الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الأذان
الأذان والتأذين والأَذِين بمعنى، وهو في اللغة: الإعلام، قال الله- تعالى-:{وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 2] أي: إعلام، وقال- تعالى-:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] أي: أعلمهم، [ويقال لمن أعلَمَ] بالشيء: آذَنَ به، وإذا أكثر الإعلام به قيل: أذَّنَ، قال الله- تعالى-:{فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء: 109].
قال الزجاج: و"الأذان" مشتق من "الأذن"؛ لأنه مما يسمع.
وهو في اصطلاح العلماء: الذكر المخصوص، سمي به؛ لأنه شرع في الأصل للإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة؛ ليجمع الناس لها.
والأصل في مشروعيته في الجملة قبل الإجماع من الكتاب قوله- تعالى-: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً} [المائدة: 57]، وقوله- تعالى-: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا
…
} [الجمعة: 8].
ومن السنة: أخبار كثيرة يأتي منها في الباب ما أمكن، وأمسها بما نحن فيه ما روى عبد الله بن زيد، قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل؛ ليضرب به لجمع الناس- طاف بي رجل وأنا نائم يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، فقال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت [له]: بلى، قال: فقال: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ
…
وساق ما ذكره الشيخ سوى الترجيع. ثم استأخر غير بعيد، ثم قال:[تقول] إذا أقمت الصلاة: الله أكبر .. وساق كلمات الإقامة كما ذكرها الشيخ. [قال:] فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأيت، فقال:"إِنَّهَا رُؤْيَا حَقٍّ- إِنْ شَاءَ اللهُ- فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ؛ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتاً مِنْكَ"، فقمت مع بلال،
فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، فسمع ذلك عمر بن الخطاب- رضي الله عنه وهو في بيته، فخرج يجر رداءه، فقال: يا رسول الله؛ والذي بعثك بالحق، لقد رأيت مثل الذي رأى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فَلِلَّهِ الْحَمْدُ"، رواه أبو داود، وذكر الترمذي آخره، وقال: هو حديث حسن صحيح. وذكر في "الوسيط" القصة والخبر على غير هذا النحو؛ إتباعاً لإمامه والقاضي الحسين، وتضمن- كما قالوا- أن عبد الله بن زيد أذن مرة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال القاضي [الحسين] والمتولي: إنه أول مؤذن أذن في الإسلام.
وقال ابن الصلاح: إن هذا لم أجده بعد البحث عنه، وكذا [ما] ذكره [من] أنه أتى بضعة عشر من الصحابة كلهم رأى مثل ذلك، لم أجده بعد إمعان البحث.
ثم هذه القصة كانت بالمدينة؛ إذ بها شرع الأذان و [كذا] الجمعة والجماعات، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة يقيم الجمعة والجماعات.
قال: الأذان والإقامة سُنة في الصلوات المكتوبة؛ لأنه صح بالنقل المتواتر- خلفاً عن سلف- أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك والمواظبة عليه فيها، ودلت الأخبار على أن ذلك ليس بفرض عين ولا كفاية؛ فتعين أنه سُنة.
فمن الأخبار ما روى البخاري، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ".
وما رواه- أيضاً- من أنه- عليه السلام قال للمسيء في صلاته: "إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأحْسِنِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَكَبِّرْ" أخرجه مسلم بمعناه.
ووجه الدلالة: أنه لم يأمره بأذان ولا إقامة، ولو كان واجباً لذكره.
وروى أبو داود عن أبي محذورة قال: قلت: يا رسول الله، علمني سُنة الأذان، قال: فمسح [مُقدم] رأسي، وقال: "تَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ
…
" وساق الخبر، فأقره على قوله: "علمني سُنة الأذان"، ولأن المقصود من الأذان والإقامة: الإعلام بدخول وقت حضورها؛ فلم يكن ذلك واجباً؛ كقوله: "الصلاة جامعة" في العيدين ونحوهما.
وتقييد الشيخ ذلك بالمكتوبة يدل على: أنه غير سُنة في الصلاة المنذورة والعيد
والاستسقاء والجنازة، وهو كذلك؛ لأنه لم ينقل أن ذلك فعل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في زمن أحد من الصحابة- وهم القدوة- بل قد ورد ما قد يدل على اختصاص ذلك بالمكتوبة، إذا ضم إلى ما قدمناه من خبر أبي هريرة، وهو ما روى ابن عمر قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثةٌ في كُثْبَانِ الْمِسْكِ- أراه قال: يَوْمَ الْقِيَامَةِ- يَغْبِطُهُمُ الأَوَّلُونَ وَالآخِروُنَ: رَجُلٌ نَادَى بِالصَّلَوَاتِ الخَمْسِ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَرَجُلٌ يَؤُمُّ قَوْمَاً وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ، وَعَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ". أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
وهذه السُنة تتأدى إذا اشتهر ذلك في البلد بأذان واحد إن كان البلد صغيراً، أو بأكثر منه إن كان كبيراً، حتى لو كان به مَحَالّ توقف تأدية السُنة على الإتيان به في كل محلة. وإذا كان القوم في صحراء أو بادية، فتأديتها يكون بمثل ما هو في البلد، وإذا فعل ذلك فقد حصلت السُّنة، وظهر الشعار، لكن [هل] يستحب ذلك بعد ذلك، لمن أراد إقامة الصلوات في أوقاتها الأصلية، أو لا؟ فيه تفصيل يتعين ذكره، فنقول: من حضر في الموضع الذي تقام فيه الصلاة، الأذان والإقامة؛ فلا يستحب له أن يؤذن، ولا أن يقيم وفاقاً، وكذا لو لم يكن حاضراً فيه، لكنه بلغه النداء، فحضر في المسجد قبل أن تقام الصلاة، أو قد أقيمت، وأدرك الصلاة. وإنما كان كذلك؛ لأن الغرض الأظهر الذي انبنى عليه أصل الأذان: الدعاء إلى الصلاة وإعلام الناس دخول وقت الصلاة، والغرض من الإقامة: إعلام من حضر أو قرب مكانه ممن يحضر، أن الصلاة قد قامت، ومن سمع النداء وحضر فهو مدعو مجيب؛ فلا معنى إذن لإتيانه [بذلك]، وهذا ما حكاه ابن الصباغ، وكذا الإمام، وقال: إنه لا شك فيه.
وفي "تعليق القاضي الحسين": أن بعض أصحابنا قال فيمن بلغه النداء، ووافى حضوره المسجد قبل أن تقام الصلاة، أو قد أقيمت: إنه يستحب له أن يؤذن في نفسه ويقيم، وإن كان قد تابع المؤذن وقت أذانه وقال مثل قوله، وأن الذي عليه عامة
أصحابنا، وهو ظاهر المذهب: الأولُ. نعم، لو وافى حضوره المسجد وقد صلت الجماعة [فيه]، استحب [له] أن يؤذن ويقيم مع خفض الصوت، ويكره رفعه؛ لأنه يوهم الجيران وقوع صلاتهم قبل دخول الوقت، خصوصاً إن كان ثَمَّ غيمٌ، وربما شق ذلك على المؤذن، وهذا قد حكاه ابن الصباغ عن نصه في "الأم"، وأنه لا فرق فيه بين أن يرجو حضور جماعة أو لا، ولم يحك سواه.
وفي "تلخيص الروياني" أنه نص في "الأم" على: أنه يستحب أن يؤذن ويقيم، وقال في موضع آخر من "الأم" ما يدل على أنه لا يستحب. قال: وليست المسألة على قولين، بل هي على حالين: فإن كان الإمام والناس انصرفوا أو فرغوا يؤذن ويقيم، وإن دخل حين فرغ الإمام من الصلاة لا يؤذن ولا يقيم. فأفهم كلامه أنا إذا قلنا: يؤذن ويقيم، يرفع بهما صوته؛ لأنه قال بعد حكاية هذه الطريقة: ومن أصحابنا من قال: إنه يؤذن ويقيم في نفسه بكل حال، ولا يرفع صوته، وما قاله في "الأم" من: أنه يصلي بلا أذان ولا إقامة، أراد به الجواز.
وفي "النهاية: ما يقتضي إجراء خلاف في الأذان فيه سواء وفي الإقامة بالترتيب؛ فإنه حكى عن صاحب "التقريب" فيما إذا حضر المسجد جماعة بعد أن أقيمت الجماعة فيه بأذان المؤذن الراتب، وأرادوا عقد جماعة أخرى: أنه لا ينبغي أن يؤذن مؤذنهم رافعاً صوته، وهل يؤذن في نفسه من غير إبلاغ في رفع الصوت؟ فيه نصوص مضطربة انتزع منها قولين:
أحدهما: نعم، وهو ما حكاه المزني عن الشافعي في "المختصر الكبير"، ووجَّهه الغزالي: بأن الدعوة الأولى قد انتهت بالإجابة الأولى؛ فعلى هذا يقيم من طريق الأولى.
والثاني: لا يؤذن؛ اكتفاء بما سبق من الأذان الراتب؛ فإنه تضمن دعاء كل من حضر أولاً وآخِراً إلى انقضاء [الوقت]، وعلى هذا: فهل يقيم؟ فيه وجهان، أصحهما: نعم.
وإذا ثبت الخلاف كما ذكرنا في حق الجماعة الثانية فالمنفرد أولى، ولا يقال: إن الخلاف المذكور إنما جاء في الجماعة؛ لأن في كراهية إقامة جماعة بعد جماعة في مسجد له إمام راتب خلافاً؛ فلا جرم كان في استحباب الأذان الخلاف؛ لأنا نقول: لو كان كذلك، لكنا نقطع بأنه يؤذن إذا قلنا: لا تكره إقامة الجماعة الثانية.
وقد قال الرافعي: إن القولين جاريان، سواء قلنا: يكره إقامة جماعة ثانية فيه، أَوْ لا.
قلت: ولأجل هذا صور الغزالي مسألة الخلاف في أذان الجماعة الثانية: بما إذا كان المسجد مطروقاً؛ فإنك ستعرف أنه لا خلاف في عدم كراهية إقامة جماعة ثانية فيه، فكان فيما ذكره تنبيه على أنه لا [ينبني] على الخلاف في إقامة جماعة ثانية فيه هل يكره أم لا؟ وأن قول المنع في غير المطروق يكون من طريق الأولى.
وقال الرافعي: لعل الغزالي إنما فرض الخلاف في المسجد المطروق، وإن كانت رواية صاحب "التقريب" مطلقة؛ لأن إقامة جماعة بعد جماعة إنما تتفق غالباً في المساجد المطروقة.
ولو بلغ الغائب عن الموضع- الذي تقام فيه الصلاة- الأذان والإقامة فيه ولم يحضره، ورام فعل الصلاة في مكانه، فهل يكفيه أذان المؤذن وإقامته أم لا؟ فيه احتمالان حكاهما الإمام عن صاحب "التقريب"، وحكاهما البندنيجي قولين:
أحدهما- وعليه نص في القديم-: أنه يكفيه.
والثاني- وهو الذي نص عليه في "الأم"-: لا يكفيه؛ فيأتي بالأذان والإقامة.
قال الإمام: وليس أذانه إقامةَ الشعارِ الذي وصفناه؛ فإنه ليس بطلب دعاء جمع، وقد قام بالدعاء العام المرتبون له.
ثم الظاهر: أنه على هذا القول يستحب له رفع الصوت بالأذان؛ لفقد علة المنع فيه، ويأتي فيه ما سنذكره عن الإمام فيه من بعد.
ولو كان شخص منفرداً بنفسه في الصلاة، و [كان] ذلك في موضع لم ينته إليه صوت مؤذن، قال الإمام: فالظاهر من المذهب: أنه يؤذن ويقيم، وهو المنصوص عليه
في الجديد، وفي بعض التصانيف قول محكي عن الشافعي في القديم: أنه لا يؤذن المنفرد، ولكن يقيم، وقال بعض أئمتنا: إن كان يرجو حضور جماعة أذن، وإلا فلا.
وهذا الإطلاق من الإمام يقتضي: أنه لا فرق في إجراء الخلاف في حق من ذكره [بين] أن يكون في البلد أو خارجاً عنها، ولا جرم حكاه في "الوسيط" في المنفرد في بيته، أو في سفر، إذا لم يبلغه نداء المؤذنين، وقال: إذا قلنا: لا يؤذن، فهل يقيم؟ فيه وجهان قدمنا مثلهما.
وفي "التتمة" التصريح بحكاية القولين فيما إذا كان المصلي في البلد، وهو قضية كلام ابن الصباغ، حيث قال: قال الشافعي في "الأم": يؤذن سواء صلى منفرداً أو في جماعة، وأنا عليه في المساجد العظام أشد استحباباً.
وقال في القديم: وأما الرجل يصلي وحده في المصر، فأذان المؤذنين وإقامتهم كافية له. فظاهر ذلك قولان.
