المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب صلاة الاستسقاء - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٤

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب صلاة الاستسقاء

‌باب صلاة الاستسقاء

الاستسقاء طلب السقيا، والأصل فيه قوله تعالى:{وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} [البقرة: 60]، [وفي آية أخرى:{فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} ] [الأعراف: 16] والانبجاس قيل: إنه أضيق من الانفجار، و [هذا وإن] كان شرع من قبلنا فقد جاء في شرعنا ما يقرره، وهو ما روى مسلم عن عبد الله بن زيد قال:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يستسقي، فجعل إلى الناس ظهره يدعو الله، واستقبل القبلة، وحوَّل رداءه، وصلى ركعتين"، زاد البخاري:"وجهر فيهما بالقراءة"، وزاد عن المسعودي:"جعل اليمين على الشمال" وغير ذلك من الأحاديث التي سنذكرها، وقد روي "أن سليمان-[صلى الله] على نبينا وعليه وسلم- خرج يستسقي مع قومه، فرأى نملة ملقاة على قفاها تقول: اللهم، لا تهلكنا

ص: 512

بذنوب بني آدم واسقنا؛ فسقوا؛ فانصرف وقال: انصرفوا فقد كفيتم بغيركم"، وهذا دليل على مشروعية الاستسقاء، وهو مجمع عليه.

وأما الصلاة له فدليل ذلك ما تقدم في الخبر مع ما سيأتي من الأخبار أيضاً، وبذلك يظهر أنها سنة لا بدعة، خلافاً لأبي حنيفة، وقد أجمع الصحابة عليها؛ فإن عمر استسقى بالعباس عام الرَّمادة- كما سنذكره- ولم ينكره أحد، وهي مؤكدة؛ فلا يستحب للإمام تركها، فإن تركها قال الشافعي في "الأم": فقد أساء ولا إثم بترك السنة، ولا قضاء عليه ولا كفارة، وأقامها الرعية لأنفسهم، ولا فرق في ذلك بين أهل القرى والبوادي والأمصار، ولا بين المقيمين والمسافرين؛ [لاستواء الكل في الحاجة، وقد حكى الماوردي [وجهاً] عند الكلام في أفضل الصلوات أنها فرض كفاية].

وقال الجيلي هنا: إن القفال ذكره في "الخصال"، والمشهور أنها غير واجبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي:"خمس صلواتٍ كتبهنَّ الله على العبد في اليوم واللَّيلة. قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوَّع" أي: بالنذر.

وقد عمل الأصحاب بموجب ذلك فقالوا: لو نذر الاستسقاء [والصلاة]- والوقت وقت جدب- لزمه، ولو نذر الاستسقاء لزمه أيضاً، نص عليه في "الكبير" كما قاله الإمام وغيره. وهل يلزمه معه الصلاة حتى لا يخرج عن

ص: 513

موجب نذره إلا بها؟

قال القاضي الحسين: يحتمل وجهين، والمنقول منهما في "الأم"- كما سنذكره، وهو "الكبير"-: لزوم الصلاة والخطبة أيضاً.

ولو نذر أن يستسقي بالناس قال الفوراني والقاضي الحسين والمتولي: إن كان مطاعاً [فيهم] لزمه نذره، وإلا فلا ينعقد نذره.

وقال البندنيجي: إنه إن كان إماماً لزمه أن يأمرهم بالاستسقاء ويسعى فيه، ولا يلزمهم [ذلك]. وإن كان غير إمام لزمه أني ستسقي بنفسه، وليس عليه أن يخرج الناس، ويستحب أن يخرج من يطيعه من أهله وولده وغيرهم.

قال الشافعي: وأحبُّ أن يكون في المسجد، فلو استسقى في بيته أجزأه.

قال: إذا أجدبت الأرض، أي: قحطت؛ لأن الجدب: القحط، وهو بفتح الجيم وإسكان الدال المهملة، والقحط: قلة ثمار الأرض.

قال: وانقطع الغيث- أي: المطر- أو انقطع ماء العين، أي: وما في معناه مثل: النيل في بلادنا، ونحو ذلك في وقت الحاجة إليه.

وقد قال بعضهم: لو قال الشيخ: إذا أجدبت [الأرض] بانقطاع الغيث أو ماء العين، أو قلَّا بحيث لم يحصل المقصود- كان أحسن، وهو الموافق لنصه في "الأم"؛ فإنه قال: فإذا كان جدبٌ أو قلة ماءٍ في نهر أو عين أو بئر في حاضر أو بادٍ من المسلمين، لم أحب للإمام أن يتخلف عن عمل الاستسقاء.

قلت: ولعل كلام الشيخ أحسن؛ لأن القحط يحصل عند قلة الغيث أو قلة ماء العين ونحوه. وعند انقطاع ذلك كله تعدم الثمار؛ فكان ما ذكره شاملاً للحالين بعبارة أخصر من عبارة المعترض، والله أعلم.

قال: وعظ الإمام الناس، أي: خوفهم وحذَّرهم من عذاب الله، والوعظ: التخويف والتذكير بالعواقب، يقال: وعظه يعظه، وعظاً وعظةً وموعظةً، فاتَّعظ: أقبل على الوعظ.

قال: وأمرهم بالخروج من المظالم، والتوبة من المعاصي، أي: وهي

ص: 514

المحرمات بحق الله- تعالى- أو حق الآدمي، وسنقف في كتاب الحدود على حقيقة التوبة.

قال: ومصالحة الأعداء، أي: إذا كانت العداوة [في غير] الله- تعالى-[لأن ارتكاب المظالم والإقدام على المعاصي، ومنها العداوة في غير الله تعالى] من المحرمات، والإصرار عليها موجب للضيق في الرزق؛ قال- عليه السلام "إنَّ الرَّجل ليحرم الرِّزق بالذَّنب يصيبه" وقال مجاهد: في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَاّعِنُونَ} [البقرة: 159] أي: دوابّ الأرض تقول: منعنا المطر بخطاياهم.

وقول النملة شاهدٌ له أيضاً، والإقلاع عن ذلك موجب للسلعة في الرزق.

قال الله- تعالى- حكاية عن موسى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً ..} الآية [هود: 52]، وقال:{لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} الآية [الأعراف: 96]، وقد روي أن موسى- على نبينا وعليه السلام- خرج ليستسقي لقومه، فما سقي؛ فقال: من أذنب ذنباً فلينصرف. فانصرفوا كلهم إلّا رجلاً فالتفت فرآه أعور، فقال: ما سمعت قولي؟ فقال: قد سمعت ولا ذنب لي إلّا واحداً: نظرت إلى امرأة؛ فقلعت عيني هذه؛ فاستسقى به فسقي.

ص: 515

قال: والصدقة؛ لأن الصدقة أمام الحاجات أنجح لقضائها، كما تقدم في باب صدقة التطوع.

