الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الحيض
هذا الباب مترجم بالحيض، وأودع فيه الاستحاضة والنفاس؛ ليتميز الحيض عنهما.
وأصل الحيض: السيلان، تقول العرب: حاضت الشجرة: إذا خرج صمغها وسال [منها]، وحاض السيل: إذا فاض السيل، وسال من مجتمع الأمطار.
وله ستة أسماء: الحيض، والعراك، والضحك، والإكبار، والإعصار، والطمث.
وفي الحديث: أنه- عليه السلام قال لعائشة "أَنَفسْتِ؟ "، ومقتضاه: أن يسمى نفاساً أيضاً، وبه صرح الإمام؛ لأجل الخبر.
وهو دم مجتمع في قعر الرحم، ترخيه في سن البلوغ، يدفع على سبيل الصحة من [غير سبب] ولادة، وتعتاده في أوقات معلومة.
قال الجاحظ في كتاب "الحيوان": الذي يحيض من الحيوان أربعة: المرأة، والضبع، والأرنب، والخفاش.
قيل: أول من ابتلي به من النساء أمنا حواء: لما كسرت شجرة الحنطة ودمت الشجرة، قال الله- تعالى-:"وَعِزَّتِي وَجَلَالي لَأُدمِيَنَّكِ كَمَا أَدْميتِ هَذِهِ الشَّجَرَةَ"
فابتليت به حواء وجميع بنات آدم إلى قيام الساعة.
والاستحاضة: سيلان الدم في غير أوقاته- عن مرض وفساد- من عرف فمه في أدنى الرحم، يسمى: العاذل بكسر الذال المعجمة.
والنفاس سنذكر في الباب تفسيره واشتقاقه، إن شاء الله تعالى.
وما عدا هذه الدماء إذا خرج من الفرج، فهو دم فساد، كالدم الذي يخرج من النساء قبل سن البلوغ.
قال: أقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين؛ كذا دل عليه الاستقراء.
قال الشافعي: أعجل من سمعت من النساء تحيض: نساء "تهامة" تحيض لتسع سنين.
فظاهر كلام الشافعي يقتضي أن الحيض يقع بعد استكمال التسع في العاشرة؛ لأنه الحقيقة.
وكلام الشيخ يقتضي أنها إذا رأت الدم في التسع كان حيضاً؛ لأنه جعل أقل السن وهو التسع ظرفاً للحيض، ولا قائل بأن كل التسع ظرف.
[نعم] ذهب [بعض] أصحابنا إلى أن التاسعة ظرف [له] فإذا رأت الدم فيها عد حيضها، واختاره في "المرشد"، ولعله مراد الشيخ وإن كان لفظه ينبئ عنه.
وبعضهم ذهب إلى أن ما بعد ستة أشهر منها ظرف له، وهو ما حكاه الإمام في كتاب اللعان عن كثير من الأصحاب.
والأصح في "التهذيب" و"الرافعي" وغيرهما ما قلنا: أن ظاهر كلام الشافعي- رضي الله عنه يقتضيه.
والكلام في السن الذي تبلغ فيه بالاحتلام إذا رأيناه بلوغاً في حقها كالكلام في سن الحيض، والصبي ملحق- عند الشيخ أبي حامد- بالصبية في ذلك.
وغيره فرق: فجعل سن البلوغ في حقه عشر سنين، وقد تقدم الكلام فيه، في باب الحجر. ثم التسع في حق الصبية تقريب أو تحديد؟ فيه [وجهان:].
فإن قلنا بأنه تقريب وهو ما رجحه الرافعي والروياني فلا يؤثر نقصان اليوم واليومين؛ كما قاله الماوردي فإذا رأت الدم قبله بيوم أو يومين كان حيضاً.
والمتولي [قال:] إن قلنا: إنه تقريب ففائدته: أنها إذا رأته قبله بزمان لا يسع طهراً وحيضاً- يكون حيضاً، دون ما إذا كان يسعهما، وهذا ما أورده الرافعي.
وفي "البحر" حكاية الأمرين.
وإن قلنا: إنه تحديد، قال في "الحاوي" يتغير الحكم بنقصان يوم.
وحكي أن الشافعي- رضي الله عنه قال: إذا رأت الدم قبل استكمال تسع سنين، فهو دم فساد، ولا يقال له: حيض ولا استحاضة؛ لأن الاستحاضة لا تكون إلا على أثر حيض؛ ولأجل هذا أطلق الجمهور: أنها إذا رأت الدم قبل التسع، فهو دم فساد.
وقال في "البحر" و"التتمة": إنا إذا قلنا إنها تحديد، فلو رأت قبلها يوماً وليلة دماً، وبعدها على الاتصال أقل من يوم وليلة فالكل دم فساد، وإن رأت قبلها أقل من يوم وليلة وبعدها يوماً وليلة فالكل حيض، وإن رأت قبلها وبعدها دماً مجموعه يوم وليلة،
ولا يبلغ واحد منهما أقل الحيض، فهل هو حيض أو استحاضة؟ فيه وجهان.
وقياس قول الشافعي- رضي الله عنه أن يقال: هل هو حيض أو دم فساد؟ فيه وجهان.
ثم ظاهر كلام الشيخ: أن المرأة إذا رأت الدم فيما ذكره من السن يكون حيضاً سواء في ذلك من هي في البلاد الحارة: كتهامة، أو في البلاد الباردة: كالصين، وهو ما عليه الجمهور.
وعن الشيخ أبي محمد حكاية وجهين، فيما إذا رأت ذلك في البلاد الباردة، التي لا يعهد في مثلها أمثال ذلك.
قال الإمام: وهذا له التفات على أن سن الإياس في الحيض يعتبر فيه بعض نساء العالم، أو نساء القطر والناحية، أو نساء العشيرة؟
قال: وأقل الحيض يوم وليلة، ودليله- أيضاً- الاستقراء.
وروي عن علي أنه قال: أقل الحيض يوم [وليلة] وأكثره خمسة عشر يوماً، وما زاد على ذلك فهو استحاضة، كذا حكاه عنه القاضي الحسين والماوردي.
وعن أبي عبد الله الزبيري من أصحابنا أنه قال: في زماننا من تحيض يوماً وليلة، وفيهن من تحيض خمسة عشر يوماً، وهذا ما نص عليه الشافعي في عامة كتبه.
وقال في كتاب الحيض من "الأم": وأقله يوم؛ كذا حكاه أبو الطيب.
والماوردي قال: إنه نص في "الأم" و"المختصر" على أن أقله يوم وليلة، ونص في كتاب العدد على أن أقله يوم.
فمن الأصحاب من جمع بين النقلين، وأثبت في المسألة قولين، وهي طريقة بعض المتقدمين من الأصحاب، كذا حكاه عنه أبو إسحاق المروزي.
قال البندنيجي: وهي فاسدة؛ لأن هذا إنما يثبت بالعادة، ولا يصح أن يقع عرف
العادة على وجهين.
ومنهم من قال: إنها على قول واحد: أن أقله يوم، وحيث قال الشافعي:"يوم وليلة" كان لم يثبت عنده وجوده يوماً فقط.
وقد روي أنه قال: "رأيت امرأة، ثبت لي عنها: أنها لم تزل تحيض يوماً لا تزيد عليه".
وقال عطاء: "رأيت من النساء من تحيض يوماً، ومن تحيض خمسة عشر يوماً.
وقال الأوزاعي: "كانت عندنا امرأة تحيض بالغداة، وتطهر بالعشي"؛ وهذا ما اختاره في "المرشد"، وقال في "الشامل": إنه قال به أكثر الأصحاب.
ومنهم من قال: إنها على قول واحد، وهو ما ذكره الشيخ، وحيث قال:"أقله يوم"[أراد] بليلته؛ لأن العرب كثيراً ما تفعل ذلك، وهذا ما صححه البندنيجي والماوردي والرافعي والقاضي [الحسين] وعليه تفاريع الحيض، وهذه الطريقة
تعزى إلى المزني وابن سريج.
وقد حكى المرعشي في ترتيب الأحكام عن الشافعي نصاً لا تخريجاً: أن أقله دفعة؛ كما في النفاس وهو غريب.
قال: وأكثره خمسة عشر يوماً، دليله الاستقراء.
قال الشافعي: رأيت نساء أثبت لي عنهن: أنهن لم يزلن يحضن خمسة عشر يوماً، ورأيت امرأة اثبت لي عنها أنها تحيض ثلاثة عشر يوماً.
وروي عن شريك قال: رأيت امرأة تحيض خمسة عشر [يوماً] حيضاً [صحيحاً] مستقيماً. وما ذكرناه عن [عَلِيَّ] وعطاء يدل عليه.
والقاضي أبو الطيب استدل له بما روي أنه- عليه السلام قال: "مَا رَأَيْتُ نَاقِصَاتِ عَقْل ودينٍ أَغْلَبَ لِعُقُول ذَوِي الأَلْبَابِ مِنْكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ" قيل: وما نقصان دينهن وعقلهن يا رسول الله؟ قال: "أَمَّا نُقْصَانُ عَقْلِهِنَّ: فَإِنَّ شَهَادَةَ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ بِشَهَادَة رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا نُقْصَانُ دِينِهِنَّ: فَإنَّ إِحْدَاهُنَّ تَمْكُثُ شَطْرَ دَهْرِهَا- ورُوِي شَطْر عُمُرِهَا- لَا تُصَلي" وعبر بذلك عن زمن الحيض.
ثم قال: فإن قيل: هذا حجة على أن أكثره عشرة أيام؛ لأن الغالب من الأعمار ستون سنة، والغالب أن المرأة تمكث خمس عشرة سنة حتى تبلغ؛ فيبقى خمس وأربعون سنة، يمكن أن تكون منها في خمس عشرة سنة حائضاً وثلاثين طهراً، وحينئذ تكون قد مكثت نصف عمرها لا تصلي.
قلنا: النبي صلى الله عليه وسلم قصد التفرقة بينها وبين الرجل في ترك الصلاة، والمدة التي قبل البلوغ لا فرق بينها وبين الرجل فيها؛ فلا يجوز أن يحمل الخبر إلا على ما ذكرناه.
وبالجملة فهذا الخبر لم يذكره أهل الحديث على هذا النحو، وذكروه على [وجه لا] حجة فيه للفريقين؛ فتعين أن يكون دليلنا ما ذكرناه من الاستقراء.
فإن قيل: إذا كان مستندكم في التقدير لأقله وأكثره [الاستقراء] فينبغي إذا
وجد في عصر من الأعصار بسبب تغير الطباع أقل من ذلك أو أكثر أن تتبعوه.
قلت: قد قال به جماعة من المحققين، منهم الأستاذ أبو إسحاق [الإسفراييني] وأبو إسحاق المروزي كما قال في "التتمة" والقاضي الحسين في جواب له، وعليه يدل ما سنذكره من نص الشافعي من بعد.
ومنهم من منع النقصان عما ذكرنا والزيادة عليه، ووجهه بأن الإجماع منعقد على أنها لو كانت تحيض يوماً وتطهر [يوماً] على الاستمرار، لا تجعل كل نقاء طهراً، ولا كل دم حيضاً.
وبعضهم وجهه بأن بحث الأولين أوفى من بحثنا، واحتمال كونه [دم] فساد أقرب من [انحراف العادة] المستمرة.
وعبارة الإمام: أن المعتبر الوجود في اعتدال الأحوال، والحيض ليس من الأمراض والأعراض التي تميل البنية عن الاعتدال، والأمور الصحيحة إذا استمر عليها عصور، ثم بحث الباحثون عن الوجود فيها، فإن فرض نقصان أو زيادة، فهو ميل عن الاعتدال؛ فيحمل على الإعلال لا على الحيض، وهذا ما اختاره الإمام، وعليه تفاريع مسائل الحيض.
ومنهم من قال: إن كان ما رأته قد قال بعض العلماء به- جاز اعتماده؛ لأنه قد بان صحة قوله بالوجود، والشافعي لم يقل به؛ لأنه لم يثبت عنده مستنده من خبر أو استقراء، أو لم يبلغه وإن لم يوافق حيضها قول قائل من الأئمة، فلا التفات إليه؛ لأنه على خلاف الإجماع.
قال: وغالبه ست أو سبع؛ لقوله- عليه السلام لحمنة بنت جحش: "تحيضي ستة أيام أو سبعة، في علم الله، ثم اغتسلي، فإذا رأيت قد طهرت [واستنقأت]، فصلي أربعاً وعشرين ليلة [أو ثلاثاً وعشرين ليلة] وأيامهن، وصومي؛ فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي كل شهر كما تحيض النساء، وكما يطهرن، لميقات حيضهن وطهرهن" رواه أبو داود، وكذا الترمذي، وقال:
إنه حسن صحيح.
قال: وأقل طهر فاصل بين الحيضتين خمسة عشر يوماً؛ لأن الشرع قد استقر نصاً بأن الشهر في مقابلة قرء جامع لحيض وطهر، فإنه تعالى جعل ثلاثة أشهر على المؤيسة في مقابلة ثلاثة أقراء في العدة، ولا يخلو ذلك: إما لأن الشهر يجمع أكثر [الحيض] وأقل الطهر، أو أكثر الطهر وأقل الحيض، أو أقل الحيض وأقل الطهر، أو أكثر الحيض وأكثر الطهر، ولا سبيل إلى ما عدا الأول؛ فتعين.
وإنما قلنا: إنه لا سبيل إلى ذلك: أما الأخير؛ فلأن أكثر الطهر غير محدود، وأما الذي يليه؛ فلأنه يكون أقل من شهر، وأما الذي يليهما؛ فلأنه يكون أكثر من شهر، وإذا تعين الأول ثبت به أن أقل الطهر خمسة عشر يوماً؛ إذ قد دللنا على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً؛ هكذا ذكره الماوردي والجمهور [على] أن مستنده الاستقراء.
وقال في "المهذب": لا أعلم فيه خلافاً ولو صح ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال [في] النساء: "نَاقِصَات عَقْلٍ وَدِينٍ .. " إلى آخره لكان دليلاً على ذلك، لكني لم أجده بهذا اللفظ إلا في كتب الفقه. وما قاله من أنه لا يعلم فيه خلافاً لا اعتراض عليه فيه وإن كان الماوردي حكى عن مالك أن أقله عشرة، وعن أحمد [أنه] لا حد لأقله، وحكى ابن الصباغ وغيره عن يحيى بن أكثم أنه قال: أقله تسعة عشر يوماً؛ لأنه لم ينف الخلاف مطلقاً، بل نفاه في علمه.
وشبه ما قاله يحيى أنه يرى أن أكثر الحيض عشرة [أيام] والشهر جامع للحيض والطهر غالباً، لكنه قد يكون تسعة وعشرين [يوماً] فجعل منها عشرة أيام حيضاً وتسعة عشر طهراً.
[فإن قيل]: لو دل الاستقراء على أن أقل الطهر دون خمسة عشر يوماً، هل يجري فيه الخلاف السابق؟
قلت: الظاهر من كلام الأصحاب: إجراؤه؛ إذ لا فرق، لكن نص الشافعي على اتباع الوجود؛ فإن الماوردي قال في كتاب العدد: قال الشافعي: لو علمنا طهر امرأة أقل من خمسة عشر يوماً- جعلنا القول فيه قولها، وذلك بأحد وجهين:
إما أن يتكرر طهر المرأة [مراراً متوالية أقلها] ثلاث مرات من غير مرض، فإن تفرق ولم يتوال- لم تصر عادة.
[أو] لو وجد مرة واحدة من جماعة نساء أقلهن ثلاثة، وهل يراعى أن يكون
ذلك في فصل واحد من عام واحد؟ فيه وجهان.
ولا يقبل ذلك إلا ممن تجوز شهادتهن، ولا يقبل خبر المعتدة معهن في حق نفسها، وفي قبوله في حق غيرها وجهان.
تنبيه: احترز الشيخ بقوله: "فاصل بين الحيضتين" عن طهر المبتدأ والآيسة، والمسألة الآتية؛ فإن الطهر عبارة عن النقاء عن الدم.
واحترز به- أيضاً- عما إذا رأت الحامل الدم، وقلنا: إنه حيض، ولم يكن بينه وبين النفاس أقل الطهر، بل دونه، فإنه لا يقدح في كون الدم حيضاً؛ على الأصح.
قال: ولا حد لأكثره؛ لأن من النساء من لا تحيض، ومنهن من تحيض في عمرها مرة ومنهن من تحيض في السنة مرة، وسكت الشيخ عن غالب الطهر؛ اكتفاء بما ذكره من غالب الحيض؛ فإن الشهر منقسم عادة إلى حيض وطهر، فإذا كان غالب الحيض ستاً أو سبعاً، كان غالب الطهر أربعاً وعشرين أو ثلاثاً [وعشرين] وعليه دل خبر حمنة.
قال: وإن رأت المرأة يوماً طهراً، ويوماً دماً ففيه قولان:
أحدهما: تضم الطهر إلى الطهر، والدم إلى الدم؛ لأنه [ليس] جعل زمن الطهر حيضاً بأولى من عكسه، ولا صائر إليه ولا إلى أن لكل منهما حكم المنفرد؛ فتعين ضم كل منهما إلى مثله؛ وهذا ما نص عليه الشافعي في آخر كتاب الحيض من "الأم"؛ كما قال أبو الطيب.
وقال القاضي الحسين: إنه غير منصوص عليه، ولكنه أخذه من مناظرة جرت بين الشافعي ومحمد بن الحسن في الأقراء، هل هي الأطهار أو الحيض؟ فقال محمد للشافعي: ما تقول فيما إذا رأت يوماً طهراً ويوماً دماً وهكذا؟ قال: أجعل زمان النقاء طهراً، وزمان الدماء حيضاً، فقال له محمد: يلزمك أن تحكم بانقضاء العدة بمضي ستة أيام، فقال له: لا أحكم بذلك؛ لأن الله إنما حكم بانقضاء العدة بمضي ثلاثة [أطهار] كوامل؛ وهذا طهر واحد مفرق.
والثاني: لا تضم، بل الجمع حيض؛ لأن الله- تعالى- أجرى عادته بأن الدم
لا يسيل في زمن الحيض دائماً، بل يسيل تارة ويمسك أخرى، وحالة إمساكه يسمى: الفترات، وحكم الحيض منسحب عليها اتفاقاً؛ فوجب أن يكون ما زاد عليها كهي في ذلك، ولأن الناس أجمعوا على أن أقل الطهر خمسة عشر يوماً، فلو قلنا: يوم النقاء طهر، أدى إلى أن يكون يوماً، وَلانْقَضَتِ العدةُ بثلاثة أيام، ولا قائل به؛ هكذا قاله [القاضي] أبو الطيب، ونسب هذا القول إلى نصه في عدة مواضع، وصححه، وكذا الجمهور صححوه.
وفي "الشامل" أن بعض أصحابنا قطع به، وقال: ما ذكره الشافعي مع محمد فإنما جرى في مناظرة، وقد ينصر الإنسان مذهب غيره فيها.
والمشهور الطريقة الأولى، وبالأول قال أبو إسحاق المروزي، وصححه الشيخ أبو حامد والبندنيجي وطائفة من العراقيين؛ كما قال الرافعي، ولا جرم اختاره في "المرشد".
وفرق هؤلاء بين ما نحن فيه والفترات بأنها في زمن القراب إذا أدخلت قطنة في الفرج خرجت حمراء وذلك يدل على بقاء الحيض، ومحل ما نحن فيه إذا أدخلت القطنة خرجت بيضاء، وذلك يدل على انعدامه، والإلزامان مندفعان بما قال الشافعي
[لمحمد]، والله أعلم.
والقولان جاريان، كما قال ابن سريج فيما إذا رأت يومين دماً ويومين نقاء، أو ثلاثة وثلاثة أو خمسة وخمسة، أو يوماً دماً وثلاثة عشر يوماً نقاء ثم يوماً دماً، أو ثلاثة عشر يوماً دماً ويوماً طهراً ويوماً دماً، ونحو ذلك قل زمن الدم وكثر زمن النقاء أو بالعكس.
تنبيه: إطلاق ذكر الدم يعرفك أنه لا فرق [فيه] بين الأسود والأحمر والأصفر، وهو كذلك. نعم، لو رأت يوماً دماً أسود أو أحمر، ويوماً دماً أصفر، قال ابن الصباغ: فهو بمنزلة ما لو رأت الدم والنقاء، وهو ما حكاه البندنيجي عن ابن سريج [والإصطخري]، وصرح [بأنه حكى] القولين، وكذا قال فيما إذا رأت يوماً دماً ويوماً كدرة.
قال ابن الصباغ: لكني ذكرت فيما قبل أن الصفرة في أيام الإمكان حيض عند أكثر الأصحاب [أي]: وقضيته: أن يكون الجميع حيضاً بلا خلاف إذا قلنا به، وبه صرح الرافعي.
قال البندنيجي: لو رأت يوماً دماً أسود ويوماً دماً أحمر، كان الجميع حيضاً؛ لأن الأحمر إلى الأسود أقرب وبالحيض أشبه، بخلاف الصفرة والكدرة؛ لأنها إلى النقاء أقرب، قال: وهذا بخلاف المستحاضة إذا رأت يوماً وليلة أسود، ثم عشرة أحمر، ثم أسود أربعة، ثم أحمر، واتصل فإن ما بعد الأربعة استحاضة، وما قبله من الأسودين حيض دون الأحمر.
نعم، إذا قلنا بالسحب جعلناه حيضاً، وحكاية القول [الأول] في المسألة تعرفك أنها مصورة بما إذا تكرر الدم والطهر؛ إذ لا ضم إلا عند التعدد، على أن قوله: رأت يوماً كذا ويوماً كذا، صيغة مستعملة في التكرار، وحكاية القول الثاني مع ما سلف من أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يوماً تدل على أن المسألة مصورة بما إذا كان مجموع زمن الطهر والدم لا يتجاوز مدة أكثر الحيض، سواء اقتصر عليها أو
نقص عنها؛ وبذلك صرح الأصحاب.
وقوله: رأت يوماً طهراً ويوماً دماً، يعرفك أن الطهر المسحوب عليه حكم الحيض على القول الثاني هو المُحْتَوَش بدمين داخلين في المدة؛ لأن ظاهر [كلامه أن] المسألة مصورة بما إذا كان آخر ما رأته في مدة الحيض هو الدم، وجعله أول ما رأته من الطهر يوماً يقتضي تقدم دم عليه، وإلا لكان الطهر المتقدم أكثر من يوم ضرورة، وإذا كان كذلك صح ما ذكرناه، وقد صرح غيره بأنه شرط بالاتفاق في السحب.
فإن قلت [قد يوجد في بعض النسخ، بل أكثرها وإن رأت يوماً دماً ويوماً طهراً، وهذا ينفي ما ذكره من الجواب.
قلت]: لا بل منه يؤخذ الجواب؛ لأن آخر الأمرين لو كان الطهر، لم يكن الطهر يوماً، بل خمسة عشر يوماً أو أكثر منها؛ لأنه ينضم إلى ما بعده.
وحيث اقتصر على جعله يوماً، دل على أن بعده دماً واحتوش ما سحبنا عليه [حكم الحيض].
وتمثيله باليوم يغني عن التصريح باشتراط ألا ينقص مجموع الدماء في المدة المذكورة عن أقل الحيض وهو يوم وليلة؛ كما ذكره في تصوير المسألة، وكما صرح غيره بأنه الصحيح، ومصرح بأنه لا يشترط على كلا القولين أن يكون الدم الأول أقل الحيض يوم وليلة، وكذا كل دم بعده، وهو أصح الوجهين.
وهذه الإشارات إنما يفهمها المنتهي، ويحتاج المبتدئ إلى بسطها؛ فنقول:
ما ذكرناه من الطريقين في المسالة محله بالاتفاق فيما إذا رأت يوماً وليلة دماً، ويوماً وليلة نقاء، أو [يوماً دماً و] يوماً نقاء، وهكذا، ما لم يتجاوز الدم الأخير خمسة عشر يوماً، فلو رأت نصف يوم دماً، ونصف يوم نقاء، وهكذا إلى تمام خمسة عشر يوماً، واستمر الطهر- فالذي ذهب إليه أبو العباس بن سريج وأبو إسحاق
وعامة أصحابنا- كما قال أبو الطيب- إجراء الخلاف فيها، بل قال الرافعي: إن أبا عبد الله الحناطي حكى طريقة قاطعة بأن هذه الصورة ونحوها محل القولين.
