الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب موقف الإمام والمأموم
قال: السنة: أن يقف الرجل الواحد عن يمين الإمام، أشار الشيخ بذلك إلى ما روي عن جابر قال: سرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [في غزوة، فقام فصلى، فتوضأت، ثم جئت فقمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم] فأخذ بيدي؛ فأدارني حتى أقامني عن يمينه؛ فجاء جبار بن صخر حتى قام عن يساره؛ فأخذنا بيديه جميعاً حتى أقامنا خلفه، أخرجه مسلم.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: بت عند خالتي ميمونة؛ فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل؛ فقمت معه عن يساره؛ فتناولني من خلف ظهره؛ فجعلني عن يمينه، أخرجه البخاري ومسلم.
وروي: فأخذني بيمينه.
وهذا وإن ورد في حق الصبي؛ لأن ابن عباس كان -إذ ذاك- صغيراً؛ فهو يثبت ذلك في حق الكبير من طريق الأولى، [ومنه يؤخذ أن الصبي في هذه السنة كالرجل؛ كما يفهمه قول الشيخ:"وإن حضر رجلان، أو رجل وصبي، اصطفا] خلفه".
قال في "التتمة": ويستحب أن يتأخر الواقف عن يمين الإمام عنه قليلاً.
ثم قول الشيخ: "السنة أن يقف الرجل عن يمين الإمام"، يفهم أنه ليس
السنة في حق المرأة أن تقف عن يمينه، وأفهم قوله من بعد:"والمرأة خلف الخنثى"، أنها تقف خلفه، وبذلك صرح الأصحاب؛ مستدلين برواية أبى داود عن [أبي] إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته؛ فأكل منه، ثم قال: قوموا فلأصلي لكم؛ فقام عليه السلام فصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا؛ فصلى لنا ركعتين، ثم انصرف. وأخرجه البخاري، ومسلم.
واليتيم: ضميرة بن أبي ضميرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، له ولأبيه صحبة؛ قاله في مختصر السنن.
وقيل: كان أخاً له اسمه عبد الله.
والعجوز هى: مليكة جدة إسحاق أم أبيه عبد الله بن أبي طلحة، وهي [أم سليم] زوج أبي طلحة، وهي أم أنس بن مالك؛ قاله أبو عمرو النميري.
وقال غيره: هي جدة أنس بن مالك أم أمه.
ووجه الدلالة منه على المدعي: أنه جعلها خلف صف الرجال، ولم يسوها به؛ فلئلا تقف إلى جانب الإمام أولى.
وقد أفهم قول الشيخ: "والسنة كذا": أنه لو تركه، وفعل خلافه جاز؛ ولذلك احتاج أن يذكر الحكم في حال التقدم؛ لأنه كالمستثنى من ذلك، ولا خلاف
في أنه إذا خالف ذلك صحت صلاته، إلا أنه فعل مكروها؛ [لأن ترك السنة مكروه]، واستدل الأصحاب للصحة فيما إذا كانت المخالفة بالوقوف على اليسار بخبر جابر وابن عباس؛ فإنه عليه السلام لما يأمرهما بالاستئناف.
قال: والخنثى خلفهما؛ لجواز كونه امرأة، ومن هنا يؤخذ [أنه] لو لم يكن مع الإمام إلا خنثى وقف خلفه، وعليه نص في "المختصر"، ولم يحك الأصحاب سواه.
وقد أفهم العطف أن السنة وردت بوقوف الخنثى خلف الرجل وإمامه، وفيه نظر؛ لأن المفهوم من لفظ "السنة": ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر به صريحاً، ولو كان ذلك موجوداً لما استدل الأصحاب بوقوفهما خلفه إلا أنه قال: وإن حضر رجلان، أو رجل، وصبي، اصطفا خلفه؛ لحديث جابر، وحديث أنس؛ ولأن به يحصل التمييز بين الإمام والمأمومين للداخل؛ فلو قام الجميع صفاً واحداً- كره؛ قاله القاضي الحسين.
فإن قيل: قد روى أبو داود أن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود؛ فلما فرغ قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل. وهذا يدل على أنه سنة؛ فضلاً عن كونه مكروهاً.
قلنا: أما كونه سنة؛ فلا خلاف في أنه ليس بسنة عندنا، وخبر [ابن مسعود]، قال: القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وغيرهما: إنه منسوخ بخبر جابر؛ لأن ابن مسعود من متقدمى الصحابة، وجابر وجبار بن صخر من متأخري الصحابة، وهذا الدليل إن صح كان مساعداً على القول بالكراهة؛ لأن المنسوخ كالمعدوم، ومخالفة ما ثبت في السنة مكروه.
لكن بعضهم قال: إن كون جابر، وجبار بن صخر من متأخري الصحابة لا يوجب النسخ؛ لأن المتقدم قد يروي [عن] المتأخر، بل لو ثبت أن حديث جابر متأخر لم يقتض النسخ أيضاً؛ لأن النسخ إنما يصار إليه عند التناقض وتعذر الجمع، ولا تعذر هنا؛ لأنه يمكن الجمع بحمل خبر ابن مسعود على الجواز، وخبر جابر على الأولى، وعلى هذه الطريقة يمتنع القول بالكراهة.
وقد حكى الإمام عن الشافعي القول بأن خير ابن مسعود منسوخ بخبر أنس، قال: لأنه ثبت عنده تأخره، ثم قال: وفي بعض كلامه تقديم رواية أنس؛ لأنه كان يدخل حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك؛ فرأى روايته أثبت، وما رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد يصلي باثتين، قال: وهذا أسلم من دعوى النسخ.
فرع: إذا اجتمع رجل وصبي، وقف الرجل عن جهة يمين الإمام؛ لأنه أكمل، وكانت جهة اليمين أولى به.
قالت عائشة: ثال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف" أخرجه أبو داود.
وروي عن البراء بن عازب أنه قال: كان يعجبنا الوقوف عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وإن كانوا عراة، وئف الإمام وسطهم؛ أي: إذا أمكن؛ كي لا يقع بصر واحد منهم على عورته.
أما إذا لم يمكن لكثرة القوم، وضيق المكان عن أن يجعلوا صفاً واحداً، قال الإمام والمتولي: يقفون صفوفاً، مع غض البصر.
وقد أفهم كلام الشيخ أنه تستحب الجماعة في حق العراة، وهو القول الجديد؛ لأن صلاتهم مع عدم السترة صحيحة تسقط القضاء للعجز؛ فكانوا كالقادرين على الستر.
وفي القديم أن صلاتهم فرادى أفضل؛ لأن السنة في الجماعة للرجال: أن يتقدم إمامهم، وإذا تعذرت الجماعة على الوجه المسنون؛ فالوجه تركها، كذا حكاه العراقيون، وهو لا يجري فيما إذا كان العراة نسوة؛ لأن السنة أن تقف إمامة النساء وسطهن؛ قاله في "التتمة" في باب ستر العورة.
وسين "وسطهن" ساكنة.
قال الجوهري: يقال: جلت وسط القوم؛ بالتسكين؛ لأنه ظرف، وجلست وسط الدار بالفتح؛ لأنه اسم.
قال: وكل موضع صلح فيه "بين" فهو وسط بالإسكان، وإذا لم يصلح [فيه "يين"] فهو وسط بالفتح، وربما سكن، وليس بالوجه.
وقال الأزهري: كل ما كان يبين بعضه من بعض كوسط الصف، والقلادة، والسُّبْحة، وحلقة الناس؛ فهوبالإسكان، وما كان مصمتاً لا يبين بعضه من بعض: كالدار، والساحة؛ فهو وسط.
قال: وقد أجازوا في المفتوح الإسكان، ولم يجيزوا في الساكن الفتح؛ فافهمه.
قال: وإن حضر رجال، وصبيان، وخَنَاثَى، [ونساء]، تقدم الرجال، ثم الصبيان، ثم الخناثى، ثم النساء.
أما تقديم الرجال على الصبيان؛ فلقوله عليه السلام: "ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" أخرجه مسلم.
والأحلام، قيل: يحتمل أن يكون جمع حلم بضم الحاء، وهو الاحتلام، ومعناه: البالغون. [ويحتمل أن يكون جمع حلم بكسر الحاء، ومعناه: ذو الحلم. والنهي: العقول].
والمعنى في ذلك: أن الصف الأول أفضل؛ قال عليه السلام: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، فلم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا" أخرجه البخاري، والرجال أكمل؛ فاختصوا به.