قال: وصيام ثلاثة أيام، أي متتابعات تقرباً لله تعالى؛ فإنه قال:"كلُّ عمل ابن آدم له إلَّا الصَّوم فإنَّه لي، وأنا أجزي به".

قال: ثم يخرج بهم إلى المصلّى- أي مصلى العيد- لما روى أبو داود عن عائشة قالت: "شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر؛ فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس .. ".

قال الأصحاب: والمعنى في الخروج إلى المصلى: أن المسجد قد يضيق عليهم، ونحن مأمورون بتنحية الصبيان، وما نحن فيه مؤثرٌ فيه إحضارهم. ولأنهم إذا استسقوا في الصحراء فبدا السحاب شاهدوه وإن كان خفيّاً؛ فحمدوا الله على سرعة الإجابة والمسجد ربما حال عن مشاهدة ذلك.

قال [في]"البويطي": ويخرجون مشاة والإمام يخرج كذلك متكئاً على قوسٍ أو عصا.

وعن الروياني: أن بعض الأصحاب خرَّج قولاً أنها لا تقام إلا حيث تقام الجمعة، قال: وليس بشيء.

قال: في اليوم الرابع، أي: وهم صيامٌ؛ لأن دعاء الصائم أقرب إلى الإجابة، قال صلى الله عليه وسلم:"صمت الصَّائم تسبيحٌ، ونومه عبادةٌ، ودعاؤه مستجابٌ، وعمله مضاعفٌ".

وخالف هذا يوم عرفة حيث استحب إفطاره للواقف بها، وإن كان الدعاء فيه

ص: 516

مقصوداً؛ لأنه يجتمع على الإنسان فيه مشقة السفر والصوم فيضعف عنه؛ فاستحب له الفطر؛ لتزول إحدى المشقتين عنه فيقوى عمله، وليس كذلك هنا.

وأيضاً فالخروج في الاستسقاء أول النهار قبل تأثير الصوم فيه، بخلاف يوم عرفة.

ولو خرجوا مفطرين جاز، لكن الأولى: الصوم.

قال: بعد غسل وتنظيف، أي: بالماء والسواك، وقطع الروائح الكريهة؛ لأنه محلٌّ شرع فيه الاجتماع؛ فسُنَّ فيه ذلك كالجمعة.

قال: في ثياب البذلة؛ ليكون على هيئة السؤال، ويشهد لذلك الخبر الذي سنذكره.

والبذلة- بكسر الباء-: ما يبتذل من الثياب ويمتهن بلبسه حال الشغل والخدمة، وجاء فلان في مباذله، أي: في ثياب بذلته، وعلى هذا قال النواوي: فقول المصنف: ثياب البذلة، هو من باب إضافة الموصوف إلى صفته؛ كقوله تعالى:{بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44]{وَلَدَارُ الآخِرَةِ} [يوسف: 109]، ومذهب الكوفيين: إجراؤه على ظاهره، ومذهب البصريين: تقدير محذوفٍ، أي: جانب المكان الغربي، ودار الحياة الآخرة.

وكذا ينبغي أن يكون مشيهم وجلوسهم وكلامهم كلام متواضع واستكانة، نص عليه في "الأم"، ووجهه: ما روى أبو داود عن عبد الله بن كنانة قال: أرسلني الوليد بن عتبة- وكان أمير المدينة- إلى ابن عباس أسأله عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، فقال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متبذِّلاً متواضعاً

ص: 517

متضرعاً، حتى أتى المصلَّى".

وقد أفهم قول الشيخ: "في ثياب البذلة" أنه لا يتطيب؛ لأنه لا يليق بالبذلة التطيب؛ بل هو لائق بثياب التزين؛ لأنه من تتمة إظهار السرور فهو ضد ما نحن فيه، وبذلك صرح الأصحاب.

وقال بعضهم: إنه لو خرج حاسر الرأس حافي الرِّجل فلا بأس به؛ لأن ذلك يليق بالحال، وهو ما أورده المتولي، واستبعده الشاشي.

قال: ويخرج معه الشيوخ والعجائز والصبيان. أراد بهذا بيان أن خروج هؤلاء أشد استحباباً من خروج غيرهم، كما صرح به البندنيجي وغيره؛ لأن دعاءهم مرجوُّ الإجابة؛ فإن الشيوخ أرق قلوباً، وكذا العجائز والأطفال ليسوا من أهل الذنوب.

وبعضهم استدل لذلك بقوله- عليه السلام: "لولا صبيانٌ رضَّعٌ، وبهائم رتَّعٌ،

ص: 518

وشيوخٌ ركَّعٌ- لصبَّ عليكم العذاب صبّاً".

قال القاضي الحسين: وقد اختلف في المراد بالركَّع في الخبر:

فقيل: الراكعين في العبادة، ويشهد لذلك أنه جاء في رواية:"وعبَّادٌ ركَّعٌ".

وقيل: الذين انحنت ظهورهم من الشيخوخة، ويشهد له ما روي أنه- عليه السلام قال:"إذا بلغ الرَّجل ثمانين سنةً غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر".

و"الشيوخ" جمع "شيخ"، وهو من جاوز الأربعين.

و"العجائز" جمع "عجوز"، ولا يقال: عجوزة.

وقد أفهم ما ذكرناه من استحباب إخراج الشيوخ ونحوهم استحباب إخراج ذوي الصلاح والخير؛ لأن المعنى الذي لأجله استحببنا إخراج الشيوخ- وهو رجاء إجابة الدعاء- موجود فيهم، وكذا يستحب أن يستسقى بالخيار من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأهل الصلاح؛ لما روي أن عمر استسقى بالعباس فأخذ بضبعيه وأشخصه قائماً وأومأ نحو السماء وقال:"اللهم إنا كنّا إذا قحطنا توسَّلنا إليك بنبيِّنا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا". رواه البخاري.

والضَّبع: دون الكتف مما يلي المرفق.

ص: 519

وقد روي أن العباس دعا، ولما فرغ من دعائه نشأت السحاب، وهطلت السماء، وطفق الناس بالعباس يمسحون رداءه ويقولون له: هنيئاً لك، ساقي الحرمين.

واستسقى معاوية بيزيد بن الأسود، وقال: إنا نستسقي بخيارنا وأفضلنا، يا يزيد، ارفع يديك فرفع ورفع الناس فسقوا.

وإخراج النساء ذوات الهيئات والشباب مكروه؛ مخافة الفتتان بهن.

قال: وإن أخرجوا البهائم لم يكره؛ لأنها مما عمَّه الجدب وضمن الله له الرزق، إلا أنه لا يستحب؛ لأنه- عليه السلام لم يخرجها. وهذا ما أورده البندنيجي والمتولي، وحكاه القاضي أبو الطيب عن الأصحاب وعن نصه في "الأم" حيث قال: ولا آمر بإخراج البهائم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرجها، فإن أخرجت فلا بأس.

