد، وهو فرض الصلاة، ومقتضاه: أن يستقر في الذمة بمضي قدر الصلاة فقط، ولا يعتبر قدر مضي الطهارة والستارة، وهو ما جزم به غيره في الستارة؛ لتقدم إيجابها على وقت الصلاة، وقال في الطهارة: إن كان الشخص مما لا صح منه فعلها قبل الوقت: كالمتيمم والمستحاضة، فلابد من اعتبار مضي زمانها، وإن كان ممن يصح منه قبل الوقت، فهل يشترط مضي زمانها؟ فيه وجهان، وهذه طريقة المتولي.
والقاضي الحسين أطلق ذكر الوجهين من غير تخصيص بهذه الحالة.
والرافعي قال: إن كان ممن لا يصح منه [فعل] الطهارة قبل الوقت، فلابد من اعتبار زمانها، وإلا فلا يعتبر.
قلت: ويشبه أن تكون مادة الخلاف في حق من يصح منه تقدم الطهارة على الوقت: أن الطهارة هل تجب بنفس الحدث، أو تجب عند دخول وقت الصلاة على من كان محدثاً؟ وفيه وجهان حكاهما البندنيجي في الباب، وقال: إن المذهب الثاني؛ فإن قلنا: تجب بنفس الحدث؛ فلا يشترط مضي زمن الطهارة؛ لسبق وجوبها؛ كالستر، وإلا وجب اعتباره.
وعلى هذا يجوز أن تكون الألف واللام في "الفرض" لاستغراق ما يجب بدخول الوقت وهو الصلاة والطهارة لها.
وكيف كان الحال، فالمعتبر من [قدر الصلاة] قدر وقت أخف صلاة. نعم، لو كان مسافراً والصلاة مما تقصر، فهل المعتبر قدر صلاة الحضر أو السفر؟ الذي ذكره الرافعي وصاحب "الكافي": الثاني، والأول محال يظهر مما سنذكره عن الإمام في الباب، وعن غيره في باب صلاة المسافر.
قال: وإن بلغ صبي- أي: لم يصلِّ في أول الوقت- أو أسلم كافر، أو طهرت حائض أو نفساء، أو أفاق مجنون أو مغمى عليه قبل طلوع الشمس بركعة- أي:
بقدر ركعة- لزمهم الصبح؛ لقوله- عليه السلام: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْح قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ العَصْرَ".
وقيل: يعتبر أن يدرك مع ذلك قدر الطهارة، وهذا ما يعزى إلى القديم.
قال الإمام: والأصح الأول؛ لأن الطهارة ليست شرطاً في لزوم الصلاة والخطاب بها، وإنما هي شرط في صحتها وعقدها؛ إذ الصلاة تجب على المحدث، ويعاقب على ترك التوصل إليها. وفيه نظر [يظهر] لك مما قاله الأصحاب في الرد على البلخي.
ثم ما ذكره الشيخ إنما يتم إذا بقي من زال عذره على صفة التكليف إلى أن يمضي مقدار الصلاة؛ كما قاله القاضي أبو الطيب والقاضي الحسن وغيرهما، وكذا قدر الطهارة؛ كما قاله في "الكافي".
فلو طرأ عليه- بعد ذلك- ما يمنع الوجوب ابتداء، فلا يجب القضاء؛ لعدم التمكن من الإتمام؛ كما قلنا في أول الوقت.
قال: وإن كان بدون ركعة، ففيه قولان، أي: في الجديد؛ كما قال الماوردي.
وجه المنع- وهو المذكور في القديم؛ [كما قال الماوردي]، واختيار المزني، والصحيح عند أبي إسحاق؛ كما قال أبو الطيب: مفهوم الخبر، والقياس على الجمعة.
ووجه الوجوب، وهو المنصوص في استقبال القبلة في [باب] الغلبة على العقل، والصحيح عند أبي حامد؛ كما قال أبو الطيب: قوله- عليه السلام: "إِذا أدرك أحدكم سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ العَصْرِ- قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ- فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ [صَلَاتَهُ] " أخرجه البخاري.
وجه الدلالة منه: أنه ألزمه الإتمام بسجدة، وليست مما ينعقد بها ركعة؛ فدل على أن المعتبر قدر من الصلاة، ولأن الإدراك إذا تعلق به إيجاب؛ استوى فيه الركعة وما دونها؛ كما في اقتداء المسافر بالمقيم، وبهذا خالف ما نحن فيه الجمعة؛ لأن الإدراك فيها، إدراك إسقاط؛ فغُلِّظ فيه، وما نحن فيه إدراك إيجاب، فشابه المسافر، وهذا الفرق حكاه الماوردي عن ابن أبي هريرة، وحكى عن أبي إسحاق فرقاً آخر: أن الجمعة لما لم يجز أن يأتي ببعضها خارج الوقت غلظ حكمها، ولا كذلك غيرها.