قلت: والقول القديم مصرح بأن الإقامة كالأذان، ووجهه المتولي: بأن أهل الجماعة لا يسن لكل [واحد] منهم الأذان والإقامة، بل [يكتفي] بأذان واحد منهم، وكذا في حق أهل البلد يكتفي بأذان المؤذنين، وجزم القول بأن المنفرد في صحراء أو طريق، إذا أراد أن يصلي، استحب له أن يؤذن، وهو ما أورده البندنيجي والقاضي الحسين؛ لما روي أنه- عليه السلام قال:"إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، صَلَّى وَحْدَهُ، وَإِنْ صَلَّى وَأَقَامَ، صَلَّى مَعَهُ مَلَكَاهُ، وَإِنْ صَلَّى بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، صَلَّى مَعَهُ صَفٌّ مِنَ المَلَائِكَةِ: أَوَّلُهُ بِالمَشْرِقِ، وَآخِرُهُ بِالمَغْرِبِ".
قال القاضي في حق من كان خارج المدينة ونحوها: فإن قبلته تكون ما بين المشرق والمغرب.
وقيل: إنه أراد به التمثيل، والغزالي استدل لهذا القول بما روي أنه- عليه السلام قال لأبي سعيد الخدري:"إِنَّكَ رَجُلٌ تُحِبُّ البَادِيَةَ وَالغَنَمَ، فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَأَذِّنْ وَارْفَعْ صَوْتَكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَكَ شَجَرٌ، وَلَا مَدَرٌ، [وَلَا حَجَرٌ]، إِلا شَهِدَ لَكَ يَوْمَ القِيَامَةِ".
وقد نوقش في نسبة هذا القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقائله إنما هو أبو سعيد لعبد الله ابن عبد الرحمن بن أبي [صعصعة]؛ روى البخاري أن أبا سعيد قال لعبد الله:"إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيءٌ، إلا شهد له يوم القيامة، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ورواية الشافعي عن مالك نحو هذا.
وإذا صح إجراء الخلاف في [حق] من لم يبلغه النداء، سواء كانفي الموضع الذي وقع فيه النداء أو خارجاً عنه، وقد صح إجراؤه فيمن بلغه النداء ولم يحضر [ذلك]- جاز لك أن تقول لمن لم يحضر إلى الموضع الذي أذن فيه: هل يستحب له أن يؤذن ويقيم أم لا؟ فيه قولان:
الجديد: نعم.
والقديم: لا.
وفيه وجه: إن كان يرجو حضور جماعة أذن، وإلا فلا.
والغزالي جعل الخلاف فيمن بلغه النداء مرتباً على من لم يبلغه، واولى بألا يؤذن؛ اكتفاء بالنداء العام، والحامل له على ذلك: أن الإمام لم يحك في حالة بلوغ النداء الخلاف منصوصاً، وحكاه احتمالين عن صاحب "التقريب"؛ فلذلك حسن الترتيب.
[ويأتي] على هذا في مجموع المسألتين ثلاثة أقوال غير وجه الأصحاب؛ وكذا قاله الإمام، ثم قال: ولا ينبغي أن يختلف القول في المنفرد الذي لم تبلغه دعوة، وهو يرجو حضور جمع.
ثم حيث قلنا: يؤذن فيما إذا لم يبلغه النداء، فهل يرفع [به] صوته؟ قال الإمام: الظاهر أنا نُؤْثِرُهُ له بحديث أبي سعيد الخدري.
ومن أئمتنا من قال: إن كان يرجو حضور جمع؛ رفع صوته، وإن كان لا يرجو، أذن في نفسه.
وحديث أبي سعيد، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس نصّاً في حالة انفراده؛ فإنه- عليه السلام لم يتعرض لذلك، وليس يبعد عن الحال: أنه كان يقول مع عُصْبة من خدمه وحشمه.
قال: والخلاف جار فيمن سمع النداء، وقصد فعل الصلاة في محله، وأولى بألا يرفع. قال: ويترتب من المسألة ثلاثة أوجه، قال: ثم حيث نقول: لا يرفع، لا يكره رفع الصوت، ولا ينهى عنه، بل هو أولى قطعاً، وإنما الكلام في الاعتداد بالأذان من غير رفع الصوت.
قال: وهو أفضل من الإمامة، أي: ألشعار الذي تقدم ذكره من الأذان والإقامة أفضل من الإمامة؛ لقوله- تعالى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} ، [فصلت: 32].
قالت عائشة- رضي الله عنها: هم المؤذنون. وروى أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، اللَّهُمَّ أَرْشِدِ الأَئِمَّة، وَاغْفِر للمُؤْذِّنِينَ" والأمانة أعلى من الضمان، والمغفرة أعلى من الإرشاد.
قال بعضهم: ووصف المؤذن بالأمانة؛ للاعتماد عليه في المواقيت والإطلاع على الحريم، والأئمة بالضمان؛ لتحملهم سهو المأموم والقيام والقراءة عن المسبوق.
وقد روى مسلم أنه- عليه السلام قال: "المُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ أَعْنَاقاً يَوْمَ القِيَامَةِ"، وفي معنى طول أعناقهم أقوال:
أحدها: أنهم أكثر الناس رجاء؛ لأن الراجي لشيء يتشوف إليه ويمد عنقه، والخائف يخنس.
والثاني: أنهم أكثر الناس أعمالاً، يقال: لفلان عنق من الخير، أي: قطعة؛ قاله ابن الأعرابي.
والثالث: أنهم أقرب إلى الله.
والرابع: أنهم لا يلحقهم العرق؛ فإن العرق يأخذ الناس على قدر أعمالهم.
والخامس: أنهم يكونون رُءوساً في ذلك اليوم، والعرب تصف السادة بطول العنق.
والسادس: أنهم أكثر الناس جماعات، يقال: جاء عنق من الناس، أي: جماعة ومنه قوله- تعالى-: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا ..} الآية [الشعراء: 3] أي: جماعاتهم؛ ولذلك لم يقل: خاضعات.
وعلى هذا ما المراد بالجماعة الكبيرة؟ قيل: الذين يشفعون فيهم، وقيل: المصلون بأذانهم.
وقد روي: "إعناقاً" بالكسر، أي: هم أكثر إسراعاً إلى الجنة؛ قاله البغوي.
وما ذكره الشيخ، قد حكاه القاضي أبو الطيب والمراوزة وجهاً في المسألة، مع وجه آخر: أن الإمامة أفضل [منه]، وقال القاضي أبو الطيب والغزالي: إنه الصحيح وكذا الرافعي، وقال: إنه ذهب إليه صاحب "التقريب" والقفال والشيخ أبو محمد وغيرهم، ورجحه القاضي الروياني- أيضاً- وحكاه عن نص الشافعي- رضي الله عنه في كتاب "الإمامة"، وعلله بأن الإمامة أشق، والقاضي أبو الطيب، ووجهه بأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين واظبوا عليها، وهو دليل الأفضلية، ولأن الغرض من الأذان الاستحثاث على الجماعة، [والإمامة] عين القيام بعقد الجماعة، والقيام بالشيء أولى من الدعاء إليه، وقول عائشة- رضي الله عنها في تفسير الآية معارض بقول ابن عباس: إن المراد فيها أنصاره وأصحابه. وكأنه الصحيح؛ لأن السورة من آخر ما نزل بمكة، والأذان إنما ترتب بالمدينة؛ كما ذكرنا.
وقوله- عليه السلام: "الأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ" تنبيه على خطر الإمامة، ويشعر بعلو قدرها مع الحث على التوقي من الغرر ولا يقال: إنه عليه السلام إنما امتنع من الأذان؛ لأنه لو قال: "أشهد أن محمداً رسول الله"، لأوهم أن محمداً غيره، ولو قال:"أشهد أني رسول الله"، لغير نظم الأذان، ولأنه دعاء وإجابته- عليه السلام-
واجبة، وإجابة المؤذن فيما دعا إليه لا تجب؛ فلذلك لم يفعله؛ لأنا نقول قد روى الترمذي بسنده أنه- عليه السلام أذن، وذلك يمنع هذا.
ولو لم يصح أنه- عليه السلام أذن، قلنا: لو قال: "أشهد أن محمداً رسول الله" لم يكن قادحاً؛ فإنه كذا كان يقول في التشهد، وإجابته إذا دعا مخصوصة بما إذا لم يقرر أنها سنة، أما إذا فهم منه أن ما دعا إليه غير واجب، فلا نسلم أنها تجب، ولأن العلة لو كانت هذه لأذن أبو بكر وعمر؛ إذ هذا المعنى مُنْتفٍ في حقهما.
والذي صححه في "الروضة" الأولُ، قال: وهو قول أكثر أصحابنا.
وقد نص الشافعي- رضي الله عنه في "الأم" على كراهة الإمامة، فقال: أحب الأذان؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غَفَرَ اللهُ للْمُؤَذِّنِينَ"، وأكره الإمامة؛ للضمان [وما على الإمام فيها].
قلت: وإلى هذا يميل كلام الإمام، وامتناع النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأذان؛ كان لاشتغالهم بما هو أهم منه؛ ولذلك قال عمر:"لولا الخلافة لكنت مؤذناً"، وكون القيام بالشيء أولى من الدعاء إليه صحيح؛ إذا لم يكن الداعي قد أتى به- أيضاً- أما إذا كان دعا إليه وقام به مع من قام، فهو أولى ممن قام به فقط، والأذان كذلك
[والإمامة التي يسبقها من أذن]، وما أجيبَ به عن السؤال المقدور: وهو القياس على التشهد، فالفرق: أن ذاك لا يقصد إظهاره، بخلاف الأذان والإقامة.
وقد قيل: إن الأذان والإمامة سواء؛ قاله صاحب "الإفصاح".
قلت: وعليه يدل قوله- عليه السلام: "ثَلَاثَةٌ في كُثْبَانِ المِسْك" الحديث الذي سلف في أول الباب.
وقيل: إن [من] كان يعلم من نفسه القيام بحقوق الإمامة، فهي أفضل في حقه، وإلا فالأذان أفضل في حقه، وقد اختاره صاحب "المرشد"، ويقال: إن هذا قول أبي علي الطبري والمسعودي.
وعلى هذا لو صلح لهما، أمكن أن يقال: يأتي الخلاف [السابق] في حقه، وأمكن أن يقال: الأفضل في حقه الجمع بينهما، وهو ما حكاه في "الروضة" عن أبي علي الطبري، والماوردي، والقاضي أبي الطيب، وصححه، والرافعي حكاه عن ابن سريج واستغربه، وقال: لعله محمول على أن الأفضل في حقه أن يؤم قوماً، ويؤذن لآخرين.
وقيل: إنه لا يستحب الجمع بينهما، وهو ما قاله الروياني في "تلخيصه"؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة فعل ذلك.
وعن الشيخ أبي محمد: أنه مكروه؛ لنهي ورد فيه إن صح، وبه قال البغوي والغزالي في "الإحياء"، ولعله محمول على ما إذا كان يؤذن لقوم ويؤم بهم.
وهذا الخلاف كله تفريع على أن الأذان والإقامة، [اللذين يعبر عنهما بالشعار سنة]، وهو ما قال البندنيجي: إنه المذهب.
قال الشيخ: وقيل: وهو- أي: الشعار المذكور من الأذان والإقامة- فرض على الكفاية؛ [كما صرح به في "المهذب" وغيره]؛ لقوله- عليه السلام لنفر أقاموا عنده عشرين ليلة: "ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَأَقِيمُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَمُرُوهُمْ، فَإِذَا
حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، ثمَّ ليَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ" هذه رواية مسلم، وزاد البخاري: "وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أصلي"، وهذا أمر وظاهره الوجوب.
ولأن ذلك من الشعائر الظاهرة المستمرة في الشريعة، وقد صح أن رد السلام من فروض الكفايات؛ لأنه نم شعائر الإسلام، فما ذكره أولى.
والكفاية تحصل إذا قام به البعض على النحو الذي قلنا: إن السُّنة تتأدى به على القول الأول؛ وحينئذ يسقط الفرض عن الباقين.
قال النواوي في "التحرير لألفاظ التنبيه": وإذا فعلته طائفة أخرى كان فرضاً- أيضاً- وكلام الإمام يأباه؛ كما ستعرفه.
وهذا القول محكي في "التتمة"، و"الشامل"، وغيرهما عن الإصطخري.
وقال الإمام: إن بعض المصنفين في المذهب عكس ذلك، فذكر أن الأصح الذي ذهب إليه جمهور الأئمة: أن ذلك من فروض الكفايات وأن أبا سعيد الإصطخري ذهب إلى أنه سنة، وهذا منه إشارة إلى "الإبانة"؛ فإن لفظها قريب من ذلك، قال: والذي عليه التعويل الأول، ولم يحك الصيدلاني عن الأصحاب غيره، وحكى القول بأنه فرض كفاية، عن بعض أهل العلم.
وعلى القول به قال الشيخ: فإن اتفق أهل بلد على تركه، قاتلهم الإمام- أي: أو من يقوم مقامه- بعد الإنذار؛ لأن هذا شأن فروض الكفايات إذا تركت، وهكذا الحكم فيما إذا امتنع أهل محلة من بلد كبير منه، دون باقي أهل البلد، قاتل الإمام أهل المحلة فقط.