وقيل: إنه يقف بين كل رجلين صبي؛ ليتعلم منهم، حكاه الماوردي، والبندنيجي، وأبو الطيب، وغيرهم.
وأما تقديم الصبيان على الخناثى، ثم الخناثى على النساء، فوجهه ما تقدم، مع أنه عليه السلام قال:"خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، [وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها"] أخرجه مسلم.
وقد دل كلام الشيخ على أن ما ذكره من التقديم مخصوص بما إذا حضروا جميعاً، ومن طريق الأولى إذا حضر الرجال، ثم الصبيان، [ثم الخناثى]، ثم النساء، نعم لو حضر الصبيان أولاً، ثم الرجال، وقد استوعب الصبيان الصف الأول، فليس لهم إزالتهم عن موضعهم، قاله القاضي الحسين وغيره في كتاب الجنائز.
وقال الإمام: ثم إنه يخرج فيه الوجه الذي في نظيره من الجنائز، وهو إذا حضر جنازة صبي، ثم رجل؛ فإنه يجعل الرجل مما يلي الإمام على وجه، والمذهب أنه يجعل الصبي مما يلي الإمام.
ولو حضر النساء أولاً، والخناثى؛ فمحلهم في الوقوف كما لو حضروا مع الرجال والصبيان معاً، ولو كان الصف الأول لم يكمل بالرجال، كمل بالصبيان دون الخناثى والنساء.
قال: ومن حضر، ولم يجد في الصف فرجة، جذب واحداً؛ أي: بعد أن يحرم بالصلاة، واصطف معه؛ فإن لم يفعل، وصلى وحده كره؛ لما روي أنه عليه السلام قال لرجل صلى خلف الصف:"أيها المنفرد خلف الصف، هلاّ اتصلت بالصف، أو جذبت إلى نفسك واحداً؛ فصليت معه".
....................................................
وروى البخاري، عن أبي بكرة أنه:"انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع؛ فركع قبل أن يصل إلى الصف؛ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: زادك الله حرصاً، ولا تعد".
ومن طريق الأولى: إذا وجد في الصف فرجة وصلى منفرداً، أنه يكره، وهذا مما لا خلاف فيه، بل قال ابن الصباغ: إنه لو أحرم منفرداً، ثم دخل الصف، كره له.
قال الأصحاب: ويستحب للمجذوب موافقة الجاذب؛ لتحصل له فضيلة الصف؛ فإن في ذلك معاونة على البر والتقوى، وصار هذا كما قلنا: يستحب لمن رأى شخصاً يصلي وحده أن يصلي معه.
قال: وأجزأته صلاته؛ لأنه عليه السلام لم يأمر أبا بكرة بالإعادة.
فإن قيل: قد روى أبو داود أنه عليه السلام رأى رجلاً يصلي خلف الصف؛ فأمره أن يعيد.
وروي أنه عليه السلام صلى، فلما انصرف، أبصر رجلاً يصلي خلف الصف وحده؛ فوقف عليه؛ فلما فرغ قال:"أعد صلاتك؛ فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف"، وهذا صريح في الإعادة.
قلنا: قد قال به أبو بكر الحميدي من أصحابنا؛ كما قال أبو الطيب، وأبو بكر بن المنذر، لكن الصحيح الأول؛ لما ذكرناه، والخبر الأول حجة فيه؛ لأن الخصم سلم ترك العمل به، وأن المنفرد إذا كان جاهلاً لا تبطل صلاته، والذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة كان جاهلاً بالحال، على أن الشافعي قال: إن هلالاً راويه تارة يرويه عن عمرو بن راشد، وتارة عن زياد بن [أبي] الجعد، وذلك يدل على أنه سيئ الحفظ؛ فلا يحتج بحديثه.
وأما الثاني، فهو دليل لنا؛ لأنه لم يقطع عليه الصلاة، بل انتظره، ولو كانت باطلة لما فعل ذلك؛ فتعين حمله على الأولى، ونحن نقول به.
ثم ما ذكره الشيخ من الجذب ما حكاه ابن المنذر عن بعض الناس.
قال أبو الطيب: وقد حكاه الشيخ أبو حامد عن مذهبنا، وليس بشيء؛ فإن الشافعي قال في "مختصر" البويطي: إذا لم يكن في الصف فرجة، ولا له موضع يقف فيه؛ فإنه يقف حيث شاء؛ ولأن جذبه لا يجوز؛ لمعنيين:
أحدهما: أنه يؤدي إلى الإخلال بالصف؛ فلا يجوز أن يجعل في الصف خللاً؛ فإنه عليه السلام كان يأمر بسد الخلل.
والثاني: أنه ينقله من الموضع الذي سُنَّ له إلى موضع لم يُسنُّ له، وهذا لا يجوز.
وقد حكى النص المذكور البندنيجي أيضاً، ونسب ما قاله الشيخ إلى
الأصحاب ولم يورد الماوردي والقاضي الحسين غيره؛ وكذا أكثر الأصحاب؛ كما قال الرافعي، وعلى هذا فلا يجوز له جذبه قبل أن يحرم بحال؛ لأن في ذلك جعل المجذوب منفرداً عن الصف إلى أن يحرم هو؛ فيفوت عليه فضيلتين.
أما إذا وجد في الصف فرجة فإنه يدخلها، سواء كانت في الصف الأول، أو ما بعده وقد صف الناس دونها.
قال القاضي الحسين: قال الشافعي: وكان له أن يخرق الصفوف، ويسد تلك الفرجة؛ لأنهم ضيعوا حقوقهم بترك الفرجة في الصف الأول.
قال الأصحاب: وكذا لو كان بين الصف الأول وبين الإمام ما يسع صفاً آخر، [وكان بين صفين ما يسع صفاًّ آخر]، جاز للداخلين أن يصفوا في ذلك المكان.
تنبيه: الفرجة: الخلل يين شيئين، وهو بضم الفاء، وفتحها، ويقال لها أيضاً فرج، ومنه قوله تعالى:{وَمَا لَهَا مِن فُرُوج} [ق: 6]: جمع "فَرْج".
وأما الفرجة بمعنى الراحة من الغم؛ فقد ذكر الأزهري فيها فتح الفاء وضمها وكسرها.
و"الجذب" و"الجبذ": لغتان بمعنى؛ وهو: مد الشيء إليك، يقال: جذب، وجبذ، واجتذب.
قال: وإن حضر، ومع الإمام واحد عن يمينه، أحرم عن يساره؛ لحديث جابر، وجبار بن صخر، ثم يتقدم الإمام؛ أي: إن كان خلفهما ضيقاً؛ لتعينه طريقاً؛ لتحصيل السنة في الموقف، أو يتأخر المأمومان؛ أي: إذا كان خلفهما واسعاً؛ لخبر جابر.
وقيل: إذا أمكن الإمام التقدم أيضاً، فالأفضل تقدمه دون تأخر المأمومين؛ لأنه ينظر ما يتقدم إليه؛ فلا يخشى ضرراً يلحقه؛ بخلاف المأمومين في تأخرهما؛ ولأنه إذا تقدم، كان الموجود فعلاً من واحد؛ فكان أولى من فعلين، وهذا ما اختاره القاضي أبو الطيب والقفال.
والذي حكاه الماوردي، وكذا الأكثرون؛ كما قال الرافعي: ما ذكره الشيخ.
ثم هذا إذا أدرك الإمام قائماً؛ فإن أدركه جالساً في التشهد، أو ساجداً، وأحرم معه، فلا يتقدم الإمام، ولا يتأخر المأمومان؛ لكثرة الفعل، لكنا ننظر: فإن كان ذلك في آخر الصلاة، انتظر سلام الإمام وقام، وإن كان قبل ذلك؛ فإذا قام الإمام، كان الحكم كما لو أدركه قائماً.
قال: والمستحب ألا يكون موضع الإمام أعلى من موضع المأمومين؛ لما روى أبو داود، عن عدي بن ثابت الأنصاري قال: حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن؛ فأقيمت الصلاة؛ فتقدم عمار، وقام على دُكَّانٍ يصلي والناس أسفل منه؛ فتقدم حذيفة؛ فأخذ على يده؛ فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة؛ فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أم الرجل القوم؛ فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم"؟، أو نحو ذلك. قال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.
وروى أيضاً عن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان؛ فأخذ أبو مسعود بقميصه؛ فجذبه؛ فلما فرغ من صلاته، قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى، فذكرت حين مددتني.
والمدائن: مدينة قديمة على دجلة، تحت بغداد بينهما سبعة فراسخ.