أما إذا كان كل دم رأته قدر أقل الحيض، فالمسألة على قول واحد، وهو الثاني.
والضابط عند هؤلاء في جريان القولين ألا ينقص مجموع ما تراه من الدم في المدة عن أقل الحيض بألا يكون ما انقطع الدم فيه فترة قل زمانه أو كثر، والفرق بين وبين الفترة ما سلف؛ كما نص عليه الشافعي في "الأم"، وبه قال الشيخ أبو حامد وأبو الطيب والمصنف.
والإمام قال: لم ير فيه ضبط، ومنتهى الذكر فيه أن ما يعتاد تخلله بين الدفع فهو من الفترات وما يزيد على المعتاد [و] يكون أكثر منه هو محل الخلاف.
ثم قال: وأنا أقول: الفرق بينهما أن الحيض مجتمع في الرحم، ثم الرحم يقطره شيئاً فشيئاً، وأنه ليس الرحم متنكساً في الخلقة حتى يسيل ما فيه دفعة، فالفترة ما بين ظهور دفعة إلى أن تنتهي أخرى من الرحم إلى المنفذ، والنقاء الذي فيه الخلاف يزيد على ذلك، والطهر الذي يجري عليه حكم الحيض على قول هو المحتوش بدمين: فعلى القول الأول يكون لها في المسألة التي فرضناها من الخمسة عشر يوماً سبعة أيام ونصف حيضاً ومثلها طهراً.
وعلى القول الثاني يكون لها أربعة عشر يوماً ونصف حيضاً ونصف يوم طهراً وهو الأخير؛ لأنه غير محتوش بدمين.
وحكى العراقيون عن بعض الأصحاب أنه لا يجري في هذه الصورة ونحوها من مسألة الكتاب وغيرها القول الأول، ويتعين الثاني، واختلفوا في سببه:
فمنهم من قال: لأن شرط جريانه أن يكون أول ما تراه من الدم لا ينقص عن أقل الحيض، وقد نقص.
ومنهم من يقول: لأن شرط جريانه ألا ينقص أول الدم عن أقل الحيض وكذا آخره؛ ليكون ما بينهما تبعاً لهما، ولم يوجد ذلك.
قال ابن الصباغ: وهما فاسدان؛ لأنا إن قلنا: لا تضم، فالنقاء الذي بعد الدم حيض يكمل به [من غيره] وإن قلنا: تضم، فالدم كله حيض واحد، وهو زائد على أقل الحيض.
نعم، لو كان لا يبلغ مجموع الدماء أقل الحيض لم يجز القول الأول ولا الثاني، والدم دم فساد، وذلك يتصور فيما إذا رأت ساعة دماً وخمسة عشر يوماً إلا ساعة نقاء، ثم ساعة دماً ونحو ذلك.
وأبعد بعض الأصحاب، فقال: لا يشترط في جريانهما ألا ينقص مجموع الدماء عن أقل الحيض، لكن إذا قلنا بالضم كان الدم جميعه دم فساد، وإن قلنا بمقابله كان زمن الدماء والنقاء حيضاً وهذا ينطبق عليه ما حكاه المراوزة عن الأنماطي، وقال الرافعي: إنه أظهر الطريقتين. والصحيح خلافه.
وحكى القاضي الحسين والإمام غيرهما: أن محل جريان القولين ما إذا كانت ترى يوماً وليلة دماً، ومثل ذلك أو دونه نقاء.
أما إذا رأت نصف يوم دماً ونصف يوم نقاء، فقد قال أبو بكر المحمودي: إنهما يجريان أيضاً. والضابط عنده في إجرائهما ما أسفلناه عن جمهور العراقيين.
وقال غيره: إنه لا يجري القول الثاني، واختلفوا في سببه:
فقيل: لأن الشرط ألا ينقص أول دم تراه عن أقل الحيض، فلو كان أول دم أقل الحيض، ورأت بعده نصف يوم دماً ونصف يوم نقاء إلى آخر المدة جرى القولان.
وقيل: لأن الشرط في جريانه أن يكون أول دم أقل الحيض، وكذا آخر دم، ولم يوجد ذلك.
نعم، لو وجد وكان الدم الموجود فيما بين الأول والآخر أقل من أقل الحيض جرى القولان. ولأن الشرط يوجد فيما تراه من الدم أقل الحيض متوالياً: إما أول دم، أو آخر دم، أو فيما بينهما، ولم يوجد، فلو رأت أقل الحيض متصلاً جرى القولان.
وحيث قلنا: لا يجري القول الثاني، فما بلغ أقل الحيض متواصلاً، كان حيضاً، وما لم يبلغه، كان دم فساد.
التفريع:
إن قلنا بالقول الألو في مسألة الكتاب ونحوها- قال ابن سريج: فيجب عليها عند انقطاع الدم الأول: الغسل؛ لأن الدم إذا عاد كان ذلك انتقالاً من بعض الحيض إلى بعض الطهر؛ فوجب الاغتسال؛ كما إذا انتقلت من جميع الحيض إلى بعض الطهر.
قال ابن الصباغ: وعندي أنه لا يجب؛ لأن الدم الأول لم يحكم بأنه يحض، ولا يعلم معاودته، والظاهر عدم عوده؛ وهذا قد حكاه الإمام وجهاً [آخر] في المسألة وقربهما من القولين في أن الناسية هل تؤمر بالاحتياط أم لا؟ كما سنذكره.
ثم قال ابن الصباغ: وإنما يتصور ما قاله ابن سريج في اليوم الثاني وما بعده.
قلت: إن عنى بما قاله أن الغسل يجب في اليوم الثاني وما بعده فصحيح؛ إذ باليوم الثاني وما بعده يمضي أقل الحيض، والأصل بقاء الانقطاع؛ فيجب الغسل.
وإن عنى أن ما علل به ابن سريج يتصور في اليوم الثاني وما بعده فغير مسلم.
نعم، يتصور في الشهر الثاني وما بعده إن قلنا: إن العادة تثبت بمرة واحدة؛ كما هو الصحيح. أما إذا قلنا: لا تثبت إلا بمرتين، فلا يتصور إلا في الشهر الثالث وما بعده.
وإن قلنا بالوجه البعيد: إن العادة لا تثبت إلا بثلاث مرات؛ فلا يتصور إلا في الشهر الرابع وما بعده.
على أن بعض المراوزة قال إن التقطع لا يثبت عادة، وإن تكرر مراراً، وعلى هذا لا يستقيم ما علل به ابن سريج أصلاً.
وإن قلنا بالقول الثاني فلا يجب عليها الاغتسال لانقطاع الدم الأول بلا خلاف؛ لأنه إن عاد كان النقاء حيضاً، وإن لم يعد كان الدم دم فساد؛ لأنه لم يبلغ أقل الحيض.
وأما الدم الثاني والثالث وما بعده إذا انقطع: فإن كان لا يبلغ بما مضى من الدم والنقاء أقل الحيض فهو كالأول، وإن كان يبلغ [أقل الحيض] فإنها تغتسل عند كل انقطاع قولاً واحداً؛ لأنه يحتمل أن يكون انقطاعاً مبتدأ وقد وجد قبله أقل الحيض.
ولو كانت المرأة ترى يوماً وليلة دماً، وتطهر كذلك أو أقل منه وجب عليها عند انقطاع الدم الأول وما بعده الغسل؛ لاحتمال أن يكون انقطاعاً مبتدأ، وللزوج الوطء في حال النقاء بعد الغسل إن أوجبناه، وقبله إن لم نوجبه، ويجب عليها الصلاة وفعل الصوم عند انقطاع [الدم] الأول، فإذا طرأ الثاني وقلنا بالقول الثاني تبينا أن الصوم لم يصح، وأن الصلاة لم تجب، وأن الوطء لم يكن مباحاً أو حراماً أو محظوراً؛ على اختلاف عبارات الأصحاب، والكل متفقون على أنه لا إثم فيه؛ وهكذا حكم التلفيق إذا لم يزد الدم على مدة أكثر الحيض، فإن زاد فسنذكره.
قال: وفي الدم الذي تراه الحامل قولان:
أصحهما: أنه حيض؛ لقوله- عليه السلام لفاطمة بنت أبي حبيش: "إِنَّ لدَمِ الحَيْضِ عَلَامَات وَأَمَارَاتٍ: إِنَّهُ الأَسْود المُحتدِمُ، فَإِذَا أَقْبلَتِ الحيضةُ فدعى الصلاة" فوجب اعتبار هذه الصفة في جميع الأحوال، وتعليق الحكم عليها إذا وجدت.
وقد روي أن رجلين تداعيا ولداً، وتنازعا فيه إلى عمر فدعا له القافة، فألحقوه بهما، فدعا بعجائز قريش فسألهن عنه؟ فقلن: إنها حملت به من الأول، وحاضت على الحمل فاستحشف الولد، فلما تزوج بها الثاني انتعش بمائه وأخذ الشبه منه، فقال عمر: الله أكبر، وألحق الولد بالأول. وكانت هذه قضية شهدها المهاجرون والأنصار، وسمعوا ما جرى فأقروا عليه ولم ينكروه، فدل على إجماعهم [عليه]، ولأنه عارض لا يمنع دم الاستحاضة، فلا يمنع دم الحيض كالرضاع، وتحقيق الجامع: أن الغالب في كل منهما منع الحيض؛ وعلى هذا لا يحرم الطلاق فيه ولا
تنقضي به [عدة صاحب الحمل، وهل تنقضي] به عدة غيره؟ فيه خلاف ستعرفه في العدد.
والثاني: أنه استحاضة؛ لقوله- تعالى-: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} [الرعد: 8] فأخبر أن الحيض يغيض مع الحمل؛ فدل على أن ما ظهر من الدم ليس بحيض، وقوله – عليه السلام:"أَلَا لَا توطَا حَامِل حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلُ حَتَّى تَحيضَ"، ووجه الدلالة منه: أنه جعل براءة الرحم بكل واحد منهما؛ فدل
على تنافي اجتماعهما، ولأنها لا تحبل؛ فلا تحيض كالصغيرة، وهذا هو القديم، [كما حكاه الماوردي في باب اجتماع العدتين].
وقد أفهم كلام الشيخ: أنه لا فرق على الأول بين أن ترى الدم متصلاً بالولادة في
[عادة أدوارها] أو تراه [قريب الولادة] بحيث لا يبقى بينه وبينها أقل الطهر، أو يبقى، وهو أصح الوجهين في "النهاية".
ومقابله: أنها إذا رأته، ثم اتصل به النفاس، أو رأته ثم طهرت، وولدت قبل مضى مدة أقل الطهر- لا [يكون حيضاً بل دم فساد؛ لأنه لم يستعقب طهراً كاملاً.
ووجه الأول: أن نقصان الطهر] إنما يؤثر فيما بعده، لا فيما قبله، وهنا لم يؤثر فيما بعده؛ لأن ما بعد الولد نفاس بلا خلاف؛ فأولى ألا يؤثر فيما قبله، وهذا ما ذكرنا أن الشيخ احترز عنه بقوله: وأقل طهر فاصل بين الحيضتين خمسة عشر يوماً؛ لأنه هنا فاصل بين حيضة ونفاس.
وقضية كلام الشيخ أيضاً: أن الدم الذي تراه حالة الطلق يكون حيضاً، وصاحب "الإفصاح" حكى وجهاً: أنه نفاس، والجمهور على أنه ليس بنفاس.
قال صاحب "العدة": ولا هو حيض أيضاً. وأبو عبد الله الحناطي حكاه وجهاً [مع وجه] آخر: أنه حيض على القول الذي عليه يفرع، وأفهم أنه لا فرق على القول الثاني بين أن تراه وقد ظهر الحمل [أو قبله] وهو المشهور.
وقيل: إنه يختص بحالة ظهور الحمل وحركته، والله أعلم.
قال: وإذا انقطع دم المرأة لزمان يصح فيه الحيض، أي: لكونه لم ينقص عن أقله، ولم يزد على أكثره، وكان بينه وبين ما تقدم من حيض- إن كان- خمسة عشر يوماً طهراً فأكثر فهو حيض؛ لأن الظاهر منه حينئذ أنه دم جبلة لا دم علة، وكلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين أن تكون المرأة مبتدأ مميزة [أو غير مميزة]، لون الدم الذي تراه أسود أو أحمر أو أصفر، أو معتادة وافق ذلك عادتها أو خالفها، ولا خلاف في أنها إذا كانت مبتدأة وما رأته من الدم أسود أنه حيض، أما إذا كان أحمر، فهل هو حيض أو دم فساد؟ فيه وجهان في "الحاوي".
والثاني يجري فيما إذا كان ما رأته دماً أصفر أو كدرة من طريق الأولى، وهو ما
حكاه ابن الصباغ عن الإصطخري؛ حيث قال: لا تكون الصفرة والكدرة [حيضاً] إلا في زمن العادة، والمبتدأ لا عادة لها.
وحكى عن رواية ابن أبي هريرة عن بعض الأصحاب أنه قال: إن تقدم ذلك دم أسود ولو كان بعض يوم كان معه حيضاً، وإلا فلا. وهذا منسوب في "تعليق القاضي الحسين" إلى الإصطخري؛ فإنه قال: إنه ذهب إلى أن الصفرة والكدرة لا تكون حيضاً إذا انفردت. نعم، لو تقدمها دم قوي كان حيضاً.
وخرج بعض الأصحاب على مذهبه اشتراط تقدم القوي وتأخره أيضاً؛ ليكون بينهما، واختلفوا [في أن] المتقدم إذا اكتفينا به، أو المتقدم والمتأخر على الرأي الآخر: هل يشترط أن يكون كل منهما أقل الحيض، أو يكفي في ذلك لحظة؟ على وجهين، فإن قلنا بما قاله الإصطخري، قلنا فيما إذا رأت خمسة صفرة، ثم خمسة حمرة، ثم خمسة سواداً: حيضها أيام الأسود فقط، وكذا لو توسط السواد حمرتين؛ بأن رأت خمسة حمرة، ثم خمسة سواداً، ثم خمسة حمرة. وإن قلنا بمقابله كان الجميع حيضاً، وهو المذهب، ولو انعكس الحال: فرأت خمسة دما أسود، وخمسة دماً أحمر، وخمسة دماً أصفر- فالجميع حيض على المذهب، وعلى أحد وجهي الإصطخري الذي نص عليه دون ما خرج على أصله، وهذا ما حكاه العراقيون والماوردي.
وأما المعتادة إذا جرى الدم على عادتها [فهو حيض، وإن خالف عادتها] بأن كانت ترى خمسة دماً من كل شهر، فرأته في شهر أكثر من ذلك، ولم يزد على خمسة عشر يوماً وهو على لون واحد- فسواء تقدم على وقت عادته أو تأخر أو وجد بعضه في وقت العادة وبعضه قبلها أو بعدها أو قبلها وبعدها. وما حكيناه عن كلام الإصطخري يقتضي اطراده فيما إذا كان ما رأته صفرة أو كدرة، ولا جرم قال بعضهم: إن تقدم الصفرة [أو الكدرة] دم قوي ولو لحظة في أيام العادة أو غيرها فهو حيض، وإلا فدم فساد.
ولو رأت المعتادة الدم زائداً على قدر عادتها، وهو مخالف في اللون لما اعتادته؛
بأن كانت تراه أحمر خمسة أيام، فرأته أكثر من ذلك ولم يزد على أكثر الحيض وهو أصفر- فخمسة أيام من ذلك حيض، بلا خلاف على المشهور؛ كما لو رأت الخمسة الأيام دماً أصفر فقط، وما زاد على الخمسة التي هي قدر العادة فيه وجهان:
الذي [نص] عليه عادة أصحابنا كما قال أبو الطيب والماوردي-: أنه حيض؛ لما روى البخاري عن عائشة أن نساء كن يبعثن إليها بالدرجة فيها الكُرْسُفُ فيه الصفرة، فتقول: لا تَعْجَلْنَ حتى ترين القصَّة البيْضاءَ.
والكُرْسُفُ: القطن، والقصَّةُ البيضاء: شيءُ كالخيط الأبيض يخرج عند انقطاع الدم.
وقال الإصطخري: ما زاد على قدر العادة ليس بحيض؛ لما روى البخاري عن أم عطية، وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً".
وسبب اختلاف الأصحاب في ذلك: أن الشافعي قال: "والصفرة والكدرة في أيام الحيض [حيض] "، فقال ابن سريج ومن معه: أراد بأيام العادة، الأيام التي يمكن أن تكون حيضاً، وهي الخمسة عشر، وإن تجاوزت أيام العادة. وقال الإصطخري: أراد أيام العادة نفسها؛ أخذاً بظاهر النص. وقد كان أبو إسحاق المروزي يقول به فرجع إلى الأول، ولأنه وجد نص للشافعي في العدد على أن الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض، وسواء كان لها أيام قبل ذلك، أو لم يكن، قال: فلما جعل حكم المبتدأة وذات الحيض سواء دل على ما رجعت إليه، وإن كان خلافه أصح في القياس، وهؤلاء يحملون قول أم عطية على ما بعد الخمسة عشر يوماً على أنه جاء في رواية أبي داود أنها قالت:[كنا] لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً.
قال: وإن عبر الدم الأكثر- أي: بفتح الراء؛ إذ التقدير: عبر الدم أكثر مدة الحيض فجاوز خمسة عشر يوماً، فلا سبيل إلى جعله بجملته حيضاً كما تقدم. لكن ما يكون منه حيض؟
ينظر كما قال الشيخ: فإن كانت مميزة، وهي التي ترى في بعض الأيام دماً أسود، وفي بعضها دماً أحمر كان حيضها أيام الأسود؛ لقوله- عليه السلام لفاطمة بنت أبي حبيش:"إِذَا كَانَ دَمُ الحيضِ فَإِنَّهُ دَم أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكي عَنِ الصَّلَاة، وإذَا كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِ، وَصَلِّي؛ فَإنَّما هُوَ عِرْق .. "، أخرجه أبو داود والنسائي.
وأطلق الشيخ القول بأن الحيض الأسود موافق للخبر، وهو محمول على ما إذا اجتمعت شرائط الحيض فيه، أما إذا فقدت أو بعضها، فلا تمييز، وظاهر [كلامه] يقتضي أموراً:
أحدها: حصر المميزة في المتصفة بما ذكره، ولا قائل به من الأصحاب، بل هم متفقون في الطريقين على أن المميزة من انقسم دمها إلى قوي وضعيف. نعم، اختلفوا فيما به الاعتبار في القوة والضعف:
فمنهم من يقول: هو اللون فقط، فالأسود قوي بالإضافة إلى الأحمر، والأحمر قوي بالإضافة إلى الأشقر، والأشقر [قوي بالإضافة إلى] الأصفر والأكدر إذا جعلناهما حيضاً، وهذا ما حكاه الغزالي، وادعى الإمام أنه متفق عليه، وقال: لو رأت خمسة سواداً مع الرائحة المنعوتة في الخبر وخمسة سواداً بلا رائحة فهما دم واحد.
والعراقيون [وغيرهم] يقولون: إن القوة تستفاد بثلاثة أمور: باللون، والثخانة، والرائحة الكريهة؛ لأنه روي عن ابن عباس أنه قال:"دم الحيض [أسود] محتدم بحراني، ذو دفعات، له رائحة تعرف".
قيل: وليس المراد بالأسود: الحالك، بل الذي تعلوه حمرة مع سواد.
والمحتدم: هو الحار، يقال: يوم محتدم؛ إذا كان شديد الحر، ساكن الريح.
والبحراني: الشديد الحمرة، نسب إلى "البحر"؛ لصفاء لونه، بخلاف دم الفساد، فإنه ناصع اللون.
وقيل: نسب إلى البحر؛ لأنه يخرج من قعر الرحم كما يخرج الماء من قعر البحر، حكاه البندنيجي.
وقيل: هو الذي يخرج بسعة دفق وسرعة، كماء البحر.
وعلى هذا فالأسود قوي بالنسبة إلى الأحمر، والأحمر قوي بالنسبة إلى الأشقر والأصفر، كما تقدم، والثخين قوي بالنسبة إلى الرقيق، وما له رائحة كريهة قوي بالنسبة إلى ما دونه.
فلو اجتمع في دم صفتان من الثلاثة، وفي آخر وصف واحد [فما جمع]
الصفتين أقوى، ولو انفرد كل دم بوصف، مثل أن يكون أحدهما أسود رقيقاً، والآخر أحمر ثخيناً فالتمييز بالسبق يحصل، وهذا فيه منازعة تعرفها مما سنذكره.
الثاني: أنه لا فرق في جعل الأسود حيضاً إذا وجد شرطه بين أن يكون مبتدأ به، أو متأخراً، أو متوسطاً، حتى لو رأت خمسة دماً أحمر، وخمسة دماً أسود، ثم أطبق الأحمر، أو رأت خمسة عشر يوماً دماً أسود، أو بالعكس- كان الأسود الحيض، وهو ما ادعى أبو الطيب وغيره أنه المذهب.
وعن ابن سريج: [أنه] يشترط في جعله حيضاً أن يقع مبتدأ به، ولو وقع الابتداء بالأحمر، فلا تمييز.
وحكى الغزالي وجهاً آخر أن النظر إلى ما وقع الابتداء به، فإن وقعبالأسود فهو الحيض، وإن وقع بالأحمر، فهو الحيض إذا [وجد] شرطه.
قلت: وهذا يوافقه قول الشافعي الذي ذكرناه أول الباب: "إن الاستحاضة لا تكون إلا على أثر حيض وللقائلين بالأول أن يقولوا: [إنه] أراد أن لا يكون استحاضة
إلا في زمن الحيض، لا في زمن لا يصلح للحيض، وعليه يدل صدر الكلام.
وعن بعض الأصحاب: أن النظر إلى الأولية معتبر [والنظر إلى القوي معتبر]، فإن أمكن جعلهما جميعاً حيضاً: كما إذا رأت خمسة دماً أحمر، ثم خمسة دماً أسود، ثم أطبق الأحمر-[فعل]، وكان حيضها العشر الأول.
وإن لم يمكن الجمع بينهما بأن زادا على خمسة عشر يوماً، فوجهان حكاهما القاضي الحسين:
أحدهما: أن الاعتبار بالقوي وهو الأسود في مثالها.
والثاني: أنها فاقدة للتمييز، وهذا قد حكاه القاضي أبو الطيب احتمالاً لابن سريج أيضاً.
وسلك الماوردي طريقاً آخر، فقال: المبتدأ إذا رأت الدم الأحمر والأسود فحيضها الأسود بلا خلاف، تقدم أو تأخر. والمعتادة إن تقدم الأسود كان حيضها، وإن تأخر وتقدم الأحمر، فوجهان:
أحدهما- وهو قول أبي إسحاق وجمهور المتأخرين-: أن حيضها- أيضاً- الأسود.
والثاني- وهو قول ابن سريج وابن أبي هريرة-: أن حيضها ما تقدم ااسود كان أو أحمر؛ وهذا إذا كان الأسود أو الأحمر قد اجتمعت فيه شرائط الحيض.
ولو كان الأحمر ينقص عن أقل الحيض، وأمكن أن يكون الأسود وحده حيضاً؛ فالأسود- كيف كان- حيض بلا خلاف. ولو كان الأحمر يصلح أن يكون حيضاً، والأسود ينقص عن أقل الحيض، ولو جمع بينهما لزادا على أكثر الحيض- فالأحمر الحيض كيف كان [بلا خلاف].
أما إذا كان مجموعهما لا يزيد على أكثر [مدة] الحيض، فالكل في حق المعتادة حيض، وفي المبتدأة إذا كان الأحمر مبتدأ به وجهان.
فرع: إذا رأت خمسة دماً أسود، وخمسة دماً أحمر، ودماً أصفر إلى آخر الشهر-
فالحمرة تلحق بالصفرة أو بالسواد؟ فيه وجهان يجريان فيما لو رأت خمسة سواداً وأحد عشرة حمرة، ثم أطبقت الصفرة، لكنها في الصورة الأولى: إذا ضممنا الحمرة إلى السواد، جعلنا حيضها عشرة أيام، وفي هذه الصورة نجعلها فاقدة للتمييز، وقد قطع بعضهم في الصورة الأولى ونحوها بضم الحمرة إلى السواد، وفي الصورة الثانية [بضم] الحمرة إلى الصفرة.
