المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب صلاة العيدين - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٤

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب صلاة العيدين

‌باب صلاة العيدين

العيد: مشتق من العود والرجوع، وسمي كل من اليومين المشهورين به؛ لتكرره بتكرر السنين.

وقيل: لعود السرور بعوده.

وقيل: بل لكثرة عوائد الله- تعالى- على عباده في ذلك اليوم؛ قاله القاضي الحسين.

وجمعه: أعياد.

وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في العاشر من ذي الحجة: أنه يوم الحج الأكبر.

والأصل في مشروعية الصلاة له- قبل الإجماع-:

[من الكتاب] قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] فإنه قيل: إن المراد بالصلاة في هذه الآية: صلاة عيد النحر، وبالنحر: الأضحية.

ومن السنة: ما تواتر أنه- عليه السلام كان يصليها والصحابة من بعد، وقد روى حماد عن حميد عن أنس بن مالك، أنه- عليه السلام لما هاجر إلى المدينة رأى أهل المدينة يخرجون إلى الصحراء في السَّنَة يومين ويلعبون، فقال:"ما هذان اليومان؟ " فقالوا: يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله قد أبدلكم [بهما] خيراً منهما: يوم الفطر، ويوم الأضحى"، أخرجه النسائي مختصراً.

وروي أن أول عيد صلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الفطر في السنة الثانية من

ص: 426

الهجرة، وفيها فرضت زكاة الفطر؛ قاله الماوردي.

قال: وهي سنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم واظب عليها، و [لأنه] قال للأعرابي:"خمس صلوات كتبهنَّ الله على العبد في اليوم واللَّيلة" فقال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوَّع"؛ فدل فعله مع قوله على أنها سنة غير واجبة.

ولأنها صلاة ذات ركوع وسجود لا يشرع فيها أذان ولا إقامة؛ فلم تكن واجبة كصلاة الضحى.

قال: مؤكدة؛ لأنه واظب عليها، واختصت بوقت راتب، وشرع لها الجماعة كالفرائض؛ وذلك يدل على تأكدها.

قال: وقيل: هي فرض على الكفاية؛ لأنها صلاة يتوالى فيها التكبير في القيام؛ فكانت فرض كفاية؛ كصلاة الجنازة؛ وهذا ما حكاه العراقيون عن الإصطخري.

وقال الإمام: إنه قال به معه طائفة؛ أخذاً من قول الشافعي في "المختصر": "من وجب عليه حضور الجمعة، وجب عليه حضور العيدين"، ولا سبيل إلى حمله على وجوب [ذلك فرض عين؛ لأنه خلاف الإجماع؛ فتعين حمله على وجوب] فرض الكفاية؛ لأنه أقرب إلى فرض العين من السنة المجردة.

وعلى هذا قال الشيخ: فإن اتفق أهل بلد على تركها- أي: من غير عذر [قاتلهم الإمام]؛ كما يقاتلون على ترك صلاة الجنازة.

والمذهب الأول؛ لما تقدم، وعليه نص الشافعي حيث قال في كتاب الصلاة:"والتطوع وجهان: أحدهما: صلاة مؤكدة مرتبة لا أرخص في تركها: كالعيدين، وصلاة الاستسقاء، والكسوف".

وقوله: "نم وجب عليه حضور الجمعة، وجب عليه حضور العيدين"، قد أنكره الشيخ أبو حامد، وقال:[لا] أعرف هذا الكلام للشافعي بحال، ولعله قد نقله على المعنى.

وإن صح- كما هو في القديم في باب الصيد والذبائح، كما قال الماوردي-

ص: 427

فمعناه: من وجب عليه حضور الجمعة فرض عين، وجب عليه حضور العيد ندباً، وقد يطلق الوجوب على المندوب المتأكد؛ قال- عليه السلام:"غسل يوم الجمعة واجبٌ"، ومعناه: وجوب اختيار.