وعلى هذا يأتي في اشتراط زمن الطهارة القول السالف، وبه صرح القاضي الحسين.
ثم المعتبر من الركعة ماذا؟ المشهور: أنها المشتملة على أقل ما يجزئ، وهل يشترط فيها زمن الرفع من الركوع والسجود كما هو في إدراك الجمعة، أو يكتفي بإدراك القيام والقراءة والركوع فقط؛ كما في إدراك المسبوق الركعة؟ هذا لم أَرَ للأصحاب فيه تصريحاً به، والقياس على الجمعة يقتضي إلحاق ما نحن فيه بها، وكلام الإمام الآتي يقتضي خلافه.
وعن الشيخ أبي محمد: أن المعتبر ركعة من العقد والهُوِي من غير قيام وقراءة نظراً إلى ركعة المسبوق، وقد استبعده الإمام.
والمعتبر في إدراك ما دون الركعة إدراك تكبيرة الإحرام وما فوقها مما لم ينته إلى قدر ركعة.
وحكى الإمام عن شيخه: أنه كان يتردد فيما إذا فرض فارض إدراك ما يسع بعض تكبيرة، وقال: إن فيه احتمالاً.
قال: وإن كان ذلك- أي: وزال العذر على النحو الذي سلف- قبل الغروب، أو قبل طلوع الفجر بركعة- لزمهم العصر والعشاء: أما العصر فبإدراك ما قبل الغروب؛ كما دل عليه الخبران وأما العشاء فبإدراك ما قبل الفجر بالقياس.
قال: وفي الظهر والمغرب قولان:
أحدهما: يلزم بما يلزم به العصر والعشاء؛ لأنه روي عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس- رضي الله عنهما أنهما قالا في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر بركعة: يلزمها المغرب والعشاء؛ ولأن وقت العصر وقت الظهر في حق أرباب الأعذار، وكذا وقت العشاء وقت للمغرب في حقهم وهؤلاء منهم، وهذا ما نص عليه في "الجديد" وفي "الأم".
فإن قلت: المسافر ربُّ عذرٍ، وهؤلاء أرباب ضرورات، فهم غيره.
قلت: قال الإمام: لا يبعد جعلهم كهو حتى كان من زالت ضرورته؛ في حكم من أخر الصلاة بعذر إلى آخر الوقت.
قال بعضهم: ولقائل أن يقول: ذلك اعتبار تخفيف في الأداء، وهذا اعتبار التزام؛ فلا يشبه أحد الحكمين الآخر، وأيضاً فالمسافر يؤخر ترخيصاً مع توجه الخطاب، بخلاف أرباب الضرورات؛ فكان اللائق بحالهم التخفيف لا التغليظ، ثم كيف يستقيم أن تجعل التكبيرة تحريمة لصلاتين، حتى لزما جميعاً بقدرها؟
قال: والثاني: بقدر خمس ركعات؛ ليتصور الفراغ من إحداهما فعلاً، وإدراك الأخرى بركعة. وهذا من الشيخ ملاحظة لأصلين:
أحدهما: أن الإدراك لا يحصل إلا بركعة، أما إذا قلنا: إنه يحصل بدونها، فالمعتبر
إدراك قدر أربع ركعات وتكبيرة؛ كما خرجه أبو إسحاق.
والثاني: أن الصلاة التي يعتبر فراغها المدْرَكُ وقتها حقيقة، والتي يعتبر الشروع فيها التابعة لها، وهي طريقة أبي إسحاق، وعبر عنها الإمام بقول مخرج من معاني كلام الشافعي.
أما إذا قلنا بالطريقة المشهورة، وهي طريقة ابن أبي هريرة- قال الماوردي وجمهور أصحابنا: إن التي يعتبر الفراغ منها الأولى، والتي يعتبر الشروع فيها صاحبة الوقت، فالحكم بالنسبة إلى إدراك الظهر والعصر لا يختلف، وأما بالنسبة إلى المغرب والعشاء: فإدراكهما يكون بإدراك مقدار أربع ركعات، وهو ما حكاه أبو الطيب والبندنيجي، وفي "المهذب" عن النص في القديم، وقال الإمام: إنه قول مخرج من معاني كلام الشافعي. وصححه.