ولو رأت سواداً ثم صفرة ثم حمرة، قال الرافعي: وهذه الصورة تترتب على ما إذا كانت الحمرة متوسطة، فإن ألحقناها بالسواد، فالحكم كما إذا رأت سواداً، ثم حمرة، ثم عاد السواد. وإن ألحقناها عند التوسط بالصفرة، فالصفرة المتوسطة هنا أولى أن تلحق ما بعدها.
الثالث: أن المرجع إلى التمييز، سواء كانت المرأة مبتدأة أو معتادة. وقوله- من بعد-:"وإن كانت غير مميزة ولها عادة .. " إلى آخره فهو في المبتدأة مما لا خلاف فيه. نعم، اشترط صاحب "التتمة" في جعل القوي حيضاً- وراء ما ذكرناه-: ألا يزيد الدم القوي والضعيف على ثلاثين يوماً، فإن زاد سقط حكمه؛ لأنه يؤدي إلى تساوي المقادير فلأن [يكون ذلك] بجعل بعض المقادير حيضاً وطهراً أولى من غيره، وربما ترى في أول أمرها دماً أسود، ثم باقي عمرها دماً أحمر؛ فيؤدي إلى ألا يكون لها حيض أكثر من يوم وليلة مع جريان الدم طول العمر؛ فتعين أن يجعل المرجع شهراً؛ لأن العادة أن للمرأة في كل شهر حيضاً وطهراً؛ فلترد إليه؛ وبهذا تكمل الشرائط خمساً: ألا ينقص القوى عن أقل الحيض، وألا يزيد على أكثر الحيض، ولا ينقص الضعيف عن خمسة عشر يوماً؛ لأنا نجعله الطهر، وأن يكون القوي مبتدأ به على رأي، وألا يزيد مجموع [زمن] القوي والضعيف على ثلاثين يوماً.
وأما المعتادة: فالمذهب فيها ما اقتضاه كلام الشيخ: أنها كالمبتدأة في تحيضها أيام القوي؛ لما أسلفناه من الخبر، ويظهر اعتبار ما قاله في "التتمة" من اعتبار عدم زيادة الدمين على ثلاثين يوماً.
وفي "النهاية" ما ينازع فيه في الصورتين، كما سنذكره.
وعن الإصطخري وأبي علي بن خيران: أنها ترد أولاً إلى العادة، حتى لو كانت عادتها خمسة أيام من أول الشهر، فرأت القوي سبعة، ثم الضعيف بعده، فالمرجع إلى الخمس، ولو كانت المسألة بحالها، لكنها رأت الدم القوي ثلاثة أيام ردت إلى الخمس، ولو كانت بحالها، لكنها رأت القوي خمسة أيام من أول السادس ردت إلى الخمسة الأولى، ووجهه: ما روت أم حبيبة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الدم؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبسُكِ حَيْضَتُكِ، ثُمَّ اغْتسِلي وَصَلِّي" رواه مسلم
وروت أم سلمة أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لِتَنُظرْ عِدَّة اللَّيالِي والأيام الَّتِي كَانَتْ تَحيضُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يُصِبها الَّذِي أَصَابَهَا، فَلْتَتْرُكِ الصَّلاةَ قَدْر ذَلِكَ مِنَ الشَّهْر، فَإِذَا خَلَّفتْ ذَلِكَ فَلْتغْتَسِلْ، ثَمَّ لْتَسْتَثْفِرْ بِثَوْبٍ، ثُمَّ لتُصَلِّ" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
فعلى هذا لو كانت لها عادة ونسيتها، فحكمها حكم ناسية لا تمييز لها.
وفي "التتمة" حكاية وجه ثالث: [أنه] إن أمكن الجمع بين التمييز والعادة جمع، وجعلنا الزمانين حيضاً، وإن لم يمكن الجمع بأن كان مجموع الدمين يزيد على
خمسة عشر يوماً؛ فيتعارضان ويسقطان ونجعلها كامرأة لا تمييز لها ولا عادة؛ وهذا [لا] وجه له، بخلاف ما قبله؛ فإن حجته الخبر، والقائلون بالمذهب قالوا: ما استدللنا به يترجح بأن التمييز علامة ناجزة، والعادة انقطعت.
ومنهم من يقول: خبر أم حبيبة وأم سلمة محمول على معتادة لا تمييز لها؛ جمعاً بين الأخبار.
وعبارة أبي الطيب: أن أبا إسحاق المروزي قال في "الشرح": جميع ما يثبت في المستحاضة من الأحاديث ثلاثة: حديث فاطمة بنت أبي حبيش، وحديث المرأة التي استفتت لها أم سلمة، وحديث حمنة بنت جحش.
أما حديث فاطمة: فقد قال إبراهيم الحربي: إنه وارد في التي لها تمييز، لا يختلف قول الشافعي في ذلك.
وأما حديث المرأة فوارد في التي لها عادة، ولا تميز لها هذا قول الشافعي في ذلك.
وأما حديث حمنة: فاختلف فيه قول الشافعي: فقال: يحتمل هذا الخبر تأويلين: أحدهما: أن حمنة كانت مبتدأة؛ فردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى غالب عادة النساء؛ فيكون في المستحاضة ثلاثة أصول.
والثاني: أنه عليه السلام ردها إلى ست أو سبع؛ لأنها كانت معتادة، ولكن نسيت عادتها، فقال: "تَحَيَّضِي فِي عِلْمِ الله- إنْ كَانَ [حَيْضاً] فِي عِلْمِ الله – سِتّاً أوْ
سَبْعاً"؛ فعلى هذا يكون في المستحاضة أصلان، ولا سنة في المبتدأة.
فرع: إذا رأت المبتدأة الدم في زمن إمكان الحيض، وجب عليها ترك الصلاة والصوم بمجرد رؤيته، ولا يأتيها الزوج؛ لأن الظاهر أنه دم جبلة لا دم علة.
وقيل: إن كانت قد بلغت بالسن لا يجوز لها ترك الصلاة والصوم حتى تمضي مدة أقل الحيض من أول ما ظهر الدم؛ لأن وجوب ذلك مستيقن، وكونه حيضاً مشكوك فيه؛ فلا يترك اليقين بالشك.
وهذا ما أورده الشيخ أبو علي في "شرح الفروع"، والمذهب الأول.
ثم على كل حال: لو رأت في أول الشهر يوماً وليلة دماً أسود، ثم دماً أحمر، واستمر فإنها تترك الصلاة إلى تمام خمسة عشر يوماً؛ لاحتمال أن ينقطع الدم عليها؛ فيكون الأسود والأحمر حيضاً، فإذا جاوز الأحمر ذلك إلى آخر الشهر قضت أيام الأحمر كلها، فإذا رأت في الشهر الثاني الدم الأسود تركت الصلاة، [فإن دام إلى ثلاثة أيام تركت الصلاة فيها] فإذا انقطع وطرأ الأحمر، اغتسلت وصلت، ولا تقعد إلى تمام خمسة عشر يوماً؛ لأنا تحققنا أنها مستحاضة.
ولو رأت في الشهر الثالث خمسة أيام دماً أسود، ثم طرأ الأحمر- اغتسلت وصلت عند انقطاع الأسود؛ لما ذكرناه، وهكذا الحكم فيما لو دام الأسود خمسة عشر يوماً.
ولو انعكس الحال: فرأت الدم الأحمر ابتداء، فهل تترك الصلاة؟ فيه وجهان سلفا عن الماوردي، فإن قلنا: تتركها وهو المشهور، فإذا استمر إلى تمام خمسة عشر يوماً، وانقطع، وطرأ الدم الأسود، فهل يدوم الترك؟ ينبني على أن الاعتبار بالدم الأول أو بالدم القوي؟ فإن قلنا: إن الاعتبار بالقوي، تركت الصلاة ما دام إلى تمام خمسة عشر يوماً، وهذه امرأة تؤمر بترك الصلاة شهراً كاملاً، ثم ينظر: إن انقطع الدم القوي على خمسة عشر يوماً قضت أيام الأحمر، وإن تعدى الخمسة عشر يوماً، فلا تمييز، وفيما تحيضه من أول الدم الأحمر قولان يأتيان في الكتاب.
وابتداء دورها الحادي والثلاثين على القولين معاً، فإن قلنا: تحيض يوماً وليلة،
أمرت بترك الصلاة أحداً وثلاثين يوماً، وإن قلنا: تحيض ستاً أو سبعاً، أمرت بترك الصلاة ستاً وثلاثين أو سبعاً وثلاثين؛ قاله المتولي.
وإن قلنا: إن الاعتبار بالدم الأول كيف كان فلا تترك الصلاة في زمن الأسود.
وإن قلنا: إن الاعتبار بالأمرين، فالجمع متعذر، وهل تترك الصلاة في زمن الأسود أو لا؟ فيه وجهان، سبق أصلهما، فإن قلنا: تترك، فهي فاقدة للتمييز، وهو ما ذكره أبو الطيب، وفيما تحيض القولان الاثنان، لكن ما ابتداء حيضها، هل من أول الحمرة أو السواد؟ فيه وجهان في "تعليق أبي الطيب" و"الشامل"، قالا والمذهب منهما الأول.
قال: وإن كانت غير مميزة، ولها عادة- أي: مستقرة- تذكرها، مثل: أن كانت تحيض خمسة من أول السادس من الشهر مثلاً، ثم استحيضت- كان حيضها أيام العادة؛ لما ذكرناه من رواية أم حبيبة وأم سلمة.
نعم، لو كانت عادتها أن ترى الدم يوماً والنقاء يوماً، مدة خمسة عشر يوماً، وقلنا بضم الدم إلى الدم والنقاء إلى النقاء، فأطبق الدم حتى جاوز الخمسة عشر لا تلفق أيام الحيض من الخمسة عشر بلا خلاف بين فرق الأصحاب؛ كما قاله الإمام ومن تبعه.
نعم، نحيضها [ما كنا نجعله حيضاً بالتلفيق ولاءً من أول الدم المطبق.
قال الإمام: وللاحتمال فيه أدنى مجال].
ولو كان عادتها أن تحيض في شهر يوماً وليلة، وفي الذي بعده يومين، وفي الثالث ثلاثة أيام، ثم تعود إلى اليوم واليومين على هذا، ثم استحيضت رجعت في شهر الاستحاضة إلى ما تعودت، فإن كان الذي قبله حاضت فيه يوماً كان في شهر الاستحاضة حيضها يومين، وإن كان في الذي قبله يومين كان فيه ثلاثة؛ [وهذا ما حكاه ابن الصباغ لا غير.
وحكى القاضي الحسين معه وجهاً آخر: أنها تحيض ما حاضت فيهالشهر الذي استحيضت فيه، فإن كان حيضها فيه يوماً حيضناها يوماً، وإن كان ثلاثاً حيضناها ثلاثاً، وهكذا أبداً].
ولو كانت تحيض في شهر يوماً، وفي آخر ثلاثة، وفي آخر خمسة، وفي آخر ثلاثة، فإن كان آخر ما رأته تكرر مرتين ردت إليه في شهر الاستحاضة؛ وإلا فقد قال أبو إسحاق المروزي: إنها ترد إلى أقل عادة، وهي في مثالنا يوم وليلة، وحكاه عن الشافعي في كتاب العدد؛ لدخول الأقل في الأكثر.
ومنهم من قال: لا عادة لها؛ فيكون فيما ترد إليه القولان في المبتدأة.
والمذهب كما قال ابن الصباغ والماوردي: أنها ترجع إلى ما حاضته في الشهر الذي قبل الاستحاضة وهذا ما جزم به القاضي الحسين.
وعلى هذا هل يلزمها الاحتياط فيما تأتي به من الصلاة؟ فيه جوابان ينبنيان على الخلاف في المبتدأة، كما سنذكره، وهو جار في القسم قبله، إذا قلنا بالوجه الذي حكاه القاضي.
وحيث قلنا بالاحتياط: فهو من أقل عادتها إلى أكثرها.
مثاله في القسم الأول: إذا كان حيضها قبل شهر الاستحاضة ثلاثة أيام فإذا مضت ثلاثة أيام من شهر الاستحاضة اغتسلت، وقضت الصلاة من أقل عادتها وهي يوم إلى أكثر عادتها- وهي ثلاثة أيام- لاحتمال أن دمها انقطع على يوم، والباقي يكون استحاضة.
ولو كان حيضها في الشهر الذي قبل الاستحاضة يومين، فإذا مضى من شهر الاستحاضة يومان، اغتسلت وصلت وصامت، فإذا مضى يوم بعده تغتسل- أيضاً-
وتصلي وتصوم، وتقضي الصلاة من أقل عادتها إلى أوسط عادتها، ولا تقضي صلاة اليوم الذي صلته؛ لأنها إن كانت حائضاً فلا صلاة عليها فيه، وإن كانت طاهرة فقد صلت.
نعم، تقضي صومه ولا يطؤها زوجها فيه.
ولو كان حيضها في الشهر الذي قبل الاستحاضة يوماً وليلة، فإذا مضى يوم وليلة اغتسلت وصلت وصامت، ثم إذا مضى يومان غيره اغتسلت ثانياً، ولا تقضي شيئاً من الصلوات، وتقضي صوم ثلاثة أيام؛ لاحتمال أن تكون حائضاً إلى تمامها، ولا يصح منها الصوم زمن الحيض، ولا يأتيها زوجها في الثالث؛ لما ذكرناه.
فإن قيل: بماذا ثبتت العادة فيما ذكرتم؟
قلنا: أما العادة في المستحاضة فثبتت بمرة قولاً واحداً؛ لأنها علة مزمنة، إذا وقعت دامت غالباً.
وأما العادة في الحيض فكذلك على الصحيح، وهو المنصوص عليه في "مختصر البويطي"، وبه قال أبو العباس وأبو إسحاق وعامة أصحابنا، كما [ذكره القاضي] أبو الطيب؛ لقوله- عليه السلام:"لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ الَّتي كَانَتْ تَحِيضُهنَّ قَبْلَ أَنْ يُصِيبُها وَلْتَدَعِ الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ".
وقيل: لا تثبت العادة فيه إلا بمرتين، ويحكي هذا عن ابن خيران؛ لأن العادة من العود، ولا يحصل بدفعة. وهذا ليس بصحيح؛ لأن ذلك اصطلاح من الفقهاء، فكيف يكون حجة يستفاد منها الأحكام الشرعية؟
وقيل: العادة تثبت في حق المبتدأة بالمرة الواحدة، فإذا رأت خمسة أيام دماً وخمسة وعشرين طهراً، ثم أطبق الدم في الشهر [الثاني]- جعلناها حيضاً خمساً.
أما المعتادة إذا تكرر حيضها خمساً، فجاء في شهر سبعاً وباقيه طهراً، ثم أطبق الدم في شهر بعده فلا نردها إلى سبع، بل [إلى] خمس.
نعم، لو تكرر السبع في شهرين رددناها عند الاستحاضة إليها؛ حكاه في "التتمة".
وعن أبي الحسن العبادي حكاية وجه آخر: أن العادة لا تثبت إلا بثلاث مرات
مطلقاً لقوله- عليه السلام: دعي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ"، وأقل الجمع ثلاث، والمشهور خلافه.
والخلاف فيما تثبت به العادة في الطهر كالخلاف فيما تثبت به عادة الحيض، ولا فرق في ذلك بين قدره ووقته؛ حتى إذا كانت تحيض خمسة من أول الشهر، وتطهر خمسة وعشرين [يوماً] فرأت في شهر الدم [في] أول السادس منه، واستمر عشرة أيام، وانقطع، ثم أطبق الدم في الشهر الثاني- كان حيضها عشرة أيام، أولها السادس على الصحيح، وصار طهرها خمسة من أول الشهر وخمسة عشر من آخره.
ولا فرق فيما أثبتنا به العادة في الحيض والطهر بين أن يكون بالانقطاع: مثل أن كانت ترى الدم خمسة، ثم ينقطع بقية الشهر، أو بالتمييز: مثل أن تكون ترى خمسة دماً قوياً من أول الشهر، ثم ترى الضعيف بقيته، وتكرر ذلك مرتين أو ثلاثاً، ثم أطبق بها الدم على لون واحد.
وفي "النهاية" حكاية وجه في الثانية: أنه لا تثبت بها العادة في المبتدأة، ونجعلها كمبتدأة ما تمكنت من التمييز قط.
والمذهب- وبه جزم في موضع- الأول.
ثم ما ذكرناه فيما إذا لم يتجاوز الدم شهراً، فإن تجاوزه، وكانت عادتها أن ترى الدم خمسة أيام، وينقطع بقية الشهر، ثم استحيضت، أو كانت عادتها أن ترى الدم القوي خمسة أيام والضعيف بقية السنة، ثم أطبق على لون واحد فقد قال البندنيجي والمتولي: إنها في الأولى ترد إلى العادة دون الثانية.
وادعى الرافعي: أن ظاهر المذهب في الثانية اتباع العادة أيضاً؛ لأن الشافعي قال: "فإذا ذهب الدم- يعني: القوي- وجاءها الدم الأحمر الرقيق المشرق وهو عرق وليس بالحيضة فعليها أن تغتسل"، فأطلق الكلام إطلاقاً.
وحكى الإمام عن القفال في الأولى: أنها لا ترد إليها حيث قال: لو كانت امرأة تحيض خمسة، وتطهر خمسة وعشرين يوماً، فرأت مرة خمستها وانقطع الحيض
عشر سنين مثلاً، ثم أطبق الدم- فلا يجوز أن يقال: نردها في مقدار الطهر إلى عشر سنين إذا فرعنا على أن العادة تثبت بمرة واحدة، وإذا لم يسغ هذا فالسنة الواحدة في معنى عشر سنين فصاعداً، فما المنتهى المعتبر في ذلك؟ قال: قد راجعت في ذلك مشايخي ولم يذكروا ضابطاً، والوجه عندي أن يقال: غاية طول الدور تسعون يوماً الحيض منها ما يتفق، والباقي طهر؛ إذ لو كانت تحيض خمسة، وتطهر خمسة وعشرين، فحاضت خمسة وطهرت خمسة وثمانين، ثم أطبق الدم- فنجعل طهرها خمسة وثمانين ودورها تسعين.
وإن حاضت خمسة، وطهرت تسعين- فلا يعتبر هذا، ولكن نردها إلى الخمسة والعشرين التي كانت تطهر فيها قديماً، ولو لم يكن لها عادة قديمة، فهي كالمبتدأة.
قال الإمام: وما ذكره القفال لا مزيد عليه. نعم، لو تكرر طهرها سنة مرتين أو مراراً، ففي ردها إلى ما تكرر احتمال، والظاهر عندي: أنه لا يبالي به وإن تكرر.
فرع: إذا رأت المبتدأة خمسة دماً أسود، وباقي الشهر دماً ضعيفاً، وتكرر مراراً، ثم أطبق على لون واحد، وتعذر التمييز، ورددناها إلى الخمسة كما سلف، ثم جاءها دور فرأت عشرة- مثلاً- سواداً، وعشرين شقرة فهي الآن مردودة إلى العشرة ولا يخرج هذا على الخلاف في تقديم العادة والتمييز؛ فإن الأدوار التي استمرت كانت مميزة، وإنما الخلاف في عادات جرت في غير الاستحاضة مع أطهار وأدوار مستقيمة؛ قاله الإمام.
قال: فإن لم تكن مميزة، ولا لها عادة، وهي المبتدأة- أي: بفتح الدال والهمزة: المرأة التي ابتدأها الدم من غير تمييز عادة على لون واحد- ففيها قولان:
أحدهما: أنها تحيض أقل الحيض؛ لأن سقوط الصلاة عنها في هذا القدر مستيقن، وما عداه مشكوك فيه، ولا يترك اليقين إلا بيقين وأمارة ظاهرة: كالتمييز والعادة، وهذا أصح في "الرافعي".
وعلى هذا فما ترد إليه من الطهر أوجه:
أبعدها: أقل الطهر أيضاً؛ فيكون دورها ستة عشر يوماً، فإذا جاوز السابع [عشر] استأنفت حيضة؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن رواية البويطي.
وأظهرها: أن طهرها باقي الشهر؛ نظراً إلى الاحتياط.
وأوسطها: أن طهرها غالب الطهر ثلاثة وعشرون أو أربعة وعشرون.
وعن الشيخ أبي محمد: أنه كان يرى [على] هذا الوجه: أن ترد إلى أربعة وعشرين؛ احتياطاً للعبادة.
والثاني: تحيض غالب الحيض؛ لما ذكرناه من خبر حمنة بنت جحش؛ فإنها كانت مبتدأة؛ إذ لو كانت معتادة أو مميزة لردها إلى ذلك، وهذا أصح عند بعضهم، واختاره ابن الصباغ وأبو إسحاق المروزي.
وطهرها على هذا غالب الطهر بلا خلاف.
وقوله في الخبر: "فِي عِلْمِ اللهِ" أي: فيما أعلمك الله من عادتهن، وقوله:"ستاً أو سبعاً" هل [هو للتخيير] أو التنويع، بمعنى: أنها تجتهد في العادة؟ فيه وجهان منسوبان في "تعليق أبي الطيب" إلى ابن سريج.
ومختار أبي إسحاق المروزي الأول، وهو أصح عند الحناطي.
ومختار الغزالي والمتولي الثاني، وهو ما ادعى البندنيجي أنه المذهب، ولم يحك الإمام غيره.
وعلى هذا فمعنى الخبر: تحيضي ستاً إن كان عادتهن ستاً، وسبعاً إن كان عادتهن سبعاً، فلو نقصت عادتهن عن الست ردت إلى الست، ولو زادت على السبع ردت إلى السبع، وهل الاعتبار بنساء بلدها، أو [نساء] عشيرتها أو نساء العالم؟ فيه أوجه: المذكور في "تعليق القاضي أبي الطيب" و"الشامل" عن ابن سريج الأول والأخير، وفي "تعليق البندنيجي"الأخير والذي يليه، ومجموع ذلك ثلاثة أوجه:
فإذا قلنا: إن المرجع إلى نساء عشيرتها وهو الأصح في "التتمة"، وإليه صار الأكثرون [كما] قال الإمام: فلو لم يكن لها نساء أقارب، فالمرجع إلى نساء بلدها؛ قاله في "التتمة" ولا فرق على هذا بين الأقارب من الأب أو الأم، بخلاف مهر
المثل؛ فإن المعتبر فيه [مهر] أقارب الأب، وفي "الرافعي": أنه قد قيل بمثله هاهنا أيضاً، والمشهور الأول.
نعم، لو اختلفت عادة العشيرة في التقديرين تعين الست؛ لوقوع الاتفاق عليه، قاله الإمام، وحكى عن شيخه عند اتفاق عادتهن ومجاوزتها السبع أنه قال: يحتمل أن تثبت لها تلك العادة بعينها، ولا [تختص بالست] والسبع.
قال: وهذا الذي ذكره حسن ولكني لم أره لغيره، وعندي أنه ما ذكره مخرجاً وجهاً وإنما أبدى وجهاً من الاحتمال.
فائدة: ذكر القاضي الحسين في باب ما يعتبر بالأبوين أو أحدهما، فقال:
الذي يعتبر بأحد الأبوين: الإسلام، وضرب الجزية، ووجوب الجزاء، وحرمة الأكل.
والذي يعتبر بهما: استحقاق سهم الغنيمة- يعني: في الخيل- والزكاة، يعني: فلا تجب الزكاة في المتولد بين الظباء والمواشي كما صرح به في باب دية الجنين، وما يجزئ في الأضحية، وما يجزئ في جزاء الصيد، وحل الأكل.
وفي حل الذبيحة والنكاح قولان:
أحدهما: يعتبر بهما.
والثاني: يعتبر بالأب.
والذي يعتبر بالأم: الحرية، والملك.
والذي يعتبر بالأب: النسب، والكفاءة، وقدر الجزية كما ذكره في باب دية الجنين، ومنهم ذوو القربى.
ومهر المثل [يعتبر] بنساء عصبة الرجل.
وضمان الجنين يعتبر بخير الأبوين.
والحيض يعتبر بنساء عشيرتها.
وقال في باب دية الجنين: إن الإياس من الحيض يتبع فيه أغلظهما، وكذا حكاه الإمام.
[ولو لم يكن لها أقارب، فالرجوع على هذا الوجه الذي عليه التفريع إلى نساء البلد، قاله الرافعي].
