الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما يكره لبسه، وما لا يكره
المراد بالكراهة ها هنا: التحريم، وإطلاق ذلك جائز لغةً وشرعاً؛ ألا ترى إلى قول الشافعي:"وأكره لبس الديباج والدروع المنسوجة بالذهب، والقباء بأزرار الذهب"، وهو من أهل اللغة، وإلى قوله تعالى:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 38]؟! والمجوّز لذلك أن المحرم والمكروه اشتركا في كون الترك أرجح من الفعل؛ فجاز إطلاق أحدهما على الآخر كذلك.
قال: يحرم على الرجل استعمال ثياب الإبريسم.
استعمال الثوب يصدق على لبسه ظهارةً أو بطانة، وعلى الجلوس عليه والتدثر به والاستناد إليه، والكل حرام على الرجل، صرح به البندنيجي وأبو الطيب وغيرهما، والأصل فيه ما روى أبو داود، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه: "رأى حلةً سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه لتلبسها يوم الجمعة، وللوفود إذا وفدوا عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة"، وأخرجه البخاري ومسلم. [وعن] سالم [بن عبد الله] عن أبيه بهذه القصة، قال: "حلة استبرق" وأخرجه البخاري.
والحلة: ثوبان غير لفيقين رداء وإزار، سميا بذلك؛ لأن كل واحد منهما يحل على الآخر.
والسيراء- بكسر السين المهملة، وفتح الياء آخر الحروف وبعدها راء مهملة، وهي ممدودة-: الحرير الصلب؛ فمعناه: حلة حرير، وقيل: السيراء: نبت ذو ألوان وتخطيط سميت به بعض الثياب.
وقيل: السيراء: المضلع بالقزّ، [ويدل عليه رواية أبي داود التي أخرجها البخاري عن أنس بن مالك: أنه رأى على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم برداً سيراء. قال: والسيراء: المضلع بالقز].
وقد رواه بعضهم بالتنوين على الصفة، قال الخطابي: كما قالوا: ناقة عشراء، وقيده المتقنون على الإضافة.
والوفود: جمع وافد، وهم القوم يأتون الملك ركباناً، والقوم يجتمعون ويزورون البلاد.
وما روي أنه –عليه السلام قال: "لا تلبسوا الحرير؛ فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" أخرجه البخاري ومسلم.
فثبت بهذين الخبرين تحريم اللبس، وفيه تنبيه على تحريم ما سواه من الافتراش وغيره؛ لأن المعنى في التحريم ما في لبسه من الخنوثة التي لا تليق بشهامة الرجال. وخبر أبي موسى الأشعري الذي سنذكره يدل عليه، وأصرح منه رواية البخاري عن حذيفة بن اليمان: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن نلبس الحرير
والديباج، وأن نجلس عليه"، وقد قال الإمم: إن ما ذكرناه من المعنى هو علة التحريم، وإن كان معنى الفخر والخيلاء مرعيًّا في الحرير ولذلك حرمنا البطانة منه.
قال الرافعي: وهذا حسن، إلا أن هذا القدر لا يقتضي التحريم عند الشافعي؛ فإنه قال في "الأم":"ولا أكره لباس اللؤلؤ إلا للأدب؛ فإنه من زي النساء".
ثم ما ذكره الشيخ هو المشهور، وألحق به الشيخ أبو حامد تعليق الستور ونحوها، موجهاً ذلك بأن كل هذا ابتذال [وسرف]، وهو ما أورده الرافعي، وعن الشيخ أبي نصر المقدسي تنجيد البيوت بالثياب المصورة وغير المصورة من الحرير وغير حرام.
قال في "الروضة" في غير الحرير والمصور: والكراهة دون التحريم.
ومثل هذا في الغرابة ما حكاه الرافعي عن أبي الفضل العراقي من أصحابنا، كما حكاه أبو عاصم العبادي عنه: أنه لا يحرم الجلوس على الحرير، كما قاله أبو حنيفة، وحديث حذيفة بن اليمان حجة عليهما.
قال: أو ما أكثره إبريسم؛ لأن الحكم يدار على الغالب، خصوصاً إذا اجتمع الحلال والحرام والحرام غالب، وغذا قلنا: إن السيراء المضلع بالقز؛ كان الخبر دالاً على التحريم أيضاً، ولا فرق في ذلك عند العراقيين بين أن يكون الحرير ظاهراً على ما خالطه، أو الظاهر المخالط، وقال القفال وطائفة: إذا كان [الظهور للمخالط لا يحرم، وهذا في الحقيقة نظر إلى معنى الخيلاء، وقد قال الإمام: إنها ليست] علة في التحريم، بدليل تحريم البطانة من الحرير.
تنبيه: احترز الشيخ بقوله: "الرجل" عن أمرين:
أحدهما: المرأة؛ فإنه لا يحرم عليها الحرير، وغن شملها ما ذكرناه من الأخبار؛ لما روى ابن ماجه عن علي بن أبي طالب قال: "إن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ
حريراً فجعله في يمينه، وأخذ ذهباً فجعله في شماله، ثم قال:"إن هذين حرام على ذكور أمتي، حلّ لإناثهم"، وأخرج الترمذي من حديث أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حرّم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم"، وقال: حسن صحيح.
ومقتضى قول الشيخ إباحة افتراش الحرير للمرأة؛ لأنه من جملة الاستعمال، وهو ما صرح به العراقيون، والمتولي موجهاً ذلك بأن الحرير في حق النساء كالقطن [في حق الرجال].
