المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب طهارة البدن والثوب وموضع الصلاة - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٢

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب طهارة البدن والثوب وموضع الصلاة

‌باب طهارة البدن والثوب وموضع الصلاة

الأصل في اعتبارها في البدن قوله- عليه السلام: "اسْتَنْزِهُوا مِنَ البَوْلِ؛ فَإِنَّ عامَّةَ عَذَابِ القَبْرِ مِنْهُ" رواه الدارقطني.

وقال- عليه السلام وقد مَرَّ بقبرين: "إِنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كبيرٍ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتتِرُ مِنَ البَوْلِ، أَوْ عَنِ البَوْلِ"- وفي رواية: "من بوله"- وأما الآخَرُ فكانَ يَمْشِي بالنَّميمة" رواه مسلم.

وفي الثوب قوله- تعالى-: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) ..} [المدثر: 4، 5] [قال الماوردي: والرجز: النجس.

والظاهر من قوله: {فَطَهِّرْ} ] إرادة الحقيقة فيهما، وبه قال ابن سيرين والفقهاء.

وما رواه أبو داود عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تصنع إحدانا بثوبها إذا رأت الطهر، أتصلي فيه؟ قال:"تَنْظُر فيهِ، فَإِنْ رَأَتْ فِيهِ دَماً فَلْتَقْرصْهُ بِشَيءٍ مِنْ مَاءٍ، وَلْتَنْضَحْ مَا لَمْ تَرَ، وَلْتُصَلِّ فِيهِ".

وفي موضع الصلاة: نهيه- عليه السلام عن الصلاة في المقبرة، والمجزرة، والمزبلة، ولا علة للمنع إلا النجاسة.

على أن قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} بالتفسير الذي ذكرناه، وقوله- عليه السلام:"تَنَزَّهُوا مِنَ البَوْلِ؛ فَإِنَّ [عَامَّةَ عَذَابِ القَبْرِ مِنْهُ] " يجوز أن يستدل بهما للجميع.

قال: واجتناب النجاسة-[أي: في ذلك]- شرط في صحة الصلاة؛ لأنه قد ثبت الأمر باجتنابها، ولا يجب في غير الصلاة- كما سنذكره- فتعين أن يكون في

ص: 494

الصلاة شرطاً كما في طهارة الحدث.

قال بعضهم: بل أولى؛ لأنه إذا اشترط رفع الحدث فيها مع أنه ليس بعين، فأولى أن يشترط إزالة النجاسة مع كونها [عيناً][من باب] أولى، وما قاله في النجاسة العينية ظاهر دون الحكمية.

وعلى هذا قال الشيخ: فإن حمل نجاسة في صلاته [أو لاقاها ببدنه أو ثيابه]] وهي غير معفو عنها- أي: سهواً وعمداً- لم تصح صلاته؛ لأن ما كان شرطاً في الصلاة لا يسقط بما ذكرناه [كالطهارة من الحدث].

قال: وقال في القديم: إن صلى، ثم رأى في ثوبه نجاسة كانت [عليه] في الصلاة، لم يعلم بها قبل الدخول [فيها]- أجزأته صلاته؛ لما روى أبو داود أنه- عليه السلام خلع نعليه في الصلاة، فخلع الناس نعالهم، فقال:"مَا بَالُكُمْ خَلَعْتُم نِعَالَكُمْ؟ " فقالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال:"أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأخْبَرَنِي أَنَّ فِيهما قَذَراً". أو قال: "دم حلمة".

وجه الدلالة منه: أنه لم يستأنف الصلاة، ولو كان ذلك يبطل الصلاة، لاستأنفها.

والفرق بين ما نحن فيه وطهارة الحدث: أن الحدث في ذاته يخصه، فانتسب في الجهل به إلى التفريط؛ لأن الإنسان يحيط علماً بما يقع في ذاته ويخصه حسب ما لا يحيط بما هو أجنبي منه، فنظير الحدث: أن يعلم النجاسة، ثم ينساها، وهو مما [لا] تصح معه الصلاة قولاً واحداً كما قاله القاضي أبو الطيب، وإليه أشار الشيخ

ص: 495

بقوله: لم يعلم بها قبل الدخول.

لكن قد حكى الماوردي وغيره عن القاضي أبي حامد أنه قال بجريان القول القديم في هذه الصورة أيضاً.

قال بعضهم: وكأن هذا القائل يقول: اجتناب [النجاسات] من قبيل المأمورات؛ فلا يكلف به في حالتي الجهل والنسيان.

والصحيح الأول، والخبر محمول على أن الذي كان بالخفين من المستقذرات الطاهرات أو من النجاسة المعفو عنها؛ لقلتها، وتنزيهه- عليه السلام منها؛ محافظة على التصون استحباباً.

[على أنها] قضية حال، وقضايا الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها الإجمال، ويسقط بها الاستدلال، ومن جمل ما تطرق إليها: أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل استقرار حكم النجاسات، وتحريم فعل الصلاة معها، ثم نسخ ذلك، ولعل النسخ ورد في خلال تلك الصلاة، فخلعهما- عليه السلام قاله القاضي الحسين، وقال: إن القولين هنا كالقولين فيما لو ترك قراءة الفاتحة ناسياً في الصلاة، وفيما لو ترك الترتيب ناسياً في الوضوء، وفيما لو نسي الماء في رحله.

وما قاله في الأخير مشابه لطريقة أبي حامد، وإلا فلا مشابه له هنا على طريقة أبي الطيب التي أفهمها كلام الشيخ.

تنبيه: كلام الشيخ يفهم أموراً:

أحدها: [أنه لا يجب اجتناب النجاسة في غير الصلاة؛ إذ لو كان كذلك، لنبه عليه كما فعل في باب ستر العورة.

نعم: هل يجوز أن ينتفع بالنجاسات في بدنه من غير حاجة؟ فيه كلام يأتي في باب ما يكره لبسه؛ لأن له تعلقاً به.

الثاني:] أن القول القديم لا يجري فيما لو علم بعد الصلاة بنجاسة كانت على بدنه [أو] في موضع صلاته. وقد صرح في "المهذب" وغيره بأنه جارٍ فيهما، وهو

ص: 496

قضية طريقة القاضي أبي حامد في إجرائه فيما إذا علم بها ونسيها، وقضية طريقة من قال إذا علم بها ثم نسيها: إنه لا يجري فيها القول القديم؛ لما ذكرناه من الفرق- ألا يجري فيها إذا كانت على بدنه، ولم أره.

الثالث: أنه لا فرق في اشتراط اجتنابها في موضع الصلاة بين أن يكون يصلي لابثاً أو ماشياً، ولاشك في ذلك فيما إذا صلى لابثاً في مكان واحد.

وعبارة الإمام فيما إذا صلى ماشياً: أنه إذا مشى في نجاسة قصداً، وكان له مندوحة عنه- فالذي أراه: الحكم ببطلان الصلاة، ولست أرى عليه أن يتصون ويتحفظ من ذلك ويرعاه؛ فإن كل رخصة متعلقة بما يليق بها من الحاجة، والطريق يغلب فيها النجاسة، والتصون فيها عسر، ورعاية هذا الأمر يلهي المسافر عن جميع أغراضه في السفر ليلاً ونهاراً، وإذا انتهى في ممره إلى نجاسة ولا يجد عنها معدلاً، فهذا فيه احتمال، ولاشك أنها إذا كانت رطبة فالمشي فيها يبطل الصلاة وإن كان من غير قصد؛ فإن المصلي يصير بالمشي فيها حاملاً للنجاسة. انتهى.

والراكب المصلي: الشرطُ في حقه طهارة ما يلاقيه بدنه وثيابه مما هو عليه ولو كانت الحَكَمَةُ نجسة، وبها شيءٌ هو بيده؛ ففيه الخلاف الذي سنذكره.

ولو أوطأ الدابة النجاسة عمداً، لم يضره؛ كما صرح [به] الإمام، وهو عند المتولي مُبْطِلٌ.

الرابع: أنه لا فرق في اشتراط اجتنابها مع العلم بين أن يكون قادراً عليه مع إتمام الركوع والسجود، أم لا كما إذا كان محبوساً في حُشٍّ وهو مذهب العراقيين؛ فإنهم قالوا: إذا كان [محبوساً في حش] لا يتمكن معه من الركوع والسجود، يصلي، ويتجافى عنها بحسب الطاقة، ويومئ إلى القدر الذي لو زاد عليه لاقى النجاسة، ولا يسجد عليها.

وحكى المراوزة مع هذا وجهين:

أحدهما: أنه يكمل الركوع والسجود.

ص: 497

والثاني: أنه يتخير.

واختلفوا في محل الخلاف:

فقيل: مع مطلق النجاسة: رطبها، ويابسها.

وقيل: مع اليابسة، أما مع رطبها؛ فلا يباشرها قولاً واحداً؛ لأنه يستصحب النجاسة في جميع الصلاة. وهذه طريقة القاضي الحسين و [والد] الإمام.

وإذا صلى بالإيماء فهل يعيد؟ فيه قولان:

القديم: لا؛ لأنه صلى على حسب حاله؛ كالمريض.

والجديد- وهو المختار في "المرشد"-: أنه يعيد؛ لأنه عذر نادر غير متصل.

وعلى هذا فما فرضه [من الصلاتين؟] فيه خلاف سبق في التيمم.

الخامس- وهو المفهوم من قوله: "فإن حمل نجاسة في صلاته أو لاقاها ببدنه أو ثيابه، لم تصح صلاته"-: صحتها إذا فقد ذلك، وهو يفرض في [صور نذكر] منها [ما] وقع اختلاف الأئمة فيه:

فمن ذلك: إذا كانت النجاسة تحت صدره في حال سجوده، ولم يلقها ثوبه ولا بدنه: هل تصح؟ فيه وجهان، المنصوص منهما في القديم- كما قال في "الحاوي"-: الصحة، وهو ما ادعى الروياني أنه المذهب، ولم يحك في "التتمة" سواه.

قال القاضي الحسين: والوجهان جاريان فيما لو كان [يصلي ماشياً، فكان بين خطوتيه نجاسة، لم يصبها شيء من بدنه.

ومنها: إذا كان] على النجاسة ثوب شفاف ترى من تحته النجاسة، ولا تلقى شيئاً من بدن المصلي ولا ثيابه، هل تصح صلاته أم لا؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين، وهما جاريان- كما قال الروياني وغيره- فيما لو كان الثوب [الذي] على النجاسة خفيفاً بحيث تقابل النجاسة بدنه في السجود، ولا يلقى النجاسة.

وجزم في "التتمة" فيها بالصحة.

ص: 498

وكلام الإمام يشير إلى أن الخلاف جارٍ إن لاقت ثيابه النجاسة من خَلَلِ النسج؛ لأنه قال: [إذا صلى] على بساط نجس، وكان قد بسط إزاراً سخيفاً مهلهل النسج؛ فقد ذكر الأئمة فيه خلافاً من حيث إنه يعد حائلاً. والظاهر: المنع؛ لأن بدن المصلي وثوبه الذي هو لابسه يلقى البساط النجس من خلال الفُرَج في أثناء النسج السخيف. قال: والمسألة مصورة في البساط النجس الجاف. قال: وإذا منعنا الرجل من الجلوس على الحرير، فبسط فوقه إزاراً صفيقاً، وجلس عليه- جاز، ولو بسط إزاراً سخيفاً- كما ذكرناه- ففي جواز الجلوس التردد الذي ذكرناه في البساط النجس في حق المصلي.

وقد احترز الشيخ بقوله: "أو لاقاها ببدنه أو ثيابه"، عما إذا وقعت نجاسة يابسة، فنحَّاها في الحال؛ فإن الملاقاة لم توجد منه.

وفي معناها ما لو ألصق إليه شخص- وهو في الصلاة- ثوباً نجساً، فإنه لا تبطل صلاته إن نحاه في الحال؛ كما قال القاضي الحسين.

وإن كان هو الذي [قد] مس بثوبه الثوب النجس، بطلت صلاته.

وكذا لو كان الماسُّ غيره ولم ينحِّها في الحال.

واحتكاكه بالجدار النجس كملاقاته الثوب النجس؛ قاله الإمام وغيره.