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ: أنا إذا حيضناها يوماً وليلة، أو ستاً، أو سبعاً- كانت فيما عدا ذلك في حكم الطاهرات من كل وجه، وهو كذلك فيما بعد الخمسة عشر [يوماً إلى آخر الشهر، أما ما قبل ذلك مما لم نحيضها فيه إلى آخر الخامس عشر] فهي في حكم طهر مشكوك فيه، فتؤمر بالعبادات، ولا يجب عليها قضاء الصلوات، وفي وجوب قضاء الصوم والطواف قولان، حكاهما البندنيجي وغيره، وعزاهما الماوردي إلى نصه في "الأم"، وأبو الطيب رواهما وجهين، [وتبعه في "المهذب"]، ووجه الوجوب بأنها قد تكون حائضاً؛ فلا تخرج عما عليها، والأصل شغل ذمتها، وخالف الصلاة؛ فإنها إن كانت [حائضاً] لم تجب عليها، وإن كانت طاهراً فقد صحت؛ فخرجت عن العهدة، والصوم يجب بكل حال.
وعلى هذا فلا يمنع الزوج من وطئها؛ جزم به البندنيجي والرافعي وغيره، وقالوا: لا تمكن الزوج من وطئها في هذا الزمن، وتتجنب ما تتجنبه الحائض.
والإمام اختصر في ذلك فقال: تحتاط على هذا القول كما تحتاط الناسية المتحيرة، وسيأتي تفسيره في الكتاب، لكن هذا من الإمام يقتضي [أمرين:
أحدهما: منع الزوج من وطئها [في] هذه المدة، وبه صرح الرافعي، وفي "تعليق البندنيجي" الجزم بجوازه؛ تفريعاً على هذا القول.
[والثاني:] إيجاب قضاء الصلوات أيضاً [على رأي] كما ستعرفه.
والذي ذكره العراقيون والقاضي الحسين والماوردي الجزم بعدم قضاء الصلوات؛ لما ذكرناه، وقد حكاه الإمام بعد ذلك عن الأئمة، وقال: لا يمنع إذا فرعنا على قول الاحتياط أن يغلو غال فيوجب قضاء الصلوات؛ فإنها لا تفرغ من صلاة إلا ويجوز تقدير وقوع صدرها في بقية من الحيض، ولو فرض ذلك لكانت الصلاة باطلة، وهي واجبة لإمكان الانقطاع في الوقت.
وأبو زيد يوجب قضاء الصلوات على المتحيرة لمثل [ذلك].
نعم، لو أوقعت الصلاة في آخر الوقت على وجه لو فرض انقطاع الحيض بعد العقد لما وجبت الصلاة، مثل: أن توقع ركعة في آخر الوقت، والباقي وراءه؛ فلا يجب القضاء في هذه الصورة، إذا قلنا: لا تجب الصلاة بإدراك ما يقصر عن قدر الركعة.
والصحيح باتفاق الأصحاب: أنه لا يجب عليها قضاء الصلوات والصوم، وأن حكمها فيما بين الزمن الذي حيضناها فيه إلى تمام الخمسة عشر يوماً- حكم الطاهرات؛ كما أن حكمها كذلك بعد الخمسة عشر يوماً إلى آخر الشهر بلا خلاف.
ثم اعلم أن حصر من [لا] تمييز لها ولا عادة في المبتدأة لا يعم سائر أحوالها، [بل ذلك في بعض أحوالها]، وهو أن ترى الدم على صفة واحدة، وينقسم دمها إلى قوي وضعيف، ويفقد شرط مما شرطناه في التمييز، ويندرج فيه صور:
منها: إذا رأت خمسة أيام دماً أصفر أو أحمر، ثم دماً أسود إلى باقي الشهر ففي هذه الصورة ونحوها، هل يكون ابتداء حيضها من أول الحمرة أو الصفرة أو من أول الدم الأسود؟ فيه وجهان:
المذهب منهما: الأول، ومقابله منسوب إلى ابن سريج؛ لأن التمييز يفيد الابتداء والانتهاء، فإذا عدم الانتهاء لا يبطل الابتداء.
قال أبو الطيب: وهذا غير صحيح؛ لأن التمييز إنما يثبت به حكم إذا صح وهذا لم يصح.
ومنها: إذا رأت ستة عشر يوماً دماً أصفر وبعده دماً أسود، واتصل، ففيما ترد إليه
القولان، وقال ابن سريج: إن قلت: إنها ترد إلى يوم وليلة؛ فإني أردها إليه من أول الأصفر، ويكون بعد ذلك خمسة عشر يوماً طهراً صحيحاً، وبعد ذلك حيضاً، وتفارق المسألة قبلها ونظائرها؛ لأني لو رددتها إلى أول الدم الأصفر لم يبق طهر صحيح. وإذا قلت: إنها ترد إلى ست أو سبع، فإني أردها إلى ذلك من أول الدم [الأسود]؛ لأنه لو جعلته من أول الدم الأصفر لم يبق بينه وبين الدم الأسود طهر صحيح، اللهم إلا أن تكون الصفرة إلى آخر اليوم الثاني [والعشرين]؛ فإني أردها إلى أول الدم.
فرع: إذا رأت المبتدأة الدم على صفة واحدة إلى آخر الشهر، ثم في الشهر الثاني رأت خمسة أيام دماً أسود والباقي أصفر، ثم في الثالث رأت الدم على صفة واحدة إلى آخره- ففي قدر حيضها في الشهر الأول القولان، وفي الشهر الثاني تغتسل وتصلي من ابتداء السادس، وفي الشهر الثالث كذلك [على المذهب] في أن العادة [تثبت] بمرة واحدة.
[و] على مقابله [يكون] فيها القولان، كما في الشهر الأول، حكاه البندنيجي.
وقال القاضي الحسين: إن قلنا: ترد في الشهر الأول إلى يوم وليلة، فكذلك في الثالث؛ لأنه تكرر في الأول ومن جملة الثاني، وإن قلنا: ترد في الأول إلى ست أو سبع، ففي الثالث ترد إلى خمس؛ لأنها قد تكررت فوجدت في الشهر الأول من جملة السبع ووجدت في الثاني فردت في الثالث إليها.
فائدة: الأحوال الثلاثة المذكورة في المميزة والمعتادة والمبتدأة مفروضة- كما سلف- فيما إذا أطبق الدم، وجاوز خمسة عشر يوماً، فلو رأت يوماً وليلة دماً ويوماً نقاء، وجاوز ذلك الخمسة عشر فقد قال محمد أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي: إن اليوم السادس عشر طهر فاصل بين الحيضتين.
وهكذا لو رأت ثلاثة أيام دماً وثلاثة أيام نقاء، يكون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر طهراً فاصلاً بين الحيضتين.
وكذا لو كانت ترى خمسة أيام دماً وخمسة أيام نقاء، تكون الخمسة الرابعة طهراً فاصلاً بين الحيضتين.
ولو كانت ترى يومين دماً ويومين نقاء، فحيضها أربعة عشر يوماً، والخامس عشر والسادس عشر طهر فاصل.
وكذا لو رأت يومين دماً ويوماً نقاء، يكون الخامس عشر طهراً فاصلاً.
ولو رأت أربعة أيام دماً وأربعة [أيام] نقاء، كان الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر- طهراً فاصلاً. [و] على هذا النحو.
قال الأصحاب: هذا إن كان يدعى أنه مذهب الشافعي [فهو خطأ؛ لأن الشافعي] نص على خلافه.
وإن [كان] اختياراً له؛ [فهو] باطل؛ لأنه لو جاز أن يكون السادس [عشر] فاصلاً، لجاز أن يكون في أثناء الخمسة عشر فاصلاً؛ ألا ترى أن التمييز لما كان فاصلاً في آخر الخمسة عشر، كان فاصلاً في أثنائها.
فإذا ثبت ذلك: فإن كانت مميزة؛ فإن كانت ترى يوماً دماً قوياً ويوماً نقاء إلى آخر العاشر، ثم رأت الحادي عشر دماً ضعيفاً والثاني عشر نقياً، وهكذا إلى أن جاوز الخمسة عشر فأيام [الدم] القوي حيض، وفي النقاء المتخلل بينها القولان في التلفيق، والدم الضعيف دم استحاضة.
[ولو كانت] معتادة لا تمييز لها، مثل: أن كانت تحيض من أول كل شهر خمسة أيام، وصارت ترى يوماً دماً ويوماً نقاء، وجاوز الخمسة عشر فعلى قول السحب حيضها الخمسة الأولى، وعلى قول التلفيق وجهان:
أحدهما: [حيضها ثلاثة أيام: الأول، والثالث، والخامس.
وأصحهما في "النهاية"]: أن حيضها خمسة أيام: الأول، والثالث، والخامس،
والسابع، والتاسع.
وعلى قياس هذا فلو كان عادتها تسعة أيام، فإن قلنا بالوجه الأول، كان حيضها خمسة أيام، وإن قلنا بالوجه الثاني كان حيضها ثمانية أيام؛ كما هو فيما لو كانت عادتها ثمانية أيام: الأول، والثالث، والخامس، والسابع، والتاسع، والحادي عشر، [والثالث عشر]، والخامس [عشر].
ولا يزاد على ذلك؛ لأنا [لا] نلتقط على هذا الوجه من أكثر مدة الحيض.
ولو كانت عادتها خمسة من أول الشهر، فرأت يومين دماً ويومين نقاء إلى آخر الشهر فعلى قول السحب حيضها الخمسة الأول، وعلى قول التلفيق: إن حصرناه في أيام العادة، كان حيضها: الأول، والثاني، والخامس فقط.
وذكر بعض الأصحاب وجهاً ضعيفاً أنه لا نحيضها اليوم الخامس؛ فإنها في السادس مستحاضة، وقد اتصل الخامس بدم ضعيف؛ فضعف واكتسب حكمه.
وإن لم نحصر التلفيق بأيام العادة، فحيضها: الأول، والثاني، والخامس، والسادس، والتاسع. وفي التاسع الوجه الضعيف السالف.
وعلى قياس هذا: لو كانت عادتها أن تحيض يوماً وليلة، وتطهر باقي الشهر، فصارت ترى يوماً دماً وليلة نقاء، واستمر، فإن قلنا بالسحب، فقد قال أبو إسحاق: لا حيض لها؛ لأن تحيضها يوماً محال، ولا سبيل إلى تحيضها اليوم مع الليلة؛ لأنها غير محتوشة بدمين من الحيض، ولا سبيل إلى مجاوزة العادة على القول الذي عليه نفرع؛ فتعين ما ذكرناه.
وقال أبو بكر المحمودي: هذه الصورة يتعين فيها قول التلفيق؛ فإنه يبعد أن يقال: لا حيض لها، وهي ترى الدم في سن الحيض على صفة الحيض شطر عمرها.
وقال الشيخ أبو محمد: عندي وجه آخر: أنا نحيضها في اليوم، وفي ليلة النقاء، وفي اليوم الذي بعدها؛ لأن زيادة الحيض ليست منكرة، فإن قلنا بالتلفيق، وقلنا بعدم حصره في أيام العادة فلا إشكال، وإن [قلنا] بحصره فيها، فيأتي مذهب أبي
إسحاق في أنه لا حيض لها- قال القاضي الحسين: و [هذا] هو الصحيح- ومذهب المحمودي [في] أنا نصير إلى مقابله وهو عدم حصره فيها فيكون لها يومان حيضاً.
[قال الإمام]: وهو هنا حسن بالغ.
وإن كانت مبتدأة، فإن قلنا: ترد إلى يوم وليلة، فلا كلام، وإن قلنا: ترد إلى غالب الحيض، فإن ردت إلى ست، وقلنا بالسحب كان حيضها خمسة أيام؛ لأن السادس نقاء غير محتوش بدمين، وإن ردت إلى سبع كان حيضها سبعة أيام.
[وإن] قلنا بقول التلفيق، كان في قدر حيضها وجهان؛ كما فيمن عادتها ست أو سبع، وأثر هذا فيما تقضيه من الصلاة والصيام والطواف في الشهر الأول، وما تأتي به في الشهر الثاني عند تبين الاستحاضة، فلو كانت قد صلت وصامت في أيام النقاء في الشهر الأول، فماذا تقضيه؟
قال الشافعي: تقضي صوم خمسة عشر يوماً، وصلاة سبعة أيام.
وقال الأصحاب: هذا تفريع على أنها ترد إلى يوم وليلة، لكن فيه إشكال؛ لأن قضية نصه على قضاء [صوم] خمسة عشر يوماً- أن تقضي صلاة أربعة عشر يوماً؛ لأنه لما حكم بعدم صحة الصوم في زمان النقاء، وجب أن يحكم بمثله في الصلاة.
وقضية نصه على قضاء [صلاة] سبعة أيام أن تقضي صوم ثمانية أيام؛ لأنه لما حكم بصحة الصلاة في زمن النقاء، وجب أن يحكم بمثله في الصوم.
فاختلف الأصحاب فيه:
فمنهم من نقل وخرج، وجعل الصوم والصلاة على قولين.
ومنهم من قال: الشافعي أجاب في الصلاة على قول التلفيق [و] في الصوم على قول السحب، وهو غلط؛ لأنه لا يحسن أن يجيب في مسألة واحدة في سطر واحد على قولين مختلفين.
ومنهم من أقر النصين، وفرق بما ذكرناه من قبل، هكذا قال القاضي الحسين،
وقال: إن أبا زيد وغيره ذكروا القولين في قضاء الصوم، وسكتوا عن قضاء الصلاة، لكن أبا زيد قال: أصلهما ما إذا اقتدى الرجل بخنثى مشكل، ثم ظهرت رجوليته قبل القضاء هل يجب عليه قضاء الصلاة؛ لتردده في الصحة حال الإحرام أم لا؟ فإن قلنا: يجب لتردده، فكذا يقضي الصوم هنا؛ لتردده في النية.
وقال القفال: ما ذكره أبو زيد إنما يستقيم في الشهر الأول؛ فإنه شهر التربص والتوقف، فأما إذا بان أنها مستحاضة في الشهر الثاني فلا تردد، وقد طرد الشافعي القولين في الصوم في الشهور كلها؛ فالوجه بناء القولين على القولين المتقدمين في أن المبتدأة هل تؤمر بالاحتياط إلى خمسة عشر يوماً أو لا؟
قال الإمام: وكأن الشيخ أبا زيد يطرد القولين في الشهر الأول وإن فرعنا على أنها غير مأمورة بالاحتياط؛ لمكان التردد الذي ذكرناه في الاقتداء بالخنثى.
واعلم أن هذه إذا دام تقطع دمها، فالضابط في ابتداء حيضها الثاني أن تأخذ نوبة زمان حيضها ونوبة زمان طهرها، ثم تضربهما في عدد يبلغ ثلاثين يوماً أو ما يقرب منها، مثاله: إذا رأت يوماً [دما] ويوماً طهراً، فتضرب يومين في خمسة عشر يبلغ ثلاثين؛ فيكون يوم الحادي والثلاثين ابتداء حيضها في الشهر الثاني.
ولو رأت يوماً ويومين طهراً، أو بالعكس فتضرب ثلاثة أيام في عشرة تبلغ ثلاثين.
وهكذا لو رأت ثلاثة أيام دماً ويومين طهراً، أو بالعكس، فتضرب خمسة في ستة فتبلغ ثلاثين.
ولو كانت ترى يومين دماً ويومين طهراً، ففيه وجهان:
أحدهما: تضرب أربعة في سبعة تبلغ ثمانية وعشرين؛ فيكون ابتداء حيضها الثاني التاسع والعشرين.
والثاني- وهو الصحيح-: أنك تضرب الأربعة في ثمانية تبلغ اثنين وثلاثين يوماً، فيكون ابتداء حيضها الثاني الثالث والثلاثين؛ لأنه مهما أمكننا ألا نحيضها في شهر واحد إلا مرة فعلنا.
ولو كانت ترى ثلاثة أيام دماً وأربعة أيام طهراً، أو بالعكس، فمجموع العددين سبعة، وفيم تضرب؟ فيه وجهان:
أحدهما: أربعة؛ فتبلغ ثمانية وعشرين.
والثاني: خمسة؛ فتبلغ خمسة وثلاثين، ويكون على هذا ابتداء حيضها الثاني السادس والثلاثين.
ولو رأت أربعة أيام دماً وأربعة أيام طهراً فتضرب ثمانية في أربعة على الصحيح؛ فتبلغ اثنين وثلاثين، وعلى الآخر: تضربها في ثلاثة؛ فيكون ابتداء حيضها الخامس والعشرين، وعلى هذا فقس.
قال: وإن كان لها عادة، فنسيت عددها ووقتها هذه المرأة تسمى بالمتحيرة: إما لتحيرها في شأنها أو لتحير الفقيه في أمرها.
وصورتها أن يطرأ عليها وقد عرفت عادتها جنون أو غفلة، وأفاقت وهي مستحاضة ولا تدري كم العادة ووقت الحيض؟ ولا تمييز لها.
وفي معناها من تكون [بلغت] مجنونة، وأفاقت وهي مستحاضة، [ولا تدري كم العادة ووقت الحيض؟ ولا تمييز لها]، وما حكمها؟
قال الشيخ: ففيها قولان:
أحدهما: أنها كالمبتدأة؛ لأن العادة المنسية لا يمكن استفادة الحكم منها [فكانت كالمعدومة؛ ألا ترى أن التمييز لما لم يمكن استفادة الحكم منه]؛ لفوات بعض الشروط ألحق بالمعدوم، وإذا ثبت أنها كالمعدومة ولا تمييز، تعين أن تكون كالمبتدأة، وهذا القول قال بعضهم: إنه أخذ من قول الشافعي في العدد: تحيض في كل شهر حيضة؛ لأنه غالب وقت حيض النساء.
وقال الماوردي: إن بعض الأصحاب أخذه من قوله في العدد: "ولو ابتدأت مستحاضة [فنسيت] أيام حيضتها؛ تركت الصلاة لأقل ما تحيض له النساء، وذلك يوم وليلة"، قال: وهذا غير صحيح؛ لأن أقل زمان حيضها مجهول؛ فلا معنى لاعتبار الاجتهاد مع الجهل بالزمان، وكلام الشافعي عائد إلى المبتدأة دون الناسية؛ فإنه كثيراً ما يجمع بين المسألتين، ويجيب عن إحداهما، ويجوز أن يريد به الناسية لقدر حيضها، الذاكرة لوقته.
فإذا قلنا به، كان فيما ترد إليه القولان في المبتدأة.
وقيل: ترد إلى أقل الحيض، قولاً واحداً، ولم يذكر البندنيج غيره، وقال الروياني: إنه الذي نص عليه في كتاب العدد، وإن من قال بأنها ترد إلى ست أو سبع خرجه.
والمشهور الطريقة الأولى، وهي الموافقة لإطلاق الشيخ.
وكيف كان فابتداء حيضها من أول كل هلال تم الشهر أو نقص، فلو أفاقت المجنونة في أثناء الشهر الهلالي عد باقي الشهر استحاضة، وهذا أخذ من قول الشافعي: تستقبل العدة أول هلال يأتي عليها، فإذا أهل الرابع انقضت عدتها؛ فيكون حيضها من أول كل هلال؛ لأن لأول الشهر أثراً في التجارب؛ فتعتبر به.
وعبارة الأصحاب: أن الغالب أن الحيض يبتدئ مع استهلال الشهر؛ فيرجع إليه؛ وهذه الدعوى يخالفها الحس.
وعن القفال: أنها إذا أفاقت كان ابتداء حيضها من وقت الإفاقة؛ لأن التكليف حينئذ يتوجه عليها.
قال الأئمة؛ وهو بعيد؛ فإنها قد تفيق في أثناء الحيض؛ وعلى هذا قدروها ثلاثين يوماً.
وعن ابن سريج: أنه يقال لها: متى تعلمين لنفسك طهراً في عمرك؟ فإذا قالت: يوم كذا جعلنا عقبه ابتداء حيضها، حكاه البندنيجي.
وحكى الروياني عنه أنه قال: يقال لها: متى رأيت ابتداء الدم؟ فإن عرفته جعلنا ابتداء حيضها من ذلك الوقت وعددنا لها ثلاثين يوماً، ثم حيضناها يوماً وليلة، وعلى ذلك أبداً.
وإن لم تعرف [ابتداء] حيضها، جعلنا ابتداء حيضها عقيب الزمن الذي تيقنت أنها كانت طاهرة فيه، فإن لم تعرف جعلنا حيضها من أول كل شهر، وهذا ما حكاه في "المهذب".
وكلام ابن سريج والقفال مصرح بأن الشهر يعتبر في حقها بالعدد فيما ذكرناه، وهو خلاف النص، لكنه موافق لشهر المستحاضة؛ فإنه حيث أطلق فيما عدا ما نحن فيه حمل على العدد، أي سواء كان ابتداؤه من أول الهلالي أو لا.
وفصل القاضي الحسين فقال: إن بلغت مجنونة وأفاقت، ردت إلى الشهر العددي، وإن بلغت عاقلة، فجنت ثم أفاقت، ردت إلى الشهر الهلالي، ثم ما جعناه حيضاً لها تقعد عن الصلاة فيه، وبعده تغتسل وتصلي، وتتوضأ لكل صلاة، ولا تقضي الصلاة، وهل تقضي الطواف والصوم؟ فيه طريقان في "تلخيص الروياني":
إحداهما: أنهما على القولين السالفين في المبتدأة.
والثانية: القطع بالقضاء، وهي التي أوردها البندنيجي.
وهذا كله تفريع على القول الأول.
قال: والثاني- وهو الصحيح- ألا يطأها الزوج؛ لأنه ما من زمن يمر عليها إلا ويحتمل أن تكون فيه حائضاً؛ كما يحتمل أن تكون فيه طاهراً، والوطء لا يستباح بالشك، وهذا ما نص عليه في كتاب الحيض.
وفي "الحاوي" وجه آخر: أن له الوطء؛ لأنه مستحق للاستمتاع يقيناً؛ فلا يمنع منه بالشك، ولأن في منعها منه مع استدامة ما بها تحريماً عليه مع بقاء النكاح، وليست كالمبتدأة إذا أشكل حالها؛ لأن زمان الشك يسير.
والسيد فيما ذكرناه كالزوج.
ثم على المنصوص لو وطئها الزوج، وقلنا بالقديم أن الوطء في الحيض يوجب الكفارة- لم تجب. نعم، يجب التعزير.
وكذا لو جومعت في رمضان حيث قلنا: يجب عليها الكفارة، لو كانت غير مستحاضة لا تجب هنا.
قال في "الروضة" على الصحيح؛ لأنها لا تجب بالشك، ونفقتها واجبة على الزوج وإن منع الوطء، ولا خيار له في فسخ نكاحها؛ لأن وطأها متوقع، وله الاستمتاع بها فيما فوق الإزار، وفيما تحته الخلاف الآتي في الحائض.
قال: وتغتسل لكل فريضة، أي: تتوقف صحتها على الغسل كما لو كانت حائضاً- كالصلاة والطواف؛ لما روى أبو داود عن عائشة أن أم حمنة بنت جحش استحيضت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها بالغسل لكل صلاة.
وعن سليمان بن كثير عن الزهري عن عروة عن عائشة: استحيضت [زينب] بنت جحش، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اغْتَسِلي لِكُلِّ صَلَاةٍ".
ولأنه ما من زمن إلا ويحتمل انقطاع الحيض فيه؛ فوجب عليها الاغتسال أخذا بالأحوط، ولا يقدح في ذلك احتمال الانقطاع في أثناء الغسل؛ لأن اعتباره يؤدي إلى التسلسل، ويبطل شرع الغسل؛ وهذا إذا لم تكن تعرف وقت انقطاع دمها.
أما إذا عرفته بأن قالت: كنت عند غروب الشمس أغتسل، فعليها أن تغتسل [عند] غروب الشمس من كل يوم، وتتوضأ لما سوى المغرب من الصلوات، واغتسالها في الحالة الأولى لأجل الصلاة، يكون بعد دخول الوقت، على الأصح.
وقيل: لو وجد قبل دخوله، وانطبق آخره على أول الوقت جاز.
وفي "الحاوي": أنه يكون في آخر الوقت الذي لا يمكنها بعد الغسل إلا فعل الصلاة؛ لأنه يجوز أن ينقطع دمها في آخره؛ فلا يجزئها ما قدمت في أوله من الغسل والصلاة، وهذا يفهم [منه] أن الصلاة تفعل في آخر الوقت حتماً عقيب الغسل، وبه صرح من بعد نقلاً، وأبدى لنفسه بحثاً سنذكره.
وكلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق بين أول الوقت وأوسطه وآخره، وَالَتْ بين الصلاة والغسل أو فرقت، وستعرف ما [في] جواز فعلها الصلاة في أول الوقت ووسطه وآخره، وأما الموالاة بين الغسل والصلاة ففيها وجهان:
أحدهما: تجب كما في الوضوء.
وأصحهما عند الإمام ومن تبعه: لا؛ لأنا إنما نوجب البدار إلى الصلاة بعد الوضوء؛ تقليلاً للحدث.
والغسل إنما تؤمر به؛ لاحتمال الانقطاع، [ولا يمكن] تكرر الانقطاع بعد الغسل والصلاة، ولو بادرت فمن المحتمل كما ذكرنا أن غسلها يقع في الحيض وانقطع بعده؛ فإذن لا حيلة في دفع ذا الاحتمال وإن قرب الزمان [به].
قال الرافعي: ولصاحب الوجه الأول أن يقول: دفع أصل الاحتمال لا يمكن، لكن الاحتمال في الزمن الطويل أظهر منه في الزمن القصير والمبادرة تقلل الاحتمال.
التفريع:
إن قلنا بالأول، فأخرت الصلاة بعد الغسل، أعادت الغسل.
وإن قلنا بالثاني، لزمها الوضوء، إذا لم يجز للمستحاضة تأخير الصلاة عن الطهارة، وقد سكت الشيخ عن فعل الفريضة التي ذكرها؛ لدلالة ما ذكره عليه، وهو مما لا خلاف فيه.
نعم، الخلاف في أنها هل تزيد في الصلاة على قراءة الفاتحة كما يجوز لها قراءة الفاتحة، أو لا؛ كما لا يجوز لها القراءة في غير الصلاة؛ بناء على أن الحائض لا تقرأ القرآن؟ فيه احتمالان للإمام، حكاهما غيره وجهين وأظهرهما: الأول؛ فأفهم
كلامه أنها لا تغتسل للنوافل وتصليها.
وللإمام في جواز صلاتها النوافل احتمالات، أقامها غيره أوجهاً، ثالثها: يجوز لها [فعل السنن الراتبة دون غيرها.
والمذكور في "الحاوي" أنه لا يجوز لها] غير الراتبة وفي الراتبة وجهان.
والأصح في "الرافعي" جواز الكل.
والخلاف جار في نوافل الصوم والطواف، وصرح الماوردي بما ذكره في الطواف، وجزم في الصوم بالمنع، والقياس التسوية.
ثم حيث جوزنا لها التنفل بالصلاة والطواف، فلا يلزمها الاغتسال كما أفهمه كلام الشيخ، وهو يطرد في ركعتي الطواف إذا قلنا: إنهما سنة، وقد قيل [على القول] بوجوبهما: إنها لا تغتسل لهما؛ لأنهما تبع للطواف، حكاه القاضي الحسين مع الأول.
وبعضهم قطع به موجهاً له بأن دمها إن كان قد انقطع قبل الغسل للطواف، فهي الآن طاهرة، ولا تقدر على عوده.
وإن كان قد انقطع في حال الطواف، فلم يحكم بصحة طوافها، وشرط الاعتداد بالركعتين أن يكونا بعد تمام الطواف.
وإن فرض وقوع الطواف في بقية طهر، وابتداء الحيض حالة الاشتغال بالركعتين- فلا فائدة فيه.
نعم، على هذا التقدير لابد من وقوع طواف آخر بغسله وركعتيه في طهر، كذا قاله الإمام.
وعلى هذا هل يلزمها الوضوء لهما؟ فيه وجهان في الرافعي، وأصحهما الوجوب.
قال: وتصوم شهر رمضان؛ لأنه ما من يوم إلا ويحتمل أن تكون فيه طاهراً، بل احتمال كونها في جميع الشهر طاهراً ممكن.
قال: ثم تصوم شهراً آخر؛ لاحتمال كونها في رمضان قد حاضت أكثر الحيض؛ فلم يسقط به فرضها، بل الساقط منه إن كان كاملاً أربعة عشر يوماً؛ لأنه يحتمل أن يكون الحيض قد طرأ في أثناء يوم، وانقطع في أثناء آخره وهو خمسة عشر يوماً،
[فيفسد اليومان وما بينهما- وهو الأربعة عشر يوماً- فلا يصح لها إلا ما ذكرناه].
قال: فيصح لها من ذلك- أي: من صيام الشهرين إذا كانا كاملين- ثمانية وعشرون يوماً- أي: بيقين- لما ذكرناه، وهذا ما صار إليه أبو زيد ومن تبعه من الأصحاب وهم الأكثرون على اختلاف طبقاتهم.
لكن المنقول عن الشافعي: أنه [يحصل لها] من الشهر الكامل خمسة عشر يوماً؛ [إذ لابد وأن يكون لها في الشهر طهر صحيح، وغاية ما يمكن امتداد الحيض خمسة عشر يوماً؛ فيقع صوم خمسة عشر يوماً] في الطهر.
قال الرافعي: وقد ذكر هذا قوم من الأصحاب: كصاحب "الإفصاح" والشيخ أبي حامد؛ ولأجله أثبت الإمام في المسألة طريقين:
إحداهما: القطع بما قاله أبو زيد، وحمل كلام الشافعي على ما إذا أخبرت أن دمها كان ينقطع بالليل.
والثانية: حكاية خلاف في المسألة.
والأصح الطريقة الأولى.
قال: ثم تصوم ستة أيام من ثمانية عشر يوماً: ثلاثة في أولها، وثلاثة في آخرها؛ فيصح لها منها ما بقي من الصوم- أي: وهو يومان في مثالنا- لأن الدم إن كان قد طرأ في أثناء اليوم [الأول] منها، انقطع في مثله من السادس عشر منها؛ فيسلم لها السابع عشر والثامن عشر، [وإن طرأ في أثناء الثاني، انقطع في مثله من السابع عشر فيسلم لها الأول والثامن عشر] وإن طرأ في أثناء الثالث انقطع في الثامن عشر فيسلم الأول والثاني، وإن طرأ في أثناء السادس عشر انقطع في أثناء اليوم الأول؛ فيسلم الثاني والثالث وإن طرأ في أثناء السابع عشر انقطع في أثناء الثاني منها؛ فيسلم السادس عشر والثالث، وإن طرأ في أثناء الثامن عشر انقطع في أثناء الثالث؛ فيسلم السادس عشر والسابع عشر، وتخرج بهما عن العهدة، هذا تقرير [ما ذكره الشيخ، وهو يفهم اختصاص الخروج عن العهدة] بصوم الثلاث في أول الثماينة عشر متواليات وكذا في آخرها، [وليس كذلك، بل لو صامت يومين في
أول المدة ويومين في آخرها] ويومين [فيما بين ذلك] سواء كانا متصلين باليومين الأولين أو باليومين الآخرين، أو منفردين عنهما، متفرقين أو مجتمعين- خرجت عن العهدة أيضاً.
وضابط هذا: أن تعرف ما عليها من صوم وتصومه، وتصوم مثله بعد استكمال خمسة عشر يوماً من أول صومها الأول، وتصوم يومين فيما بين الصومين.
مثاله: إذا كان عليها ثلاثة أيام صامتها في أي وقت شاءت، وصامت يومين بعدها إلى تمام خمسة عشر يوماً، وتصوم ثلاثة أيام عقب الخمسة عشر؛ فتخرج عما عليها بيقين.
[وعلى هذا] فإن قيل: هل يتصور أن تخرج [عما عليها بيقين بدون ما ذكرتم؟
قلنا: أما في المدة التي ذكرها الشيخ ومثالها فلا. نعم، يتصور أن تخرج] عن العهدة فيما ذكره الشيخ بخمسة أيام لكن من تسعة عشر يوماً [فتصوم يوماً]، وتفطر يوماً، وتصوم الثالث والسابع عشر من اليوم الأول، والتاسع عشر منه وفيما بين الرابع والسادس [عشر] تصوم اليوم الخامس.
وضابط هذا أن تعرف ما عليها من صوم، فتصوم يوماً وتفطر يوماً إلى أن تستوفيه، ثم تترك الصوم [تمام ستة عشر يوماً] من أول صيامها، فتصوم يوماً وتفطر يوماً قدر ما صامت وأفطرت من أول المدة، وتصوم يوماً آخر فيما بين آخر [فطرها بعد] صيامها الأول والسادس عشر.
مثاله: إذا كان عليها صوم ثلاثة أيام تصومها من أحد وعشرين [يوماً]: تصوم [يوماً] وتفطر ثانيه، وتصوم ثالثه، وتفطر رابعه، وتصوم خامسه؛ فيحصل لها صيام ثلاثة أيام قدر ما عليها، وتصوم السابع عشر من أول يوم [صامته]، والتاسع عشر منه، والحادي والعشرين منه، وذلك قدر ما [صامته] أولاً، وتصوم فيما بين اليوم السادس من أول صيامها واليوم السادس عشر منه يوماً آخر؛ فتخرج عن العهدة، والله أعلم.
أما إذا كان رمضان والشهر الذي صامته ناقصين فعلى قياس النص الحاصل لها منهما ثلاثون يوماً، والواجب عليها صوم تسعة وعشرين يوماً، وقد حكاه الرافعي.
لكن في "تلخيص الروياني": أن الشافعي قال: إذا صامت رمضان حصل [لها] منه خمسة عشر، فلو صامت شوال حصل لها أربعة عشر يوماً، وقياسه عند نقص شهر غيره أن يحصل لها منه أربعة عشر يوماً، ولا يقال: الفرق بينهما أن النقص في شوال [حصل في] أوله وفي غيره يكون من آخره، وللأولية أثر فيما نحن فيه؛ لأنا نقول: إن الشافعي إنما راعي أوائل الشهور بالنسبة إلى طروء الحيض وهو ضد ما نحن فيه.
وعلى الطريقة المشهورة لا يصح لها منه غير ستة وعشرين يوماً؛ لما قررناه، ويكون الباقي عليها بعد ذلك ثلاثة أيام، تصومها على رأي الشيخ من ثمانية أيام من تسعة عشر يوماً: أربعة في أولها، وأربعة في آخرها.
وعلى الطريقة الأخرى: تصومها من سبعة [من أحد] وعشرين يوماً؛ كما سلف.
ولو كان رمضان ناقصاً والشهر الآخر تاماً: فعلى قياس قول الشافعي لا يخفى الحكم، وعلى الطريقة المشهورة الحاصل لها منهما سبعة وعشرون يوماً، والباقي عليها يومان فتقضيهما كما سلف.
وقال في "المهذب": يلزمها قضاء يوم واحد. فمن النسا من خطأه؛ لأن تفاريعه السالفة تقتضي ما ذكرناه، وهذا جرى على ظاهر النص، ولم يقل به.
ومنهم من أجراه على ظاهره، وهو صاحب "البيان"، فقال: الشهر الهلالي لا يخلو في الغالب عن طهر كامل، فيحصل منه أربعة عشر يوماً كالكامل.
وبعضهم يحكي عنه غير هذه العبارة، ويقول: إنه قال: الشهر الهلالي لا يخلو من
طهر صحيح: إما متفرقاً، وإما متتابعاً، فإذا كان الشهر تسعة وعشرين يوماً، فلابد من وجود طهر كامل [فيه]؛ فيدخل النقص على أكثر الحيض؛ لأنه يجوز نقصه، ولا يدخل على أقل الطهر؛ لأنه لا يجوز نقصه.
قال بعضهم: وهذا لا يصح، ومحل المنع فيه قوله:"إن الشهر الهلالي لا يخلو من طهر صحيح"، والمسلم أنه لا يخلو من طهر صحيح، إنما هو الدور إذا كان ثلاثين [يوماً] لا الشهر الناقص.
قلت: وهذا لا يقدح في قول العمراني؛ لأن مراده: أن الشهر الهلالي لا يخلو عن طهر كامل وحيض عند الشافعي وكذلك اكتفى في عدة المتحيرة بثلاثة أشهر، ووافقه جمهور أصحابه كما ستعرفه، وجعل الله عدة الآيسة ثلاثة أشهر.
والرافعي قال على العبارة الأولى: لك أن تقول: لا نسلم أن الله أجرى العادة بما ذكرتم، هب أنه كذلك، لكنا على قول الاحتياط لا نكتفي بالغالب، ولو اكتفينا به
لجعلنا الفاسد صوم سبعة أيام أو ثمانية؛ لأن الغالب من الحيض ست أو سبع؛ فإذن ما ذكره الشيخ ساقط.
قلت: وجوابه ما سلف وحينئذ يصح ما قاله الشيخ، ولا يكون تفريعاً على ظاهر النص وإن كان موافقاً لما حيكناه عن رواية الروياني عن الشافعي.
وقد أول بعضهم كلام الشيخ بما أول به كلام الشافعي؛ لما ضاق عليه المجال.
وإذا جرينا على ظاهر كلام الشيخ، فقضية ظاهر النص أنها تقضيه من يومين بينهما أربعة عشر يوماً؛ وهو ما حكاه الروياني عن النص، وبه قال بعض الأصحاب.
والجمهور على تأويله بما سلف.
وعلى هذا ففي كيفية قضائه وجهان:
أحدهما- وهو [قضية] ما ذكره الشيخ: أنها تقضي اليوم الواحد من أربعة أيام من سبعة عشر يوماً: [يومان] في أولها، ويومان في آخرها، وعليه جرى في "المهذب" وغيره.
والمشهور أنها تقضيه من ثلاثة أيام من سبعة عشر يوماً أيضاً: فتصوم يوماً، وتفطر ثانيه، وتصوم ثالثه، ثم السابع عشر من اليوم الأول، ولا يتعين عليها صوم ثالثا اليوم الأول ولا السابع عشر من اليوم الأول؛ بل لها أن تصوم ما بعد الثاني إلى تمام خمسة عشر يوماً من اليوم الأول، وتصوم ما بعد السادس عشر منه إلى تمام تسعة وعشرين يوماً، لكن بشرط أن يكون المختلف من [أول] السادس عشر مثل ما بين صومها الأول والثاني، وأقل منه.
مثاله: إذا صامت الأول والرابع، فتصوم الثامن [عشر] أو السابع عشر؛ فلو صامت التاسع عشر لم تخرج عن العهدة، وعلى هذا المثال.
ولو كان رمضان تاماً والشهر الآخر ناقصاً، فالحاصل لها منهما على المشهور سبعة وعشرون يوماً؛ فيلزمها قضاء ثلاثة أيام.
وعلى طريقته في "المهذب" يلزمها قضاء يومين.
وعلى ظاهر النص: لا يلزمها شيء.
ثم ما ذكرناه في الصوم الذي لا تتابع فيه، فإن كان متتابعاً بنذر أو غيره: فإن كان يقدر ما يقع فيه في شهر صامته على الولاء، ثم مرة أخرى قبل السابع عشر، ثم مرة أخرى من السابع عشر.
مثاله: عليها يومان: تصوم يومين متواليين والسابع عشر والثامن عشر، وتصوم بينهما يومين متتابعين.
ولو كان عليها شهران متتابعان، صامت مائة وأربعين يوماً على التوالي: أربعة أشهر لستة وخمسين يوماً، وعشرين يوماً لأربعة أيام.
واعلم: أن الأصحاب عبروا عن القول الثاني في المتحيرة: أنها تأخذ بالأحوط فلا يطؤها الزوج، ولا جرم عدل الشيخ عن ذلك إلى ما ذكره؛ لأنه أقرب إلى كلام الشافعي؛ فإنه قال: لا حيض لها في زمان بعينه؛ فيكون جميع زمانها مشكوكاً فيه؛ فتغتسل لكل صلاة، وتصوم، ولا يأتيها زوجها ما دامت مستحاضة، ولأن عبارة الأصحاب تقتضي أمرين:
أحدهما: أنها إذا طلقت تصبر إلى سن اليأس، ثم تعتد بالأشهر؛ لأن من المحتمل تباعد حيضها، والاحتياط ما ذكرناه، وقد صار إليه بعض الأصحاب كما حكاه صاحب "التقريب".
لكن الذي عليه المعظم أن عدتها تنقضي بثلاثة أشهر على القولين معاً؛ لأن الغالب أن
يكون للمرأة في كل شهر حيضة، وحمل أمرها على تباعد الحيض وتكليفها الصبر إلى سن اليأس فيه مشقة عظيمة، وضرر بين؛ فلا وجه لاحتماله بتجويز مجرد على خلاف الغالب، بخلاف العبادات فإن المشقة فيها أهون؛ ولأجل هذا قال الإمام: إنا إذا رأينا أن نرد المبتدأة إلى سبعة أيام أو سبعة في ثلاثين يوماً، ونحكم لها بالنقاء ثلاثة وعشرين يوماً؛ فيتجه أن نقدر حيض المتحيرة سبعة في كل ثلاثين؛ فإنه لا فرق بينها وبين المبتدأة في ذلك، فلنقدر لها سبعة أيام في شهر رمضان.
ثم قد تفسد ثمانية أيام بسبعة؛ فيصح لها اثنان وعشرون يوماً.
وليس هذا عوداً إلى القول الضعيف: أنها كالمبتدأة؛ لأن المبتدأة نحيضها من أول الدور، ثم تبنى أدوارها على ذلك الأول، ولا يتأتى ذلك على قول الاحتياط هنا.
وهذا متجه لا ينقدح غيره، وأقصى ما يتخيله الفارق: أن المتحيرة قد كان لها عادة؛ فلا نأمن أن تخالف تلك العادة لو رددناها إلى الغالب، والمبتدأة ما سبقت لها عادة، وهذا الفرق لا يرتضيه الفقيه؛ فإن المبتدأة ربما كانت تحيض عشرة لو لم تستحض، والله أعلم.
الثاني: أنها تقضي الصلوات؛ لأنها يحتمل أن تكون في وقت صلاتها حائضاً، ثم ينقطع الدم بعد ذلك، والذي جزم به البندنيجي والغزالي في "الوجيز" عدم القضاء، وهو في "الشامل" محكى عن أبي إسحاق، ولم يورد سواه.
وقال الروياني في "تلخيصه": إن الشافعي نص عليه، ووجهه: أن قضاءها يفضي إلى حرج شديد، والله يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وعن ابن سريج: أنها تقضي الظهر والعصر عند غسل المغرب، والمغرب والعشاء عند غسل الصبح؛ لأنه يجوز أن ينقطع دمها قبل المغرب بركعة؛ فيجب عليها صلاة الظهر والعصر ولا تجزئها صلاة في مثل ذلك الوقت، وكذلك يجوز أن ينقطع [دمها] قبل صلاة الفجر بركعة؛ فيلزمها المغرب والعشاء، كذا حكاه عنه الماوردي.
وغيره يعزي إلى ابن سريج: أنها تقضي كل الصلوات؛ كما تقضي الصوم لما ذكرناه، ويعزى هذا إلى [أبي زيد].
قال الرافعي: وهو ظاهر المذهب عند الجمهور، ولم يورد صاحب "ألتهذيب و"التتمة"- تبعاً للقاضي الحسين- سواه.
وعلى هذا يلزمها في الصبح أن تغتسل أول الوقت، وتصليه، وإذا خرج الوقت اغتسلت، وصلت مرة ثانية أي وقت شاءت، ما لم تنقض خمسة عشر يوماً من أول الوقت، وإذا فعلت ذلك خرجت عن العهدة بيقين؛ لأنها إن كانت طاهراً في المرة الأولى فهي صحيحة؛ وإلا فإن انقطع الدم في الوقت، فقد صحت الثانية، وإن لم ينقطع في الوقت؛ فلا شيء عليها.
وقال الإمام: يجزئها أن تغتسل، وتوقع بعض الصلاة الثانية في الوقت، وباقيها خارجه، لكن يشترط أن يكون ذلك البعض دون تكبيرة، إذا قلنا: يلزمها الصلاة بتكبيرة، أو دون ركعة إذا قلنا: لا تدرك الصلاة إلا بركعة؛ لأنه إن فرض الانقطاع قبل المرة الثانية فقد اغتسلت وصلت، والانقطاع لا يتكرر، وإن فرض في أثنائها، فلا شيء عليها.
قال الرافعي: ولك أن تقول إشكالاً: المرة الثانية يتقدمها الغسل، فإذا وقع بعضها في الوقت والغسل سابق، جاز أن يقع الانقطاع في أثناء الغسل، ويكون الباقي من وقت الصلاة من حينئذ قدر ركعة أو تكبيرة؛ فيجب أن ينظر إلى زمان الغسل، سوى الجزء الأول منه، وإلى الجزء الواقع من الصلاة في الوقت ويقال: إن كان ذلك دون ما تلزم به الصلاة جاز؛ وإلا فلا، ولا يقصر النظر على جزء الصلاة.
قلت: وهذا من الرافعي تفريع على أنه لا يشترط في إدراك الوقت بدون تكبيرة أو ركعة إدراك وقت الطهارة وقد قيل: إنه يشترط ذلك- كما ستعرفه- وعليه يستقيم كلام الإمام، ويلزمها في الظهر أن تغتسل لها أول الوقت، فتصليها، وتصلي المرة الثانية في الوقت الذي تقضي فيه صلاة العصر بعد فوات وقت العصر، ولا يجزئها قضاء الظهر في وقت العصر؛ كما لا يجزئها إعادة العصر فيه.
نعم، على رأى الإمام يجزئها إيقاع بعضها آخر وقت العصر بالشرط المذكور.
وحكم المغرب حكم الظهر، وحكم العشاء حكم العصر.
فإذا أعادت الظهر والعصر بعد الغروب فينظر: إن قدمتهما على أداء المغرب، فعليها أن تغتسل للظهر وتتوضأ للعصر، وتغتسل للمغرب، وإنما كفاها غسل واحد للظهر والعصر؛ لأن دمها إن انقطع قبل الغروب فقد اغتسلت بعده، وإن انقطع بعد
الغروب فليس عليها ظهر ولا عصر، [وإنما لزمها الغسل للمغرب؛ لاحتمال الانقطاع في صلاة الظهر أو العصر أو عقيبهما].
وهكذا الحكم فيما إذا قضت المغرب والعشاء بعد طلوع الفجر وقبل أداء الصبح؛ وحينئذ تكون مصلية للخمس مرتين بثمانية أغسال ووضوءين.
وإن أخرت الظهر والعصر إلى أن صلت المغرب اغتسلت للمغرب، وكفاها ذلك للظهر والعصر؛ لأنه إن انقطع حيضها قبل الغروب، فلا تعود إلى تمام مدة الطهر، وإن انقطع بعده لم يكن عليها ظهر ولا عصر، ولكن تتوضأ لكل واحدة من الظهر والعصر، وهكذا القول في المغرب والعشاء إذا أخرتهما عن الصبح؛ وحينئذ تكون مصلية للخمس مرتين بالغسل ست مرات والوضوء أربعاً.
وقد أفهم كلام القاضي الحسين: أنه يتعين عليها فعل الطريق الثاني؛ لأن به تخرج عن العهدة يقيناً بغير زيادة.
وحكى وجهاً آخر: أنه يجوز سلوك الطريق الأول، واستبعده؛ لأنه بعيد عن الاحتياط، فإنها وإن خرجت به عن عهدة الظهر والعصر والعشاء، فلا تخرج به عن عهدة المغرب والصبح؛ لأنها أخرت كلاً منهما عن أول وقتها بقدر ما يسع الغسل وصلاتين: الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء. ويحتمل أن تكون في ذلك الوقت طاهراً ثم يطرأ الحيض؛ فيلزمها المغرب والصبح، ولا يجزئها ما فعلته من المرتين؛ لأنه واقع في الحيض ويجب عليها أن تفعلهما مرتين أخريين بغسلين إحداهما دون انقضاء وقت الرفاهية والضرورة، وقبل تمام خمسة عشر يوماً من افتتاح الصلاة المرة الأولى، والثانية في أول السادس عشر من آخر الصلاة المرة الأولى؛ وحينئذ تخرج عن العهدة بيقين؛ لأن الخمسة عشر المتخللة: إما أن تكون كلها طهراً فتصح المرة الثانية، أو كلها حيضاً فتصح المرة الأولى والثالثة، أو يكون آخرها طهراً؛ فيكون قدر ما بعدها طهراً أيضاً، فإن انتهى إلى آخر المرة الثانية فهي واقعة في الطهر وإلا فالثانية واقعة فيه، أو يكون أولها طهراً؛ فيكون بشيء مما قبلها طهراً أيضاً فإن كان افتتاحه قبل المرة الأولى فهي في الطهر، وإن كان في أثناء الأولى كانت الثانية في
الطهر؛ كذا قاله الإمام.