أما إذا قلنا: إنه سنة، فالمذهب أنهم لا يقاتلون، وهذا ما حكاه البندنيجي.
وحكى الماوردي وغيره عن أبي إسحاق: أنهم يقاتلون- أيضاً- بعد الإنذار؛ استدلالاً بما روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه- كانوا إذا مروا بناحية، ولم يسمعوا صوت الأذان؛ صابحوا أهلها بالقتال؛ ولأن النفوس تطمئن إلى إقامة الشعار الظاهر إلا إذا أضمروا ردَّ الشريعة واعتقدوا بطلانها.
وما ذكره لا حجة فيه؛ لأن ترك الأذان في ذلك الوقت كان علامة على الكفر؛ إذ كانوا قاطعين بأن قابلي الإسلام، ومصدقي الرسل في علو الدين وصدر الشريعة وصَفْو الملة كانوا لا يتركون الأذان، ولا كذلك في غير ذلك الزمان.
وأيضاً الاستدلال بترك الأذان على إماتة الدين لا وجه له؛ إذ الكلام في قوم اعتقدوا أنه سُنة، وتَنَاجَى به الخواص [منهم] والعوام، وواظبوا على إقامة الصلوات. ثم كلام أبي إسحاق كالمتناقض؛ إذ المقاتلة قد تفضي إلى القتل، وهو نهاية العقوبات، وكل ما يتعلق بتركة عقوبة، يستحيل [القضاء بكونه سُنة؛ إذ حقيقة السُّنة جواز تركها، وما يجوز تركه يستحيل] أن يَجُرَّ قتلاً.
وقد قيل: إن ذلك سُنة إلا في يوم الجمعة؛ فإنه فرض كفاية، وهذا ما حكاه البندنيجي، والشيخ في "المهذب"، عن أبي سعيد الإصطخري وابن خيران.
والإمام اقتصر على نسبته إلى ابن خيران، وأنه وجهه: بأن الأذان دعاء إلى الجماعات، وإنما تجب الجماعة على الأعيان مع الاختصاص بأوصاف معروفة يوم الجمعة؛ فاختص الأذان الذي هو دعاء إليها بكونه فرضاً على الكفاية.
وعلى هذا فالذي يتعلق به الفرض النداء الذي يحرم البيع عنده، وهو الذي بين يدي الخطيب، كذا حكاه البندنيجي عنهما.
وحكى الإمام عن رواية شيخه وجهاً آخر: أنه يُكتفَى بالأذان الأول الذي ينادي به للجمعة.
فإن قلت: قد نقل أن الإصطخري قال: إنه فرض كفاية مطلقاً أو سُنة مطلقاً، فكيف يحسن نسبة هذا القول إليه؟!
قلت: بطريق الجمع بين النقلين: ما قاله الماوردي من أن الإصطخري قال: إنه فرض كفاية مطلقاً، وأنه ادعى أنه في الجمعة ثابت بالإجماع؛ فظن من وقف على آخر كلامه دون أوله أن ذلك مذهبه [لا غير] فنسبه إليه. والله أعلم.
تنبيه: قول الشيخ: "وقيل: هو فرض على الكفاية"، بعد قوله:"الأذان والإقامة سُنة في الصلوات المكتوبة" يفهم: أنه فرض كفاية في الصلوات المكتوبة، وهو ما يفهمه كلام البندنيجي- أيضاً- وهو ظاهر في الفقه؛ إذ الظاهر أن القائل بأنه فرض كفاية على الإطلاق، ولا يخصه بيوم الجمعة- هو القائل: بأن صلاة الجماعة فرض كفاية؛ إذ الأذان والإقامة وسيلة إليها.
والجماعة على هذا القول فرض كفاية في الصلوات المكتوبة، وهي الخمس، وحكم الوسائل في الغالب حكم المتوَسَّل إليه.
وقد حكى الإمام عن الفوراني أنه لم يَرَ هذا المذهب معزيّاً إلى [الأصحاب]، وإنما هو مذهب عطاء. نعم، الواجب على هذا القول الإتيان به في اليوم والليلة مرة واحدة.
قال الإمام: على الصحيح. ولم أر هذه اللفظة في "الإبانة".
قال: والأذان تسع عشرة كلمة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله- يخفض صوته بالشهادتين- ثم يرجع فيمد صوته فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله؛ لما روي عن أبي محذورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [قال له:"قُمْ فَأَذِّنْ بالصَّلَاةِ" فألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم] التأذين هو نفسه، فقال:"قُلِ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، [ثُمَّ قَالَ: ارْجِعْ فَامْدُدْ مِنْ صَوْتِكَ، ثُمَّ قُلْ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ]، حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلَى الفَلاح، حَيَّ عَلَى الفَلاح، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لا إِلَهَ إِلا اللهُ" أخرجه النسائي.
ورواية أبي دَاودَ أمسُّ بالمدَّعَى؛ فإنه رَوَى عن أبي محذورة قال: قلت: يا رسول الله، علمني سنة الأذان، قال: فمسح مقدّم رأسه، قال:"تَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ،- تَرْفَعُ بِهَا صَوْتَكَ، ثُمَّ تَقُولُ-: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، تَخْفِضُ بِهَا صَوْتَكَ، ثُمَّ تَرْفَعُ صَوْتَكَ بالشَّهَادَةِ- أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلَى الفَلاح، حَيَّ عَلَى الفَلاح- فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ الصُّبْح قُلْتَ: الصَّلاةِ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلاةِ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ- اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لا إِلَهَ إِلا اللهُ".
لكن هذا يرويه الحارث بن عبيد عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة عن أبيه عن جده، قال عبد الحق: لا يحتج بهذا الإسناد؛ فلذلك بدأنا بالأول، وبه بدأ أصحابنا أيضاً، وقالوا: إن الشافعي- رضي الله عنه رواه عن مسلم بن خالد عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة عن أبي محذورة، وكان يتيماً في حجر أبي محذورة، وإن الشافعي قال: وأدركت إبراهيم بن عبد العزيز المذكور يؤذن كذلك.
وما ذكره الشيخ من أن الأذان تسع عشرة كلمة هو ما قاله كافة الأصحاب، وهو يقتضي أن الإتيان بالشهادتين- وهما: أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، وأشهد أن محمداً رسول الله مرتين، مع خفض الصوت-[ركن في الأذان، كالإتيان بهما مع رفع الصوت] وبقية ألفاظ الأذان؛ فلا يعتد بالأذان بدونهما، وهو وجه حكاه المراوزة، والروياني، وقال: إنه ليس بشيء، وقال الإمام: لعل الأصح والأظهر أنه لا يبطل بترك ذلك، وأنه ليس بركن، وأكثر العراقيين لم يتعرضوا للكلام في ذلك، لكن البندنيجي قال في "تعليقه"- بعد قوله: إن الأذان تسع عشرة كلمة-: إن الشافعي قال في "الأم": فمن نقص منه شيئاً، أو قَدَّم مؤخَّراً، أعاد حتى يأتي بما نقص وكل شيء منه في موضعه. وهذا عين ما قلنا: إن كلام الشيخ يقتضيه.
وقد حكاه القاضي الحسين عن رواية البيهقي عن الشافعي، وقال: إنه مشكل؛ لأنه أتى بأصل الأذان؛ فوجب أن يصح كما لو ترك التكبيرات السبع والخمس في صلاة العيدين.
وجوابه: أن الدليل قام ثَمَّ على أن التكبيرات سنة، ولا كذلك ها هنا.
فإن قيل: خبر عبد الله بن زيد- الذي هو الأصل في مشروعية الأذان- لم يذكر فيه ذلك؛ بل اقتصر فيه على الإتيان بالشهادتين مرتين من غير ترجيع، وبه كان يؤذن بلال في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلنا: العمل برواية أبي محذورة أولى؛ لأنه متأخر، وتشتمل على زيادة، والنبي صلى الله عليه وسلم لقَّنه إياه، وعليه أجمع أهل الحرمين.
وروي [عن] سعدِ القَرَظِ أنه كان يؤذن، ويقول: هذا أذان بلال الذي كان يؤذن به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويؤيده- أيضاً- ما روي أنه- عليه السلام قال: "الأَذَانُ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً"[ولا يكون ذلك عدده إلا مع الترجيع، وبه يقع الجواب- إن صح- عما تمسك به مالك من أنه سبع عشرة كلمة،] وهو ما رواه مسلم عن أبي محذورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه هذا الأذان: "الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة- مرتين- حي على الفلاح- مرتين- الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله". انتهى.
وإن لم يصح فحجتنا عليه: أن الرواية التي تمسكنا بها قد اشتملت على زيادة، والعمل بها أولى، والله أعلم.
وقد نوقش الشيخ في قوله: "ثم يرجع، فيمد صوته"، وقيل:[كان] الأولى أن
يقول: "فيرفع صوته"؛ فإن المراد رفع الصوت، ولا يلزم من المدِّ الرفعُ.
وأجاب المناقش بأنه سمع من العرب: مد صوته، بمعنى: رفعه.
وأنا أقول: إنما قال الشيخ ذلك؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال كذلك؛ كما ذكرناه في رواية النسائي.
"ويَرْجِع"- بفتح الياء وإسكان الراء-: أي: يعود إلى رفع الصوت، وقد يصحفه بعض الناس، فيقول:"يُرَجِّع" بضم الياء وتشديد الجيم، وهو خطأ؛ لأن الترجيع: الإتيان بالشهادتين سرّاً، وقد انقضى ذلك، وإنما المراد ما ذكرناه؛ [كذا] قاله النووي.
وكلام الإمام يقتضي أن الترجيع: مجموع الإتيان بالشهادتين مع الخفض والرفع، وعليه جرى الرافعي.
والمراد بالخفض عند الشيخ أبي محمد والقاضي الحسين: أن يكون بحيث يسمع من بالقرب منه أو أهل المسجد إن كان واقفاً عليهم، وكان المسجد مقتصد الخِطَّة.
قال الإمام: ويحتمل أن يكون المرجع فيه إلى مثل القراءة في الصلاة السرِّية، والأول أشبه؛ لأن الذي يؤذن في نفسه-[كما تقدم]- لا يقتصر على إسماع نفسه، وقد حكى الروياني في "تلخيصه" الأول عن نص الشافعي، رحمه الله.
فرع: إذا لم يرجع في أذانه، وقلنا: يعتد به، فهل يثني على إقامته؟ حكى العمراني في "زوائده" فيه وجهين:
أحدهما: يثنيها؛ لأنه إنما لم يثن فيها؛ اكتفاء بتثنية الأذان.
والثاني: [لا]؛ لأن فيه تركاً لسنتها مع ترك سنة الأذان، وترك سنة أولى من ترك سنتين.
قال: وإن كان في أذان الصبح، قال بعد الحيعلة: الصلاة خير من النوم، مرتين؛ لما تقدم من الخبر، وقد صح أن بلالاً كان يفعله.
قيل: وكان السبب فيه ما روى [ابن] عمر أن بلالاً أذن للصبح ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُؤْذِنَهُ، فقيل: إنه نائم، فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، الصلاة خير من النوم- مرتين- ثم دخل فحرك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي- عليه السلام:"اجْعَلْهُ في تَاذِينِكَ، إذَا أَذَّنْتَ لِلصُّبْحِ فَقُلِ: الصَّلاةِ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلاةِ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ" كذا ذكره الروياني في "تلخيصه"، وما ذكره الشيخ هو ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه في القديم، واستدل له بفعل بلال؛ كما أفهمه كلام الإمام.
وحكى الروياني أنه نص عليه في "الإملاء" أيضاً.
وقال أبو الطيب: إن البويطي نقله.
ونقل الكافة أنه كرهه في الجديد؛ لأن أبا محذورة لم يَحْكِهِ، واختلف الأصحاب بعد ذلك على طريقين:
فمنهم من قال: فيه قولان، قال الإمام: وهي الطريقة المشهورة، وغيره حكاها عن أبي إسحاق المروزي، وأنه صحح القديم، وكذا المزني؛ لأن الزيادة في الإخبار أولى.
قال الإمام: قال الأئمة: كل مسألة فيها قولان أحدهما جديد، فهو أصح من القديم، إلا في ثلاث مسائل، هذه إحداها.
والطريقة الثانية: القطع بالقول القديم، وهي التي حكاها في "المهذب" عن الأصحاب، والصيدلاني عن المحققين، واختاره الشيخ أبو حامد؛ لأنه قيل: إن
الشافعي علق القول فيه على صحة خبر أبي محذورة، وقد صح بطرق أنه كان يُثَوِّبُ.
وروى الدارقطني عن أنس قال: "من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر: حيَّ على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم"، والسنة إذا أطلقت حملت على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "الصلاة خير من النوم" هو التثويب، سمي بذلك من قولهم: ثاب فلان إلى كذا، أي: رجع؛ فإنه لما قال: "حي على الصلاة" دعا إليها، وانتقل عن الدعاء إليها بقوله:"حي على الفلاح"، فإذا قال:"الصلاة خير من النوم" عاد إلى الدعاء إلى الصلاة، فسمي: تثويباً.