قال: إلا أن يريد تعليمهم [أفعال] الصلاة؛ فالمستحب أن يقف على موضع عال؛ كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشار بذلك إلى ما رواه سهل بن سعد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه – يعني: على المنبر - فكبر، وكبر الناس وراءه، ثم ركع، وهو على المنبر، ثم رفع، ونزل القهقرى؛ حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس؛ فقال:"أيها الناس، إنما فعلت هذا؛ لتأتموا يي، وتعلموا صلاتي" أخرجه البخاري، ومسلم.
ولأن الارتفاع في هذه الحالة أبلغ في الإعلام؛ فكان أولى؛ فلو خالف الإمام، وصلى في موضع عال، [لا] لأجل التعليم، كان تاركاً للأولى.
وقال أبو حنيفة ومالك: إنه مكروه.
وأطلق ابن الصباغ والمتولي في ذلك لفظ الكراهة عندنا أيضاً، والمشهور الأول.
وفي "ابن يونس"، و"شرح" [ابن] التلمساني: أن في "الحاوي" أنه يكره أن يكون موضع الإمام أعلى من موضع المأمومين إن كان ارتفاعه يجاوز القامة، ولم أره فيه في هذا الموضع، وهو في "الشامل"، محكي عن رواية الطحاوي، [عن] أبي حنيفة.
وكما يستحب ألا يكون موضع الإمام أعلى من موضع المأمومين، يستحب ألا يكون موضع المأمومين أعلى من موضع الإمام، ولفظه في التتمة:"يكره أن يكون موضع المأموم أعلى من موضع الإمام"، وهذا إذا أمكن وقوفهم على مستو من الأرض، [أو يرها؛ فإن كان لابد من وقوف أحدهما أعلى من الآخر، قال القاضي الحسين: فالأولى أن يقف الإمام على العالي.
قال: وإن تقدم المأموم على الإمام، أي: في المسجد، أو في غيره - لم تصح صلاته في أصح القولين؛ لقوله عليه السلام:"إنما جعل الإمام ليؤتم به" والائتمام: الاتباع، والمقدم على الإمام لا يكون تابعاً، بل يكون متبوعاً؛ ولأن على المأموم اتباع إمامه في موقفه وأفعاله؛ فلما لم يجز له التقدم عليه في إحرامه، وأفعال صلاته - لم يجز له التقدم عليه في موضع صلاته أولى؛ لأن المخالفة فيه أفحش وأظهر، وهذا هو الجديد.
وقد وافق الشيخ على تصحيحه الجمهور، وجزم به في "الوجيز"، وعلى هذا لو كان متأخراً عند الإحرام، ثم تقدم عليه بعد ذلك، بطلت صلاته، ولو شك هل تقدم على الإمام، أو تأخر عنه؛ بأن يكون قد اقتدى به في ظلمة - قال القاضي الحسين: نظر: فإن كان مجيئه من وراء الإمام، صحت صلاته؛ لأن الأصل عدم التقدم، وإن كان مجيئه من قدام الإمام، لم تصح؛ لأن الأصل تقدمه عليه.
وفي "فتاوي"[النواوي] أن الذي نص عليه الشافعي: أن صلاته صحيحه، وسواء جاء من قدام الإمام أو من ورائه.
والأول أوجه.
والاعتبار في التقدم بالعقب، أو بالكعب؟ فيه وجهان في "ابن يونس": أحدهما: بالكعب، وهو ما ذكره فى "الوسيط" لا غير.
والثاني: بالعقب، وهو الأصح، ولم يحك القاضي الحسين والمتولي والبغوي غيره، وادعى الإمام أنه لا خلاف فيه؛ لأن الأصابع قد تطول وقد تقصر؛ فعلى هذا لو ساواه في العقب، وكانت رءوس أصابعه أطول، لم يضر، ولو انعكس الحال، فكان المأموم قصير الأصابع؛ فساواه فيها، وتقدم عليه بالعقب- جعل متقدماً عليه؛ فتبطل صلاته.
وفى "التتمة" حكاية وجه آخر: أنه لا يضره ذلك؛ بناء على [أن] محاذاة الكعبة ببعض البدن كافية في الصلاة.
والقاضي الحسين حكى الخلاف فيما إذا تقدم بجزء قليل من العقب موجهاً لعدم البطلان؛ بأن هذه المخالفة لا تظهر؛ فلا تضر؛ كما أن ما لا يظهر من المخالفة فى الأفعال لا يضر.
ومقتضى ما ذكرناه أنه لو كان الإمام مساوياً للمأموم في طول الرجل وقصرها، وساواه في العقب، لكن كان المأموم أطول من الإمام - أن تصح القدوة، وهو الصحيح، وبه جزم في التتمة؛ لأن ابن عباس صلى بعلقمة والأسود، أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، [وعبد الله كان] قصيراً.
وحكى العبادي في "زوائد" وجهاً آخر: أنه لا يجوز؛ لأنه يتقدم إمامه في حال ركوعه وسجوده.
والقول الثاني في الأص: أن التقدم على الإمام لا يضر، وهو القديم؛ لأنه
ليس في ذلك أكثر من المخالفة في الموقف؛ فلا يقدح في القدوة؛ كما لو وقف عن يسار الإمام، أو الجماعة عن يمينه ويساره؛ أو لأنه ليس فيه أكثر من أن المأموم أقرب إلى الكعبة من الإمام، وذلك لا يمنع جواز الصلاة؛ كما لو وقفوا في الحرم مستديرين بالكعبة يجوز، وإن كان بعض المأمومين أقرب إلى الكعبة من الإمام، والقائلون بالأول فرقوا بين ما نحن فيه، وبين ما إذا وقف المنفرد عن يسار الإمام والجماعة عن يمينه ويساره: بأن اليسار موقف للمأمومين بحال، وهو إذا كانوا ثلاثة عراة، إذا أحرم الإمام وواحد عن يمينه، ثم جاء آخر؛ فإنه يحرم عن يساره، ولا كذلك أمام الإمام؛ فإنه ليس موقفاً للمأموم بحال.
وفرقوا بين ما نحن فيه، وما إذا صلوا حول الكعبة: بأن التقدم [ثم] لم يكن من الجهة التي فيها الإمام؛ فلذلك [لم يمتنع، ولا كذلك هاهنا؛ فإن التقدم من جهة الإمام؛ ولذلك] اتفق الأصحاب على أنه لو تقدم على الإمام في الجهة التي هو فيها في الكعبة -[كان على القولين، بإن اختلفوا فيما إذا كان أقرب إلى الكعبة] من غير تلك الجهة؛ كما سنذكره.
وقد أفهم كلام الشيخ أموراً:
أحدها: أنه لا تضره المساواة، وهو كذلك بالاتفاق. نعم، الأدب أن يتخلف عن الإمام قليلاً؛ إذا كان واحداً؛ كذا قاله المراوزة، وقد حكينا5 عن المتولي من قبل، وكلام البندنيجي وابن الصباغ [يقتضي] أن المساواة مكروهة؛ فإنهما قالا: لو صلى على ظهر المسجد بصلاة الإمام، فينبغي أن يكون وراءه؛ فإن كان بإزائه، كره، وأجزأه.
الثاني: أنه لا فرق في التقدم بين أن يكون في الكعبة أو غيرها، [وقد ذكرنا أنه لا فرق في ذلك؛ إذا كان التقدم من الجهة التي فيها الإمام، أما إذا كان من جهة غيرها]؛ بأن كانوا أقرب إلى الكعبة من الجهات التي ليس الإمام [فيها]؛ مثل: أن كانوا منها على ثلاثة أذرع، والإمام على أربعة؛ فالذي نص
عليه الشافعي في "الأم": أن صلاتهم جائزة.
وقال في "الجامع": إذا توجه الإمام إلى الكعبة؛ فائتم به قوم على ظهر الكعبة - أجزأتهم صلاتهم، ومعلوم أن من على ظهر الكعبة أقرب إليها من الإمام.
واختلف الأصحاب فى ذلك:
فقال أبو إسحاق: هذا من الشافعي جواب على أحد القولين في أن التقدم لا يضر، وإلا فالقولان فيهم أيضاً.
وقال الجمهور: [إنه] لا يضر هذا قولاً واحداً؛ فإن اختلاف الجهة أعظم من الاختلاف في القرب والبعد؛ فإذا لم تمتنع القدوة مع الاختلاف في الجهة، والموقف على هيئة التقابل؛ فلا معنى وراء ذلك في النظر إلى القرب والبعد؛ كذا قاله الإمام.