وسلك الماوردي في كيفية أداء الصلاة طريقاً آخر لنفسه، فقال: تصلي الظهر في أول الوقت بالوضوء فقط؛ لأنه يحتمل أن يكون آخر طهرها بقدر ما يسع الوضوء والصلاة، ثم تصلي مرة ثانية في آخر الوقت بالغسل؛ لاحتمال أن يكون ذلك الوقت آخر حيضها.
وتصلي العصر في أول وقتها بالوضوء فقط وفي آخر وقتها الذي يلزمها به صلاة العصر على اختلاف قول الشافعي، وتعيد صلاة الظهر مرة ثالثة في آخر وقت العصر؛ لاحتمال أن يكون ذلك آخر حيضها؛ فيلزمها الظهر والعصر [به].
ثم إن قدمت العصر الثانية على الظهر الثالثة أو أخرتها كفاها عنهما غسل واحد [ووضوء واحد.
فإذا غربت الشمس صلت المغرب بالغسل صلاة واحدة] لأنه ليس لها إلا وقت واحد، فإذا دخل وقت العشاء صلتها في أول وقتها بالوضوء، ومرة ثانية في آخره بالغسل؛ لما ذكرناه، وتعيد المغرب مرة ثانية في آخر وقت العشاء ويكفيها للصلاة وضوء واحد وغسل واحد.
فإذا طلع الفجر صلت الصبح في أول وقتها بالوضوء، وأعادتها مرة ثانية في آخر وقتها بالغسل، لما ذكرناه؛ فتصير مصلية للظهر ثلاث مرات: مرة في أول وقتها بالوضوء وثانية في آخره بالغسل، وثالثة في آخر وقت العصر بغسل واحد لها وللعصر.
وتصير مصلية للعصر مرتين: في أول وقتها بالوضوء، وفي آخره بالغسل لها وللظهر الثالثة.
وتصير مصلية للمغرب مرتين: في وقتها بالغسل، وفي آخر وقت العشاء بالغسل لها وللعشاء.
وتصير مصلية [للعشاء مرتين: في أول وقتها بالوضوء، وفي آخره بالغسل لها وللمغرب].
وتصير مصلية للصبح مرتين: في أول وقتها بالوضوء، وفي آخره بالغسل.
وهذا منه تفريع على أنها تصير مدركة للظهر والمغرب بما تدرك به العصر والعشاء. أما إذا قلنا: لابد من إدراك [وقت يسعهما] فيتغير التفريع فيهما، وكذا إذا قلنا: إن وقت المغرب يمتد إلى دخول وقت العشاء؛ فتأمله، والله أعلم.
[ولو اقتصرت على أداء الصلوات الخمس في أوائل أوقاتها، ولم تقض شيئاً حتى مضت] خمسة عشر يوماً، أو مضى شهر فلا يجب عليها لكل خمسة عشر إلا قضاء صلوات يوم وليلة؛ لأن القضاء إنما يجب لاحتمال الانقطاع، [ولا يتصور الانقطاع في] الخمسة عشر إلا مرة.
ويجوز أن يجب به تدارك صلاتي جمع- وهما الظهر والعصر أو المغرب والعشاء- فإذا أشكل الحال، أوجبنا قضاء صلاة يوم وليلة؛ كمن نسي صلاة أو صلاتين من الخمس.
ولو كانت تصلي في أوساط الأوقات، لزمها أن تقضي للخمسة عشر صلوات يومين وليلتين؛ لجواز أن يطرأ الحيض في وسط صلاة؛ فتبطل، وينقطع في وسط أخرى، فتجب.
ويجوز أن تكونا مثلين.
ومن فاتته صلاتان متماثلتان، ولم يعرف عينهما- لزمه فعل صلاة يومين وليلتين.
فإن قلت: كلام الشيخ وإن لم يقتض دخول هذين الأمرين فهو يقتضي أيضاً عدم دخول قضاء الطواف، ولا خلاف في وجوب قضائه.
قلت: إنما لم يذكره؛ لأنه ملحق عند الأصحاب- كما سلف- بالصوم، وقد صرح في الصوم بوجوب القضاء، وكذا هو، [وفي كيفية قضاء الطواف الطريقان المذكوران] في كيفية قضاء الصوم، إلا أنا نقدر أزمنة الطواف وغسله وركعتيه كاليوم، والساعات واللحظات بالنسبة إليه كالأيام بالنسبة إلى الصوم؛ فعلى طريقة الشيخ إذا كان عليها طواف واحد، تغتسل وتطوف مرتين متواليتين على [السواء،
ثم] تفعل [مثل] ذلك بعد مضى خمسة عشر يوماً أولها حين اغتسلت أولاً.
وعلى الطريقة الأخرى: تغتسل وتطوف، ثم تمسك قدر زمن ذلك، وتغتسل وتطوف بعد ذلك طوافاً آخر أي وقت شاءت إلى تمام خمسة عشر يوماً، وتمسك بعدها بقدر زمن اغتسالها الأول وصلاتها الأولى، ثم تغتسل وتطوف أي وقت شاءت إلى تمام تسعة وعشرين يوماً، لكن بشرط أن يكون المخلف من أول السادس عشر مثل ما بين طوافها الأول والثاني أو أقل منه، وقد سبق تمثيله في الصوم؛ وهذا ما أورده ابن الصباغ بمعناه.
وقال الماوردي: عليها أن تطوف ثم تمسك تمام خمسة عشر يوماً من أول ساعة بدأت فيها بالطواف، ثم تطوف عقيب ذلك طوافاً ثانياً فيصح لها [أحد الطوافين].
مثاله: إذا بدأت الطواف مع زوال الشمس، فتمسك لزوال الشمس من اليوم الخامس عشر، ثم تطوف ثانية عقيب الزوال؛ فيكون أحد الطوافين مصادفاً لطهر بيقين؛ لأنه إن كان الأول في أول حيضها كان الثاني في أول طهرها، وإن كان الأول في وسط حيضها كان الثاني في وسط الطهر [فتخرج عن العهدة].
قلت: وهذا فيه نظر؛ لأنه يحتمل أن يكون بعض الأول في آخر حيضها وبعض الثاني في أول حيضها؛ فلا يصح لها من الأول شيء لا ما وقع في الحيض ولا ما يقع منه في الطهر [لأنه بغير طهارة.
وأما الثاني: فيصح لها منه [بقدر] ما أدركته منه في الطهر] لكنه مجهول لا [يمكن أن] تبني عليه لو قلنا: إن الموالاة ليست شرطاً فيه؛ فتعين للخروج عن العهدة ما قاله غيره. والله أعلم.
والحكم في قضاء الصلاة الواحدة كالحكم في قضاء الطواف الواحد.
وقضاء الطوافين والصلاتين فأكثر تعرفه مما سلف في الصوم إذا ضبطت ما
ذكرناه من القاعدة.
قال: وإن كانت ناسية للوقت ذاكرة للعدد، أو ناسية للعدد ذاكرة للوقت- فكل زمان تيقنا فيه حيضها جعلناها فيه حائضاً، وكل زمان تيقناً فيه طهرها جعلناها فيه طاهراً، وكل زمان شككنا فيه جعلناها في الصلاة طاهراً- أي: حتى نوجبها عليها- وكذلك غيرها من العبادات، وفي الوطء حائضاً- أي: حتى نحرمه على الزوج والسيد- وكذا ما في معناه كما سلف في المتحيرة. وكل زمان احتمل انقطاع الدم فيه أمرناها بالغسل.
هذا الفصل نظم مسألتين؛ لاتفاقهما في الحكم:
فالأولى مصورة بما إذا قالت: كنت أحيض في العشر الأول من كل شهر خمسة أيام- مثلاً- ولا أعرف هل هي من أوله أو وسطه أو آخره، وكنت أعلم أني في اليوم الأول طاهرة، فهذه المرأة لها أربعة أحوال، نبه عليها الشيخ:
حال حيض بيقين: وهو اليوم السادس من الشهر؛ لأنك كيف قدرت ابتدءا حيضها دخل فيه؛ فإنه على تقدير أن يكون قد طرأ في اليوم الثاني، كان آخره بحكم العادة آخر السادس، وإن قدرت أن آخر حيضها آخر العشر، كان أوله بحكم العادة أول السادس، فهو داخل تحت التقديرين، وهذا ضابط ما يعرف به الحيض بيقين، فتؤمر فيه بما تفعله الحائض غير المستحاضة؛ [لتحققه].
وحال طهر بيقين: وهو [اليوم] الأول؛ كما نصت، وكذا من الحادي عشر إلى آخر الشهر؛ فيكون حكمها في ذلك حكم المستحاضات، كما سيأتي.
وحال حيض مشكوك فيه: عبر الشيخ عنه بقوله: "وكل زمان شككنا فيه جعلناها في الصلاة طاهراً"، وهو في مثالنا من أول الثاني إلى آخر الخامس؛ لأنه يحتمل أن يطرأ فيه الدم، و [لا] يحتمل أن ينقطع فيه إذا جرى على عادتها، وهذا ضابط الحيض المشكوك فيه؛ فتؤمر بالصلاة فيه وغيرها من العبادات، ويؤمر الزوج باجتناب وطئها ونحوه؛ للاحتياط- كما ذكرناه- ولا يلزمها لكل صلاة غسل؛ لعدم احتمال انقطاع
الحيض، ويلزمها الوضوء؛ كما في حالة الاستحاضة المحققة، ولا يجب عليها في هذه المدة قضاء الصلوات بلا خلاف؛ لأنه لا يحتمل فيها الانقطاع.
وحال طهر مشكوك فيه عبر الشيخ [عنه] بقوله: "وكل زمان احتمل انقطاع الدم [فيه]، أمرناها بالاغتسال"، وهو في مثالنا من أول السابع إلى آخر العاشر؛ لأن هذا الزمن يحتمل [فيه] انقطاع الحيض إن جرى على العادة؛ وهذا ضابط الطهر المشكوك فيه.
ووجه إيجاب الغسل عند كل صلاة الاحتياط؛ كما في المتحيرة.
وفي إيجاب إعادة الصلاة الواقعة في هذه المدة الخلاف السابق.
فإن قلت: هذا المثال ينبو عنه كلام الشيخ؛ لأن فيه تعيين وقت الطهر، وكلام الشيخ لا يقتضيه، بل يقتضي تصويرها بما إذا قالت: كان حيضي عشرة أيام، لكني لا أدري هل [في كل] شهر أو شهور من سنة أو سنتين أو إذا قالت: كان حيضي خمسة من كل شهر، ونحو ذلك، من غير تعرض لوقت تتيقن فيه حيضاً أو طهراً.
قلت: ليس الأمر كذلك، لأن الشيخ جعل الأحوال الأربعة جارية فيها، ولا يتصور ذلك إلا بما ذكرناه ونحوه؛ فتعين أنه المراد.
وضابط جريانها: أن يكون عدد [المنسي أكثر من نصف عدد] المنسي فيه، والحيض باليقين منه- إذا كان كذلك- قدر ما زاد على النصف مرتين، أما إذا لم يزد على النصف من المنسي فيه، فلا حيض لها بيقين، وقد يكون لها طهر بيقين، مثل: أن تقول: [كان] حيضي خمسة من العشر الأول من كل شهر: فمن الأول إلى [آخر] الخامس حيض مشكوك فيه، ومن السادس إلى آخر العاشر طهر مشكوك فيه، ومن الحادي عشر إلى آخر الشهر طهر بيقين، على هذا المثال.
وقد لا يكون لها أيضاً طهر بيقين بأن تقول: كان حيضي خمسة من كل شهر، ونحو ذلك، ولا تعرف شيئاً آخر، فإنا نجعلها من أول الشهر إلى آخر الخامس [في] حيض مشكوك فيه؛ لأنه يحتمل الطروء في ذلك دون الانقطاع، ومن
السادس إلى آخر الشهر في طهر مشكوك فيه؛ لأنه يحتمل الانقطاع فيه؛ وهذه إحدى الصورتين التي منعنا أن يكون كلام الشيخ يقتضيهما، [وقد لا يكون لها] من الأحوال الأربعة إلا حالة طهر مشكوك فيه؛ بأن تقول: كنت أحيض خمسة، ولا أدرى، هل كنت أخلط الشهر بالشهر في كل ثلاثين يوماً أو لا؟ لأنه ما من زمن إلا ويحتمل فيه الانقطاع، وهذا قريب من الصورة الثانية التي منعنا أن يكون كلام الشيخ يقتضيها، وقد قال الماوردي فيها: إنها كالمتحيرة إلا في أمر واحد، وهو أنها إذا صامت رمضان احتسب لها منه بما عدا أيام عادتها وهي عشرة أيام [من عشرين يوماً] إن علمت أن الحيض يطرأ قبل الفجر؛ وإلا فمن أحد عشر يوماً من ثلاثة وعشرين [يوماً].
وإن كان عليها صوم يوم، قضته من يومين بينهما تسعة أيام أو عشرة.
وإن كان عليها صوم يومين، صامت يومين، وأمسكت تسعة أيام، وصامت يومني.
ولو كان عليها صوم ثلاثة أيام صامتها وأمسكت ثمانية أيام، ثم صامت ثلاثة أيام.
والثانية مصورة بما إذا قالت: لا أعلم [كم قدر ما كنت أحيضه لكني أعلم] أني أحيض في الشهر حيضة، وأكون في السادس من الشهر حائضاً- فالأحوال الأربعة موجودة فيها:
الحيض باليقين ما نصت عليه.
والطهر باليقين من الحادي والعشرين إلى آخر الشهر؛ [لأنه لا يحتمل طروءاً ولا انقطاعاً].
والحيض المشكوك فيه في أول الشهر إلى آخر الخامس؛ لأنه يحتمل الطروء دون الانقطاع.
والطهر المشكوك فيه من السابع إلى آخر العشرين؛ لأنه يحتمل الانقطاع دون الطروء.
وقد صورت أيضاً بما إذا قالت: أعلم أن لي [في] كل شهر حيضة من أوله، ولا
أدرى قدرها: فالأول حيض بيقين، ومن الثاني إلى آخر الخامس عشر طهر مشكوك فيه، ومن السادس عشر إلى آخر الشهر طهر بيقين؛ وهذا فيه نظر؛ لأن الأحوال فيها ثلاثة، وكلام الشيخ مصرح بأنها أربعة فالأول أشبه به.
على أن الماوردي قال في المثال الثاني: إنها كالمبتدأة فعلى قول نحيضها أقل الحيض، وعلى قول غالبه، وما حيضناها فيه حكمه حكم الحيض بيقين، وما جاوز الخمسة عشر طهر بيقين، وفيما بينهما قولان سلفاً في المبتدأة، والله أعلم.
قال: وإذا حاضت المرأة حرم الاستمتاع بها- أي: بوطء وغيره- فيما بين السرة والركبة؛ لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222].
قال الماوردي: وهو في الآية قبلها الحيض باتفاق أهل العلم، وكذا فيها؛ وعليه يدل قول أم سلمة:"سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغسل من المحيض" وهو مختار الشافعي؛ وحينئذ يكون سمي الدم باسم المصدر، وهو مستحسن عند العرب تقول [العرب]: حاضت المرأة حيضاً أو محيضاً، كما تقول: سار سيراً أو مسيراً، وجاءت مجيئاًن وباتت مبيتاً.
وقد قيل: إن المراد بالمحيض فيها: زمن الحيض، وقد قيل غيره، كما سنذكره.
والقولان الأولان يدلان على وجوب اجتنابها بجملتها، وقد حكاه الرافعي في كتاب النكاح [وجها] عن رواية ابن كج.
والمذهب أنه لا يحرم إلا ما تحت الإزار، وهو ما ذكرناه؛ لما روي أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ قال "مَا فَوْقَ الإِزَارِ وَلَيْسَ لَهُ مَا تَحْتَهُ".
وروى مسلم عن ميمونة أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم[يباشر نساءه فوق الإزار،
وهن حُيَّض".
وروى البخاري عن عائشة أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم] يأمر إحدانا إذا كانت حائضاً أن تأتزر، ويباشرها فوق الإزار".
ورواية الترمذي [عنها] أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أتزر، ثم يباشرني. قال: وهو حسن صحيح.
قال بعضهم: وبه يستدل على تحريم ما تحت الإزار؛ إذ لو كان يباشرها فيما تحت الإزار، لم يفد الاتزار شيئاً.
قال الشافعي- رضي الله عنه وعلة تحريم الوطء في الفرج ما به من الأذى، كذا حكاه الإمام عنه عند الكلام في وطء المرأة في دبرها، وعلة تحريمه فيما عداه، ودون السرة، [وفوق] الركبة خوف أن يصيبه شيء من الأذى، كذا قاله الأصاحب، وللإمام فيه كلام ذكرناه في كتاب النكاح.
قال: وقيل: يحرم الوطء في الفرج وحده؛ لأنه الثابت بالإجماع؛ والمحيض في الآية اسم لموضع الحيض، وهو الفرج؛ كالمقيل: موضع القيلولة؛ فيكون تقدير الآية: ولا تقربوهن في فروجهن، ويؤيد ذلك: أنه لما نزلت ظن المسلمون أنه الاعتزال كما هو عند اليهود فإنهم إذا حاضت المرأة، لا يؤاكلونها ولا يشاربونها، ويحبسونها في موضع ويناولونها الطعام على رأس خشبة، فجاءوا [إلى] النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن ذلك؟ فقال لهم:"افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلا الْجِمَاعَ"، ورواية مسلم: " افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ،
إلا النكَاحَ".
وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن القديم، واختاره أبو إسحاق وابن خيران.
وحكى الماوردي عن أبي الفياض البصري: أن من أمن غلبة الشهوة التي توقعه في الوطء [في الفرج] يحل له ما عدا الوطء في الفرج؛ وإلا فلا.
قال: والمذهب الأول؛ لأنه نص عليه في "الأم"، و"أحكام القرآن"، وهو الراجح عند الجمهور، ووجهه ما سلف.
وجعل المحيض في الآية التي ذكرناها الحيض، كما هو في التي قبلها- أشبه، وإن وقع نزاع فيه في التي قبلها؛ كما أفهمه كلام أبي الطيب وغيره- قلنا: قوله- تعالى-: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] يدل على ما ذكرناه؛ لأن الزمان والفرج نفسه ليس أذى، وإنما هو الدم؛ فإنه يلوث، وهو مستقذر والخبر نحمله على القبلة والمعانقة؛ جمعاً بين الأخبار.
وقد أفهم كلام الشيخ إباحة الاستمتاع بها بما فوق السرة ودون الركبة، وهو المذهب، كما ذكرنا.
نعم، لو أصابه شيء من أذى الفرج فهل يحل مباشرتها فيه؟
قال البندنيجي: لا نص للشافعي فيه.
وقال أصحابنا: لو قيل: يحرم كما يحرم تحت الإزار، لم يبعد، ولو قيل: لا يحرم؛ لأنه لا يخاف أن يصيبه دم الحيض من الفرج بغير واسطة لم يبعد؛ ولأجل ذلك حكى صاحب "الفروع" و"المجموع" والروياني في "تلخيصه"["والبحر"] في ذلك وجهين، وصحح الثاني، وبه جزم الإمام، كما ذكرناه في كتاب النكاح.
فرع: إذا ادعت المرأة الحيض، فإن غلب على ظنه صدقها، حرمت عليه، وإن غلب على ظنه كذبها، وأنها تريد ممانعته، لم يحرم.
وخالف ما لو علق طلاقها بحيضها؛ فإن القول قولها في الحالتين؛ لأنه مفرط في تعليقه.
نعم، لو توافقا على الحيض، واختلفا في انقطاعه، فالقول قولها؛ لأن الأصل بقاؤه.
قال: ويحرم عليها الصلاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: "فَإِذَا أَقْبلَتِ الْحَيضَةُ، فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإذَا أَدْبَرَتْ [فَاغْسِلِي عَنْكِ] الدَّمَ وَصَلِّي". أخرجه الشيخان، وزاد الترمذي:"وَتَوَضَّئي لَكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يجِيء ذَلَكِ الوَقْتُ"؛ وهذا مع [أن] قوله عليه السلام: "حُكْمِي عَلَى الوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ" يدل على المدعى، وأيضاً فهو إجماع.
والحيضة بفتح الحاء هي المرة [الواحدة]، وبكسر الحاء الاسم، وذكر في "الغريب": أنه روى بالفتح والكسر.
وكما يحرم عليها الصلاة؛ كذا يحرم السجود للتلاوة، وقد ذكره الشيخ في بابه، وسجود الشكر في معناه.
قال: ويسقط عنها فرضها؛ لما روى مسلم أن معاذة سألت عائشة: "ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: "أحرورية أنت"؟ فقلت: "لست بحرورية، ولكني أسأل"، قالت: "كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر
بقضاء الصلاة".
والحرورية: طائفة من الخوارج التزمت تشديدات لا أصل لها في الشرع.
وروى مسلم أيضاً عن عائشة قالت: "كنا نحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نطهر، ويأمرنا بقضاء الصوم ولا يأمرنا بقضاء الصلاة".
قال: ويحرم عليها الصوم؛ للإجماع، ومفهوم خبر عائشة يدل عليه.
ورأيت في "تعليق القاضي الحسين" في كتاب الصيام: أن عائشة قالتك "كنا إذا حضنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤمر بترك الصلاة والصوم، ثم نؤمر بقضاء الصوم دون الصلاة"، فإن صح هذا فهو نص من جهة السنة.
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه عليه السلام خرج في أضىح أو فطر إلى المصلى فقال: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ .. " إلى أن قال: "مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاِت عَقْل وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ" قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا؟ قال: "أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرأَةِ مَثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ " قلن: بلى، قال:"فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلهَا. أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ قلن: بلى، قال: "ذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِها".
ثم ليس لتحريمه عليها معنى معقول؛ كما قال الإمام، ويدل عليه أن عائشة-
رضي الله عنها- لما سئلت عن الفرق عدلت إلى النص.
وقد قيل: إن المعنى [فيه] أنه يضعفها.
وقد أفهم سكوت الشيخ عن سقوط القضاء وجوبه، وهو مما لا خلاف فيه؛ لما ذكرناه، وبه صرح في كتاب الصيام، والفرق بينه وبين الصلاة أنه لا مشقة في قضائه؛ لأنه يأتي في السنة مرة بخلاف الصلاة، ولأن الصلاة لم يبن أمرها على أنه تؤخر ثم تقضى، بل: إما ألا تجب أصلاً، أو تجب بحيث لا تؤخر بالأعذار، بخلاف الصوم، لأنه قد يترك بعذر السفر والمرض ويقضي.
نعم، الخلاف في أن الحائض مخاطبة بالصوم في حال الحيض أم لا؟ والصحيح عند الجمهور لا، وإن كان المذكور في "تعليق البندنيجي" مقابله، وكذا في "الشامل" "وتعليق أبي الطيب"؛ لأنهما قالا: الحيض يمنع وجوب الصلاة وصحتها، وصحة الصوم دون وجوبه.
قال بعضهم: وفائدة الخلاف تظهر إذا قلنا: إنه يجب التعرض للأداء والقضاء في النية.
قال: والطواف؛ لقوله – عليه السلام لعائشة وقد حاضت في الحج: "فَإِنَّ ذَلِكَ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلي مَا يَفْعَلُ الْحاجُّ غَيْرَ ألا تَطُوفي بِالبَيْتِ حَتى تَطْهرِي" رواه البخاري.
وقوله- عليه السلام في حديث صفية بعد أن أخبر بحيضها: "أحَاَبسَتُنَا؟ " قيل: يا رسول الله؛ إنها أفاضت يوم النحر، قال:"اخْرُجُوا" أخرجه مسلم.
قال: وقراءة القرآن؛ لقوله- عليه السلام: "لا تَقْرَأ الْحائِضُ وَلا الجُنُبُ شَيْئاً مِنَ القُرآنِ" رواه أبو داود؛ وهذا هو الجديد.
وفي "التتمة" حكاية قول [آخر]: أن لها أن تقرأ، وغيره عزاه إلى رواية أبي ثور، وأنكره الأصحاب.
قال الإمام- قبيل باب الاستطابة-: [وعلى هذا] هل تختص الإباحة بالمعلمة المحترفة بتعليم [القرآن] أو تعم النسوة؟ فيه وجهان:
فعلى الأول تقتصر على ما يتعلق بحاجة التعليم في زمان الحيض.