وعلى هذا: إذا اتفق أهل بلد على تركها من غير عذر، هل يقاتلهم الإمام؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا؛ كما لا يقاتلون بترك الوتر، وركعتي الفجر.

والثاني: نعم، وينسب إلى أبي إسحاق، وهو المختار في "المرشد"؛ لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وما كان كذلك لا يجوز تركه؛ فمن تركه وجب قتاله كما لو ترك بعض الواجبات؛ كذا قاله القاضي أبو الطيب.

وقال ابن الصباغ بعد حكايته: إن هذا عندي في التحقيق قول الإصطخري، ولاشك فيه.

نعم: غيره وجه ذلك بأن الاتفاق على ترك هذا الشعار يتضمن استخفافاً واستهانة بالدين، فقوتلوا؛ لما دل عليه الترك، لا على نفس الترك، وخالف ذلك ما ليس من الشعائر من التطوعات؛ فإنها تفعل فرادى؛ فلا يظهر في تركها استهانة بالدين.

ولا خلاف في [أن] الترك لو كان لعذر: كالمطر والوحل، أو الخوف، ونحو ذلك مما يجوز ترك الجمعة لأجله- فلا يقاتلون.

واعلم أن قول الشيخ: "فإن اتفق أهل بلد على تركها، [قاتلهم الإمام] "، لو جعل تفريعاً على مذهب الإصطخري والمذهب معاً، لم يبعد، والله أعلم.

والمخاطب بها- سنة، أو فرض كفاية- من يلزمه حضور الجمعة بلا خلاف. ومن لا يلزمه حضور الجمعة من النساء والعبيد والمسافرين والمعذورين، أطلق الماوردي فيه حكاية قولين:

أحدهما- نص عليه في القديم-: أنهم غير مأمورين بها.

والجديد- وهو الصحيح-: أنهم مأمورون بها؛ لعموم أمره- عليه السلام ولذلك ارتاد لها مكاناً واسعاً؛ لأنه يحضرها من لا يحضر الجمعة.

ص: 428

وفي "تعليق" البندنيجي: أن هؤلاء إن حضروا مع من يلزمه حضور الجمعة، صلوا معهم على سبيل التبع؛ كما لو حضروا الجمعة مع أهل الجمعة؛ فإنهم يصلونها معهم، وتجزئهم.

فأما إذا صلاها الإمام بأهلها، فهل يصليها من لم يكن من أهل الجمعة أو لا؟

قال في "الأم" و"الإملاء": " [لا] يقيمها المنفرد في بيته والمسافر والمرأة".

وقال في "الصيد والذبائح": "وتجب إقامة العيد بحيث يجب إقامة الجمعة، وتسقط بحيث تسقط".

ويقر منه قوله في القديم: "ويصلي العيد حيث يصلي الجمعة".

واختلف أصحابنا في ذلك على طريقين:

فقال أبو إسحاق: يقيم العيدين من يصلي الصبح؛ فلا يخالف الصبح إلا في التكبيرات.

قال: وقوله في القديم: "يصلي العيد حيث يصلي الجمعة" أراد: أنها تقام في موضع واحد كالجمعة، ولا تقام في مساجد المحالِّ؛ كما تصلى سائر الصلوات.

قال البندنيجي: وهذا تأويل من لم يعرف قوله في "الصيد والذبائح"، والذي عليه عامة الأصحاب، أنها على قولين:

أحدهما: يصليها كل أحد.

والثاني: لا يقيمها إلا من وجبت عليه الجمعة، ويصليها هؤلاء تبعاً لهم.

قال: ووقتها ما بين أن ترتفع الشمس- أي: قيد رمح- إلى الزوال.

هذا الفصل مسوق لبيان ألو وقت صلاة العيدين وآخره، والأصحاب متفقون على أنه بالزوال ينقضي؛ لأن مبنى المواقيت على أنه إذا دخل وقت صلاة خرج وقت التي قبلها؛ لقوله- عليه السلام:"ليس التَّفريط في النَّوم؛ إنَّما التَّفريط في اليقظة: أن تؤخّر الصَّلاة إلى أن يدخل وقت صلاةٍ أخرى".