وغيره [فرق بين ما نحن فيه، والتقدم في الجهة من وجهين:
أحدهما: أنه غير موصوف بالتقدم؛ بخلاف غيرهم].
والثاني: [أنهم يمكنهم مشاهدة أفعاله والاهتداء به، وغيرهم] إذا تقدم إمامه لم يقدر على اتباعه، ولا على فعل الصلاة بفعله.
وقال ابن الصباغ: إن الشافعي أشار إلى فرق في كتاب الإمامة: أن القرب [من الكعبة] لا يكاد ينضبط ويشق مراعاته؛ بخلاف غيرهم؛ فإنه لا يشق مراعاتهم أن يكونوا خلفه.
الثالث: أنه لا تبطل صلاة الإمام بتقدم المأموم، رجلاً كان المأموم، أو امرأة، وبه صرح الأصحاب، وما ورد من أنه عليه السلام قال:"لا يقطع صلاة المرء إلا ثلاث: الكلب الأسود، والأتان، والحائض"، قال القاضي الحسين: إنه منسوخ؛ لحديث عائشة؛ فإنه روي عنها: "أنه لما بلغها هذا الخبر قالت: بئس ما عدلتمونا بالكلاب! كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة؛ فكان إذا سجد غمز رجلي؛ فقبضتهما؛ فإذا قام، مددتهما".
قال: وإن صلت المرأة بنسوة، قامت وسط الصف؛ لما روى الشافعي بسنده
أن عائشة، وأم سلمة أمتا نساء؛ فقامتا وسطهن.
وروي أيضاً أن صفوان بن سليم قال: من السنة إذا أمت المرأة النساء، [أن] تقف وسطهن. وذلك ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولأن ذلك أستر لها، ولو خالفت، وتقدمت، لم تبطل صلاتها، و [لا] صلاتهن.
قال: ومن صلى مع الإمام في المسجد جازت صلاته إذا علم بصلاته؛ لأن المسجد الواحد إنما بني لجماعة واحدة؛ [بدليل أنه يكره إقامة جماعتين فيه، فكل من أحاط به المسجد، فهو في جماعة واحدة]، وإذا كان المأموم مع إمامه في جماعة واحدة صحت صلاته؛ كما لو كان وراءه، وقد روي أن أبا هريرة كان يصلي على طرف المسجد بصلاة الإمام في المسجد ولم ينكر عليه أحد؛ ولأجل ذلك قال بعضهم: إنه إجماع.
والعلم بصلاة الإمام يحمل بمشاهدته، أو مشاهدة من خلفه، أو سماع تكبيرهم، أو تبليغ.
قال الأصحاب: ولا فرق في ذلك يين أن تنقطع بينهم الصفوف أو تتصل، كان بينه وبين الإمام حائل أو لم يكن، جمعهما مكان واحد، أو لا، حتى لو كان الإمام والمأموم في المنارة، والآخر في [بئر في] المسجد - جاز، ولو كان أحدهما في السطح، والآخر في المسجد، كان من طريق الأولى.
وعن ابن القطان حكاية وجه فيما إذا كان باب المرقى مغلقاً: أنه لا يصح، نعم لو كان في المسجد نهر لا يخوضه غير السابح؛ فهل يؤثر في منع القدوة؛ حيث يمتنع في الموات لأجله، أو لا؟
قال الإمام، والرويانى في "تلخيصه": لا خلاف أنه لا يؤثر في المنع.
وقال القاضي الحسين: إن اتخذ النهر بعد جعله مسجداً؛ فهو لا يجوز، لكنه
لا يمنع الاقتداء، وإن كان قبل أن يتخذ مسجداً؛ فهل يمنع الاقتداء؟ فيه وجهان، واقتصر في "التهذيب" و"الكافي"؛ منهما على حكاية [وجه] المنع.
قال البغوي: لأنهما مسجدان متلاصقان؛ فيشترط في جواز الاقتداء اتصال الصف من أحدهما بالآخر. وهذا منه تصريح بأن المسجدين المتجاورين لا يجوز اقتداء من فى أحدهما بمن فى الآخر إلا عند اتصال الصنوف.
وقد جزم ابن الصباغ والبندنيجي والقاضي الحسين والمتولي في أن المساجد اللطِّا المتصلة بالجامع وأبوابها شارعة إليه؛ إذا اقتدى من فيها بمن في الجامع - كان كما لو كانوا في الجامع واقتدوا به.
قال القاضي أبو الطيب: وكذا لو وقف المأموم في الزيادات في الجامع.
وإنه لا فرق في المساجد يين أن تكون أبوابها مقفلة، أو مفتحة.
وقال الإمام: إن من [في] أحد المسجدين المتجاورين، وبينهما باب مفتوح، أو مردود - يصح اقتداؤه بمن في الآخر؛ كما في المسجد الواحد.
قال: وكذا لو كان مغلقاً على المذهب الظاهر.
وأبعد بعض أصحابنا؛ فمنع إذا لم يكن حالة الاقتداء منفذ؛ لأن أحدهما يعد عند غلق الباب منفصلاً عن الثاني، ولا يعدان مجتمعين عرفاً، ولست أعده من متن المذهب، والقائلون به يقولون: لو كان الجدار الحائل بينهما مشبكاً لا يمنع من رؤية من هو واقف في المسجد الذي فيه الإمام، والباب [مغلق]- فوجهان.
وعن الشيخ أبي محمد: أنه لو كان كل مسجد ينفرد بإمام ومؤذن، وجماعة، كان كل واحد منهما - بالإضافة إلى الآخر - كالملك المتصل بالمسجد، وسنذكره.
وهذا كله إذا لم يكن بين المسجدين حائل غير الجدار؛ فلو كان بينهما شارع، فقد ادعى المتولي أن ظاهر المذهب أنه لا يجوز إلا أن يكون الصف متصلاً؛ لأن أحد المسجدين منفرد عن الآخر؛ ولهذا لو صُلِّي فى أحد المسجدين [منفرداً
عن الآخر] بالجماعة، لا تكره إقامة الجماعة فى الآخر، وهذا التوجيه يعضد ما قاله الشيخ أبو محمد.
أما إذا لم يعلم من في المسجد بصلاة الإمام، لم تجز صلاته؛ لأن عليه اتباعه في أفعاله، وعدم العلم بها يمنع من اتباعه فيها.
فإن قلت: قد أفهم قول الشيخ: "مع الإمام في المسجد": أنه إذا صلى الإمام في المسجد، والمأموم في رحبة المسجد، أو غيرها – [لا يكون حكمه كذلك.
قلت: أما إذا كان الإمام في المسجد، والمأموم في غيره فسنذكره]. وأما إذا كان في المسجد، والمأموم في رحبة المسجد، فإن عنيت به الرحبة في وسط المسجد، [فهي من المجد]، وإن عنيت به التي خارج حيطان المسجد، فقد قال الرافعي: إن الأكثرين عدوها من المسجد، ولم يذكروا فرقاً بين أن يكون بينها وبين المسجد طريق، أو لا، وقد رأيت ذلك فى "تلخيص" الرويانى، ونزلها ابن كج إذا كانت منفصلة [منزلة مسجد آخر.
وقال البغوي: إن الوقوف في حريم المسجد كالوقوف في الموات؛ لأنه ليس بمسجد]. وعلى هذا ينطبق كلام الشيخ، والله أعلم.
قال: وإن صلى به خارج المسجد، واتصلت به الصفوف جازت صلاته؛ لأن ذلك في عد صلاة الإمام والمأموم جماعة واحدة [آكد من عد صلاة الإمام والمأموم في المسجد مع عدم الاتصال جماعة واحدة]؛ فكانت الصحة بذلك أولى.
ثم [الاتصال بالصف] إن كان عن يمينه [أو يساره، يحصل بلصوق الجنب بالجنب، وإن كان من ورائه فبأن يكون بينه] وبين الصف ثلاثة أذرع، فما دونها.
قال الرافعي: والتحديد بها على سبيل التقريب حتى لو زاد شيئاً يسيراً، لا يثبت في الحس، ولا يذرع لا يعد منفصلاً.