وعلى الثاني لا تختص؛ بل تصير كالطاهرة فيه؛ فلتقرأ ما شاءت.
وقد حكى عن القديم: أن لها إذا خافت النسيان أن تقرأ.
قال: ومس المصحف؛ لقوله- تعالى-: {لا يَمَسُّهُ إِلَاّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79].
وقد روى الدارقطني من طريق سليمان بن موسى عن سالم عن ابن عمر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يَمَسَّ الُقْرآنَ إِلا طَاهِرُ".
قال: وحمله؛ لأنه في معناه.
قال: والجلوس في المسجد؛ لقوله- عليه السلام: "إِني لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِجُنُبِ وَلَا حَائِضٍ" رواه أبو داود؛ ولأن حدثها أشد من الجنابة، وقد قال- سبحانه وتعالى فيها:{وَلا جُنُباً إِلَاّ عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43].
قال بعضهم: لو قال الشيخ: "واللبث في المسجد" كما قال في الجنب- كان أحسن من قوله: "الجلوس"؛ إذ يوهم أن القيام جائز، وقد رأيته كذلك في بعض النسخ.
وإذا حرم اللبث حرم الاعتكاف؛ لأنه لبث مخصوص.
قال: وقيل: يحرم عليها العبور فيه؛ حذاراً من التلويث؛ فإن الدم قد يزيد؛ فيلوث المسجد، وهو ظاهر نصه؛ فإنه قال:"وأكره مر الحائض في المسجد"، وهو الأصح في "النهاية"، ولم يحك الماوردي هنا غيره.
[قال:] وقيل: لا يحرم؛ كما لا يحرم على الجنب، وهذا اختيار أبي إسحاق وابن سريج، وإليه ميل ابن الصباغ، وهو الأصح عند الرافعي، ولم يحك البندنيجي والشيخ في "المهذب" غيره، وكذا الماوردي في كتاب الصلاة.
ومحل الخلاف إذا أمنت التلويث بأن تلجمت، واستثفرت على العادة، والدم على العادة، فإن تركت ذلك، أو جاوز الدم قدر العادة- حرم وجهاً واحداً.
قال الرافعي وغيره: وهذا ليس من خاصية الحيض؛ بل المستحاضة ومن به سلس البول، ومن به جراحة نضاحة، يخشى من مروره التلويث- ليس له العبور.
وقد رأيت في "تعليق القاضي أبي الطيب" عند الكلام في الصلاة على الميت في المسجد: أن الحائض إذا لم تكن قد استحكمت [من] نفسها، واستوثقت، فإنه
يكره لها دخول المسجد، وإن كان محكماً لم يكره لها دخوله، ودل كلامه-[ثَمَّ] – على أنها كراهة تنزيه.
وقد عد الشيخ في "المهذب" من المحرمات عليها: الطهارة، واعترض عليه بأن المحرم يتعلق بالإثم بفعله، وأي إثم عليها في إمرار الماء على بدنها؟ وأجيب عنه بوجهين:
أحدهما: أنه أراد بقوله: "حرم" امتناع الصحة؛ لأنه قال في تعليله: لأن الحيض يوجب الطهارة، وما أوجه الطهارة منع صحتها؛ كخروج البول، فاستنتج دليله بمنع الصحة؛ فدل على أنه مراده، وبه صرح أبو الطيب حيث قال: إنه يمنع من صحة الغسل؛ فإن الجنب إذا حاضت لم يصح غسلها عن الجنابة.
واعترض عليه ابن الصباغ بأن ما قاله يرجع إلى تعلق الغسل بالحيض؛ لأن الغسل لا يفيد شيئاً؛ لوجود الحيض أي: وهو قد ذكر من أحكام الحيض وجوب الغسل؛ فهو إذن مكرر، ومثل هذا لا يرد على الشيخ؛ لأنه لم يذكر وجوب الغسل به.
والثاني: إجراؤه على ظاهره، ويكون ذلك إذا قصدت بفعلها التعبد؛ فإنها فعلته في حال لا يصح منها مع العلم، ومن فعل ذلك فقد ارتكب محرماً؛ لتلاعبه؛ ولهذا المعنى قلنا: إنه يحرم عليها الصوم، وإلا فالإمساك بدون قصد القربة، لا يحرم عليها، ولا فرق في عدم صحة الطهارة منها بين الصغرى والكبرى.
نعم، إذا قلنا: الحائض تقرأ القرآن، فأجنبت صح غسلها للجنابة، قاله الإمام.
قال الشيخ أبو محمد: ويصح غسلها لأجل الإحرام والوقوف بعرفة؛ لأنه فيهما للنظافة لا للطهارة.
قال: وإذا انقطع الدم ارتفع تحريم الصوم، لأن تحريمه بالحيض لا بالحدث؛ بدليل صحته من الجنب، والحيض قد زال؛ فوجب زوال موجبه؛ لأن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها.
قال: وتبقى سائر المحرمات- أي: التي ذكرها- إلى أن تغتسل، ووجهه في
المباشرة قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] أي: ينقطع دمهن، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: اغتسلن {فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ} فأتبع الشرط [الشرط] فتوقف الحل على وجودهما؛ كما لو قال لامرأته: لا تكلمي زيداً، فإذا كلمت زيداً ودخلت الدار، فأنت طالق- لا يقع الطلاق عليها إلا عند وجود الشرطين.
ومثل هذه [الآية] قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].
وقيل: إن نظيره قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فإن مفهوم الآية يقتضي ارتفاع التحريم السالف بنكاح [غيره] ومطلق التحريم لا يرتفع؛ بل الذي يرتفع: التحريم الناشئ من الطلاق الثلاث وإن بقي تحريم كونها أجنبية منه وفي نكاح غيره.
كذلك تحريم الوطء في الحيض يرتفع بانقطاع الدم وإن بقي تحريم مواقعتها قبل الغسل الدال عليه قوله- تعالى-: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} ، وهذا حسن بالغ.
فإن قيل: لا نسلم أنهما شرطان؛ بل شرط واحد، والتقدير: لا تقربوهن حتى يطهرن- أي: ينقطع حيضهن- {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} - أي: انقطع حيضهن- {فَآتُوهُنَّ} .
وإن سلمنا أن المراد بالثاني: التطهر [بالماء]، فلا نسلم أنه للغسل؛ بل هو غسل الفرج أو غسل أعضاء الوضوء.
قلنا: أما الأول فعنه أجوبة:
أحدها: أن ابن عباس ومجاهداً قالا: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: اغتسلن بالماء؛ وبهذا يحصل جواب الثاني أيضاً.
والثاني: أن التطهر في الآية منسوب إليهن، وانقطاع الدم ليس إليهن، فلو كان هو المراد لقال: فإذا طهرن.
والثالث: أنه مدح المتطهرين، والمدح إنما يكون على ما يفعله المرء، وقد ذكرنا أن انقطاع الدم ليس إليهن.
والرابع: أنه قرئ {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتشديد، وهي تقتضي توقف إباحة القربات على فعل الطهرة بعد انقطاع دمهن.
وأما الثاني فجوابه- غير ما ذكرناه:- أن التطهر ورد في القرآن بمعنى الغسل؛ فحمل عليه، قال الله- تعالى-:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ووجهه فيما عدا المباشرة؛ لأن المنع منه لأجل الحدث، وهو باق.
وقد أفهم كلام الشيخ أن التيمم [لا] يقوم مقام الغسل في إباحة ما ذكرناه إذا وجد شرطه، ولا شك في أنه يقوم مقامه؛ ولذلك قال بعضهم: كان الأحسن أن يقول: "ويبقى سائر المحرمات إلى أن يتطهرن"؛ ليندرج فيه التيمم.
قلت: هذا قد دل عليه قوله: "يجب التيمم عن الأحداث كلها إذا عجز عن استعمال الماء"، فلم يكن به حاجة إليه، بل لو قال ذلك لكان صريحاً في أنها إذا عدمت الماء والتراب- يحرم عليها الصلاة، والمذهب وجوبها، كما سلف.
لكن لك أن تقول: الصلاة عند فقد الماء والتراب ليست بصلاة حقيقة؛ وإنما هي صورة صلاة؛ ولذلك يحرم عليها فيها قراءة القرآن، على رأي، ويجب إعادتها.
والمشهور في هذه الحالة: أنه لا يباح للزوج وطؤها، وبه جزم المتولي والقاضي الحسين والماوردي وحكى الرافعي وجهاً آخر: أنه يجوز كصلاة الفرض.
وهذا القائل يشبه أن يكون هو القائل بأنه يحتاج عند كل وطء إلى تيمم؛ كما يحتاج عند كل صلاة فرض إليه؛ كذا حكاه الماوردي وجهاً في المسألة.
والمشهور أنه يكفيه تيمم واحد لوطئات.
نعم، الخلاف مشهور في أنها إذا تيممت وصلت فريضة: هل تستبيح الوطء؟ وكذا [فيما] إذا تيممت لفريضة وخرج وقتها: هل تستبيح الوطء بعد خروجه، والصحيح فيهما: نعم.
قال في "التتمة": ويباح وطؤها بالتيمم في الحيض كما تباح الصلاة.
فرع: الذمية إذا انقطع حيضها لا يجوز للزوج وطؤها حتى يغسلها.
قال القاضي الحسين: وينوي الزوج عنها، وإذا أسلمت لم يجب عليها الغسل، على أصح الوجهين في "تعليق القاضي الحسين" قال: وهما جاريان في المجنونة إذا انقطع حيضها، واغتسلت في حال جنونها لأجل الوطء، وأفاقت هل يجب عليها الغسل، أم لا؟ وقضية هذا التشبيه أن يكون المغسل لها الزوج، وينوي عنها.
وقد قال الإمام في باب غسل الميت: إنا لا نبيح لزوجها قربانها حتى تغتسل، والنية لا تتأتى منها؛ فيكفي في استحلالها إيصال الماء إلى بدنها.
نعم، لو أفاقت هل تعيد الغسل؟ فيه خلاف كالخلاف في الذمية إذا اغتسلت لتحل للزوج المسلم، ولم يصر أحد من أئمتنا إلى أن قيمها يغسلها وينوي عنها، كما ذكرنا أن غاسل الميت ينوي عنه، بل لم يتعرضوا لذلك بنفي [ولا إثبات].
والخلاف- كما قال الإمام- جار [فيما] إذا امتنعت، وغسلها زوجها؛ فإنه يستبيح وطأها، [وهل تستبيح الصلاة]؟ فيه الوجهان.
قال الإمام: وفي المسألة احتمال حسن وهو القطع بإيجاب الغسل عليها من
حيث إنها امتنعت عن النية، وهي من أهلها.
واعلم أن بعض الشارحين أورد على الشيخ سؤالاً، فقال: الطلاق يحرم بالحيض، فيزول [التحريم] بمجرد الانقطاع من غير غسل؟ ولم يستثنه الشيخ.
قلت: وهو غير وارد؛ لأن كلامه عائد إلى ما ذكره من المحرمات، والطلاق لم يذكره؛ فإنه محرم على الزوج لا عليها.
نعم، العبور في المسجد إذا قلنا: إنه يحرم عليها، يزول على وجه حكاه الماوردي والإمام ورجحه في "الروضة"، والشيخ لم يستثنه.
وجوابه: لعل الشيخ رأى أنه لا يزول؛ كما اقتضى كلام الإمام ترجيحه وإن قال في "الروضة": إنه ليس بشيء.
فإن قلت: قولك: إنه لم يذكر الطلاق؛ فإن تحريمه على الزوج- باطل بذكره تحريم الاستمتاع بها فيما بين السرة والركبة، وهو حرام على الزوج.
قلت: لا؛ فإن تحريم الاستمتاع بذلك شامل لهما، بخلاف الطلاق في الحيض.
واعلم أن تحريم الصلاة وإن دام إلى الغسل، لا يسقط قضاء ما فات من الصلوات بعد الانقطاع وقبل الغسل، كما في الجنب، وهذا مما لا خلاف فيه، وبه صرح الماوردي [وغيره].
قال: وأقل النفاس مجة.
النفاس- بكسر النون-: الدم الخارج من الفرج بعد ولادة ما تنقضي به العدة. مأخوذ من النفس: وهي الدم، ولا فرق [فيه] بين أن يكون الخارج حياً أو ميتاً، ولا بين أن يكون الدم أسود أو أحمر، مبتدأة كانت المرأة في الولادة أو لا، وهذا مما لا خلاف فيه.
نعم، اختلفوا [في أمور:
أحدها:] الصفرة والكدرة، هل تكون نفاساً في غير المعتادة، أم لا؛ كما
اختلفوا في مثلها في الحيض؟ صرح به الفوراني، وصاحب "العدة" والبغوي وغيرهما، وقطع الماوردي بأنها نفاس [لأن الولادة للنفاس] فلم يحتج إلى اعتبار شاهد في الدم، وليس كذلك الحيض.
الثاني: الدم الخارج عقيب العلقة والمضغة التي شهد القوابل أنه يخلق منها الولد لو بقيت، إذا قلنا: لا تنقضي بها العدة، ولا يثبت بها الاستيلاد- قال الماوردي: لا يكون نفاساً.
وأطلق المتولي القول بأنه يكون نفاساً.
الثالث: الدم الخارج مع الولد، لا قبله ولا بعده، هل يكون من النفاس أم لا؟ فيه وجهان:
اختيار أبي إسحاق وابن القاص: أنه نفاس، وهو الأصح في "الشامل"، وقال في "الكافي": إنه الأصح في طريق العراق.
والمذهب في "تعليق البندنيجي"، والأصح في غيره، وفي طريقة صاحب "الكافي": لا.
الرابع: الدم الخارج قبل الولادة إذا اتصل بالدم الخارج بعدها، حكى الماوردي-[في أنه] هل يكون نفاساً أم لا- وجهين.
أما إذا لم يتصل بما بعد الولادة، فلا يكون نفاساً، وجهاً واحداً.
وسلك الإمام في حكاية الخلاف طريقاً آخر، فقال: إذا طلقت، وبدت مخايل الولادة، وانحل الدم- فالمذهب: أنه لا يكون نفاساً.
وحكى صاحب "الإفصاح" وجهاً بعيداً: أنه نفاس حتى يعتبر ابتداؤه منه، وهو غير معدود من المذهب.
ثم حيث قلنا: لا يكون ما قبل الولادة نفاساً فهل يكون حيضاً؟ إن قلنا: إن الحامل لا تحيض، فلا، ويكون دم فساد.
وإن قلنا: إنها تحيض، وكان بين انقطاعه وبين ما جعلناه نفاساً مدة أقل الطهر فهو [دم] حيض؛ وإلا فوجهان:
أصحهما: أنه حيض، كما سلف.
وقيل: إذا بدت مخايل الطلق لا يكون الدم الخارج نفاساً ولا حيضاً؛ حكاه في "العدة".
إذا عرفت ما هو النفاس فأقله- كما قال الشيخ- مجة، [أي: دفعة] وهي برفع الميم، مأخوذة من "مججت الماء": إذا رميت به من فيك، وكأن الرحم رمى بالدم رمية واحدة، ثم ينقطع.
ودليله الاستقراء.
وعبارة الغزالي وإمامه والفوراني: أن أقله لحظة.
وأبو الطيب يقول: [إن] أقله ساعة، وهو ما حكاه ابن الصباغ عن بعض نسخ المزني والبندنيجي وابن الصباغ والشيخ في "المهذب".
والأكثرون يقولون: لا حد لأقله.
وقال الماوردي: إنه لا نص للشافعي في كتبه عليه؛ وإنما روى أبو ثور عنه أنه قال: "أقله ساعة"، واختلف الأصحاب [في] أن الساعة حد لأقله أم لا؟ على وجهين:
أحدهما- وبه قال أبو العباس وجماعة البغداديين-: نعم.
والثاني- وبه قال البصريون-: أنه لا حد لأقله؛ وإنما ذكر الساعة تقليلاً وتعريفاً، لا أنه جعلها حداً، وأقله مجة من دم، وهذا ما ذكره الشيخ، وقد قال ابن يونس: إنه الموجود في بعض نسخ المزني.
وأثر الخلاف [يظهر]- كما قال المزني- فيما إذا ولدت، ولم تر دماً، هل
يصح غسلها قبل مضي ساعة [من الولادة؟ إن قلنا: إن أقله ساعة]، فلا، [وهو] الأصح.
وهذه المرأة تسمى ذات الجفوف، ومثلها في نساء الأكراد كثير.
وقد اختار المزني لنفسه أن أقله [أربعة أيام؛ لأن أكثر النفاس أربعة أضعاف أكثر الحيض؛ فكان أقل النفاس] أربعة أضعاف أقل الحيض.
قال الإمام: وهذا غير لائق بفقه المزني وعلو منصبه؛ فإن المقادير لا تنبني على الخيالات السخيفة.
وأنا أقول: هذا إنما قاله المزني؛ تخريجاً على مذهب الشافعي: أن أكثره ستون يوماً؛ وإلا فمذهب المزني أنه أربعون يوماً، كما سنذكره.
قال: وأكثره ستون يوماً، كذا دل عليه الاستقراء.
قال الأوزاعي: عندنا امرأة ترى النفاس شهرين.
وعن ربيعة: أنه كان يقول: أدركت الناس يقولون: أكثر ما تنفس المرأة ستون يوماً.
وفي "ابن يونس" أن المزني قال: وأكثره أربعون يوماً، ولم أره في غير منسوباً إليه؛ بل تفاريعه التي [تأتي] تدل على موافقته المذهب في أن أكثره ستون يوماً.
نعم، حكى عن صاحب "البحر" أنه روى عن بعض الأصحاب: أن أكثره أربعون يوماً؛ تمسكاً بما رواه أبو داود عن أم سلمة أنها قالت: "كانت النفساء تجلس على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً وأربعين ليلة".
0000000000000000000000000
وقال الخطابي: إن محمد بن إسماعيل أثنى على هذا الحديث.
وحكى الدارقطني: أن أم سلمة سألت النبي صلى الله عليه وسلم: [كم] تجلس المرأة إذا ولدت؟ قال: "أَرْبَعُونَ يَوْماً إِلا أَنْ تَرىَ الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ".
وقد حكى أبو عيسى الترمذي في "جامعه" عن الشافعي- رضي الله عنه ما يوافقه؛ فإنه روى فيه [عنه] أنه قال: إذا جاوز دم النفاس أربعين، لم تدع الصلاة بعد ذلك.
والصحيح الأول، والخبر محمول على بيان الغالب منه.
وابتداؤه يكون من بعد الولادة إذا اتصل بها الدم على المذهب، وهو ما حكاه البندنيجي، ورد به على أبي إسحاق.
وقيل: إنه من الم الذي خرج مع الولد؛ [بناء] على مذهب أبي إسحاق.
وقيل: إنه من الدم الذي خرج قبل الولادة، وجعلناه نفاساً، كما سلف.
أما إذا لم يخرج بعد [الولد دم]، ورأته بعد ذلك، ولم ينته النقاء إلى أقل الطهر، فهل يكون ابتداء النفاس من وقت الولادة أو من وقت رؤية الدم؟ فيه وجهان في "النهاية"، والمذكور منهما في "تعليق القاضي الحسين":[الثاني].
ولو كان الدم قد طرأ بعد مضي أقل الطهر من حين الولادة، فالأصح في "تعليق القاضي الحسين" أنه حيض.
وقيل: إنه نفاس، ويظهر على هذا أن يجيء في وقت ابتدائه الوجهان.
[قال: وغالبه أربعون يوماً؛ لما ذكرناه من الخبر، وهو الغالب في الوجود].
قال: وإذا عبر الدم الأكثر- أي: جاوز الستين- فهو كالحيض في الرد إلى التمييز، أي: إذا كانت [المرأة مميزة] بأن ترى الدم القوي والضعيف ولم يزد القوي على أكثره فترد إليه؛ كما ذكرناه في الحيض، وهذا إذا كان الدم القوي هو الأول.
فلو كان الضعيف الأول، والقوي بعده- فيظهر أن يقال: إن كانت مدة الضعيف أقل من أقل الطهر، يتخرج على الوجهين في أنه هل يشترط في التمييز أن يقع القوي أولاً أم لا؟
وإن كان الضعيف أكثر من أقل الطهر فهو كما لو لم تر الدم عقيب الولادة، ورأته بعد خمسة عشر يوماً منها، وقبل مضي ستين يوماً، وقد سلف.
ولا فرق في الرد إلى التمييز عند وجود شرطه- كما سلف في الحيض- بين أن تكون المرأة معتادة أو غير معتادة [على المذهب].
[وقيل: النظر في المعتادة إلى العادة] دون التمييز، كما مضى مثله في الحيض.
قال: والعادة، أي: إذا [كانت المرأة] لها عادة تعرفها؛ بأن ولدت ثلاث مراـ، ونفاسها فيها أربعون يوماً، ثم ولدت ودام بها الدم، وكذا لو ولدت مرتين، ونفاسها أربعون، على المشهور.
ولو ولدت مرة واحدة، ورأت النفاس أربعين [يوماً] ثم ولدت ثانياً، واستمر بها الدم- ففيها الخلاف؛ كما في الحيض.
قال: والأقل والغالب، أي: إذا كانت المرأة مبتدأة في النفاس، ففيما ترد إليه القولان في المبتدأة في الحيض.
أحدهما: أقل النفاس.
والثاني: غالبه.
وقيل: إنها ترد إلى الأقل قولاً واحداً، والمشهور الطريقة الأولى؛ كما في الحيض.
والتعليل السالف في رد المبتدأة إلى أقل الحيض يقتضي ألا يجعل للمبتدأة في النفاس إذا أطبق [بها] الدم [نفاس] أصلاً؛ بناء على أنه [لا أقل] للنفاس؛ فإنه يحتمل أن تكون ذات جفوف، وقد أشار إليه البندنيجي بقوله: إذا لم يكن لها
تمييز ولا عادة، فكم تنفس؟ على قولين:
أحدهما: اليقين لحظة، أو لا شيء أصلاً.
والثاني: غالب نفاس النساء. وهذا لم أره في غيره، وإن اقتضاه التخريج- كما ذكرنا- بل قال الأصحاب: لو كانت عادة المرأة أن تلد ولا تنفس إذا ولدت، وولدت واستحيضت- فهي كالمبتدأة في النفاس؛ فيجري فيها القولان، حكاه الإمام وغيره.
ولهؤلاء أن يقولوا: لا نسلم أن تعليل رد المبتدأة في الحيض إلى أقله يقتضي ألا يجعل لها نفاس أصلاً؛ بل مقتضاه: أن يجعل لها نفاس؛ لإجماعهم على أن المبتدأة ما رأته من الدم حيض، وإن احتمل أن يكون جميعه دم فساد، وهو يدل على أن مرادهم باليقين في القدر، لا في أصل الوجود، والله أعلم.
وما ذكره الشيخ في الأحوال الثلاثة هو المذهب في "تعليق البندنيجي" و"الكافي"، والأصح في غيرهما، ووراءه وجهان:
أحدهما: أن الدم إذا جاوز الستين كانت الستين نفاساً، وما زاد استحاضة، وقد نسبه المتولي إلى المزني، وحكاه في "العدة" قولاً عن الشافعي والصورة كما ذكرنا.
والثاني: أن النفاس ستون، وما زاد عليها حيض بشرطه.
قال ابن الصباغ: وهذا بناء على قولنا: إنها إذا رأت الدم قبل الولادة يكون حيضاً إذا قلنا: [إن] الحامل تحيض، وهو ما حكاه الإمام عن الشيخ أبي حامد، وقال: إنه متروك عليه.
والفرق بين أن يتصل الدم بآخر النفاس وبأوله: أن الدم المتصل بأوله قوي يتخلل الولادة؛ فإن الولادة إذا تخللت أقوى من الطهر يتخلل، ولا كذلك إذا [ما] اتصل بآخره.
ومحل هذا الوجه – كما قال الماوردي- فيمن لم تكن مبتدأة بالحيض والنفاس، أما المبتدأة بهما: فلا خلاف في أن ما جاوز الستين استحاضة.