وقال ابن الصباغ عقيب حكاية هذا النص: فكأنه ما استحب ذلك ولا كرهه. وقال بعضهم: إنه يكره؛ لأنه مخالف للسنة، وفيه تعذيبهم واشتغال الناس بأصواتهم. وادّعى الماوردي أن هذا [ما] عليه سائر الأصحاب، إلا ابن أبي هريرة فإنه قال: إنه مستحب؛ لما ذكرناه من علة نفي الكراهة، وأنه استأنس بما ذكرناه من قصة النملة.

ونسب القاضي أبو الطيب وابن الصباغ القول بالاستحباب إلى أبي إسحاق، وحكاه القاضي الحسين عن القفال أيضاً؛ تمسكاً بالخبر السالف ولم يحك غيره، وهو الذي صححه الرافعي، وأشار الإمام إلى أن الخلاف في المسألة قولان؛ فإنه قال: وفي إخراج البهائم قصداً ترددٌ في النص.

قال: وإن خرج أهل الذمة- أي من الرجال والنساء- لم يمنعوا؛ لأنهم يشاركون المسلمين في طلب الرزق ورجاء الفضل، وما عند الله واسع، وقد يجيبهم الله- تعالى- استدراجاً، قال الله- تعالى- {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي

ص: 520

مَتِينٌ} [القلم: 45]، {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم: 44]، قال المفسرون: معناه: كلما زادوا في المعصية زدناهم في النعمة.

قال: ولكن لا يختلطون بالمسلمين- أي في مصلاهم- بل يكونون في بيعهم وكنائسهم؛ لأنهم أعداء الله، واللعنة تنزل عليهم، وقد قال- تعالى-:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، فإن خالطوهم كان مكروهاً.

وقد أفهم كلام الشيخ: أن الإمام لا يأمرهم بالخروج، وبه صرح الأصحاب، بل قال الشافعي: وأكره إخراجهم، ولا أكره من إخراج صبيانهم ما أكره من إخراج رجالهم؛ لأن غير البالغ غير معاند.

قال القاضي الحسين: ولأن العلماء اختلفوا في أمرهم إذا ماتوا قبل البلوغ بخلاف البالغين.

وينبغي [للإمام أن] يحرص على أن يكون خروجهم إذا أرادوه في غير اليوم الذي يخرج فيه المسلمون، فإن خرجوا فيه فمن أصحابنا من منعهم، ومنهم من تركهم.

قال في "الحاوي": وهو أصح- إن شاء الله- ولم يورد ابن الصباغ غيره.

قال: ويصلي بهم ركعتين كصلاة العيد؛ لما روى أبو داود في تتمة حديث عبد الله بن كنانة السابق: "ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد"، و [هذا التشبيه يقتضي] أموراً:

أحدها: أن وقتها وقت العيد لا قبله ولا بعده، وهو المعزي في "الروضة" إلى الشيخ أبي حامد والمحاملي، والمذكور في "التهذيب"، وحكاه الإمام عن الشيخ أبي علي، ثم قال: وهذا وإن كان وفاء بالتشبيه على الكمال، ولكني لم أره لغيره من الأئمة. وعن الروياني وآخرين: أن وقتها يبقى بعد الزوال ما لم

ص: 521

[يصلَّ العصر]، وهو الذي أورده البندنيجي، وهو الظاهر من كلامه في "الأم"؛ فإنه قال: لو صلوها بغير طهارة أعادوها في يومها بعد الظهر وقبل العصر، وقد أورد الرافعي على ذلك سؤالاً فقال: قد قدمنا وجهين في أن صلاة الاستسقاء: هل تكره في الأوقات المكروهة أم لا؟ ومعلوم أن الأوقات المكروهة غير داخلة في وقت صلاة العيد، ولأنه مع انضمام ما بين الزوال والعصر إليه فيلزم ألا يكون وقت الاستسقاء منحصراً في ذلك، وليس لحامل أن يحمل الوجهين في أوقات الكراهة على قضائها؛ فإن صلاة الاستسقاء لا تقضى كما صرح به في "التتمة"؛ لأنها لا تختص بوقت دون وقت، بل أيَّ وقت صلَّوها من ليل أو نهار جاز.

قلت: وفيما قاله نظر من وجوه:

أحدها: أنه قد قيل: إن أوّل وقت صلاة العيد يدخل بطلوع الشمس قبل زوال وقت الكراهة، وهو الأصح في "الروضة"، وعلى هذا فقوله:"ومعلوم أنّ أوقات الكراهة غير داخلة في وقت صلاة العيد" ليس معلوماً؛ بل المعلوم دخول وقت الكراهة فيه، ثم لو قلنا بأنّ وقت صلاة العيد لا يدخل إلَّا بعد زوال وقت الكراهة- كما هو مذكور في موضعه، وأفهمه قول البندنيجي هنا: إنّ وقتها وقت صلاة العيدين سواء لا يفترقان، وهو إذا طلعت الشمس وبرزت قليلاً دخل وقتها في هذا اليوم- فالاعتراض باقٍ؛ لأن وقت الاستواء من الأوقات المكروهة، وهو داخل في وقت العيد؛ إذ هو يخرج بالزوال.

ولا يقال: إن مقصوده جميع أوقات الكراهة؛ لأن ذلك غير مراد في كلام الأصحاب، وقد تعرض لبعض ما ذكرته الشيخ محيي الدين النواوي في "الروضة".

الثاني: على تقدير صحة ما ذكره من أن أوقات الكراهة لا تداخل [في] وقتها، فقوله:"وليس لحامل أن يحمل الوجهين في أوقات الكراهة على القضاء؛ فإن صلاة الاستسقاء لا تقضى" ممنوع؛ فإن ابن الصباغ حكى عن نصه في "الأم" فيما إذا نذر الإمام أن يستسقي لزمه ذلك، وعليه أن يخرج بالناس ويستسقي ويصلي ويخطب بهم، فإن سقوا قبل أن يخرج خرج واستسقى، وكان

ص: 522

ذلك قضاء؛ كما إذا نذر أن يصوم يوماً ففاته قضاه.

الثالث: أن كلامه عند تقرير السؤال يفهم أنه ليس في المسألة إلا مذهبان:

أحدهما: أن وقتها وقت العيد فقط.

والثاني: أنه يمتد ما لم يصلّ العصر.

