المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب صلاة الخوف - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٤

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب صلاة الخوف

‌باب صلاة الخوف

صلاة الخوف مشروعة في حقنا، باقية إلى يوم القيامة، والأصل فيها من الكتاب قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ

} الآية [النساء: 102] والمراد بها: صلاة الخوف إجماعاً. ومن السنة: ما سنذكره من الأخبار. وإذا ثبت حكمها في حق النبي صلى الله عليه سولم ثبت في حقنا أيضاً؛ لقوله عز وجل: {فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلّي"، ولأنها صلاة قد اشترك في سببها الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من أمته؛ فوجب أن يجوز لهم فعلها إذا وجد سببها كصلاة السفر والمرض، وعلى ذلك جرى الصحابة- رضي الله عنهم: روي أن سعيد بن العاص قال لصحابه بطبرستان، وهو بإزاء العدو:"أيكم حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى صلاة الخوف، فقال حذيفة: أنا .... وذكر الخبر، فأمره سعيد، فصلى بهم"، وصلاها أبو موسى ببعض بلاد فارس، وصلاها عليٌّ بـ "صفّين" ليلة الهرير، ولم ينكر ذلك أحد.

وقد ادعى أبو يوسف، ومحمد: أنها مختصة به- عليه السلام للآية، وما ذكرناه حجة عليه، والرسول قد يخاطب بالشيء وتشركه فيه أمته؛ كما في قوله

ص: 198

تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103]، وقد قام الإجماع على قيام غيره مقامه في ذلك.

وقال المزني: إن صلاة الخوف منسوخة في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه- عليه السلام "أخر يوم الخندق أربع صلوات؛ لاشتغاله بالقتال، ولم يصل صلاة الخوف".

قال الأصحاب: وما قاله المزني على العكس؛ فإنه- عليه السلام صلاها، كما سنذكره في غزوة ذات الرقاع، وكانت لعشرين من المحرم سنة خمس، وصلاة الخندق كانت في شوال سنة اربع. كما ذكره البخاري.

[ولما كان] هذا هو المذهب، قال الشيخ: إذا كان العدو في غير جهة القبلة- أي: بحيث لا يمكن الصلاة إلا باستدبارهم، أو بالانحراف يميناً أو شمالاً- ولم يأمنوا- أي: إذا أقام المقاتل لهم الصلاة- من الكبسة عليهم، وقتالهم غير محظور- أي: غير محرم- فرق الإمام الناس فرقتين، [أي]: إذا كان فيهم كثرة بحيث تكون كل فرقة منهم تقاوم العدو، كما نبه عليه قوله:"وإن كان العدو في جهة القبلة، وفي المسلمين كثرة"؛ فإنه إذا اعتبر الكثرة في هذه الحالة، كان اعتبارها فيما نحن فيه أولى، وقد صرح بذلك الأصحاب، وظن بعض الشارحين أن الشيخ أهمل ذلك؛ فاعترض عليه.

قال: فرقة في وجه العدو، وفرقة خلفه، فيصلي بالفرقة التي خلفه ركعة، فإذا

ص: 199

قام إلى الثانية، فارقته [- أي نوت مفارقته-] وأتمت الركعة الثانية [لنفسها، ثم تخرج إلى وجه العدو، وتجيئه الطائفة الأخرى، فيصلي بها الركعة الثانية]، ويجلس، وتصلي الطائفة الركعة الثانية، ثم يسلم بهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في غزوة ذات الرقاع؛ كما أخرجه البخاري ومسلم، عن رواية مالك عن يزيد بن رومان، عن صالح [بن] خوات، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ورواه شعبة عن صالح بن خوات بن جبير عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فبين المبهم في رواية مالك.

وسميت هذه الغزوة بغزوة "ذات الرقاع"؛ لأن الواقعة كانت عند جبل ألوان حجارته مختلفة: شيء منه أحمر، وشيء أبيض، وشيء أسود، كالرقاع.

وقيل: سميت بذلك؛ لأنها كانت عند شجرة تسمى بذلك.

وقيل: سميت بذلك؛ لرقاع كانت في ألويتهم.

وقيل: لأنها كانت في وقت حر، وكان أكثر المسلمين حفاة، فلفوا الخرق والرقاع على أرجلهم، وهذا ما نقله أبو موسى الأشعري؛ فهو أصح ما قيل.

"وخوات" بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الواو [وفتحها]، وبعد الألف تاء ثالثة الحروف. "وحثمة" بفتح الحاء المهملة، وسكون الثاء المثلثة، وبعدها ميم [مفتوحة]، وتاء [تأنيث].

فإن قيل: قد روى البخاري من حديث شعيب عن الزهري قال: "سألته هل

ص: 200

صلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني صلاة الخوف؟ فقادت أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم [قل نجد، فوافينا العدو، فصاففناهم]، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنا، فقامت طائفة معه، وأقبلت طائفة على العدو، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه، وسجد سجدتين، [ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاءوا، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فقام كل واحد منهم، فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين]". ورواه مسلم من حديث نافع، عن ابن عمر [بلفظ آخر، وفي آخره قال: "وقال ابن عمر]: فإذا كان خوف أكثر من ذلك، فصلِّ راكباً أو قائماً، تومئ إيماء"، فلم رأيتم العمل برواية ابن خوات، دون رواية ابن عمر؟ وهل إذا عمل برواية ابن عمر هل تصح الصلاة أو تبطل؟

قلنا: قال الأصحاب: ترجحت رواية ابن خوات على رواية ابن عمر من وجوه:

أحدها: أن رواتها أكثر.

والثاني: أنها أقل أفعالاً في الصلاة.

ص: 201

والثالث: أن نص التنزيل يوافقها، قال الله تعالى:{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَاتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102]. وظاهر ذلك أنه أراد جميع الصلاة، وإذا كان كذلك حملنا السجود في الآية الأولى على الركعة الباقية للطائفة الأولى؛ لتكون الآية على وفق الخبر، والركعة يعبر عنها بالسجدة، كما جاء في قوله عليه السلام:"إذا أدرك أحدكم سجدةً من الصلاة قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته" أخرجه البخاري ومسلم.

وأما صحة الصلاة إذا فعلت على نحو ما رواه ابن عمر ففيها قولان حكاهما الفريقان، وادعى في "الحاوي" أنهما منصوصان في "الأم":

أحدهما: أنها باطلة؛ لما وقع فيها من العمل المنافي لها، وأما خبر ابن عمر، فقد قال: إنه مسوخ بخبر ابن خوات؛ لأنها آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الإمام: وهذا فيه إشكال؛ فإن الشافعي لا يرى النسخ [بالاحتمال، وما لم يتحقق تقدم المنسخ بالتاريخ على الناسخ، فادعاء النسخ] يبعد وينأى عن أصله.

والثانى: أنها صحيحة؛ عملاً بالخبر.

وقال القاضى الحسين: قال الشافعى فى "الكبير": والاختلاف فى ذلك من الاختلاف المباح، فإن فعل ذلك فقد أساء وتجزئه، والأحوط والأليق بأمر الصلاة أن يصلي كما ورد في رواية ابن خوات. وقد نص عليه في كتاب "الرسالة"، وهو الصحيح في "الرافعي"، ولو عدل عن الصلاتين، وصلى بهم كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ببطن النخل - جاز ذلك: بأن يصلي بكل طائفة كل الصلاة؛ لأن غاية الأمر أنه صلى بالطائفة الثانية وهي له نفل، ولهم فرض، وصلاة المفترض خلف المتنفل في حال الأمن جائزة؛ ففي حال الخوف أولى. لكن الأولى أن يصلي بهم كما ذكر الشيخ.

[ثم كلام الشيخ] مصرح بأن الطائفة الأولى تفارق الإمام بعد قيامه إلى الثانية، وهو ما أورده الماوردي، وحكاه الإمام مع وجه آخر عن رواية شيخه أنها

ص: 202

تفارقه عقيب رفعه من السجود؛ لأن الركعة تنتهي بمفارقة السجدة الأخيرة، وحكى الرافعي عن البغوي وغيره: أنه مخير بين الأمرين، والأولى المفارقة بعد القيام، وفيه نظر؛ لأن المجوّز للمفارقة العذر ولا عذر لهم قبل القيام، بل لو قيل: لا يجوز لهم المفارقة قبل فراغ الإمام من القراءة، إذا قلنا: إنه يقرأ في حال الانتظار - لم يبعد؛ ولذلك قال الإمام: إنا إذا قلنا بالأول الذي ذكره الشيخ، لا يبعد [أن] نقول: إنما ينفرد القوم، إذا ركعوا وتركوا الإمام قائماً؛ فإنهم إنما يفارقونه حساً إذ ذاك، ثم قال: وهذا احتمال. والذي نقلته ما تقدم، وكأن وجهه أن القصد التسوية بين الطائفتين؛ ولهذا استحب الشافعي انتظار الإمام الطائفة الثانية؛ ليسلم معهم ليحصل لهم فضيلة السلام معه، كما حصل للأولى فضيلة الإحرام معه، ولو قلنا: إن مفارقة الأولى إنما تكون بعد فراغ قراءته في الثانية - ترجحت الأولى على الطائفة الثانية، وفات مقصود التسوية، والله أعلم.

وقد بنى الإمام على الوجهين أمر سجود السهو، وسنذكر، وما فيه.

وأما الطائفة الثانية: فظاهر كلام الشيخ والخبر: أنها تقوم إلى الثانية عقيب رفعه من السجود؛ فلا تجلس معه، وهو ما نص عليه في "الأم" والقديم و"الإملاء"؛ لأن الطائفة الأولى لم تحصل لها فضيلة التشهد مع الإمام؛ فكذا [تكون] الثانية؛ إذ التسوية بينهما مطلوبة، ولأنها لو جلست حتى يتشهد لطالت الصلاة؛ فإنهم يحتاجون إلى إتمام صلاتهم بركعة، وهو ينتظرهم حتى يسلم [بهم]، وصلاة الخوف وضعت على التخفيف، وقد حكي [عن] الشافعي أنه نص في سجود السهو على أنهم يفارقونه بعد فراغه من التشهد وقبل السلام؛ لأن المسبوق يفارق الإمام بعد التشهد، وهؤلاء مسبوقون بركعة.

قال القاضي أبو الطيب وغيره: وهذا غير صحيح؛ إذ لو كانوا كالمسبوق لما قاموا حتى يسلم الإمام، وليس كذلك.

وقد حكى القاضي الحسين وغيره من المراوزة قولاً عن القديم عوضه: أنهم يفارقونه بعد السلام، كالمسبوق سواء؛ لأنه قال فيه: "لو سها الإمام في الثانية،

ص: 203

وسجد للسهو، فالطائفة الثانية تجلس معه حتى يتشهد، وإذا سجد للسهو سجدت معه متابعة له، فإذا سلم الإمام تقوم وتقضي الركعة، وسجدت في آخر الصلاة قبل السلا". قال الإمام: وهذا القول صحيح لا شك فيه؛ فإن ذلك لو فرض اختياراً لصح، وإنما الكلام فى تصحيح ما رواه ابن خوات، وصححه الشافعي فى الجديد.

وقد تحصل في المسألة عند كل فريق قولان، وإذا جمعت بين ما حكاه الفريقان، جاء فى المسألة ثلاثة أقوال، وحكى البندنيجى وغيره عن بعض الأصحاب أنه نزل النصين على النحو الذي أورده العراقيون على حالين: فحمل نصه في "الأم" على ما إذا كانت الصلاة ركعتين، وأنه أعاد المفارقة إلى الطائفة الثانية، وحمل نصه في سجود السهو على ما إذا كانت [الصلاة رباعية]، وأعاد المفارقة إلى الطائفة الأولى، قال: والأول أصح؛ لأن هذا يخالف نص قوله في سجود السهو؛ فإنه قال: "تفارقه إذا سجدت للسهو معه"، والتشهد الأول لا يسجد للسهو عقيبه.

ثم اعلم أن مفارقة الطائفة الأولى للإمام تكون فعلاً وحكماً؛ لأنها تنوي مفارقته، كما ذكرنا، حتى لو فارقته من غير نية بطلت صلاتها؛ صرح به الماوردي وغيره، وفيه ما سنذكره مما يفهمه كلام الإمام، وحينئذٍ فإن سها الإمام في الثانية، لم يلحقها سهوه، ولو سهت هي فيها سجدت للسهو، ولا يتحمل الإمام عنها، نعم: لو سها الإمام في الأولى، سجدت في آخر صلاتها، [وإن لم يسجد الإمام بعد،] ولو سهت هي فيها لم تسجد؛ لأن الإمام يتحمل عنها، ولو سها الإمام قبل انتهائها إلى حد الاعتدال، فهل يلحقها سهوه؟ قال الإمام: إن قلنا: إن القدوة تنقطع عند رفع الإمام رأسه من السجدة الثانية، لم يلحقهم سهوه، وإلا لحقهم.