واعلم أن الذي يوجد في أكثر النسخ: "وإن صلى به خارج المسجد، واتصلت
به الصفوف، جازت صلاته" وحينئذ فيكون التقدير: وإن صلى الإمام والمأموم جميعاً خارج المسجد، واتصلت به- أي: بالمأموم - الصفوف جازت صلاته. ويوجد في بعض النسخ: "وإن صلى خارج المسجد، واتصلت به الصفوف جازت صلاته"[وحينئذ فيكون] التقدير: وإذا صلى [المأموم أي]، خارج المسجد، واتصلت به الصفوف، [أى: اتصلت على المأموم الذي هو خارج المسجد الصفوف، ويجوز أن يكون التقدير: وإن صلى مع الإمام خارج المسجد واتصلت به الصفوف] جازت صلاته، وحينئذ فيكون موافقاً للصورة التي بيناها على تقدير إثبات لفظة "به"، لكنه خلاف الظاهر من اللفظ، وإثبات لفظة "به"[هو] الذي حفظناه، ووقفنا عليه فى نسخة عليها خط المصنف.
وأثر ما ذكرته يظهر عند الانقطاع؛ كما ستعرفه، ونحن في الشرح عند عدم الاتصال نجري على إثبات لفظة "به" كما [هو] الموجود في [أكثر] النسخ، والمفهوم من لفظه في "المهذب"، ئم نذكر الحكم على التقدير الثانى؛ فاعلم ذلك.
قال: وإن انقطعت، ولم يكن دونه حائل، جازت صلاته إذا لم يزد ما بينه وين آخر الصف على ثلاثمائة ذراع؛ لقربه في العادة، وبعد ما زاد عليها عادة.
وهذا التوجيه ادعى البندنيجى أنه ظاهر المذهب؛ لأن الشافعى قال: ما يعرفه الناس قرباً، وهو ثلاثمائة ذراع فما دونها. وقد اختاره ابن خيران؛ كما قال البندنيجي، وأبو الطيب بن سلمة، كما قاله القاضي أبو الطيب، وابن الوكيل؛ كما قال الرافعي.
وقال ابن سريج وأبو إسحاق وغيرهما - كما قال البندنيجي-: إن الشافعي أخذ هذا الحكم من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بعسفان على رواية ابن عمر، والصحيح أن رواية ابن عمر إنما كانت لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، وكذا صرح بها الإمام؛ وسنذكر روايته ثم، إن شاء الله تعالى.
ووجه الدلالة منها على المدعى هنا – وإن كان الشافعي لا يقول بالعمل بها-: أنه عليه السلام وقف، ومن صلى معه في موضع لم يصل إليهم أذى أعدائهم، وأبعد أذاهم رمي السهام، وغاية سهام العرب في الغالب ما ذكرناه.
قال ابن الصباغ: والتوجيه الأول أشبه.
وقال الإمام: وكنت أود لو قال قائل من أئمة المذهب: يرعى في التواصل مسافة يبلغ فيها صوت الإمام المقتدى لو رفع صوته قاصداً تبليغاً على الحد المعهود [فيه].
[تنبيه:] كلام الشيخ على ما قررناه يقتضي أموراً:
أحدها: أنه إذا زاد ما بينهما على ثلاثمائة ذراع شيئاً، لا يجوز الاقتداء، وللأصحاب خلاف في أن الذراع المذكور هل هو تحديد حتى [تقدح الزيادة عليه، ولو بذراع واحد عليه في الاقتداء، أو تقريب حتى لا] يقدح في ذلك نيابة ثلاثة أذرع فما دونها؟ والذي نص عليه في "الأم" - كما قال البندنيجي، والروياني -[الثانى]، ونسبه القاضي أبو الطيب إلى صاحب "الإيضاح"، وهو الأصح باتفاق الأصحاب.
وقال الماوردي: إن من قال بأنه تحديد، فقد غلط.
وباب الإمام: كيف يطمع الفقيه في التحديد، ونحن في إثبات التقريب على كلالة؟!
وقد نسب هذا الوجه إلى أبي إسحاق المروزي، وادعى في "تلخيصه" أنه ظاهر المذهب، وكلام ابن الصباغ يقتضي ترجيحه؛ فإنه قال: إذا كان لابد من تقدير، لم يكن بد من حد فاصل، وإن شاركه غيره في معناه؛ كمدة البلوغ، والسفر بما دون مرحلتين.
وقول المزني: إنه اختار العرف في "الإملاء"؛ فلا توقيف.
قال أصحابنا: إطلاقه في موضع محمول على تحديده في آخر.
الثاني: أن الاعتبار في القرب والبعد بآخر صف إن كان، وبه صرح الماوردي والمتولي والإمام، وحكي وجهاً عن بعض المصنفين: أن الاعتبار بموقف الإمام، وقد حكاه المسعودي أيضاً.
قال الإمام: وهو مزيف لا تعويل عليه، وقد وجدت رمزاً إليه لبعض أئمة العراق؛ فلابد من توجيهه، فأقول: إن تواصلت الصفوف على الحد المألوف فقد يكون بين الواقف الأخير وبين الإمام ميل أو أكثر، والقدوة صحيحة، فأما إذا لم يحصل الاتصال المألوف، ولكن وقف الإمام، ووقف صف بعد الصف الذي يتكلم فيه، أي: بحيث يكون بينه وبين الإمام ثلاثمائة ذراع فما دونها؛ فهذا محل الخلاف، ولو لم يكن مع الإمام غيره؛ فالاعتبار في المسافة من موقف الإمام بلا خلاف، ولو كان البعيد واقفاً عن يمين الإمام أو يساره، فاعتبار المسافة تكون من آخر واقف [من] الجهة التي فيها البعيد على المشهور، وعلى الوجه الذي حكاه المسعودي وغيره يكون من موقف الإمام.
الثالث: أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون في صحراء أو غيرها [، صرح به الإمام والمتولي]، وهي طريقة أبي إسحاق المروزي؛ كما حكاه الشيخ أبو محمد عنه.
قال الرافعي: وهي التي يوافقها كلام معظم أصحابنا العراقيين.
وقال في "التتمة": إن القائل بهذه الطريقة أبو علي الطبري.
وقالت المراوزة: إن كانت الصلاة في صحراء مباحة، فالحكم كما تقدم، وللقاضي الحسين احتمال وجه آخر: أنه يجب الاتصال.
وإن كانت في ساحة مملوكة لشخص واحد - فالحكم كذلك على المذهب، ولم يحك القاضي الحسين وصاحب "الكافي" غيره.
وقيل: نعتبر فيها اتصال الصف، حكاه الشيخ أبو محمد وغيره.
قال الغزالي: وهو بعيد.
وإذا قلنا بالمذهب، فلو كان الإمام في ساحة مملوكة لشخص، والمأموم في
ساحة أخرى متصلة بها؛ بحيث يشاهدان شيئاً واحداً- ففي الصحة وجهان حكاهما الصيدلاني، والقاضى الحسين أيضاً، وبنى عليهما ما إذا صلى في موات منخفض من الأرض والإمام [في] مستو منها، قال: فإن قلنا هناك: لابد من الاتصال؛ لاختلاف المالك، فهاهنا لا يشترط الاتصال. لأن قلنا ثم: لا يشترط الاتصال؛ للاستواء، فهاهنا يشترط؛ إذ لا استواء.
وقضية هذا البناء: أن يكون الاشتراط هو الصحيح؛ لأن الأصح في "الكافي" في المسألة المبني عليها عدم اشتراط الاتصال.
وقال المسعودي، والرويانى في "تلخيصه": إن القفال كان يقول بالاشتراط، ثم رجع [عنه].
وإن كانت فى بنيان: كالدار؛ والرباط، والمدرسة، والخانقاه، ونحو ذلك؛ فإن كان الإمام والمأموم في بقعة واحدة؛ مثل: صفة، أو إيوان، أو مجلس، أو صحن دار، ونحو ذلك؛ فإن اتصلت الصفوف صحت القدوة، وإن لم تتصل، بل كان بينهما أكثر [من ثلاثة] أذرع، [ودون الثلاثمائة ذراع]- ففيها الخلاف السابق فى الساحة المملوكة.
[قال الإمام: وهذا عندي أقرب إلى الاقتضاء الصحيح من الساحة المملوكة][الممتدة]؛ فإن البناء الواحد وإن اتسعت خطته يعد مجلساً واحداً جامعاً في العرف.
والخلاف جار فيما إذا كان الواقف عن يمين الإمام، أو يساره، وبينهما فرجة تع واقفاً فأكثر منه. أما إذا كانت لا تسع واقفاً، والتفريع على اشتراط الاتصال؛ فهل يؤثر في منع القدوة؟ فيه وجهان يأتي مثلهما.
وإن اختلف موقف الإمام والمأموم، بأن وقف أحدهما في صفة، والآخر في الصحن، ونحو ذلك؛ فإن اتصل صف واحد طولاً، صح، وإن تخلل بينهما فرجة؛
فإن كانت تسع واحداً، [لم يصح، وإن كانت لا تسع واحداً] فوجهان، أصحهما: الجواز.