وما حكاه عن المتولي في معرض الاستشهاد على رد ما قد يقال: إنه جواب، وهو [أن] حمل كلام الأصحاب في الأوقات المكروهة على القضاء مذهب مخالف للمذهبين، وبه يندفع أصل السؤال؛ لأنه- حينئذٍ- يصح أن يقال تفريعاً عليه: ولا تقام في الأوقات المكروهة. وما نقله المتولي يرشد إليه كلام الشافعي؛ فإن ابن الصباغ قال: ووقتها وقت صلاة العيد، إلا أن الشافعي قال: فإن لم يصلها قبل الزوال صلاها بعده؛ لأنه لا وقت لها يفوت. فقول الشافعي: "لا وقت لها يفوت" عين ما قاله المتولي، وهو الذي حاول الرافعي بما ذكره إثباته، ويؤيد ذلك قول ابن الصباغ: إن ما قاله الشافعي صحيح؛ لأن صلاة الاستسقاء لا تختص بيوم دون يوم فلم تختص بوقت دون وقت، ولأجل ذلك قطع به الأكثرون، وصححه في "المحرر". والمحققون ومنهم صاحب "الحاوي"، كذا قاله في "الروضة".

قلت: لكن كلام صاحب "الحاوي" يمكن أن يؤخذ منه الجمع بين النقلين الأول والأخير؛ لأنه قال: وقتها في الاختيار كوقت صلاة العيد؛ لاجتماعهما في الصفة؛ فإن صلاها في غير وقت صلاة العيد: إما قبل طلوع الشمس، أو بعد زوالها أجزأه، بخلاف العيد؛ لاستواء الوقتين في المعنى المقصود بالصلاة، والله أعلم.

الأمر الثاني: أنه لا يؤذن لها ولا يقام، بل ينادى لها: الصلاة جامعة، وبه صرح الأصحاب مستدلين على خصوص ذلك برواية أبي هريرة: أنه- عليه السلام صلى الاستسقاء ركعتين بغير أذان ولا إقامة، ولأن [الأذان و]

ص: 523

الإقامة من شعائر الفرائض، وهذه نافلة، وإنما استحببنا أن ينادى لها: الصلاة جامعة؛ لأن كل صلاة سنَّ لها الجماعة ولم يسن لها الأذان والإقامة، كان قول:"الصلاة جامعة" سنة فيها.

الأمر الثالث: أنه يكبر في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً على وجه الاستحباب؛ وهو كذلك لرواية الدارقطني في تتمة حديث عبد الله بن كنانة:"صلى ركعتين كما يصلي في العيد: كبر في الأولى سبع تكبيرات وقرأ بـ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، وقرأ في الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وكبر خمس تكبيرات" وقد روي أن أبا بكر وعمر كانا يصليان صلاة الاستسقاء يكبران فيها سبعاً وخمساً، ولم ينكر ذلك أحد.

الأمر الرابع: أنه يجهر فيها بالقراءة؛ وهو كذلك لرواية البخاري المتقدمة في أوّل الباب.

الأمر الخامس: أنه يقرأ فيها بعد الفاتحة ودعاء الاستفتاح والتعوذ ما يقرأ في العيد، فيقرأ في الأولى سورة "ق"، وفي الثانية "اقتربت الساعة"، وهو المذهب في "المهذب"؛ لأن عليه نص الشافعي هنا، كما حكاه ابن الصباغ [والقاضي الحسين].

فإن قلت: الحديث السابق دال على استحباب قراءة "سبح" في الأولى و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} في الثانية، فلم عدلتم عنه إلى ما اقتضاه الحديث الدال على التشبيه بالعيد، مع أنه يجوز أن يخص بما ذكرناه.

قلنا: قد قيل إن في رجاله محمد بن عبد العزيز وهو ضعيف الحديث؛ فلذلك لم يخص به ما ثبت صحته، وقد قال الشيخ: ويستحب أن يقرأ فيها سورة نوح؛ لأنها لائقة بالحال، وكذا حكاه القاضي أبو الطيب عن بعض الأصحاب، وقضية هذا مع قوله:"ويصلي ركعتين كصلاة العيد" أن تكون سورة نوح زائدة

ص: 524

على ما يقرؤه في العيد وأنها تكون في الأولى أو الثانية، وعبارة القاضي الحسين تقرب من ذلك؛ لأنه قال بعد حكاية ما نقلناه من النص: قال أصحابنا: المستحب أن يقرأ في إحدى الركعتين السورة التي فيها ذكر نوح، وكذا حكاه الإمام عن رواية الصيدلاني عن الأصحاب، والمراد- والله أعلم-: أن يجعلها بدلاً عن إحدى السورتين، وكذا قال في "الوسيط": ومن أصحابنا من قال هي كصلاة العيد إلا أنه يبدل السورة في إحدى الركعتين فيقرأ {إِنَّا أَرْسَلْنَا} ؛ لاشتمالها على قوله: {يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح: 11] ولم يحك غير ذلك.

قال الرافعي: ولتكن تلك الركعة هي الثانية، ويقرأ في الأولى سورة {ق} ؛ رعاية لنظم السور.

وقد حكاه على هذا النحو وجهاً بعيداً بعد حكاية المذهب: ابن الصباغ والبغوي والشيخ في "المهذب"، وينسب للشيخ أبي حامد، وفي "تعليق" البندنيجي: أنه يفعل في هذه الصلاة ما يفعل في صلاة العيد، وما يقرأ فيها من القرآن وصفة القراءة، وإنما تفترقان [في أن] الشافعي قال: ولو قرأ في الثانية بسورة نوح فلا بأس؛ لما فيها من ذكر إدرار الأمطار، وما فيها من الحث على الاستغفار، وإلا فهما سواء.

وقد حكى عن المحاملي مثل ذلك، ولم يحك الماوردي عن الأصحاب غيره؛ فإنه قال: قال أصحابنا: لو قرأ في الثانية سورة نوح كان حسناً.

وهذا يدل على أنه لا خلاف في المسألة، وفي "التتمة" أنه يقرأ في الأولى إما {ق} أو {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ} [القمر: 1]، وفي الثانية سورة نوح.

قال: ويخطب خطبتين، أي: على منبر أو شيء عال؛ لأنه صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب لها على المنبر، ويجوز أن [يخطب لها] قاعداً كما في العيد،

ص: 525

إلا أن ينذر الصلاة والخطبة؛ فإنه يخطبهما قائماً، نص عليه في "الأم".

قال في "الحاوي": ولو فعلهما راكباً وقد نذرهما جاز، وقال مجلي: يحتمل تخريجه على أن مطلق النذر يحمل على جائز الشرع أو واجبه.

ثم إنما تلزم الخطبة قائماً إذا كان الناذر إماماً أو معه من يلزمهم الخروج معه، فإن كان وحده فليس عليه أن يخطب قائماً، قاله البندنيجي والماوردي.

ولو اقتصر على خطبة واحدة جاز، لأنهما سنة، قاله البندنيجي، والمستحب أن يجلس أول ما يطلع المنبر، ثم يقوم ويخطب.

وقال أبو إسحاق: لا يجلس بل يخطب أول ما يطلع بعد السلام.

وهو مثل قوله في خطبة العيد.