قال الرافعي: ولك أن تقول: قد نصوا على أنهم ينوون المفارقة عن الإمام، وأنه يجوز [ذلك] عند رفع الرأس وعند الاعتدال، وإذا كان كذلك فلا معنى لفرض الخلاف في أن الانقطاع يحصل بهذا أو بذاك؛ فإنه ليس شيئاً يحصل

ص: 204

بنفسه، بل هو منوط بنية المفارقة؛ [فوجب قصر النظر على وقتها.

قلت: ويمكن أن يؤخذ مما حكاه الإمام أن نية المفارقة] لا تشترط، [و] حينئذ فلا اعتراض.

وأما الطائفة الثانية: فإنها على المذهب المنصوص تفارق الإمام فعلاً لا حكماً؛ لأنها تعود فتسلم معه، ولو كانت قد فارقته فعلاً وحكمًا، لاحتاجت عند العود إلى نية القدوة، ولم يقل به أحد، كما قال الإمام، وعلى هذا: فإذا سهت في الركعة الثانية تحمل الإمام عنها، ولو سها الإمام لحقهم سهوه، حتى لو لم يسجد سجدت هى فى آخر صلاتها.

وحكى البندنيجي وغيره عن أبي العباس بن سريج وابن خيران: أن القدوة قد انقطعت حكماً أيضاً، وقد حكاه القاضي الحسين عن القفال أيضاً.

فعلى هذا: يكون حكمها في السهو في الثانية وفي سهو الإمام بعد مفارقتها كحكم الطائفة الأولى. وليس بشيء باتفاق الأصحاب، وبعضهم لم يذكره، وهو جار – كما حكاه الفوراني وشيخه المسعودي – في المزحوم إذا سها في حال انفراده، وفيما إذا سها منفرد ثم لحق بالجماعة، وقلنا بصحة اقتدائه، وقال الإمام: الوجه القطع بأن الإمام لا يتحمل عنه في هذه الصورة؛ لأن القدوة لم تكن حال السهو.

وهذا كله إذا قلنا بطريقة أهل العراق: إن المفارقة تكون قبل التشهد، أو بعده، وقبل السلام، أما إذا [قلنا] بأنها تفارقه بعد السلام- كما حكاه المراوزة- قولاً عن القديم، فلا يتحمل سهوها بعد مفارقته قولاً واحداً، قاله الرافعي، وقد رفع الشافعي على الجديد، فقال في "الأم":"ويشير إليهم بما يعلمون أنه قد سها". واختلف الأصحاب فيه:

فمنهم من قال: أراد بذلك إذا خفى عليهم السهو، مثل: أن كان قد قرأ في غير موضع القراءة، أما إذا كان سهوه ظاهراً فلا يشير، وهذه طريقة أبي إسحاق، ولم يورد في "الحاوي" غيرها، وحكاها البندنيجي عن نصه في "الإملاء".

ص: 205

ومنهم من قال: يشير بكل حال؛ كي لا يغفلوا عن سجود السهو، قال القاضي أبو الطيب: وإنما يمكن الإشارة إذا كان قد واطأهم عليها قبل الصلاة: كأن يقول: إذا رأيتموني أشير بكذا وكذا، فاعلموا أني قد سهوت.

قال ابن الصباغ: وقد يمكن أن يشير إليهم بأن اسجدوا، فيعلموا أن ذلك للسهو؛ لأن السجود الذي يأمرهم به لا يكون إلا للسهو، وقد أشار القاضي الحسين إلى الكلامين، فقال: قلما يعرفون أنه سها ما لم يواطئهم على ذلك قبل الصلاة.

فرع: يستحب للإمام أن يقرأ بعد الفاتحة في الأولى سورة "سبح اسم ربك الأعلى" وما أشبهها. كما نص عليه في "الأم" قال: "فإن قرأ "قل هو الله أحد" أو قدرها من القرآن، لم أكرهه، وقال في موضع آخر: "إنه يقرأ سورة قصيرة".

قال: وهل يقرأ في حال الانتظار- أي: للفرقة الثانية- ويتشهد- أي: في حال انتظاره للفرقة الثانية أيضاً- أم لا؟ فيه قولان.

هذا الفصل ينظم مسألتين:

إحداهما: إذا فارقت الطائفة الأولى الإمام؛ ففي حال إتمامها الصلاة لنفسها وإلى أن تحرم معه الطائفة الثانية: هل يقرأ الفاتحة والسورة، [أو] لا يقرأ حتى تحرم الثانية معه؟ الذي قاله في "الأم" و"الإملاء" ونقله البويطي- كما قال أبو الطيب وغيره-: أنه ينتظرهم وهو يقرأ، ونقل المزني أنه لا يقرأن وإذا جاءت الطائفة الثانية قرأ بهم، وعبارة الإمام وطائفة- في حكاية ما نقله المزني- أنه يقرأ بالطائفة [الثانية] إذا لحقت به أم القرآن وسورة، وقد حكى الماوردي ذلك عن نصه في "الأم"، وهو يتضمن أنه في قيامه وانتظاره لا يقرأ الفاتحة، واختلف الأصحاب في المسألة على طرق:

إحداها: أن المسألة على قولين؛ عملاً بالنصين، وهي طريقة الشيخ وشيخه [القاضي] أبي الطيب: أحدهما: لا يقرأ حتى تحرم الثانية؛ طلباً للتسوية بين الطائفتين، وعلى هذا: إن شاء سكت إلى أن تحضر الطائفة الثانية، وإن شاء

ص: 206

اشتغل بذكر آخر.

والثاني- وهو الصحيح في "الكافي" وغيره-: أنه يقرأ؛ لأن القيام ركن يجب فيه القراءة؛ فلا يجوز السكوت عنها فيه، ولا الاشتغال بغيرها من الأذكار؛ لأنه ليس محلاً له، فعلى هذا: يقرأ الفاتحة وهي فرضه، ثم يقرأ بعدها ما شاء من القرآن بقدر ما تحرم الطائفة الثانية بالصلاة وتقرأ الفاتحة، وكذا سورة قصيرة. كما قاله البندنيجي، وقد حكى القاضي الحسين ذلك عن رواية الربيع، فإن لم يفعل ذلك، بل قرأ الفاتحة وسورة قصيرة، ولما أحرمت الثانية خلفه ركع- قال في "الأم": ركعوا معه وأجزأهم، قال الشيخ أبو حامد: ولكنه ترك سنة صلاة الخوف، وكذا الحكم فيما لو ركع قبل أن تلحقه، ثم لحقته في الركوع. قاله في "الحاوي".

والطريقة الثانية: تنزيل النصين على حالين:

فالموضع الذي قال: "يقرأ"، أراد إذا أراد تطويل القراءة.

والموضع الذي قال: لا يقرأ، إذا أراد تقصير القراءة، وهذه الطريقة تعزى إلى أبي إسحاق.

والطريقة الثالثة: أن المسألة على قول واحد، وهو ما رواه الربيع، والمزني غلط فيما نقله، ولفظ الشافعي:"يقرأ بعد إتيانهم بقدر أم القرآن وسورة قصيرة"، ولم يقل: إنه يقرأ بأم القرآن. وهذه طريقة الصيدلاني.

المسألة الثانية: إذا فارقته الطائفة الثانية قبل أن تتشهد – كما هو الصحيح- لتأتي بما عليها، ثم تلحقه فتسلم معه، [فهل يتشهد قبل أن تلحقه، أو لا يتشهد حتى تجلس معه؟] فيه طريقان، كما ذكر الشيخ وغيره:

إحداهما: فيه القولان. كما في القراءة، ولم يورد في "الحاوي" غيرها، وصحح القول بأنه يتشهد، وقال –تفريعاً عليه-: إنهم إذا أتوا تشهد، وسلم [بهم].

وقيل: يتشهد قولاً واحداً، وهذه الطريقة صححها الريواني في "تلخيصه"، والفرق بينه وبين

ص: 207

الفرقتين؛ لأنه قرأ مع [الأولى فكذا ينبغي أن يفعل] مع الثانية، ولا كذلك التشهد؛ فإن الطائفة الأولى لم تدركه معه؛ فكذا الثانية طلباً للتسوية.

ثم هذا الخلاف في الصورتين خلاف في الاستحباب بلا خلاف.

فرع: أقل طائفة يستحق للإمام أن يصلي بها صلاة الخوف عند اشتغال الجيش بالقتال ثلاثة أنفس، نص عليه؛ لقوله تعالى عند ذكر الطائفة الأولى:{وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102]، فعبر عنهم بواو الجمع، وكذا يفعل في الطائفة الثانية؛ حيث قال:{فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَاخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]، وأقل ما يعبر بواو الجمع عن ثلاثة، وقد استعمل الله – تعالى- في كتابه العزيز الطائفة في الجمع الكبير والجم الغفير في قوله:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] واستعملها في [أربعة في قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، واستعملها في] الواحد في قوله:{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122][ثم] قال الشافعي: وأكره أن يصلي بأقل من ذلك، وأن يحرسه أقل من ذلك.

قال القاضي الحسين: [و] لم يرد بذلك أن العسكر كلهم ستة نفر، ولكن [كأنه] يقول: إن شغل أكثر الناس بالقتال، فأقل من يصلي بهم ثلاثة، وإن شغل أكثر الناس بالصلاة، فأقل من يحرس ثلاثة، حتى لو كان ثَمَّ شِعب أو مضيق، فقال [قائل] واحد من الشجعان: أنا أسد هذا الشعب لكم، فاشتغلوا بالصلاة – جاز، ولكنه يكره.

[وقال القاضي أبو الطيب: معناه: أنه إذا كان مع الإمام ستة أنفس- لم يكره] أن يصلي بهم صلاة الخوف، فيجعل ثلاثة منهم بإزاء العدو، ويصلى بثلاثة، فإن كانوا خمسة – كره [له] أن يصلي بهم صلاة الخوف، لكن يصلي ببعضهم جميع صلاته، ويقفون في مواقف أصحابهم حتى ينصرفوا، فيصلوا لأنفسهم جماعة.

ص: 208

تنبيه: احترز الشيخ بقوله: "إذا كان العدو في غير جهة القبلة" عما إذا كان في جهتها، وسنذكره. واحترز بقوله:"ولم يأمنوا" عما إذا أمنوما، فإنه لا يصليها؛ لأن الخوف لم يتحقق، فلو صلاها فهل تصح؟ فيه كلام سنذكره في آخر الباب، إنش اء الله تعالى.

ثم الأمن يفرض في صور:

إحداها: أن يبعدوا عن القوم، بحيث يعلم أنهم لو راموا الوصول إليهم بإيذائهم في الصلاة، لم يقدروا على ذلك، وكذا لو كان بينهم خندق أو ما يمنع من ذلك.

والثانية: أن يكون العدو شرذمة يسيرة لا يخشون.

والثالثة: أن ينهزم العدو منهم، ولا يخافون رجوعه عليهم، وهو غاية الأمن، وقد نص على المنع في هذه الحالة الشافعي.

وإذا امتنعت صلاة الخوف في هذه الأحوال، فصلاة شدة الخوف أولى؛ لأنها في منافاة الصلاة أشد، وقد أشار الشيخ إلى ذلك في بعض الصور في آخر الباب.

قال الأصحاب: ولا فرق في ذلك بين أن يعلم أنه إذا صلى متمكناً فاته مال العدو الكافر أو لا؛ إذ لا خوف، وإنما هو فوات مطلوب لم يحصل.

فإن قيل: قد حكي عن القفال احتمال ثلاثة أوجه فيما إذا قرب فوات الوقوف، وعلى المحرم بالحج صلاة لو أتى بها متمكناً لفاته الحج، ولو سعى للوقوف لخرج وقت الصلاة- أقامها في "الوسيط" أوجهاً:

أحدها: أنه يترك الصلاة، لأجل تحصيل الوقوف؛ فإن قضاء الصلاة ممكن، وأمر الحج خطير، وقضاؤه ليس بالهين.

والثاني: أنه يصلي؛ فإن الصلاة [تلو] الإيمان، ولا سبيل لتخلية الوقت عنها؛ فإنه لا يسقط الخطاب بها مع بقاء التكليف.

والثالث: أنه يصلي صلاة شدة الخوف ماشياً؛ ليكون جامعاً بين التسرع

ص: 209

للحج وبين إقامة الصلاة.