وفي "الروضة": أنه الصحيح.
وقال المراوزة: إنه يحرم عليها ذلك، ولم يحك البغوي غيره، وقال الرافعي: إنه الأصح.
قلت: ويشبه أن يكون أصل هذا الاختلاف أن المرأة أبيح لها الحرير؛ لأن خنوثتها لا تأباه، أو لأجل الزينة؟ فإن قلنا بالأول لم يحرم عليها استعماله كيف كان، وإن قلنا بالثاني لم يبح لها منه إلا ما كان زينة. وقد أشار الأصحاب إلى المأخذ المذكور في "كتاب العدد"؛ حيث قال العراقيون: لا يحرم على من لزمها الإحداد لبس الحرير.
وقال القفال والإمام والبغوي: إنه يحرم؛ لأنه إنما أحل لها للزينة؛ فالتحقت في حال الإحداد بالرجال.
والخنثى المشكل في استعمال الحرير كالرجال، حكاه في "البيان".
قال الرافعي: ويجوز أن ينازع فيه.
والثاني: الصبي؛ فإنه لا يحرم عليه ذلك عند العراقيين، كما صرح به القاضي أبو الطيب، والبندنيجي في كتاب صلاة العيد، وكذا الفوراني؛ لأن شهامته لا تأبى ذلك، وعليه نص الشافعي؛ حيث قال في كتاب الزكاة:"ويزين الصبيان بالمصبغ والحلي"؛ فإنه لم يفصل في الحلي بين الذهب والفضة، ومن أبيح له ذلك أبيح له استعمال الحرير، وهذا ما صححه في "الروضة"، وكذا الرافعي في الحرير.
وحكى الماوردي وجهاً آخر: أنه يحرم عليه ذلك، بمعنى: أن وليه يمنعه من لبسه، أو لا يحل له أن يلبسه إياه، كما صرح به المراوزة وجهاً هكذا، ويقال: إنه اختيار القاضي الحسين؛ لأنه قال: ما لا يجوز استعماله بعد البلوغ يجب أن يكون محظوراً قبله؛ لأن الصبي وإن كان لا يعصي لصغره، فالولي مأمور بمنعه منه حتى لا يعتاده.
وفي المسألة وجه ثالث: أنه يحرم عليه ذلك بعد سنّ التمييز، ولا يحرم قبله، وهو ما صححه الرافعي في "الشرح"، وبه جزم في "التهذيب" كما قال، والذي
رأيته [فيه] جواز تلبيس الصبيان الديباج، غير أن الصبي إذا بلغ سنًّا يؤمر فيه بالصلاة نهي عن لبسه حتى لا يعتاده.
واحتزر الشيخ بقوله: "ثياب الإبريسم" عن استعمال ما ليس بثياب من الإبريسم، كما إذا اتخذ جبة من مباح وحشاها إبريسماً؛ فإنه لا يحرم عليه لبسها، كما حكاه البندنيجي والمتولي عن نصه في "الأم"، وادعى الإمام أنه لا خلاف فيه، لكنه أبدى احتمالاً فيه، وأشار في "التهذيب" إلى وجه فيه بقوله:"يجوز له لبسها على الأصح"، وجزم القول بأنه يجوز له أن يجلس فوقها، وكذا فوق الديباج، إذا وضع عليه ثوباً من قطن.
والفرق بين حشو الجبة من الحرير حيث لا يحرم، وبين بطانة الجبة إذا كان حريراً حيث يحرم: أن لابس الجبة المحشوة به لا يعد لابس حرير، بخلاف لابس ما بطانته حرير.
قال الإمام: ولا ينبغي أن يخرج هذا على ما سبق في الأواني من فرض إناء قد غُشي بالنحاس؛ فإن في هذا سرًّا ينبغي أن ننبّه عليه، وهو أن المعنى المعتبر في الأواني: الخيلاء والفخر، وهذا المعنى ليس يجري اعتباره في لبس الحرير، والدليل عليه: أنا لم اعتبرنا في الأواني الفخر أجريناه في الجواهر النفيسة على تفصيل قدمناه، وقد تتحقق النفاسة في غير الإبريسم من الأجناس، وقد ينقدح للناظر أن يقول: ما عدا الإبريسم ترتفع قيمته بالصنعة؛ فهو كالأواني التي قيمتها في صنعتها، وفيه نظر وتفصيل.
واحترز الشيخ بقوله: "أو [ما] أكثره إبريسم" عن أمرين:
أحدهما: ما أقله إبريسم: كالخز؛ فإن لحمته من صوف، وسداه إبريسم، والسدى في الغالب أقل من اللحمة، وذلك لا يحرم اتفاقاً، وقد روى أبو داود، عن عبد الله بن سعد، عن أبيه سعد قال:"رأيت رجلاً ببخاري على بغلة بيضاء، عليه عمامة من خز سوداء، فقال: كسانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ولا فرق عند العراقيين فيما إذا كان الحرير أقل بين أن يكون ظاهراً كالقباء، أو لا.
وعند القفال وطائفة: أنه إن كان ظاهراً حرم أيضاً؛ لأن المعنى الذي لأجله حرم المصمت من الحرير- وهو الفخر والخيلاء، أو التشبه بالنساء- موجود في هذه الحال’، وهذا أصح عند الإمام، لكن الأصح في "الكافي" وغيره: الأول.