ومقابله مرجوح باتفاق الأصحاب، وبعضهم زعم: أنه غلط مخالف للسنة والمذهب: أما السنة؛ فلأنه- عليه السلام جعل العصر مُدْرَكاً بركعة، وأما المذهب؛ فلما ذكرناه.
وجعل المتولي القولين في الأصل مبنيين عليه، يدل على أنه غلط- أيضاً- فإنه قال: القولان في أنه: هل يدرك الظهر بما يدرك به العصر، أو بإدراك خمس ركعات- ينبنيان على أن الجمع بين الظهر والعصر في وقت [العصر] هل يشترط فيه التقديم؛ كالجمع في وقت الأولى، أو لا؟ فيه قولان.
فإن قلنا: لا يشترط- وهو الصحيح- فجميع وقت العصر وقت للظهر، ويلزمه الظهر بما يدرك به العصر؛ لأنه صالح لكل من العبادتين.
وإن قلنا: يشترط تقديم الظهر، فجميع وقت العصر وقت للظهر إلا مقدار ما يصلي فيه العصر؛ فلا يلزمه الظهر إلا بإدراك خمس ركعات، ويلزمه المغرب بإدراك أربع ركعات على وزان ذلك.
وكيف كان الأمر، فالقول السالف في اعتبار زمن الطهارة مصرح به هنا أيضاً.
وقد حكي عن صاحب "الإفصاح" أنه يلزمه الظهر والعصر بإدراك مقدار أربع ركعات من وقت العصر، والمغرب والعشاء بمقدار ثلاث ركعات، وقياس ما تقدمت حكايته عن الشيخ أبي محمد من تعلق الإدراك بركعة المسبوق، أن نعلق الإدراك في الظهر والعصر على طريقة من يعتبر خمس ركعات بثلاث [ركعات]؛ اعتباراً بصلاة المسافر، [و] على طريقة من يعلقه بأربع ركعات وتكبيرة، نعلقه بركعتين وتكبيرة.
وعلى طريقة من يعلقه بأربع ركعات فقط نعلقه بركعتين فقط؛ نظراً [لما] ذكرناه، وقياسه يطرد في المغرب والعشاء.
وقد أشار الإمام إلى هذا الاحتمال، وقال: إن في مذهب الصيدلاني إشارة إليه وإن لم يكن مصرحاً به.
وإذا تأملت ما ذكرناه من قول ووجه وولدته، وأردت أن تعرف ما قيل فيما تدرك الصلاة به عند زوال المانع في آخر وقتها من قول ووجه- قلت: في الصبح ثمان مقالات:
تدرك بمقدار بعض تكبيرة بذلك وبمقدار الطهارة بتكبيرة بذلك وطهارة بركعة مسبوق بذلك وطهارة بركعة تشتمل على أقل ما يجزئ بذلك وطهارة.
وفي الظهر هذا الخلاف إذا زال المانع في آخر وقته وإن زال في آخر وقت العصر ففيما يدرك به العصر هذا الخلاف، وفيه مع الظهر عشرون قولاً ووجهاً: الثمانية السالفة.
والتاسع: بإدراك ركعتين فقط؛ تركيباً من طريقة الصيدلاني وصاحب "الإفصاح"؛ كما سلف.
والعاشر: بذلك وقدر طهارة.
والحادي عشر: بإدراك أربع ركعات وبعض تكبيرة.
والثاني عشر: بذلك وطهارة.
والثالث عشر: بإدراك أربع ركعات وبعض تكبيرة.
والرابع عشر: بذلك وطهارة.
والخامس عشر: بإدراك أربع ركعات وتكبيرة.
والسادس عشر: بذلك وطهارة.
والسابع عشر: بإدراك خمس ركعات، إحداها ركعة مسبوق.
والثامن عشر: بذلك وطهارة.
والتاسع عشر: بإدراك خمس ركعات مشتملة على أقل ما يجزئ.
والعشرون: بذلك وطهارة.
