الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ستر العورة
الستر- بفتح السين-: مصدر: ستر يستر، والسترة-[بضم السين]: ما يستتر به، والستر- بكسر السين-: واحد [الستور] والأستار.
والعورة في اللغة: النقص والخلل، وكل ما يستحيا منه؛ قال الله تعالى:{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] ومنه سمي الناقص [إحدى] العينين: أعور، والكلمة القبيحة عورة.
والمراد بها في الباب: كل ما يجب ستره من البدن في الصلاة، وسنودعه ما يجب ستره عن أعين الناظرين.
قال: ويجب ستر العورة، أي: من الذكور والإناث والخَنَاثَى، عن العيون، أي: في الصلاة وغيرها؛ لما روى أبو داود والدارقطني عن علي- كرم الله وجهه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تكْشِفْ فَخِذَكَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى فَخِدِ حَيٍّ ولَا مَيِّتٍ"، وفي رواية:"لَا تُبْرِزْ فَخِذَكَ". والفخذ من العورة- كما ستعرفه- وإذا وجب ستره،
فغيره أولى؛ لأنه أفحش.
وقد روى [مسلم] عن المسور بن مخرمة قال: أقبلت بحجر أحمله ثقيل، وعليَّ إزار خفيف، فانحدر إزاري، ومنعني الحجر، فلم أستطع أن أضعه حتى بلغت به إلى موضعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ارْجِعْ إِلَى ثَوْبِكَ فَخُذْهُ وَلَا تَمْشُوا عُرَاةً".
والمراد بالعيون: عيون الجنس والإنس والملائكة؛ لقوله من بعدُ: وهو شرط في صحة الصلاة، والشرط فيها الستر عن الكل، حتى لو كان في خلوة لم تصح بدونه اتفاقاً.
وقد قيل: لا يجب الستر في الخلوة في غير الصلاة، وبه قال الشيخ أبو محمد؛ إذ يجوز التكشف بسبب استحداد وقضاء حاجة من [غير] إرهاق وضرورة، ومعه لا معنى لإيجاب الستر في الخلوة، وهذا ما حكاه ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب عند الكلام في اشتراط ذلك في الصلاة.
وقال الجيلي: إنه أصح في بعض الكتب.
والأصح في أكثرها- ومنها: "المهذب" و"الرافعي"- الأول، وهو اختيار الشيخ أبي علي، وقال الماوردي والبندنيجي والروياني: إنه مذهب الشافعي؛ لظاهر الخبر، وقد روى الترمذي: أنه- عليه السلام سئل عن ذلك فقال: "واللهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيا مِنْهُ".
ثم الستر يجب من الجوانب كلها، وهل يجب من العلو [والسفل؟ فيه كلام يأتي.
ولا يجب ستر عورته عن نفسه، بل نظره إليها مكروه]، وإن كان لفظ "العيون" يشمله.
قال: بما لا يصف البشرة؛ إذ به يحصل الستر، ويدل عليه من السنة: ما روي عن عائشة- رضي الله عنها أنها قالت: دخلت أختي أسماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رِقَاقٌ؛ فأعرض عنها، وقال:"يَا أَسْمَاءُ، إِنَّ المَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ المَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلا هَذَا. وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ".
وفي "البحر": أن بعض أصحابنا قال: يجوز الصلاة في الثوب الواصف للون.
قال: وكذا ذكره القفال زماناً، وألزم عليه فساد صلاة العريان في الماء الصافي؛ فرجع عنه.
وقد أفهم قول الشيخ: بما لا يصف البشرة، أموراً:
أحدها: أنه لا يتعين للقيام بواجب الستر شيءٌ مخصوص مما يقع به ستر البشرة، بل يكفي فيه الجنس الذي يلبس عادة: كالمتخذ من الكتان، والقطن، والصوف، والشعر، والوبر. أو غير عادة: كالمتخذ من الجلود، والرقوق، والورق المصنوع والمخلوف، والليف، ونحو ذلك. وما لا يلبس أصلاً: كالماء الكدر، والطين،
والتراب، والدِّنان الضيقة الرأس، والحفرة في الأرض؛ لأن ذلك يستر البشرة، وهو كذلك عند الأصحاب إلا الماوردي؛ فإنه قال: إذا قلنا بوجوب الستر في الخلوة، فهل يجوز أن ينزل في ماء النهر والعين بغير مئزر؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم؛ لأن الماء يقوم مقام التراب في ستر عورته.
والثاني: لا؛ لما روي أنه- عليه السلام نهى أن ينزل بغير مئزر، وقال:"إنَّ لِلْمَاءِ سُكَّاناً".
وتعليل الوجه الأول يُؤْذِن بأن محل الخلاف إذا كان الماءُ كدراً.
الثاني: أنه يتعين أيُّ الأنواع قدر عليه عند عجزه عن غيره، ولاشك فيه فيما يعد لبساً معتاداً، أو نادراً، حتى لو لم يقدر إلا على ربط الورق أو الحشيش على عورته، وجب.
أما ما لا يُعَدُّ لبساً: كالتطيين ونحوه، فللإمام فيه كلام ستعرفه.
الثالث: أنه يجوز الستر بما يصف تكوين الأعضاء دون البشرة، وبه صرح غيره، وقالوا: الأولى للرجل ألا يقتصر على ذلك، ويكره للمرأة؛ قاله الماوردي.
والبشرة: ظاهر الجلد، وعدم وصفها: ألا يرى بعد اللبس بياضها وسوادها.
ثم ما ذكره الشيخ وإن كان ظاهره تعميم وجوب الستر في كل حالة، فهو مخصوص بمحل الحاجة: كقضاء الحاجة، ونحوها، وكشف ذلك للختان من طريق الأَوْلى؛ لأنه واجب، وألحق به المداواة.
وعبارة الغزالي في ضبط ذلك: ولا يحل كشفها إلا لحاجة مؤكدة: كمعالجة مرض يخاف منه فوات العضو، وطول الضَّنَى.
قال: ولتكن الحاجة في السوءتين أشد، وضابطها: ما لا يعد الكشف لأجله في العرف هتكاً للمروءة.
[واعلم أنه كما يجب سترها عن العيون يجب على الناظرين كف أبصارهم عنها إلا في حال الحاجة إلى النظر؛ كما سيأتي في باب تحمل الشهادة].
قال: وهو- أي: الستر عن العيون بما لا يصف البشرة- شرط في صحة الصلاة، أي: المفروضة والنافلة؛ لقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، قال ابن عباس: عني بذلك الثيابَ عند الصلاة.
وإذا كان كذلك، فالأمر ظاهره الوجوب، وأفاد التقييد بالصلاة: شرطيته فيها؛ إذ هو واجب في غيرها- كما تقدم- ويشهد له قوله- عليه السلام: "لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاة حَائِضٍ إِلا بِخِمَارٍ"، وأراد التي: بلغت سن الحيض؛ كما يقال: مُحْرم ومُتْهِمٌ
ومُنْجِدٌ، لمن دخل الحرم وتهامة ونجداً، وإلا فالحائض في زمان حيضها لا تقبل صلاتها بوجه ما.
قال الماوردي: وقد روي: " لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاة امْرَأَةٍ تَحِيضُ إِلا بِخِمَارٍ".
فإن قيل: الستر لا يختص وجوبه بالصلاة؛ فوجب ألا يكون شرطاً فيها؛ كالنظر إلى المحرمات، والكف عن لصلوات في الدار المغصوبة.
فجوابه: أنا لا نسلم أنه لا يختص بالصلاة، أما على قولنا: إنه لا يجب في الخلوة، فظاهر، و [أما] على قولنا: إنه يجب في الخلوة؛ فهو يجوز في حال دخول الخلاء، وحلق العانة، ونحو ذلك، وبه يظهر أنه مختص بالصلاة.
ثم لو صح، لكان [منتقضاً] بالإيمان والطهارة عن الحدث؛ فإنها تجب لمس المصحف؛ فثبت ما ذكرناه.
والشرط في اللغة: العلامة، يقال: من أشراط الساعة كذا، أي: من علاماتها، والمراد به في اصطلاح الفقهاء فيما نحن فيه ونظائره: ما يلزم من انتفائه انتفاءُ الشيء الذي جعل شرطاً فيه، مع أنه ليس بمفهوم له؛ فعدمه حينئذ علامة على النفي.
واحترزوا بقولهم: وليس بمفهوم له، عن الركن؛ فإنه يلزم من نفيه النفيُ لكنه مفهوم له، بمعنى: أنه داخل في مسماه، ولا يتصور ركن إلا لمركب، والشرط يتصور
للمركب والبسيط.
تنبيه: قول الشيخ: وهو شرط في صحة الصلاة، يفهم أموراً:
أحدها: أنه شرط مطلقاً، وقوله من بعد: فإن لم يجد صلى عرياناً، ولا إعادة عليه- يدل على أنه شرط [مطلقاً] عند القدرة، أما مع العدم فلا. نعم، إذا قلنا: يصلي [عارياً] ويعيد، كان شرطاً مطلقاً.
ثم قضية كونه شرطاً مطلقاً أو مع الوجود: أنه لو صلى عارياً ظانّاً للعدم، ثم تبين أنه غير عادم؛ بأن مات له قريب في ملكه سترةٌ حاضرة عنده، أو صلى ظانّاً أنه مستور كل العورة، فظهر أنه مكشوف بعضها؛ بأن ظهر له بعد الصلاة أن في ثوبه على محل عورته قطعاً كان في الصلاة أو بعضها، أو كان المصلِّي أمةً صلة مكشوفة الرأس، ثم ظهر أنها عَتَقَتْ قبل الصلاة- أن تجب الإعادة، وهذا هو الصحيح في الكل.
وقيل: لا تجب؛ تخريجاً مما إذا صلى ثم رأى في ثوبه نجاسة كانت عليه في الصلاة لم يعلم بها قبل الدخول؛ حكاه في الأولى المتولي، وفي الثانية والثالثة هو وغيره من العراقيين.
وقال الماوردي: إنَّ الأصحاب اختلفوا مِمَّ خُرِّج في الأخيرة؟
فمنهم من قال: إنه خرج من [المتيمم] إذا صلى، ثم علم أن في رَحْلِهِ ماء.