[فإن كان الاتصال في الصف من وراء الإمام، ففي صحة القدوة وجهان؛ أصحهما: الجواز].
وإن لم يوجد الاتصال على النحو السالف، وهو أن يزيد ما يين الصفين على ثلاثة أذرع، لم تصح القدوة.
قال الإمام: وهذا ما أجمع عليه أئمتنا.
ثم هذا في حق أول واقف في البناء المختلف، أما من بعده، وهو مع أول واقف في موضع واحد؛ فحكمه مع أول واقف إذا صحت صلاته [في] اشتراط الاتصال وعدمه - حكم المأموم مع الإمام إذا جمعهما مكان واحد.
ولنوضح ذلك بالمثال فنقول: إذا وقف الإمام في الإيوان مثلاً، ووقف شخص [في] آخر الإيوان من جهة يمين الإمام أو يساره، ووقف إلى جانب هذا الشخص شخص في الصحن بحيث اتصل جانبه بجانبه - صحت صلاة من في الإيوان، ومن في الصحن؛ فإذا وقف واقف عن يمين الواقف في الصحن، أو يساره في الصحن أيضاً؛ فإن لم يكن بينهما فرجة، صح، وإن كان بينهما فرجة، فعلى الخلاف السابق. ولو وقف في آخر الإيوان من وراء الإمام شخص، ووقف آخر وراءه في الصحن، وبينه وبينه ثلاثة أذرع فما دونها - صحت [صلاة من] فى الإيوان، وهذا الواقف في الصحن [على الأصح. وإذا وقف واقف عن يسار هذا الواقف فى الصحن]، أو يمينه، أو خلفه -[كان حكمه فى اشتراط الاتصال وعدمه كما لو وقف عن يمين الإمام أو يساره أو خلفه] فى ساحة
وفرع القاضي الحسين على هذا ما لو تحرم من في الصحن بعد تحريم الإمام، وقيل تحريم من جعلناه تابعاً له - لم يصح؛ كما لو تحرم المأموم بالصلاة قبل إحرام إمامه، حكاه عنه صاحب "التهذيب"، و"الكافي".
ثم هذا كله إذا لم يقع اختلاف في الارتفاع والانخفاض؛ فلو وقع في المكان الواحد ارتفاع وانخفاض، ووقف الإمام في أحدهما، والمأموم في آخر - قال الغزالي: فهو كاختلاف الأبنية؛ فلا بد من اتصال محسوس، وهو أن يلقي رأس المستفل ركبة العالي لو قدر لكل واحد منهم قامة معتدلة، وهذا ما حكي عن نص الشافعي، وهو اختيار الشيخ أي محمد.
وفيه وجه آخر حكاه الإمام عن صاحب "التقريب": أنه إن كان رأس المستفل يلاقي قدم العالي؛ فهو اتصال.
قال الإمام: وهذا هو المقطوع به؛ إذ المرعي أن يلاقي شيء من بدن المنخفض شيئاً من بدن العالي. وهذا ما أورده في "الكافي".
قال الرافعي: وعلى هذا لا يحتاج إلى اعتدال القامة في حق العالي.
قلت: ويجيء وجه آخر: أنه لا يعتبر الاتصال بشيء من العالي إذا جعلنا الساحة المملوكة كالصحراء، ومادته ما حكيناه من تخرج القاضي من قبل.
قال: بإن حال بينهما حائل يمنع الاستطراق، والمشاهدة؛ أي: كالحائط الذي
لا فرجة فيه، ولا شباك في الموضع الذي وقف المأموم بإزائه، وإن كان ذلك فيه في غيره - لم تصح صلاته؛ أي: وإن علم بصلاة الإمام؛ لأن الحيطان معدة للفصل بين الأماكن.
قال الشافعي: ولو كفى مجرد العلم في صحة القدوة، لما وجب السعي إلى الجمعة على العالم بصلاة الإمام في الجامع، وقد روي عن عائشة أنها قالت لنسوة صلين في حجرتها:" [لا تصلين] بصلاة الإمام؛ فإنكن دونه في حجاب".
قال: وإن مع الاستطراق دون المشاهدة؛ بأن يكون بينهما شباك، فقد قيل: يجوز؛ لوجود القرب والمشاهدة، ولا عبرة بالاستطراق؛ ألا ترى إلى قول عائشة، وإلى أنه في الصحراء إذا كان البعد بينهما أكثر من ثلاثمائة ذراع، لا يجوز الاقتداء، بإن كان الاستطراق ممكناً.
وهذا ما قال أبو الطيب: إنه الصحيج. وكذا الإمام؛ كما قال الرافعي.
ولا شك أنه يؤخذ من كلامه من طريق الأولى، وإن لم يكن نصاً في هذه الصورة، وقد اختاره في "المرشد"، ونص الشافعي يؤيده؛ فإنه قال - كما حكاه الماوردي-: لو صلى رجل على جبل الصفا، أو جبل المروة، أو على أبي قبيس بصلاة الإمام في المسجد [الحرام]- جاز؛ لأن ذلك متصل، لكن في "الكافي"- حكاية عن النص - خلافه؛ كما ستعرفه.
وقيل: لا يجوز؛ لأن الحائل موجود، ولا اعتبار بالمشاهدة؛ فإنه لو وقف على أكثر من ثلاثمائة ذراع، لا يصح الاقتداء مع وجود المشاهدة، [وهذا ما قال في "الكافي": إنه الأصح، وعبر عن الشباك بالدرابزين، وكذلك قال الرافعي: إن المسعودي، والأكثرين رجحوه، وادعى البندنيجي أنه ظاهر المذهب، وأن الأول ليس بشيء].
وعكس هذه [الصورة]: ما إذا حال بينهما حائل يمنع المشاهدة دون
الاستطراق؛ كالباب المردود من غير قفل، وقد حكى في "الوسيط"[فيه] الوجهين في المسألة قبلها، وألحق ابن التلمساني بالباب المردود الستر المرخى، والمختار في مسألة الباب المردود في "المرشد": الجواز أبضاً.
قلت: وكلام العراقيين وغيرهم يدل على المنع؛ لما ستعرفه من قولهم: إنه إذا كان الإمام في سفينة، والمأموم في أخرى، وهما مستوران، أو المستور سفينة الإمام فقط - أن الصلاة لا تصح؛ لعدم المشاهدة. مع قطعهم بالصحة عند المشاهدة، وتخطئه الإصطخري في القول بعدم الصحة.
وقد أفهم قول الشيخ: "وإن منع الاستطراق دون المشاهدة بأن يكون بينهما شباك": أن ما يمنع الاستطراق دون المشاهدة غير ذلك، مثل: أن يكون بينهما نهر لا يخوضه غير السابح، ولا جسر عليه-: أنه لا يجري فيه الوجهان؛ إذ لو كانا يجريان عنده في هذه الصورة، لقال: مثل أن يكون بينهما شباك. ولا شك في أن الذي نص عليه الشافعي في مسألة النهر الجواز، ونسب إلى الإصطخري المنع؛ إلحاقاً له بالحائط؛ فإنه [لا يمكن معه التطرق]؛ فأشبه ما نص عليه الشافعي أنه لا تجوز صلاة من بجوار المسجد فى السطح بمن في قرار المسجد.
وقد جزم بهذا القاضي الحسين، والجمهور على [تصحيح النص]، وبعضهم نسب الإصطخري إلى الخطأ.
ووجه الماوردي ذلك: بأن الحائل ما اتخذ حائلاً، ومنع من المشاهدة، والماء ليس بحائل، وإنما لا يقدم عليه؛ خوفاً من الهلاك؛ فصار كالنار التي تمنع من الإقدام عليها؛ خوفاً [من] الهلاك، ولا يمنع من صحة الائتمام يإجماع، ولو جاز أن يكون الماء حائلاً؛ لأنه يمنع من الإقدام عليه، لوجب أن يقع الفرق بين السابح وغيره، فلا يكون حائلاً في السابح؛ لأنه يمكنه الإقدام عليه، [ويكون حائلاً لغير السابح]؛ لأنه لا يمكنه الإقدام عليه، وفي إجماعهم على أن ذلك غير معتبر دليل على أن الماء غير حائل.
قلت: وقد ادعى بعضهم أن النار كالماء سواء؛ فتمنع عند الإصطخري، ولا خلاف في أن ما يخوضه [غير]، السابح لا يمنع القدوة، وكذا إذا كان لا يخوضه إلا السابح، وكان عليه جسر.