وقد اعترض ابن المنذر على الأصحاب في تعليلهم كراهية الشافعي التثويب في الجديد، بأن أبا محذورة لم يَحْكِهِ، وأن الشافعي حكى ذلك في الكتاب العراقي عن سعد القرظ عن أبي محذورة، ولعل الشافعي نسيه بمصر؛ كذا قاله الروياني عنه.
وأبو الطيب حكي عنه أنه قال: الشافعي في العراق روى حديث التثويب عن علي وعن بلال، ولعله [نسيه] بمصر؛ وعلى هذا لا تعارض بين ذلك وبين قول الأصحاب.
ثم إذا قلنا [بأنه] يثوب فهو سنة لا ركن فيه باتفاق الأصحاب، حتى إذا لم يأت به اعتدَّ به، فقال الغزالي: فيه احتمال، وهو للإمام؛ من جهة أنه يضاهي كلمات الأذان في شرع رفع الصوت به؛ فكان أولى بالخلاف من الترجيع.
[تنبيه:]"الله أكبر" معناه: أكبر ممن ينسب إليه ما لا يليق بجلاله ووحدانيته وصَمَدِيَّته. وقيل: معناه: الكبير. وقيل: معناه: الأكبر.
و"أشهد" معناه: أعلم.
و"الرسول": هو الذي يبلغ خبر من أرسله وبايعه، من قولهم: جاءت الإبل رَسَلاً، أي: متتابعة.
ومعنى "حي على الصلاة": تعالَوْا إليها.
و"حي على الفلاح" معناه: هلموا إلى الفلاح، وهو الفوز، وقيل: البقاء الدائم.
و"الحيعلة": حكاية قول المؤذن: حي على الصلاة، حي على الفلاح، كما يقال: البسملة، والحمدلة، والسَّبْحَلة.
قال: والإقامة إحدى عشرة كلمة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله؛ لما ذكرناه من خبر عبد الله ابن زيد، وهو نص فيما ذكرناه.
وقد روى البخاري ومسلم عن أبي قلابة عن أنس قال: "أُمِرَ بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر الإقامة"، وفي رواية:"إلا الإقامة"، وقوله:"أمر بلال" يريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك، يدل عليه أن النسائي أخرجه في سننه مبيَّناً من حديث أبي قلابة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة. قال الشيخ زكي الدين: ورجال إسناده [ثقات].
ومعنى "قد قامت الصلاة": دنت.
والحكمة في تثنية الإقامة: أن ذلك نفس المقصود بها؛ فأكد؛ ولأن ما سواها من الألفاظ قد أعطي حقه من التثنية في الأذان.
فإن قيل: قد روى أبو داود والنسائي عن ابن عمر قال: إنما كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة، غير أنه يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، فإذا سمعنا بالإقامة توضأنا، ثم خرجنا إلى الصلاة، وأنتم تثنُّون بعض
ألفاظها- وهو: الله أكبر- في صدرها، وفي آخرها.
قيل: الإفراد في الإقامة على مقابلة تثنية الأذان في الخبر، وذلك يقتضي التشطير لا محالة، ولما تقرر في عرف الشرع ذلك كان التكبير مرتين في حكم اللفظ المفرد؛ إذ من المعلوم أن يؤتى به في صدر الأذان أربع مرات، وقد شهد الخبر أن الأذان مرتين مرتين، وذلك يدل على ما ذكرناه.
[قلت: وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه يلزم منه أن يكون قوله: الله أكبر، الله أكبر، بعد الحيعلتين في الأذان في حكم الإفراد؛ وذلك يخرج الأذان عن أني كون مرتين مرتين.
فإن قيل: المراد أن يكون معظم ألفاظ الأذان مرتين مرتين؛ بدليل ان قوله: لا إله إلا الله- في آخر الأذان- كلمة واحدة.
قلت]: إذن معظمه مثنى وإن لم يقدر "الله أكبر الله أكبر" في حكم كلمة واحدة، ولا يرد على ذلك الترجيع؛ لأنا نقول ليس هو ركناً في الأذان، وإن قلنا: ركن، لكنه يعود إلى الكلمة بعد الانتقال عنها إلى غيرها، فكان كلفظ "الله أكبر" بعد الحيعلة؛ فلا حاجة مع ذلك إلى جعل قوله: الله أكبر- مرتين، في صدر الأذان- في حكم اللفظ المفرد، والله أعلم.
وما ذكره الشيخ هو الجديد، ووراءه أقوال عزيت إلى القديم:
أحدها- حكاه القاضي أبو الطيب عن رواية [القاضي] أبي حامد-: أنها عشر كلمات: ما ذكره الشيخ، غير أنه لا يكرر لفظ الإقامة، وقد حكاه الماوردي أيضاً، وقال: إنه مذهب مالك.
والثاني- حكاه الإمام-: أنها تسع كلمات: ما ذكرناه قبله، غير أنه لا يكرر لفظ:"الله أكبر" في آخرها؛ ليكون قد رد الإقامة إلى شطر الأذان.
والثالث- حكاه القاضي الحسين والمتولي والإمام أيضاً-: أنهما ثماني كلمات: ما ذكرناه آخراً، غير أنه لا يكرر لفظ "الله أكبر" في صدرها، وهذا هو المشهور عن
مالك؛ تحقيقاً للإفراد.
وعن بعض الأصحاب- وهو محمد بن خزيمة؛ كما قال الرافعي-: إن رجع في الأذان فالسنة أن يثني الإقامة، وإن لم يرجع فيه فإنه يفرد الإقامة؛ لما روي عن أبي محذورة أنه قال:"لقَّنني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات الأذان تسع عشرة كلمة، وكلمات الإقامة سبع عشرة كلمة"، وإنما تكون الإقامة سبع عشرة كلمة إذا وجدت مَثْنى مَثْنى؛ كذا قاله القاضي الحسين وغيره.
وقال المتولي: إن مراد هذا القائل: أنه إذا رجع في الأذان فسببه الأخذ بما تضمنه بعض الأخبار من الزيادة، وهذا الخبر اقتضى زيادة على غيره؛ فوجب الأخذ بها.
وقد ذكر البغوي: أن هذا الوجه قولٌ للشافعي؛ وبه يكمل في المسألة خمسة أقوال، وأصحها باتفاق الأصحاب: ما ذكره الشيخ؛ لما ذكرناه، وبه عمل أهل الحرمين والشام.
وقد أورد الشافعي على مالك سؤالاً لا جواب عنه، فقال: إن كنت تحقق الإفراد فاقتصر على التكبيرة الواحدة، ولا تعد إليها بعد كلمة الإقامة.
ثم هذا الاختلاف هل هو من الاختلاف المباح [أوْ لا؟ قال ابن سريج: إنه من الاختلاف المباح] وليس بعضه أولى من بعض.
قال الماوردي: وهذا قول مطَّرح بإجماع المتقدمين على أن الاختلاف في أولاه وأفضله، والله أعلم.
قال: ويستحب أن يرتِّل الأذان، ويُدْرِجَ الإقامة؛ لما روى أبو داود عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يَا بِلَالُ، إذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فاحْذِمْ" وأخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب.
وروي: "وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ".
وعن عمر أنه قال لمؤذن بيت المقدس: إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحْذِمْ.
قال أبو عبيدة: والرواية بالحاء، ومعناه: اقطع التطويل.
ولأن الأذان للغائبين؛ فكان الترسل فيه أبلغ، والإقامة للحاضرين؛ فكان الإدراك فيها أشبه.
وترسل الأذان: الإتيان به [مبيَّناً] حرفاً حرفاً على رسل: وهو إرسال النفس عند الإتيان بكل كلمة منه، واستثنى المتولي الإتيان بالتكبير، فقال: السنة أن تجمع كل تكبيرتين في صوت؛ لأن التكبير كلمة خفيفة؛ فلا يتعذر [جمع] تكبيرتين في صوت.
وإدراج الإقامة: الإسراع فيها مع بيان الحروف، وقال الروياني: هو أن يدرج كلمة في كلمة، ويجمع بينهما في نفس واحد.
وأصل الإدراج: الطَّيُّ، ومنه إدراج الميت في أكفانه.
وفي قوله: "ويدرج" لغتان: بضم الياء وفتحها، وثالثة حكاها الأزهري: بتشديد الراء.
ويكره التمطيط: وهو التمديد، وكذا التغني: وهو التطريب، وقيل: أن يرفع صوته حتى يجاوز المقدار.
قال القاضي الحسين: ويقرأ ولا يتغنى فيه، أي: لا يؤذن بحيث يشبه الغناء.
قال: وتكون الإقامة أخفض صوتاً من الأذان. هذا وما بعده إلى قوله: "ويقول بعد الفراغ منه" معطوف على قوله: "ويستحب أن يرتِّل الأذان"؛ فيكون الكل مستحبّاً، وفي بعضه منازعة لبعض الأصحاب ستعرفها.
ووجه استحباب خفض صوته في الإقامة عن الأذان: أنها إعلام لمن حضر، والأذان إعلام لغائب فكان الأولى فيه رفع الصوت، وقد أفهم قوله:"وتكون الإقامة أخفض صوتاً من الأذان" مع ما قدمناه من تقرير كلامه أن رفع الصوت فيهما لابد منه، وهو كذلك إذا كان ذلك للجمع؛ كما صرح به في "المهذب" وغيره، فإن أسر به لم يعتد به.
وفيه وجه حكاه الرافعي وهو بعيد.
نعم، لو كان ذلك لنفسه بأن كان منفرداً لا يرجو حضور جماعة اعتد به، وعلى هذه الحالة حمل الأصحاب- كما حكاه أبو حامد- قوله في "الأم":"لو جهر بشيء منه، وخَافَتَ في بعضه، لم يكن عليه إعادة ما خافت به؛ فإنه لو كان يؤذن في مسجد الجماعات، وخافت في بعضه- كان مخيراً: إن شاء أعاد ما خافت به، وإن شاء استأنف".
قال الشيخ أبو حامد: ويحتمل أن يريد الشافعي: إذا خافت بشيء منه بحيث لا يخرجه ذلك عن حصول الإعلام به: كتكبيرة أوْ شهادة، ويكون الباقي كافياً.
ثم ما ذكرناه من الاعتداد بأذانه سرّاً إذا كان يؤذن لنفسه، [و] الإمام منازعٌ فيه؛ فإنه قال: إذا أذن في نفسه واقتصر على قدر قراءة القارئ في الصلاة السرية- لا يكون ما أتى به أذاناً ولا إقامة؛ وليرفع صوته بحيث ينتبه له من حضر أو على حدة وإن لم يحضر [أحد].
وعلى هذا فالمعتبر في القدر المجزئ في الأذان للجماعة من رفع الصوت ما يحصِّل مقصودَهُ، والمقصود بالأذان أمران: التنبيه على دخول الوقت، والدعاء إلى الجماعات، فليبلغ صوته كل من يقوم بالتبليغ ويحضر الجمع، أو يتصور حضوره في الأمر الوسط؛ فقد يحضر [في] الجمع طوائف تمتلئ بهم أرجاء المسجد، وقد لا يحضر إلا شرذمة تقوم بهم الجماعة؛ فالوجه اعتبار الوسط، وهؤلاء هم الذين عبر عنهم الأئمة بأن المؤذن يبلغ جيران المسجد.
وأما غاية رفع الصوت فقد أفهم كلام الشيخ أنه لا نهاية لها إلا الانتهاء إلى حد يلحقه الضرر به، وعليه نص في "الأم" فقال:"يرفع صوته به إلى أن يجهده ذلك، ويدل عليه ما ذكرناه من حديث أبي سعيد الخدري ورواية أبي هريرة أنه- عليه السلام قال: "المُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَى صَوْتِهِ، وَيَشهدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ سَمِعَهُ".
وفي قوله: "يغفر له مدى صوته" تأويلان:
أحدهما: أنه يستغفر [مَنْ سمعه] فيغفر له بسببه.
والثاني: أنه إذا مد صوته جذب له الرحمة بقدر مد الأذان.
وقيل: المرعِيُّ في الرفع التوسط؛ لأنه روي عن عمر أنه قال لأبي محذورة حين بالغ في رفع صوته: "أَما خَشِيتَ أَن يَنْشَقَّ مُرَيْطَاؤُكَ"، وهو ما بين السرة والعانة.
قال: وأن يؤذن ويقيم على طهارة:
أما الأذان؛ فلقوله- عليه السلام: "لَا يُؤَذِّنُ إِلا مُتَوَضِّئٌ" رواه الترمذي، والأصح أنه موقوف على أبي هريرة؛ ولأنه ذِكْر، والذكر على الطهارة أفضل؛ ولأنه يستحب له إذا فرغ من الأذان أن يركع ركعتين.
وأما في الإقامة فبالقياس.
فلو أذن وأقام على غير طهارة، كره وأجزأ، والكراهة في الإقامة أشد؛ لأنه يوقع الناس فيه بسبب انصرافه للطهارة، والكراهة في الجنابة أشد؛ لطول أمد التخلف.