ومنهم من قال: إنَّه خرج من قوله في المسافرين: إذا رأوا سواداً فظنوه عدوّاً، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان لهم أنه إبل أو وحش.
وبعضهم امتنع من تخريج قول فيها، وقطع بوجوب الإعادة، وفرق بينها وبين
مسألة النجاسة بأن الأمة كانت مندوبة للستر؛ فهي مفرِّطة في الترك، ولا تفريط من غيرها.
قلت: وهذا الفرق ظاهر إذا تمكنت من ستر الرأس دون ما إذا كانت في حال ظنها الرق غير متمكنة.
ثم إذا قلنا بعدم الإعادة تخريجاً على مسألة النجاسة، [فلو] كان قد علم بالسترة ثم نسيها، أو بالقطع في الثوب ثم نسيه، أو علمت [الأمة بالعتق ثم نسيته- فالقياس أن يأتي في الإعادة الطريقان في] نظير المسألة من النجاسة، كما سيأتي.
وقد أشار إليه القاضي الحسين في الصورة الثانية منهما بقوله: فالمذهب وجوب الإعادة.
الثاني: أن ما ذكرنا أنه واجب في الصلاة وغيرها هو الشرط في صحة الصلاة، وذلك يقتضي جواز الستر في الصلاة بالماء الكدر والطين مع وجود الثياب وغيرها كما قررناه، ووجوب الستر بذلك عند فقد غيره، وهو الظاهر من كلام الأصحاب.
وبعضهم جزم بالاكتفاء بالستر بهما، وقال في وجوب ذلك عند التعيُّن وجهين، وهذه [الطريقة] طريقة الإمام؛ فإنَّه قال: لو وقف المصلي في ماء كدر، فهو مستور تصح صلاته، ولو طلى طيناً فهو أستر باتفاق الأصحاب، وهو كافٍ مع القدرة على الستر بالثياب.
فلو لم يكن معه ثوب، وكان متمكناً من التسبُّب إلى تحصيل طين ينطلي به، فهل يجب؟ حكى العراقيون فيه وجهين، وهما في "المهذب" وغيره:
وادعى البندنيجي: أن المذهب منهما: اللزوم؛ لأنه لو طلى رأسه بطين وهو محرم افتدى.
ووجه مقابله- وهو قول أبي إسحاق-: أنَّه تلويث.
قال الإمام: ولأنه لو وجب لدام الوجوب في الصلاة وغيرها، وتكليف ذلك عظيم مُنْتَهٍ إلى مشقة ظاهرة.
والقاضي الحسين حكى الخلاف في الطين، هل يكفي ساتراً في الصلاة أو لا؟
لأنه يتشقق عند الركوع والسجود، وحكاه في الماء [الكدر]؛ لأنه [لا] يعد ساتراً.
وقضية هذا التوجيه: أن يطرد هذا الوجه فيما إذا صلَّى على جنازة في دَنٍّ ضيق الرأس لا تظهر منه عورته.
وقد جزم القاضي والمتولي فيه بالصحة، والنواوي حكى الوجه فيه وفيما إذا حفر حفرة ووقف فيها، ولم يَرُدَّ عليه التراب [على قدره].
وقال فيما إذا رد عليه التراب حتى ستره: صحت صلاته. ولم يحك غيره.
ومثل هذا مصرَّحٌ به فيما إذا صلى مضطجعاً على جنبه، فاستتر بالتراب.
وقد أفهم كلام الشافعي في "الأم" أنه لا يجوز الستر بغير الثياب مع القدرة عليها؛ لأنه قال: "إذا لم يجد ثوباً، ووجد ورق الشجر ستر عورته وصلى".
قال ابن الصباغ: لأنَّه أندر ما يقدر عليه من الستر.
والماوردي جرى على ذلك في الطين، فقال: إنَّه يكفي عند عدم الثياب ونحوها.
فلو لم يجد من الطين ما يستر العورة ووجد ما يغير [به] لونها- لا يجب، ولكن يستحب، قاله الماوردي.
الثالث: أن ما كان شرطاً في صحة الصلاة هو الواجب في غيرها؛ وذلك يقتضي أمرين:
أحدهما: أنَّ الواجب في السَّتْر على المشهور إنَّما هو من جهة الجوانب والعلو دون السفل، حتى لو وقف على طرف سطح، وكان من تحته يرى عورته من أسفل ثيابه، لا يحرم عليه ذلك؛ لأن المشهور أن صلاته كذلك تصح.
وقال المتولي: إنّه لا خلاف فيه.
قال القاضي الحسين: وخالف هذا لابس الخف؛ فإنه يعتبر الستر في [حقه][من] الجوانب والسفل دون العلو؛ لأن الخنف إنما يتخذ للبس الأسفل في العادة؛
فاعتبر ستر الأسفل، والقميص إنما يتخذ [لستر] الأعلى دون الأسفل؛ فاعتبر ستر الأعلى به خاصة.
وحكى الروياني في "تلخيصه" وجهاً نسبه في "البحر" إلى رواية والده: أن صلاته لا تصح [كذلك، وقال]: [لأنه كما يلزمه الستر لحق الآدمي من الأعلى والأسفل كذلك يلزمه لحرمة الصلاة.
وهذا التعليل مؤذن بأن ذلك يجب في غير الصلاة وجهاً واحداً، وقد توقف الإمام، وتبعه صاحب "المعتمد" في صحة الصلاة كذلك، وقال]: لست أجيز القول بأنه يحل [له] ذلك؛ فإنه [يعرض] نفسه للنظر.
وإذا فرض الواقف على شاخص ولا عين تقدر لإدراك السوءة منه، فهذا لا يعد في العرف مستتراً أصلاً إلا أن يكون ملتف الساق.
الثاني: إجراء وجهين فيما إذا كان في ثوبه خرق على محل عورته، فوضع يده [عليه] من غير أن يجمع بها الثوب، وفيما إذا لبس ثوباً واسع الطَّوْق، ولم يَزُرّه، ولا شاكه بشوكة، بل كانت لحيته عريضة استترت بسببها عورته، وفيما إذا كان طوق القميص مفتوحاً، لكنه لا يظهر منه [عورة] في حال قيامه، وكانت بحيث تظهر لو ركع أو سجد- فإن الأصحاب حكوا في [كل من] الأولين وجهين في صحة الصلاة، ووجهوا المنع- وهو الذي جزم به ابن كج والماوردي، وصححه الروياني- بأن الساتر ينبغي أن يكون غير المستور، وقال الإمام: المذهب عندي مقابله، وهو الذي صححه الرافعي؛ لأنه لا يعصي بذلك في غير الصلاة، والستر لا يختلف في الصلاة وغيرها.
والصورة الثالثة الخلاف فيها من تخريج الإمام؛ فإنه قال: هل نحكم فيها ببطلان الصلاة عند الركوع، أو نحكم بصحتها ابتداء؟ يظهر أن يكون فيها
الخلاف السابق من جهة أن سبب الستر وعدم [التكشيف] التصاق صدره في قيامه بمواضع [أزراره.
قال الرافعي: وتظهر فائدة الخلاف فيها فيما لو اقتدى به غيره قبل] الركوع وفيما إذا وضع ثوباً على عاتقه قبل الركوع، أو [زَرَّه] أو شاكه بشوكة- فإنها لا تبطل كما لو فعل ذلك في ابتداء الأمر.
قلت: وهذا ظاهر فيما إذا لم يكن عزمه حالة الدخول في الصلاة الاستمرار على تلك الحالة التي شرع فيها، أما إذا كان عزمه الاستمرار عليها فيظهر أن يكون في البطلان من الخلاف ما ستعرفه في باب ما يفسد الصلاة.
ولا خلاف في أنه لو جمع الثوب المخرق، وأمسكه بيده- في صحة صلاته، حكاه المتولي والقاضي الحسين لانتفاء علة المنع، وهي إيجاد الساتر [و] المستور، وقضيتها:[الطرد فيما إذا وضع الغير يده على موضع الخرق وإن كان فعل ذلك] محرماً؛ كما لو سترها بقطعة ديباج، وبه صرح القاضي أيضاً.
قال: وعورة الرجل- أي: حرّاً كان أو عبداً، مسلماً أو ذميّاً- ما بين سرته وركبته، وهذا لفظ [الخبر]، وهو يقتضي أن الركبة والسرة ليستا من العورة، وما عداهما منها، وهو الصحيح في "المهذب"، والمذهب في "النهاية"، والمنصوص عليه في عامة كتبه- كما قال البندنيجي- ولم يورد القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والفوراني والمتولي غيره، وكذا الماوردي، واستشهد له بقوله- عليه السلام:"مَا فَوْقَ الرُّكْبَتَيْنِ مِنَ العَوْرَةِ، وَمَا أَسْفَل السُّرَّةِ عَوْرَةٌ"، رواه الدارقطني، وقال: إنه لا يقدر على ستر عورته إلا بستر بعض السرة والركبة؛ كما لا يقدر على غسل الوجه إلا
بالمجاوزة إلى غيره؛ فيجب ذلك وسيلة لتحصيل المقصود.
وقد قيل: إن السرة والركبة من العورة- أيضاً- حكاه في "المهذب" وجهاً، وقال الإمام بعد روايته عن العراقيين: إنه غير معدود من المذهب.
وقال الروياني: إن أبا جعفر الترمذي حكاه عن الشافعي، ثم قال: وهذا لا يعرف [له]، ولكنه قول بعض أصحابنا.
وقيل: إن السرة منها دون الركبة؛ لأنها أفحش، ولا يتأتى ستر ما دونها إلا بسترها؛ حكاه ابن يونس وابن التلمساني والنواوي في "الروضة".
وقيل: إن الركبة منها دون السرة؛ حكاه الرافعي عن رواية أبي عاصم العبادي.
وقيل: إن العورة القبل والدبر خاصة؛ حكاه الحناطي عن الإصطخري. وهو غلط؛ لما روى ابن المنذر والإمام أحمد عن جرهد- وكان من أصحاب الصُّفَّة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه قد كشف عن فخذه فقال: "غَطِّ فَخِذَكَ؛ فَإِنَّ الفَخِذَ مِنَ العَوْرَةِ".