وينبغي [أن يكون محل ذلك إذا وقف المأموم بإزاء الجسر دون ما إذا وقفا بعيداً عنه، فإنه حينئذ] يشبه ما إذا كان بينهما حائط فيها باب أو شباك أو فرجة، فلم يقف المأموم بإزائها، ولكن وقف يإزاء ما هو مسدود منه؛ فإنه لا يصح اقتداؤه وجهاً واحداً؛ كما لو كان الباب من جهة أخرى.
وقد خص البغوي الجواز بما إذا كان النهر في الصحراء، أما إذا كان [النهر] في مسجد، وقد حفر قبل بنائه، فقد تقدم عنه الجزم بأنه لا بد من الاتصال، دون ما إذا حفر بعد جعل البقعة مسجداً.
والطريق المسلوك كثيراً كالشارع إذا كان بين الإمام والمأموم، وهما على سطحين - قال المتولي: فهو كالنهر، إن كان غير عريض بحيث لا يمنع الاستطراق، لم تمتغ القدوة، لأن كان عريقاً يمنعه؛ فعلى الوجهين.
وإن كان الإمام والمأموم على الأرض، وبينهما الطريق فقط، فقد أفهم كلام الماوردي أنه لا يعد حائلاً؛ [لأنه ما اتخذ حائلاً]، وقضية ذلك صحة الاقتداء، وهو ما أورده المتولي والعراقيون.
قال في "الحاوي": وقد غلط بعض أصحابنا؛ فقال: إنه حائل يمنع من صحة الصلاة، وكذا حكاه الإمام، وقال: إنه مزيف، لا أصل له.
ووجهه: أن أنس بن مالك صلى في بيت حميد بن عبد الرحمن [بن عوف] الجمعة بصلاة الإمام في المسجد، وبينهما طريق.
والقاضي الحسين والفورانى جزما القول بأنه حائل.
ثم محل الخلاف في غير الصحراء، أما إذا كان في الصحراء؛ فكلها طريق، [فلا]، تمنع؛ قاله في "الكافي".
وقال الرافعي: إنه لا فرق في جريانه بين الصحراء وغيرها ما لم يكونا في المسجد.
وهذا كله فيما إذا كانت صلاة الإمام والمأموم جميعاً خارج المسجد؛ كما قررناه. أما لو كان الإمام في المسجد، والمأموم خارج المسجد؛ كما يقتضيه تصوير ما جاء في بعض نسخ الكتاب، وهو الذي شرحه ابن يونس وغيره، ويجوز أن يحمل عليه ما جاء في أكثر النسخ؛ بجعل الحال من المفعول، لا من الفاعل، ولا منهما؛ فإن اتصلت بالمأموم الصفوف، فلا خلاف بين أهل الطريقين في الصحة، وإن انقطعت، ولم يحل بينهما حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة- جازت صلاته؛ إذا لم يزد الانقطاع على ثلاثمائة ذراع، وإن كان المأموم في موات، أو شارع يستوي فيه الكافة.
وقيل: إذا كان في شارع، فلا بد من اتصال الصفوف، وحكاه الرافعي.
وعلى الأول، فمن أي موضع تعتبر المسافة؟ فيه أوجه:
أحدها: من آخر صف في المسجد إن كان، وهو ما صححه الإمام والمسعودي؛ فإن لم يكن مع الإمام في المسجد غيره؛ فيعتبر من موقف الإمام؛ كذا حكاه المتولي، والروياني في "تلخيصه"، ومجلي.
والثاني: من آخر المسجد، وهو ما حكاه القاضي الحسين عن النص، وبه جزم القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، وقالا فيما إذا خرجت الصفوف من المسجد: فالاعتبار بآخر صف.
وعلى هذا قال الإمام: لو كان الإمام خارج المسجد في صحراء، والمأموم في آخر المسجد - فلا يحسب عليه ما بينه وبين آخر المسجد من ناحية الإمام من الذرع المذكور.
والثالث: إن كان المسجد لا فناء له، فمن المسجد، وإن كان له فناء، وهو موضع مطرح الثلج، ومصب ماء الميازيب، وملقى ترابه - فمن الفناء، حكاه المتولى، والقاضى الحسين، وهو ظاهر ما نقله المزنى.
وقال الماوردي: الاعتبار في ذلك بسور المسجد؛ لا من موقف الإمام؛ ولا من انتهاء الصفوف الداخلة فيه؛ فإذا كان بينه وبين سور المسجد ثلاثمائة ذراع فما دونها، صحت صلاته، وإن كان المأموم في دار بقرب المسجد، فظاهر نصه
في "المختصر" أنه لا يجوز اقتداؤه ما لم تتصل الصفوف، ولفظه: بإن صلى في دار قرب المسجد، لم يجز إلا بأن تتصل الصفوف به، ولا حائل بينه وبينها؛ فأما في علوها، فلا يجوز بحال؛ لأنها بائنة عن المسجد.
واختلف الأصحاب في ذلك:
فذهب أبو إسحاق إلى الأخذ بظاهره، وقال: لا بد من اتصال الصفوف من المسجد إلى الطريق، ومن الطريق إلى الدهليز، ومن الدهليز إلى صحن الدار، وحينئذ تكون [صلاة من] في صحن الدار، وصلاة من وراءهم جائزة؛ لرواية أنس بن مالك أن الناس كانوا يصلون في [حجرة النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الإمام في المسجد، وروى أن الناس كانوا يصلون في] المسجد بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته.
وهذا بخلاف ما إذا كان الإمام في المسجد، والمأموم في صحراء، والفرق أن داره لم تجعل لمرافق الناس، والصحراء جعلت لمرافق الناس؛ ولهذا راعينا اتصال الصفوف في الدار، ولم نراع ذلك في الصحراء.
وهذه الطريقة لم يحك الماوردي غيرها، وقال: إن صلاته في علو الدار وسردابها باطلة يكل حال؛ لتعذر اتصال الصنوف.
وكلام المراوزة في صلاته في سفل الدار يوافقه، وأما في علوها؛ فيتصور عندهم الاتصال بأن تتصل الصفوف من المسجد إلى سفل الدار، ويكون الواقف [فى علوء الدار على طرف سطحها المرتفع؛ بحيث يحاذي رأس الواقف سفل الدار ممن اتصلت به الصنوف جزءاً من بدن الواقف على السطح، ولا فرجة بينهما؛ فإذا تصور عندهم الاتصال حكمنا بصحة القدوة عند وجوده ولذلك قال المتولي: إذا صلى الإمام في المسجد، والمأموم على سطح دار له بجوار المسجد على يمين الإمام، أو شماله؛ فإن كان علو السطح بحيث يحاذي رأس الواقف في المسجد رِجْل الواقف على السطح، ولم يكن بين الواقف على السطح والواقف في المسجد فرجة تسع موقف رجل؛ فالاقتداء صحيح، وإن كان بينه وبينه فرجة، نظر:
فإن كان الواقف على السطح على طرف السطح، ولم يكن بينه وبين المسجد
فرجة؛ فعلى الوجهين في أن الاعتبار في ابتداء الذرع من المسجد، أو بالواقف فيه. فإن قلنا: الاعتبار بالمسجد، صحت القدوة؛ لوجود الاتصال؛ وإلا فلا.
وإن كان الذي على السطح متباعداً عن طرف السطح؛ فلا يصح الاقتداء على ظاهر المذهب.
وذهب أبو علي الطبري في "إفصاحه" إلى أنه إن كان بين من في الدار، وبين الصف الذي في المسجد مقدار ثلاثمائة ذراع فما دونها، ولا حائل يمنعه من مشاهدة الصف - يجوز؛ كما لو كان الإمام والمأموم واقفين في الصحراء. وكذا حكاه عنه المتولى فيما إذا صلى فى علو الدار، وبينه وبين المسجد فرجة، سواء كان السطح بحيث يحاذي شيء من بدن الواقف فيه شيئاً من بدن الواقف فى المسجد، أو لا.
وأوَّل أبو علي قول الشافعي: "إلا أن تتصل الصفوف" على ألا يكون بين كل صفين أكثر من ثلاثمائة ذراع؛ لأن هذا عنده حد الاتصال؛ وهذا ما اختاره العراقيون، وقال القاضي [أبو الطيب] وغيره منهم: إن أبا إسحاق أخطأ؛ لأن الدار، وإن لم تكن لمرافق الناس، فقد ثبتت لمرافق نفسه، والصلاة فيها من جملة مرافقه.