واتفق الفريقان على أنه لا يحرم عليه الثوب المطرز بالحرير، والمطرف به، لحاجة وغير حاجة؛ "إذ كانت جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج" كما أخرجه مسلم، وروى أبو داود عن أبي عثمان [النهدي] قال:"كتب عمر إلى عتبة بن فرقد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير، إلا ما كان هكذا وهكذا، إصبعين وثلاثة وأربعة" وأخرجه البخاري ومسلم بنحوه. وضبط الجيلي المباح من ذلك بأن يكون لو جمع جميعه لكان أقل من نصف الثوب، فلو زاد لم يجز، وإن تساوى فوجهان.
والمذكور في "الكافي" الضبط بأربع أصابع مضمومة؛ اتباعاً للخبر.
وضبطه بعضهم بالعادة، فما زاد على المعتاد كان حراماً. قال الإمام: فلو وقع التردد في مجاوزة العادة، فهل نحكم بالتحريم؟ يحتمل أن يقال: الغالب
[في] الباب التحريم، حتى يقال في مظان الإشكال: نستديم التحريم إلى ثبوت التحليل، أو يقال: الغالب في الباب الإباحة حتى يثبت محرّم، وظاهر قوله- عليه السلام:"هما حرام" يوضح أن الغالب التحريم.
وطوق الجبة ملحق بما ذكرناه في الإباحة، وكذا ترقيعها، كما حكاه في "الكافي". وهل يجوز [أن يكون] في [كل] طرف من طرفي العمامة قدر أربع أصابع من حرير؟
قال في "الكافي": يحتمل وجهين، وقال: إن حكم الحكمين حكم طرفي العمامة. وفيه نظر؛ لأن الخبر ورد بإباحته في الكمين.
الأمر الثاني: ما استوى فيه الإبريسم وغيره؛ فإن في تحريمه وجهين في "المهذب" وغيره من كتب العراقيين:
أصحهما عند الشيخ والقاضي أبي الطيب والبغوي والرافعي: الإباحة.
وقال في "الحاوي": إن الأصح التحريم؛ لأن الإباحة والحظر إذا اجتمعا غلب حكم الحظر.
قلت: وقضية هذا التوجيه أن يقضي بالتحريم عند قلة الحرير، وقد جزم فيه بالإباحة، كما تقدم، والقائلون بالإباحة- عند التساوي- تمسك بعضهم بقول ابن عباس:"إنما نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عن الثوب المصمت من الحرير، فأما العلم من الحرير، وسدى الثوب، فلا بأس" أخرجه أبو داود.
قلت: وفيه نظر؛ لأن في إسناده خصيف بن عبد الرحمن، وقد ضعفه غير واحد، ولو سلم من ذلك لكان حجة على جوازه فيما إذا كان أقل؛ لما تقدم أن السدى أقل من اللحمة، كما صرح به ابن الصباغ والمتولي وغيرهما، وطريقة الشيخ أبي محمد ومن معه لا تخفى عليك بعد معرفتك ما تقدم، والله أعلم.
وقد أفهم قول الشيخ: "ثياب الإبريسم، وما أكثره إبريسم" أن القز لا يحرم،
وإن كان حريراً مصمتاً، ولكن هو كمد اللون، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الإبريسم هو الحرير الذي حل من على الدودة بعد موتها داخله، والقز: ما قطعته الدودة، وخرجت منه حية؛ فإنه لا يمكن حله، ويغزل كالكتان، كذا رأيته في كلام بعضهم. وما أفهمه كلام الشيخ هو وجه حكاه في "البحر" و"التتمة"؛ لأنه ليس من ثياب الزينة، لكن الصحيح- وبه جزم الجمهور، وادعى الإمام اتفاق الأصحاب عليه- التحريم، والإبريسم قد يطلق على الكل، وعلى ذلك جرى غير واحد من المصنفين، والشيخ اتبعهم.
والإبريسم بفتح الهمزة وكسرها والراء مفتوحة فيهما، وذكره ابن السكيت والجوهري بكسر الهمزة والراء، والله أعلم.
قال: وكذلك يحرم عليه- أي: على الرجل-[لبس] المنسوج بالذهب؛ لخبر أبي موسى الأشعري السالف؛ فإن المظهر فيه الاستعمال أو اللبس، وأيما كان فهو دال على المدعي، ومراد الشيخ بالمنسوج بالذهب:[المعمول منه كالدرع المرصدة للحرب، أي: التي جرت العادة بعملها من الحديد والجوشن، ونحو ذلك من آلة الحرب، ولفظ الشافعي الذي نقله المزني: "وأكره لبس الديباج، والحرير، والدروع المنسوجة بالذهب]، والقباء بأزرار الذهب".
وفي ذكر الشيخ ذلك تنبيه على منع الرجل من استعمال الذهب كيف كان؛ لأنه إذا حرم لبس آلة الحرب، وقد سامح الشرع في تحليتها بالفضة، فلأن يحرم لبس ما عداها من طريق الأولى. وقد فهمت مما تقدم أن [في] معنى اللبس غيره من أنواع الاستعمال، وقد اقتضى كلام الشيخ والخبر أنه لا فرق في المعمول من الذهب بين أن يكون صغيراً أو كبيراً، ويؤيده ما جاء في "صحيح
مسلم": "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القَسِّيِّ، والمعصفر، وعن التختم بالذهب"، والخاتم في حد القلة.