ورواية أبي داود عنه قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا، وفخذي منْكشفة، فقال:"أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الفَخِذَ عَوْرَةٌ".
وجرهد: بفتح الجيم، وسكون الراء، وفتح الهاء، ودال مهملة، ذكره في "الاستيعاب".
فإن قيل: هذا الخبر يعارضه ما روته عائشة- رضي الله عنها أنه- عليه السلام كان مضطجعاً في بيتها، كاشفاً عن فخذه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحالة، ثم استأذن عمر فأذن له كذلك، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوَّى ثيابه، فدخل يحدث، فلما خرج قلت: يا رسول الله، إنه دخل أبو بكر [فلم] تَهَشَّ له ولم تُبَالِهِ، ثم دخل عمر فلم تهش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسَوَّيْتَ ثيابك، فقال:"أَلا أَسْتَحْيِ مِنْ رَجُلٍ اسْتَحْيَتْ مِنْهُ المَلائِكة"؛ [فإن هذا] يدل على أن الفخذ ليس بعورة.
قلنا: هذا الخبر قد [اختلف الرُّواة] فيه: فبعضهم يرويه: "كاشفاً عن فخذه" كما ذكرنا، وعلى رواية:"كاشفاً عن ساقيه"، وليسا بعورة، وإذا اختلفت [الرواية] لم يقع به تعارض، على أنه يحتمل أن يكون الموضع المكشوف ليس في الناحية التي جلس فيها أبو بكر [وعمر]، وعثمان أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرب مجلسه؛ ليزول حياؤه؛ فيقول حاجته، وكان من جلس ذلك المجلس منه يرى انكشاف فخذه؛ فلذلك غطاه.
ويحتمل أن يكون كاشفاً ثوبه عن فخذه مع استتاره بغيره، ولم يغطه لأجل أبي بكر وعمر؛ لما بينهما من الصِّهارة، وعثمان كان حيّاً؛ فغطاه من أجله؛ خشية أن يستحيي فلا يقول حاجته.
وقد جاء في رواية قالها أبو الطيب: أنه صلى الله عليه وسلم قال حين سألته عائشة: "إنَّ عُثْمَانَ رَجُل حَيِيٌّ خَشِيتُ إنْ أَذِنْتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الحَالِ أَلَّا يُبَالِغَ فِي حَاجَتِهِ".
قال: وعورة الحرة جميع بدنها إلا الوجه والكفين؛ لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]. قال ابن عباس: ما ظهر منها: وجهها وكفاها،
وحكاه في "التتمة" عن عائشة- أيضاً- والرافعي عن المفسرين، وخبر عائشة الذي أسلفناه في أول الباب يعضد هذا التفسير.
قال بعضهم: وخص الله- تعالى- الزينة بالذِّكْر دون مواضعها؛ مبالغة في التستُّر والتصوُّن.
ولأنهما لو كانا من العورة؛ لما وجب كشفهما حال الإحرام، والحاجة تدعو إلى كشفهما في البيع والشراء والأخذ والعطاء.
وهذه العلة تفهمك أن المراد بالكف: من مبتدأ رءوس الأصابع إلى الكوعين ظهراً وبطناً، وهو الذي حكاه جمهور الأصحاب هنا.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن من أصحابنا من قال: [ظهرهما] عورة كظهر القدمين، وقد حكاه الرافعي في كتاب النكاح.
وقال المزني: ظهر القدمين ليس بعورة كظهر الكفين، ولأنه مكشوف في العادة؛ فلم يلزمها ستره؛ كالوجه والكفين.
وبعض الأصحاب ألحق أخمص القدمين ببطن الكفين حكاه الفوراني وغيره من أصحاب القفال عن روايته.
قال الروياني: ويقال: إنه حكاه قولاً في المسألة.
والمذهب الأول؛ لما ذكرناه؛ فإن من ضرورة ظهور الكف ظهور ظهره، وفي تكليف ستر البطون فقط مشقة أشد من مشقة ستر الجميع، وأما أخمص القدمين فمستوران في الغالب، وكذا ظهر القدمين؛ ولهذا لم يجب على المحرمة كشفهما مع أنه ورد عن أم سلمة أنها قالت: قلت: يا رسول الله، أتصلي المرأة في درع وخمار، وليس عليها إزار؟ فقال:"نَعَمْ، إِذَا كَانَ سَابِغاً يُغَطِّي ظُهُورَ قَدميها". رواه أبو داود.
قال: وقد روي موقوفاً على أم سلمة.
وقد أفهم قول الشيخ: "وعورة الحرة كذا"، أنه لا عورة [لها] غير ذلك، ومنه يظهر أن صوتها ليس بعورة، وهو الذي جزم به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما عند الكلام في التلبية في الحج، والقاضي الحسين قاله ثَمَّ [، و] قال في كتاب الصلاة: إنه هل هو عورة بالنسبة إلى الصلاة وغيرها حتى لو فعلت ذلك تبطل صلاتها أم لا؟ فيه وجهان.
قال: وعورة الأمة ما بين السرة والركبة؛ لقوله- عليه السلام: "إِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ [خَادِمَهُ عَبْدَهُ] أَو أَجِيرَهُ فَلا يَنْظُرْ إِلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ". رواه أبو داود.
ولأن الإجماع على رأسها ليس بعورة؛ فإن عمر ضرب أمة لآل أنس رآها مقنعة، وقال: اكشفي رأسك، ولا تتشبَّهي بالحرائر.
وفي رواية أخرى: ضربها، وقال: يا لكعاء، لا تتشبهي بالحرائر. ولم ينكر عليه أحد.
وما روي عن الحسن [البصري] أنه يوجب عليها لبس الخمار إذا تزوجت أو اتخذها سيدها لنفسه- متأخر عن ذلك.
وإذا ثبت ذلك قلنا: من رأسه ليس بعورة لا يكون ما عدا بين سرته وركبته عورة؛ كالرجل.
وعلى هذا يجيء في دخول السرة والركبة فيها الخلاف السابق، وما ذكره هو المذهب في "المهذب" و"تعليق" البندنيجي و"تلخيص" الروياني.
وقال ابن الصباغ تبعاً لأبي الطيب: إن الشافعي لم يذكر قدر عورة الأمة، ونسب ما ذكرناه إلى اختيار أبي إسحاق، وهو الذي صححه القاضي- أيضاً- ووراءه وجهان:
أحدهما: أن عورتهما كعورة الحرة إلا الرأس؛ قاله أبو علي في "الإفصاح"،
واستدل [له] بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "المَرْأَةُ عَوْرَةٌ".
قال بعضهم: وهو حديث حسن صحيح؛ فثبت بهذا [الخبر] أن كلها عورة، وخرجت الرأس بما ذكرناه؛ فبقي باقيها على حكم الخبر.
قال الروياني: وقد اختار هذا ابن بنت [أبي] أحمد؛ يعني: صاحب "التلخيص".
والثاني: أنها كالحرة إلا مواضع التقليب منها، وهو ما يبدو منها عند العمل.
قال في "المهذب": مثل الوجه والكفين والذراعين.
وأضاف ابن الصباغ وأبو الطيب والروياني إلى ذلك على [هذا] الوجه: الساق.
وأضاف القاضي الحسين إلى ذلك كله على هذا الوجه: العنق.
وقال البندنيجي: إنه الوجه والرأس والرجلان، هذه طريقه.
وقال في "الحاوي": لا يختلف المذهب أن رأسها وساقها ليس بعورة، وأن ما بين سرتها وركبتها عورة، وفيما بين سرتها ورأسها من صدرها وظهرها وجهان:
أحدهما- وهو قول أبي إسحاق، وعليه أصحابنا-: أنه ليس بعورة، ويجوز النظر إليه عند التقليب.
والثاني- وهو قول ابن أبي هريرة-: أن ذلك عورة في الصلاة ومع الأجانب، وهذه الطريقة لم يحك الإمام غيرها، غير أنه جعل طرف الساق ملتحقاً بالرأس، وحكى وجهين فيما تحت الركبة مما لا يظهر في المهنة.
وقد أدخل الشيخ بلفظ الحرة: المكلفة وغيرها، والمسلمة وضدها، وبلفظ الأمة:
القنة، والمدبرة، والمكاتبة، والمعلق عتقها بصفة، وأم الولد؛ لأنهم- الكل- يُضْمنون بالقيمة.
ولاشك فيما أفهمه كلامه إلا ما سنذكره في الصغيرة في بعض الأحوال.
قال الروياني: [والمكاتبة] إذا كان معها ما توفيه في النجوم، وقد حَلّت- يُكْره لها أن تصلي مكشوفة الرأس. فلا يدخل في اللفظين مَنْ بعضها حر، وللأصحاب في إلحاقها بالحرة في ذلك أو بالأمة وجهان حكاهما الماوردي، وصحح الأول منهما، وهو ما [أورده البندنيجي] وادعى الشاشي أنه ظاهر المذهب.
ومقابله هو المذكور في "الشامل" و"تعليق" أبي الطيب والبندنيجي و"التتمة".
ولفظ" الرجل" ينظم: الحر والعبد، [ويخرج الخنثى، والذكر من الأطفال، وهو حسن بالنسبة إلى نظمه الحر والعبد]، وإخراج الخنثى فإن حكمه مغاير؛ لأن الماوردي قال: إن عورته في صلاته ومع الرجال كعورة النساء؛ فإن كان حرّاً فعورته عورة الحرائر.
وقال الشافعي: آمره أن يلبس القناع، وأن يقف بين صفوف الرجال والنساء. وإن كان رقيقاً فيستر ما تستره الأمة.
فإن قلنا: إنه أزيد مما بين السرة والركبة، فخالف واقتصر على ستر ما بينهما، وصلى، فهل يجزئه؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي عن "البيان"، مأخذهما: أن الأصل شَغْل الذمة ولا تبرأ إلا بيقين، وكون الزيادة [عورة] مشكوك فيها، وفي "زوائد" العمراني حكاية الوجهين فيما إذا كان حرّاً فصلى مكشوف الرأس، ونحوها.