[ثم وراء] ما ذكرناه في كلام الشيخ بحثان:

أحدهما: أن قوله: "وهي غير معفو عنها"، احتراز عن النجاسة المعفو عنها، لكن هل ذلك عائد إلى الحمل والملاقاة، أو إلى الملاقاة [فقط؟ يحتمل وجهين]:

فإن قلنا: إنه يعود إلى الكل- وهو الظاهر- أفادنا ذلك أن اختياره: [أنه لو حمل مستجمراً [في صلاته] أو ثوباً به دم براغيث معفو عن مثله لو كان لابسه، ونحو ذلك- أن صلاته تصح.

وإن قلنا: إنه يعود إلى الملاقاة فقط، لا يكون في كلام الشيخ تعرض لذلك.

ص: 499

وقد قال الأصحاب:] إنه لو حمل مُسْتَجْمِراً في صلاته أو ثوباً به دم براغيث يعفى عن مثله حالة لبسه، هل تصح صلاته أم لا؟ فيه وجهان مأخذهما: النظر إلى أن ذلك معفو عنه في الجملة، أو إلى أنه لا يشق الاحتراز عن ذلك.

والخلاف في حمل المستجمر مفرع- كما قال الإمام- على قولنا: إنه لو حمل طائراً لم يغسل محل النجو منه، ولا نجاسة عليه بادية: أنه لا تصح صلاته. أما إذا قلنا: تصح، فها هنا أولى.

والخلاف جارٍ فيما لو حمل من على ثوبه نجاسة معفو عنها بالنسبة إليه.

الثاني: أن الحمل ظاهر في بعض الصور وقد يخفى في بعض؛ فنذكره للتنبيه:

فمن ذلك: إذا كان على رأسه طرف عمامة طاهر، وطرفها الآخر متنجس، فإن صلاته لا تصح؛ لأنه حامل للنجاسة.

قال الأصحاب: سواء تحرك الطرف النجس بحركته أو لا؛ لأنه لو مشى لانجر معه، وهذا بخلاف قولهم فيما لو كان الطرفان طاهرين، فسجد على الخارج عنه حيث لا يتحرك بحركته؛ فإنه تصح صلاته خلافاً للقاضي الحسين- كما ستعرفه- وبخلاف ما لو صلى على طرف بساط طاهر، والآخر نجس؛ فإنه تصح صلاته وإن تحرك الطرف النجس بحركته؛ لأنه ليس بحامل.

ولو كان بعض العمامة على رأسه، والبعض الآخر على نجاسة يابسة، فهو كما لو كان الطرف نفسه نجساً فطرحه على نجاسة رطبة.

ومنها: إذا ابتلع طرف خيط، فاتصل بمعدته، وباقيه طاهر- لا تصح صلاته كما قال المتولي؛ لاتصال طرفه بالنجاسة.

ومنها: إذا شد كلباً بحبل، وطرف الحبل بيده- فقد أطلق ابن الصباغ في صحة صلاته وجهين خصهما القاضي أبو الطيب بما إذا كان الكلب كبيراً حيّاً، وجزم بالبطلان [فيما] إذا كان ميتاً أو صغيراً حيّاً.

ص: 500

وصرح الماوردي والقاضي الحسين بالخلاف في الصغير الحي والكبير؛ من جهة أن للكلب اختياراً.

وخصه الإمام بما إذا كان لا يتحرك بحركة المصلِّي، ولم يتعرض غيره لذلك.

وحكى المراوزة وجهاً آخر: أن الحبل إن كان مربوطاً في ساجور، والساجور في عنق الكلب- لم تبطل، وإن كان الحبل مربوطاً في عنق الكلب بطلت.

وقالوا: إن الخلاف يجري فيما لو أمسك حبلاً مربوطاً في عنق حمار وعلى الحمار نجاسة، لكن بالترتيب، وأولى هنا بالصحة.

و [ربط الحبل] في يده أو وسطه فيما ذكرناه كالمسك باليد، والبغوي جزم في الشد بالبطلان، وحكى الخلاف في المسك باليد.

ولا خلاف في أنه لو وضع الحبل تحت رجله [وصلى]: أن صلاته صحيحة؛ لفقد الحمل.

ومنها: لو شد حبلاً في سفينة فيها نجاسة، وكانت السفينة في الماء- فقد أطلق ابن الصباغ فيما إذا أمسك الحبل بيده في البطلان وجهين، وخصهما القاضي أبو الطيب بما إذا كانت السفينة كبيرة، ولا يلقى شيءٌ من الحبل النجاسة، وقال: إن الأصح الصحة، وجزم [القول] بالبطلان فيما إذا كانت السفينة صغيرة بحيث تنجز بجره لها، أو كبيرة وطرف الحبل يلاقي النجاسة.

وما أطلقه ابن الصباغ إليه يميل كلام العراقيين [الذي] حكاه الإمام عنهم؛ فإنه حكى الخلاف فيما لو أمسك بيده حبلاً وطرفه نجس، لكنه لا يتحرك بحركته.

والقاضي الحسين حكى الخلاف فيما لو أمسك طرف عمامة طاهرة وطرفها الآخر نجس، ولم [يقيده بعدم] التحرك بحركته.

ولو كانت السفينة في البر، أو كان قد وضع الحبل تحت رجله وهي في البحر- لم تبطل قولاً واحداً، صغيرة كانت أو كبيرة.

ص: 501

ومنها: إذا حمل حيواناً مذبوحاً يحل أكله، وقد غسل موضع الذبح؛ لأنه حامل لما في جوفه من النجاسة، وهذا بخلاف ما لو حمل حيّاً؛ فإن صلاته تصح؛ لأن النجاسة التي في جوف الحي يعفى عنها [كما يعفى] عن النجاسة التي في جوف المصلِّي، وقد حمل صلى الله عليه وسلم أمامة بنت أبي العاص في الصلاة، وهذا إذا لم يكن على منفذ الحيوان نجاسة بأن طهر بالماء، فلو لم يطهر ولا شيء عليه بادٍ، قال الإمام: فمن أئمتنا من جرى على القياس، ومنع صحة الصلاة، والوجه القطع به، وهو الذي أورده في "التتمة". ومنهم من قال: يعفى عن ذلك.

قال الرافعي: والخلاف جارٍ فيما لو وقع هذا الحيوان في ماء قليل، وخرج حيّاً.

قال: والظاهر عدم التنجس، والفرق: أن حمله نادر، ووقوعه في الماء ليس بنادر، وصيانة الماء عن ذلك مما يشق.

والطفل الميت في هذا- إن قلنا: لا ينجس بالموت- كالحيوان المأكول بعد الذبح؛ كذا قاله أبو الطيب.

والبيضة المذرة، هل تلحق بالطائر؛ لأن باطنها نجس، أو بالنجاسة البادية؛ لأن البيضة لا حياة فيها؟ فيه خلاف جارٍ فيما لو حمل عنقوداً قد استحال باطن حباته خمراً، ولكنه مستور بالقشور من غير رشح، والأصح: المنع.

والقارورة المتضمنة للنجاسة إن لم تكن مصممة الرأس برصاص ونحوه كالحيوان المذبوح؛ فتمنع الصحة، والمصممة بذلك كذلك على المذهب في "تعليق" القاضيين أبي الطيب والحسين وغيرهما.

وقال ابن أبي هريرة: تصح؛ كالحيوان الحي؛ لأن كلاًّ منهما في جوفه نجاسة.

والإمام قال: إنه ألحق ذلك بالبيضة المذرة، وقد طرد مذهبه- كما قال أبو الطيب والفوراني- في الآخر إذا قلنا: ظاهره طاهر وباطنه نجس.

ص: 502

وعن ابن كج إلحاق سد القارورة بالشمع ونحوه بتصميمها بالرصاص ونحوه، والمشهور تشبهي ذلك بلفها في خرقة ونحوها، وهو يمنع صحة الصلاة بلا خلاف، بل ما ادعاه ابن أبي هريرة في المصممة بالرصاص ونحوه غلط فيه؛ فالفرق بينها وبين الحيوان: أن نجاستها مستودعة فيها، ونجاسة الحيوان في محلها؛ فجرت مجرى النجاسة في جوف المصلِّي.

ومنها: إذا صلى على جنازة، وأصابع رجليه في مداسه النجس- لا تصح صلاته؛ لأنه حامل له وهو نجس، نعم: لو جعله تحت قدميه جاز.

ولو نزع أصابع الرجلين عنه، قال القاضي الحسين: ينظر: فإن كان شيءٌ من رجله بحذاء ظهر المداس [فلا يجوز؛] لأنه يصير حاملاً له، وإلا فيجوز. وفي "الجيلي": أنه لو أخرج أصابعه من المداس، وبقَّى إصبعاً واحداً وتحاذيها النجاسة، ففيه وجهان.

فائدة: داخل الفم ملحق في اعتبار الطهارة بظاهر البدن، حتى لو تناول شيئاً نجساً من نخمر، أو ميتة، ونحوهما- لا تصح صلاته ما لم يغسله.

وللأصحاب خلاف في وجوب إيصال الماء إليه في الغسل من الجنابة، و [من] لم يُوجب غسله يجعله في حكم الباطن، والفرق بين الغسلين غامض.

قال: وإن أصاب أسفل الخف نجاسة، فمسحه على الأرض، أي: بحيث أزال عين النجاسة، وصلى فيه- ففيه قولان:

أحدهما: يجزئه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَاءَ أَحدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلْينظُرْ نَعْلَيْهِ: فإنْ كَانَ بهمَا خَبَثٌ فَلْيَمْسَحْهُ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ لْيُصَلِّ فِيِهمَا"، ولأنها نجاسة تلحقه المشقة في إزالتها بالماء، فأجزأ فيها المسح؛ ما في الاستنجاء، وهذا ما نص عليه في

ص: 503

الأمالي القديمة؛ كما قال البندنيجي، وهو الأصح في "الجيلي".

والثاني: لا يجزئه؛ لأنها نجاسة مقدور على إزالتها بالماء من غير مشقة؛ فلم يجز الاقتصار فيها على المسح على الأرض؛ كما لو كانت على ثوبه.

قال البندنيجي: وهذا ما نص عليه في القديم والجديد، وهو الأصح عند المعتبرين، والخبر مختلف في رجاله.

ثم إن صح كان محمولاً على الخبث من المستقذرات الطاهرات.

والفرق بين الاستنجاء وما نحن فيه: أن ذلك يتكرر، ولا كذلك ما نحن فيه.

والنعل والمداس فيما نحن فيه كالخف سواء، ولا خلاف في أن مسح ذلك [على الأرض] يجوِّز دخول المسجد به، وعليه حمل أصحابنا قوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا وَطِئ أَحَدُكُم بِخُفَّيْهِ الأَذَى فطَهُورُهُمَا التُّرابُ"، وفي لفظ: "إِذَا وَطِئَ بِنَعْلِهِ أَحَدُكُمُ الأَذَى

ص: 504

فَإِنَّ التُّرابَ لَهُ طَهُورٌ" أخرجه أبو داود.

ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أموراً:

أحدها: أنه لا فرق على الأول في النجاسة حالة المسح بين أن تكون رطبة أو جافة.

ويقال: إنه ظاهر ما نقله الشيخ أبو حامد، وكذا أكثر الأصحاب كما قال العمراني في "الزوائد".

قال الجيلي: وعلى هذا: فينبغي أن يكون المسح على وجه لا يتعدى محل النجاسة كما في الاستنجاء؛ فإن بعض الناس ذهب إلى أنه لابد أن يكون على وجه لا تبقى مع الرائحة. وهو بعيد؛ إذ زوال الرائحة ليس بشرط في الاستنجاء وجهاً واحداً.

والقاضي أبو الطيب فرض الخلاف فيما إذا كانت النجاسة قد جفت؛ [فأفهم] كلامه: أنها لو كانت رطبة لم يجزئ فيها المسح قولاً واحداً، وهو ما حكاه في "المهذب" و"الشامل"، والبندنيجي في "تعليقه"، والرافعي، وهو عكس ما تقدم في الاستنجاء بالأحجار.

الثاني: [أنه] لا فرق في النجاسة بين أن يكون لها جِرْم أو لا: كالبول ونحوه، والمحكي في "الرافعي" عن الأصحاب: أن محله إذا كان لها جِرْم، أما إذا لم يكن فلا يكفي فيها الدلك بحال.

الثالث: أنه لا فرق على الثاني بين قليل النجاسة وكيرها، سواء كانت من طين الشوارع المتحقق نجاسته أو من غيره، وكذا أطلقه [غيره، وأبدى] الرافعي احتمالين لنفسه في أن ذلك هل يختص بما لا يعفى عنه أو يكون عاماً فيه وفي غيره.