وفي المغرب وحدها ما سلف في الصبح وحده إن زال العذر في وقتها، وإن زال في وقت العشاء ففيما تدرك به العشاء ما سلف فيما يدرك به العصر وحده، وفيها مع المغرب- على طريقة الشيخ- ما سلف في الظهر مع العصر، وعلى الطريقة المشهورة [اثنتا عشرة مقالة]:
يدركهما بثلاث ركعات، بذلك وزمن الطهارة، بثلاث ركعات وبعض تكبيرة، بذلك وطهارة بثلاث ركعات وتكبيرة، بذلك وطهارة بأربع ركعات إحداها ركعة مسبوق، بذلك وطهارة بأربع ركعات متساوية، بذلك وطهارة، وبهذه يكمل فيما يدرك به المغرب والعشاء [اثنان و] ثلاثون قولاً ووجهاً.
قال: ومن لم يصل حتى فات الوقت، وهو من أهل الفرض، بعذر أو غير عذر- لزمه القضاء:
أما في الأولى؛ فملا روى البخاري ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لا كَفَّارَةَ لَهَا إِلا ذَلِكَ"، ثم قال: سمعته يقول بعد ذلك: "فإن الله يقول: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] "، وزاد مسلم في رواية عن أنس- أيضاً-: "مَنْ نَامَ، أَوْ نَسِيَ
…
" وتتمم الحديث.
وعن جابر بن عبد الله قال: جاء عمر بن الخطاب- رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فجعل يسب كفار قريش، ويقول: يا رسول الله، ما صليت صلاة العصر حتى كادت الشمس أن تغيب، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"وَأَنَا وَاللهِ مَا صَلَّيْتَهَا بَعْدُ" قال: ونزل بُطَحان فتوضأ، وصلى العصر بعد ما غابت الشمس، ثم صلى المغرب بعدها. أخرجه البخاري ومسلم.
وبطحان: بضم الباء، وأهل اللغة يفتحونها، وهو واد بالمدينة.
فدل قوله- عليه السلام وفعله [على قضاء] ما فات بالعذر.
وأما في الثانية؛ فلأنه إذا وجب عند العذر فبدونه مع عدوانه أولى أما إذا لم يكن من أهل الفرض [فلا يجب عليه القضاء].
وكذا الصبي المأمور بالصلاة لا يجب عليه القضاء من جهة الشرع، لكن هل يأمره الولي به؟ ذكر الجيلي فيه وجهين عن "فتاوى الروياني" والله أعلم.
قال: والأولى أن يقضيها مرتباً؛ لأنه- عليه السلام قضى العصر في وقت المغرب، ثم صلى المغرب بعدها كما ذكرنا.
وروى النسائي وغيره: أنه- عليه السلام شغله المشركون يوم الخندق عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله، وأمر بلالاً فأذن وأقام وصلى الظهر، ثم أمره فأقام فصلى العصر، ثم أمره فأقام فصلى المغرب، ثم أمره فأقام فصلى العشاء، [ثم] قال:"صلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي".
فإن قيل: هذا يدل على الوجوب.
قلنا: فعله- عليه السلام عند أكثر أصحابنا لا يدل عليه، [وإن دل عليه] عند قوم حملناه هنا على الندب؛ لأن الترتيب استحق لضرورة الوقت؛ فإنه حين وجب الظهر لم يجب العصر؛ كما أن صوم يوم من رمضان يجب بدخوله دون ما لم يأت، والصوم إذا فات لا يجب الترتيب في قضائه؛ فكذا الصلاة، ويشهد له ما روى الدارقطني بسنده عن مكحول عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ
فَتَذَكَّرَهَا وَهُوَ فِي صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فَإِنَّهُ يَبدَأُ بِالَّتِي هُوَ فِيهَا فَإِذَا فَرَغَ مِنها صَلَّى التي نَسِيَ".
قال: إلا أن يخشى فوات الحاضرة فيلزمه البُداءة بها؛ لأن الوقت قد تعين لها فقدمت؛ كما لو أدرك رمضان وعليه قضاء رمضان، والفوات يتحقق بأن يبقى من الوقت لو صلى الفائتة دون ركعة، وكذا لو بقي قدر ركعة على رأي.
والمذهب: لا؛ بناءً على أنها كلها أداء.
وقيل: إذا فاتت بغير عذر، وقلنا: يجب القضاء على الفور- يخير بين فعل الفائتة والحاضرة؛ لأنه عاصٍ بتأخيرهما؛ قاله القفال، وفيه نظر.
وعلى الأول: لو كان قد شرع في فائتة لظنّ أن الوقت يتسع للحاضرة، فبان قصره بانجلاء الغيم- سلّم منها، وشرع في الحاضرة؛ قاله البغوي في باب صلاة الجماعة.
والصواب في "البداءة" ما ذكرناه: [المد وضم الباء، وتقع في النسخ: "البداية" بالياء، وهو لحن].