واعلم أن كلام الشيخ يفهم أن الإتيان بالخطبتين جائز بعد الصلاة وقبلها، بمعنى أنه يعتد بهما كيفما وقعتا؛ لأنه أتى في العطف بلفظ [الواو المقتضية للجمع المطلق، ولو أراد أنه لا يعتد بهما إلا بعد الصلاة لأتى بلفظ]"ثم" أو الفاء كما فعل في باب صلاة الكسوف؛ لأن ذلك وضعهما.

وما أفهمه كلامه هو ما صرح به المتولي واختاره الشيخ [محيي الدين النواوي] في "الروضة"، وأشار إليه ابن الصباغ بقوله: إن ما ورد من أنه- عليه السلام وأبا بكر وعمر- رضي الله عنهما خطبوا بعد الصلاة، كما رواه الشافعي عن جعفر بن محمد عن أبيه- محمول على الأفضل، وما ورد من: أنه- عليه السلام خطب قبل الصلاة، كما رواه البخاري ومسلم عن عائشة حيث قالت:"فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه .. " إلى أن

ص: 526

قالت: "ثم نزل، فصلى بالناس ركعتين"- محمول على الجواز.

قال: وإنما قلنا: إن هذا محمول على الجواز وإن خلافه هو الأفضل؛ لأنه أكثر رواةً، والقياس يعضده؛ فإنها [صلاة] مسنونة شرعت لها الخطبة فكانت بعدها كخطبة العيد والكسوف، وكلام الأصحاب يشير إلى تعين ما بعد الصلاة للاعتداد بالخطبتين، وبه قيد بعض الشارحين كلام الشيخ، والله أعلم.

قال: يستغفر الله في افتتاح الأولى تسعاً، وفي الثانية سبعاً، أي: مكان التكبيرات؛ لأن ذلك أليق بالحال، وهذا ما أورده الماوردي والفوراني والإمام، وتبعهم الغزالي، وعن "البيان" أن المحاملي قال: إنه يكبر فيهما كما في العيد، وهو قضية التشبيه وكلام القاضي أبي الطيب وابن الصباغ في موضع كالمصرح به؛ لأنهما قالا: الفروع المذكورة في صلاة العيد مثلها في الاستسقاء، وفي آخر أنه يكبر في الخطبتين معاً، وكذلك قال البندنيجي حيث قال في صفة الخطبتين: أما الأولى فصفتها أن يكبر ثم يحمد الله .. وساق ما سنذكره، ثم قال: ثم يجلس [ثم يقوم] إلى الثانية فيبتدئها كما ابتدأ الأولى بالتكبير والتحميد والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء.

قال: ويكثر فيها من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك أرجى لتحصيل ما يقصده، ومن الاستغفار، ويقرأ فيها {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً ..} [الآيات] [نوح: 10 - 12]؛ لما روى أن عمر- رضي الله عنه استسقى على المنبر فلم يزد على الاستغفار، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما نراك استسقيت، فقال: لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً

} الآيات [نوح: 10 - 12].

و"المجاديح" جمع "مجدح": بكسر الجيم وفتح الدال، وقيل: بضم الميم، وهو كل نجم كانت العرب تزعم أنها تمطر به، فأخبر عمر أن المجاديح التي يستمطر بها الطر: الاستغفار، لا النجوم.

ص: 527

قال القاضي الحسين: وقد روي أن عليّاً وابن عباس كانا جالسين، فجاء سائر وسأل عليّاً عن جدوبة الزمان وانقطاع المطر، فقال له عليٌّ- كرم الله وجهه-: استغفر الله. فجاء آخر وشكا قلة المال؛ فأمره بالاستغفار، فجاء آخر وقال: ادع الله لي حتى يرزق لي ولداً؛ فأمره بالاستغفار؛ فضحك ابن عباس، فقال: أجبت في مسائل بجواب واحد، فقال عليٌّ: لعلك أنسيت القرآن، قال الله- تعالى-:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [الآيات][نوح: 10 - 12].

قال: ويرفع يديه ويدعو؛ لما روى مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في استسقاء حتى يرى بياض إبطيه، وروي عنه أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء، وروى أبو داود عن مالك بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سألتم الله عز وجل فاسألوه ببطون أكفِّكم، ولا تسألوه بظهورها".

قال عبد الحق: لكن إسناد مسلم أصح وأجل. ولاشك في قوله.

ص: 528

قال: بدعاء رسول صلى الله عليه وسلم فيقول: "اللَّهمَّ سقيا رحمةٍ" أي: اسقنا سقيا رحمةٍ، وهو بضم السين، اسم من قولك: سقاه الله، وأسقاه، "ولا سقيا عذابٍ ولا محقٍ".

المحق- بفتح الميم وإسكان الحاء-: قلة الخير، وقيل: الإتلاف وذهاب البركة.

"ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ، اللَّهمَّ على الظِّراب" أي: على الروابي الصغار، وهي بكسر الظاء المعجمة، وخصت بالذكر؛ لأنها أرفق للزراعة من رءوس الجبال.

"ومنابت الشَّجر، اللَّهمَّ حوالينا ولا علينا، اللَّهمَّ اسقنا غيثاً" أي مطراً؛ لأن الغيث المطر كما تقدم.

"مغيثاً"، أي: للخلق بإنقاذهم مما استغاثوا منه.

"مريئاً"، أي: حميد العاقبة، لا وباء فيه.

وقيل: ما تطيب به النفس وهو بالهمز ممدود.

"هنيئاً"، أي: طيباً لا ينغصه [شيء]، وهو بالهمزة ممدود، ومعناه: منمياً للحيوان من غير ضرر.

"مريعاً"، أي: يأتي بالرَّيع وهو الزيادة والنماء، وهو بضم الميم، وإن فتحها كان: الذي لا يترك الأماكن ريعه، أي: خصبه، وقد قيل: إنه كذلك مع ضم الميم أيضاً، وهو في الحالتين بالياء آخر الحروف، ويروى بضم الميم وبالباء الموحدة أيضاً، مأخوذ من قولهم: أربع البعير، يربع: إذا أكل الربيع و"مرتعاً"،

ص: 529

أي: ينبت ما ترتع فيه الماشية، وهو بالتاء ثالثة الحروف، مأخوذ من قولهم: رتعت الماشية، ترتع رتوعاً: إذا أكلت ما شاءت، ويرتع إبله فرتعت، وأرتع الغيث: إذا أنبت فأرتع فيه الماشية.

"غدقاً"، أي: كثير الكثير، وقيل: كبيره، وهو بفتح الغين والدال.

"مجللاً"، أي: ساتراً للأفق بعمومه، مأخوذ من جلال الفرس، وقال الأزهري: هو الذي يعم البلاد والعباد نفعه ويتغشاهم، وقيل: الذي يجلل الأرض بالنبات، وهو بكسر اللام.

"سحّاً"، السح: المطر الشديد الواقع على الأرض، يقال: سح الماء، يسحُّ: إذا سال من فوق إلى أسفل، وساح الماء، يسيح: إذا خرج على وجه الأرض؛ فيكون معنى ما ذكره الشيخ اللهم اسقنا مطراً ساحّاً، وهو بفتح السين.