وأما الذكور من الأطفال فقد قال الماوردي فيهم وفي الأطفال الإناث: إنه لا حكم لعوراتهم فيما دون سبع سنين، فإذا بلغ الغلام عشر سنين والجارية تسع سنين كانا كالبالغين من الفريقين في حكم العورة وتحريم النظر إليها؛ لأن هذا زمان يمكن فيه بلوغهم؛ فجرى حكمه عليهم؛ لتغليظ حكم العورات.
وأما الغلام فيما بين العشر والسبع، والجارية فيما بين السبع والتسع فيحرم النظر
إلى فرجهما، ويحل فيما سواه، وسنتمُّ ما قيل في ذلك في آخر الباب، إن شاء الله تعالى.
قال: والمستحب أن يصلي الرجل في ثوبين: قميص، ورداء؛ لظاهر قوله تعالى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، والثوبان أهم الزينة، وقد روي أنه- عليه السلام قال:"إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَلْبَسْ ثَوْبَيْهِ؛ فَإِنَّ اللهَ أَحَقُّ مَنْ تُزُيِّنَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوْبَانِ، فَلْيَاتَزِرْ إِذَا صَلَّى، وَلَا يَشْتَمِلِ اشْتِمَالَ اليَهُودِ".
قال الجيلي: أخرجه رزين في صحيحه.
ورواية أبي داود، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ لأَحَدِكُمْ ثَوْبَانِ، فَلْيُصَلِّ فِيهمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ [لَهُ] إِلَّا ثَوْبٌ فَلْيَتَّزِرْ بِهِ، وَلَا يَشْتَمِلِ اشْتِمَالَ اليَهُودِ".
واشتمال اليهود: أن يخلل يديه الثوب ويسبله من غير أن يشد طرفه.
وقال بعضهم: إنه اشتمال الصمّاء أو قريباً منه.
والصحيح: أنه غيره؛ فإن اشتمال الصماء: أن يلتحف بثوب، ويخرج يديه من قِبَل صدره؛ فيصير كالصخرة الصماء التي ليس فيها فرق ولا صدع؛ فيعسر عليه الركوع والسجود.
وقال في "التتمة": إن اشتمال الصماء: أن يلتحف به مثلما تلتحف النساء، وهو- أيضاً- مكروه.
وما ذكره الشيخ هو عين ما نص عليه في "المختصر"، والمراد منه: بيان أول درجات المستحب، والأكمل منه لا ينحصر في ذلك، وكذلك قال القاضي الحسين: إن الاستحباب لا [يقتصر على] ذلك، بل المستحب أن يتعمم مع القميص والرداء
ويتَطْيْلس؛ لأنه فيه زيادة الزينة، وفي الآثار:"العمائم تيجان العرب".
ويروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "صَلاةٌ بعمَامَةٍ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ صَلاةً بغَيْرِ عِمَامَةٍ".
والقميص معروف، والرداء قد يخفي، وهو ما يستر العورة والأكتاف.
ولاشك أنه مع القميص أكمل من القميص مع الإزار، وهو ما يستر العورة فقط، أو مع السراويل؛ لأن ستره يعم.
ولفظ البندنيجي والروياني وكثير من الأصحاب: والمستحب أن يصلي في ثوبين: قميص، ورداء، [أو قميص وإزار]، أو قميص وسراويل.
ولعل مرادهم التنويع بحالة الوجود لا التخيير عند وجود الكل؛ لما ذكرناه.
ولفظ الماوردي: المستحب أن يصلي في قميص ورداء، أو رداء وسراويل.
قال: فإن اقتصر على ستر العورة، أي:[بأي] شيء كان من ثوب أو غيره، جاز؛ لأن الشرط سترها، وقد حصل.
وقد يفهم من قول الشيخ: "فإن اقتصر على ستر العورة جاز"- أن مراده: [أنه إذا اقتصر على سترها بثوب واحد جاز، وليس كذلك؛ بل مراده] ما ذكرناه، ولئن كان كذلك فوجهه: ما روى أبو هريرة أن سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في ثوب واحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَوَ لِكُلِّكُم ثَوْبَانِ؟ " أخرجه الشيخان، وفي رواية: "أَوَ
كُلُّكُم يَجِدُ ثَوْبَيْنِ؟! ".
فإن قيل: هذا وإن كان لفظه لفظ استفهام، فمعناه الإخبار ما كان يعلمه من حالهم في العدم وضيق الثياب، فكأنه يقول: وإذا كنت بهذه الصفة، وليس لكل واحد منكم ثوبان، والصلاة واجبة عليكم، فاعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد [جائزة]، وإذا كان كذلك فلا يدل أن ذلك يكفي عند القدرة على أكثر منه.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لجابر: "إِذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقَاً؛ فاشْدُدْهُ عَلَى حَقْوَيْكَ"- كما رواه أبو داود- يحتمل أن يحمل على حالة العدم.
والحقو- بفتح الحاء المهملة وكسرها-: الإزار، والأصل فيه: معقد الإزار، ثم سُمِّيَ به الإزار؛ للمجاورة، والنبي صلى الله عليه وسلم أطلقه باعتبار الأصل.
فالجواب: أن فعل جابر يرد ذلك؛ فإنه روي أن جابراً صلى في إزاره، ورداؤه على المِشْجَب، فقال واحد: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصلي في إزارٍ ورداؤك على المشجب؟! فقال: عمداً فعلتُ؛ ليراني جاهلٌ مثلُك فيعلم أن ذلك جائز، فأينا كان له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبان؟!
قال: إلا أن المستحب أن يطرح على عاتقه شيئاً؛ لما روى عن عمر بن أبي سلمة "أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة، واضعاً طرفيه على عاتقه". أخرجه الشيخان، وفي رواية أخرجها الترمذي:"واضعاً طرفيه على منكبيه". قال البغوي: وهو متفق على صحته.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ"، وفي رواية:"لَيْسَ عَلَى مَنْكِبِهِ مِنْهُ شَيء" أخرجه البخاري ومسلم.
قال بعضهم: والمعنى فيه: أنه إذا طرح طرفيه على عاتقه، كان بمنزلة الرداء، وقد أوجب الإمام أحمد ذلك؛ عملاً بظاهر الخبر، وقال: إنه يكفيه أن يضع على عاتقه حبلاً.
واستحب أصحابنا ذلك؛ للخروج من خلافه، [ولقوله صلى الله عليه وسلم:"زُرَّ، وَلَوْ بِشَوْكَةٍ، وارْتَدِ وَلَوْ بِحَبْلٍ"].
[والعاتق:] ما بين العنق والمنكب، وهو مذكر، وقيل: إنه يؤنث، وجمعه: عوانق وعُتَّق.
قال الأصحاب: ثم الأفضل في حالة الاقتصار على ما يستر العورة إذا وجد الإزار والسراويل لبس الإزار؛ لأنه لا يلصق بالعورة فيصف تكوينها، بل يجافيها فلا يحاكيها، ولا يصف سمنها وهزالها.
وقد قال القاضيان أبو الطيب والحسين، والشيخ في "المهذب"، والمتولي: إنه المنصوص في "الأم".
وقال المحاملي، وكذا البندنيجي بعد حكايته عن النص: إن السراويل أولى؛ لأنه
أجمع في الستر. ويحكى عن الشيخ أبي محمد. وقال الروياني في "تلخيصه": إنه الذي قاله أصحابنا.
[و] في "زوائد" العمراني: أن الفقيه أبا بكر قال: السراويل الواسع أولى.
وعلى الأول: إذا كان معه ثوب واحد ائتزر به إذا كان ضيقاً، وجعل على عاتقه شيئاً، فإن كان واسعاً التحف به، وخالف بين طرفيه [على عاتقه] ما يفعل القَصَّار إذا كان في الماء.
واعلم أن بعضهم أورد سؤالاً على كلام الشيخ، وأجاب عنه، فقال: قوله: "والمستحب أن يصلي الرجل في ثوبين" يفهم أنه ليس بشرط؛ فأي فائدة في قوله: "فإن اقتصر على ستر العورة جاز؟!
وأجاب بأنه: أراد أن يعرف بأن نهيه- عليه السلام أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه [شيء]- كما رواه مسلم- ونهيه- عليه السلام أن يصلي [الرجل] في السراويل ليس عليه رداء- كما رواه أبو داود- محمولٌ على الاستحباب، لا [على] اشتراط الطرح على العاتق كما قاله الإمام أحمد، كما في غير العاتق مما ليس بعورة.
قلت: ولذلك فائدة أخرى، وهي أنه لما قال: المستحب أن يصلي في ثوبين، لم يقتصر على ذلك، بل قال: قميص ورداء، وكل منهما يستر أكثر من العورة؛ فيجوز أن
يعتقد أن الواحد منهما ثوب واحد ساتر للعورة وما فوقها؛ فلذلك قال: فإن اقتصر على ستر العورة جاز؛ تنبيهاً على أنه لا يتعين ذلك ولا جنس الثياب؛ بل الجلد والورق وما تقدم ذكره [يجزئ] إذا حصل به الستر، والله أعلم.
قال: والمستحب أن تصلي المرأة [- أي:] حرة كانت أو أمة- في ثلاثة أثواب: درع وهو قميص النساء الذي يغطي البدن والرِّجْل، وخمار: وهو الثوب الذي يستر الرأس والعنق، ويقال له: مِقْنَعة، وسراويل وهو معروف؛ لأن ذلك زينة النساء. وقد روي عن عمر أنه قال: تصلي المرأة في ثلاثة أثواب: درع، وخمار، وإزار.
والشيخ أقام السراويل مُقَام الإزار؛ جرياً على ما حكيناه عن البندنيجي والمحاملي من [أن] السراويل في حق الرجل أولى من الإزار؛ لأنه أجمع؛ فهو في المرأة أولى، وهو المعهود عندهن زينة في هذا الزمان.
والمحذور من كونه يصف تكوين العودة مفقودٌ في حقها؛ لأن القميص فوقه يستره؛ فإنا ذكرنا أن المستحب في حقها الدرع: وهو القميص الذي يستر البدن والرِّجْل.
والأصحاب لم يتعرضوا للسراويل، بل جعلوا عِوَضَهُ الإزار؛ كما جاء في الأثر، وعليه جرى في "المهذب"؛ اتباعاً لظاهر نصه في الرَّجُل، وفسره ابن الصباغ بالجلباب، والمشهور غيره، كما ستعرفه.