وقد أفهم كلام الشيخ أموراً:

أحدها: أن الخف لا يطهر على القول الأول، والأصحاب مُطْبِقون عليه، وهو

ص: 505

نظير قولهم: إن المحل بعد الاستنجاء بالحجر نجس وإن جازت الصلاة قبل غسله، حتى لو انغمس في ماء قليل نجَّسه.

والثاني- وهو مفهوم قوله: أسفل الخف-: أنها لو أصابت القدم والساق لم يكف فيها المسح بلا خلاف، وهو كذلك؛ لأنه لا مشقة في غسله.

والثالث: أن النجاسة لو وقعت على أسفل الخف وهو ملقى، كان الحكم كما لو حصل ذلك بسبب مشيه [عليها].

والشيخ أبو محمد قال: إن [محل] الخلاف إذا كان يمشي في الطريق، فأصابته النجاسة من غير تعمد منه، فأما إذا تعمد تلطيخ الخف بها، وجب غسله لا محالة.

وكلامه يفهم أن الصورة التي ذكرناها كذلك؛ لأنها نادرة، ولا جرم قال بعضهم: إنه الذي ينبغي القطع به؛ لأنه لا مشقة في غسله.

قال: وإن أصاب الأرض نجاسة، فذهب أثرها بالشمس والريح، [فصلى عليها- ففيه قولان:

أحدهما: يجزئه؛ لأن الشمس والريح] من شأنهما أن يحيلا الشيء عن طبعه؛ فتأثيرهما آكد من تأثير الماء، وهذا ما نص عليه في القديم، ولفظه فيه- كما قال

ص: 506

القاضي الحسين-: ولو شك في أرض، فأشرقت عليها الشمس، ومضى عليها أزمانٌ- جاز أن يصلي عليها، ولا يتيمم بترابها.

والثاني: لا يجزئه؛ كما لو صلى في ثوب وقع عليه بول وجفَّ أثره بالشمس والريح، وهذا هو الجديد.

قال بعضهم: وهو الجاري على أصل الشافعي- رضي الله عنه إذ ليس المقصود من طهارة الحدث: الإزالة فحسب، وأنه لو وقعت قطرة من الدم على شيء صقيل منحدر، ووالى عليها بدفع ماء الورد، لم يحكم بطهارته ما لم يستعمل الماء، مع القطع بزوال عين النجاسة وأثرها، ولا يسمع أحد بطهارتها ممن ينتحل مذهب الشافعي- رضي الله عنه وفارق طهارة الخمر بالاستحالة؛ فإنها تنجست بالاستحالة، وطهرت بها، وهذه نجاسة بالملاقاة؛ فلا تطهر بالاستحالة؛ كما لو فضخ الدِّبْس النجس ناطفاً أو جعل منه خلا، وهذا القول هو الصحيح بالاتفاق، ولم يحك الجمهور غيره، بل قال الماوردي: إن الأول حكاه ابن جرير الطبري عن نص الشافعي في القديم، ولا يعرف له.

وقال البندنيجي في كتاب التيمم: إن من الأصحاب من نفاه، وقال: ما قاله في القديم من الحكم بطهارته، فإنما هو إذا مضت عليه السنون.

وإذا كان كذلك، فمياه الأمطار تطهره، والرياح تسفي عليه التراب، فتغطيه، فكيف يحكم بطهارته بالشمس؟! ولا يختلف مذهبه أن النار لا تطهر شيئاً.

والقولان جاريان- كما قال القاضي الحسين- فيما لو استنجى بحجر، وزالت النجاسة عنه بالشمس والريح، فإنه قال في "الإملاء": لو استنجى بالحجر، وألقاه في مَضْحَاة حتى جف وتناثرت منه النجاسة، جاز أن يستنجي به. وقال في الاستنجاء: ولا يمسح بحجر قد مسح به مرة، إلا أن يكون قد طهر بالماء. فحصل فيه قولان.

وقال الإمام- حكاية عن الأصحاب-: إنهما يجريان في الثوب أيضاً. وهو بعيد؛ لأن للتراب قوة محيلة تحيل الأشياء إلى صفته، بخلاف الثوب.

ص: 507

وهل يقوم التراب مقام الشمس؟ المشهور: لا. وقيل: نعم، وحكاه الفوراني.

ورأيت فيما وقفت عليه من "النهاية" حكايته عنه في الثوب إذا قلنا: إن الشمس والريح تؤثر في الصلاة فيه، وقال: إنه في نهاية البعد.

وقد أفهم قول الشيخ: "وذهب أثرها"، أن المسألة مصورة بما إذا كان للنجاسة أثر، مثل: أن تكون مائعة، أو جامدة وهي رطبة، فأزال عينها، وذهب أثرها بالشمس والريح، وكذلك صوَّرها البندنيجي في باب التيمم وغيره، وقال: إن النجاسة لو كانت جامدة واستهلكت في الأرض: كعظام الموتى، وجلودهم، والسرجين، والعذرة- فلا تطهر بالشمس والريح قولاً واحداً، بل لا تطهر بصب الماء عليها وإن كوثر، وطريق تطهيرها قلع التراب حتى يتحقق أنه لم يبق من النجاسة شيءٌ بحال، أو يطيّن المكان بطين طاهر؛ فيكون حائلاً دون النجاسة.

والمراوزة حكوا فيما إذا قلبت الأرض الأعيان إلى طبعها في الطهارة وجهين.

والأثر الذي تجوز الصلاة عند زواله على القديم هو الطعم، واللون، والرائحة؛ كما قاله البندنيجي وغيره.

وعلى القولين معاً: الأرض محكوم بنجاستها كما تقدم في الخف، ولا يجوز التيمم بترابها، والقاضي الحسين قال: إنَّا هل نحكم بطهارتها أم لا؟ فيه قولان، فإذا قلنا: تطهر، فهل تطهر ظاهراً وباطناً، أو ظاهراً فقط؟ فيه قولان.

وقضية ذلك: أن يجوز التيمم بترابها، وقد حكاه الجيلي وجهاً في المسألة، والمشهور الأول، وهو المنصوص في "الإملاء"، وقد وافق عليه الخصم، وهو أبو حنيفة.

فرع: إذا قلنا: إن الشمس والريح تطهران فالنار بذلك أولى، وإلا فوجهان؛ لأن النار أقوى.

قال القاضي الحسين: وعلى هذين الوجهين السماد وعظام الميتات، هل نحكم بطهارته أم لا؟ الذي ذهب [إليه أبو] زيد المروزي والخضري: طهارته.

والصحيح: أنا لا نحكم بالطهارة؛ لأن عين النجاسة قائمة.

ص: 508

والخلاف في الدخان مفرع على ذلك، فإن قلنا: إن الرماد يطهر؛ فكذلك الدخان، وإلا فوجهان.

قال القاضي الحسين: فإن قلنا بنجاسته، فإن أصاب ثوباً رطباً نجَّسه، وإن كان الثوب يابساً، فوجهان.

قال: ومثل ذلك ما إذا دخل الإسطبل، وراثت الدواب، وخرج منه دخان، أو دخل المستحَمَّ، وبال، وتغوَّط، وخرج منه دخان في الحال، فأصاب ثوبه- فإن كان رطباً ينجس، وإن كان يابساً ففيه وجهان.

وأصل هذا ما حكيناه عن الحليمي في كتاب الطهارة: أن الإنسان إذا خرج منه ريح، وكانت ثيابه رطبة، تنجست، وإن كانت يابسة فلا.

والآجر المعجون بالماء النجس، قضية ما حكيناه عن القاضي: أن يطهر ظاهره وباطنه على وجه، وقد أشار إليه الإمام حيث قال: إن قلنا: إن الشمس تطهِّر، فالنار أقوى أثراً وأبلغ؛ فينبغي أن تطهر الآجر.

وعلى وجه يطهر ظاهره فقط، وهو ما حكاه في "الوسيط" تفريعاً على القديم، وإن كان قد قال عند حكاية القديم: إنه لا تفريع عليه.

وأجاب بعضهم عن ذلك بأن اللَّبِنَ في معنى قطعة من الأرض؛ فيكون مِن صُوَر المسألة، لا فرعاً لها.

وطريق تطهير باطنه: أن يدق حتى يصير تراباً، ثم نفيض عليه الماء؛ قال الروياني: وقال بعض أصحابنا: إذا صب الماء عليه، وكاثره حتى خلص الماء إلى الوجه الآخر وتقطر بالرشح، طهر كما يطهر بالأرض.

قال: وهذا أصح. نعم: لو كان عجن بالسرجين، فلا يطهر باطنه ولا ظاهره على الجديد، وعلى القديم يطهر ظاهره فقط؛ لأن النار تأكل السرجين الظاهر؛ فيطهر محله، وهو ما حكاه في "الإبانة" عن تخريج الخضري.

وإذا قلنا بالجديد، فإذا صب عليه الماء بعد ذلك، فهل يطهر ظاهره حتى تجوز الصلاة عليه، ولا تجوز مع حمله إلا على رأي ابن أبي هريرة- كما أسلفناه- أو لا يطهر باطنه ولا ظاهره؟ فيه وجهان في "الإبانة":

المنسوب منهما إلى القفال: الأول، وهو ما أورده ابن الصباغ وغيره.

ونسب إلى الشيخ أبي حامد الثاني، موجهاً له بأن النجاسة صارت جامدة، وقد

ص: 509

صار اللَّبِنُ حجراً لا ينشِّف الماء، وهذا ما حكاه الروياني في تلخيصه عن "الأم".

والإمام حكى خلاف القفال والشيخ أبي حامد فيما إذا كان الآجر معجوناً بالماء النجس، وقلنا: لا تطهره النار، وغسل ظاهره بالماء، فالباطن لا يطهر، وفي الظاهر الوجهان. ثم قال: والأمر في ذلك مفصل عندي: فإن كانت نجاسة الآجر بسبب أنه عجن ببول أو ماء نجس، فالوجه القطع بأنه يطهر ظاهره؛ فإن النار قد نشفت الماء قطعاً، ولكنا في التفريع على الجديد لا نحكم بطهارته تعبداً حتى يتفق استعمال الماء على ظاهره، ولا يبقى بعد ذلك قذر، فأما إن كان سبب نجاسة الآجر خلط ترابه بالزبل أو الرماد النجس فلا يطهر ظاهره بصب الماء عليه؛ فإن تلك الأعيان مُسْتَحْجِرة، لا يزيلها الماء من ظاهر الآجر، ولا وجه لخلاف ذلك.

وإن كان القفال يقول في الآجر الذي سبب نجاسته الزبل والرماد النجس: إنه يطهر- فلا وجه لقوله، وإن كانا يفصِّلان، فلا خلاف بينهما إذن.

قلت: فقول الإمام فيما إذا كان مختلطاً بالرماد ظاهر، وأما إذا كان مختلطاً بالزبل، فهو يذهب بمبادئ النار كما حكيناه من قبل؛ فتبقى نجاسة الآجر حكمية؛ فيصير كما لو كانت نجاسته بالماء النجس أو البول.

نعم: إن كانت النار قد قلبت الزبل رماداً، ولم تزله عن المحل فالأمران واحد، ولعل هذا مراد الإمام، والله أعلم.

قال: وإن صلى في مقبرة منبوشة، أي: بحيث صار أسفلها أعلاها، وذلك يكون في المقابر القديمة التي تكرر الدفن فيها- لم تصح صلاته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجدٌ إِلا المَقْبَرَةَ والحمَّامَ" رواه الترمذي.

ص: 510

ولأنها اختلطت بأجزاء الموتى إن قلنا: إنها نجسة، وبما في أجوافهم؛ فتنجست؛ فلم تصح الصلاة عليها، وهذا فيما لم يجعل بينه وبين المقبرة شيئاً ظاهراً، فإن جعله، صحت، لكن مع الكراهة، كما سنذكره في المسألة التي تليها.

قال: وإن كانت غير منبوشة، أي: بأن كانت مقبرة جديدة، كرهت، وأجزأته صلاته:

أما إجزاؤها؛ فلأن المحل الذي صلى عليه طاهر، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على مسكينة وقد ماتت ليلاً.

وأما كراهتها؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه كلما أفاق من غَشْيته: "لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبيائِهِم مَسَاجِدَ"، قالت عائشة: وإنما كان يقصد به تحذيراً من اتخاذ قبره مسجداً.

ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجْعَلُوا شَيْئاً مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكم وَلَا تَتخذُوهَا

ص: 511

مَقَابِرَ"؛ فدل على أن المقابل لا يصلَّى فيها.

ولأي معنى كرهت؟

كلام العراقيين مشير إلى أن الكراهية لأجل ما تحت مصلاه من النجاسة؛ فإنه تكره الصلاة على شيءٌ طاهر تحته نجاسة لا يلقاها شيء من ثيابه ولا بدنه، وقد حكاه الروياني عن الشافعي- رضي الله عنه ولفظه: قال الشافعي: وتكره الصلاة في المقبرة؛ لأنها مدفن النجاسات.

والذي دل عليه كلام القاضي الحسين: لحرمة الموتى؛ ولهذا قال: إنه لو بسط ثوباً طاهراً على المزبلة والمجزرة، وصلى عليه، أجزأته صلاته، ولم تكره، والأولون يخالفون في ذلك، وهو ما حكاه الرافعي.

ولا فرق في الكراهة بين أن يصلي على القبر أو بجانبه أو إليه، ومنه يؤخذ: أنه تكره الصلاة بجانب النجاسة أو خلفها.

قال: وإن شك في نبشها، أو شك في أنها من المقابر القديمة أو المستجدة- صحت صلاته؛ لأن الأصل عدم النبش، وهذا ما نص عليه في "الإملاء"؛ حيث قال: إن صلى فيها لم أَرَ عليه الإعادة. وقد اختاره ابن أبي هريرة، وصاحب "المرشد"، وهو الأظهر في "الرافعي".

وقيل: لا تصح؛ لعموم الخبر، ولأن الظاهر والغالب من المقابر النبش، وهذا ما نص عليه في "الأم"، واختاره أبو إسحاق.

قال البندنيجي في كتاب التيمم: والقولان جاريان في جواز التيمم بترابها.

قال القاضي الحسين وغيره: والقولان كالقولين في وحل الطريق إذا أصاب الماشي منه شيئاً زائداً على القدر الذي يعفى عنه من الطين الذي تحققت نجاسته: هل تصح صلاته أم لا؟ لأن الأصل طهارته، والغالب نجاسته، والقدر الذي لا يعفى عنه [من الطين المتحقق النجاسة- كما حكاه الإمام عن شيخه في باب الآنية- ما ينسب من أصابه إلى سقطة أو نكبة أو قلة تحفُّظٍ عن الطين، وما دون ذلك مما يلحق

ص: 512

ثياب الطارقين هو القدر الذي يعفى عنه].

وما ذكره في الحقيقة يرجع إلى أن ما يشق الاحتراز عنه لا يعفى عنه مع تحقق النجاسة، ومع الشك فيه القولان في الصحة، لا في العفو.

وما ذكره الشيخ من محل القولين هو الذي ذكره الجمهور، وقال القفال: إنه إن شك في النبش، فالأصل الطهارة، وإن كان الغالب النبش ولم يتيقن، فقولان.

قال الروياني في "تلخيصه": وهو حسن، لكنه خلاف النص.

والمقبرة: بضم الباء وفتحها وكسرها، والجمع: مقابر، والقبر: المدفن، وجمعه: قبور.

قال: وإن جبر عظمه بعظم نجس، أي: بعظم كلب أو خنزير أو غيرهما- إذا قلنا: إنه نجس، وكذا ما خرج منه أيضاً إذا قلنا: إنه نجس- كما قاله الماوردي- وخاف التلف من نزعه، أي: خاف تلف النفس أو العضو- كما قاله البندنيجي والماوردي، وأبداه الإمام احتمالاً لنفسه- فصلى فيه، أجزأته صلاته، أي: وإن كان متعدياً بوضعه، مثل: أن كان لا يخاف التلف لو لم يجبره، أو يخاف التلف لكنه قادر على دفعه بجبره بعظم طاهر.

ووجهه: أن خوف التلف يسقط حكم النجاسة، بدليل حل أكل الميتة عند خوف التلف، وإذا سقط حكم النجاسة، صحت الصلاة؛ كما في حال المسايفة. نعم: في هذه الحالة هل يجوز أن يكون لغيره؟ فيه وجهان.

وظاهر كلام الشيخ: أنه لا يلزمه قلعه؛ إذ لو لزمه، لم تصح معه صلاته؛ كما لو حمل نجاسة؛ وهذا حكاه القاضي أبو الطيب والبندنيجي والرافعي عن المذهب، وهو الصحيح بالاتفاق.

وحكوا وجهاً آخر: أنه يجب عليه نزعه؛ لأنه يقتل بترك الصلاة الواحدة عامداً؛ فجاز أن يؤمر بصحتها وإن خشي التلف؛ لأن الجاني بفعل المعاصي مؤاخذ بها وإن تلف؛ كالقاتل والزاني.

وعلى هذا: إذا لم يقلعه، وصلى فيه، وجب عليه الإعادة، وقد ادعى الغزالي أن هذا القول ظاهر نص الشافعي، أي: في "المختصر" و"الأم"؛ كما قاله غيره.

ص: 513

قال: ولعله محمول على ما إذا كان متعدياً بأن وجد عظماً طاهراً، واستعمل النجس.

والغزالي في هذا الاحتمال متبع الإمام، والأمر عند الأصحاب كذلك، وادعاء الغزالي مع ذلك غلط؛ فإنه لا خلاف أنه لو لم يجد في الابتداء عظماً طاهراً، وخاف التلف إن لم يَصِلْه بعظم نجس- جاز أن يصلي به؛ فوجب إذا خاف التلف من قلعه أن يقر على حاله؛ لحراسة نفسه، وليس كذلك فعل الزاني وقاتل النفس؛ لأنهما لا يحلَّان في ضرورة ولا في غيرها.

على أن الفرق بينهما: أن حد الزنى والقصاص ردع له إن عاش، وزجر لغيره إن مات، وقلع ما وصله من نجاسة لأجل صلاته يتلفه، وبتلفه تسقط عنه الصلاة؛ فكان تركه حيّاً يؤدي الصلاة حسب إمكانه أولى.

وفي "التتمة": أنه في الابتداء لو لم يجد إلا عظماً نجساً، أو كان لا ينجبر الكسر إلا به، فهل يجوز استعماله؟ يبنى على أنه لو فعل هل يقلع أم لا؟ إن قلنا: يقلع، فلا يجبره به، وإلا جبره به، وهذا جرياً منه على ظاهر النص، والمشهور خلافه.

ثم الخلاف جارٍ- كما قال البندنيجي- سواء كان العظم قد استتر باللحم أم لم يستتر؛ لأن العلة خوف التلف، وهي موجودة في الحالين.

والغزالي قال ما ذكره فيما إذا كان العظم ظاهراً، [وأما إذا كان مستتراً][فإنه يبعد] إيجاب النزع، وهذا ما أبداه الإمام، وقال: لولا أن المذهب نقل، لكان القياس، بل القواعد الكلية تقتضي أن أقول: لا ينزع عند الخوف وجهاً واحداً، ولا عند الاكتساء بالجلد وحصول الستر، أي: وإن لم يكن ثم خوف.

وجزم في "الوجيز" بأنه [لا ينزع] إذا خاف التلف عند النزع بعد أن استتر باللحم، وخص الخلاف بما إذا لم يستتر.

أما إذا لم يخف تلف النفس والعضو من نزعه، لكن خشي طول الضنى أو حصول شَيْن فيه، فمفهوم كلام الشيخ: أنه لا تصح صلاته، ومقتضاه وجوب قلعه، والقياس

ص: 514

أن يجري فيه ما في نظير المسألة من التيمم إذا قلنا: إن خوف تلف النفس أو العضو يمنع وجوب القلع، وقد أبداه القاضي الحسين احتمالاً، وجزم به المتولي، لكن في "زوائد" العمراني في باب حد الخمر أن الشافعي نص على أنه: لو جبر عظمه بعظم خنزير أو ميتة أو كلب، والتحم الجرح، وثبت اللحم والجلد- على أنه عليه شق الجلد، وإتلاف اللحم، واستخراج العظم؛ لاستحقاق إزالة النجاسة، وأنه لو لم يفعل أجبره الحاكم وإن جر ذلك شدة ألم، وإبطاء برء.

وإذا كان هذا نصه في هذه الحالة، فالإجبار على القلع ولا شيءٌ من ذلك من طريق الأولى، وبه صرح الأصحاب، وحينئذ لو دخل عليه وقت الصلاة قبل نزعه، وصلى، قال البندنيجي وغيره: فعليه إعادة كل صلاة صلاها وهو حامل له.

وخالف هذا ما لو شرب خمراً أو أكل ميتة أو شيئاً نجساً؛ فإنه لا يجب عليه أن يتقيأ على المذهب في "تعليق" القاضي أبي الطيب؛ لاتصال النجاسة بالمحل النجس، ولا كذلك ها هنا.

وعلى قول بعض الأصحاب: أنه يجب عليه أن يتقيأ؛ استدلالاً بأن عمر- رضي الله عنه شرب لبناً، فقيل له: إنه من إبل الصدقة؛ فتقيأه. فالمخالفة ثابتة أيضاً؛ لأنه لو صلى ولم يتقيأ صحت صلاته.

وقد ادعى في "التتمة": أن إيجاب تقيؤ الخمر ونحوه نص عليه الشافعي في صلاة الخوف، وكذا حكاه ابن الصباغ في باب الصلاة بالنجاسة، وقال: إنه الأصح.

ثم إذا قلنا: يجب القلع، فلم يتفق حتى مات الشخص، فهل يقلع؟ فيه وجهان في "تعليق" أبي الطيب:

أحدهما- قاله أبو إسحاق-: أن وليه بالخيار: إن شاء قلعه، وإن شاء تركه، إلا أن المستحب قلعه؛ كي لا يلقى الله وعليه نجاسة.

والثاني: لا ينزعه؛ لأن التكليف قد سقط عنه؛ وهذا ما حكاه الماوردي والمتولي؛ عملاً بقول الشافعي: فإن مات صار ميتاً كله والله حسيبه- أي: محاسبه- إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

وقال أبو سعيد الإصطخري: إنه يجب قلعه، بحيث لا يلقى الله- عز وجل حاملاً نجاسة. [كذا حكاه البندنيجي].

ص: 515

وفي "تلخيص" الروياني نسبة هذا القول إلى أبي إسحاق، قال البندنيجي: وليس بشيء.

وقال الإمام: إنه يبعد كل البعد إذا كان العظم قد اكتسى بالجلد واللحم؛ فإنه قد انقطعت عنه وظائف الصلاة والماء يجري على بشرة طاهرة، ومصيره إلى الله.

وظهور النجاسات والكم فيما إذا [داوى] جرحه بدواء نجس، أو خاطه بخيط نجس، أو وشم جلده بشيء نجس- كما قاله الماوردي في النجاسات- كما لو جبر عظمه بعظم نجس فيما ذكرناه، وخالف ما لو غصب خيطاً فخاط به جرحه، وخاف التلف من نزعه؛ فإنه لا ينزع بلا خلاف؛ لأنه يمكنه جبر حق مالكه بقيمته، وحق الله- تعالى- ها هنا من الطهارة لا جابر له؛ ولذلك وجب نزعه على وجه أو قول.

فرع- يقرب مما نحن فيه-: إذا وصلت المرأة شعرها بشعر نجس على قولنا بنجاسة الشعور، وجب عليها نزعه أمة كانت أو حرة، خلية من زوج أو متزوجة.

نعم: لو كان الشعر شعر حيوان طاهر غير الآدمي، فهل يجوز لها ذلك؟ ينظر:

فإن كانت ذات زوج، وفعلت ذلك لأجله، أو كانت أمة وفعلت ذلك لأجل الزينة لسيدها- جاز.

وإن لم تكن ذات زوج، ووصلت ذلك لتخطب، أو كانت أمة ففعلت ذلك ليرغب في شرائها:

فعبارة القاضي أبي الطيب وغيره من العراقيين: أن ذلك لا يجوز.

وقال البندنيجي: إنه مكروه؛ لأن فيه تغريراً، وهذا ما حكاه الرافعي عن الشيخ أبي حامد وطائفة؛ فإنهم قالوا: لا يحرم.

وعبارة الإمام في هذه الحالة: أن ذلك حرام، واستدل له بقوله- عليه السلام:"مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا"، وقوله- عليه السلام:"المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ" رواه مسلم.