"عامّاً طبقاً": أي مستوعباً للأرض مطبقاً عليها.

"دائماً، اللَّهمَّ اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين"، أي: الآيسين؛ لأن القنوط: الإياس.

"اللَّهمَّ إنَّ بالعباد والبلاد [والبهائم] والخلق من اللأواء" أي: من شدة الجوع، وهو ممدود بالمد.

"والجهد": [الجهد:] المشقة وسوء الحال، وقيل: البلاء والنصب، وهو بفتح الجيم، وقيل يجوز ضمها.

ص: 530

"والضنك": الضيق.

"ما لا نشكو إلا إليك": "ونشكو": بالنون.

"اللهم أنبت لنا الزرع وأدرَّ لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء وأنبت لنا من بركات الأرض".

قال الأزهري: بركات السماء: كثرة مطرها مع الرَّيع والنماء، وبركات الأرض: ما يخرج منها من زرع ومرعى.

"اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً؛ فأرسل السماء علينا مدراراً" أي السحاب، علينا مدراراً، أي: كثير المطر.

وما ذكره الشيخ من استحباب الإتيان بهذا الدعاء على النحو المذكور، هو ظاهر كلام الشافعي؛ فإن البندنيجي قال: قال الشافعي: ولا وقت في الدعاء، غير أني أحب أن يدعو بما روى المطلب بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند المطر:"اللَّهم سقيا رحمةٍ لا سقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ، اللَّهمَّ على الظِّراب ومنابت الشَّجر، اللَّهمَّ حوالينا ولا علينا".

وبما روى سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استسقى قال: "اللَّهمَّ على الظِّراب ومنابت الشَّجر، اللَّهمَّ حوالينا ولا علينا".

وبما روى سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استسقى قال: "اللَّهمَّ اسقنا غيثاً مغيثاً .. " إلى آخره.

وهو مذكور في "المختصر" هكذا، وقد حكاه الماوردي أيضاً، ولم يتعرض هو والبندنيجي إلى تقييده بحالة دون حالة، ويغلب على الظن أنهما لو لم يقولا

ص: 531

بإجرائه على ظاهره لقيداه، وأقوى من ذلك قول القاضي الحسين: وأما الدعاء في الاستسقاء فهو مذكور في "المختصر"؛ فلا حاجة إلى ذكره هنا، لكن ابن الصباغ قال: إن الدعاء المذكور متبوع.

قوله: "اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً .. " إلى آخره، يدعو به في الخطبة الأولى، وقوله:"اللهم سقيا رحمةٍ" إلى قوله: "حوالينا ولا علينا"- يدعو به عند كثرة المطر واتصاله ومخافة هدم البنيان.

وهذا ما أورده المتولي والشارحون [لهذا الكتاب]، واستدل بعضهم عليه بأن الواقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على هذا النحو؛ فإن مسلماً: روى عن أنس أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل؛ فادع الله يغثنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال:"اللَّهمَّ أغثنا، اللَّهمَّ أغثنا، اللَّهمَّ أغثنا" قال أنس: ولا والله، ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعةٍ وما بيننا وبين سلعٍ من بيت ولا دار، قال: وطلعت من ورائه سحابة مثل التُّرس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً. قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة

ص: 532

المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائماً، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللَّهمَّ حوالينا ولا علينا، اللَّهمَّ على الآكام والظِّراب وبطون الأودية ومنابت الشَّجر"[قال:] فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس.

لكن ما اقتضاه ظاهر كلام الشافعي الذي أورده الشيخ هنا وإن لم يذكره في "المهذب"، بل اقتصر على ذكر عجزه، وهو قوله:"اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً .. " إلى آخره، تبعاً للقاضي أبي الطيب- لا يعكر عليه الخبر، بل هو شاهد له؛ لأنه إذا جاز أن يدعى بذلك بعد نزول المطر فالدعاء به قبل نزوله؛ ليكون على وجه لا يحصل به ضررٌ أصلاً- أولى، والله أعلم.

وقد استحب الأصحاب له أن يدعو مع ذلك بدعاء الأنبياء- صلى الله على نبينا وعليهم- لأنه أسرع للإجابة، وهكذا فعل عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه فإنه كتب إلى ميمون بن مهران قال: قد كتبت إلى البلدان أن يخرجوا إلى الاستسقاء إلى موضع كذا وكذا، وأمرتهم بالصدقة والصلاة، وأمرتهم أن يقولوا كما قال أبوهم آدم- عليه السلام:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] ويقولوا كما قال نوح- عليه السلام: {وَإِلَاّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]، ويقولوا كما قال يونس- عليه السلام:{سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] ويقولوا كما قال موسى- عليه السلام: {إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16].

وأن يقول لكل من حضر ذلك أن يخطر بباله ما جرى له في عمره من قربة فعلها خالصاً لله- عز وجل ويسأل الله السقيا عندها؛ لما جاء في ذلك

ص: 533

من الحديث المعروف في الذين استدَّ عليهم الغار، فذكروا مثل ذلك؛ فنجاهم الله- تعالى- قاله القاضي الحسين مبسوطاً والإمام مختصراً، ونسبه إلى رواية الصيدلاني عن نص الشافعي في "الكبير"، ويستحب أن يقول سرّاً: اللهم أمرتنا بدعائك، وقد وعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا فأجبنا كما وعدتنا، اللهم فامنن علينا بمغفرة ما قارفنا، وإجابتك في سقيانا، وسعة رزقنا" نص عليه. ثم يدعو بعد ذلك بما شاء من أمر الدين والدنيا.

قال: ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة الثانية، أي: ليدعو سرّاً وجهراً.

قال الإمام: هكذا رواه عبد الله بن زيد الأنصاري صاحب الأذان وقد تقدم الحديث عن رواية مسلم في أول الباب.

قال: ويحول رداءه من يمينه إلى شماله، ومن شماله إلى يمينه، ويجعل أعلاه أسفله، أي: إذا كان مربعاً؛ [لأنه إذا] كان مدوراً لا يمكن ثبوته على عاتقه لتدويره، والأصل في ذلك مع ما ذكرناه في أول الباب عن عبد الله بن

ص: 534

زيد: ما رواه أبو داود عنه أيضاً قال: "استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خميصةٌ سوداء، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه".

فثبت عنه التحويل، ونبه على جعل الأعلى أسفل؛ لأنه تركه لعذر، ولأن في التحويل تفاؤلاً بالانتقال من حال إلى حال؛ لعل الله- تعالى- أن ينقلهم من حال القحط والجدب إلى حال السَّعة والخصب، وقد كان- عليه السلام يحب الفأل. وقيل: المعنى في التحويل أن يوافق الظاهر الباطن في تغير الحال، قاله المتولي. قال: ويتركه- أي الرداء- محولاً إلى أن ينزعه مع ثيابه؛ لأنه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم غيَّر رداءه بعد التحويل.