قال: والأولى أن يقضيها على الفور؛ تداركاً لما وقع من الخلل، وتعجيلاً لبراءة الذمة، والخبر يدل عليه.
قال: فإن أخرها جاز؛ لأن القضاء وجب بالأمر المحدود، وهو قوله- عليه السلام:"مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا .. " الخبر، ويتعين وقت الذكر فيه استحباباً؛ يدل عليه؛ أنه- عليه السلام فاتته صلاة الصبح بالوادي، فلم يقضها حتى خرج منه، وإذا كان كذلك بقي الأمر به مطلقاً، وهو لا يقتضي الفور عندنا، فظاهر كلام الشيخ: أنه لا فرق في ذلك بين المعذور وغيره، وهو ما دل عليه كلام المزني في باب تارك الصلاة، وأشار إليه أبو الطيب في باب صلاة المسافر، عند الكلام فيما إذا فاتته صلاة في الحضر، فذكرها في السفر؛ حيث قال: لا فرق عندنا في الصلاة بين أن يتركها عمداً أو بعذر إلا في شيء واحد: وهو الإثم وعدمه.
وقيل: إن فاتت بغير عذر، لزمه قضاؤها على الفور؛ لأن توسعة الوقت في القضاء رخصة؛ فلا تتعلق بفعل المعاصي، وهذا ما حكاه في "المهذب" عن أبي إسحاق، وجزم به القاضي أبو الطيب والمراوزة في باب تارك الصلاة، واختاره في "المرشد"، واستدل له الإمام في كتاب الحج بأن المصمم على ترك القضاء مقتول عندنا، ولا يتوجه هذا إلا مع توجه الخطاب بمبادرة القضاء.
وفي "الكافي" حكاية وجه [آخر]: أنه يجب القضاء فيما إذا فاتت بعذر؛ لظاهر الخبر، وبه يحصل في المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها: إن فاتت بعذر وجبت على الفور، وإلا فلا.
قال: ومن نسي صلاة من الخمس، ولم يعرف عينها- لزمه أن يصلي الخمس؛ لأن ما من صلاة منها إلا ويجوز ألا يكون قد فعلها، والأصل شغل ذمته بها، فيأتي بها وينوي أنها الفائتة؛ إذا قلنا: لابد من نية القضاء أو الأداء.
وما ذكره الشيخ نص عليه في "الأم"؛ كما حكاه أبو الطيب في أول باب صفة الصلاة، والحكم لا يختص بهذه الصورة، بل لو نسي صلاة من صلاتين لا يعرف عينها، صلاهما، وكذا لو نسي صلاتين من يوم واحد صلى الخمس، ولو كانتا من يومين: فإن اختلفتا فكذلك، وإن اتفقتا لزمه أن يصلي عشراً.
وقد خالف المزني في مسألة الكتاب، وقال: يكفيه أن يصلي أربع ركعات ينوي بها الفائتة، ويجهز في الأوليين، ويجلس في الثالثة والرابعة، ويسجد للسهو، ويسلم؛ لأن الفائتة إن كانت صبحاً، فقد أتى بها وزيادة ركعتين على وجه الشك؛ فلا يضر كزيادتهما سهواً، والسجود يجبره. وكذا إن كانت مغرباً، فالركعة الزائدة على وجه الشك فكانت كالزائدة سهواً. وإن كانت ظهراً أو عصراً أو عشاء، فالزائد تشهُّدٌ على وجه الشك؛ فكان كالسهو.
وإنما قلنا: يجهر؛ لأن أغلب الصلوات الخمس جهرية.
قال الأصحاب: وهذا غلط؛ لأنه لا يشبه الزيادة على وجه السهو؛ فإن السهو لا
يؤمن في القضاء، وهذا يؤمن، فيمكن الاحتراز عنه.
فرع: من عليه فوائت لا يعرف عددها، قال القفال: يقال له: اقض ما تحققت تركه.
قيل: وهو أشبه بالمذهب؛ لأن من شك [في] أنه ترك شيئاً من فروض الصلاة بعد السلام، لا يلزمه الإعادة.
وقال القاضي الحسين: عندي يقال له: اقض ما زاد على ما تحققت فعله.
قيل: وهذا أحوط.
قال القاضي: وما قاله القفال يخرج على القديم في أن من شك هل ترك ركناً من الصلاة أم لا؟ يلزمه الإعادة، وفي الجديد: يلزمه الاستئناف. والله أعلم.
***