ص: 516

ومعنى ذلك: أن عادة أهل الحجاز أن يتخذ المرء لنفسه ثوبَيْ جمال، فإذا أراد الرجل أن يخوِّف غريمه يلبس ثوبي جمال، ويحضر معه مجلس الحكم؛ ليوهم الغريم أنه يشهد عليه؛ فيقر سريعاً.

وقال هو وغيره من المراوزة فيما إذا كان لها زوج: إنه لا يجوز لها فعل ذلك بغير إذنه، وهل يجوز بإذنه؟ فيه وجهان:

أصحهما: الجواز.

ووجه المنع: عموم قوله صلى الله عليه وسلم في رواية أبي سعيد الخدري: "لَعَنَ اللهُ الوَاصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ، والوَاشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ، والوَاشِرَةَ والمُسْتَوْشِرَةَ، والنَّامِصَةَ والمُتَنَمِّصَةَ، وَالعَاضِهَةَ والمُسْتَعْضِهَةَ"، والواصلة: هي التي تصل الشعر، والمستوصلة: المستدعية ذلك.

وقيل: إن الواصلة التي تصل بين الرجال والنساء.

والتفسير الأول أشهر، وهو يقتضي المنع مطلقاً بالإذن ودونه.

وطرد القاضي الحسين والصيدلاني التفصيل والخلاف في تحمير وجهها، وتسويد شعرها، وتطريف أصابعها بالحناء مع السواد، أما مع الحناء وحده فهو جائز.

وقال الإمام: إنه يبعد إجراء الخلاف في تحمير الوجه مع إذن الزوج؛ إذ لم يرد خبر فيه حتى يجري على عمومه، ولا ينظر إلى معناه كما قلنا في الواصلة ونحوها، واحمرار الوجه قد يصدر عن غضب أو فرح ونحو ذلك.

قال: ولست أرى تسوية الأصداغ وتصفيف الطُّرَرِ محرماً، وتجعيد الشعر قريب من تحمير الوجه.

قلت: وفيما قاله نظر؛ لأن- عليه السلام جعل النامصة والمتنمصة شريكة

ص: 517

الواصلة والمستوصلة في اللعن، والنامصة- كما قال الماوردي-: هي التي تأخذ الشعور من حول الحاجبين وأعالي الجبهة، والمتنمصة: المستفعلة لذلك، وإذا شاركتها بسبب ذلك في اللعنة، دل على أنه محرم.

وأخذ الشعر من حول الأصداغ وكذا تجعيده في معنى أخذه من أعالي الجبهة وحول الحاجبين؛ لأن كلاًّ منها يُفْعَل زينةً، ومنه أخذ الصيدلاني وغيره إلحاق تحمير الوجه بالوصل.

وقال الغزالي: ولا خلاف في جواز تجعيد الشعر وتصفيف الطرر، وفي تحمير الوجه تردُّدٌ للصيدلاني، كذا هو في بعض النسخ، وفي بعض: تردد، ولم يذكر فيها الصيدلاني، [وهو الحق؛ لأن التردد نشأ من قول الصيدلاني] والإمام؛ فالصيدلاني كما ذكرنا قائل بأنه على التفصيل والخلاف، والإمام قاطع بالجواز كيف فرض الأمر.

وأما وصل شعرها بشعر آدمي: إن قلنا بنجاسته، فلا يجوز، وإن قلنا بطهارته، فلا يجوز أيضاً.

قال القاضي الحسين: لأن من كرامة الآدمي ألا يستعمل جزء منه، بل يدفن ويوارى.

وحكى الإمام عن الأئمة أنهم وجهوه بأنه دائر بين أن يكون شعر امرأة أو رجل، فإن كان شعر امرأة، فلا يجوز لزوج الواصلة النظر إليه، وكذا سيدها إن كانت أمة، وإن كان شعر رجل، فلا يجوز لها النظر إليه.

قال: وللنظر فيه مجال؛ فإن الأئمة اختلفوا في النظر إلى جزء منفصل من امرأة أجنبية، ويرد عليه لو وصلته بشعر محارمها ومحارم الزوج.

قلت: وهذا فيه نظر؛ [لأنها إنما] تصله ليحصل للزوج الاستمتاع [به، و] ذلك لا يجوز بشعر المحارم أيضاً.

ويجوز لها أن تصل شعرها بالوبر، وبما يخالف لونه لون شعرها.

قال الروياني في "تلخيصه": ثم حيث قلنا: إن [وصل الشعر] حرام، فلا يمنع من صحة الصلاة إذا قلنا بطهارته.

ص: 518

وقد تضمن الخبر لعن الواشمة والمستوشمة والواشرة والمستوشرة والعاضهة والمستعضهة.

والواشرة: هي التي تبرد الأسنان بحديدة؛ لتحدها وتزينها، والمستوشرة: المستدعية ذلك.

والعاضهة: هي التي تقع في الناس.

والواشمة: هي التي تنقض بدنها وتَشِمُه بما كانت العرب تفعله من الخضرة في غرز الإبرة؛ فيبقى لونه على الأبد.

والكل حرام.

قال العجلي: قال القاضي في "التعليق": ويزال الوشم بالعلاج، وإن لم يمكن إلا بالجرح، فلا يجرح، ولا إثم عليه بعد التوبة. وفيما قاله نظر من حيث إنه إنما يدوم إذا وضع والدم جار؛ فقد ينجس؛ فيشبه أن يكون كما لو حشا الجرح بدم أو دواء نجس، وهو يمنع من صحة الصلاة، ويجب إزالته إذا لم يخف من ذلك.

والوشم بالحناء والخضاب، قال الماوردي: إنه مباح، ليس مما يتناوله النهي. وهو مخالف لما حكيناه عن القاضي الحسين في بعض الأحوال، وهذا كله في حق النساء.

أما الرجال فيباح لهم خضاب الشعور بالحناء والكَتَم، وهو بالسواد محظور إلا أن يكون في جهاد العدو، قال الماوردي: لخبر ورد فيه. ولا يجوز أن يخضب يديه بالحناء إلا لحاجة.

قال: وإن صلى وفي ثوبه دم البراغيث، أو اليسير من سائر الدماء أو سلسل البول أو دم الاستحاضة- جازت صلاته؛ لأن ذلك يتعذر الاحتراز منه، فجعل عفواً؛ لقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله- عليه السلام:"بُعِثْتُ بِالحنيفيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ".

وقد أفهم كلام الشيخ أموراً:

أحدها: أن البدن ليس كالثوب في العفو عما ذكره، وهذا وإن أمكن توجيهه بما

ص: 519

سنذكره عن القاضي في الفرق بين دم البراغيث وغيره، لكن المنقول أن البدن في ذاك كالثوب إذا صادفه ذلك ابتداء، أما لو صادف الثوب، ثم اتصل سببه إلى البدن كما إذا حصل ذاك في الثوب [واتصل ذلك ببدنه]، أو لبس الثوب الذي فيه ذلك وبدنه رطب، أو حصل ذلك ببدنه، فعرق فتعدَّى من ذلك الوضع إلى غيره- ففي العفو عنه وجهان، المذكور منهما في "تعليق" القاضي الحسين: المنع، قال: بخلاف ما لو كثر دم البراغيث حيث يعفى عنه على وجه، والفرق: أنه علم هذا بإصابة ثوبه وبدنه، ثم طرأ العرق عليه، بخلاف دم البراغيث؛ فإنه لا يقع له العلم بوقوع دم البراغيث في الأصل.

والخلاف جارٍ فيما لو عرق، فتعدى ما بقي على المحل بعد الاستنجاء بالحجر من الأثر إلى موضع آخر.

قال الرافعي: لكن [الأظهر] هنا: الصحة.

الثاني: أن دم البق والقمل والبعوض والزنابير ونحو ذلك مما ليس له نفس سائلة، لا يلتحق بدم البراغيث، وهو ملحق به بلا شك، وكذا ونِيمُ الذباب وبول الخفاش.

ص: 520

الثالث: أنه لا يلحق بدم الاستحاضة دم القروح السيالة التي يدوم مثلها ونزف الدماء، وفي ذلك خلاف حكاه الرافعي عن رواية الإمام وغيره في أنه: هل يلحق بدم البراغيث البثرات فيعفى عن القليل منه، وفي الكثير وجهان، أو يلحق بدم الاستحاضة [فلا يعفى] عنه مع القلة والكثرة وجهاً واحداً؟ والذي حكاه الإمام عن شيخه: الثاني، [وهو ما أورده في "الوسيط"، ولفظ "النهاية" سنذكره، وهو دال على خلاف ما فهمه الرافعي عنه كما سنبينه.

وإذا جرينا على إلحاقه بدم الاستحاضة]، فالجواب عن الكل: أن الشيخ نبَّه بما ذكره على ما لم يذكره؛ لأنه في معناه.

تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أموراً:

أحدها: أنه لا فرق في دم البراغيث بين قليله وكثيره في زمن جرت العادة بحصوله فيه ومكان ذلك، أو لا خلاف في أنه إذا كان قليلاً في الزمان الذي جرت العادة أن يكون فيه والمكان، في صحة الصلاة معه مع الحكم بنجاسته؛ لما ذكرناه من التعليل.

ومنهم من جعل علة العفو القلة، وأثر التعليلين يظهر عند الكثرة.

نعم: لو حصل القليل في ثوبه أو بدنه [بفعله]، كما إذا قتل برغوثاً أو قملة ونحو ذلك عمداً- ففي العفو عنه وجهان مشبَّهان في "التتمة" و"الرافعي" في كتاب الصيام بما إذا فتح فاه قصداً، فدخله غبار الطريق، ومأخذهما: أن النظر إلى أن ذلك

ص: 521

القدر معفو عنه في الجملة أو إلى أن ذلك لا تعم به البلوى.

ومثلهما جارٍ فيما لو صلى على ثوب فيه دم براغيث، [أو لبس ثوباً فيه دم براغيث.

أما إذا كان ما أصاب ثوبه الذي هو عليه أو بدنه من دم البراغيث] ونحوه كثيراً، ففي العفو عنه وجهان:

أحدهما- وهو المحكي في "تعليق"[القاضي] أبي الطيب عن ابن سريج وأبي إسحاق-: العفو- أيضاً- وإن تفاحش؛ كما اقتضاه كلام الشيخ؛ إلحاقاً لنادره بغالبه؛ كما قلنا في المسافر: يجوز له القصر والفطر وإن لم يلحقه مشقة فيه.

قال الرافعي: وهو الأصح عند العراقيين وغيرهم.

قال البندنيجي والروياني في "تلخيصه": إنه المذهب.

والثاني- وهو الأصح في التهذيب، [وظاهر المذهب] في "النهاية"، والمجزوم به في "الحاوي" [و"الوجيز"]-: المنع؛ لأن ذلك لا يشق الاحتراز عنه، وهذا ما نسبه البندنيجي والروياني إلى الإصطخري.

فإن قلنا بالأول فلا يختلف الحال بالزمان والمكان كما اقتضاه كلام الشيخ.

وإن قلنا بالثاني، فهل يختلف بهما؟ فيه وجهان:

أحدهما- وهو الذي ذهب إليه المحققون-: أن الأمر يختلف؛ فإن التفاوت بهما

ص: 522

غالب بين؛ فمن الوفاء برعاية تعذر الاحتراز النظر إلى تفاوت الأسباب.

والثاني: لا يعتبر أقل ما يتوقع في أنقى الأمكنة والأزمنة ولا أكثرها، ولكن يعتبر وسطاً بين الطرفين.

قال الإمام: وهذا ليس بشيء، فإن ضبط هذا الوسط أعسر من التزام يتبع الأحوال.

ولو كان الدم الذي حصل بثوبه أو بدنه بفعله كثيراً، لم يعف عنه وجهاً واحداً؛ قاله في "التتمة".

والفرق بين القليل والكثير يأتي.

الأمر الثاني: أنه لا فرق في اليسير من الدم بين أن يكون منه أو من غيره، وعليه يدل قوله: من سائر الدماء. وهو ما حكاه البندنيجي عن نصه في القديم و"الأم"، وحكاه الماوردي وجهاً مع وجهين آخرين:

أحدهما: [أنه] لا يعفى عن اليسير من سائر الدماء؛ كما لا يعفى عن اليسير من العذرة ونحوها، وقد حكاه البندنيجي والقاضي أبو الطيب عن نصه في "الإملاء".