فعلى هذا: ما الفرق مع أن الصلاة في هذه الحالة لأجل تحصيل مطلوب؟

قلنا: قد فرق الإمام بينهما بأن الحج في حكم شيء حاصل في حق المحرم، والفوات طارئ عليه؛ فأشبه ما إذا خشي على ماله فقط، فهرب به؛ فإن له أن يصلي صلاة شدة الخوف، كما سنذكره. وقد ضعف بعضهم هذا الفرق؛ لأنه يمكن أن يقال: العدو الكافر إذا انهزم، وأمكن إدراكه صارت أمواله كالحاصلة في يد المسلمين، وفيه بعد.

واحترز الشيخ بقوله: "وقتالهم غير محظور" عن قتال أهل البغي أهل العدل، وقطاع الطريق أهل القافلة؛ فإنه لا يشرع لأهل البغي وقطاع الطريق صلاة الخوف؛ لأنها رخصة فلا تناط بالمعاصي، ومن طريق الأولى ألا يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لشدة منافاتها الصلاة، وهكذا الحكم في المنهزم من المسلمين من الكفار إذا كان انهزامه محرماً، كما ستعرفه في قتال المشركين، فلو صلّيت في هذه الأحوال، كان الحكم في صحتها وبطلانها، كما إذا فعلت في الأمن، وسنذكره.

[وقد أفهم قوله هذا أنه لا فرق في جواز فعلها عند القتال الذي ليس بمحظور بين أن يكون القتال واجباً: كقتال الكفار، وكذا من يقصد إذهاب النفس أو الحريم على الأصح، أو يكون مباحاً كقتال من يطلب ماله فقط، وهو في الأولى غني عن التعليل، ووجهه في الثانية: أن السفر المباح كالسفر الواجب في إباحة الرخص؛ فوجب أن يكون القتال كذلك].

وقد اقتضى كلام الشيخ: أنه لا فرق فيما ذكره بين الجمعة وغيرها؛ إذ كلامه مفروض فيما إذا كانت الصلاة ركعتين، وذلك يفرض في الصبح سفراً وحضراً، وفي الجمعة في الحضر، وفي الظهر والعصر والعشاء سفراً مع نية القصر، وفيها تكلم الشافعي، [ولأجل ذلك] عد ابن الصباغ من شروط

ص: 210

صلاة الخوف وراء ما ذكره الشيخ: أن تقع في السفر، وليس الأمر كما قال؛ فإن صلاة الصبح تصلي صلاة الخوف في الحضر، وأما صلاة الجمعة: فإن وقع مواجهة العدو خارج البلد لم تقم؛ لأنها لا تقام خارج البلد، وإن وقعت والقوم في البلد، والعدو على بابها، فقد حكى ابن الصباغ وغيره عن الشافعي: أن الإمام إذا أراد أن يصلي بهم صلاة الجمعة في هذه الحالة- فرقهم فرقتين، فيصلي بكل فرقة ركعة، ثم تفارقه، وتتم لنفسها، ثم تأتي الطائسفة الأخرى، فيصلي بها الركعة الأخرى، ثم تتم في حكم إمامته ولا تجهر بالقراءة، والأولى تجهر؛ لأنها منفردة، وقد عزا الروياني في "تلخيصه" هذا النص إلى "الأم".

واختلف الأصحاب في ذلك على طريقين:

منهم من قال: هذا منه جواب على أحد القولين في أن انفضاض القوم بجملتهم في الركعة الثانية، لا يبطل الجمعة. أما إذا قلنا: يبطلها، فلا تصلى كذلك؛ بل لا بد أن يبقى مع الإمام أربعون ممن سمع الخطبة وصلى معه الركعة الأولى.

ومنهم من قال: بل ذلك جائز على القولين معاً؛ لأنهم ها هنا معذورون في فراق الإمام، بخلاف الانفضاض. وهذه الطريقة لم يورد المتولي غيرها.

ثم هذا إذا كانت الطائفة الأولى قد سمعت الخطبة وهم أربعون، فلو سمعها أربعون، وخرجوا إلى وجه العدو، وصلى بأربعين غيرهم الركعة الأولى -لم تصح وجهاً واحداً، وكذا لو كانت الطائفة الأولى دون الأربعين [وقد سمعوا الخطبة، ولو كانت الطائفة الثانية دون الأربعين] ففي الصحة الطريقان: طريقة الشيخ أبي حامد: أن ذلك لا يضر، وطريقة غيره: فيهم قولا الانفضاض.

واغتفر الأصحاب على قول الصحة - كيف فرض الأمر- إحرام الطائفة الثانية [بها] بعد سلام الأولى، وإن كان مذهبهم ألا تقام جمعة بعد أخرى؛ [لكون الإمام] لم يتحلل بعد، وهذا ما أورده العراقيون.

وفي "النهاية" ما يقتضي خلاف ذلك؛ فإنه قال: إذا أراد الإمام إقامة الجمعة

ص: 211

على صفة صلاته بذات الرقاع – كما رواه ابن خوات – فقد اختلف الأصحاب فيه: فذهب بعضهم إلى إلحاقها بالصبح والظهر والعصر فيما ذكرناه؛ لمكان العذر، وقال: إن الانفضاض إنما يقدح فيها إذا كان بغير عذر. ومنهم من قال: لا تصح إلا بالشرائط المرعية فيها.

[قال]: وعلى هذا: إذا فعلت كما وصفنا، فالإمام في الركعة الثانية منفرد إلى حيث تقدم الطائفة الثانية، فإن قلنا: إن الانفضاض في هذه الحالة لا يقدح في صلاته، فينبغي ألا تصح صلاة الطائفة الأولى؛ فإنهم وإن صلوا ركعة في جماعة فقد انفردوا في الركعة الثانية، ولو فرض انفراد قوم بركعة حالة الاختيار قصداً، فلا مساغ لهذا، [و] في كلام أئمة العراق ما يشير إلى تردد في ذلك في حق المختارين، إذا صلوا ركعة مع الإمام؛ تخريجاً على الانفضاض، وهذا بعيد جداً. ولو أراد الإمام أن يصلي بهم على النحو الذي رواه ابن عمر، وقلنا بأنها تصح كما هو الصحيح- فهو أولى بالجواز، وصلاة عسفان كذلك، وأما صلاة بطن النخل فلا تجوز بالنسبة إلى الطائفة الثانية قولاً واحداً؛ لأن في صحتها القول بصحة جمعة بعد جمعة. والله أعلم.

قال: وإذا كانت الصلاة مغرباً، صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة، في أحد القولين؛ لأن ذلك أقرب إلى المساواة بين الطائفتين؛ إذ كل واحدة منهما تتشهد تشهدين، ولو قلنا بالعكس لأدى إلى تطويل الصلاة على الطائفة الثانية؛ لأنها تحتاج أن تجلس معه للتشهد جلستين في ركعتين: أما الأول فلمتابعته، وأما الثاني فلأنه بعد ثانيتها وتجلس للتشهد الأخير؛ فكان الأول أولى.

قال الماوردي: [ولأنه] لا بد له أن يصلي بطائفة ركعتين، [وبالأخرى ركعة؛ فكان صلاته بالأولى ركعتين] أولى؛ لوجهين:

أحدهما: أن لها حق السبق.

ص: 212

والثاني: أن أول الصلاة أكمل من آخرها؛ لما تضمنته من قراءة السورة بعد الفاتحة، فلما اختصت الأولى بأكمل الطرفين، وجب أن تختص بأكمل البعضين، وهذا ما نص عليه في "الأم"، ولفظه فيه- كما قال الروياني في "تلخيصه"-:"فإن صلى بالطائفة الأولى ركعة، وبالثانية ركعتين، أجزأه- إن شاء الله تعالى- وأكره له ذلك".

وقد نقله في "المختصر"، وهو الأصح في "المهذب" وغيره، وحكى الروياني طريقة قاطعة به، ولم يحك الماوردي، والقاضي الحسين، والغزالي في "الوجيز"، وكذا صاحب "الكافي" غيرها، وعلى هذا: متى تفارقه الطائفة الأولى؟ قال الجمهور: إنها تفارقه بعد التشهد، وهل الأولى أن ينتظر الإمام الثانية جالساً أو قائماً؟ فيه قولان، أصحهما: الأول.

وقال البندنيجي: في وقت المفارقة قولان ينبنيان على أن الإمام ينتظر الطائفة الثانية في هذه الصورة قائماً أو جالساً، وفيه قولان نص عليهما في "الإملاء":

أحدهما: قائماً، وهو ما نقله المزني، وعليه نص في "الأم"، ولفظه: "فإن انتظرهم قائماً فحسن، وإن ثبت جالساً، وأتموا لأنفسهم- فجائز، ووجهه: أن القيام في الصلاة أفضل من القعود فيها، ولأن القيام مبني على التطويل، والجلوس [للتشهد] الأول مبني على التخفيف؛ كان جلوس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه كالجالس على الرضف- وهي الحجارة المحماة – فعلى [هذا] تفارقه بعد القيام.

والثاني: ينتظرها جالساً؛ لأنه إذا فعل ذلك أدركت معه تمام القيام، وإذا انتظرهم قائماً فاتهم معه بعض القيام، فعلى هذا: يحرمون وهو جالس، فإذا كبر لقيامه كبروا معه بعد إحرامهم تبعاً له، قاله الماوردي والبندنيجي. وعلى هذا: تفارقه الأولى بعد التشهد.

وقد نسب ابن الصباغ إثبات الخلاف في أنه ينتظرها قائماً أو جالساً إلى أبي حامد، وقال: إنه ليس بصحيح؛ بل هما على السواء، وقد دل على ذلك نصه في "الأم".

ص: 213

وإذا صلت معه الطائفة الثانية الركعة الثالثة، وجلس للتشهد- فارقته قبل أن يتشهد على المذهب الصحيح. وهل يتشهد الإمام قبل أن تعود إليه أو ينتظرها؟ فيه القولان، قال الروياني في "تلخيصه": ولا تجيء الطريقة الجازمة بأنه يتشهد قبل مجيئهم؛ لأنه يؤدي إلى تفويت فضيلة عليها، وقد أدركت الأولى مع الإمام فضيلة التشهد الأول.

قال: وفي القول الآخر يصلي بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين؛ لأن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – "هكذا صلاها بصفّين ليلة الهرير"، ولأنه لابد أن تكون صلاته مع إحدى الطائفتين أزيد منها مع الأخرى؛ فيجب أن يكون ذلك مع الطائفة الثانية؛ لتحصل التسوية بين الفريقين؛ فإن الأولى حازت فضيلة أول الصلاة، وهذا ما قاله في "الإملاء"، وقد حكاه الإمام عن رواية بعض المصنفين، وقال: إنه مزيف لا أعده من المذهب.

فعلى هذا: تفارقه الطائفة [الأولى] في الوقت الذي تفارقه لو كانت الصلاة ركعتين، وقد تقدم، والإمام ينتظر الثانية قائماً وجهاً واحداً، ولو انتظرها جالساً كان كما لو انتظر الثانية جالساً والصلاة ركعتين، وقد قال الأصحاب: إنه إن كان جاهلاً بأن ذلك لا يجوز لا تبطل، وإن كان عالماً بأن ذلك لا يجوز بطلت صلاته، وصلاة الطائفة الأولى صحيحة إذا نوت مفارقته، وكذا الطائفة الثانية إن جهلت بطلان صلاته؛ كالصلاة خلف المحدث، وباطلة إن علموا بطلان صلاته.

قال البندنيجي: قال الربيع: وفيها قول آخر: إذا كان الإمام أفسد صلاته عامداً، بطلت صلاة من خلفه؛ علم بذلك أو لم يعلم، وهذا [لا] يجيء على قوله. قال البندنيجي: وما رأيت أحداً من أصحابنا حكاه. والطائسفة الثانية تفارقه ها هنا بعد التشهد قولاً واحداً، حكاه البندنيجي، وهذا الخلاف في الأفضلية.

قال: وإن كانت الصلاة رباعية، وهي: الظهر، والعصر، والعشاء، إذا فعلت في

ص: 214

الحضر، أو [في] السفر وأرادوا الإتمام، كما قاله الروياني - صلى بكل طائفة ركعتين؛ لأن صلاة الخوف كما تجوز في السفر تجوز في الحضر، لعموم الآية.

فإن قيل: الآية تقتضي ذلك إذا كانت الصلاة ركعتين، وهي صلاة السفر.

قلنا: لا يتعين [مع] كونها ركعتين أن تكون صلاة السفر؛ لأن الصبح والجمعة ركعتان في الحضر؛ فيجوز أن يكون [ذلك هو المراد] بالآية.

فإن قيل: الصلاة الرباعية يطول الانتظار فيها؛ لأنها إذا كانت ركعتين انتظر بقدر ركعة، وفي الرباعية ينتظر بقدر ركعتين.