وقد يفهم كلام الشيخ أن لبس المعمول من الذهب وغيره كالحرير؛ إذ الذي صرح بتحريمه: المنسوج منه، وقد بينا أن مراده به: المعمول منه، والأصحاب مصرحون بأن [المعمول منه ومن غيره حرام، قل الذهب فيه أو كثر، حتى قال في "التتمة": إنه لو اتخذ خاتماً من فضة، وعمل أسنانه من ذهب، أو اتخذ حلقة من فضة، وجعل موضع الفص فصّاً من ذهب- حرم، وكذا جزموا بتحريم الطراز من الذهب، والتطريف][به]، ونسب مشايخنا صاحب "الباب التهذيب" إلى السهو؛ حيث سوى بين الحرير والذهب، فقال: لا بأس [بالمطرف بالديباج، ولا] بالطراز من الذهب إن لم يزد على أربعة أصابع خصوصاً. والمجزوم به في "التهذيب" المنع منه بكل حال، والفرق بينه وبين الحرير: أن اليسير منه يظهر فيه قصد الخيلاء والفخر، بخلاف الحرير. نعم، قال في "الكافي": إن علم الذهب إذا كان بحيث لو أحرق لا يحصل منه شيء- كان كالإبريسم، وإن كان يحصل منه ذهب، لا يجوز، فلعل صاحب "أللباب" أراد الحالة الأولى، والله أعلم.
قال: والمموه به- أي: حرام أيضاً- لما فيه من إظهار الخيلاء. وظاهر كلام الشيخ أنه لا فرق في تحريم لبسه بين أن يجتمع من الذهب شيء بالنار أو لا، وهو مخالف لما ذكرناه في باب زكاة الناضّ من أن تمويه السقف بالذهب حرام، ثم إن موّه، وكان يجتمع منه شيء بالنار حرم إبقاؤه، وإلا فلا، وجاز الجلوس تحته، ولاشك في أن الصورتين من حيث المعنى واحد، فلتستويا في الإباحة- عند عدم حصول شيء من الذهب بالنار- أو في التحريم؛ ولذلك حكى المتولي في إباحة ما نحن فيه خلافاً، كما قيل بمثله في الأواني.
وقد أفهمك ما قدمناه من بيان ما احترز عنه الشيخ بكلامه في الفصل قبله، ومثله جار هاهنا، وبه صرح الأصحاب، غير أن في "الحاوي" في كتاب الزكاة أن المرأة لو اتخذت ملبوساً- لم تجر عادة النساء به مما يلبسه عظماء الفرس- كان محظوراً، وكذا لبس نعال [الفضة والذهب]، وأن في جواز لبس الثياب المثقلة بالذهب المنسوجة به لها- وجهين، ووجه المنع بأن فيه كثرة إسراف وخيلاء، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك ثم، فليطلب منه.
قال: إلا أن يكون قد صدئ، [أي]: فلا يحرم؛ لزوال علة التحريم. وهذا الاستثناء يجوز أن يعود إلى المموه بالذهب والمنسوج به؛ لأن الشيخ أبا حامد قال: لو كان في الثوب ذهب فصدئ، وتغير، بحيث لا يبين- لم يحرم، والمموه من طريق الأولى، ون القاضي أبي الطيب أنه قال: إن الذهب لا يصدأ، وأجيب بأنه يصدأ إذا كان مشوباً بغيره. قال البندنيجي: وقد ألحق أصحابنا بهذا الطراز من الذهب إذا حال لونه واتسخ، وذهب حسنه. قال الماوردي: وكذا إذا طلي الذهب بغيره حتى لم يظهر، جاز لبسه.
وصدئ: بفتح الصاد، وكسر الدال، وبعدها همزة، قال أهل اللغة: صدأ الحديد: وسخه، مهموز، وقد صدئ يصدأ، [صدأ] مهموز ومقصور. قال النواوي: وقد رأيت من غلط فيه، فتوهمه غير مهموز.
قال: ويجوز للمحارب لبس الديباج الثخين الذي لا يقوم غيره مقامه في دفع السلاح، ولبس المنسوج بالذهب، إذا فاجأته الحرب ولم يجد غيره.
اعلم أن الشرط الذي ذكره الشيخ، وهو قوله:"إذا فاجأته الحرب ولم يجد غيره"، يجوز أن يكون الشيخ أراد عودة إلى المسألتين؛ عملاً بالقاعدة المستقرة عندنا أن الشرط إذا تعقب جملاً عاد إلى جميعها، وهو ما نقله المزني؛ حيث اعتبر في لبس الحرير أن تفاجئه الحرب، ولا يجد غيره، وكذلك في لبس المنسوج بالذهب؛ إذ بذلك تتحقق الضرورة، وعلى ذلك جرى صاحب "الحاوي"، والبغوي، ولفظ "الوسيط" هاهنا قد يفهمه؛ لأنه قال: لبس الحرير وجلد الكلب جائز عند مفاجأة القتال، وليس جائزاً في حال الاختيار.