قال: ويستحب لها أن تكثف جلبابها.
هذا الفصل اقتضى أمرين:
أحدهما: أنه يستحب لها أن تلبس فوق ذلك جلباباً كما صرح به غيره؛ لأنه يستر تكوين أعضائها وسمنها [وهزالها] وذلك كمالٌ في سترها.
والجلباب- على الصحيح-: هو الملاءة التي تلتحف بها فوق ثيابها.
قال النووي: وهو مراد الشافعي والمصنف والأصحاب، ونقل عن أبي عبيد: أنه الخمار والإزار.
وعن الخليل: أنه أوسع من الخمار وألطف من الإزار.
وقيل: [إنه أقصر من الخمار، وأعرض من المقنعة.
وقيل: هو ثوب واسع دون] الرداء يغطي ظهرها وصدرها.
الثاني: أنه يستحب لها أن تكثفه؛ لأنه أبلغ في تحصيل المقصود [به].
وتكثفه- بالثاء المثلثة على المشهور- معناه: أن تتخذه صفيقاً، غليظ الغزل، شديد النسج؛ بحيث لا يظهر منه لون بشرتها ولا لون ثيابها، ويجافيها في الركوع والسجود، كذا حكاه القاضي الحسين تفسيراً لقول الشافعي:"وأن تكثف جلبابها".
قال أهل اللغة: والكثيف والكثاف- بضم الكاف وتخفيف الثاء-: هو الغليظ المكثف من كل شيء.
وقيل: إن قول الشافعي: "وأن تكتف جلبابها" بالتاء ثالثة الحروف، ومعناه: أن المستحب لها أن تعقده؛ كي لا ينحل في ركوعها وسجودها فتنكشف.
وقيل: إنه بفتح التاء في أوله وإسكان الكاف وكسر الفاء؛ فيكون معناه: أن المستحب في حقها أن تجمعه؛ فإن الكَفْت: الجمع، وهذا يَنْبُو عنه اللفظ؛ فإنه ضد المقصود- الذي ذكرناه- بالجلباب.
قال: ومن لم يجد- أي: من الذكور والإناث- إلا ما يستر به بعض العورة، ستر به السوءتين.
هذا الفصل اقتضى [أمرين]:
أحدهما: وجوب الستر به، وهو مما لا خلاف فيه؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور، وقال صلى الله عليه وسلم:"إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَاتُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ"، وخالف هذا ما لو وجد من الماء ما يكفيه لبعض طهارته، لا يجب عليه استعماله على قول؛ لأن للماء بدلاً يرجع إليه وهو التيمم، ولا كذلك ها هنا؛ قاله الأصحاب.
وقد يقال: إنه ينتقض طرداً وعكساً:
أما طرداً ففيمن عدم الماء وقدر على بعض ما يكفيه من التراب؛ فإنه لا يستعمله على رأي وإن كان لا بدل يرجع إليه.
وأما عكساً ففيمن قدر على قراءة آية من الفاتحة، فإنه يأتي بها جزماً وإن [كان] للقراءة بدل يرجع إليه.
الثاني: أنه يستر بذلك السوأتين، ووجهه: أنهما متَّفَق على أنهما عورة، وهما أفحش من غيرهما، بل ما عداهما كالحريم [لهما]؛ ولذلك خصهما الله- تعالى- بالذكر في قوله:{فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121].
والسوأتان: القبل والدبر، وسميت بذلك؛ لأنه يسوء صاحبهما انكشافهما ووقوع الأبصار عليهما.
قال: فإن وجد [بعض] ما يكفي أحدهما، ستر به القبل؛ لأنه بارز، وهو يواجه به القبلة؛ [فكان ستره أولى من الدبر؛ لأنه مستور بالأليتين، ولا يستقبل به القبلة]، وهذا أصح في "المهذب"، وهو المنصوص في "الأم"، ولم يذكر الفوراني غيره.
ولفظ "القبل" يشمل "الذكر" و"الفرج"؛ ولذلك صرح غيره أنَّا على هذا القول لا نفرق بين الذكر والفرج.
وهو مضموم الأول والثاني، وكذا الدبر، ويجوز إسكان الثاني منهما.
وقيل: يستر به الدبر؛ لأنه أقبح في حال الركوع والسجود؛ وعلى هذا الخنثى المشكل يتخير.
وقد حكى الإمام الوجهين عن العراقيين، ثم قال: وقد يتجه التخيير في ذلك؛ وهذا حكاه القاضي الحسين وجهاً وقال: إنه الصحيح؛ لاستوائهما في وجوب الستر وتغليظ حكمهما.
وقيل: إن الستر للقبل في الرجل أولى، والدبر في المرأة أولى؛ حكاه القاضي-
أيضاً- وصاحب "الروضة".
ثم هذا الخلاف في الاستحباب، وإلا فلو ستر به الفخذ جاز؛ لأن الكل عورة؛ حكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد، وعبارة أبي الطيب تدل عليه- أيضاً- لأنه قال: إذا وجد ما يستر به بعض العورة فالمستحب أن يستر [به] السوأتين وإن وجد ما يكفي أحدهما أحببنا.
وقيل: إنه في الوجوب، وهو ظاهر نصه في "الأم".
وقال الإمام: إن في كلام الأصحاب ما يدل على تحتُّمِهِ، وأبدى الأول احتمالاً.
قال: وإن بذل له سترة- أي: على وجه العارية- لزمه قبولها؛ لأنه لا مِنَّة عليه في ذلك عادة، فلزمه قبولها؛ كما لو وهب له الماء عند إرادته التيمم لِفَقده.
وفي "الروضة" حكاية وجه: أنه لا يلزمه قبولها.
قال بعضهم: وهذا بعيد وإن كان له اتجاه من حيث إن العارية مضمونة.
قلت: وما جعله متجهاً لأجله فيه نظر؛ لأنه لو وجده بثمن مثله، وجب عليه شراؤه؛ فلا يزيد توقع ضمانه على توقع تلفه في ملكه، ومن هنا يظهر لك أنه لو قدر على استئجاره بثمن مثله؛ وجب أيضاً، ولا يجب عليه الشراء و [لا]
الاستئجار بأكثر من ثمن المثل.
ولصاحب "التهذيب" كلام في نظيره من الماء والكفارة، ولا يبعد مجيئه هنا، والخلاف في قبول العارية مثله ما تقدم في إعارة الدلو والرِّشاء لاستقاء الماء.
وإذا قبل العارية: إما وجوباً، أو جوازاً، فرجع صاحبها في أثناء الصلاة فيها- أخذها، وأتم المستعير صلاته [عارياً]، قاله الماوردي.
أما لو بذلت له على وجه الهبة؛ فلا يلزمه القبول؛ [لما فيه من المنة؛ كما في هبة الرقبة في الكفارة.
وقيل: يلزمه؛ كما لو وهب منه الماء.
وقيل: يلزمه القبول،] وإذا صلى فيه رده، وحينئذ يكون القبول للمنافع دون العين. وهو بعيد بالاتفاق.
والأول أصح بالاتفاق، بل الشيخ في "المهذب" والقاضي الحسين جزماً به.
وقد أفهم قول الشيخ: "فإن بذلت له سترة لزمه قبولها": أنه لا يلزمه طلبها على وجه العارية، والظاهر من كلام الأصحاب وجوبه.
وعبارة أبي الطيب: [أنه] إذا كان لرجل ما يستره، وليس لزوجته سترة؛ لزمها أن تسأله إعارتها تلك السترة حال الصلاة، ويستحب له أن يعيرها، فإن لم يفعل أساء.
وعلى هذا فيمكن أن يؤخذ وجوب الطلب من قوله من بعدُ: "فإن لم يجد"؛ لأنه لا يقال: لم يجد، إلا لمن طلب؛ على ما هو [مقدَّر] في التيمم، ولا يجوز له عند وجود السترة وغَيْبَة مالكها أن يصلي فيها وإن لم يجد غيرها، سواء كانت في يده وديعة أم لا، ومن طريق الأَوْلى إذا منعها منه، وليس له أن يقاتله عليها، بخلاف الطعام في المخمصَة؛ لأنه يمكنه الصلاة عارياً وهي مجزئة.
قال: وإن لم يجد، أَي ذلك، صلى عرياناً [ولا إعادة عليه؛ لأنه عذر عام]؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَاتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"، [وهذا حد استطاعته].
وظاهر كلام الشيخ: أن يتم الركوع والسجود، وهو ما حكاه العراقيون والماوردي، وقال الماوردي: إنه لا خلاف فيه.
وحكى الغزالي في كتاب التيمم في كيفية صلاته ثلاثة أوجه:
أصحها: ما ذكرنا.
والثاني: أنه يصلي قاعداً، ولا يتم الركوع والسجود؛ حذاراً من كشف السوأتين، وقد اختاره المزني.
والوجهان المذكوران في كتب المراوزة هنا قولان.
قال القاضي: إنا إذا قلنا: يصلي قاعداً، فهل يأتي بالسجود أو يومئ به وبالركوع؟ فيه وجهان، وهما في "التتمة".
والثالث: [أنه] يتخير بين [موجبي] القول [الأول] والثاني.
قال: وكذا الأوجه في المحبوس في موضع نجس إن سجد سجد على النجاسة، وكذا من ليس معه إلا إزار نجس؛ فهو مخير بين أن يصلي عارياً أو مع النجاسة، وسنذكر هذين الفرعين، إن شاء الله تعالى.
قال: ولا إعادة عليه؛ لأنه عذر عام ربما اتصل ودام، فلو أوجبنا الإعادة لشق عليه، والله يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ".
وقيل: تلزمه الإعادة إن عدم ذلك في الحضر؛ لأنه لا يدوم.
وقال الفوراني والقاضي الحسين: إن صلى قائماً، فلا يجب عليه الإعادة، وإن صلى قاعداً، فهل يعيد؟ فيه وجهان: المذكور منهما في "التتمة": الإعادة، سواء سجد أو أومأ به.