والثاني: أنه يعفى عن اليسير من دم نفسه دون اليسير من دم غيره، وبعضهم ينسب هذا إلى نصه في القديم و"الأم".

ثم قضية الوجه الأول الذي هو ظاهر كلام الشيخ: العفو عن دم الكلب والخنزير، وبعض المتأخرين استثناه، وقال: إنه نص على استثنائه الأئمة؛ لما خُصَّا به من التغليظ في النجاسة. وسلك القاضي الحسين [في "تعليقه"] طريقاً آخر، فقال: دم البثرات ونحوه إذا كان من بدن المصلي عفي عنه؛ لأنه يشق الاحتراز عنه، وهو قليل في نفسه، فلو كثر فهل يعفى عنه؟ فيه وجهان ينبنيان على أن علة العفو في المسألة قبلها تعذر الاحتراز أو القلة؟

ص: 523

فإن قلنا بالأول، عفي عنه أيضاً؛ إذ الاحتراز عما يتعذر عن القليل يتعذر عن الكثير. وإن قلنا بالثاني فلا يعفى عنه.

والخلاف جار فيما لو أصابه القليل من دم البثرات بتعاطيه؛ بأن فجرها كما حكاه المتولي وأبداه الإمام احتمالاً لنفسه، واستشهد على العفو عنه بما روي أن ابن عمر حَكَّ بثرة من وجهه، فخرج منها شيءٌ، فدلكه بين إصبعيه، وصلى.

ولو كان الخارج كثيراً لم يعف عنه وجهاً واحداً، كما قلنا في قتل البرغوث، بل قياس ما تقدم في ذلك عن القاضي الحسين يقتضي قطعه فيما إذا كان الخارج من البثرة قليلاً بفعله: أنه لا يعفى عنه، وأثر ابن عمر قد قال الإمام: لا يبعد أن يقال: لعله جرت يده بذلك في غفلةٍ، وقد تطوف اليد على البدن في النوم وأوقات الغفلات.

قلت: ولعل الخارج منها ما لا رائحة له، والمذهب أنه طاهر، كما سنذكره.

قال القاضي الحسين: ولو أصابه شيءٌ من دم غيره: [فإن كان قدر ما لا يعفى عنه إذا كان من دم نفسه، فمن دم غيره] أولى، وإن كان مما يعفى عنه من دم نفسه، فهل يعفى عنه من دم غيره؟ فيه وجهان، وهذا يقتضي أني كون فيما إذا أصابه من دم غيره شيءٌ كثير: أنه يعفى عنه على وجه؛ [لأنه] يعفى عنه من دم نفسه على وجه لا يعرفه العراقيون، وكلام الإمام وغيره مصرح بأنه لا يعفى عن الكثير من دم غيره، وهل يعفى عن اليسير منه؟ فيه وجهان:

أصحهما عند الغزالي: المنع، وقال الإمام: إنه الذي يجب القطع به.

والأظهر عند البغوي [والعراقيين- كما قال الرافعي]-: العفو كما [يعفى] عن ذلك من دم نفسه، وهو مما لا خلاف فيه عندهم، ولم يَحْكِ الرافعي غيره.

نعم: قال الشيخ أبو محمد: لطخات الدماميل والقرح التي لا تدوم غالباً ملحقة بدم الأجنبي.

قال الإمام: وهو ظاهر حسن؛ من جهة أن البثرات إذا كانت تكثر- وقد لا يخلو

ص: 524

معظم الناس في معظم الأحوال عنها- فلا يكاد ذلك يتحقق في الدمامير والجراحات.

وفي المسألة على الجملة احتمال؛ فإن الفصل بين البثرات وبين الدمامير الصغار عسير لا يدركه إلا ذو الدراية.

وذكر صاحب "التقريب" تردداً في الدماميل وما خرج من دم الفصد، ومال إلى إلحاقه بدم البراغيث، وصححه، على خلاف ما كان يراه الشيخ أبو محمد.

وظاهر هذا: أن التردد في الدماميل التي لا يدوم مثلها غالباً؛ لأن دم الفصد مما لا يدوم غالباً، وقد سَوَّاه به.

وهذا حكم الدماء، والقيح والصديد في معناه؛ لأنهما يكثران، ويحصل بهما الابتلاء، والبدن لا يخلو منهما؛ فلذلك لم يحتج الشيخ إلى التصريح بذكرهما.

وأيضاً: فإنهما دم استحال وتعفَّن في البدن، وهذا ما نص عليه في عامة كتبه [إلا "الأم"؛ فإنه] قال فيه: إن القيح والصديد أخف حالاً من الدم، ولكنه يمنع إذا بلغ لُمْعةً، حكاه البندنيجي والروياني، وقال: إن أبا حامد [قال:] وهذا لا يحكى. والمذهب الأول.

وأطلق في "الحاوي" القول بالعفو عن المِدَّة وماء القروح [والبثرات، وقال غيره في ماء القروح] وهو ما يعرق منه وينزل عنه-: إن كانت له رائحة، فهو كالقيح، وإن لم تكن له رائحة، فقد نص في "الإملاء" على ما يدل على أنه طاهر كالعرق، وأجراه في "الأم" مجرى القيح والصديد.

قال البندنيجي: فحصل في ماء القروح قولان:

المذكور منهما في "تعليق"[القاضي] أبي الطيب: الطهارة، وهو المذهب في "تلخيص" الروياني، وعلى هذا فلا يقال: إنه إذا صلى معه بأنه يعفى عنه؛ إذ العفو إنما

ص: 525

يكون عن النجس. نعم: إذا قلنا: إنه نجس، فهو كالقيح.

الثالث: أن سلس البول ودم الاستحاضة معطوف على "اليسير من سائر الدماء"، لأنه أقرب مذكور؛ فهو يفهم عدم العفو عما كثر من ذلك. كما يفهم قوله:"أو اليسير من سائر الدماء"، أنه لا يعفى عن الكثير منها، وليس الأمر كما أفهمه كلامه في سلس البول ودم الاستحاضة؛ بل العفو شامل للقليل منه والكثير، وحينئذ يتعين أن يكون معطوفاً على قوله: دم البراغيث؛ فإنه- على رأيه- لا يفرق فيه بين القليل والكثير، ويدل عليه من كلامه ذكر دم الاستحاضة؛ فإنه لو كان المعفو عنه منه قدر ما يعفى عنه من سائر الدماء، لم يكن لإفراده بالذكر معنى.

قال بعضهم: وكان الأحسن بالشيخ أن يقول: أو دم الاستحاضة أو سلس البول؛ [لأن دم الاستحاضة هو الأصل في العفو، وسلس البول] ملحق به.

وقد بقي الكلام في الفرق بين القليل المعفو عنه مما ذكرناه، والكثير الذي لا يعفى عنه، ونصوص الشافعي مختلفة فيه ما حكاه الروياني وغيره:

فقال في القديم: القليل من دم البراغيث وما في معناه، قدر الكف؛ حكاه الإمام وغيره.

وقال في موضع آخر منه- كما حكاه أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما-: القليل دون الكف، والكثير قدر الكف.

ص: 526

وحكى الإمام أنه قال في القديم أيضاً: إن القليل قدر الدينار. وهو مشكل لا نعرف له مستنداً، وهو في حكم المرجوع عنه.

وحكى البندنيجي والروياني في "تلخيصه": أنه قال في "الأم": القليل هو اليسير كدم البراغيث؛ لأن الناس لا يتعافونه ويتجاوزونه، وأما اللمعة- وهو ما دون الدينار والدرهم- فلا يُعفَى عنه قالا: وهذا هو المذهب.

قلت: ويشهد له قوله- عليه السلام: "تُعَادُ الصَّلاةُ فِي قَدْرِ الدِّرْهَمِ [مَن الدَّمِ] " أخرجه الدارقطني.

وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب أنه قال في "الأم": وحد اليسير ما يتعافاه الناس. وهو الصحيح، وحكى الإمام أن الأئمة استنبطوا وجوهاً من مسالكه في الجديد، فقال قائلون: إن كان موضع التلطيخ بحيث يلوح ويلمع للناظرين من غير احتياج إلى تأمل، فهذا في حد الكثير، قال: والمسلك للفقيه في ذلك أن المقدار الذي يجري التلطيخ به، ويتعذر التصوُّن منه هو القليل المعفو عنه؛ فيأخذ القليل مما يأخذ منه أصل الفعل، وهو تعذر الاحتراز.

فلو ارتاب المصلي، فلم يدر أن اللطخ [الذي] به في حد ما يعفى عنه أو في

ص: 527

حد الكثير- قال: فهذا فيه احتمال [عندي]؛ من جهة أن القليل معفو عنه، وقد أشكل أن ما فيه الكلام هل تعدى الحد لا؟ والأصل العفو.

ويجوز أن يقال: الكثير منه معفو عنه، وقد أشكل أن ما فيه الكلام هل هو منحط عن حد الكثير أم لا؟ والأصل إيجاب إزالة النجاسة. ويمكن أن يقرب هذا من صلاة المرء وهو ناسٍ لنجاسته، ثم يعتضد الكلام بظهور العفو في النجاسات.

قال: ثم الذي أقطع به: أن للناس عادةً في غسل الثياب في كل حين؛ فلابد من اعتبارها؛ فإن من لا يغسل ثوبه الذي يصلي فيه عما يصيبه من لطخ سنة مثلاً، تتفاحش مواقع النجاسات من هذه الجهة عليه، وهذا لاشك في وجوب اعتباره.

قال: ومما أتردد فيه [أن] الثوب السابغ إذا تبدلت النجاسة عليه، فلتفريقها أثر في العفو فيما أحسب، ولاجتماعها؛ فإن من توالت منه أفعال كثيرة تبطل صلاته، وإن فرقها وخلل بينها بسكتة لم تبطل، والاحتمال [في هذا] ظاهر.

وفي "التتمة" ما يوهم أن الكلام في أن المعفو عنه كذا، أو كذا حال التفرق بحيث إذا جمع بلغ ذلك؛ فإنه لما حكى أن العفو عنه قدر الكف، قال: فإذا كان على ثوبه متفرقاً في مواضع ما لو جمع لم يزد على قدر الكف جعل عفواً.

قال- رحمه الله: وإن كان على ثوبه أو بدنه نجاسة لا يدركها الطَّرْف من غير الدماء، فقد قيل: يصح؛ لأنها نجاسة يشق الاحتراز منها، فعفا [الشارع] عنها كغبار السرجين، وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن القديم، وقال النواوي: إنه الأصح.

وقال الإمام: إن الأصحاب استدلوا له بأن السلف كانوا لا يحترزون من عود الذباب الواقع على النجاسة وقت قضاء الحاجة إلى [ثيابهم].

وقيل: لا يصح، [قال القاضي حسين: كما لا تصح] صلاته إذا أصاب ذلك

ص: 528

بدنه، [قال:] وهو الأظهر، وما نقل عن الأولين فلا دلالة فيه؛ لأن أرجل الذباب تجف في الهواء بين ارتفاعها على النجاسة ووقوعها على الثوب، [وأيد ذلك أنه لا يظهر لذلك أثر على الثوب] وإن كثر، والقليل إذا توالى وكثر [ظهر] أثره على الثوب.

وقيل: فيه قولان، ووجههما ما ذكرناه، وقد تقدم مثل هذه الطرق فيما إذا أصاب ذلك ماء قليلاً.

وإذا جمعت بينها حصل في المسألتين طرق:

أحدها: أنه يعفى عن ذلك فيهما، وهو المختار في "المرشد".

والثاني: لا يعفى عنه فيهما، [وهو ما قال البندنيجي هنا: إنه المذهب.

والثالث: في العفو عنه فيهما] قولان.

والرابع: يعفى عنه في الثوب دون الماء؛ [لأن] الثوب أحسن حالاً من الماء؛ فإنه يعفى عن دم البراغيث ونحوه فيه، ولا كذلك الماء.

والخامس: يعفى عنه في الماء دون الثوب؛ لأن الماء قوة الدفع للنجاسات.

وهذه الخمسة حكاها البندنيجي هكذا في كتاب الطهارة.

قال: وإن كان على قرحة دم يخاف من غسله، أي: ما ذكرنا أنه يبيح التيمم، وهو أزيد مما يعفى عنه- صلى فيه؛ لمجموع قوله تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29]، وقوله- عليه السلام:"إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَاتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ".

قال: وأعاد، أي: إذا غسله وجوباً؛ لأن ذلك عذر نادر لا يدوم غالباً، وإذا أعاد فما الفرض منهما؟ فيه الأوجه السالفة.