ويجوز أن يكون الشيخ أراد عوده إلى المسألة الأخيرة فقط، وأما المسألة الأولى فلا يشترط فيها مفاجأة الحرب، وعدم وجدان غيره؛ بل يجوز لبسه ابتداء، وإن وجد غيره من آلة الحرب؛ لأن [حاجة] القتال لا تتقاعد عن حاجة القمل والحكة، وهو إذا كان به حكة أو قمل- جاز له لبس الحرير، كما ستعرف دليله، وهذا ما حكاه الرافعي عن [ابن] كج؛ حيث قال: إنه جوز اتخاذ القباء ونحوه مما يصلح في الحرب من الحرير، ولبسه فيها على الإطلاق؛ لما فيه من حسن الهيئة وزينة الإسلام؛ لتنكسر قلوب الكفار منه كتحلية السيف ونحوه. وعبارة البندنيجي توافق ذلك؛ فإنه قال: المذهب أن الحرير مباح [حال الحرب لحاجة وغير حاجة، والذهب يباح لحاجة، وغير مباح] لغير حاجة: وهو ما ذكره ابن الصباغ أيضاً، ولم يحك غيره، وقال: المستحب ألا يلبس الحرير أيضاً؛ لقول
الشافعي في "الأم": "ولو توقى المحارب أن يلبس ديباجاً، أو قزّاً ظاهراً- كان أحب إلي، وإن لبسه؛ ليحصنه فلا بأس إن شاء الله".
والفرق على هذا بينه وبين المنسوج بالذهب: أن تحريم الحرير أخف؛ ولذلك جاز استعمال القليل منه في غير الحرب، ولا كذلك الذهب، ولأن المنسوج بالذهب ثقيل على المحارب، كثقل غيره من الحديد؛ فلا حاجة إليه مع وجود غيره، و [لا] كذلك الديباج الثخين؛ فإنه أخف من غيره من آلات الحرب: كالدرع، والجوشن، فكانت الحاجة إليه ماسة، وإن وجد غيره من آلات الحرب؛ لأن الخفة في المحارب مطلوبة، وحينئذ فيكون قول الشيخ:"الذي لا يقوم غيره مقامه في دفع السلاح" بياناً لما يجوز لبسه منه في حالة الحرب، لا أنه يجوز أن يلبس فيه أي ثوب حرير كان، ومن ذلك يظهر لك أنه لا يجوز له ليس ما أكثره إبريسم في الحرب؛ لأنه لا يقوم مقام الديباج الثخين في دفع السلاح، وعليه نص في "الأم" حيث [قال]:"إن القز إذا كان غالباً، كرهته في الحرب وغير الحرب، وإن كان القز خالصاً كان مباحاً في الحرب"، وفرق بينهما بأن قال:"الخالص يحصنه، وإذا لم يكن خالصاً لم يحصنه إحصان ثياب القز".
قال البندنيجي: هذا نصه، وما رأيت أحداً من أصحابنا نقله، وأعجب من الإمام الرافعي كيف حمل قول الغزالي في باب صلاة العيد:["و] حيث حرمنا الحرير أبحناه؛ لحاجة القتال" على حالة مفاجأة الحرب، وعدم وجدان غيره، وقال: "إن ذلك إذن تكرار"؛ لأن الغزالي قال في صلاة الخوف ذلك، مع كونه حكى عن ابن كج أن ذلك جائز مع وجود غيره، وهو المذهب، كما ذكرناه، ومع ذلك لا يحسن أن يقال: إنه تكرار؛ لأنه يجوز أن يكون اختار في موضع ما قاله المزني، وفي آخر ما نص عليه في "الأم". والله أعلم.
قال: ويجوز شد السنّ بالذهب؛ للضرورة، ووجهه: أن ما عدا الذهب من الفضة وغيرها ينتن، بخلاف الذهب؛ فإنه لا ينتن، ويشهد لذلك ما روي "أن
عرفجة أصيب أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفاً من فضة، فأنتن عليه؛ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً [من] ذهب"، وقد روي أن "عثمان بن عفان شد أسنانه بالذهب" ولم ينكر عليه أحد.
وشد السن بالذهب: ربطه به، قاله البندنيجي في باب زكاة الحلي.
فإن قلت: قد حكى القاضي الحسين قبل باب الساعات التي تكره فيها الصلاة
عن نص الشافعي أنه لو اضطرب سن من أسنانه، فأثبتها بذهب، أو فضة- لم تصح صلاته؛ لأنها صارت ميتة، وهذا يدل على منع الشد.
قلت: النص محمول على ما إذا لم يبق لها ثبات في موضعها لولا الشد؛ ألا ترى إلى قوله: "صارت ميتة"؟! [وكلام] الشيخ محمول على ما إذا ضعفت مع بقائها ثابتة، والله أعلم.
وكذا يجوز أن يتخذ له أنفاً من ذهب- للخبر- وأنملة، وهل يجوز أن يتخذ إصبعاً، فيه كلام سبق في باب زكاة الناضّ، [وهو كلام متقدم عن موضعه، وسيأتي فيما بعد].
قال: ويجوز لبس الحرير للحكة، أي: إذا كان لبس غيره يؤذيه؛ لأنه- عليه السلام "رخص للزبير بن العوام، ولعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير؛ لحِكَّةٍ كانت بهما" أخرجه البخاري ومسلم، وزاد أبو داود:"في السفر". وفي "النهاية": أن الصيدلاني روى "أنه- عليه السلام أرخص لحمزة في لبسه؛ لحِكَّةٍ كانت به".
وقيل: لا يجوز- أي: لبسه- عملاً بعموم خبر أبي موسى الأشعري، والرخصة يجوز أن تكون خاصة بالمذكورين لأمر آخر، وظن الراوي أن السبب الحكة، وهذا الوجه قد حكاه الرافعي في كتابه عن "التنبيه"، وهو دليل على أنه لم يجده في غيره؛ ولذلك قال بعضهم: إنه لم يره هكذا في مشاهير الكتب، بل المنقول فيها ما ذكره الشيخ أولاً، وفي بعضها حكاية وجه آخر: أنه لا يجوز لبسه لأجل ذلك في الحضر؛ لأن الرخصة [فيه] وردت في السفر، كما ذكره
أبو داود، والمقيم يقدر على تعاهد ذلك بالمداواة.