وبالزوال يدخل وقت صلاة الظهر؛ فزال به وقت ما قبلها.

ص: 429

واستأنس بعضهم في ذلك بما روى أبو داود: أن ركباً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس؛ فأمرهم "أن يفطروا، وإذا أصبحوا يغدوا إلى مصلاهم".

وأخرجه البهقي، وقال: إن إسناده صحيح.

[وزاد] في "المهذب": أن شهادتهم كانت بعد الظهر.

وأما أوّله، فقد قال الشيخ:"بعد ارتفاع الشمس"، أي: قيد رمح، كما ذكرنا، ويشهد له من نص الشافعي قوله في "المختصر":"وأحب أن يكون خروج الإمام في الوقت الذي يوافي فيه الصلاة، وذلك حين تبرز فيه الشمس".

فقوله: "وذلك حين تبرز فيه الشمس" بيان لوقت الخروج، لا لوقت الصلاة؛ لأن الكلام مسوق لبيان وقت الخروج، ويدل عليه قوله عقيبه:"ويؤخر الخروج في الفطر عن ذلك قليلاً".

وإذا كان كذلك كان عين ما ذكره الشيخ؛ لأنه إذا خرج حين تبرز فيه الشمس، كان وصوله إلى المصلى وقد ارتفعت قيد رمح، ويدل على ذلك من جهة السنة: ما روي أنه- عليه السلام كان يغدو إلى الأضحى والفطر حين تطلع الشمس، فيتم طلوعها، ومعلوم أنه كان يصلي في المصلى، وفي مسافة قطع ما بين خروجه من منزله والمصلى ترتفع الشمس كما ذكرناه.

ويؤيده أنه- عليه السلام كان يصلي العيد والشمس على أطراف الجبال كالعمائم على رءوس الرجال.

ص: 430

وروي أنه صلاها والشمس قيد رمح، وروي: قيد رمحين.

ولم ينقل أنه صلاها قبل ذلك، ولا أمر بها، ولو كان وقتاً لها لبيَّنه بقوله أو فعله، خصوصاً في عيد النحر؛ فإن تعجيل الصلاة في أول الوقت مستحب كما ستعرفه.

وهذا الذي ذكره الشيخ قد قال الرافعي: إنه مقتضى كلام جماعة منهم: الصيدلاني، وصاحب "التهذيب".

قلت: وبه صرح القاضي الحسين حيث قال: "سنة القوم: الابتكار، وسنة الإمام: أن يكون خروجه حيث يمكنه أن يبتدئ الصلاة، وذلك بعد ما ارتفعت الشمس قيد رمح، وصفا ضوءها".

وكذا البندنيجي حيث قال: "وأول وقتها حين تبرز الشمس وترتفع قليلاً، وهو إذا أشرقت؛ فإنه يقال: شرقت؛ إذا طلعت، وأشرقت؛ إذا أضاءت".

ولم يحك القاضي أبو الطيب غيره في كتاب الأضحية.

ويقويه اتفاق الأصحاب كافة على أن وقت الأضحية لا يدخل حتى ترتفع الشمس بحيث يجوز التطوع، ويمضي قدر صلاة العيد والخطبتين، مع اتفاقهم على استحباب إيقاع صلاة عيد النحر في أول وقتها.

لكن الذي قاله في "المهذب" هنا، وكذا القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والإمام، والمتولي: أن وقتها يدخل إذا طلعت الشمس.