وعن "البحر": أنه يحرم الأذان على الجنب وإن كان يصح، والمذكور في "تلخيص الروياني" وغيره: تخصيص ذلك بما إذا كان الأذان في المسجد.
ثم كلام الشيخ يفهم على هذا كراهية أذان المتيمم وإن استباح بتيممه الصلاة؛ لأنه على [غير] طهر عند الشافعي، ولاشك في أن تيممه إذا كان يبيح له الصلاة
كان كالمتطهر بالماء، بل قد روي أن رجلاً سلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فضرب يده على حائط وتيمم، ثم أجاب، فقيل: إنه كان جنباً.
وكأن التيمم في الإقامة وقع [موقع] وجود الماء، وفعل ذلك تعظيماً لرد السلام، وإن لم يفد التيمم إباحة محظور.
قال الإمام: وعلى مقتضى الحديث: لو تيمم المحدث، وقرأ القرآن عن ظَهر قَلْبٍ كان جائزاً.
وقد [أفهم قول الشيخ: يؤذن ويقيم على طهارة، أن الذي يؤذن هو الذي يقيم، وهو كذلك عند الأصحاب؛ لأن بلالاً غاب فأمر النبي صلى الله عليه وسلم زياد بن الحارث الصُّدَائَّي أن يؤذن للصبح الأذان الأول، فملا حضر بلال أراد أن يقيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ أَخَا صُدَاءَ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ".
فلو أذن جماعة واحداً بعد واحد، فالأول هو المستحق للإقامة إذا كان مؤذناً راتباً، ولو كان الذي أذن أولاً غير راتب ففي استحقاقه التقديم [في الإقامة] وجهان، وأبداهما الإمام احتمالين في المسألة، وأصحهما في "الوسيط": لا.
وإن كان أذان الجَمْع في وقت واحد، فالذي يقيم منهم واحد، فإن رضوا بواحد فذاك، وإن تنازعوا فالمحكَّم القرعة، وهذا إذا حصلت الكفاية بواحد، فلو لم تحصل إلا بالجمع أقاموا؛ كما في الأذان.
وقيل: لا بأس بأن يقيموا معاً وإن حصلت الكفاية بواحد، ما لم يؤد ذلك إلى التشويش، وهذا ما حكاه الروياني عن القفال.
وحيث قلنا: يستحق شخص التقدم في الإقامة، فأقام غيره، أو أقام من لم يؤذن- ففي الاعتداد بإقامته وجهان حكاهما المسعودي:
المشهور منهما، وهو الذي أورده: الاعتداد، وأن ذلك لا بأس به؛ لأنه- عليه السلام قال لعبد الله بن زيد حين قص عليه الرؤيا المتقدمة:"أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ؛ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتاً مِنْكَ"، فألقاه عليه، فأذن بلال؛ فقال عبد الله: أنا رأيت، وأنا كنت أريده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فَأَقِمْ أنت".
ومقابله: أنه لا يعتد به؛ تخريجاً من قولنا: إنه لا يجوز أن يخطب واحد يوم الجمعة، ويصلي غيره.
قال: ويستقبل القبلة؛ لأن الذي رآه عبد الله بن زيد كان مستقبلاً حين أذن، وهو المنقول عن مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء.
قال ابن الصباغ: وهو إجماع المسلمين. وهذا على سبيل الاستحباب؛ كما تقدم.
وعن [أبي] سهل الصعلوكي: تخريج وجه أنه شرط، وإليه مال الشيخ أبو محمد في "مختصر المختصر" موجهاً ذلك بأن: شرائط الشعار تتلقى من استمرار الخلق على قضية واحدة، وهي ما بنى الشافعي عليها مذهبه في إيجاب القيام في الخطبتين، والقعود بينهما [يوم الجمعة].
قال: فإذا بلغ الحيعلة؛ التفت يميناً وشمالاً، ولا يستدير، لما روي عن أبي جحيفة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة حمراء من أَدَمٍ، فخرج بلال وأذن، فلما بلغ "حي على الصلاة، حي على الفلاح" التفت يميناً وشمالاً ولم يستدر.
رواه أبو داود.
والمعنى في التفاته: إسماع من في الجهتين، وخالف الالتفات في الخطبة؛ لأن المخاطبين حضور فاستغنوا عن الالتفات.
وفي عدم استدارته مراعاة خبر المجالس، وقد يقرأ: ولا يستدبر، وهو تصحيف.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون أذانه على الأرض أو على موضع عال؛ لأن بلالاً حين التفت كان على الأرض.
وحكى الماوردي ذلك فيما إذا كان البلد صغيراً، وقال فميا إذا كان البلد واسعاً والعدد كبيراً كالبصرة: ففي جواز طوافه إذا أذن على المنارة في مجالها وجهان لأصحابنا، ووجه الجواز: ما فيه من زيادة الإبلاغ، والتسوية بين الجهات. وإن علماء الأمصار أقروا المؤذنين عليه ولم ينكروه، لكن لا يطوف إلا في قوله:"حي على الصلاة، حي على الفلاح".
فإن قيل: ما المعنى في اختصاص الالتفات عند الحيعلة دون باقي الأذان؟
قيل: لأن بها يحصل الدعاء، وباقي الأذان ذكر؛ فكان استقبال القبلة به أولى.
ثم في كيفية ما يلتفت وجهان:
أحدهما: أنه يلتفت على يمينه، ويقول:"حي على الصلاة"، ثم على يساره ويقول:"حي على الفلاح"، وكذا يفعل في الأخرى للتسوية في الدعاء، وهو ما اختاره القفال.
قال الروياني: وهو حسن إلا أنه انفرد به.
والثاني- وهو الذي عليه الأكثرون وبه العمل-: أنه يلتفت على يمينه، ويقول:"حي على الصلاة" مرتين، ثم على يساره ويقول:"حي على الفلاح" مرتين.
وعلى هذا ففي كيفية ما يفعل وجهان عن "البيان":
أحدهما: أنه يلتفت يميناً ويقول "حي على الصلاة" مرتين، ثم يستقبل القبلة، ثم يلتفت [شمالاً، ويقول:"حي على الفلاح" مرتين.
والثاني: أنه يلتفت عن يمينه ويقول: "حي على الصلاة"، ثم يستقبل القبلة، ثم يلتفت] عن يمينه، ويقول:"حي على الصلاة"، وكذلك يفعل في الجانب الآخر بـ "حي على الفلاح".
ثم حد التفاته فيه حدُّ التفاته في التسليم آخر الصلاة.
ثم ظاهر كلام الشيخ: أنه يلتفت في الحيعلة في الأذان والإقامة، وهو المشهور، وعليه العمل.
وحكى الإمام: أن بعض المصنفين ذكر أن القفال [ذكر] مرة: أن الالتفات غير محبوب في الإقامة [قال:] وهذا غير صحيح.
وفي "التتمة"، و"الرافعي": أنه إن كان الجمع كثيراً؛ التفت يميناً وشمالاً فيها، وإلا فلا.
قال: وأن يؤذن على موضع عال؛ لما روى عروة [بن الزبير،] عن امرأة من بني النجار، قالت: كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر. رواه أبو داود.
وقد روي أن الذي رآه عبد الله بن زيد- حين أذن- طلع على جِذْم حائط أو نَشَزٍ من الأرض.
ولأن المقصود منه الإبلاغ، وهو إذا فعل على موضع عال أبلغ؛ ولذلك بنى عثمان المنابر.
ومن هنا يؤخذ حكمان آخران:
أحدهما: أن الإقامة لا تستحب على موضع عال؛ لفقد العلة، ويلزم من ذلك أن تكون مستحبة في غير موضع الأذان، وبذلك صرح الأصحاب.
والثاني: أنه يستحب أن يكون المؤذن قائماً؛ ولذلك لم يذكره الشيخ هنا؛ [وعلى هذا إذا أذن قاعداً كره وأجزأ،] واستدل له في "المهذب" بقوله- عليه السلام لبلال: "قُمْ فَنَاد بالصَّلَاةِ".
وقد قيل: إن القيام شرط فيه؛ قاله أبو سهل الصعلوكي تخريجاً، وإليه مال الشيخ أبو محمد أيضاً؛ لأجل ما ذكرنا في فصل الاستقبال عنه وقال الإمام: الأصح القطع بأن القيام والاستقبال ليسا شرطين فيه، ومحل الخلاف إذا لم يكن عذر في ترك القيام، فإن كان ثم عذر جاز قاعداً [وجهاً] واحداً من غير كراهة، وكذا يجوز على الراحلة في السفر؛ كالنافلة.
وإذا قلنا: يجوز قاعداً عند عدم العذر، وهو ما حكاه القاضي الحسين- فهل يجوز مضطجعاً؟ فيه وجهان، كما في التنفل، وهل يجوز أن يؤذن ماشياً؟ قال الماوردي: ينظر: فإن كان قد انتهى في مشيته إلى حيث لا يسمع من كان في الموضع الذي ابتدأ الأذان فيه بعض أذانه لم يجزئه، وإلا أجزأه.
والإقامة كالأذان، ولا يستحب المشي فيها، بل يتمها وهو في موضع واحد، فإذا أتمها مضى إلى الصف الأول؛ لأن بلالاً كان يفعل ذلك.
قال: وأن يجعل- أي: المؤذن- أصبعيه في صماخي أذنيه؛ لما روى البخاري [ومسلم] عن أبي جحيفة قال: "رأيت بلالاً يؤذن، ويُتبع فاه ها هنا وها هنا، وأصبعيه
في أذنيه"؛ ولأنه أجمع لصوته، وبه يستدل الأصم على الأذان.
قال الروياني: ولا يستحب ذلك في الإقامة؛ لفقد المعنى المذكور.
قال: وأن يكون المؤذن حسن الصوت؛ لأن الدعاء من العادات إلى العبادات حدث على خلاف ما يقتضيه استرسال الطبائع؛ فينبغي أن يكون الداعي حلو المقال؛
ليرق القلب، ويميل إلى الاستجابة.
قال: وألا يقطع الأذان بكلام ولا غيره: كالسكوت الطويل، والنوم، ونحو ذلك؛ لأن تخلل ذلك في أثنائه يخرجه عن حد كمال الإعلام، فإن تكلم لمصلحة غيره: كما إذا رأى ضريراً يقع في بئر، ونحو ذلك، فحذره- لم يكره.
وعبارة الرافعي: أنه لابد من إنذاره، وهي أصح.
وإن تكلم لا لمصلحة كره.
وفي الحالين يستحب له أن يستأنف الأذان؛ لما ذكرناه، وإن بنى عليه جاز؛ نص عليه الشافعي، حيث قال: وأحب ألا يتكلم في أذانه، فإن تكلم لم يعد؛ لأن سلمان ابن صرد كان يتكلم بحاجة له في أذانه ويبني، وكان له صحبة.
ولأن الكلام في الخطبة لا يوجد استئنافها مع كونها فرضاً، فالأذان مع أنه سنة بذلك أولى.
وهكذا [الحكم] فيما لو نام أو أغمى عليه أو جن، طال زمن ذلك أو قصر؛ نص عليه.
والسكوت الطويل نص على أنه يستحب بعده الاستئناف، فإن لم يستأنف جاز.
وظاهره: أن السكوت القصير لا يستحب بسببه الاستئناف، وهو المشهور.
والفرق بينه وبين الكلام حيث لم يفرق في استحباب الاستئناف بين القليل والكثير: أن القليل من السكوت لابد منه، مثل النفس، والاستراحة، والكلام القليل مستغنى عنه.
وعن أبي علي الطبري: أن الكلام اليسير لا يستحب بعده الاستئناف كالسكوت.
والردة في أثنائه إن استمرت أوجبت الاستئناف، ولا يجوز لغيره البناء عليه، وإن زالت بالإسلام، فهل يجوز أن يبني عليه؟ وجهان، المذهب منهما في "تعليق البندنيجي" و"المهذب": البناء، وهو الأصح عند أبي الطيب والروياني؛ كما إذا جن، ثم أفاق.
وهذا مجموع ما وقفت عليه من كلام العراقيين والماوردي.
وقال المراوزة: الكلام اليسير لا يضر كيف كان.
والشيخ أبو محمد تردد فيما إذا رفع [به] صوته على حد الأذان؛ لأنه يحدث التباساً.
والكلام الكثير هل يقطعه حتى يجوز له البناء عليه أم لا؟
قولان، المنسوب منهما إلى القفال: عدم جواز البناء.
قال الروياني: وهو الأقيس، وقد اختاره كثير من أصحابنا. ولم يذكر في "التتمة" و"الكافي" غيره.
والفرق بين الأذان والخطبة: أن كلمات الأذان متعينة فعد قاطعه معرضاً عنه، ولا كذلك الخطبة؛ فإن لفظها ليس بمتعين.