وقال كثير من الأصحاب: إن كان في قوم يَعُمُّ العُرْي فيهم، فلا قضاء، وإن اتفق في ناحية يندر العري فيهم:
فإن قلنا: يتم الركوع والسجود، فظاهر المذهب أنه: لا يجب القضاء. ومنهم من أوجبه؛ لندور العذر، وعدم الدوام.
وإن قلنا: يومئ، فالأصح وجوب القضاء، وهذه طريقة "الوسيط" في كتاب التيمم.
وقد بنى الأصحاب على وجوب القضاء وعدمه جواز [اقتداء] الكاسي بالعاري، فإن قلنا بالأول، جاز، وهو ما نص عليه في "الأم"، وإلا فلا يجوز، وهو وجه حكاه الروياني عن بعض الأصحاب.
فرعان: أحدهما: لو أتلف السترة قبل وقت الصلاة أو بعد دخول الوقت، وصلى عارياً- فحُكْمه في القضاء وما يقضيه من الصلوات حكم [من] كان معه ماء فأراقه قبل [دخول] الوقت أو بعده، وقياسه: أن يكون فيما لو وهب الثوب بعد دخول الوقت، أن يكون في صحة هبته وجهان كما في هبة الماء كذلك.
الثاني: لو وجد ثوباً يستر عورته، لكنه كان في موضع نجس إن صلى في الثوب صلى على النجاسة، وإن فرشه تحته صلى مكشوف العورة، فهل يصلي فيه أو يفرشه تحته ويصلي عارياً؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين:
فإن قلنا: يبسطه، ففي كيفية صلاته [والإعادة ما سبق.
وإن قلنا: يصلي فيه، ففي كيفية صلاته] خلاف يأتي في الباب بعده.
قال: وإن وجد السترة في أثناء الصلاة وهي بقربه، أي: بحيث لا يحتاج في تناولها إلى مشي يبطل الصلاة، ستر؛ لقدرته على الستر.
قال: وبنى؛ لأن زمن التكشف قبل القدرة معفو عنه، وبعد الرؤية وقبل الستر هو مضطر إليه مع أن زمنه يسير، وفعل الستر قليل؛ فلم يقدح في الصحة، كما لو كشف الريح عورته، فرد السترة على قُرْبٍ.
قال القاضي أبو الطيب والماوردي وابن الصباغ: وهذا إذا لم يستدبر القبلة، فإن استدبرها، بَطَلَتْ.
وابن يونس ومن تبعه حكى في البطلان عند الاستدبار وجهين، وظاهر كلام الشيخ عدم البطلان.
قلت: والاختلاف في المسألة يظهر أنه جاء من جهة واحدة، وهو أن احتياجه إلى أخذ السترة في أثناء الصلاة [هل ينزل منزلة سبق الحدث حتى يجري في بطلان الصلاة] عند كثرة الأفعال- الخلاف الذي سنذكره، أو لا يجري؟
فإن قلنا: لا يجري- وهي طريقة العراقيين- بطلت عند الاستدبار كما تبطل بالمشي.
وإن قلنا: يجري، جرى الخلاف في البطلان [عند الاستدبار مع قلة الفعل؛ كما يجري في البطلان] عند الكثرة مع الاستقبال وعدمه، والله أعلم.
وهذا من الشيخ تفريع على أنه إذا لم يجد وصلى عرياناً، فلا إعادة [عليه]، أما حيث تجب الإعادة فلا يبني، وهو ظاهر.
وما ذكرناه من ضبط القرب هو المنقول، ولو ضبط بما لا يحتاج الستر فيه إلى لبث محسوس- كما قاله الإمام فيما إذا كشف الريح عورته وردَّها- لم يبعد.
قال: فإن كانت بالبعد [منه]، أي: بحيث يحتاج في الستر إلى مشي يبطل الصلاة، أو إلى مكث محسوس- على ما أبديناه- ستر؛ لما ذكرناه، واستأنف؛ لأجل ما صدر منه من الفعل المبطل.
وقال الإمام: إن المحققين قالوا: إن الكلام في هذه المسألة كما في سَبْقِ الحدث؛ لأن ذلك حصل من غير تقصير منه.
وللعراقيين أن يفرقوا بأن سَبْقَ الحدث لا يُؤْمن في القضاء، ولا كذلك ها هنا.
فإن قيل: لو رأى المتيمم [الماء] في أثناء الصلاة التي يسقط فرضها بالتيمم، لا يجب عليه استعماله، وَوِزَانه: أنه لا يجب عليه- إذا قدر على السترة في أثناء الصلاة- السترة؛ لأن الصلاة عارياً تُسْقط الفرض.
قيل: الفرق بينهما من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن فعل الطهارة يجب قبل الصلاة، وإذا أحرم بها، ووجد الماء، كان وجوده بعد فوات وقته؛ فلم يجب استعماله، وستر العورة يجب في جميع الصلاة، فإذا قدر عليه في أثنائها قدر عليه ووقتُه باقٍ؛ فوجب فعله فيه.
فإن قيل: لا فرق بينهما؛ لأنه يلزمه استصحاب [الطهارة في جميع أجزاء الصلاة، كما يلزمه ستر العورة في جميع الصلاة.
قيل: الواجب في الطهارة إنما هو استصحاب] حكمها مع أفعال الصلاة، لا الطهارة، وهو في الثوب يستعمل الستر مع أفعالها لا حكم الستر؛ فافترقا.
والثاني: أن استدامة اللبس كابتدائه؛ بدليل أنه لو حلف لا يلبس ثوباً، فاستدام لبسه، حنث، بخلاف الطهارة.
والثالث: أن المتيمم أتى ببدل الماء؛ فجاز ألا يستعمله، والعريان لم يأتِ عن السترة ببدل، فأتى بها كما قلنا في المستحاضة:[لما] لم تأت عن طهارة الخبث ببدل، لزمها عند انقطاع الدم الاستئناف، وهذا الفرق يرد عليه ما إذا قدر على قراءة الفاتحة بعد الإتيان ببدلها في القيام.
وما ذكرناه من التفصيل والخلاف في وجود الستر في أثناء الصلاة جارٍ في الأمة إذا عَتَقَتْ في أثناء الصلاة وهي مكشوفة الرأس، ونحوها، بل الأصحاب جعلوها أصلاً فيما ذكرناه، وألحقوا بها غيرها؛ لأن الخصم وافق فيها وخالف في غيرها. ولو كان السيد قد قال لها: إن صليت مكشوفة الرأس، فأنت حرة قبلها، فصلت مكشوفة
الرأس- صحت صلاتها، ولم تَعْتِقْ؛ لأجل الدَّوْر؛ قاله الأصحاب في باب صلاة القاعد بقيام.
فرع: إذا كانت السترة بالبعد من المصلِّي، وقلنا: لو مشى إليها بطلت صلاته، فلو وقف حتى أُتِيَ بها، فهل تبطل؟
حكى القاضي أبو الطيب وابن الصباغ في باب صلاة القاعد بقيام: أن أبا إسحاق قال: لا تبطل؛ لأن ذلك يجري مجرى العمل [القليل]، وهو ما ادعى بعضهم أنه الأصح، واختاره في "المرشد".
ومن أصحابنا من قال: تبطل؛ لأن عورته كانت مكشوفة في بعض الصلاة؛ فلم تجز.
وقال الماوردي: إن الخلاف في البطلان ينبني على أن السترة إذا كانت بالبعد منه هل تبطل الصلاة بمجرد رؤيتها أو بالمشي إليها؟ وفيه خلاف:
فإن قلنا بالأول، بطلت وإن ناولها إياه كمن انتظره ولم يوجد منه فعل.
وإن قلنا بالثاني، فلا تبطل إذا انتظر من يناوله، ولم يوجد منه فعل، أي: كثير.
وقال: إن الأول بعيد؛ فإنه يلزمه عليه أن تبطل برؤية السترة القريبة.
قلت: وفي هذا نظر، والقاضي الحسين جعل الخلاف في البطلان بالانتظار- على القول الذي عليه تفريع- مشبَّهاً بالخلاف فيما إذا زاد انتظارين في صلاة الخوف.
وإذا قلنا: إنها إذا كانت بالبعد منه، ومشى إليها، لا تبطل؛ [بناء] على القول بأن سبق الحدث لا يبطل- فلو ثبت قائماً حتى أتي له بها، قال القاضي الحسين: فلا تبطل من طريق الأولى. وهو القياس.
وحكى الإمام عن بعض التصانيف: أن ذلك بمثابة ما لو أطال السكوت في صلاته، فهل تبطل أم لا؟ [فيه] وجهان. ثم قال: وهذا كلام ملبس، والوجه أن يقول: إن أتاه بالسترة في مدة لو مشى لنالها فيها، فلا تبطل؛ فإن السكوت أولى في الصلاة من المشي والعمل الكثير.
وإن زادت مدة سكوته على مدة مشيه إلى السترة لو مشى، فإن [لم] يبن أمره
على أن يُؤْتَى بالسترة، بطلت، وإن بنى أمره على ذلك وأُتِيَ له بها، فهذا سكوت طويل وتَرْكٌ للساتر، وفي معارضته أنه ترك عملاً كثيراً، وهو يجري احتمالاً ظاهراً في المسألة، ولعل الظاهر الحكم بالبطلان؛ فإنا إذا ألحقنا هذه الصورة بسبق الحدث، وقد ثبت أنه شرع المشي في تدارك ما وقع في القول الذي عليه التفريع- فوجود المشي وعدمه بمثابةٍ، فالوجه: النظر إلى الشرع إلى التدارك من غير مبالاة بالأفعال، وهذا التفصيل قال الرافعي: ينبغي أن يطرد هو والخلاف في طلب الماء عند سبق الحدث.
وقد نَجَزَ شرح مسائل الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به وما تقدم الوعد بذكره:
إذا كان معه ثوب يستر عورته، وثم جماعة عُراة، لا يجوز له أن يؤثر غيره من العُرَاة [به] ويصلي عارياً، بل يصلي فيه، ويستحب له إذا صلى أن يعيره، فإذا أعاره لواحد تعين [عليه، ولو] أعاره لجميعهم، صلى [فيه] واحد بعد واحد بالقرعة، وهل يجوز لمن علم أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد خروج الوقت أن يصلي عارياً في الوقت أَوْ لَا؟ فيه قولان حكاهما القاضي أبو الطيب [وغيره] عن رواية أبي علي الطبري عن نصه في "الإملاء"، والمشهور أن الذي نص عليه منهما في "الأم": أنه لا يصلي عارياً.