نعم، هل يكون نفاسها الستين، أو ما سلف؟ فيه الخلاف، وكلام الرافعي كالصريح في أن الخلاف في المعتادة كالمبتدأة؛ لأنه لما ذكر أن ظاهر المذهب ما
ذكره الشيخ، قال: وفيه وجهان آخران:
أحدهما: أن الستين نفاس وما زاد استحاضة بخلاف ما في نظيره من الحيض؛ لأن الحيض محكوم به ظاهراً لا قطعاً؛ فجاز أن ينتقل عنه إلى ظاهر آخر، والنفاس مقطوع به؛ إذ الولادة معلومة، والنفاس هو الدم الخارج بعد الولادة؛ فلا ينتقل عنه إلى غيره إلا بيقين، وهو مجاوزة الأكثر.
فعلى هذا يجعل الزائد استحاضة إلى تمام طهرها المعتاد.
والمردود إليه في المبتدأة، أي: من أكثر الطهر أو غالبه أو أقله، على ما مر. ثم ما بعده حيض.
وعلى المذهب الذي اقتصر الشيخ على إيراده في الأحوال الثلاثة، ما حكمنا بأنه نفاس وانقضى، جعلناه بمنزلة حيضة كاملة، ويحكم بأن ما بعده طهر، ونحيضها على ما يقتضيه حالها، كما سلف.
قال الإمام: ولا يبعد على طريقة أبي حامد أن نجعل ما نحيضها إياه [يعقب ما] اعتددنا به نفاساً، وهو غير معتد به.
وقد أفهم قول الشيخ: "فهو كالحيض .. " إلى آخره: أن المتحيرة، والذاكرة للعدد الناسية للوقت، والذاكرة للوقت الناسية للعدد- لا تكون في النفاس. ولا شك في أن المتحيرة لا تتصور في النفاس؛ بناء على المذهب المشهور [في أن] من عادتها ألا ترى نفاساً أصلاً إذا ولدت، ورأت الدم، وجاوز الستين-أنها كالمبتدأة؛ لأنه حينئذ يكون ابتداء نفاسها معلوماً وبه ينتفي التحير.
وأما الذاكرة للعدد الناسية للوقت: فيتصور بأن تقول: عادتي أن أنفس عشرة أيام، وما أدري هل كنت أراها عقب الولادة أو [بعدها] وقيل: تقضي مدة أقل الطهر من حين الوضع.
أو تقول: كنت أعلم أني لا أراه في أول يوم الولادة، ولا أعلم هل كنت أراه في ثانيه أو ثالثه أو رابعه؟ وهكذا إلى تمام أربعة عشر يوماً.
وإذا تصور ذلك أمكن أن نجعلها كالذاكرة للعدد الناسية للوقت في الحيض، وإن لم أره للأصحاب؛ ولعل تركهم لذلك بناء على ما سلف في أن ذات الجفوف إذا رأت الدم [وأطبق بها] حتى جاوز الستين يكون لها نفاساً.
نعم، هل تكون العشرة التي هي عادتها تعقب ولادتها أو لا؟ فيه نظر، والله أعلم.
وأما الناسية للعدد الذاكرة للوقت فتصورها سهل، وقد صرح الأصحاب فيها بقولين:
أحدهما: أنها كالمبتدأة، وهو ما رجحه الإمام؛ لأن ابتداءه معلوم.
والثاني: أنها تأخذ بالأحوط في قضاء الصلوات.
ولا تتصور فيما عدا ذلك؛ لأنا لا نأمرها بالاحتياط إلا عند مجاوزة الدم أكثر النفاس، وحينئذ يحكم بانقطاع حكم النفاس يقيناً؛ فلا يبقى معه احتياط في المستقبل.
وفي "تعليق القاضي الحسين": أنا على قول الاحتياط نأمرها بالصوم، وتقضي وتصلي، ولا يأتيها زوجها أبداً. وهذا قد يستنكر؛ لما ذكرنا.
وجوابه: أن هذا ليس لاحتمال أن يكون زمن صيامها وصلاتها ووطئها نفاساً؛ ولكن لأنه يجر لبساً في ابتداء دورها في الطهر والحيض، وإليه أشار الإمام.
وحكم التلفيق في النفاس كالتلفيق في الحيض، والستون [فيه] كالخمسة عشر يوماً في الحيض، والشروط: الشروط، فإذا ولدت ورأت ساعة دماً ثم [نقاء ساعة] أو يوماً أو أياماً دون خمسة عشر يوماً، ثم رأت دماً ثم نقاء، وهكذا- فالدم نفاس، وفي النقاء الذي بينه قولان، قال أبو الطيب: ولا يختلف المذهب فيه.
نعم، لو رأت الدم أولا، ثم النقاء خمسة عشر يوماً، ثم رأت يوماً وليلة دماً، وهكذا إلى تمام الستين- فالدم الأول نفاس، وفي الدم الثاني وما بعده وجهان:
أحدهما: أنه دم حيض، وهو ما صححه القاضي الحسين.
والثاني: أنه نفاس.
فعلى هذا في الطهر الذي بين الدماء القولان في التلفيق، فلو كان [ما رأته] من الدم بعد النقاء دون أقل الحيض، فعلى القول في المسألة قبلها: إنا نجعله حيضاً، نجعله في هذه [المسألة] دم فساد، وعلى القول الآخر نجعله نفاساً، وفيما بين الدماء من النقاء- على هذا- القولان.
قال الصيدلاني: ومحل الخلاف في جعل الدم الطارئ بعد الطهر الكامل نفاساً- إذا انقطع على الستين، فأما إذا جاوز الدم الستين، وصارت مستحاضة: فالذي بعد الطهر الكامل ليس بنفاس وجهاً واحداً؛ وإنما هو حيض.
قال الإمام: ولا وجه عندي غير هذا وما أطلقه الأئمة منزل عليه.
فرع: محله تقدم، ولكن أخرناه؛ لأنه يتعلق بأصول سلفت:
إذا ولدت توءمين بينهما زمان، فمن أي وقت يعتبر ابتداء النفاس؟ فيه أوجه: أحدها: عقيب ولادة الأول.
قال الصيدلاني: بشرط ألا تنقضي مدة [أكثر] النفاس قبل ولادة الثاني، فإن انقضت قبل ولادته [اعْتُبِرَ له] نفاس ثان؛ باتفاق أئمتنا.
وقال الشيخ أبو محمد: إذا فرعنا على أنه نفاس واحد، فإن ابتداءه من الأول، فما رأته بعد ولادة الثاني- وقد مضت مدة أكثر النفاس من ولادة الأول- دم فساد، وهذا ولد تقدمه النفاس.
ومنهم من قال: يكون ما بعد ولادة الثاني- والصورة كما ذكرنا- دم حيض.
وقد حكى الوجهين القاضي الحسين، وكذا الإمام قال: إنهما مفرعان على قولنا: إن ما رأته الحامل من الدم قبل الوضع يكون دم فساد، أما إذا قلنا: إنه يكون حيضاً، فهنا أولى.
والفرق: أن الغالب في الحامل أنها لا ترى دماً لانسداد فم الرحم، فإن رأته فقد تقدر أنه دم فساد؛ لندوره فنزل منزلة ما تراه الصبية قبل التسع، فأما إذا ولدت وانفتح فم الرحم فاسترخاء الدم من الرحم ليس بدعاً؛ بل النادر ألا ترى دماً [إذا ولدت].
قال: ثم إذا جعلناه حيضاً، فلو كان بين ما رأته قبل الولادة وبعدها أقل من أقل الطهر لم نحكم بأنه حيض؛ [إذ التفريع على أنه حيض] يوجب مراعاة أحكام الحيض فيه، وهذا بعيد عن التحصيل، وبه يظهر ضعف ما فرع عليه.
والثاني: من عقيب ولادة الثاني، وهو المذهب في "تعليق البندنيجي"، والأصح في "الكافي" وكذا عند الشيخ أبي محمد والبغوي وأصحابنا العراقيين، كما قال الرافعي.
فعلى هذا ما رأته من الدم قبل ذلك، هل يكون دم فساد أو حيض؟ فيه الوجهان.
قلت: والوجهان في الأصل يشبه أن يكون مأخذهما: أن الدم الخارج مع الولد هل يكون نفاساً أو لا؟ لأن بقاء الولد الثاني بمنزلة بقاء بعض الولد الأول.
وكذلك أجراهما المتولي فيما لو أسقطت عضواً من الولد، ورأت الدم بعده.
والثالث- وهو الأصح عند الإمام والمتولي، والمختار في "المرشد" – أن لكل ولد نفاساً، فإن تم نفاس الأول قبل ولادة الثاني، ابتدأت للثاني نفاساً كاملاً، وإن ولدت الثاني قبل استكمال نفاس الأول، دخلت بقية النفاس الأول في الثاني، كما في العدة.
قال: وإذا نفست المرأة- أي: رأت دم النفاس- حرم عليها ما يحرم على الحائض- أي: حتى تمكين الزوج أو السيد من الاستمتاع بها فيما بين السرة والركبة أو بالوطء فقط- ويسقط عنها ما يسقط عن الحائض- أي: إذا نفست غالب النفاس أو أكثره- ووجه ذلك: أنه دم حيض احتبس لأجل الحمل؛ فكان خروجه مجتمعاً كخروجه في وقته؛ ولهذا قال الأصحاب: إنه يحرم على الزوج الطلاق فيه، وبه صرح
الرافعي في كتاب الطلاق وإن كان كلامه هنا بخلافه.
أما إذا جرى أقل النفاس فلا تسقط الصلاة وإن حرم فعلها، نبه عليه البندنيجي.
تنبيه: نفست المرأة: بضم النون وفتحها، والفاء مكسورة فيهما؛ إذا ولدت- أي: ورأت الدم- ويقال في الحيض: نفست بالفتح لا غير، كذا قاله النواوي.
وقال ابن التلمساني: نفست المرأة- بضم النون-: إذا ولدت لا غير، وبالفتح والضم إذا حاضت.
قال: وتغسل المستحاضة فرجها؛ للطهارة عن النجاسة، وتعصبه- أي: وجوباً- إذا كان الدم كثيراً؛ ليرد الدم وعليه [يدل] قوله- عليه السلام: "فَإِذَا خَلَّفَتْ [ذلك] فَلْتَغْتَسِلْ، ثُمَّ لتَسْتثفِرْ بثَوْبٍ، ثُمَّ [لتُصَلِّ] " كما رواه أبو داود.
وتستثفر بتاء معجمة باثنتين من فوق مفتوحة، وسين مهملة ساكنة، وتاء مفتوحة بثلاث ساكنة، وفاء مكسورة، وراء مهملة، ومعناه: أن تجعل المرأة على قبلها خرقة أو غيرها والقطن أمس؛ لأنه جاء في حديث حمنة بنت جحش: أنه- عليه السلام قال لها: "أَنْعَتُ لَكِ الكُرْسُفَ؛ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ"، فلو احتاجت إلى حشو الفرج بذلك حشته.
نعم، لو كانت صائمة، قال الرافعي: لا تفعل ذلك بالنهار، وهذا يدل على أنها
تفطر به، وهو آخر جوابي القاضي الحسين.
ولقائل أن يقول: قد تعارض في هذا مصلحة الصلاة والصوم، فأيهما تقدم؟ ينبغي أن يتخرج على ما إذا ابتلع بعض خيط قبل الفجر، ثم طلع وطرفه خارج، كما سنذكره في الصوم.
وإذا فعلت ما ذكرناه، أخذت خرقة أخرى مشقوقة الطرفين فتدخلها بين فخذيها، وتضعها على ما وضعته على الفرج، وتخرج أحد طرفيها إلى بطنها والآخر إلى صلبها، وتشد أحد الطرفين بالآخر إلى خاصرتها اليمنى، ثم تفعل بالطرف الآخر كذلك على خاصرتها اليسرى، وهذا مأخوذ من ثفر الدابة الذي يجعل تحت ذنبها يمسك به السرج، وهكذا يفعل بالميت إذا غسل.
فإذا فعلت المستحاضة ذلك محكماً، وسال الدم بعد ذلك لم يضر، دون ما إذا قصرت في الشد؛ فإنه يلزمها استئناف الطهارة والصلاة، وهذا إذا سال في الصلاة.
[فأما إذا] سال قبل دخولها في الصلاة- ولا تقصير من جهتها- ففي وجوب استئناف الطهارة وجهان في "الحاوي"، وبنى عليهما: أنه لو جرى في الصلاة ولا تقصير، هل تتنفل بعد فراغها أم لا؟
ولو كان الدم يسيراً كفاها سد الفرج [بقطعة قطن] ونحوها، ومحل وجوب التعصيب إذا كانت لا تتأذى به، فإن تأذت به، وأحرها اجتماع الدم في الموضع- فلا يلزمها، وتباح لها الصلاة مع السيلان، قاله في "التتمة".
فرع: إذا زايلت العصابة محلها، وجب التبديل والتنظيف؛ لتعدي النجاسة محل العفو.
وقال الإمام: إن كانت المزايلة بحيث لا يمكن الاحتراز منها عفي عنها؛ كما يعفى عن الانتشار في محل الاستنجاء.
تنبيه: تعصبه: هو بفتح التاء وإسكان العين، وبتخفيف الصاد، ويجوز ضم التاء، وفتح العين، وتشديد الصاد.
قال: وتتوضأ لكل فريضة؛ لقوله- عليه السلام لفاطمة بنت أبي حبيش: "وَإِذَا
كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي فَإِنَّمَا هُوَ عِرْقُ" رواه أبو داود. وجاء في رواية الترمذي أنه- عليه السلام قال لها: "فَإِذَا أَقْبَلَتِ الحَيْضَةُ، فَدَعي الصَّلاة، وَإِذَا أَدْبَرَتْ، [فَاغْسِلي عَنْكِ] الدم وتوضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت".
ووضوءها يبيح الصلاة، ولا يرفع الحدث، على المذهب.
فعلى هذا فلا يجزئها إلا نية استباحة الصلاة؛ كما في التيمم.
وقد قيل: إنه يرفع الحدث، وقياسه: أن تصح بنية رفع الحدث فقط، ولم أره.
وقيل: يرفع الحدث الماضي دون المستقبل والمقارن؛ وعلى هذا تنوي رفع الحدث الماضي، والاستباحة للمقارن والمستقبل، وبه قال القفال، وغلطه الإمام.
تنبيه: قول الشيخ: "وتتوضأ" بالواو- يقتضي أنه لا يشترط تعقب الوضوء غسل الفرج وتعصيبه، وقد قال في "الحاوي": إنه شرط.
وإن توضأت بعد تطاول الزمان من ذلك، كانت كالعادم للماء إذا تيمم وعلى بدنه نجاسة بقدر على غسلها، هل يصح؟ وفيه وجهان:
أحدهما: أن وضوءها باطل بكل حال، وتستأنف غسل الفرج والوضوء.
والثاني: أنه جائز، وتغسل الفرج إن أمكن.
ويمكن أن يحمل كلام الشيخ على ما قاله في "الحاوي" بأن تحمل الطهارة [في] قوله: "بعد الطهارة" على طهارة الحدث والخبث، والله أعلم.
وقوله: "لكل فريضة" ظاهره يفهم أنه عائد إلى الوضوء فقط، وهو وجه حكاه
الأصحاب، وقالوا: لا يجب تجديد غسل الفرج وتعصيبه إلا إذا ظهر الدم، والأصح وجوب ذلك عند كل صلاة؛ لأن باطن ذلك نجس، واحتمل في صلاة واحدة للضرورة.
فعلى هذا يكون قول الشيخ: "لكل فريضة" عائداً إلى غسل الفرج وتعصيبه، والوضوء.
وقوله: "لكل فريضة" يفهم أن النوافل لا يتوقف فعلها على ذلك، وهو المذهب سواء بقي وقت الفريضة أو خرج، وبه جزم في "الكافي" وغيره.
وقيل: إنه إذا خرج الوقت لا تتنفل.
وقيل لا تستبيح النافلة بحال، وإن استباحت الفريضة مع الحدث الدائم للضرورة، حكاه في "الروضة".
قال: ولا تؤخر بعد الطهارة الاشتغال بأسباب الصلاة- أي: كستر العورة، والتحري في القبلة، والأذان، والإقامة، وانتظار الجمعة والجماعات، والدخول فيها؛ تصوناً من خروج الحدث بقدر الإمكان.
ومن هذا يؤخذ أنها لو توضأت قبيل الوقت بحيث اتصل آخره بأول الوقت- يجوز، وقد حكاه بعضهم عن رواية ابن الصباغ عن بعض الأصحاب، لكن الأصح في "النهاية" وبه جزم البندنيجي والماوردي وأبو الطيب:[أنه] يجب أن يقع كله في الوقت.
فرع: إذا كانت ترجو أن يقع الانقطاع في آخر الوقت، فهل الأفضل في حقها التأخير أو التعجيل؟ فيه وجهان كما في التيمم، حكاه في "التتمة".
قال: فإن أخرت-[أي]: لغير سبب من أسباب الصلاة- ودمها يجري، استأنفت الطهارة- أي: ابتدأتها- لأن ما جرى من الحدث كان يمكن الاحتراز عنه؛ فنقض الطهارة؛ كما في غير المستحاضة؛ وهذا ما حكاه الماوردي وجهاً في المسألة، وصححه، واختاره في "المرشد"، وحكاه أبو الطيب احتمالاً عن ابن سريج مع آخر: أنها لا تستأنف؛ بل لها أن تصلى ما لم يخرج الوقت.
وقال أبو الطيب: إنه [الذي] قاله الأصحاب، وردوا احتمال ابن سريج الأول.
والماوردي لم ينسب لابن سريج غير الثاني، ثم قال: وفيه وجه ثالث: أنه يجوز تأخيرها؛ لانتظار أسباب كمالها: كالجماعة، وقصد البقاع الشريفة، وأن يبادر بسترة
يستقبلها وما جرى هذا المجرى؛ لأن تأخير الصلاة لهذه الأسباب مندوب إليه. ولا يجوز تأخيرها لغير هذه الأسباب؛ لأنه ليس مندوباً إليه. وهذا صريح في جواز التأخير لانتظار الجماعة، والمشهور الأول.
وقيل: لها أن تصلي به وإن خرج الوقت، حكاه في "الشامل"، وهو ينسب [إلى] الخضري.
قال: وإن انقطع دمها في أثناء الصلاة- أي: انقطاعاً مبتدأ لم تجر عادتها به- استأنفت الطهارة والصلاة؛ لأن علة العفو عما عليها من النجاسة وما يتجدد من الحدث بعد الوضوء- الضرورة، وقد زالت، وهذا نصه.
وقيل: تمضي فيها؛ كالمتيمم إذا رأى الماء في [أثناء الصلاة] فإن النص: أنه يمضي، ومنه خرج ابن سريج هذا القول؛ كما خرج من هنا إلى ثم قولاً: أنه يستأنف، والصحيح تقرير النصين، والفرق: أن المستحاضة لم تأت عن طهارة الحدث المتجدد والخبث ببدل، بخلاف المتيمم؛ فإنه أتى عن طهارة الحدث بالبدل، ولا خبث عليه.
نعم، لو كان على بدنه نجاسة غير معفو عنها، فهو نظير المسألة.
وعن الشيخ أبي محمد: أن أبا بكر الفارسي حكى قولاً عن الشافعي- رضي الله عنه: أنها تخرج من الصلاة، وتتوضأ، وتزيل النجاسة، وتبني على صلاتها.
وقيل: يمكن أن يكون هذا بناء على القول القديم في سبق الحدث.
وفي "تعليق القاضي الحسين" في كتاب التيمم: أن أبا بكر الفارسي حكى في "عيون المسائل" في المستحاضة قولين، ثم قال: إذا قلنا: لا تمضي على الصلاة، فإذا اغتسلت وعادت، هل تبني، أو تستأنف؟ حكمها حكم من سبقه الحدث وهو في الصلاة.
قال في "الكافي": والمراد بالانقطاع ألا يخرج الدم إلى الظاهر.
أما إذا كان عادته أن ينقطع ويعود قبل إمكان إتمام الصلاة- مضت فيها قولاً واحداً.
نعم، لو دام الانقطاع أعادت، قولاً واحداً.
وعن الشيخ أبي حامد حكاية عن ابن سريج: أنه يتخرج على الخلاف في الانقطاع المبتدأ في الصلاة.
وإن كان عادته أن ينقطع، ولا يعود حتى يمضي قدر إمكان الطهارة والصلاة، أو أخبرها أهل الخبرة بأن مثل هذا الدم هذا حاله- استأنفت، قولاً واحداً، وهذا يكون في حق من صلت عند ضيق الوقت؛ إذ من عادتها أن ينقطع عنها الدم هذا القدر- لا يجوز لها أن تصلي مع جريان الدم في آخر الوقت، كما قدمناه، فلو أنه عاد على خلاف عادتها قبل الإمكان، ففي وجوب إعادة الوضوء وجهان، أظهرهما: أنه لا يجب.
ولو انقطع دمها قبل الدخول في الصلاة انقطاعاً مبتدأ، فقد أفهم كلام الشيخ: أنها تستأنف الطهارة، قولاً واحداً.
والماوردي قال: إن كان ذلك ولم يبق من الوقت ما يسع الطهارة والصلاة- فحكمها كما لو انقطع في الصلاة، وإن كان الوقت يسعهما، استأنفت قولاً واحداً، فلو عاد قبل إمكان الطهارة، ففي وجوب إعادتها الوجهان.
ولو خالفت حين انقطع وصلت، فعاد الدم: إن قلنا: لو عاد قبل الصلاة تستأنف الطهارة، فهنا تستأنف الطهارة والصلاة؛ وإلا فوجهان عن ابن سريج، أصحهما: الاستئناف المتردد في النية.
قلت: ونظيرهما ما لو صلى رجل خلف خنثى، ثم ظهرت رجوليته من بعد.
[والوجهان يجريان- كما قال الغزالي- فيما إذا انقطع دمها وبعد من عادتها العود].
قال الرافعي: وإذا قلنا بالصحيح فلو توضأت بعد الانقطاع، وشرعت في الصلاة، ثم عاد الدم- فهو حدث جديد، يجب عليها أن تتوضأ، وتستأنف الصلاة.
قال: وحكم سلس البول وسلس المذي- أي: الذي يحدث من غير سبب من وطء ونحوه- حكم المستحاضة لأنها نجاسة متصلة لعلة، تنقض الطهارة؛ فكانت كدم الاستحاضة؛ فيجري فيها جميع ما سلف.
ولا يجوز لمن به سلس البول أن يعلق قارورة يقطر فيها؛ لأنه يحمل نجاسة في غير معدنها بغير ضرورة.
أما من يحصل له سلس المذي بسبب من الأسباب فحدثه كسائر الأحداث في
غسله، ووجوب الوضوء.
ومن به سلس النجو كمن به سلس الاستحاضة [ومن به] سلس الريح، يتوضأ لكل فريضة، ومن به سلس المني، عليه أن يغتسل لكل فريضة.
قال الماوردي: قال الشافعي- رضي الله عنه: وقل من يستديم به المني؛ لأن معه تلف النفس.
ومن به جرح يخرج منه الدم، أو ناصور- وهو علة تحدث في حوالي المقعدة، ويقال بالسين أيضاً- حكمه حكم المستحاضة فيما يرجع إلى سده وغسله في أول دفعة، وكذا عند كل صلاة على أحد الوجهين، ولا يجب تجديد الوضوء بحال إلا أن يخرج الدم من أحد السبيلين كدم البواسير.
ولو كان به جرح غير سائل، فسال في حال الصلاة- انصرف، وغسل الجرح، واستأنف الصلاة وجوباً، قاله في "الكافي".
فرع: من بها دم فساد، فيه وجهان في "الحاوي":
أحدهما: أن حكمها حكم المستحاضة فيما ذكرناه.
والثاني: أنه حدث كسائر الأحداث وإن كان في ندرته كسلس المذي، والفرق: أنه إذا وقع يدوم، وهذا لا يدوم، وإن دام فهو آيل إلى حيض أو استحاضة.
تنبيه: سلس البول وسلس المذي: إن قرأته بنصب اللام، تعين أن تقول:"حكم الاستحاضة، وهو المذكور فيما وقفت عليه من النسخ، وإن قرأته بكسر اللام، تعين أن تقول: "حكم المستحاضة"؛ لأنه يكون صفة للرجل.
فرع: إذا كان من به سلس البول لو صلى قائماً، سال بوله، وإن صلى قاعداً استمسك، فهل المستحب أن يصلي قاعداً أو قائماً فيه وجهان، أصحهما في "الروضة" و"الكافي": الثاني، ولا يعيد على الوجهين معاً، والله أعلم.