وبعضهم جعل القولين مرتبين على ما إذا سكت سكوتاً طويلاً، وهما أولى بالبطلان، وقال: إن القولين في عدم البناء عند السكوت الطويل مرتبان على القولين في الموالاة على الوضوء، وأولى بالبطلان؛ فإن مقصود الأذان الإعلام، وإذا بنى ألبس بخلاف الوضوء؛ هذا معنى قول الغزالي: إنه يكاد يفوت مقصود الإبلاغ.
قال الرافعي: وبعضهم بنى القولين في السكوت الطويل على القولين في جواز البناء على الصلاة عند سبق الحدث، وهي طريقة الفوراني، وقال: إنه إن قلنا: إنه يبنى في الصلاة فالأذان أولى، وإلا فقولان؛ لأن الأذان يتخلله ما ليس منه، بخلاف الصلاة.
قالوا: والقولان فيما إذا طال سكوته يجريان فيما إذا أغمي عليه، أو نام، وطال زمن [ذلك] ثم زال، وقالوا فيما إذا طرأت الردة في أثنائه، ثم زالت: إن الذي نص عليه عدم البناء، ونص في الاعتكاف على أنه إذا ارتد في أثنائه، ثم زالت: إن الذي نص عليه عدم البناء، ونص في الاعتكاف على أنه إذا ارتد في أثنائه، ثم أسلم، بنى على اعتكافه. وإن من الأصحاب من نقل وخرج، فجعل في المسألتين قولين، ومنهم من قال: يجوز البناء، وحيث لم يجوزه أراد به إذا طال زمان الردة.
قالوا: ثم حيث قلنا: لا يجوز له أن يبني على ما سبق فغيره أولى، وحيث قلنا:
يجوز له البناء، فهل يجوز لغيره؟ قال القاضي الحسين والفوراني: فيه قولان مرتبان على بناء الغير على الخطبة، وأولى هنا بألا يبنى؛ لأن البناء في الخطبة لا يؤدي إلى التباس الأمر على الناس؛ لأن ذلك خطاب للحاضرين بخلاف الأذان؛ فإنه إذا بني عليه اختلفت الأصوات؛ فالتبس الأمر على الناس؛ فظنوه استهزاء.
وقال الرافعي: إن الخلاف يترتب على الخلاف في الاستخلاف في الصلاة، وأولى بالجواز هنا، والفرق: أن الصلاة تباين الكلام والإغماء، دون الأذان.
والعراقيون لما حكوا في البناء على الخطبة طريقين، وفي الاستخلاف قولين جزموا بعدم البناء هنا، وقالوا: إن لم نجوز البناء على [الخطبة] والاستخلاف في الصلاة، [فلا كلام. وإن جوزنا البناء في الخطبة والاستخلاف في الصلاة]، فالفرق بين ما نحن فيه وبين الخطبة ما سلف، ولا فرق بين ما نحن فيه وبين الاستخلاف في الصلاة، لأن المستخلف في الصلاة متمم لصلاة نفسه [إن كان مأموماً، أو مبتدئ لصلاة نفسه] ومن وراءه متمم لنفسه، وليس بانياً على صلاة غيره.
فرع: إذا زاد في أذانه ذكراً، [قال في "الكافي"]: فهو كما لو تكلم في أذانه، فلو قال في أذانه بعد الحيعلتين، في الليلة ذات الريح والمطر:"ألا صلوا في الرحال"- لم يكن قادحاً فيه؛ لما سنذكره من الخبر الصحيح عن ابن عباس. نعم، الأولى أن يقول ذلك بعد الفراغ من الأذان.
قال: وأن يكون من أقرباء مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: ويقدم أولادهم؛ إذا اجتمعت فيهم الشرائط؛ لأن الصحابة جعلوا الأذان في أولاد أبي محذورة وسعد القرظ، والمعنى فيه: سبق آبائهم فيه، وهذا ما حكاه الروياني عن نصه في القديم.
ومؤذنو رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة: بلال، وابن أم مكتوم وكانا بالمدينة- وأبو محذورة- وكان مؤذناً بمكة- وسعد القرظ وكان مؤذناً بقباء.
فإن عدم أقرباؤهم فأقرباء الصحابة.
ويستحب أن يكون القائم بهذا الشعار- ممن ينصبه الإمام- اثنين؛ اقتداء به عليه السلام، ومن فوائد ذلك: أن يؤذن أحدهما للصبح بعد نصف الليل، والآخر عند
طلوع الفجر، فإن اقتصر على مؤذن واحد جاز؛ لاقتصاره- عليه السلام بمكة وقباء، ولو زاد على ذلك لحاجة جاز.
وقال أبو علي الطبري: لا يزاد على أربعة؛ لأن عثمان جعل المؤذنين أربعة؛ وهذا ما حكاه البندنيجي، ومعناه: أن الزيادة على الأربعة مكروهة، كما قال في "التتمة".
وقال أبو الطيب: الصحيح جواز الزيادة عليها، وهو ما حكاه الروياني عن نصه في القديم؛ وعلى هذا إن احتاج إلى زيادة على أربع جعلهم ستة، فإن احتاج إلى الزيادة على ذلك جعلهم ثمانية.
قال الماوردي: ليكونوا شفعاً ولا يكونوا وتراً، ثم يؤذنون واحداً بعد واحد، إلا أن يضيق الوقت فيؤذنون متفرقين في جوانب المسجد إن كان كبيراً في وقت واحد، ولا يؤذنون دفعة واحدة؛ كذا أطلقه البندنيجي وأبو الطيب.
وقال الماوردي: إن كان البلد كبيراً [أو] المسجد واسعاً، فلا بأس أن يجتمعوا في الأذان دفعة واحدة، كما في البصرة.
ولأ، اجتماع أصواتهم أبلغ في الإعلام.
وقال القاضي الحسين: إذا اتفقت أصواتهم جاز، وإن اختلفت أصواتهم لا يجوز.
وقد خص الغزالي استحباب نصب مؤذنين بالمسجد المطروق، والماوردي قيده بما إذا كان المسجد كبيراً.
قال: وأن يكون ثقة؛ لأنه يخبر عن دخول الوقت، ويطلع على الناس، وقد ذكرنا: أن هذا على وجه الاستحباب، [وهو يفهم أن الأذان يجوز ممن ليس بثقة، وإلا لم يكن لاستحباب] كونه ثقة معنى، ومن ليس بثقة يشمل أشخاصاً:
منها الكافر ولا خلاف [في] أنه لا يعتد بأذانه.
قال الأصحاب: ويتصور كماله منه مع كفره [بما] إذا كان من العيسوية، وهم طائفة من اليهود يزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب خاصة، وكذا إذا قلنا: إن نطقه بالشهادتين في التشهد لا يكون إسلاماً؛ حملاً على الحكاية، فإن مثله يجزئ في الأذان، وقد صرح به في "البيان" وإن كان الصحيح: أنه يكون مسلماً في المسألتين.
ثم عدم الاعتداد بأذانه ليس لأنه لا تقبل روايته؛ لأنا نعتقد بأذان الفاسق؛ كما صرح
به البندنيجي وغيره، وكذا بأذان الصبي [وإن قلنا: لا تقبل روايته، بل لأنه ليس من أهل الصلاة؛ فلا يكون أهلاً للدعاء إليها.
وقد قيل: إن مأخذه: منع قبول روايته، حتى قيل: إنه لا يعتد بأذان الصبي] [ويعتد بأذان المرأة لجماعة؛ لأنها من أهل الرواية دون الصبي]؛ كذا حكاه المتولي، وقضيته ألا يعتد بأذان الفاسق أيضاً، والصحيح الأول.
وأذان الصبي وإن اعتددنا بأذانه فهو مكروه، وعبارة الشافعي في "الأم":"وأحب ألا يؤذن [إلا] بعد البلوغ".
ومنها: الفاسق، وقد تقدم حكمه، ومن فسقه بالشرب إن لم ينته إلى حالة لا يميز فيها كالفاسق بغيره، وإن انتهى إلى حالة لا يميز فيها، ففي الاعتداد بأذانه قولان، كما في تصرفاته، والصحيح عدم الاعتداد به؛ كما أنه لا يعتد بأذان المجنون.
ومنها: الأعمى؛ لأنه غير موثوق به في الإطلاع على دخول الوقت.
وقد قال في "الأم": إذا كان له- أي: للمسجد- مؤذن بصير بالمواقيت، جاز أن يضم إليه أعمى، فإن كان البصير لا يعرف المواقيت فلا يجوز أن يكون أعمى.
وقال البندنيجي: إن أذن قبله بصير أو كان مع بصير يعرف المواقيت فلا كراهة في أذانه، وإلا كره وأجزأ، وعليه ينطبق قوله في "المهذب"، وهذا مفسر للنص.
قال: وأن يقول بعد الفراغ منه- أي: [بعد الفراغ] من الأذان-: "اللهم رب هذه الدعوة التامة .. " إلى آخرها.
روي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يسمع النداء: اللهُمَّ ربَّ هَذِهِ الدَّعْوةِ التَّامةِ والصَّلَاةِ القَائِمَة، آتِ مُحمَّداً الوَسِيلَةَ والفَضِيلَةَ، وابْعَثْهُ مَقَامَاً مَحْمُوداً الَّذي وَعَدتَهُ- حَلَّتْ لَهُ شَفَاعتي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، رواه البخاري، وسيأتي بيان
الوسيلة في الخبر.
والمقام المحمود: قيل: هو المقام الذي يشفع فيه؛ لأنه يحمده الأولون والآخرون، قال الله:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء: 79] و"عسى" من الله للتحقيق.
قال الأصحاب: ويستحب أن يقول بعد أذان المغرب: "اللهم هذا إقبال [ليلك، وإدبار نهارك]، وأصوات دعاتك، فاغفر لي"؛ لأن البخاري رواه، وكذا يقول بعد أذان الصبح:"اللهم هذا إقبال نهارك، وإدبار ليلك، وأصوات دعاتك، فاغفر لي".
[وقد روى أنس أنه- عليه السلام قال: "الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الأذانِ والإِقَامَةِ فَادْعُوا"].
ويستحب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله- عليه السلام: "إذا سمعتم المؤذن
فقولوا [مثل ما] يقول، وصلوا عليّ، فإن من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة؛ فإنها منزلة لا تنبغي إلا لعبد من عباده، وأرجو أن أكون أنا [هو]، فمن سأل [لي] الوسيلة، حلت له الشفاعة". رواه مسلم.
قال: ويستحب لمن سمعه، أي: لمن سمع أذان المؤذن، أو صوت المؤذن من رجل أو امرأة أن يقول كما يقول- أي: من الأذان والذكر بعده- لقوله- عليه السلام: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن" متفق عليه.
وروى [أبو] عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو أن رجلاً قال: يا رسول الله،
إن المؤذنين يفضلوننا، فقال:"قل كما [يقولون]، فإذا انتهيت فسل تعط".
قال: إلا في الحيعلة؛ فإنه يقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"؛ لما روى النسائي عن معاوية أنه سمع المؤذن، فقال مثل قوله حتى بلغ "حي على الصلاة"، فقال معاوية:"لا حول ولا قوة إلا بالله"، ثم قال:"حي على الفلاح"، فقال معاوية: لا حول ولا قوة إلا بالله"، ثم قال [مثل] قول المؤذن إلى آخر الأذان، فلما فرغ قال: "هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول".
قال الشافعي في "الأم": "وبحديث معاوية نأخذ؛ لأنه متصل".
ولأجل قول الشافعي ذلك، استدللت بهذا الخبر، وإلا فقد جاء في مسلم عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قال المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال المؤذن: أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، قال: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه- دخل الجنة".
ولأن الحيعلة دعاء، فلو قالها السامع، لكان الناس كلهم دعاة، فمن يبقى المجيب؛ فحسن أن يقول السامع:"لا حول ولا قوة إلا بالله"، ومعناه: لا حول لي عن المعصية، ولا قوة لي على ما دعيت إليه إلا بك.
وقيل: معنى "لا حول": لا حيلة ولا حركة.
وقد أفهم كلام الشيخ أموراً:
أحدها: أن يقول في التثويب- في الصحيح- كما يقول المؤذن؛ لأنه لم يستثنه، وهو لا يقوله، بل يقول مكانه:"صدقت وبررت"؛ لخبر ورد فيه.
وقيل: إنه يقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة خير من النوم، وحكاه الروياني والرافعي.
الثاني: أنه يقول عند الحيعلة: "لا حول ولا قوة إلا بالله" مرة واحدة أو أربع مرات، والمذكور في "تلخيص الروياني" أنه يقول ذلك مرتين: مرة عند قول المؤذن: "حي على الصلاة" ومرة عند قوله: "حي على الفلاح"؛ لأنه ظاهر السنة.
قال: ويحتمل خلاف ذلك.
الثالث: أنه لا فرق بين أن يسمع ذلك وهو قارئ، أو ذاكر، أو مصل فرضاً أو نفلاً، أو على غائط، أو بول، ولاشك في استحبابه [في] حالة التلاوة والذكر، وفي حالة التدريس من طريق الأولى، فيقطع ذلك، ثم يعود [إليه] بعد الإجابة.