وكما يجوز لبسه للحكة يجوز لبسه، لدفع القمل؛ لأنه روي أنه- عليه السلام "أرخص للزبير بن العوام، ولعبد الرحمن بن عوف في لبسه لذلك" رواه أنس.
قال: ويجوز أن يلبس دابته الجلد النجس، أي: إما لكون الحيوان لا يحل بالذكاة فذُكِّي أو مات، أو يَحَل بها لكنه مات من غير ذكاة، ووجهه: أنه يجوز له أن ينتفع بالنجس فيما لا يلاقي بدنه: كتسميد الأرض بالسرقين ونحوه إجماعاً؛ فإن الأثبات نقلوا ذلك عن الصحابة، كما حكاه الإمام، ولم ينكره منكر، وإذا جاز ذلك، جاز أن ينتفع به بتلبيس دابته إياه بالقياس، وقد روي أنه- عليه السلام قال في شاة ميمونة:"هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به"، ولم يفصل بين انتفاع وانتفاع؛ فكان على عمومه.
قال: سوى جلد الكلب والخنزير، أي: وما تولد منهما؛ لأن نجاستهما أغلظ؛ فإنها لا تندفع بالدباغ، بخلاف ما عدا [ذلك، ولأنه لا يجوز له الانتفاع بالخنزير في حال الحياة مطلقاً، ولا بالكلب فيما عدا] الاصطياد ونحوه، فلألا يجوز له أن ينتفع بهما بعد الموت- مع أن الموت يقتضي الاجتناب- أولى. نعم: لو كان له كلب: هل يجوز أن يجلّله بجلد كلب؟
قال الإمام: الظاهر جوازه. [وفيه نظر من حيث إن التصرف فيه [واقتناءه [يخالف] ما نأمره به من اجتناب ملابسته، ولأجل ذلك حكى في "الوسيط" فيه تردداً، وقال: إن الظاهر جوازه].
ما ذكره الشيخ هو المنصوص في "المختصر"؛ فإنه قال [فيه]: ويلبس فرسه وأداته جلد ما سوى الكلب والخنزير من جلد قرد ونمر وفيل وأسد، ويجوز ذلك؛ لأنه جنة للفرس، ولا تعبد على فرس.
وكلام الشيخ والنص يفهم أنه لا يجوز له أن يلبس الجلد النجس، وهو ما حكاه القاضي الحسين وغيره، ونص الشافعي في باب الأواني على أنه لا يدّهن
في عظم فيل، دليل عليه، وكذا قوله:"ولو جبر عظمه بعظم نجس، أجبره السلطان على قلعه"، وخرج الأصحاب منه وجهاً: أنه لا يجوز أن يلبسه دابته أيضاً، والفرق بينه وبين تسميد الأرض بالسرقين: أن في ذلك حاجة ماسة قريبة من الضرورة، على أن الرافعي قال: إن في كلام الصيدلاني ما يقتضي إثبات خلاف فيه، وهو في "التتمة" كما سنذكره، والمذهب التفرقة، كما ذكرنا. والفرق بين نفسه والدابة: ما أشار إليه الشافعي أن منعه من لبس النجاسة تعبد، والدابة لا تعبد عليها، وهذه طريقة الأصحاب.
وفي "تعليق البندنيجي": أنه يكره له أن يلبس الجلد النجس، كما يكره له لبس الثوب النجس، ويجوز له أن يلبسه دابته من غير كراهة، ومن أصحابنا من خرج إليه وجهاً: أنه يكره أيضاً.
وهكذا حكى هذه الطريقة ابن الصباغ، عن الشيخ أبي حامد، واقتصر القاضي أبو الطيب على حكاية الكراهة في لبسه الجلد النجس، وقال: إنه إذا لبسه لا يصلي فيه، فإن صلى فيه- ولو مع الضرورة- وجبت [عليه الإعادة].
ولفظ الماوردي: "أنه يجوز أن يلبسه، لكن لا يصلي فيه؛ لأن توقي النجاسة إنما يجب في الصلاة"، وهذا التعليل منه موافق لقول الإمام عند الكلام في وطء المرأة في دبرها: إنه لا يحرم على المرء التضمخ بالنجاسة. وإن حكى في صلاة الخوف أن في كلام الصيدلاني ما يدل على أن استعمال النجاسة في البدن لا يجوز عن اختيار، وكأنه يحرم ملابسة النجاسة من غير حاجة.
وقال في "البسيط" لأجله: إن التضمخ بالنجاسة من غير حاجة منع منه الصيدلاني.
وقد تلخص لك مما ذكرناه أن جلد الكلب والخنزير وما تولد منهما، لا يجوز للشخص لبسه، ولا أن يلبسه دابته، وجلد ما عدا ذلك إذا كان نجساً هل يجوز لبسه، وان يلبسه دابته، أم لا؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: لا يجوز ذلك.
والثاني: لا يجوز له لبسه، ويجوز أن يلبسه دابته.
والثالث: يجوز له مع الكراهة، ويلبسه دابته من غير كراهة.
والرابع: يجوز له لبسه، وأن يلبسه دابته، [لكن] مع الكراهة في الصورتين.