قال الشيخ أبو حامد: ويشهد له أنه لا خلاف في المذهب [في] أن من كان معه ثوب نجس يشغله غسل النجاسة إلى أن يخرج الوقت: أنه لا يجوز له أن يصلي عرياناً، ويغسله وإن خرج الوقت، وأنه نص في المتضايقين في سفينة في البحر إذا لم يمكنهم أن يصلوا [جميعاً] قياماً: أن كل واحد يصلي بعد الآخر بالقرعة قائماً، إلا أن يخافوا فوت الوقت؛ فإنهم يصلون قعوداً.
وإن من الأصحاب من خرج من كل صورة إلى الأخرى قولاً وأثبت فيهما قولين،
ومنهم من أقر النصين، وفرق بأن القيام أخف حالاً من السترة؛ لأنه يجوز تركه في النافلة مع القدرة دون السترة، والقيام إذا تركه أتى عنه بالقعود بدلاً، والسترة إذا تركها لم يأت عنها ببدل.
ولو كان في العراة رجل وامرأة، فالأولى أن يؤثر به المرأة؛ لأن عورتها أفحش.
ولو كان ثَمَّ رجلان، ومعه ثوب فاضل عن حاجته، [وهو يكفي واحداً منهما]، ولو قسم بينهما لحصل [لكل] منهما بعض سترة- فما الأولى فيه؟
قال الإمام: هو محتمل، ولعل الأظهر أن يستر به أحدهما، وإن أراد الإنصاف؛ أقرع.
و [هذا تمام] الفروع.
أما ما تقدم الوعد به من بيان العورة بالنسبة إلى أعين الناظرين، فهو يختلف فيه بالنسبة إلى الذكور والإناث، والأحرار والأرقاء، والمحارم وغيرهم، فلنرتبهم على ترتيب الكتاب، ونقول:
عورة الرجل في الصلاة عورة بالنسبة إلى النظر إليه، رجلاً كان الناظر أو امرأة كيف كانا، اللهم إلا أن تكون المرأة زوجاً يحل له الاستمتاع بها بألا تكون [في عدة شبهة من غيره، أو أن يحل له الاستمتاع بها بألا تكون] زوجة لأحد، ولا في عدته، ولا محرمة عليه بسبب نسب وولاء سبب؛ فإنه يحل له التكشف عليها، ويحل لها النظر إلى ما عدا السوءتين، وفي حِل نظرها إلى فرجه كلام سبق في النكاح.
وما عدا عورة الصلاة منه، فليس بعورة بالنسبة إلى الرجل، وكذا لو كان مراهقاً أو أمرد، فيحل لهم النظر إلى ذلك منه، اللهم إلا أن يكون حسن الوجه، نقي البدن،
يخشى منه الافتتان؛ فحينئذ يحرم النظر إليه؛ كما قاله القاضي الحسين.
وعبارة المتولي: أنه إذا خشي من النظر إليه الفتنة؛ حرم، وإلا جاز، والأولى ألا ينظر.
وقال في "المهذب": إنه لا يجوز النظر إلى الأمرد من غير حاجة.
وقال الغزالي: إن النظر إلى الأمرد بشهوة حرام، وبغير شهوة عند الأمن من الفتنة [يجوز، ومع الخوف من الفتنة] فيه وجهان:
وجه التحريم: أنه في معنى النساء.
ووجه الحل- وهو المحكي عن صاحب "التقريب"، واختاره الإمام-: ما روي أن قوماً قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم [وفيهم] غلام حسن الوجه، فأجلسه وراءه، وقال:"أَلا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي مَا أَصَابَ أَخِي دَاوُدَ؟! "، ولم يأمره بالاحتجاب عن الناس، بخلاف النساء، ولم يزل الصبيان بين الناس مكشوفين، فالوجه الإباحة إلا في حق من أحس من نفسه بالفتنة؛ فعند ذلك يحرم فيما بينه وبين الله- تعالى- إعادة النظر.
قال القاضي الحسين: وما قاله صلى الله عليه وسلم أراد به تعليم أمته؛ لأنه كان معصوماً من الزلات.
وأما النساء الأجانب، فهل ذلك مستحب في حقهن كما هو في حق الرجال الأجانب؟ فيه وجهان:
أصحهما في "الوسيط" و"الرافعي": نعم. وعلى هذا يكره النظر إليه عند الأمن من الفتنة من غير حاجة؛ لما روي عن أم سلمة قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده
ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال صلى الله عليه وسلم:"احْتَجِبَا" فقلنا: يا رسول الله، [أليس] أعمى لا يبصر؟! قال:"أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا؟! ".
والثاني: لا. وعلى هذا فيما هو عورة منه بالنسبة إليهن وجهان:
أحدهما: ما عدا الوجه والكفين.
والثاني: ما هو عورة من المرأة بالنسبة إلى محارمها.
فإذا جمعت ذلك واختصرت، قلت: في المسألة ثلاثة أوجه كما هي في "الوسيط"، والذي جزم به القاضي الحسين: أن العورة منه بالنسبة إليهن كالعورة منهن بالنسبة إليه، واستدل بالخبر السالف، وحكى الأوجه السالفة في عورته بالنسبة إلى محارمه النساء.
والقائلون بالطريقة الأولى قالوا: عورته بالنسبة إلى محارمه النساء كعورتهن بالنسبة إلى محارمهن الرجال، وسنذكرها.
وقال الإمام: إن المحققين على أن ما فوق السرة وتحت الركبة من الرجل كما يبدو في حال المهنة من النساء.
وعورة الحرة بالنسبة إلى النسوة الأجنبيات وغيرهن كعورة الرجل بالنسبة إلى الرجل
والمرأة التي تميل إلى النساء إن خافت الفتنة من النظر إلى وجهها أو بدنها؛ حرم عليها ذلك.
وهل المسلمات وغيرهن فيما ذكرناه عند الأمن [سواء]، أو يختص ذلك بالمسلمات مع المسلمات؟ فيه وجهان:
أصحهما: نعم، وهو ما يدل عليه قول الشيخ في باب عقد الذمة:"ويكون في عنقها خاتم يدخل معها الحمام"؛ إذ من يقول بعدم التسوية لا يجوِّز للمسلمة دخول الحمام مع الكتابيات.
والثاني: أن ذلك يختص بالمسلمات؛ لقوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31]. وروي عن عمر أنه كتب كتاباً إلى أبي عبيدة بن الجراح: أما بعد: فإنه بلغني أن نساء [من المسلمات] يدخلن الحمامات ومعهن نساء [من] أهل الذمة؛ فامنع ذلك.
وفي رواية: فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها.
وعلى هذا في عورتها بالنسبة إليهن وجهان:
أحدهما: كعورتها بالنسبة على الرجال.
والثاني: أنها كل البدن إلا ما يبدو حال المهنة. قال الرافعي: وهو أشبه.
وأما عورتها بالنسبة إلى الرجال غير المحارم والزوج، فجميع بدنها، وهو [محكي] عن الإصطخري وأبي علي [الطبري]، واختاره الشيخ أبو محمد والمتولي والإمام، وقال: إن العراقيين مالوا إليه؛ لاتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات وجوهُهُنَّ، ولو حل النظر إليه لنزلناهن منزلة الْمُرْدِ.
قال الرافعي: وهذا ما أجاب به البغوي والروياني.
ومن الأصحاب من استثنى من كل البدن الوجه والكفين، وجوز النظر غليهما حيث تؤمن الفتنة، وقال في أخمص القدمين وجهين، كما في الصلاة. وما المراد بالكف:
هل الظهر والبطن، أو البطن فقط؟ فيه ما سبق.
وهذا الوجه هو الذي مال إليه أكثر الأصحاب، لاسيما المتقدمون [؛ للآية،] والإمام حكاه عن الجمهور.
وقال الشيخ أبو حامد: إنا على القول به نكره ذلك.
والغزالي استبعده؛ لأنه يؤدي إلى التسوية بين النساء والمرد، والشهوة وخوف الفتنة أمر باطن؛ فكان [الضبط] بالأنوثة التي هي من الأسباب الظاهرة أقرب إلى المصلحة.
وقال في "الحاوي" في كتاب الشهادات: إن الخلاف ينبني على اختلاف العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم لعلي- كرم الله وجهه-: "لَا تُتْبعِ النَّظْرةَ النَّظْرَةَ" وسنبين [وجه البناء] في باب تحمل الشهادة.
وهل صوتها عورة حتى لا يجوز استماعه من غير حاجة، أو ليس بعورة حتى يجوز استماعه عند الأمن من الفتنة؟ فيه وجهان [حكاهما المتولي في كتاب النكاح، والقاضي الحسين في كتاب الصلاة، والذي جزم به الماوردي في كتاب الصلاة الأول]، وأصحهما: الثاني، وهو ما أورده الجمهور في كتاب الحج كما أشرنا إليه.
قال القاضي الحسين: ولا خلاف في أنه إذا كانت لها نغمة حسنة أنه عورة يحرم على الرجال استماعه.
وأما عورتها بالنسبة إلى الرجال المحارم بالنسب أو الرضاع أو المصاهرة، ففيها وجهان:
أحدهما: ما بين السرة والركبة فقط كالرجال مع الرجال؛ لأنها ليست محلاً للشهوة.
قال القاضي الحسين: وهذا يدل عليه نص الشافعي حيث قال في كتاب الرضاع: وشهادة النساء جائزة فيما لا يحل للرجال غير ذوي المحارم أن يتعمد النظر إليه. فإن هذا يدل على أن لذوي المحارم النظر إلى بدنها، وهذا ما حكاه الماوردي، وكذا الأكثرون على ما قاله الرافعي؛ للآية.
والثاني: أن عورتها ما لا يظهر في العادة مثل الظهر والبطن، فأما ما يظهر في العادة: كالأطراف، وأطراف الشعر، والرقبة، وبعض الساعد، والقدم [فلا]؛ لأن في تكليفهن ستر ذلك مع كثرة الخلوة بهن والدخول عليهن في أحوال الغفلة- مشقة عظيمة.