قيل: انتظار الركعة يجوز أن يكون بقدر انتظار الركعتين؛ إذ لا ضبط فيه؛ فإن المأموم يجوز أن يطول القراءة. فإذا ثبت ذلك فرقهم الإمام فرقتين، وصلى بكل طائفة ركعتين- كما قال الشيخ- طلباً للتسوية مع إمكانها، ويتشهد بكل طائفة تشهداً، وهذا مما لا خلاف فيه؛ لما ذكرناه. لكن هل يستحب له انتظار الثانية جالساً أو قائماً في الثالثة؟ فيه القولان، قاله الماوردي.

قال فإن فرقهم أربع فرق، [أي:] لكون العدو ستمائة والقوم أربعمائةن كما قاله البندنيجي وأبو الطيب والإمام - لم يكن له ذلك، كما أفهمه كلام الماوردي؛ حيث قال: إذا أراد الإمام ذلك [منع]، فإن فعل فقد أساء.

وقال الرافعي: إنه نص عليه، وإن القول بالإساءة يشعر بالتحريم.

قال: وصلى بكل فرقة ركعة، أي: وأتمت لنفسها باقي صلاتها؛ وذلك مثل: أن يصلي بمائة ركعةً، فإذا قام إلى الثانية فارقته وأتمت الصلاة، وانتظر الثانية، وقرأ أو ترك القراءة على الخلاف السابق، ثم صلت معه مائة أخرى [الركعة الثانية، فإذا جلس للتشهد فارقته على الجديد، وأتمت الصلاة، ثم صلت معه مائة أخرى] الركعة الثالثة، وفارقته عند قيامه إلى الرابعة، وأتمت لنفسها، وقرأ

ص: 215

هو أو ترك القراءة على الخلاف، ثم اقتدت به المائة الباقية في الركعة الرابعة، فإذا جلس للتشهد الأخير، قامت لتتم، أو تجلس معه على القول القديم، فإذا فعلوا ذلك ما حكم صلاتهم؟

قال الشيخ: ففي صلاة الإمام قولان- أي: منصوصان في "الأم" و"المختصر"-:

أحدهما: أنها صحيحة، وهو الأصح؛ لأن الموجود منه مخالف لما أمر به؛ لأنه طول قيامه وتشهده، وذلك لا يبطل الصلاة في حال الاختيار، فها هنا أولى؛ إذ المسألة مصورة بما إذا دعت الحاجة إليه، كما ذكرناه عن البندنيجي وغيره. وإن لم يكن كذلك – كما أفهمه كلام الماوردي – فهو عند عدم الحاجة كالصلاة في حالة الأمن، وبه صرح الإمام، وقد قلنا: إن ذلك لا يبطل، ولأنه لو انتظر في ركوعه داخلاً في صلاته في صلاة الأمن، لم تبطل، وإن كان الشرع لم يرد بمثله فلألا تبطل بانتظار ورد الشرع بمثله أولى، قال الإمام: ولأن انتظار الطائفة الثانية في معنى انتظار الطائفة الثالثة، وقد تمهد – أي: عند الكلام في الغسل من ولوغ الكلب- أن ما لا يجوز القياس فيه [يجوز أن] يلحق بالمنصوص ما في معناه، وهذا القول قد جزم به في "الإملاء".

وعلى هذا قال الشيخ: و [في] صلاة المأمومين قولان، أي: منصوصان في "الأم" و"الإملاء":

أحدهما: أنها تصح.

والثاني: تصح صلاة الطائفة الأخيرة، وتبطل صلاة الباقين.

وحقيقة ما ذكره الشيخ يرجع إلى أن صلاة الطائفة الأخيرة صحيحة قولاً واحداً؛ لأنها اقتدت بمن صلاته صحيحة، ولم يصدر منها فعل يخالف وضع الصلاة في حال الخوف؛ فصحت، وما عداها: هل تصح صلاتهم، أو تبطل؟ فيهم [قولا المفارقة] بغير عذر، والمنصوص منهما في "الأم": عدم البطلان، كما قاله البندنيجي، وكذلك هو فيها في المسألة التي نحن فيها، والمنصوص في "الإملاء": البطلان، وكذا هو منصوص فيه في مسألتنا أيضاً، وإنما قلنا: إن هذه

ص: 216

مفارقة بغير عذر؛ لأن الطائفة الأولى في الصلاة المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فارقت النبي صلى الله عليه وسلم في نصف صلاتهم، وكل من هؤلاء الطوائف فارق الإمام قبل ذلك، ومنهم من قال: لا تبطل صلاتهم قولاً واحداً؛ لأنهم معذورون؛ فإن إخراج أنفسهم لم يكن إلى اختيارهم، ولو أرادوا المقام على الإتمام لم يمكنهم، قال الماوردي: وهذا أظهر، وكلام الشيخ أبي محمد يميل إلى أن ذلك ليس بعذر؛ لأنه قال: إذا منعنا الإمام من انتظار الطائفة الثالثة فلا نقيم لما يجري من العذر وزناً في جواز انفراد القوم؛ فإن هذا على خلاف وضع الشرع.

قال: والقول الثاني: أن صلاة الإمام باطلة؛ لأن الرخصة وردت في انتظارين؛ فلا تجوز الزيادة عليهما؛ ألا ترى أن العمل القليل في الصلاة لا يبطلها، وإذا زاد أبطلها؟! كذا هنا، وأيضاً: فإن مدى انتظاره يطول؟ فإنه كان ينتظر بقدر ركعتين، وصار ينتظر بقدر ثلاث ركعات، لكن في أي وقت يحكم ببطلانها؟ فيه قولان، منصوص، ومخرج:

أحدهما- وهو من تخريج ابن سريج-: أنها تبطل بالانتظار الثالث؛ فإنه نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظاران، إلا أنهما كانا للطائفة الثانية، وهما هنا للطائفة الثانية والثالثة؛ فلا تبطل [بهما، فإذا] زاد عليهما بطلت صلاته حينئذٍ؛ لأنه الزائد؛ فعلى هذا تبطل صلاة الطائفة الرابعة فقط.

[والثاني – وهو المنصوص-: أنها تبطل بالانتظار الثاني؛ لمخالفته الانتظار] الثاني في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين:

أحدهما: في المنتظر.

والثاني: في القدر.

أما في المنتظر فهو ظاهر؛ لأنه – عليه السلام انتظر فيه الثانية، وهنا ينتظر به الثالثة.

وأما في القدر: فلأن النبي صلى الله عليه وسلم انتظر في الركعة الثانية قدر فراغ الطائفة الثانية من ركعة فحسب، والإمام ها هنا ينتظر فراغ الثانية، وذهابها إلى وجه العدو ومجيء الثالثة.

ص: 217

لكن على هذا: هل تبطل بعد مضي [قدر] ركعة من انتظاره الثاني، أو تبطل بمضي الطائفة الثانية؟ فيه وجهان: اختيار الشيخ أبي حامد منهما: الأول.

وعلى هذا القول الذي هو المنصوص فرع الشيخ حيث قال: فتصح صلاة الطائفة الأولى والثانية؛ لأنها تابعت الإمام، وفارقته قبل بطلان صلاته، وتبطل صلاة الطائفة الثالثة والرابعة؛ لأنها اقتدت به بعد [بطلان] صلاته.

وقال في "الروضة": إن في صحة صلاة الطائفة [(الأولى والثانية] على هذا القول أيضاً قولي المفارقة بغير عذر، كما قلنا في الطوائف الثلاث على قول صحة صلاة الإمام، وإنه صرح به جماعة من أصحابنا.

وقد تلخص من تفريع القول بأن صلاة الإمام باطلة: أن صلاة الطائفة الرابعة باطلة قولاً واحداً، وفي الأولى والثانية والثالثة وجهان.

وإذا جمعت بين ما اقتضاه تفريع هذا القول والقول الأول، واختصرت – قلت:- في المسألة – إذا فرقهم أربع فرق، وصلى بكل فرقة ركعة – خمسة أوجه:

أحدها: أن صلاة الإمام والمأمومين كلهم صحيحة.

والثاني: أن صلاة الكل باطلة، وقد حكاه في طالروضة" هكذا.

والثالث: أن صلاة الإمام صحيحة، وكذا الطائفة الرابعة دون الأولى والثانية والثالثة.

والرابع: أن صلاة الإمام باطلة، وكذا الطائفة الرابعة، وصحت صلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة.

والخامس: أن صلاة الإمام والطائفة الثالثة والرابعة باطلة، وصلاة الطائفة الأولى والثانية صحيحة.

وعن القاضي أبي الطيب أنه قال، في صحة صلاة الطائفة الأولى والثانية مع القول ببطلان صلاة الإمام: ما يعرفك أن الإنسان إذا نوى بعدما أحرم بالصلاة أن يفعل ما يبطل الركعة الثالثة والرابعة، لا تبطل صلاته في الحال، وأن من قال ببطلانها في الحال من الأصحاب فقد أخطأ.

ثم ما ذكرناه من بطلان صلاة المأمومين مخصوص بما إذا علموا ذلك، [أما

ص: 218

إذا لم يعلموا] فلا تبطل، وبأي شيء يعتبر علمهم؟ قال ابن الصباغ- تبعاً لأبي الطيب-: فيه وجهان:

أحدهما: أن يعلموا بتفريقه الطوائف، ولا يعتبر علمهم بأن ذلك مبطل، كما إذا علموا أنه جنب، وعبارة القاضي: أن يعلم أن الإمام ينتظر من لا يجوز انتظاره.

والثاني: أن يعلموا أن ذلك مبطل، ويفارق الجنب؛ لأن كل أحد يعلم أن الإمام ينتظر من لا يجوز انتظاره، وأن ذلك مبطل، بخلاف ما نحن فيه.

وما ذكرناه من بطلان صلاة المأمومين – تفريعاً على القول بصحة صلاة الإمام – مخصوص بما إذا علموا أن مفارقة الإمام بغير عذر مبطلة، أما إذا لم يعلموا ذلك فلا تبطل، وقال الإمام: في حالة العلم بالبطلان نظر؛ من حيث إنهم انفردوا عمن صلاته باطلة في علم الله – تعالى – وكذا من اقتدى بجنب على جهل، ثم فعل الانفراد عنه، ثم تبين آخراً حقيقة الحال، وينقدح في البطلان تردد ينبني على أن حكم القدوة هل يثبت إذا كان الأمر هكذا؟ وفيه خلاف مذكور فيما إذا كان إما مالجمعة جنباً، وأدرك المسبوق الإمام في ركوع ركعته، والإمام محدث. قال: ويجوز أن يقال: إذا منعنا المقتدي من المفارقة، فانفراده ببقية صلاته – والإمام جنب- غير سائغ من جهة قصد المقتدى وإضماره مخالفة من يعتقده إماماً. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون العدو في جهة واحدة، أو [في] جهتين، أو ثلاث، أو أربع؛ فإنا حيث قلنا: إن الصلاة صحيحة، يفرقهم فيما إذا كان العدو في أربع جهات أربع فرق، [وحيث] قلنا: إنها لا تصح، يصلي في هذه الصورة بكل فرقة كل الصلاة، ويكون ما عدا الأولى في حق الإمام نافلة، قاله البندنيجي.

ولو كانت المسألة بحالها، لكن فرق الإمام الناس فرقتين، فصلى بالأولى ركعة، وبالأخرى ثلاث ركعات، أو عكس ذلك – قال في "الحاوي": فهو

ص: 219

[مسيء، وصلاة] جميعهم جائزة. وهذا ما نص عليه في "الأم؛" فإنه قال: "فإن صلى بطائفة ثلاث ركعات، وطائفة ركعة – كرهت ذلك له، ولا تبطل صلاته؛ لأن الإمام لم يزد في الانتظار".

وفي "التتمة": أنا إذا قلنا: لا تبطل صلاته فيما إذا فرقهم اربع فرق، فالشرع [قد] جعل له أن ينتظر بعد الركعة الثانية، وقد نقل الانتظار إلى غير محله، وهو ما بعد الثالثة، أو بعد الأولى؛ فينبني على من قنت في الركعة الأولى من الصبح أو في آخر صلاة أخرى، وأما صلاة الطائفتين فعلى ما سبق ذكره في أصل المسألة.

وعلى النص قال في "الإملاء": إن الإمام يسجد سجدتين للسهو، وكذلك الأخرى؛ لأنه وضع الانتظار في غير موضعه. وقد حكاه الروياني في "تلخيصه" عن نصه في "الأم"، [ثم قال]: وهذا يدل على أن العامد كالساهي في سجدتي السهو. ثم قال: قال أصحابنا: ويجب – على قياس هذا- إذا فرقهم أربع فرق [أن يسجد] سجدتي السهو أيضاً؛ لأنه وضع الانتظار في غير موضعه.