وقال في القديم: لا يعيد؛ لأنها نجاسة عذر في تركها، فلم تجب عليه الإعادة بسببها، كدم الاستحاضة.

ص: 529

قال: وتكره الصلاة في الحمام.

قال الإمام: لأنه صح أنه- عليه السلام نهى عن الصلاة في سبعة مواطن: المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، وبطن الوادي، والحمام، وظهر الكعبة، وأعطان الإبل.

وقد أخرج هذا الخبر بمعناه الترمذي، لكن في بعض رجاله مقال.

واختلف الأصحاب في على النهي:

فقيل: إنها النجاسة؛ فإن الحمام محل النجاسات، وقد نص على هذا في "الأم" كما قال البندنيجي والروياني.

فعلى هذا: لو صلى في المَسْلَخ لا يكره، وقضيته أن يقال: لو غسل موضعاً منها، وصلى فيه لا يكره أيضاً.

وقيل: إنها كون الحمام مأوى الشياطين ومحل كشف العورات.

فعلى هذا يكره في المسلخ.

وفي "الحاوي": أن الأصحاب اختلفوا في معنى النهي عن الصلاة في الحمام والمجزرة:

فمنهم من قال: خوف النجاسة؛ فعلى هذا تكون الصلاة فيهما كالصلاة في المقبرة: إن تيقن النجاسة لم تصح، وإن تيقن الطهارة صحت صلاته مع الكراهة، وإن شك فعلى وجهين.

ومنهم من قال: العلة في الحمام أنه مأوى الشياطين، وفي المجزرة: خوف نفور الذبائح.

ص: 530

فعلى هذا تكره مع تحقق الطهارة ومع الجهل بها، وتكره في المسلخ؛ قاله الروياني.

وإذا عرفت ذلك عرفت أن كلام الشيخ على إطلاقه عند تحقق الطهارة.

قال: وقارعة الطريق؛ للخبر، والمعنى فيه: أذى المارة والمجتازين، وتأذِّي المصلي بهم، وقلة خشوعه بسبب اجتيازهم.

وقيل: بل المعنى: أن الغالب عليها النجاسة.

فعلى الأول: لا تكره في طريق في البرية، وعلى الثاني تكره مطلقاً. وتكره في طريق البلد مع الحائل بكل حال، وبدون الحائل في صحتها مع الكراهة أو البطلان القولان المذكوران في تعارض الأصل والغالب.

قال: وأعطان الإبل؛ للخبر، وقد روى أبو داود أنه- عليه السلام قال:"لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الإِبِلِ؛ فإنَّهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ".

وأعطان الإبل: مباركها عند الماء، واحدها: عَطَن، والذي نص عليه الشافعي: أن العطن هو الموضع الذي تحول إليه الإبل إذا شربت؛ لِيَرِدَ غيرها.

قال [القاضي] أبو الطيب: وقد قيل: إنه الحوض الذي تشرب منه، ويكون على بئر يستقي منها الماء، وتشرب من الحوض.

قال: ولا يكره في مُرَاح الغنم؛ لما روى مسلم عن جابر بن سمرة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: "أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أنصلي في مبارك الإبل؟

ص: 531

قال: لا".

وروى عبد الله بن المغفل أنه- عليه السلام قال: "إِذَا أَدْرَكْتُمُ الصَّلاةَ فِي مُراَح ِالغَنَم فصَلُّوا؛ فإِنَّها سَكِينَةٌ وَبَرَكَةٌ، وَإِذَا أَدْرَكْتُمُ الصَّلاةَ فِي أَعْطَانِ الإِبِلِ فَاخْرُجُوا ثُمَّ صلُّوا؛ فإِنَّها جِنٌّ مِنْ جنٍّ خُلِقَتْ، أَلا ترونَها كَيْفَ تَشْمَخُ بِآنَافِهَا إِذَا نَفَرَتْ؟!

وهذا الخبر فيه إشارة إلى الفرق بين المكانين؛ فإن أعطان الإبل محل الشياطين، والصلاة في ذلك مكروهة، قال- عليه السلام:"اخْرجُوا مِنْ هَذَا الوَادِي؛ فإِنَّ فِيهِ شَيْطَاناً" ومراح الغنم فيه البركة، روي أنه- عليه السلام قال:"إِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ".

وأيضاً: فإن الصلاة في الأعطان تعرى عن الخشوع؛ لما يخاف المصلِّي على نفسه من نفورها، وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله- عليه السلام: "أَلا ترَوْنَهَا كَيْفَ تَشْمَخُ

ص: 532

بآنافِهَا"، ولا كذلك في مراحل الغنم، وإليه الإشارة بقوله- عليه السلام: "فَإِنَّهَا سَكِينَةٌ".

قال الشافعي في "الأم": ومراح الغنم: هو الذي تأوي إليه الغنم بالليلن وهو ما طابت تربته، واستعلت أرضه، واستدار من مهب الشمال موضعه.

قال الأصحاب: وفي هذا إشارة إلى أنها ليست بوسخة، وإلى الفرق بينه وبين أعطان الإبل؛ فإنها يراد بها الموضع الوسخ والمكان الخرب؛ لأنها عليه أصلح، والأصلح للغنم الموضع الخالي عن ذلك.

ثم اعلم أن محل الكلام في أعطان الإبل ومراح الغنم إذا كانا خاليين عن البول، أما لو كان بهما ذلك، فلا تصح الصلاة فيهما مع عدم الحائل الطاهر، ومعه تصح مع الكراهة كما تقدم.

قال: ولا تحل الصلاة في أرض مغصوبة، ولا ثوب مغصوب؛ لأجل حق الغير، وقد قال- عليه السلام:"لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ".

ص: 533

قال: ولا ثوب حرير، أي: إذا كان المصلي رجلاً- كما ستعرفه في باب ما يكره لبسه- وما أكثره إِبْرَيْسَم في معناه.

قال بعضهم: وإنما ذكر الشيخ ذلك في هذا الباب؛ لأنه شبيه بالثوب والحل النجس في الستر واللبث والتحريم، وإن خالفهما في عدم الإعادة كما ستعرفه.

قال: فإن صلى فيه لم يُعِدْ؛ لأن المنع لا يختص بالصلاة. نعم: هل يقال: إنها صحيحة فيسقط الفرض بها، أو سقط عندها لا بها؟ هذا ما اختلف فيه الناس في الأرض المغصوبة، والذي ذهب إليه الأكثرون: الصحة.

قال القاضي الحسين: ومن أصحابنا من قال: لا تصح. وهو مذهب المعتزلة، وكلام الشيخ يميل إليه، وهو ما اختاره الإمام فخر الدين.

ص: 534

ثم ظاهر كلام الشيخ المنع من الصلاة في الثوب الحرير، سواء وجد غيره أو لا، وهو وجه في المسألة مبني على ما إذا لم يجد إلا ثوباً نجساً لا يصلِّي فيه؛ حكاه القاضي الحسين.

وقال ابن الصباغ: [والذي] عندي أنه يصلي فيه؛ لأن العذر يبيع [كالحِكَّة]، وبه جزم في "التتمة"، وهذا نظير ما سلف: أنه إذا لم يجد إلا إناء من ذهب أو فضة، جاز له استعماله.

والفرق بينه وبين الثوب النجس: أن الصلاة تصح فيه بلا خلاف مع القدرة على غيره، ولا كذلك الثوب النجس.

ولا خلاف في أنه لا تحرم عليه الصلاة في الثوب ذي الأعلام والصور. نعم: تكره فيه وإليه وعليه؛ إذا كان يلهيه؛ لما روي عن عائشة قالت: كان لي ثوب فيه صور، فكنت أبسطه، وكان- عليه السلام يصلي عليه، فقال:"أَخْرِجِيهِ عَنِّي. فجعلت منه وسادتين".

قال: وإن اشتبه عليه ثوب طاهر وثوب نجس، صلى في الطاهر على الأغلب عنده، أي: بالاجتهاد؛ لأن طهارة الثوب شرط في الصلاة، فجاز الاجتهاد فيها عند الاشتباه كالقبلة.

وظاهر كلام الشيخ: أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون قادراً على غيرهما أو معه ثوب طاهر غيرهما، وهو المذهب، لكن الأفضل أن يصلي في الطاهر بيقين.

وقيل: لا يجوز له الاجتهاد مع وجود ثوب طاهر بيقين، وقد تقدم مثله في الأواني، وهو جارٍ فيما إذا كان معه ما يقدر على غسل أحد الثوبين المشتبهين به.

قال في "التتمة": لكن بالترتيب؛ لأنه ثَمَّ لا يلحقه ضرر إذا منعناه من الاجتهاد،

ص: 535

وهنا يلحقه ضرر بتفويت الماء عليه، وربما يحتاج إليه لأمر آخر؛ فلا يلزمه ذلك.

نعم: لو اجتهد، فأدى اجتهاده إلى نجاسة أحدهما وطهارة الآخر، فغسل النجس بزعمه، فهل يصلي في الآخر؟ فيه الوجهان.

وقد منع المزني من الاجتهاد في الثوبين مطلقاً، موجهاً ذلك بأنه قادر على الوصول إلى أداء فرض بيقين بأن يصلي في كل ثوب صلاة، ولا يجوز أن يؤديه بالاجتهاد كمن نسي صلاة من الخمس [لا يعرف عينها، يصلي الخمس]، قال: وخالف هذا الإناءين حيث جاز له الاجتهاد فيهما؛ لأنه لو أمر أن يتطهر بكل واحد منهما، لكان حاملاً للنجاسة بيقين.

وهذا من المزني تخريج على مذهب الشافعي، وإلا فمذهبه فيمن نسي صلاة من الخمس: أنه يصلي صلاة واحدة أربع ركعات ينوي بها الفائتة، ومذهبه في الأواني: أنه يريقها، ويتيمم.

وقد رد الأصحاب عليه قوله، وقالوا: لو فعل ما ذكره، كانت الصلاتان باطلتين؛ لأنه يدخل في كل منهما بثوب لا يتحقق طهارته، ولا هو ظان لها؛ فهو متردد في الشرط، والشك في الشرط شك في المشروط؛ فلا يصح منه؛ للإخلاص المأمور به في العبادة، ويلزمه عليه ألا يجتهد في جهة القبلة، وأن يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات.

وهذا الإلزام يمكنه أن يخرج عنه بأن يقول: الأصل في كل ثوب الطهارة، فإذا صلى فيه تمسك بأصل سابق فأثار له ظناً بالصحة، ولا كذلك القبلة؛ فإنه ليس الأصل في كل جهة أنها القبلة.

نعم: الفرق بين ما نحن فيه وبين ما تمسك به: أنه إذا صلى خمساً، فهو دائر بين صلاة فريضة أو نافلة بنية الفريضة، والكل قربة صحيحة، وهو في الثوبين دائر بين صلاة صحيحة أو باطلة.

ولأن المشقة تلحقه في الثياب؛ فإنا لو كلفناه ذلك، للزم أن نكلفه إذا اشتبه عليه

ص: 536

ثوب نجس بعشر ثياب طاهرة فأكثر: أن يصلي في كل ثوب صلاة، ولا كذلك فيما إذا نسي صلاة من الخمس؛ فإنه لا يزيد عليها.

والحكم عندنا فيما لو اشتبه عليه ثوب طاهر بثياب نجسة أو بالعكس، كما لو اشتبه الثوب بالثوب، ولا يجب عليه عندنا إعادة الاجتهاد لصلاة أخرى.

قال الماوردي: والفرق بينه وبين القبلة: أنها في موضعها لا تنتقل في أحوالها؛ فيكون مهبُّ الشمال في وقت قبلةً له، ومهب الجنوب في وقت قبلة له، وقد يكون ضدُّهما في وقت قبلةً له، ومهب الجنوب في وقت قبلة له، وقد يكون ضدُّهما في وقت قبلةً له؛ لتغير أحوال وتنقّل أماكنه؛ فلأجل ذلك وجب تكرار الاجتهاد؛ لتكرُّر الصلوات، والثوب الطاهر محكوم له بالطهارة في كل زمان؛ ولأجل ذلك لم يلزمه إعادة الاجتهاد.