وقد حكى القاضي الحسين ما حكيناه عن نصوص الشافعي، ثم قال:[إن] من الأصحاب من ضرب النصوص بعضها ببعض، وجعل في الكل قولين. وذلك منه يقتضي إثبات الخلاف الذي ذكرناه، وبه صرح المتولي، وطرده في جواز استعمال النجاسة في تسميد الأرض، والجبر بعظم نجس، والاستصباح بالنجاسة، وفي جواز عجن الشيء بماء نجس؛ ليطعمه ناضحه، وفي جواز ادّهانه بشحوم الخنزير، ووجه المنع في الكل بقوله تعالى:{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]؛ فإنه يقتضي الاجتناب من كل وجه، ووجه الجواز بأن الطهارة إنما تعتبر في العبادات لا في العادات، بدليل عدم اشتراط الطهارة من الحدث.
واستحسن القاضي الحسين طريقة أبي بكر الفارسي، وهي: أنه لا يجوز أن يلبس الجلد النجس، ويجوز أن يلبسه لدابته، سوى جلد الكلب والخنزير، وهي طريقة الكتاب كما قررناها، وقال في "التتمة": إنها الطريقة الصحيحة.
وفي "الجيلي" أنه قال في "المقنع": يجوز أن يضع في جلد الكلب إذا كان يابساً قمحاً ونحوه.
وحكم استعمال الجلد النجس إذا كان عليه شعر، ودبغ، وقلنا: لا يؤثر الدباغ في طهارة الشعر- كما هو أحد القولين فيما ذكرناه فيه- كحكمه قبل الدباغ، صرح به البندنيجي.
واعلم أن الشيخ أفهمك بالتبويب، وبذكر ما أودعه فيه أنه لا يحرم على الرجال والنساء ما عدا ما ذكره فيه مما ليس في معناه؛ لأنا قد بينا أن مراده بالكراهة في التبويب كراهة التحريم، كما دل عليه كلامه من بعد، وحينئذ يجب علينا أن نوضح ذلك بذكر المسائل، وما قيل فيها، وهي تتنوع إلى ما الإباحة ظاهرة فيه، وإلى ما قد تخفى الإباحة [فيه]:
فمن النوع الأول: الكتان، والقطن، والصوف، والوبر، والمركب من ذلك، ولا فرق في ذلك بين أن تكثر قيمته أو تقل؛ لأن نفاسة ذلك في صنعته، وما نفاسته في صنعته لا يلتحق بما نفاسته في ذاته، دليله: الأواني المحكمة من الزجاج.
وما ذكرته في الثياب لم أر خلافه، وإن كان لا يبعد تخريج وجه في تحريم ما نفاسته في صنعته من الثياب، كما قيل بمثله في الأواني، والمذهب نقل.
وكما لا يحرم لبس الناعم من ذلك [لا يكره. نعم، قال في "التتمة" و"البحر": لبس الخشن مكروه، لا لغرض شرعي] مع الاستغناء عنه؛ لأن في ذلك تعذيباً للنفس. قاله في باب صلاة العيد.
ثم لا فرق فيما ذكرناه من الأنواع في الإباحة بين الباقي على أصله خلقته، والمصبوغ منه أحمر أو أخضر أو أسود؛ لورود الأخبار بذلك، روى البخاري ومسلم، عن البراء قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم له شعر يبلغ شحمة أذنيه، ورأيته في حلة حمراء لم أر شيئاً قط أحسن منه"، وقال أنس:"كان أحب اللباس وأعجبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرة" أخرجه البخاري ومسلم، والحبرة قد قيل:
إنها شملة اجتمع فيها بياض وحمرة. وروى أبو داود عن أبي رمثة قال: "انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت عليه بردين أخضرين" وأخرجه الترمذي، والنسائي.
ورمثة: بكسر الراء المهملة، وسكون الميم وبعدها ثاء مثلثة مفتوحة، وتاء تأنيث.
وروى مسلم، عن جابر:"أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح، وعليه عمامة سوداء".
وروى جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه" أخرجه مسلم أيضاً، ومن ثم كان شعار بني العباس في الخطبة: لباس الأسود، والله أعلم.
وأما المصفرُّ من الثياب، فهل يحرم؟ الذي يدل عليه الخبر الإباحة؛ فإن زيد بن أسلم روى أن "ابن عمر كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى تمتلئ ثيابه من الصفرة" فقيل: لم تصبغ بالصفرة؟ فقال: "إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها، ولم يكن أحب
إليه منها، وقد كان يصبغ بها ثيابه كلها، حتى عمامته" أخرجه أبو داود والنسائي، لكنه وقع في إسناده اختلاف، وأخرج البخاري ومسلم من حديث عبيد ابن جريج، عن ابن عمر قال: "وأما الصفرة، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها؛ فأنا أحب أن أصبغ" واختلف الناس في ذلك: فقال بعضهم: أراد الخضاب للحية بالصفرة، وقال آخرون: أراد كان يصفر ثيابه، ويلبس ثياباً صفراً.
وبالجملة: فالمزعفر منها حرام لبسه على الرجال؛ لأنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن المزعفر" كما أخرجه البخاري ومسلم، صرح بذلك صاحب "البيان"، ونقل البيهقي وغيره عن الشافعي أنه "نهى الرجل عن المزعفر،
وأباح له المعصفر".
قال البيهقي: والصواب: إثبات نهي الرجل عن المعصفر أيضاً، وبه قال الحليمي؛ للأحاديث الصحيحة، وقد قدمت منها شيئاً عن رواية مسلم في الباب.