قال: ويفعل الناس مثل ذلك؛ لمشاركتهم له في المعنى الذي لأجله شرع التحويل.

وفي "المهذب" أن عبد الله بن زيد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حول رداءه حول الناس معه.

وقد حكى المراوزة والعراقيون عن القديم أنه لا ينكس المربع أيضاً، والجديد- وهو الأصح-: الأول.

وقال الإمام: إنا إذا قلنا به لزم من التنكيس والتحويل أن ينقلب الظاهر إلى الباطن والباطن إلى الظاهر؛ فيكون التغيير من ثلاثة أوجه، وإذا قلنا بالقديم كان من وجهين:

أحدهما: انقلاب الظاهر إلى الباطن والباطن إلى الظاهر.

والثاني: جعل ما كان على اليمين على اليسار، وما كان على اليسار على اليمين.

قال الرافعي: وهذا لم يذكره الجمهور، وليس في لفظ الشافعي تعرض له،

ص: 535

والوجه حذفه؛ [و] لأن الأمور الثلاثة لا يمكن اجتماعها إلا بوضع ما كان منسدلاً على الرأس أو لفِّه عليه، ومعلوم أنَّ هذه الهيئة غير مأمور بها، وليست هي من الارتداء في شيء، وفيما عدا ذلك لا يجتمع من الأمور إلا اثنان: إما قلب اليمين إلى اليسار مع قلب الظاهر إلى الباطن، أو قلب اليمين إلى اليسار مع قلب الأعلى إلى الأسفل، فإن شككت فيه فجرِّبْهُ يزل الشك.

واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمرين:

أحدهما: أنه مخير في تقديم الاستقبال على التحويل ونكسه؛ إذ الواو لا تقتضي ترتيباً، وإن قلت: إنها تقتضيه كان مقتضى ذلك: أنه يبدأ بالاستقبال ثم بالتحويل، وهو المذكور في "الوسيط"، لكن المذكور في "الحاوي" أن المستحب أنه إذا أراد الاستقبال حول الرداء ونكسه.

الثاني: أنه بعد أن يستقبل القبلة لا يستدبرها ويستقبل الناس؛ إذ لو كان يفعل ذلك لنبّه عليه.

والمنقول في "الحاوي" وغيره أن استقبال القبلة يكون في الدعاء، فإذا فرغ منه استقبل الناس، وأتى بباقي الخطبة ثم قال: استغفروا الله لي ولكم.

قال: فإن لم يسقوا أعادوا ثانياً وثالثاً؛ طلباً لتحصيل المقصود، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله يحبُّ الملحِّين في الدُّعاء"، وقال- عليه السلام: "يستجاب لأحدكم

ص: 536

ما لم يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي" رواه البخاري.

قال الشافعي: والدفعة الثانية والثالثة أقل استحباباً من الدفعة الأولى؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى واستسقى غير مرة.

وعن ابن كج حكاية وجه عن بعض الأصحاب أنها لا تفعل إلا مرة واحدة؛ لما ذكرناه.

والمذهب: الأول، والمراد بالعود: العود إلى الصلاة والخطبتين على النحو السابق.

لكن هل يكون العود الثاني بعد صيام ثلاثة أيام في اليوم الرابع، أو يكون في غد اليوم الذي وقعت فيه الصلاة الأولى والخطبتان؟ فيه اختلاف نصٍّ حكاه أبو الطيب:

الذي نقله المزني عنه: الثاني، وهو المحكي عن "الأم" و"البويطي" أيضاً.

والذي قاله في القديم الأول.

واختلف الأصحاب بعد ذلك:

فقال أبو الحسين بن القطان: المسألة على قولين، وليس في الاستسقاء مسألة [فيها] قولان إلّا هذه.

ص: 537

وقال عامة أصحابنا: بل على قول واحد. وهو ما نقله المزني.

والمذكور في القديم: الاستحباب، ويدل عليه قوله في "الأم": إن لم يسقوا عادوا للصلاة والاستسقاء، وأحبُّ أن يصوموا قبل ذلك، فإن لم يصوموا ووالوا بين الصلواتي وماً بعد يوم أجزأ.

وعن الشيخ أبي حامد أنه نزل النصين على حالين فقال: الموضع الذي قال: يصومون ثلاثاً، إذا كانت الموالاة [تقطعهم، فيصومون ثلاثاً ويخرجون في الرابع.

والموضع الذي قال: لا يصومون فيه، إذا كانت الموالاة] لا تقطعهم عن أشغالهم فيخرجون في اليوم الثاني صياماً.

واقتصر الماوردي والقاضي الحسين على إيراد الجديد.

وقال في "التتمة": أيّ الأمرين فعل جاز، وهذا يدل على استوائهما في نظره، والحكم في المرة الثالثة كالحكم في المرة [الأولى و] الثانية، والله أعلم.

قال: وإن تأهبوا للصلاة، فسقوا قبل الصلاة- صلوا؛ وشكروا لله- تعالى- وسألوه الزيادة؛ لقوله تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] وهذا ما نص عليه الشافعي في "الأم" كما حكاه المحاملي والماوردي وغيرهما، وقال: لو كان المطر وقت خروجهم صلَّوا في المسجد أو أخَّروه إلى انقطاعه.

وحكى الغزالي تبعاً لإمامه: أنهم إن سقوا قبل الاستسقاء خرجوا للشكر والموعظة، وفي أداء الصلاة للشكر وجهان:

أحدهما: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما صلى هذه الصلاة إلّا عند الحاجة.

والثاني: نعم، كما ذكره الشيخ والأكثرون، ومنهم الشيخ أبو حامد، ووجهه، [ما] تقدم.

والوجهان- كما قال- يجريان في أدائها للاستزادة من النعمة، وعني بذلك أنها هل تفعل لأجل استزادة النعمة في حال الخصب أم لا؟ وقد صرح بهما الإمام كذلك عن رواية الصيدلاني، والذي يقتضيه قول الشيخ: "إذا أجدبت الأرض

" إلى آخره: أنه لا يصلي ولا يستسقي لاستزادة النعمة؛ لأنه جعل

ص: 538

الجدب ونحوه شرطاً في فعل ذلك، والشيء ينتفي بانتفاء شرطه.

وعلى الوجهين ينبغي أن يتخرّج ما إذا نذر الاستسقاء في سنة الخصب: هل ينعقد نذره أم لا؟ فإن قلنا: إن ذلك لا يستحب- لم ينعقد نذره، وإن قلنا: إنه يستحب- انعقد ولزمه. ولو نذر الاستسقاء: فإن قلنا: إنّ نذر الاستسقاء يلزم الإتيان بالصلاة والخطبة- فالحكم كما تقدم، وإلا انعقد على الأصح. وقد أطلق القاضي الحسين القول بأنه هل يلزمه ذلك أم لا؟ يحتمل وجهين، وصرح بهما الإمام والمتولي.