وأما في الصلاة- كيف كانت- فقد حكى الإمام عن شيخه في استحباب
إجابته قولين:
أحدهما: لا؛ لأنها تشغله عن صلاته.
والثاني: نعم؛ لأنها لو أخر، فقد يطرأ عائق في تداركها.
وحكى عن بعضهم أنه قال: لا يستحب ذلك قولاً واحداً، وهل يكره؟ فيه قولان؛ وهذه طريقة القاضي الحسين.
وقال الصيدلاني: ليست المسألة على قولين، بل يقطع بنفي الاستحباب، ولا يكره، ولا يستحب قولاً واحداً، بل هو مباح؛ وهذه طريقة القفال، كما قال الروياني.
قال الإمام: وهي الطريقة المرضية، والذي قاله أبو الطيب وغيره من العراقيين: أنه لا يستحب. نعم، يستحب أن يقول ذلك بعد فراغه.
قال أبو إسحاق المروزي: وليس التأكد في ذلك مثل التأكد في حال ما يسمعه.
والإمام قربه من تدارك سجود التلاوة، وفيه ما سيأتي.
ولو خالف، وأتى به في الصلاة، قال الشافعي في "الأم": كانت صلاته صحيحة- إن شاء الله- لأنه ذكر لله.
قال الأصحاب: وهذا إذا أتى بالإجابة على النحو الذي ذكرناه غير الصبح، فلو قال مثل [قول] المؤذن في جميع أذانه بطلت صلاته، لأن لفظ "حي على الصلاة" و"حي على الفلاح" دعاء [إلى الصلاة] وليس بذكر، وهكذا لو قال في الصبح:"الصلاة خير من النوم"، أو "صدقت وبررت".
ثم هذا إذا كان عالماً بأنه في الصلاة، وأن ذلك مفسد، فإن كان ناسياً لم تبطل، وكذا إن كان جاهلاً عند الماوردي وابن الصباغ.
وحكى القاضي الحسين معه وجهاً آخر: أنها تبطل.
ولو سمعه وهو طائف، قاله في طوافه؛ لأن الكلام فيه سائغ؛ قاله الماوردي.
ولو سمعه وهو على غائط أو بول لا يقوله، فإذا قضى حاجته، وخرج من الخلاء قاله، حكاه في "الحاوي".
قال: ويقول في كلمة الإقامة: "أقامها الله وأدامها ما دامت السماوات والأرض" رواه أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام: إنه يقول: "اللهم أقمها وأدمها، واجعلني من صالح أهلها" وقد قال في "التتمة": إن ذلك مروي- أيضاً- عنه عليه السلام.
ثم ظاهر كلام الشيخ أنه يقول في الإقامة مثل ما يقول المؤذن إلا في كلمة الإقامة؛ فإنه يقول ما ذكرناه، وهو المشهور.
وقال الإمام: إنه رأى في كلام صاحب "التقريب" رمزاً إلى أنه لا يجيب إلا في كلمة الإقامة فقط؛ وهذا فيه احتمال ظاهر.
[والظاهر] من قول الأصحاب الأول.
قال: ولا يجوز الأذان إلا مرتباً؛ لأنه- عليه السلام علم أبا محذورة هذا الترتيب، وهو أمر لا يعقل معناه؛ فوجب أن يتبع فيه ما ورد.
[والمراوزة] وجهوه بأن عكسه يفوت مقصود الأذان، ولا يمكن العراقيين التوجيه به؛ لأن ذلك موجود في التفريق الكبير، ومذهبهم أنه لا يبطله.
وعلى المذهبين لو عكسه اعتد بأوله، وبنى عليه؛ نص عليه.
ثم مقتضى ما وجه به العراقيون ما نحن فيه ألا يعتد بالأذان بغير العربية، وهو ما
ذكره الماوردي، إذا كان المؤذن يحسن العربية، وكذا إذا كان لا يحسنها بالنسبة إلى غيره، وأما بالنسبة إلى نفسه فيعتد به.
قال: ولا يجوز قبل دخول الوقت؛ لأن مقصوده الإعلام به والدعاء إلى الصلاة، وكلاهما قبل الوقت غير ممكن.
قال: إلا الصبح فإنه يؤذن لها بعد نصف الليل.
الأصل في تقديم أذان الصبح على وقته قوله- عليه السلام: "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم"، وكان رجلاً أعمى، لا يؤذن حتى يقال له:"أصبحت أصبحت" رواه البخاري.
وفي اختصاص ذلك بما بعد نصف الليل القياس على الدفع من مزدلفة، ولأنه أقرب إلى وقته، وخالف الصبح غيره من الأوقات في ذلك؛ لأنه يدخل والناس في أطيب نوم، ومنهم الجنب والمحدث؛ فاستحب تقديم الأذان فيه؛ ليتأهب الناس للصلاة، ويدركوا فضيلة أول الوقت؛ ولهذا اختص الأذان له بالتثويب أيضاً.
وقد قيل: إن وقته يدخل بخروج وقت الاختيار لصلاة العشاء؛ فإنه يجوز الأذان لكل صلاة في وقت اختيارها، فلو جاز الأذان قبل ذلك للصبح لالتبس بالأذان للعشاء.
وعلى هذه الطريقة يجيء في وقت الأذان للصبح قولان:
أحدهما: بعد نصف الليل؛ كما ذكر الشيخ.
والثاني: بعد ثلثه، وهذه الطريقة حكاها الغزالي واستبعدها، وكذا القاضي الحسين، ثم قال: والصحيح: أنه يؤذن له في نحر السحر [كي لا] يؤدي إلى اشتباه الأمر على الناس.
وضبط المتولي ذلك بما بين الفجر الصادر والكاذب، واستشهد له- بعد جعله المذهب- بما روي أن سعد القرظ قال: "كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الشتاء لِسُبع بقي من الليل، وفي الصيف لنصف سبع".
وقيل: إن جميع الليل وقت لأذان الصبح، والتمييز بينه وبين أذان العشاء يقع بالتثويب، وهو بعيد؛ إذ قد لا يسمع الشخص التثويب.
ثم هذا كله تفريع على أنه يؤذن للصبح قبل وقته، وهو المذهب.
وقد قيل: إن كان في بلد عادتهم أن يؤذنوا بعد الفجر، لم يجز تقديمه على الوقت، وليس بشيء.
وقد أفهم قول الشيخ: "ولا يجوز الأذان قبل دخول الوقت
…
" إلى آخره أمرين:
أحدهما: إذا أذن قبل الفجر لا يؤذن بعده، وليس كذلك باتفاق الأصحاب، ويدل عليه ما تقدم. نعم: إن أراد المؤذن أن يقتصر على أحد الأذانين، قال في "التتمة": اقتصر على الثاني.
الأمر الثاني: أنه يجوز الأذان لكل صلاة بعد دخول الوقت، لكنه لم يبين أنه يجوز إلى متى، وقد قدمنا أنه يجوز الأذان لكل صلاة ما دام وقت اختيارها باقياً، ومنه يظهر أن المغرب يؤذن لها في [أول] وقتها؛ إذ لا وقت اختيار لها على المذهب- كما تقدم- ولأجل اتساع وقت الأذان في غير المغرب، قال الأصحاب- كما حكاه الإمام وغيره-: وقته منوط بنظر المؤذن؛ فلا يحتاج فيه إلى مراجعة الإمام، بخلاف الإقامة؛ فإنها منوطة بنظر الإمام، فلا يقيم المؤذن [إلا] بإشارته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤذن
أملك بالأذان، والإمام أملك بالإقامة" والمعنى فيه: أن السنة: اتصال الصلاة بالإقامة، والصلاة إلى الإمام؛ فينبغي أن يكون عازماً على الشروع عند تمامها.
قال الإمام: فلو أقام المؤذن قبل إذن الإمام، ففي الاعتداد بإقامته تردد للأصحاب، ولم يصرحوا به، ولكنه بين في كلامهم.
واعلم أن في قول الأصحاب: "إن الأذان منوط بنظر المؤذن، والإقامة منوطة بنظر الإمام"- نظراً من وجهين:
أحدهما: أن الترمذي روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: "يا بلال إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر".
وفي رواية: "فاحذف، واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء الحاجة، ولا تقوموا حتى تروني".
قال القاضي الحسين: معناه: لا تقوموا بعد الإقامة إلى الصلاة حتى تروني قد قمت.
وهذا الخبر يدل على أن الإقامة موكولة إلى نظر المؤذن كالأذان.
وجواب هذا: أن هذا الخبر إسناده مجهول؛ قال أبو عيسى-: [إلا] قوله: "لا تقوموا حتى تروني" فإنه قد روي بإسناد صحيح.
والثاني: أن قولهم: " [إن] الأذان موكول إلى نظر المؤذن" إن عنوان به في دخول الوقت فصحيح، وإن عنوا به في وقته بعد تحقق دخول الوقت، بمعنى أنه إن رأى أن يؤذن في أول الوقت، أو في آخر وقت الاختيار، أو فيما بينهما، فله ذلك- فالمعنى الذي لأجله قالوا: إن أمر الإقامة موكول إلى الإمام موجود فيه؛ لأن الإقامة
تتبع الأذان، وهما يتقدمان الصلاة، وقد يرى الإمام إيقاع الصلاة في أول الوقت، ويرى المؤذن تأخير الأذان، والجمع بين المقصودين متعذر؛ فيتعين أن يكون المرجع إلى رأي الإمام فيه- أيضاً- على هذا التقدير.
وقد ذكرنا عن رواية البخاري عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن يستدل به لكل من الأمرين؛ فليطلب منه.
ثم الخبر الذي ذكرناه يقتضي استحباب الفصل بين الأذان والإقامة بقدر ما يفرغ الآكل من أكله ونحوه، والأصحاب ضبطوه بقدر ما يتأهب الناس، ويحضر الإمام ويتنفل بالقدر المسنون، وهو في غير المغرب، [وأما المغرب]: فإن المؤذن يوالي بين الأذان [لها] والإقامة؛ لأنه لا تنفل قبلها؛ كذا قاله الماوردي.
قال: وتقيم المرأة للنساء استحباباً؛ لأن جابراً سئل: أتقيم المرأة؟ فقال: "تقيم"؛ ولأن مقصود الإقامة إعلام الحاضرين أو من قرب، وذلك يحصل من غير محذور، وهو رفع الصوت الذي [يخشى] منه الفتنة؛ وهذا ما نص عليه. نعم: قال في "الأم": لو تركت ذلك، لم أكره لها من تركها ما أكرهه للرجل.
قال: ولا تؤذن، أي: لا يستحب لها أن تؤذن لهن؛ لما روي عن أنس وابن عمر أنهما قالا: "ليس على النساء أذان"، ولأن مقصوده إعلام المغيب، وإنما
يتحصل ذلك برفع الصوت، وفي رفعه توقع فتنة لمن سمعه من الرجال وإن قلنا: إنه ليس بعورة.
قال القاضي الحسين: ولهذا قلنا: لا يجوز للمرأة أن تجهر في صلاة الجهر، ولا أن ترفع صوتها بالتكبير، فلو خالفت وأذنت، كره وأجزأ؛ كذا قاله في "المهذب"، والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ في باب إقامة المرأة.
وقال ابن الصباغ- هنا-: إن الشافعي قال: إنه لا يكون مكروهاً. وقال في رواية البويطي: يكون مجزئاً.
وقد حكى الإمام وراء ما ذكره الشيخ قولين:
أحدهما: أنها لا تقيم كما لا تؤذن، وهو ما حكاه القاضي الحسين في باب إقامة المرأة.
والثاني: أنها تؤذن كما تقيم، و [لكن] لا ترفع به صوتها؛ فإنها ممنوعة من رفع الصوت منع تحريم.
وقد حكى عن المتولي: أن رفع صوتها به مكروه، وهو ما صرح به في "الشامل" في باب إقامة المرأة.
وقال في موضع آخر: إنه لم يفرق أصحابنا بين سماع الغناء من الرجل والمرأة وإن
كان سماعه من المرأة أشد كراهة. وستكون لنا عودة إلى ذلك في باب ستر العورة.
أما الرجال فلا تقيم لهم ولا تؤذن؛ خشية الافتتان بصوتها.
وعبارة البندنيجي: أنه [لا] يجوز أن تؤذن للرجال، فلو خالفت وأذنت، قال في "المهذب": لم يعتد به كإقامتها لهم.
وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه يعتد بأذانها لهم؛ لأنه إعلام بدخول الوقت، وخبرها مقبول.
وفي أذان المرأة وإقامتها في حالة الانفراد- إذا قلنا: إن المنفرد يؤذن- الخلاف المذكور في [أذانها و] إقامتها لجماعة النساء.
قال: ومن فاتته صلوات، أي: وأراد قضاءها في وقتِ واحدة، وليس بوقت لحاضرة، أو جمع بين صلاتين، أي: في وقت الثانية، وبدأ بالأولى منهما- أذن وأقام للأولى وحدها، وأقام للتي بعدها في أصح الأقوال، ووجهه في الفوائت ما روى الترمذي عن ابن مسعود أن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالاً فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء.