وقد رأيت في "تعليق" أبي الطيب أن أبا علي في "الإفصاح" حكى وجهين فيما إذا صلى في داره بصلاة الإمام في المسجد، وهو يشاهده، وبينهما طريق، أصحهما: الصحة، وأن أبا علي قال: والآخر لا أعرف له وجهاً.
فرع: إذا قلنا بظاهر النص، واتصلت الصفوف إلى الصحن، [كان حكم من في الصحن [مع] من وراءه، عن يمينه ويساره وأمامه، حكم الإمام لو كان واقفاً في الصحن]، واقتدى به من هو في الصحن أيضاً، ووقف عن يمينه، أو يساره، أو من خلفه، أو أمامه حتى يعتبر فيمن خلفه ألا يزيد على ثلاثمائة ذراع، وكذا من عن يمينه وعن يساره، وفيمن أمامه القولان في صحة صلاته؛ كما أشار إليه الماوردي والمتولي رحمهما الله تعالى.
ولو وقف المأموم على جبل أبي قبيس، والإمام في الحرم، فقد حكينا عن رواية الماوردي عن النص الصحة.
وقال في "الكافي": إن الحكم كذلك فيما لو وقف على جبل مشرف على المسجد؛ بحيث يرى صلاة الإمام والقوم في المسجد؛ إذا لم يكن بينهما ملك، ولم يزد ما بينهما على ثلاثمائة ذراع، وإن كان بينهما موضع مملوك، لم يجز [إلا باتصال] الصف، قال: ولذلك لم يجوز الشافعي الصلاة على أبي قبيس بصلاة الإمام في المسجد؛ لأن بينهما دوراً مملوكة.
قلت: فحصل بمجموع النقلين - إن لم يحملا على حالين - في صحة صلاة من على جبل أبي قبيس بصلاة الإمام في المجد [الحرام عند عدم اتصال الصفوف]، قولان، والله أعلم.
أما إذا كان بينهما حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة، لم تجز صلاته، سواء كان ذلك الحائل حائط المسجد أو غيره؛ لقول عائشة للنسوة في دارها:"لا تصلين بصلاة الإمام في المسجد؛ فإنكن دونه قي حجاب"، رواه الشافعي، واحتج به.
قال بعضهم: وهذا كالتفسير لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لو صليتم في بيوتكم لضللتم".
وعن أبي إسحاق المروزي: أن حائط المسجد لا يعد حائلاً؛ لأنه من مصالحه، وبعض من أبعاضه؛ [فصار] كالسوارى التي تحول بين من في المسجد وبين الإمام، وذلك لا يمنع [من] صحة الصلاة.
وكأنه - والله أعلم - عني بذلك: إذا كان المأموم واقفاً في صحراء، وإلا فقد حكينا عنه أنه إذا صلى في داره وهو يشاهد الإمام في المسجد، لا تصح صلاته ما لم تتصل الصفوف؛ فكيف يقول مع عدم المشاهدة والاتصال بالصحة؟! ويجوز أن يكون مراده هاهنا ما إذا وقف بحذاء حائط المسجد؛ بحيث لا يكون بينه وبينه فرجة، ويكون موافقاً لما حكيناه من قبل عن الماوردي أن الاعتبار في الذرع من حائط المسجد، وبه صرح في "الحاوي"، لكن الظاهر: الأول، وقد ادعى القاضي أبو الطيب أن نصه في "الأم" يدل على ما قاله أبو إسحاق؛ لأنه قال:"ولو صلى خارج المسجد في رحبة المسجد بصلاة الإمام، صح ذلك، اتصلت الصفوف، أو لم تتصل"، ورحبة المسجد:[ما] حواليه.
وقد استبعد ابن الصباغ ما قيل عن أبي إسحاق من حيث النقل عنه، والمعنى: أما النقل؛ فلأنه قال في "الشرح" خلافه.
وأما المعنى فلأن الحاجز متى فصل بينه وبين غيره قطع الاجتما بخلاف الداخل.
قال الماوردي: والذي عليه عامة أصحابنا - وهو الصحيح- أن ذلك حائل يمنع من صحة القدوة.
وفي "النهاية": أنه إذا كان الشخص وراء المسجد على يمين الصف في المسجد، وكان بينه وبين الصف الجدار؛ فمن الأصحاب من جعل الجدار
قاطعاً، مانعاً من الاقتداء؛ إذا كان ذلك الجدار مانثا من الاستطراق، وهو الذي صححه العراقيون.
والثاني: يصح. قال: وهذا يخرج على قولنا: إن اعتبار المسافة في المقتدى خارج المسجد من حريم المسجد.
ولا فرق - على هذا - بين أن يكون باب المسجد مفتوحاً أو مغلقاً، وذكر صاحب "التقريب وجهاً، مال إليه. واختاره: أن الباب إذا كان مغلقاً، لم يصح اقتداء الواقف خارج المسجد، قال: وهذا نطرده في كل واقف خارج المسجد أين وقف. وهو قريب مما صححه العراقيون من كون الجدار حائلاً مانعاً، والصحيح – عندنا-: أن الجدار [المانع] من الاستطراق، وباب المسجد المغلق لا أثر له.
وهذا من الإمام يوهم أن الخلاف في الجدار، سواء كان للمسجد، أو لغيره، لكن الروياني في "تلخيصه"، والرافعي قالا: إن محله في جدار المسجد، أما في غيره، فلا خلاف أنه يمنع.
ولو كان الحائل يمنع الاستطراق دون المشاهدة، كالشباك، ففيه الخلاف السابق. وقال الروياني في "تلخيصه":[إن محله] إذا كان الجدار للمسجد، ولم نقل بقول أبي إسحاق، أما إذا كان المشبك جدار غير المسجد منع.
ولم يحك غيره، وفيه نظر.
فرع: صلاة الجماعة في السفينة جائزة؛ فإن كانت ذات طبقة واحدة، فصلاة الإمام والمأمومين صحيحة، وكذا لو كانت ذات طبقتين، وصلى الإمام بهم في طبقة واحدة منهما، ولو صلى هو في طبقة، وبعض المأمومين في أخرى؛ فإن كان بينهما منفذ يرى بعضهم بعضاً، ويعلم بعضهم بصلاة بعض، صحت صلاة جميعهم، وإلا صحت صلاة من مع الإمام في الطبقة دون من في الطبقة الأخرى، وهذه طريقة أهل العراق، وقضية طريقة المراوزة أن يراعى اتصال الصفوف؛ لأجل الانخفاض.
ولو صلى الإمام في سفينة، والمأموم في سفينة أخرى؛ فإن كانت إحدى
السفينتين مغطاة، أو كلاهما - لم يصح الاقتداء، وإن كانتا مكشوفتين؛ فإن كانتا مشدودتين، صارتا كالسفينة الواحدة؛ فيصح الاقتداء، وإن كانتا مرسلتين، قال الماوردي: فذهب الشافعي [إلى] أن صلاة المأموم في السفينة الأخرى جائزة إذا علم بصلاة الإمام، وكان ما بينهما قريبًا، واعتبار القرب من موقف الإمام إن كان وحده، أو من آخر صف ممن ائتم به إن كان في جماعة، وكذلك لو صلى في سفينة، والمأموم على الشط، أو الإمام على الشط، والمأموم في السفينة.
وقال الإصطخري: لا يصح اقتداء من في إحدى السفينتين بمن في الأخرى عند إرسالهما؛ لأن الماء يمنع الاستطراق.
قال: فأشبه ما نص عليه الشافعي: أنه لا تجوز صلاة من بجوار المسجد في السطح بمن في قرار المسجد؛ كما حكاه عنه أبو الطيب والمتولي.
وحكى الإمام عنه أنه وجهه بأنه يحتمل أن تتقدم السفينة التي فيها المأموم على الفينة التي فيها الإمام؛ فتبطل، وأبطل الأصحاب قوله الأول؛ بأن الاستطراق في كل موضع بحسب ما يليق به، وهو في البحر يكون بالسفن، وذلك ممكن، نعم لو كان بينهما [جزيرة فالحكم كما لو كان بينهما فى] البر نهر واسع.
والفرق بين السطح، و [بين] السفينتين: أن السفينتين في قرار واحد، وهو الماء، ولا كذلك الواقف في السطح، والمسجد؛ فإن القرار مختلف.
وأبطل قوله الثاني: بأن الأصل عدم التقدم؛ فلا يحكم بالبطلان قبل وجوده.
وقد حكى القاضي أبو الطيب الخلاف فيما إذا كانت السفينتان مربوطتين [بحبل]، وجعل محل الجزم بالصحة، إذا كانتا مُسَمَّرتين. والله أعلم.