وقال القاضي الحسين والمتولي: يجب عليه أن يعيد الاجتهاد ثانياً، وهو الذي صححه الرافعي والنواوي، فإن أدى اجتهاد إلى ما [أدى] إليه الأول فذاك، وإن أداه إلى طهارة الثاني، قال القاضي الحسين: فحكه حكم ما لو وجد ثوباً نجساً فقط، وفي وجوب استعماله وجهان:

فإن قلنا: يجب، استعمل أي الثوبين شاء، وأعاد الصلاة.

وإن قلنا: لا يجب، فلا يصلي في واحد منهما، بل يصلي عارياً، [وقد] بينا حكم العاري.

وقال في "التتمة" فيما إذا أدى اجتهاده الثاني إلى طهارة الثاني، ونجاسة الأول: كان عليه- على الصحيح من المذهب- أن ينزع الأول ويلبس الثاني، وتصح

ص: 537

الصلاتان كما في القبلة، وهو ما ذكره في "الروضة".

قال المتولي: وخالف هذا ما إذا اجتهد في الأواني، وتغير اجتهاده؛ حيث لا نأمره بموجب الثاني؛ لأنا لو أمرنا به، احتجنا أن نأمره بغسل ما وصل إليه الماء في الكرة الأولى من جوارحه وثيابه، وتلك أفعال تلزمه بسبب استعمال الماء الأول لا بسبب الصلاة، وها هنا لبس الثوب الآخر يلزمه بسبب الفرض المتوجه عليه لا بسبب اللبس الأول؛ فصار نظير مسألة القبلة.

قلت: وأيضاً: فإنه في الأواني يؤدي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد، ولا كذلك في الثياب.

وقال الماوردي فيما إذا أعاد الاجتهاد، فبان له نجاسة ما صلى فيه وطهارة ما تركه: إن علم ذلك قطعاً أعاد صلاته، وإن كان عن اجتهاد فلا يعيد ما صلى بالأول، ولا يسعه أن يصلي في الأول، ومذهب الشافعي: أنه يصلي عرياناً، وعليه الإعادة.

وقال ابن سريج: يصلي في الثاني ولا يعيد. على نسق ما قاله في الإناءين.

وفي "الوسيط" في باب استقبال القبلة: أن القولين في الإعادة عند تيقن الخطأ في القبلة جاريان في الثياب والأواني، وذلك صريح بإجراء الخلاف في الحالة التي جزم بها الماوردي بالإعادة.

فروع:

أحدها: إذا تلف أحد الثوبين قبل الاجتهاد، فهل له أن يجتهد في الثاني؟ فيه وجهان، أصحهما: لا، وهو اختيار ابن سريج.

[الثاني:] إذا غلب على ظنه نجاسة أحدهما فغسله، قال العراقيون: فله أن يصلي في كل واحد منهما منفرداً.

وقال القاضي الحسين: في جواز صلاته فيما لم يغسله الوجهان في صلاته بالاجتهاد مع إمكان صلاته في ثوب طاهر بيقين.

فإن قلنا: يجوز، فهل يجوز أن يصلي فيهما جميعاً؟ فيه وجهان، أصحهما في "الحاوي": نعم.

ص: 538

والخلاف جارٍ فيما لو كانت النجاسة في أحد كميه واشتبه عليه، وقلنا: يجوز الاجتهاد فيهما، فاجتهد، فأدى اجتهاده إلى نجاسة أحدهما، فغسله- فهل يصلي في الثوب أم لا؟ حكاه القاضي الحسين وغيره، واختار الشيخ أبو محمد فيهما المنع، واختار الصيدلاني الجواز، قال الإمام: وهو الظاهر عندي.

[الثالث:] إذا اجتهد، ولم يغلب على ظنه طهارة واحد منهما، فإن أمكنه تطهير أحدهما، لزمه.

وفي "التتمة" وجه آخر: أنه لا يلزمه؛ لأنه لا يتحقق نجاسة ما يغسله، وتكليفه غسل ما لا يتحقق نجاسته إضرار به.

وإن لم يمكن غسل واحد منهما، صلى عرياناً، وأعاد؛ لأنه صلى ومع ثوب طاهر بيقين؛ قاله ابن الصباغ.

وحكى المتولي معه وجهاً آخر: أنه يصلي في أيهما شاء، ويعيد.

وقال الماوردي: إن مذهب المزني: أنه يصلي في أحدهما، ويعيد في الآخر- قد ساعده عليه بعض الأصحاب في هذا الموضع، ولو فعل ذلك أجزأه على مذهب الشافعي- أيضاً- وإن كان لا يوجبه عليه، وفيه نظر؛ لما أسلفناه عن غيره.

قال: وإن خفي عليه موضع النجاسة في الثوب غسله كله؛ لأن أثر غلبة الظن الحاصل من الاجتهاد إنما هو في دفع المانع العارض للسبب الأصلي المقتضي للطهارة، وإذا زال المانع عمل السبب الأصلين والثوب الواحد زال عنه اليقين بتحقق النجاسة، ولم يبق فيه أصل يرجع إليه بعد الاجتهاد، وطهارة موضع منه لا تفيد غلبة الظن والطهارة فيما عداه.

نعم: إذا كانت النجاسة في أحد كميه، واشتبه عليه، فهل يتحرى فيهما؟ فيه وجهان، المختار في "المرشد" منهما: الجواز.

قال الماوردي: وعلى الوجهين يتخرج ما إذا أخبره شخص بوقوع النجاسة في أحدهما، هل يجوز له قبول خبره؟ إن قلنا: لا يجوز الاجتهاد، فلا يجوز، وإلا فيجوز.

والوجهان في الأصل جاريان- كما قال القاضي الحسين- فيما لو أصاب أحد

ص: 539

طرفي العمامة نجاسة، وخفي عليه، فلا خلاف في أنهما إذا فصلا، جاز الاجتهاد فيهما، بخلاف ما لو شقَّ الثوب النجس نصفين؛ فإنه لا يجوز [له] الاجتهاد؛ لاحتمال وقوع النجاسة في محل القطع.

وقال ابن سريج: إذا خفي عليه موضع النجاسة [من الثوب] فغسل بعضه كفاه.

والمذهب: الأول.

وقد أفهم قول الشيخ: "وإن خفي عليه موضع النجاسة"، أنه لو عرف موضع النجاسة غسلها فقط، وهو كذلك، اللهم إلا أن يكون الثوب قبل وقوع النجاسة- أيضاً- مغسولاً؛ فإن المتولي حكى وجهين:

أحدهما: يغسل موضع وقوعها فقط.

والثاني: يغسله كله.

وأفهم قوله: غسل كله، أنه لو غسل نصفه مرة، ثم نصفه الآخر مرة أخرى: أنه لا يجزئه، وهو المحكي عن صاحب "التلخيص"، وفي "النهاية" و"الإبانة" و"تعليق" القاضي الحسين والبندنيجي؛ لأن ورود النجاسة مُتَيَقَّن، والغسل على هذه الصفة لا يفيد زوال النجاسة بيقين؛ فإنه لا يمنع تقدير النجاسة على منتصف الثوب، ولو فرض الأمر كذلك لكان الغسل المفروض فاسداً.

وقال صاحب "الإفصاح": إن ذلك يجوز وإن كان الثوب متضمِّخاً بالنجاسة؛ كما قاله القاضي الحسين، ويقال: إنه الأصح في "التهذيب".

وقال الإمام: إنه مزيف، متروك عليه، غير معدود من المذهب، والوجه: القطع بالأول.

قال القاضي الحسين: وهو اختيار القفال، والأصح.

ومن الأصحاب من قال: يتصور غسله في دفعتين بأن يصب [الماء] على أعلى الثوب إلى النصف، ثم [يصبه] على النصف الباقي؛ لأن البلة لا تترادُّ إلى الأعلى؛

ص: 540

فلا تنتشر إليها؛ لأن طبع كلِّ مائِع الانحدارُ. قال: وهذا غير صحيح.

[والبندنيجي قال: إن خلافه ليس بشيء].

فرع: لو لم يجد ما يغسل به الثوب، ولا شيء معه غيره، صلى عرياناً، ولا إعادة عليه؛ نص عليه في "المختصر" وعامة كتبه؛ كما قال البندنيجي، ولم يَحْكِ الماوردي غيره.

وقال في "مختصر" البويطي مثل هذا، ثم قال: وقد قيل: يصلي فيه [ويعيد.

قال جمهور العراقيين: وهذا ليس قولاً في المسألة، ولكنه] حكاه عن غيره.

والخراسانيون والقاضي أبو الطيب والروياني في "تلخيصه" أخذوا بظاهره، وجعلوه قولاً ثانياً في المسألة.

ومنهم من حكى الخلاف في المسألة وجهين مع وجه ثالث: أنه يتخير بين أن يصلي فيه أو عرياناً.

ثم إذا قلنا بمذهب العراقيين، فاضطر إلى لبسه- لحرٍّ أو برد- صلى فيه، وأعاد على الجديد، وعلى القديم: لا يعيد؛ كما لو صلى وعلى قَرْحَةِ دم يخاف من غسله.

والخلاف في الإعادة جارٍ- على ما حكاه المتولي- فيما إذا قلنا: إنه [لا] يجب عليه أن يصلي فيه عند فقد الخوف.

[والقاضي الحسين قال: إن قلنا: يلزمه لبسه، صلى فيه، وأعاد، إلا على رأي المزني في أن من ترك ركناً أو شرطاً؛ للعجز- لا إعادة عليه.

وإن قلنا: لا يصلي فيه، فهل يصلي قائماً أو قاعداً؟ فيه قولان، أظهرهما: الأول، وعلى هذا: لا إعادة عليه.

وعلى الثاني: هل يضع الجبهة على الأرض أو يدنيها من الأرض؟ فيه وجهان.

ص: 541

وعلى الوجهين يلزمه الإعادة في ظاهر المذهب].

ولو كانت المسألة بحالها، لكن عرف موضع النجاسة من الثوب، فهل يجب قطع موضعها، قال القاضي الحسين والمتولي: إن كان أرش النقص يزيد على أجرة مثله، لم يلزمه، وإلا لزمه.

وقال الشاشي: هذا تعسف؛ فإن الزمان الذي يصلي فيه لا أجرة لمثله حتى يقابل بها الأرض، بل الوجه أن يقابل الأرش بقيمة الثوب؛ فإنه يلزمه ابتياعه بثمن المثل.

قلت: وهذا لا وجه له؛ لأنه إذا ابتاع الثوب، صلى فيه، وبقيت ماليَّته، وبالقطع تزول المالية.

وقد نَجَزَ شرحُ مسائل الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به:

أحدها: إذا خفي عليه موضع النجاسة من أرض:

فإن كانت واسعة: كالصحراء، صلى في أي موضع شاء منها بغير اجتهاد.

وإن كانت ضيقة، أو كانت النجاسة في بيت- لم يجز أن يصلي فيه حتى يغسله على أصح الوجهين؛ لأنه كالثوب الواحد. ومقابله: أن يصلي فيه حيث شاء من غير اجتهادٍ؛ كالصحراء؛ كذا قاله أبو الطيب، وكلام البندنيجي يشير إليه.

قال بعضهم: وهذه المسألة شبيهة بما إذا اختلطت أخته بنسوة: فإن كثرن جاز أن ينكح من شاء منهن، وإلا فلا يجوز.

والرافعي قال: إنه هل يجوز أن يجتهد فيه، ويصلي فيما يغلب على ظنه طهارته، أو هو كالثوب إذا وقعت فيه نجاسة لم يعرف موضعها؟ فيه الوجهان، وقال: إنهما جاريان في البساط إذا وقعت فيه نجاسة.

والذي حكاه القاضي الحسين والمتولي فيه: أنه يتحرى في البساط عند كل صلاة إلى أن يبقى من البساط قدر محل النجاسة.

ص: 542

وألحق في "التتمة" البيت به.

ولا خلاف في أن النجاسة لو كانت في أحد البيتين، اجتهد فيهما.

الفرع الثاني: إذا أصاب ثوبَهُ أو بدنَهُ نجاسةٌ، واشتبه عليه محلها، وأصاب بيده المبلولة بعض بدنه أو ثوبه- لم ينجس؛ لأن الأصل الطهارة.

الفرع الثالث: وقد جرت العادة بأن يستعان بالثيران في دَوْس الغلة، وكثيراً ما تبول وتروث، فإذا اتخذ خبزاً من غير غسل الحنطة فهو طاهر، ولا يجب غسل الفم [من تناوله؛ لعدم تحقق النجاسة، والاحتياط غسل الفم]، قاله القاضي الحسين، والله أعلم.

ص: 543