قال: ويستحب الاستسقاء خلف الصلوات بالدعاء، أي: خاصة؛ لأنه في تلك الحالة أرجى للإجابة، وكذا يستحب في خطبة الجمعة كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما ذكرناه من المعنى.

وهذا هو النوع الثاني من أنواع الاستسقاء، وقد بقي منها نوع ثالث لم يذكره الشيخ، وهو الاستسقاء بالدعاء بغير صلاة ولا خلف صلاة ولا في خطبة الجمعة ونحو ذلك، سواء في ذلك حالة الاجتماع وحالة الانفراد، وهو أدنى أنواعه، وأكمله ما ذكره الشيخ أولاً، وأوسطه الوسط، وقد ادعى الرافعي أن كل ذلك وردت به الأخبار، واستدل القاضي أبو الطيب للأخير- مع أنه مجمع عليه- بأن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه فعل ذلك حين استسقى بالعباس، رضي الله عنه.

قال: ويستحب لأهل الخصب أن يدعوا لأهل الجدب؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وقد أثنى الله- تعالى- على قوم دعوا لإخوانهم فقال:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10]، والقاعدة المستقرة في الشريعة: أن الله- تعالى- إذا مدح شيئاً فقد طلب منا فعله، وإذا ذم شيئاً فقد طلب منا تركه، وأقل درجات الطلب: الندب، ولأن المسلم إذا دعا لأخيه بظهر الغيب قال له الملك: ولك مثله.

والخصب- بكسر الخاء-: ضد الجدب، والجدب- بفتح الجيم وإسكان

ص: 539

الدال المهمة، كما تقدم-: القحط.

قال الأزهري: الأرض الجدبة: التي لم تمطر، والخصبة: الممطرة التي أمرعت. وقد تقدم ما ينازع فيه.

وقد أفهم كلام الشيخ أنه لا يستسقى لهم على النعت المذكور في أوّل الباب، وقال الإمام: إن الشافعي قال: إذا بلغنا أن طائفة من المسلمين في جدب، فحسن أن نخرج ونستسقي لهم، وإن لم نبل بما بلوا؛ فإن المسلمين كنفس واحدة.

[نعم]، لو نذر الاستسقاء لهم، وهو في محل الخصب: فهل يلزمه الوفاء به؟ فيه وجهان.

قال: ويستحب أن يقف في أول المطر ليصيبه؛ لما روى البخاري عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل على منبره حتى رأينا المطر يتحادر على لحيته، وروى مسلم عنه قال: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، قال: فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله، لم صنعت هذا؟ قال:"لأنَّه حديث [عهدٍ] بربِّه عز وجل"، وكان ابن عباس إذا مطرت السماء قال لغلامه: أخرج فراشي ورحلي يصيبه المطر، قال الله- تعالى-:{وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48].

ويستحب أن يقول حين نزوله: "اللَّهمَّ صيِّباً نافعاً"، كما رواه البخاري، وفي

ص: 540

رواية ابن ماجه: "سيباً نافعاً" مرتين أو ثلاثاً، قاله في "الروضة"، ويستحب الجمع بينهما، ويستحب أن يدعو حال وقوع المطر؛ فإنه حالُ توقع الإجابة؛ قال- عليه السلام:"توقَّعوا الإجابة عند التقاء الجيوش، وإقامة الصَّلاة، ونزول الغيث".

قال: وأن يغتسل في الوادي إذا سال؛ لما روي أنه جرى الوادي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخرجوا بنا إلى هذا الماء الَّذي سمَّاه الله طهوراً فنتطهَّر به" رواه الشافعي بإسناده.

ص: 541

والوادي: اسم للحفرة، وقيل: للماء، والأوّل هو المشهور، وحينئذ يكون قولهم:"سال الوادي" أي: سال ماؤه.

وإذا زادت الأمطار وخشي منها انهدام البيوت ونحو ذلك، فيتسحب أن يدعو بما قدمه الشيخ من الدعاء كما نبهنا عليه، صرَّح به الأصحاب، ولا يشرع لذلك صلاة، نص عليه الشافعي، وتبعه الأصحاب، كما قال في "الروضة".

قال: ويسبّح للرعد والبرق، أي: يسبح الله- تعالى- عند رؤيتهما، فيقول: سبحان من يسبِّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، وروى أبو داود عن عبيد الله بن أبي جعفر أن قوماً سمعوا الرعد، فكبروا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا سمعتم الرَّعد فسبِّحوا ولا تكبِّروا" وهو مرسل. وروي عن ابن عباس أنه قال: كنا مع عمر في سفر، فأصابنا رعد وبرق، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته- ثلاثاً- عوفي من ذلك الرعد، فقلنا؛ فعوفينا.

وقال البندنيجي: يستحب إذا رأي ذلك أن يقول: سبحان من يسبّح له.

وفي "الحاوي": أنّ السلف كانوا يكرهون الإشارة إلى الرعد والبرق، ويقولون عند رؤيته: لا إله إلا الله وحده، سبُّوح قدُّوس، فيختار الاقتداء بهم في ذلك.

وفي "تعليق" البندنيجي أن الشافعي قال: لم أزل أسمع عدداً من العرب يكره

ص: 542

الإشارة إليه وإلى البرق، وشاهده: ما رواه أبو داود مرسلاً عن أبي حسين أنه- عليه السلام نهى أن يشار إلى المطر.

وإذا رأى البرق ينبغي أني فزع منه، وكذلك الرعد؛ فإنه- عليه السلام كان إذا رعدت السماء أو برقت، عرف ذلك في وجهه، فإذا أمطرت سرِّي عنه.

وهذا الفزع وما يتعلق به كان اللائق ذكره في باب صلاة الكسوف، والشيخ اتبع في ذكره هنا الأصحاب.

والرعد ملك والبرق أجنحته، حكاه الشافعي عن مجاهد، وعن عكرمة مثله.

قال الشافعي: وما أشبه قول مجاهد بالآية!

[و] في "تعليق" البندنيجي أنه- عليه السلام قال: "بعث الله السَّحاب فنطقت أحسن المنطق، وضحكت أحسن الضَّحك، فالرَّعد نطقها، والبرق ضحكها".

وقيل: إن الرعد ملك موكل بالسحاب، صوته تسبيحه، يزجي السحاب، ويؤلف بعضه إلى بعض، ويسوقه بتسبيحه إلى الأرض التي أمر الله- تعالى- أن تمطر فيها، قاله مقاتل.

وقيل: هو ملك يصوت للسحاب كالحادي للإبل.

وقيل في البرق: إنه سوط من نور يُزْجَي به السحاب، والله أعلم.

ص: 543