قال في "الروضة": وهو [الصحيح أو الأصح]. وقد يستدل له بما تقدم: أن مبنى الأوقات على أن وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت صلاة أخرى، والصلاة منسوبة إلى اليوم، واليوم يدخل بطلوع الفجر، وليس فيه وقت فيه صلاة تشارك ما نحن فيه مع استحباب الاجتماع فيها إلا ما بين طلوع الشمس والزوال؛

ص: 431

فتعين لها، ويشهد له من قول الشافعي: قوله: "وذلك حين تبرز فيه الشمس"، إذا جعل بياناً لوقت الصلاة؛ لأن الصلاة أقرب مذكور، لكن الأظهر إعادته على وقت الخروج؛ لما تقدم.

ثم لو سلم أنه يعود على الصلاة، لكان لمن انتصر للشيخ أن يقول: أراد الشافعي ببروز الشمس ارتفاعها، ويشهد له أن صاحب "البحر" حكى عنه في باب الأضحية: أنه قال في: "المبسوط" في أول وقت الأضحية: " [و] ذلك إذا برزت الشمس، فيصلي ركعتين، ثم يخطب".

وقد نقلنا اتفاقهم على أنه لابد من ارتفاعها قبل الصلاة والخطبتين في دخول وقت الأضحية؛ فتعين ما ذكرناه؛ ولأجله قال في "البحر" ثمَّ: إن الشافعي أراد بقوله: "برزت": طلعت وارتفعت قليلاً.

ثم اعلم: أن القائلين بدخول الوقت بطلوع الشمس قالوا: الأفضل أن يؤخرها إلى أن ترتفع قيد رمح.

وعبارة القاضي أبي الطيب في باب صلاة الكسوف: "إن أول وقتها إذا طلعت الشمس، وإن فعلها في ذلك الوقت مكروه؛ فيستحب تأخيرها عنه".

وعبارة ابن الصباغ فيه تقرب من ذلك، وطرده في صلاة الاستسقاء؛ لاتساع وقتها، بخلاف صلاة الكسوف.

واقتضى كلام ابن الصباغ [ثمَّ] كراهة صلاة النافلة في الأوقات المكروهة؛ لأنه قال: إن وقتها [واسع؛ فجرت مجرى النوافل التي لا سبب لها؛ وحينئذ فالقول بأن وقتها] يدخل بطلوع الشمس إنما يتم؛ إذا قلنا: عن الصلاة في الأوقات المكروهة لا تحرم؛ كما قاله البندنيجي، وتصح كما هو وجه للأصحاب.

أما إذا قلنا: بأنها لا تصح أو حرام- كما ادعى في "الروضة": أنه الأصح، وبه قطع الماوردي في "الإقناع"، وصاحب "الذخائر"، وآخرون- فلا؛ إذ

ص: 432

يستحيل أن نقول بدخول الوقت وعدم الصحة أو التحريم؛ فيؤخذ مما قاله ابن الصباغ والقاضي أن كراهية الصلاة في الأوقات المكروهة كراهة تنزيه، وأنها تصح فيها.

وقد جعل الماوردي أول وقتها إذا طلعت الشمس، وتكامل طلوعها، وقال: إنه لو صلاها مع طلوع الشمس، لم تجزئه؛ لأنه وقت نهي عن الصلاة فيه، وهذا يعجب منه من يعتقد أن وقت الكراهة لا يزول بتكامل الطلوع.

وأما من يقول: إنه يزول بتكامل [طلوع] القرص- كما حكاه الغزالي- فلا يعجب من ذلك.

ولعل الماوردي من القائلين بذلك، والله أعلم.

قال: ويسن تقديم صلاة الأضحى، وتأخير صلاة الفطر، أي: قليلاً؛ لأنه- عليه السلام كتب إلى عمرو بن حزم: "أن عجِّل الأضحى، وأخِّر الفطر".

ولأن في تقديم صلاة الأضحى اتساع وقت الأضحية وتعجيلها؛ فينتفع بها المساكين، وفي تأخير صلاة الفطر اتساع وقت الفضيلة في تفرقة زكاة الفطر، والتأخير كثيراً غير مأمور به؛ لأنه يخالف السنة.