قال البيهقي: ولو بلغت الأحاديث الشافعي- رحمه الله لقال بها؛ فقد أوصى بإتباع الحديث حتى نقل عنه أنه قال: "إذا صح الحديث، فاضربوا بمذهبي عرض الحائط".
ثم ما أبحنا لبسه من المصبوغ، ظاهر كلام الأصحاب: أنه لا فرق فيه بين ما صبغ غزله، ثم نسج، أو ما صبغ بعد النسج، وفي "تعليق القاضي الحسين" في باب هيئة الجمعة: أن المصبوغ بعد النسج إذا كان صبغه ليمنع الوسخ، جاز لبسه، وإن صبغ للزينة، فلا يجوز للرجال لبسه؛ لأنه لباس النساء.
ومن النوع الأول- أيضاً- لبس خاتم الفضة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم به. روى أبو داود عن أنس بن مالك- رضي الله عنه قال:"أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى بعض الأعاجم، فقيل له: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا بخاتم؛ فاتخذ خاتماً من فضة، ونقض عليه: محمد رسول الله"، وفي رواية: "فكان في يده حتى قبض، وفي [يد] أبي بكر- رضي الله عنه حتى قبض، وفي يد عمر- رضي الله عنه حتى قبض، وفي يد عثمان- رضي الله عنه فبينما هو عند بئر، إذ سقط في
البئر؛ فأمر بها فنزحت، فلم يقدر عليه"، وأخرجه البخاري بنحوه مختصراً، والبئر التي سقط فيها الخاتم بئر أريس، كما جاء في خبر آخر قيل: وكان مدة مقام الخاتم في يد عثمان لم يختلف الناس عليه، وكان سقوطه بعد أن أقام في يده ست سنين.
وعن أنس- رضي الله عنه قال: "كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من فضة كله" أخرجه البخاري.
وينبغي أن ينقص وزنه عن مثقال؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأى رجلاً، وعليه خاتم من حديد، فقال: "ما لي أرى عليك حلية أهل النار؟! " فطرحه، فقال: يا رسول الله، من أي شيء أتخذه؟ قال: [اتخذه] من ورق، ولا [تتمه] مثقالاً". أخرجه أبو داود، وكذا الترمذي، وقال: إنه غريب.
ثم قضية الخبر: أن يكره لبس الخاتم من الحديد، وقد قال في "الروضة": إن الصحيح: أنه لا يكره لبسه، ولا لبس الخاتم من الرصاص والنحاس، وبه قطع في "التتمة"؛ لقوله- عليه السلام للذي أراد أن يتزوج:"التمس ولو خاتماً من حديد".
ويجوز التختم في اليمين، وفي اليسار، [و] لكنه في اليمين أفضل على
الصحيح، قال في "الروضة": لأنه- عليه السلام "كان يتختم في يمينه" أخرجه أبو داود والترمذي.
ورواية مسلم عن أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خاتم فضة في يمينه، فيه فص حبشي، كان يجعل فصه مما يلي كفه".
ومن قال بأن التختم في اليسار أفضل- وهو ما أورده الفوراني والمتولي- تمسك بما روي عن ابن عمر أن "النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يساره، وكان فصه في باطن كفه" وبما رواه مسلم، عن أنس قال:"كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى"، ولأن التختم في اليمين صار شعاراً للروافض؛ فاستحب مخالفتهم، وهذا ما اختاره في "الوسيط" في كتاب الجنائز، وقد قدمت الكلام فيه.
ومن النوع الثاني: لبس الرجل اللآلئ؛ فإنه جائز لهم، كما قاله الإمام في كتاب العدد، والقاضي أبو الطيب هنا، وقال: إن الشافعي قال: "إلا أني أكرهه لهم من طريق الأدب، وأنه زي النساء، وقد نهى الرجال أن يتشبهوا بهن في التزين"، وهذا النص عزاه البندنيجي إلى "الأم" وقال: إنه قال فيه: "ولا أكره لباس الياقوت ولا زبرجد إلا من جهة الترف والخيلاء".
وقال في "التتمة": إن هذا ظاهر، إذا قلنا: يجوز استعمال الأواني المتخذة منها، ولا يكره، أما إذا قلنا: لا يباح استعمال الأواني المتخذة منها، فحيث قلنا: يجوز استعمال حلي الفضة، يجوز استعمالها، وحيث قلنا: لا يجوز، فلا.
ومنه لبس المنطقة من الفضة، وكذا حلية آلة الحرب: كالسيف والسكين
والدرع، والخوذة، والخف- كما قال البندنيجي- والزان، وقد سبق ذكره في باب "زكاة الناض".
ومنه لبس دمالج الفضة، كما أطلقه الغزالي في "فتاويه"، وكذا المتولين وألحق به الطوق في عنقه، والسوار في يده، بشرط ألا يكون في ذلك إسراف، فإن أسرف فيه، وخرج عن حد العادة، فلا يجوز؛ لأن الإسراف في كل الأمور منهي عنه.
وفي "الحاوي" في الزكاة: أن المباح لبسه للرجال خواتم الفضة، وأما الدمالج، والأطواق، والأسورة، والخلاخل من الذهب والفضة- فمباح للنساء دون الرجال.
وهو قضية كلام غيره، وقد ذكرت كل ذلك في باب "زكاة الناض"، فليطلب منه؛ فإنه مستوفىً فيه. والله أعلم.
* * *