قال الماوردي: ولو فعل مثل ذلك في المغرب، لم يلزمه سجود السهو، والفرق: أن المغرب في العدد لا يمكن تنصيفها؛ فأدى ذلك إلى تفضيل إحدى الطائفتين اجتهاداً، فسقط سجود السهو لمخالفته، ولما استويا في الظهر شرعاً لا اجتهاداً، لزم سجود السهو؛ لمخالفته.

فرع: لو فرقهم في المغرب ثلاث فرق، وصلى بكل فرقة ركعة، قال القاضي الحسين: فصلاة الطائفة الأولى والثانية صحيحة، وفي صلاة الثالثة قولان؛ [أي]: المنصوص، والمخرج: فعلى المنصوص تبطل، وعلى المخرج: لا.

قال: وإن كان العدو في جهة القبلة يشاهدون في الصلاة، أي: بأن يكونوا في أرض مستوية، وفي المسلمين كثرة- أحرم بالطائفتين، وسجد معه الصف الذي يليه، فإذا رفعوا رءوسهم- أي: وقاموا- سجد الصف الآخر، أي: وقاموا، وقرأ بهم جميعاً، وركع ورفع منه بهم جميعاً، فإذا سجد في الثانية حرس الصف

ص: 220

الذي سجد في الأولى، وسجد الصف الآخر، فإذا رفعوا رءوسهم سجد الصف الآخر؛ لأن هذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، رواه أبو داود عن أبي عياش الزرقي، وكذا النسائي والبيهقي، وأخرجه من طريق آخر بإسناد أجود منه عن مجاهد، ورواه مسلم، عن عطاء عن جابر بن عبد الله، ولفظه قال: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصفنا صفين [: صفٌّ] خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والعدو بينه وبين القبلة، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعاً، ثم ركع وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع، فرفعنا جميعاً، ثم انحدر – عليه السلام بالسجود والصف الذي يليه، وأقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود، قام الصف الذي يليه، وانحدر الصف المؤخر بالسجود،

ص: 221

وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه- انحدر الصف المؤخر بالسجود، فسجدوا، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعاً"، قال جابر: كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم.

ومراده بتقدم [الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم: أن الصف الذي يليه تأخر إلى مقام الآخرين]، وتقدم [الصف] الأخير إلى مقام الصف الأول، كما دل عليه بقية الخبر، وقد جاء هكذا مفسراً في رواية أبي داود، عن أبي عياش، وقد روى أبو داود، وغيره أنه – عليه السلام صلاها كذلك يوم بني سليم.

وعسفان: قرية جامعة بها منبر، على ستة وثلاثين ميلاً من "مكة"، سميت "عسفان"؛ لعسف السيول فيها، كذا ذكره الشيخ زكي الدين في "حواشيه"، وهو مغاير لما ذكرناه عن الشافعي في الباب قبله.

فإن قلت: قد دل الحديث على انتقال الصف الثاني إلى موضع الصف الأول، والصف الأول إلى موضع الصف الثاني، فهل تقولون به؟

قلنا: نعم، وقد نص عليه الشافعي، كما ستعرفه؛ لأن هذا الفعل قليل، وقد ثبت بالسنة.

ثم ما ذكره الشيخ من الكيفية ها هنا قد ذكره في "المهذب" أيضاً، وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وقال: إنه يجب أن يكون المذهب؛ لأن الشافعي قال: "إذا رأيتم قولي مخالفاً للسنة، فاطرحوا قولي في الحش" وقد صح الخبر، والذي نقله المزني عن الشافعي خلافه؛ فإنه قال: إذا كانت الصورة كما ذكرنا، صلى بهم جميعاً، وركع [بهم جميعاً]، وسجد بهم جميعاً، إلا صفاً يليه أو بعض صف ينظرون العدو- أي: إذا كان في بعض الصف كفاية في الحراسة- فإذا قاموا

ص: 222

بعد السجدتين سجد الذين حرسوا، فإذا ركع ركع بهم جميعاً، فإذا سجد سجد معه الذين حرسوه أولاً، إلا صفاً أو بعض صف يحرسونه منهم، فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا، سجد الذين حرسوه.

وهذا يقتضي أن الحارس أولاً الصف الذي يليه، والحارس ثانياً الصف الآخر، وهو على العكس مما قاله الشيخ، وقد اتبع القاضي أبو الطيب، والحسين، والماوردي، والإمام، وغيرهم المزني فيما نقله، ولم يحكوا سواه، وقال الماوردي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا صلاها بعسفان، كما رواه أبو الزبير عن جابر، وعكرمة عن عبد الله بن عباس، وكذا قال القاضي الحسين ومن بعده: إنه – عليه السلام فعلها كذلك بعسفان عام الحديبية سنة ست من الهجرة، وقالوا: إن الافعي قال: "لو أن الصف الأول تأخر في الركعة الثانية إلى مكان الصف الثاني، وتقدم الثاني إلى مكان الأول؛ ليكون من يحرس أبداً هو الصف الأول – فلا بأس"، ولأجل ذلك قال البندنيجي: إن المختار هو الترتيب الأول، [أي]: الذي نقله المزني، والجائز هو الترتيب الثاني، وادعى الماوردي أن الثاني أولى؛ لأمرين:

أحدهما: أن الحرس يكون أقرب إلى العدو.

والثاني: أنهم أقدر على حراسة الجميع.

وغيره وجهه بأنه إذا فعل ذلك ستر المسلمين عن أبصار العدو؛ فلا يعرفون قدرهم ولا صفتهم، وقد حكى ابن الصباغ ما قاله المزني وغيره من نص الشافعي، ثم قال في آخر الفصل: والأولى اتباع الخبر، أي: كما قاله أبو حامد.

واختار الرافعي طريقاً آخر، فقال: ما نقل [من] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاها على النحو الذي ذكره في "المختصر" لم ينقله أحد من أصحاب الأسانيد؛ بل

ص: 223

الذي رواه مسلم وابن ماجه وغيرهما ما ذكره الشيخ أبو حامد، غير أنه جاء في بعض الروايات أن طائفة سجدت معه، ثم في الركعة الثانية سجد معه الذين كانوا قياماً، وهذا يحتمل الترتيبين جميعاً، والشافعي لم يقل: إن الكيفية التي ذكرها صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان، ولكن قال: وهذا نحو صلاته- عليه السلام يوم عسفان. فالأشبه [تجويز] كل واحد منهما؛ إذ لا فرق في المعنى، وقد صرح به الروياني وصاحب "التهذيب" وغيرهما.

قلت: لكن الروياني أبداه في "تلخيصه" احتمالاً لنفسه، وقد وافق الجمهور على أن الحراسة إنما تكون في السجود دون الركوع؛ للخبر، والمعنى فيه: أن الراكع يمكنه المشاهدة، بخلاف الساجد، وحكى أبو الفضل بن عبدان: أن من أصحابنا من قال: يحرسون في الركوع أيضاً.

قال الرافعي: وفي بعض الروايات ما يدل عليه.

فرع: إذا كان الحارس في الركعتين طائفة واحدة، فقد قال في "الأم":"رجوت أن يجزئهم، ولا إعادة عليهم، ولو أعادوا كان أحب إلي"، كذا حكاه البندنيجي، وقال لأجله: إنه جائز، والأولى خلافه. وحكى غيره وجهاً آخر: أن صلاتهم باطلة، وأن أصل الخلاف ما إذا زاد الإمام انتظاراً في [الصلاة] الرباعية؛ حيث فرقهم أربع فرق، وهو من تخريج القاضي الحسين، كما ذكره في "تعليقه"، وكذلك أثبت الإمام الخلاف في المسألة وجهين، والغزالي حكاه قولين، والأصح في "الكافي" وغيره الجواز.

قال الرافعي: ولم يورد جماعة سواه. ووجه الإمام مقابله: بأن المتبع في تغايير وضع الصلاة: النصوص، وما يصح النقل فيه، وقد صحت الحراسة على التناوب، وفيه معنى معقول؛ فإن في الحراسة تخلفاً عن الإمام بأركان، فإذا تناوب فيها القوم قل التخلف من كل فريق، وإذا تولاها قوم في الركعتين جميعاً كثر تخلفهم، وكانوا خارجين عن اتباع الشارع.

وقد حكى القفال نص الشافعي في المسألة على نحو آخر، فقال عنه: إنه قال: "لو

ص: 224

كان الحارس في الركعتين واحدة – أحببت لها أن تعيد الركعة"، قال القفال: وفيه إشكال؛ لأن حراستها في الركعة الأولى جائزة، وحراستها في الركعة الثانية لا تخلو إما أن تبطل صلاتها أو لا، فإن أبطلت فعليها أن تقضي جميع الصلاة، وإن لم تبطل فليس عليها قضاء شيء. قال: إلا أنه يمكن أن نجعل لهذا وجهاً، وهو: أنه إذا كان جاهلاً بأن حراستها في الثانية لا تجوز؛ فلم تبطل صلاته للجهل، ولم تصح تلك الركعة لها؛ لمخالفتها للإمام؛ فعليها أن تقضي تلك الركعة.

قال القاضي الحسين: ومن أصحابنا من قال: معناه: أن سبب بطلانها هو حراستها في الركعة الثانية، وليس لها أن تحرس في الركعتين معاً، وقد قيل: أراد بالركعة جميع الصلاة، والعرب تسمي الشيء باسم ما يشمله ويتضمنه، فيسمون الصلاة ركعة؛ لأنها تتضمن الركوع، ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204] وأراد: الخطبة؛ لاشتمالها على القرآن.

وقوله: "أحببت أن يعيد" معناه: أوجبت، فعليه إعادة جميع الصلاة، وقيل: معناه: على طريق الاستحباب.

قال: والمستحب أن يحمل السلاح في صلاة الخوف في أحد القولين؛ لأنه غير مقاتل في الصلاة؛ فلم يجب لذلك حمله كما في سائر الصلوات، ويخشى أن يحصل له القتال؛ فلذلك استحب له، وقد وجهه القاضي بقوله تعالى:{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} [النساء: 102] فأباح وضع السلاح بالمطر؛ فدل على أنه غير واجب، وهذا ما حكاه المزني، وقال الماوردي: إنه الجديد.

قال: ويجب في الآخرة؛ لقوله تعالى: {وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]، وظاهره الوجوب، وقد أكده بقوله في آخر الآية:{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} ؛ فدل على أن عليهم جناحاً في وضعها عند فقد ذلك، وهذا ما نص عليه في القديم، كما قال في "الحاوي"، وغيره عزاه إلى "الأم"،

ص: 225

ولفظه: "وأحب للمصلي أن يأخذ سلاحه في الصلاة ما لم يكن نجساً، ولا يأخذ الرمح إلا أن يكون في حاشية الناس"، ثم قال بعد ذلك:"ولا أجيز له وضع السلاح كله في صلاة الخوف"، ثم قال:"فإن وضعه لم تفسد صلاته؛ لأن معصيته في ترك السلاح ليس من الصلاة"، وقد أبدى الإمام القول بعدم البطلان فقهاً لنفسه، وكأنه لم يقف على هذا النص.

وهذه الطريقة التي ذكرها الشيخ هي طريقة أبي إسحاق المروزي وغيره، وبعضهم قطع بالقول الأول، وآخرون قطعوا بالثاني؛ فحصل في المسألة ثلاث طرق مذكورة في "النهاية".

ومنهم من قال: ليست المسألة على قولين؛ وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي استحبه، قصد بذلك السلاح الكامل الذي يدفع به عن نفسه وعن غيره: كالرمح والنشاب ونحو ذلك، والموضع الذي أوجبه، قصد به السلاح الذي يدفع به عن نفسه خاصة: كالسيف والسكين.

والصحيح عند الشيخ وشيخه القاضي أبي الطيب طريقة أبي إسحاق التي أوردها في الكتاب، وهي التي قال بها أكثر الأصحاب، كما قال الماوردي، وأصح القولين الأول.

والجواب عن الآية الأولى: أن صلاة الخوف كان فعلها محظوراً، ثم أمر الله بها، والأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة لا الوجوب، كما في قوله:{فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة: 10]، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2].

وعن الثانية: أنه وضع عنهم [بها] جناح الكراهة في حال العذر، وذلك يقتضي أنها لا ترتفع عند فقده، ونحن قائلون به؛ فإن حمله مستحب، وتركه مكروه إلا في حالة العذر.