وعلى هذا هل يلحق الثدي في زمن الرضاع بما يبدو في حال المهنة أوْ لا؟ فيه وجهان في "البسيط"، وفي "الوسيط" لم يخص الخلاف بحالة الرضاع.
وعن شرح الجويني حكاية وجه: أن المحرم بالمصاهرة والرضاع لا ينظر إلا إلى ما يبدو في حال المهنة.
والصحيح أنه لا فرق.
ولا عورة لها بالنسبة على الزوج إلا الفرج على خلاف فيه.
وأما عورتها بالنسبة إلى مملوكها؛ ففيه وجهان:
أصحهما عند الأكثرين- ومنهم المتولي-: أنها كعورتها بالنسبة إلى محارمها؛ لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31].
وروي أن فاطمة سترت رأسها عند دخول غلام لها [عليها]، فقال لها
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَاسٌ إِنَّما هُو أَبُوكِ وَغُلامُكِ".
وعلى هذا يأتي الوجهان في أن ذلك هل يختص بما تحت السرة وفوق الركبة أو بما لا يبدو في حال المهنة؟
فالأول منهما منسوب إلى ابن سريج وابن أبي هريرة.
والثاني- وهو الذي صححه الشيخ أبو حامد-: أن عورتها بالنسبة إليه كعورتها بالنسبة إلى الأجانب، [وهو المحكي في "الحاوي" عن أبي إسحاق المروزي وأبي سعيد الإصطخري، وقال: إنه لا يختلف المذهب أنه لا يلزمه الاستئذان إلا في الأوقات الثلاثة المذكورة في الكتاب العزيز.
وأما عورتها بالنسبة إلى الممسوح من الرجال الأجانب] إذا لم تكن له شهوة، قال القاضي الحسين: فيه وجهان:
أحدهما: أنها كالعورة بالنسبة إلى غير الممسوح؛ فلا يجوز له النظر.
والثاني: أنها كعورتها بالنسبة إلى المحارم، وهذا ما حكاه المتولي حيث قال: إن عورتها بالنسبة [إليه كعورتها بالنسبة] إلى الشيخ الفاني، ومن لم تتكامل القوة في أعضائهم ولا تكاملت عقولهم، وعورتها بالنسبة إلى هؤلاء كعورتها بالنسبة إلى المحارم؛ لقوله تعالى:{غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ} الآية [النور: 31].
وحُكِي [عن] ابن عباس أن "غير أولي الإربة": هو المغفل الذي لا يكترث بالنساء، ولا يشتهيهن.
وقال الحسن: هو الذي لا عقل له، ولا يشتهي النساء.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: [قيل: إنهم الشيوخ].
وقيل: أراد بهم الصبيان. وهو بعيد؛ لأنهم مذكورون من بعد.
وقيل: أراد بهم الخِصْيان.
وقيل: أراد بهم المخنثين.
ولأجل هذا الاختلاف، أطلق أبو مجالد البصري- وهو من متأخري الأصحاب- أن في [حل نظر] الخصي والمخنث [إليها] وجهين.
وابن الصباغ قال: لا يحل لهما النظر إليها إلا عند الكبر وذهاب الشهوة.
وغيره أطلق القول بأن الخصي- وهو الذي ذكرُهُ باقٍ وقطعت خُصيتاه- والمخنث لا يحل لهما النظر كالرجال؛ لأنه- عليه السلام نفي المخنثين عن المدينة.
وقيل بطرده في الممسوح والمجبوب الذكر، الباقي الخصيتين.
والعِنِّين كالخصي.
ومنهم من ألحق المجبوب بالممسوح.
قال الرافعي: وهم الأكثرون.
وأما عورتها بالنسبة على الصبيان الذين قاربوا مبادئ الشهوة، فكعورتها بالنسبة إلى البالغين.
وقال القفال: ثبت الحِلُّ؛ فلا يرتفع إلا بسبب ظاهر، وهو البلوغ.
وحكى ابن الصباغ الوجهين في المراهق والصبيان الذين بلغوا مبلغ الحكاية، ولم ينتهوا إلى حد تتحرك فيه الشهوة: يجب الستر عنهم، وألحقهم الماوردي بالمحارم، ومذهبه فيهم الجزم بأن العورة في حقهم ما بين السرة والركبة.
ومن لم يبلغ مبلغ الحكاية كالمعدوم.
وأما الأمة فعورتها بالنسبة على سيدها الذي تحرم عليه بسبب [مؤبد] أو غيره،
كعورتها بالنسبة إلى الأجنبي، وفي عورتها بالنسبة إلى الأجنبي ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها كعورة الحرة، وفي حالة الحاجة إلى تقليبها لأجل الشراء، ينظر إلى ما يبدو في حال المهنة. قال الغزالي: وهو القياس. وقال الرافعي: إنه لا يكاد يوجد هكذا إلا الغزالي.
والثاني: أنها كالرجل.
والثالث: أنها كعورة الحرة إلى ما يبدو في حال المهنة.
وقال في "التتمة": لا خلاف أن وجهها ورأسها وبدنها وأطراف ساعديها وقدميها ليس بعورة، وفيما عدا ذلك وجهان. وهذه طريقة القاضي الحسين.
والمدبرة، والمكاتبة، والمعلَّق عتقها بصفة، وأم الولد كالقِنِّة.
والمعتق بعضها كالحرة.
وأما الخنثى المشكل، فقد قال في "التتمة": لا [يحرم عليه] النظر إلى بدن المرأة، ولا إلى بدن الرجل، ولا [يحرم] على الرجال و [لا على النساء] النظر إلى بدنه؛ كما لا يبطل وضوءه بلمس النساء ولا بلمس الرجال، ولا يبطل بلمسه طهر الرجال ولا طهر النساء، وهذا ما حكاه الرافعي عن القفال.
وحكى وجهاً آخر: أنه يجعل بالنسبة إلى الرجال امرأة، وبالنسبة إلى النساء رجلاً؛ احتياطاً، وهذا ما حكاه الماوردي [هنا.
وأما الأطفال فقد ذكرنا عن الماوردي] في حكم عوراتهم تفصيلاً سلف.
وقال في "الوسيط": إنه لا يجوز النظر إلى فرج الصَّبِيَّة، وفي النظر إلى وجهها وجهان:
أحدهما: المنع؛ لأنها من جنس النساء.
[وأصحهما] في "الرافعي": الجواز؛ لأنها ليست في مظنة الشهوة.
قال الرافعي: فعلى هذا لا فرق بين حد العورة وغيره. نعم: لا ينظر إلى الفرج.
وقال في "التتمة" في كتاب النكاح: هل يحرم النظر إلى فرج الأطفال؟ فيه وجهان.
ثم اعلم أن ما أبحنا النظر إليه من بدن النساء الأجانب [لا يحل لمسه، وكذا ما أبحنا للنسوة النظر إليه من الرجال الأجانب] لا يحل [لهن] لمسه بغير زوجية، ولا ملك، ولا حاجة.
قال في "التتمة": لأن اللمس أغلظ حكماً من النظر إليه؛ بدليل أنه لو لمس فأنزل؛ بطل صومه، ولو نظر فأنزل؛ لا يبطل.
وطرد القاضي الحسين ذلك في المحارم، وهو المحكي في "الرافعي".
وقال القاضي في "تعليقه": إنه إذا كان للرجل ابنة، وبلغت [عشر سنين]، لا يجوز له أن يضاجعها، وليس لها أن تغمز [يديه ورجليه]؛ كي لا يقعا في الفتنة، وكذا الابن الكبير مع الأم، وقد نسب ذلك إلى القفال، وأنه منع من تقبيل وجهها.
وحكى عن القاضي أنه كان يقول: العجائز اللاتي يكحلن الرجال يوم عاشوراء مرتكبات للمحظور، والناس يحسبون أنهن مقيمات للسنة.
ولا يجوز للرجلين أو المرأتين أن يتجردا في ثوب واحد وإن كان كل منهما في جانب، وعليه دل الخبر في صحيح مسلم.
وما ذكرناه من تحريم اللمس إذا لم [يكن] تدعو إليه حاجة، فإن دعت لعلة ونحوها: كالفصد، والحجامة، ونحو ذلك- جاز، وكذا لو احتيج إليه في المواضع التي لم يبح النظر إليها، لكن يشترط أن يكون ثَمَّ محرم.
ويشترط في جواز النظر إلى من المرأة: ألا يكون هناك امرأة تعالج، وفي جواز النظر إليه من الرجل: ألا يكون هناك رجل يعالج؛ كما قال أبو عبد الله الزبيري
والقاضي الروياني، وعن ابن القاص خلافه.
قال الأصحاب: ثم أصل الحاجة كاف في جواز النظر إلى الوجه واليدين إن جعلناه عورة، وفي النظر إلى سائر الأعضاء يعتبر التأكد، وضبطه الإمام بما يجوز الانتقال بسببه من الماء إلى التراب، ولو على رأي.
وفي النظر إلى السوأتين [يعتبر] مزيدُ تأكُّدٍ، وهو مما لا يعد الكشف بسببهما هتكاً للمروءة.
فرع: الجزء المبان هل يجوز النظر إليه؟ قال في "الوسيط": إن لم يتميز المبان بصورته: كالقلامة، وما ينتف من الشعر، والجلدة المنكشطة- فلا يحرم. وإن تميز بصورته: كالعضو، والعِقْصَة فلا يحل.
وهذا التفصيل رَايٌ رآه الإمام، والذي حكاه المتولي: أنه لا يجوز النظر إلى الجزء المبان مطلقاً.
ومعلوم أنه إذا كان من محل لا يجوز النظر إليه عند الاتصال، ومنه: شعر [رأس] الحرة، وشعر العانة، وقلامة الأظفار من الرِّجْلين.
وألحق القاضي الحسين بذلك دم الفصد والحجامة.
وفي "الرافعي" حكاية [وجه في العضو] المتميز بصورته: أنه يجوز النظر إليه، وقد أشار إليه الغزالي والإمام عند الكلام في وصل الشعر.
والأصح الأول، والله أعلم.