فإن قيل: هذا الحديث مرسل؛ لأن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود رواه عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لم يسمع من أبيه، وأنتم لا تقولون بغير مراسيل ابن المسيب.
قلنا: سنذكر خبراً مسنداً في معناه من رواية أبي قتادة وعمران بن الحصين يعضده.
ووجهه في الجمع ما رواه مسلم عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان وإقامتين. وهذا هو القديم، وقد اختاره ابن المنذر،
وصححه أئمة العراقيين، كما قاله الروياني في "تلخيصه"، والشيخ اتبعهم، وكأنهم أخذوا ذلك من قول الشافعي:"إذا صح الحديث فهو مذهبي"، أو:"فاضربوا بمذهبي عرض الحائط"، وقد صح الخبر كما ذكرنا.
والقول الثاني: وهو المعزيُّ إلى الجديد، وعليه نص في "الأم" و"البويطي": أنه لا يستحب أن يؤذن للأولى، [ولا لما بعدها، ويقيم] لكل صلاة؛ لما روى عن أبي سعيد الخدري قال: حبسنا عن الصلاة يوم الخندق حتى كان بعد المغرب بِهَوِيٍّ من الليل، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً، فأقام الظهر فصلاها، [ثم أقام العصر فصلاها]، ثم أقام المغرب فصلاها، ثم أقام العشاء فصلاها، ولم يؤذن لها مع الإقامة.
وروى ابن عمر أنه- عليه السلام جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة، ولم يناد في واحدة منهما إلا بالإقامة. رواه البخاري.
وهذا ما اختاره في "المرشد"، وقال الروياني: إنه الأظهر.
والقول الثالث- وهو ما نص عليه في "الأمالي"-: أنه إن رجا حضور جماعة أذن للأولى، وأقام [لما بعدها فقط]، وإلا أقام للكل من غير أذان؛ لأن مقصود الأذان- كما تقدم- الإعلام بدخول الوقت، والاجتماع للصلاة، ولا وقت يعلم به في الفوائت والجمع، وإذا رجا حضور جمع، أمكن حصول ما بقي من فائدة الأذان فيأتي به دون ما إذا لم يرج ذلك؛ ولهذا لما كان الناس مجتمعين بمزدلفة، لم يأمر- عليه السلام بالأذان، وهذا ما اختاره أبو إسحاق المروزي، كما قال أبو الطيب.
قال القاضي الحسين والإمام: فالأذان على القول الأول لحق الصلاة، وعلى القول الثاني لحق الوقت، وعلى الثالث لحق الجماعة.
وإذا عرفت الأقوال، علمت أنه يقيم لكل صلاة بلا خلاف، وإما الخلاف في الأذان للصلاة الأولى فقط، وأنه [لا خلاف في أنه] لا يؤذن لما عداها إذا كان الأمر كما ذكرناه؛ وبذلك [كله] صرح الأصحاب.
وقد يوهم كلام الشيخ أن الخلاف في الإقامة لما عدا الصلاة الأولى، ودفع الوهم سهل على من علم أن قوله:"أذن وأقام للأولى وحدها، وأقام للتي بعدها"- حكاية لقول واحد فيما يفعله لأجل الصلاة الأولى والثانية.
ثم كلام الشيخ يقتضي أن الأقوال منصوصة فيما إذا كان عليه فوائت، وأراد فعلها في وقت واحد، وفيما إذا أراد الجمع بين الصلاتين في وقت الثانية كما ذكرناه، ولاشك أنها منصوصة فيما إذا كان عليه فائتة [واحدة]، وألحق الأصحاب بها ما عداها مما ذكرناه؛ ولذلك جعل القاضي أبو الطيب الخلاف في مسألة الجمع أوجهاً:
ووجَّهَ الأصحاب منع الأذان للثانية منهما وإن كانت واقعة في وقتها بأنه لو أذن لانقطع الجمع وهو على رأي شرط، وعلى رأي سنة في نفس العبادة؛ فلا يفوت لأجل سنة خارجة عنها، وقال الإمامُ: هذا [عندي] فيه نظر، ويظهر أن يقول: فيؤذن
للصلاة قبل الظهر. ثم ينقدح في ذلك وجهان:
أحدهما: أن الصلاة مؤداة، وهذا وقت أدائها في السفر إذا أخرت.
والآخر: أنه يبعد أن يدخل وقت العصر ولا يؤذن له، ثم لا يمتنع أن يقال: يقع الأذان لصلاة العصر وتتقدم عليها صلاة الظهر، والإنسان يؤذن لصلاةٍ، ثم يأتي بعد الأذان بنوافل وتطوعات إلى أن تتفق الإقامة.
والوجه عندي: القطع بأنه يؤذن مثل صلاة الظهر ويقيم، ثم يقيم بعد الفراغ من صلاة الظهر ويفتتح صلاة العصر [، أي:] وإن قلنا: إنه لا يؤذن للفوائت.
قلت: ولأجل هذا قال بعض المتأخرين: وقد قيل: إنه يؤذن للأولى عند الجمع في وقت الثانية إذا بدأ بها كما صورنا، وإن قلنا: لا يؤذن للفائتة؛ لأنها في حكم الحاضرة؛ ولذلك ينوي الأداء، وقد رأيته مصرحاً به هكذا في "تعليق" القاضي الحسين و"التتمة".
أما إذا أراد قضاء الفوائت [في أوقات] متفرقة، [أو لم تكن عليه إلا فائتة واحدة كان في كل صلاة في الصورة الأولى] وفي أذانه في الصورة الثانية الأقوال الثلاثة، ويقيم بلا خلاف كما ذكرنا. ويشهد للقول والتأذين في ذلك ما رواه أبو قتادة أنه- عليه السلام قال لبلال لما ناموا بالوادي حتى طلعت الشمس:"قُمْ فأذِّنْ" متفق عليه. ورواه عمران بن حصين- أيضاً- وقال فيه: "فأمر بلالاً فأذن، فصلينا ركعتين، ثم أمره فأقام، فصلينا". متفق عليه.
ولو أراد قضاء الفائتة في وقت صلاة حاضرة: فإن أراد تقديم الصلاة الحاضرة أذن
لها بلا خلاف، ولا يؤذن للفائتة، قال القاضي الحسين والإمام: لأنها تابعة فعلاً، والوقت لها، ولو تبعت فائتة لم يؤذن لها، فهذه أولى. وكلام الماوردي الذي سنذكره يقتضي أن الأقوال تجري فيه أيضاً. وإن أراد تقديم الفائتة كان في حكم أذانه لها الأقوال، فإن قلنا: يؤذن لها؛ فأذن؛ فلا يؤذن للحاضرة، ولكن يقيم؛ لأنه- عليه السلام لم يأمر بلالاً في يوم الخندق بأذان العشاء، وإن كانت مقامة في وقتها، بل بالإقامة. وإن قلنا: لا يؤذن للفائتة، قال القاضي الحسين في "تعليقه": أذن لفرض الوقت، وهو الأصح، ولم يحك الإمام غيره، وفيه وجه: أنَّه لا يؤذن لفرض الوقت، قال الرافعي: وهو الأظهر.
ولو كان الجمع في وقت الثانية، وبدأ بالثانية- أذن لها، وأقام للأولى، ولم يؤذن، وقال الماوردي: إنَّه يؤذنُ للثانية ويقيم، وهل يؤذن للأولى؟ فيه الأقوال؛ لأنه قد أبطل الجمع بتقديمها؛ فصارت كالفائتة.
قلت: ويشبه أن يكون هذا تفريعاً على أن تقديم الأولى شرط إذا جمع في وقت الثانية؛ وقد حكى الإمام عن بعض المصنفين أنه قال: إذا قلنا: عن تقديم الأولى شرط في الجمع، فقدم الثانية كانت الصلاة الفائتة في حكم صلاة مقضية؛ فإنها أخرت عن وقتها الموظَّف لها شرعاً في ترتيب الجمع المثبت رخصة، قال: وهذا خطأ صريح؛ فإن صلاة العصر مؤداة في وقتها قطعاً، وما جرى من إخلال بالترتيب آيلٌ إلى صلاة الظهر؛ فإنها خرجت عن حكم الرخصة، وقد أساء فاعلها بتأخيرها، وحرم على نفسه رخصة الجمع.
ولو كان الجمع في وقت الأولى فإنه يؤذن [ويقيم للأولى،] ويقيم للثانية ولا يؤذن بلا خلاف كما فعله- عليه السلام بعرفة على ما رواه مسلم.
قال الإمام: ولا يعهد أن يوالي بين أذانين إلا في صورة واحدة على خلاف فيها، وهي ما إذا قضى فائتة قبل الوقت وقلنا: يؤذن لها، فأذن، فلما فرغ منها دخل الوقت، فأراد أن يقيم الحاضرة- فإنه يؤذن لها.
قلت: وعلى طريقة الماوردي لا ينحصر في ذلك، وقد أغرب ابن كج فحكى عن أبي الحسين بن القطان أنه خرَّج وجهاً: أنه يؤذن لكل صلاة من صلاتي الجمع، قدَّمَ أو أخَّرَ.
قال: وإذا لم يوجد من يتطوع بالأذان، أي: الذي يحصل به الشعار- كما تقدم- رَزَقَ الإمام من يقوم به، أي: من مال المصالح، وهو خُمس الخمس، وكذا أربعة أخماس الفيء على قولٍ؛ لأن عثمان فعله، وهو من المصالح.
قال القاضي الحسين: وهذا لا خلاف فيه، وقد حكاه ابن المنذر عن نص الشافعي، رضي الله عنه.
والمستحب للمؤذن: ألا يأخذ ذلك؛ لما روي عن عثمان بن أبي العاص قال: آخر ما عهد إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنِ اتَّخِذْ مُؤَذِّنَاً لَا يَاخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْراً".
قال: فإن استأجر عليه، جاز، لأنه عمل معلوم؛ فجاز الاستئجار عليه [وإن كان قربة] ككتابة المصحف، ولأنه إعلام بدخول الوقت؛ فجاز الاستئجار عليه [كالإعلام بغير الأذان]، وهذا ما حكاه أبو الطيب والمتولي عن أكثر الأصحاب، ولم يحك القاضي الحسين غيره، وكذا أبو علي في "المحرر"؛ على ما قاله أبو الطيب.
وقيل: لا يجوز؛ لأنه قيام بعبادة بدنية؛ فلم يجز بذل الأجرة في مقابله؛ كالاستئجار لقراءة القرآن، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد والقفال، وحكاه ابن المنذر عن النص؛ على ما حكاه ابن الصَّبَّاغ، وقال أبو الطيب: إنَّه ليس بشيء.
أما إذا وجد من يتطوع به؛ فلا يجوز الرزق عليه، والاستئجار أولى.
نعم، لو كان المتطوع فاسقاً أو حرش الصوت، جاز أن يرزق أميناً أو حسن الصوت، على وجه حكاه المتولي وغيره.
واختار أبو محمد منعه.
ومنهم من جزم بجواز الرزق عند تطوع الفاسق، وحكى الخلاف في الصورة الأخرى، وكلام ابن الصباغ يميل إلى ذلك.
وقد شبَّه المتولي الخلاف المذكور بالخلاف فيما إذا وجد [الأب] من يرضع ولده بغير أجرة، وامتنعت الأم إلا بأجرة.
والقاضي الحُسَيْنُ قال: إنَّ الخلاف المذكور هنا مَبْنِيٌّ على القولين ثَمَّ.
ولو كان في البلد مساجد، وأمكن جمع أهله في مسجد واحد، فهل يجوز أن يرزق مؤذن كلِّ مسجد كما لو كان الشعار لا يحصل إلا بذلك ولا يمكن الجمع، أو لا يرزق إلا واحداً؛ كما لو كان في المسجد مؤذنان يمكن إقامة شعاره بأحدهما؟ فيه وجهان في "التهذيب" و"التتمة" وغيرهما.
وحكى الإمام عن بعض المصنفين: أنه حكى عن ابن سريج أنه كان يُجَوِّزُ للإمام أن يرزق أكثر من واحد.
ثم إذا جوزنا للإمام الاستئجار عليه، فهل يجوز لآحاد الناس ذلك؟ فيه وجهان:
ادعى الإمام هنا أن المذهب منهما التصحيح، واختار في "المرشد" مقابله.
ويجيء من مجموع ذلك فيهما ثلاثة أوجه، ثالثها: يجوز للإمام دون الآحاد، وبها صرح الإمام في باب الجعالة من كتاب النكاح، وصحح الجواز مطلقاً، والغزالي حكاها في الإجارة.
وإذا جوزنا للإمام وغيره تبعت الإقامة، وفيما مقابله الأجرة أوجه ذكرناها في كتاب الإجارة.
قال البغوي وغيره: ولا يحتاج الإمام إذا استأجر من مال بيت المال إلى تعيين المدة، بل يقول: استأجرتك؛ لتؤذن في هذا المسجد كل شهر بكذا. وإن استأجره من مال نفسه أو آحاد الرعية، ففي الاحتياج إلى بيان المدة وجهان في "التهذيب".
***