وادعى الإمام أن الذي لا بد من التنبه له: أنهم لو بعدوا الأسلحة عن أنفسهم، وظهر بهذا السبب مخالفة الحزم والتعرض للهلاك- فيجب منع هذا

ص: 226

قطعاً؛ فإنه في صورة الاستسلام للكفار، وإن وضع الواضع سيفه بين يديه إذا لم يكن في حال مطاردة، ولم يكن مخالفاً للحزم- فلست أرى في ذلك احتمال التردد في الجواب؛ بل الوجه القطع به؛ فإن مد اليد إلى السيف الموضوع على الأرض في اليسر كمد اليد إليه وهو يتقلد، فإذا كاني قطع به في غير الصلاة، فلأن يقطع بجوازه في الصلاة أولى وأحرى. وإن لم يظهر في تنحية السلاح إمكان خلل، ولكن كان لا [يؤمن] أيضاً إفضاء مثل تلك التنحية إلى خلل، فلعل التردد واختلاف النص في هذا، ولكن الأصحاب ذكروا حمل السلاح في عيبته في الصلاة، وأنا أرى الوضع بين اليدين في حكم رفع السلاح وحمله.

وهذا كله في السلاح الطاهر، أما النجس فلا يجوز حمله.

قال القاضي أبو الطيب: وكذا لا يجوز حمل ما يمنعه من إكمال الصلاة، مثل: السيور التي لا يمكنه فيها الركوع والسجود، ومثل البيضة السابغة التي تمنعه من السجود، ومثل الخوذة التي لها أنف يحول بين جبهته وبين الأرض. وهذا يؤخذ مما تقدم في الأبواب السالفة، على أن في كلام البندنيجي الذي سنذكره ما ينازع فيه.

وكذا لا يجوز أن يحمل ما يؤذي به غيره من المسلمين، مثل: الرمح يحمل في وسط الناس؛ لأنه إن حمله قائماً لم يتمكن من الركوع والسجود في تلك الحالة، وإن مده آذى المسلمين به، نعم لو كان في حاشية الناس جاز له حمله؛ لأنه لا يؤذي به أحداً إذا وضعه ممدوداً حال صلاته، وكلام البندنيجي يدل على أنه في الحال الأول مكروه؛ لأنه قال في كتاب الرمي: إن الصلاة في حال حمل السلاح جائزة، وهو على ثلاثة أضرب: حرام وهو النجس، ومكروه وهو ما يشغله عن الخشوع كالجعبة التي فيها النشاب والرمح، ومباح وهو السيف والخنجر والسكين، وقال هنا- وكذا الماوردي-: إنا إن حملنا النصين على اختلاف حالين، فحمل السلاح على خمسة أضرب: حرام، ومكروه، وواجب، ومستحب، وما اختلف حكمه باختلاف مكان حامله:

فالحرام: ما كان نجساً، قال الماوردي: أو مانعاً من الركوع والسجود، ونحوه.

ص: 227

والمكروه: ما كان ثقيلاً يشغله عن الصلاة كالجوشن والمغفر السابغ على الوجه، وما له أنف.

والواجب: مما يدفع به عن نفسه: كالسيف، والسكين.

والمستحب: ما يدفع به عن نفسه وعن غيره: كالقوس، ونحوه.

وما اختلف حكمه باختلاف المكان: وهو الرمح: إن كان في حاشية الناس لم يكره، وإن كان في أثناء الصف كره له ذلك.

وإن قلنا: المسألة على قولين، فالسلاح على أربعة أضرب: محرم، ومكروه، وما اختلف باخلاتف المكان- وقد تقدم بيان ذلك- وما اختلف القول فيه: وهو ما يدفع به عن نفسه، أو عن نفسه وغيره، فهل يجب حمله أو لا؟ على قولين.

وقد أفهم ما ذكرناه: أن السلاح الذي وقع الكلام فيه يشمل ما يلبس وقاية، وما يحمل للدفع.

وعن ابن كج: أن السلاح يقع على السيف والسكين والرمح والنشاب ونحوها، أما الترس. فليس بسلاح، وكذا لو لبس الدرع لا يسمى حاملاً لسلاح، وتفصيل الإمام السابق في تنقيح محل الخلاف يرشد إليه.

[تنبيه: كلام الشيخ يفهم أن ما ذكره من استحباب حمل السلاح أو وجوبه، مختص بما ذكره من صلاتي الخوف: صلاة ذات الرقاع، وصلاة عسفان، وبه صرح] الإمام، أما صلاة شدة الخوف فذاك واجب فيها قولاً واحداً. وصلاة بطن النخل، قد قال الرافعي: يظهر أن تكون كصلاة عسفان وذات الرقاع؛ لأن معنى الخوف يشملها، وقد أطلق الأصحاب ذلك في صلاة الخوف إطلاقاً.

قال: وإذا اشتد الخوف، أي: بحيث لا يمكن الإمام أن يقسم القوم قسمين؛ لكثرة العدو ونحو ذلك، والتحم القتال، أي: فلم يقدروا على النزول عن دوابهم، أو على الانحراف، وهم رجالة – صلوا رجالاً وركباناً؛ [لقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239] ومعناه: إن خفتم رجالاً وركباناً]

ص: 228

فصلوا رجالة وركباناً؛ و"رجالاً": جمع "راجل"؛ كصاحب وصحاب، وقوله عليه السلام في حديث البخاري السابق في غزوة ذات الرقاع:"وإن كانوا أكثر من ذلك، فليصلوا قياماً وركباناً".

قال: إلى القبلة، وغير القبلة؛ لأنه روي عن ابن عمر رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} أنه قال: مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها. كذا رواه مالك عن نافع عنه، [ثم] قال مالك: ما أراه ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال القاضي أبو الطيب: إن أبا بكر بن المنذر قال: إن موسى بن عقبة رواه عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً.

وفي "الحاوي" و"التهذيب" وغيرهما: أن القائل: "ما أراه ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم هو نافع، وهو المذكور في كتب الحديث، ثم قال الماوردي: والشافعي رواه عن محمد بن إسماعيل عن [ابن أبي ذئب] عن الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان ذلك نصّاً مرويًّا، ولأن الضرورة تدعو إلى الصلاة على هذه الصفة؛ إذ لا يجوز إخلاء الوقت عن الصلاة؛ فجاز ذلك للضرورة، ولا يجب عليهم في هذه الحالة أن يستقبلوا القبلة، لا في الإحرام ولا في الركوع ولا في السجود، وإن كانوا رجالة، صرح به البغوي وغيره.

ولا تجب عليهم الإعادة إذا كان الانحراف عن القبلة لأجل القتال، فلو كان لأجل جموح الدابة، وطال الزمان- بطلت صلاته، كما في غير حال الخوف، قاله الرافعي، وحكى ابن التلمساني في باب استقبال القبلة: أن العراقيين حكوا وجهاً في صلاة المسايفة إذا وقعت إلى غير القبلة: أنه يجب القضاء.

ص: 229

قال: فإن لم يقدروا على الركوع والسجود؛ أي: للخوف من العدو- أو مثوا؛ لقول ابن عمر في الخبر الذي ذكرناه من قبل عن رواية مسلم، عن نافع، عن ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك، فصلى راكباً أو قائماً يومئ إيماء. ولا فرق في ذلك بين الراكب والراجل، بخلاف ما تقدم في صلاة النافلة في السفر في حق الماشي. والإيماء: الإشارة، ويتعين عند الإتيان بها أن يكون إيماؤه بالسجود أخفض من الركوع؛ ليحصل التمييز.

ويجوز فعل هذه الصلاة [عندنا] فرادى وجماعة؛ لعموم الآية. قال ابن الصباغ: والجماعة أفضل.

قلت: وفيه نظر؛ لأن أبا حنيفة يقول: لا تصح الصلاة جماعة في هذه الحالة، كما حكاه القاضي أبو الطيب عنه، ومن شأن الشافعي استحباب الخروج من خلاف الخصم إذا أمكن، ما لم يكن قد ورد نص يقتضي المخالفة، كما تقدم ذكره في القصر.

ثم إذا أقيمت جماعة، فلا يضر تقدم المأمومين وتأخرهم بالكر والفر؛ كما لا يضر ذلك في المستديرين حول الكعبة، بخلاف من اختلف اجتهادهم إلى أربع جهات لا يقتدي بعضهم ببعض، وفي هذه الحالة أيضاً لا يجب عليهم- إذا صلوا كذلك- الإعادة؛ لأنهم فعلوما ما أمروا به، وقد أسقط أبو حنيفة وجوب الفعل على الحاضر في هذه الحالة، ولديلنا عليه- مع الآية- أنه مكلف تصح منه الطهارة غير متخوف من القتل لأجل الصلاة؛ فوجب ألا يخلي الوقت من الصلاة، أصله: الأمن.

فرعان:

الفرع الأول: الكمين يجوز أن يصلي قاعداً؛ مخافة أن يراه العدو، وفي الإعادة قولان حكاهما الفوراني؛ بناء على المحبوس في الحُش، المذكور منهما في "التهذيب" و"الكافي": الوجوب، وكلام الإمام يقتضي الجزم بمقابله.

الفرع الثاني: لو لم يمر بالمصلي قرن، ولكن كان ترتيب القتال يقتضي أن

ص: 230

يقصد وإن لم يقصد- قال الإمام: فهذا أراه من الأفعال الضرورية؛ فإن من لا يقصد في القتال – هتضم ويتغشى في التقاء الصفوف.

قال: فإن اضطروا إلى الضرب المتتابع ضربوا؛ ولا إعادة عليهم، كما لو اضطروا إلى المشي فمشوا، وهذا قول ابن سريج، كما قاله البندنيجي، وحكاه الماوردي عنه وعن أبي إسحاق؛ جرياً على مذهبهما في حمل نصيه في "المختصر" و"الأم"- فيما إذا خاف فركب في أثناء الصلاة- على حالين، كما ستعرفه، وبهذا جزم البغوي والقاضي الحسين، ويقال: إن القفال قطع به، كما حكاه الروياني، وقال الرافعي: إن الأكثرين رجحوه، سواء وقع في شخص واحد أو في أشخاص.

وقيل: عليهم الإعادة؛ لأنه عذر نادر فيها، فأشبه من لم يجد ماء ولا تراباً؛ فإنا نأمره بالصلاة مع أنها باطلة لفقد شرطها، وبالإعادة، وهذا ما حكاه البندنيجي عن النص، وعبارته في حكايته:"أنها تبطل، ويمضي في صلاته، ويعيد"، وهكذا حكاه الروياني في "تلخيصه" عن "الأم" فقال: إن تابع الضرب، أو ردد الطعنة، أو عمل ما يطول- بطلت صلاته، ويمضي فيها، ثم إذا قدر أعادها، لا يجزئه غير ذلك، ولأجل ذلك ذكر البندنيجي في موضع آخر أنه المذهب.

قال الماوردي: وهو ما عليه سائر أصحابنا، ووجهه بعضهم بأن إقامة هذه الصلاة راكباً مومئاً، مستقبل القبلة وغير مستقبلها، كما فسره ابن عمر- من الرخص الظاهرة، فالزيادة على ذلك مجاوزة للنص في محل لا مجال للقياس فيه، كذا نقله صاحب "التقريب"، وفيه نظر؛ لما تقدم في الباب: أن الرخصة إذا عقل معناها ألحق بها ما هو في معناها، والقائلون بالأول حملوا النص على ما إذا فعلوا ذلك من غير ضرورة.

وقد أفهم كلام الشيخ في "المهذب" أن القول بالبطلان قول ثالث في المسألة غير القولين؛ لأنه لما حكى النص حكى بعده أن أبا حامد حكى عن ابن سريج أنه إن كان مضطراً لم تبطل صلاته؛ كالمشي، ثم قال: وحكى بعض أصحابنا أنه

ص: 231

إن اضطر فعل، ولكن يلزمه الإعادة؛ كما نقول فيمن لم يجد ماء ولا تراباً: إنه يصلي، ثم يعيد. وعلى ذلك جرى ابن يونس، وكلام البندنيجي والروياني مصرح بأن هذا هو النص، وحينئذٍ فليس في المسألة معه إلا قول ابن سريج وأبي إسحاق، والله أعلم.

ولا خلاف أن الضربة الواحدة والطعنة الواحدة لا تبطل، وكذا الضرب والطعن المتفرق فيها. والضربتان المتواليتان ونحوهما هل تبطلان؟ إن قلنا في الثلاثة: إنها تبطل، قال البندنيجي: لا نص فيها للشافعي، والذي يجيء على مذهبه أن ذلك لا يبطل؛ لأنه في حد القلة؛ لأنه لا ينطلق عليه اسم الجمع المطلق، وهذه طريقة في المسألة، وطريقة القاضي أبي الطيب التي ذكرها في "تعليقه": أن الضربة الواحدة والطعنة الواحدة لا تبطل اتفاقاً، وقال: إنه لا يختلف المذهب أن الثلاث المتواليات تبطل؛ لكون ذلك عملاً كثيراً، وأما إذا ضرب ضربتين [أو طعن طعنتين] ففي البطلان وجهان:

أحدهما: تبطل؛ لأن الشافعي نص على أن الضربة الواحدة والطعنة الواحدة لا تبطل الصلاة، ثم قال:"إن ردد الطعنة، بطلت"، وهو في الطعنة الثانية قد ردد الطعنة؛ فوجب أن تبطل صلاته.

وطريقة الإمام: أن الضرب الكثير عند عدم الحاجة مبطل، وفي معناه الزعقة والصيحة؛ فإنه لا حاجة إليها؛ لأن [الكمي] المقنع السّكوت أهيب في نفوس الأقران، وزاد الماوردي، فقال: إنه لو تكلم عند الضرورة للكلام، بطلت وجهاً واحداً؛ لأن يسير العمل مباح، ويسير الكلام غير مباح، وعند الحاجة لو كثرت ضرباته وأفعاله في أشخاص، قال: فالذي قطع به شيخي أن ذلك لا يقدح، وقياسه بين. وذكر صاحب "التقريب" نصوصاً دالة على أن كثرة الأفعال تبطل، وأن العراقيين والشيخ أبا عل حكوا ذلك. وقال الأصحاب: ظاهر المذهب ما ذكره شيخي، وفرعوا عليه ما إذا كرر الفعل الواحد في الشخص الواحد ثلاث مرات، وقالوا: هذا مبطل؛ لأنه في المحل الواحد نادر؛ فلا يُعد مما يظهر مسيس

ص: 232

الحاجة إليه، وفيه نظر؛ [فإنه] قد يعم من جهة أن القرن قد يتقي ببيضته الضرب وتمس الحاجة إلى أخرى، وقد لا تؤثر الضربات لمكان الدروع وغيرها من الملابس الواقية؛ فالحكم بأن الغالب ان تزيح الضربة دون الضربات غير ظاهر، وكلام الصيدلاني مصرح في فحواه بأن الحاجة إذا مست إلى ذلك في مضروب واحد لم تبطل الصلاة، ولا وجه له عندي إلا هذا، وما نقله عن الصيدلاني قد قال الفوراني: إنه نص عليه، وإن مقابله خرجه أبو حامد مما إذا حمل سلاحه الملطخ بالدم، كما ستعرفه.

ثم قال الإمام: والقول القريب فيه: أنا حكينا قولاً في كتاب الطهارة: أن من أمرناه بالصلاة مع اختلال صلاته بعذر نادر لا يدوم لا قضاء عليه، وهو مذهب المزني؛ فينبغي أن يتخذ هذا أصلاً، ويترتب عليه جريان الضربات في مضروب واحد، وهذا أولى بإسقاط القضاء؛ لما أشرت إليه.

وإذا جمعت ما ذكره عند الحاجة إلى الضرب واختصرته، قلت: في المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كثر في شخص واحد أوجب الإعادة، وغلا فلا، وقد حكاها في "الوسيط" أقوالاً ثلاثة. ثم محل القول بعدم البطلان عند الأصحاب فيما إذا كانت الضربة واحدة أو أكثر، إذا لم يكن في حمل السلاح بعد الأولى ملابسة النجاسة، فإن كانت بأن تلطخ سيفه بالدم: فإن ألقاه على القرب، أو رده في قرابه تحت ركابه في قريب من زمان الإلقاء- فلا يضره ذلك، كذا قاله الإمام، وقاله الروياني في "تلخيصه": الظاهر فيما إذا رده في قرابه تحت [وركه أنها] تبطل؛ لأنه كان يمكنه أن يطرحه من يده في الحال.

ولو أمسكه، ولم يفارقه؛ للاحتياج إليه - قال الفوراني: فهل عليه الإعادة؟ فيه قولان؛ كمن صلى في الحش، والذي حكاه القاضي الحسين عن النص: أن صلاته باطلة، وهو ما حكاه الإمام عن الأصحاب، ثم قال: وفيه نظر عندي؛ [فإن تلطّخ] السلاح، والطعن [والضرب] على الولاء، وشدة الخوف من الأمور العامة في القتال، فإذا ثبت أن ما يقتضيه القتال محتمل، فليلتحق هذا به

ص: 233

خصوصاً، ونجاسة المستحاضة لا تبطل الصلاة، للتولي.

قال: وإن أمن وهو راكب، فنزل، أي: لم يستدبر القبلة في نزوله- بنى، [أي:] على صلاته؛ لأن النزول عمل قليل، وهو لا يبطل في حال الأمن.

وظاهر كلام الشيخ أنه [لا] فرق في البناء بين أن يكثر منه الفعل- لثقل جسمه- أو لا، وهو وجه حكاه الفوراني وصاحب "التقريب"، مع وجه آخر لم يحك القاضي الحسين غيره: أنه يستأنف، ويجب على الآمن في حال الركوب أن ينزل ليتم صلاته على الأرض؛ كما يجب على المريض القيام إذا قدر عليه في أثناء صلاته.

أما إذا استدبر القبلة في نزوله، فقد قال في "المهذب" وغيره من العراقيين: إن صلاته بطلت؛ لأنه ترك الاستقبال في الفرض من غير خوف، وهذا ما حكاه الروياني في "تلخيصه" عن النص، نعم: لو انحرف عن القبلة يميناً أو شمالاً لا تبطل، كما صرح به القاضي أبو الطيب وغيره، وقالوا: إن ذلك يكره، وكان يتجه في حال استدباره القبلة في نزوله أن يتخرج على الوجهين [فيما] إذا وجد السترة في أثناء الصلاة [وهي بقربه،] وكان في أخذها مستدبراً للقبلة، اللهم إلا أن يكون ما ذكروه ها هنا مفروضاً فيما إذا أمكنه الاستقبال في حال نزوله، وما ذكروه ثم إذا لم يمكنه في حال أخذه السترة الاستقبال.

قال: وإن كان راجلاً، أي: فخاف فركب، استأنف على المنصوص، وقيل: إن اضطر إلى الركوب، فركب، لم ييستأنف، وقيل: فيه قولان.

اعلم: أن الذي نص عليه في "المختصر" أنه إذا افتتح الصلاة آمناً، فأظله العدو؛ فخاف، فركب فرسه- أنه يستأنف الصلاة؛ لأن الركوب عمل كثير، وقال في "الأم":"بنى على صلاته". واختلف الأصحاب في ذلك:

فمنهم من أخذ بنصه في "المختصر"؛ نظراً لما عمل، ولم يفرق بين أن يكون مضطراً إلى الركوب أو لا، وهذه [هي] الطريقة التي قدمها الشيخ،

ص: 234

[ولم يحك في "الكافي" غيرها].

ومنهم من قال – وهو أبو إسحاق، وابن سريج، وأكثر أصحابنا، كما قال في "الحاوي"-: إن النصين محمولان على اختلاف حالين: فحيث قال: "يستأنف"، أراد: إذا ركب مختاراً من غير ضرورة داعية، بل ركب طالباً لهم، وحيث قال:"يبني"، أراد: إذا كان قد دعته الضرورة إلى الركوب؛ إما للدفع عن نفسه، أو للهرب الجائز له من شدة الخوف وهجوم العدو؛ لأنه في هذه الحالة مضطر إليه؛ فلم تبطل كالمشي. وهذه الطريقة هي الطريقة الثانية في الكتاب، ولم يورد القاضي الحسين غيرها عن الأصحاب، وأنهم أيدوا ذلك بقول الشافعي في "الإملاء":"إذا صلى نازلاً فركب، استأنف؛ لأنه مستغن عنه"؛ [فإن مفهومه: أنه إذا صلى نازلاً، فلحقه شدة الخوف؛ فركب- بنى؛ لأنه غير مستغن عنه]، وقد حكى الإمام هذه الطريقة عن الصيدلاني، وقال: لا شك أنها المذهب.

ومنهم من حكى في المسألة قولين:

أحدهما: يبني مطلقاً؛ لأن الركوب كالنزول، ولأن العمل الكثير في الصلاة للحاجة جائز، والحاجة موجودة.

والثاني: يستأنف مطلقاً، قال الروياني: وهو الأقرب؛ لما ذكرناه من علة الشافعي، ووجهه الفوراني بأنه التزم صلاة ليس فيها فعل مخالف لموضوعها، فإذا فعل ما يخالفها لزمه استئنافها، قال الإمام: وهذا ليس بشيء؛ فإن من التزم الصلاة قائماً، ثم اضطر إلى القعود أو إلى الإيماء بمرض، فعله ولا تبطل صلاته، وإنما يؤثر الالتزام في الرخص، كما إذا نوى الإتمام لا يقصر، بخلاف الضرورات.

[وهذه الطريقة هي الطريقة الثالثة في الكتاب، وفي "تلخيص الروياني": أن القاضي أبا الطيب قال: الذي يقتضيه كلام الشافعي في "الأم": أنه إذا فعله للحاجة يمضي في صلاته، ويعيد الصلاة قولاً واحداً؛ لأن هذا العمل يضاد الصلاة؛ فاستوى فيه حال شدة الخوف وحال الأمن؛ كالحدث].

قلت: وهو شبيه بنصه على أن الضرب المتتابع فيها يبطلها، ويمضي فيها،

ص: 235

والذي رأيته في "تعليقه" أنه يستأنف الصلاة ولا يبني عليها، ولم يحك غيره، وحكى الإمام طريقة أخرى: أن العمل إن كثر في الركوب أبطل الصلاة، وإلا فلا، وحمل قائلها النصين على هذين الحالين. قال الإمام: وهذا ليس بشيء؛ لأن كثرة العمل بسبب الخوف محتمل على قاعدته، نعم: إن أكثر العمل من غير حاجة، بطلت صلاته.

قال: وإن رأوا سواداً، أو إبلاً، أو نحو ذلك، فظنوه عدوًّا؛ فصلوا صلاة شدة الخوف، أي: بالإيماء، ثم بان لهم أنه لم يكن عدواً- أجزأتهم صلاتهم في أصح القولين؛ لأن علة الجواز شدة الخوف، قال الله – تعالى-:{فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة: 229]، وقد تحقق الخوف حال الصلاة؛ فصحت وأجزأت.

قال في "المهذب": كما لو رأى عدواً، فظن أنهم على قصده؛ فصلى بالإيماء، ثم تبين أنهم لم يكونوا على قصده.

وهذا ما نص عليه في "الإملاء"، كما قال المزني في "المختصر"، وتبعه القاضي أبو الطيب والحسين في ذلك، وتبع الشيخ في تصحيحه القاضي أبا الطيب، وتبع الشيخ في ذلك الروياني في "تلخيصه"، وقال الإمام: إنه غير سديد؛ فإن الله – تعالى – أراد الخوف في القتال القائم على تحقق، والعلم عند الله.

ومقابله: أنها لا تجزئ، فتجب الإعادة؛ لأن الله – تعالى – أجاز لهم صلاة الخوف بشرط وجود العدو، ولم يوجد؛ فلا تجزئهم وإن ظنوا الصحة؛ كمن صلى في ثوب على ظن أنه طاهر، فبان [أنه] نجس، أو من غير سترة ظاناً عجزه عنها، ثم ظهرت قدرته عليها، وهذا ما نص عليه في "الأم"، ونقله المزني أيضاً، وقال الإمام: لعله الأصح، [وصرح في "التهذيب" و"الكافي" بأنه الجديد والأصح]، وقال الماوردي والرافعي: إنه الأصح. وعليه الجمهور.

وحكى القاضي الحسين والبغوي أنه قال في القديم: إن كان هذا في دار الإسلام، فعليهم الإعادة، وإن كان في دار الحرب، لا يعيدون.

ص: 236

وإذا ضممت ذلك إلى ما في الكتاب، حصل في المسألة ثلاثة أقوال، وكذا حكاها في "التهذيب"، لكن القاضي قال بعد حكاية ما ذكرناه: واختلف الأصحاب في ذلك:

فمنهم من قال: إن كان في دار الإسلام وجبت الإعادة قولاً واحداً، وإن كان في دار الحرب فقولان. والفرق: أن الغالب في دار الحرب أن ذلك عذر، بخلاف دار الإسلام، وهذه الطريقة لم يورد الماوردي غيرها، وقال: لم أر من أصحابنا من خالف في ذلك، ولا وجدت للشافعي نصّاً يعضده أو يعارضه إلا الحجاج؛ فإنه يقتضي تسوية الحكم في الحالين.

[ثم] قال القاضي الحسين: ومنهم من قال: القولان في دار الإسلام ودار الحرب، وربما شبّه القولان بالقولين بالمعضوب إذا حج عنه، ثم برئ: هل يجزئه أم لا؟ وكذا غير المعضوب إذا استأجر من يحج عنه، ثم بان آخر الأمر عضبه: هل يجزئه أم لا؟ وبالقولين فيما إذا باع مال أبيه على ظن أنه حي، فبان ميتاً.

وفي "تعليق البندنيجي": أن ما نقله المزني عن نصه في "الإملاء" في صورة مسألة الكتاب- وهم منه، والذي نص عليه في "الإملاء" أن عليهم الإعادة أيضاً، نعم: نص فيه على أنه إذا أخبرهم ثقة أن السواد عدو؛ فصلوا صلاة شدة الخوف، فبان أن لا عدو أنه لا إعادة عليهم، فمن الأصحاب من أجرى النصوص على ظاهرها، ومنهم من خرج، وقال: الكل على قولين، قال ابن الصباغ: ومنهم من قال في مسألة الكتاب: تلزمهم الإعادة قولاً واحداً، وفيما إذا أخبرهم ثقة، ثم بان خلاف قوله: في الإعادة قولان، وبهذا يحصل في المسألة أربع طرق:

إحداها: في المسألة ثلاثة أقوال، كما هي في "التهذيب".

الثانية: إن كان ذلك في بلاد العدو، لا يعيدون قولاً واحداً، وإن كان في دار الإسلام، فقولان.

الثالثة: إن لم يخبرهم بذلك ثقة، ثم بان خلافه، أعادوا قولاً واحداً، وإن أخبرهم ثقة بذلك ففي الإعادة قولان.

الرابعة: إجراء القولين في دار الإسلام ودار الحرب فيما إذا ظنوا بذلك، أو

ص: 237

أخبرهم ثقة به، ثم بان خلافه. والله أعلم.

والخلاف يجري فيما إذا هربوا؛ ظنًّا منهم أن في العدو كثرة؛ فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم تبين لهم خلافه.

قال: وإن رأوا عدوا، فخافوهم؛ فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان أنه كان بينهم خندق، أي: يمنع الوصول إليهم، وكذا ما في معناه من حائط لا ينقب، أو بحر لا يخاض- أعادوا؛ لتفريطهم في الكشف والتأمل مع إمكانه، وقيل: فيه قولان كالمسألة قبلها، وقد حكى الطريقين هكذا البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما، واختار الأخيرة منهما الشيخ أبو حامد، وصححها الروياني في "تلخيصه"، ولم يورد القاضي أبو الطيب والماوردي وكذا المراوزة غيرها؛ لأنهم جعلوا قول الشافعي بوجوب الإعادة فيها مفرعاً على أنه يجب عليه الإعادة في المسألة قبلها، وقالوا: حاصل الكلام: أن المجوِّز للصلاة بالإيماء هو حقيقة وجود العدو مع الخوف منه، أو وجود الخوف؟ فإن اعتبرنا الخوف فلا إعادة في الصورتين، وإن اعتبرنا وجود العدو حقيقة أعادوا، ولأجل ذلك طردوا الخلاف فيما لو صلوا بالإيماء؛ لظنهم: أن فيهم قلة عن العدو، فبان [أن هناك] مدداً من المسلمين قريباً منهم، أو بان لهم أن هناك حصناً يمكنهم أن يلتجئوا إليه- قال القاضي الحسين: ويقرب الوقلان من القولين فيمن نسي الماء في رحله، وصلى بالتيمم.

قال بعضهم: والصحيح الطريقة الأولى؛ لما ذكرناه.

ولو بان أن ما بينهم وبين العدو الذي رأوه كان على المصالحة والمشارطة، قال البندنيجي: فلا إعادة قولاً واحداً.

وقد أفهم كلام الشيخ أمرين:

أحدهما: أن صلاة شدة الخوف لا تجوز عند وجود الخندق بينهم وبين العدو، وهو كذلك إذا كان لا يمكن طمه قبل انقضاء الصلاة. أما إذا أمكن ذلك، وكان العدو علم ذلك- فهو كالمعدوم، وكذا لو كان بينهم حائط وهم [على]

ص: 238

نقبه، فإن كان لا يمكن ذلك قبل فراغ الصلاة، لم يصلوا صلاة شدة الخوف.

الثاني: لو بان لهم أن ما رأوه من السواد ونحوه لم يكن عدواً، أو بان أنه عدو، وأن بينهم خندقاً ونحوه، وكان القوم قد صلوا صلاة الخوف لا صلاة شدة الخوف – أن الحكم لا يكون كما ذكره في صلاة شدة الخوف، [وإلا لم يكن لتقييده بشدة الخوف فائدة، وبه صرح الماوردي فقال: إذا صلوا صلاة ذات الرقاع، أو صلاة عسفان، أو صلاة بطن النخل في هاتين الحالتين، ثم بان الأمر- لا تجب عليهم الإعادة قولاً واحداً؛ لأنهم لم يسقطوا فرضاً، ولا غيروا ركناً، بخلاف صلاة شدة الخوف].

قلت: ويؤيد ذلك أنا نتساهل في المرض المجوز للقعود من قيام، ويشترط في الصلاة على جنب أزيد من ذلك، وفي الصلاة بالإيماء أشد من ذلك؛ لأجل إسقاط فرض منها.

وقال غيره: [الكلام في ذلك ينبني على أن هذه الصلوات لو صليت في حال الأمن هل تصح، أم لا؟ ولا خلاف] أن صلاة بطن النخل صحيحة؛ لأن أكثر ما فيه أن الطائفة الثانية صلت الفرض خلف متنفّل، وذلك جائز عندنا وأما صلاة ذات الرقاع [إذا فعلت كما رواه ابن خوات] فالكلام فيها يقع في الإمام والمأمومين:

أما الإمام: فصلاته صحيحة، كما حكاه البندنيجي؛ لأنه طول الصلاة بالانتظار مشتغلاً بالقراءة أو الذكر، وذلك لا يمنع صحة الصلاة، وقال القاضي أبو الطيب والماوردي: في ذلك قولان ينبنيان على ما إذا فرقهم أربع فرق؛ لأنه انتظر في غير موضع الانتظار.

وأما صلاة المأمومين: فالطائفة الأولى فارقت الإمام [بغير عذر]؛ ففي صلاتها قولان إن علمت أن ذلك لا يجوز، والطائفة الثالثة خالفته في ركعة مع بقاء القدوة؛ فتبطل صلاتها إذا علمت بأن ذلك لا يجوز قولاً واحداً، وقال ابن سريج وابن خيران: فيها قولان أيضاً؛ لأن عندهما أنها فارقت الإمام فعلاً

ص: 239

وحكماً، وكذلك قالا: لا يتحمل عنها السهو الذي وجد منها في حال انفرادها. قال البندنيجي: وهذا ليس بشيء.

ولا فرق فيما ذكرناه في الطائفة الأولى بين أن نقول: [إن] صلاة الإمام باطلة، أو صحيحة، وأما في الطائفة الثانية: فإن قلنا: إن صلاة الإمام صحيحة، فالحكم كما تقدم، وإن قلنا: إنها باطلة، قال الماوردي: فصلاة الطائفة الثانية باطلة إذا علموا ببطلان صلاة الإمام؛ لأنهم ائتموا به بعد بطلان صلاته، وإن لم يعلموا صحت صلاتهمز

وإذا فعلت كما رواه ابن عمر، فإن قلنا: لا تصح في حال الخوف كذلك، ففي حال الأمن أولى، وإن قلنا: تصح في حال الخوف، فقد قال القاضي أبو الطيب: إنها لا تصح قولاً واحداً؛ لأن فيها عملاً كثيراً واستدباراً للقبلة، وهذا بالنسبة إلى المأمومين.

أما الإمام: ففي صلاته الخلاف السابق لأجل الانتظار.

ولو صلى بهم صلاة "عسفان" فصلاة الإمام صحيحة بلا خلاف، وكذا صلاة من تبعه في السجودن وأما من خالفه فحرس، فقد سبقه الإمام بالسجدتين والجلسة بينهما.

قال ابن الصباغ: فمن أصحابنا من قال: تبطل صلاتهم؛ لأنهم خالفوا الإمام بركنين.

وقال البندنيجي: لأنهم خالفوه بثلاثة أركان.

ومن اختلاف كلامهما يؤخذ أن الرفع من السجود هل هو ركن أم لا؟ وقد صرح بالخلاف فيه القاضي الحسين، كما تقدم.

وقال أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا- كما قال الماوردي-: السجدتان تجريان مجرى الركن الواحد، والجلسة بينهما للفصل؛ فلا تبطل صلاة من لم يتبعه فيه، وهذا ما صححه الماوردي، وادعى أبو الطيب والبندنيجي أنه ظاهر المذهب؛ لأن الشافعي قال – كما حكاه القاضي الحسين-:"أحببت أن يعيد".

إذا تقرر ذلك عُدنا إلى ما نحن فيه، فحيث قلنا بالصحة في حال الأمن، ففي

ص: 240

هاتين الصورتين أولى، وحيث قلنا: لا تصح، فهل تصح ها هنا أم لا؟ فيه وجهان حكاهما في "الإبانة"، وقال في "التهذيب": إن صلاتهم إن كانت صلاة عسفان، فهل عليهم الإعادة؟ فيه قولان؛ كما لو صلى صلاة شدة الخوف، وكذا لو صلى بهم صلاة ذات الرقاع، وقلنا: لا تجوز مع عدم الخوف.

واعلم: أنه كما يجوز للجماعة صلاة شدة الخوف، يجوز للواحد، مثل: أن يظهر عليه ثلاثة من الكفار، وقد خاف خروج وقت الصلاة، أو قاطع طريق يريد دمه أو حريمه، وكذا لو قصد ماله على الأصح، وبه جزم العراقيون، والماوردي.

وفي "النهاية": أن الأئمة والصيدلاني نقلوا قولاً عن الشافعي: أنه لا يجوز إقامة صلاة شدة الخوف في الذبّ عن المال، مثل: أن ركبه سيل، وعلم أنه لو مر مسرعاً بماله، وصلى فارًّا مومئًا سلم وماله، ولو صلى متمكنًا أمكنه أن يهرب ويتلف [ماله] وهذا غريب، وظاهر النصوص الجديدة يخالف هذا؛ فهو إذن بعيد مزيف، وقد حكاه القاضي الحسين في المال، حيواناً كان أو غيره.

وقال الفوراني: إن الحيوان [يجوز أن] يصلي لأجله صلاة شدة الخوف، والخلاف في غيره.

ويجوز للواحد والقوم إذا غشيهم سيل، أو أظلهم سبع، أو صال عليهم فحل، أو طلبهم حريق، ولم يجدوا نجوةً عالية، أو وجدوها لكن لو صعدوها لم يجدوا طريقاً للخلاص، وخافوا على أنفسهم- أن يصلوا صلاة شدة الخوف بالإيماء، ولا إعادة عليهم.

وكذا يجوز للمعسر المديون إذا كان غريمه لا يصدقه في إعدامه، ولو أدركه لحبسه- أن يهرب، ويصلي بالإيماء إذا كان يعلم أنه لو صلى لأدركه.

وفي "الرافعي": أن الحناطي حكى عن "الإملاء" أنه إن طلب لا ليقتل، ولكن ليحبس، أو يؤخذ منه شيء- لا يصلي صلاة شدة الخوف، وغاية المحذور ها هنا هو الحبس، والمشهور الأول.

وقال الفوراني: وكذا من عليه قصاص يجوز له أن يهرب؛ لرجاء العفو،

ص: 241

ويصلي صلاة الخوف في حال هروبه.

قال [الإمام]: وهذا قد ذكرته في أعذار الجماعات، وهو بعيد عندي على الجملة؛ فلعله جوزه في ابتداء الأمر حيث يفرض سكون غليل الطالب قليلاً في تلك المدة، وفي مدة رجاء العفو.

قلت: وأنت إذا وقفت على ما ذكرته فيه عند الكلام في الأعذار المسوّغة لترك الجمعة، علمت أن ذلك هو المنقول. ثم مما يستأنس به في الباب ما رواه أبو داود، عن ابن عبد الله بن أنيس، عن أبيه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي، وكان نحو عرنة وعرفات، فقال:"اذهب فاقتله" قال: فرأيته، وحضرت صلاة العصر، فقلت: إني أخاف أن يكون [بيني وبينه] ما أن يضطرني أؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه، فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجل بلغني أنك تجمع لهذا الرجل، فجئتك في ذلك. قال: إني لفي ذلك. قال: فمشيت معه ساعة، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد. والله أعلم.

* * *

ص: 242