روى أبو داود عن يزيد بن خُمير، قال: خرج عبد الله بن بسر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس في يوم فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إنا كنا قد

ص: 433

فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح.

والأضحى: جمع أضحاة، يقال: أضحاة وأضحى؛ كقولك: أرطاة وأرطى، وهو شجر، والأضحى: يذكر ويؤنث باعتبار اليوم؛ قاله الفراء.

[قال النواوي]: وسمي بذلك؛ لوقوع الأضحية [فيه].

وقال البندنيجي: إن "الأضحى" لغة في "الأضحية"، وقد حكاها النواوي في "الأضحية" أيضاً، فقولنا: يوم الأضحى، يعني: يوم الأضاحي والضحايا.

قال: فإن فاتته قضاها في أصح القولين؛ لما تقدم من خبر الرَّكب الذين شهدوا بالرؤية بعد الظهر.

[و] لأنها صلاة أصل راتبة مؤقتة؛ فلا تسقط بفوات وقتها؛ كالفرائض، وهذا ما نص عليه في "كتاب الصيام".

ومقابله: أنها لا تقضى؛ لأنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة؛ فلا تقضى بعد فواتها كالجمعة والكسوف؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"؛ كما قال البندنيجي واختاره المزني، وقال: إنه أشبه بقول الشافعي.

قلت: لأنه ذكره وعلله بأنه عمل في وقت، فإذا جاوزه لم يعمل في غيره؛ كعرفة.

والتعليل مما يستدل به على الترجيح؛ كما أن التفريع على أحد القولين ترجيح له؛ كذا قاله الماوردي في أول كتاب العتق عن بعض الأصحاب، والحديث فيه اضطراب.

قال الماوردي: ولولا اضطرابه لأعيدت الصلاة من الغد قولاً واحداً.

وللقائلين بالأول أن يقولوا: الحديث قد قال البيهقي: إن إسناده صحيح.

وقال الخطابي: إنه صحيح، والجمعة والكسوف خرجا بما ذكرناه من

ص: 434

القيود؛ لأن الجمعة بدل عن الظهر لا أصل له، وهي مشروطة بشرط، فإذا فقد امتنعت، والكسوف غير راتبة.

ثم القولان مفرعان على الجديد في أنا لا نعتر فيها شرائط الجمعة؛ كما ستعرفه.

أما إذا قلنا بالقديم، فلا تقضي قولاً واحداً؛ كذا قاله مجلي، وهو في "الإبانة"، وأورده الإمام فقهاً لنفسه، وعليه جرى الرافعي.

وقد قال بعضهم: إن القولين مبنيان على القولين السابقين في أن النوافل هل تقضى أم لا؟

قال القاضي الحسين: والصحيح: أنهما قولان مستقلان بأنفسهما.

وبعض الشارحين قال: إنهما جاريان هنا، وإن قلنا: إن النوافل لا تقضى؛ لأن هذه من الشعائر؛ فيقبح ألا تقام على النَّعت المعهود في كل عام، لاسيما وسببها الهلال، والغلط فيه كثير الوقوع؛ فينهض عذراً في القضاء.

وقال الماوردي في "كتاب الصيام": إن القولين في قضاء النوافل مأخوذان من ها هنا.

واعلم أن كلام الشيخ يقتضي أن الفوات [يحصل] بذهاب الوقت الذي حدُّه خال عن الصلاة، سواء كان ذلك مع العلم بأنه الوقت، أو مع الجهل به؛ كما إذا غم الهلال ليلة الثلاثين [من رمضان، ثم قامت البينة بعد زواله بالرؤية في ليلة الثلاثين، أو قامت بذلك في ليلة الثلاثين]، ولم تعدّل إلا بعد فوات الوقت.

ولاشك في جريانهما عند ترك الصلاة مع العلم بالوقت، سواء كان الترك لعذر أو غير عذر؛ صرح به [في]"الوسيط" وغيره، وأما مع الجهل بالوقت

ص: 435

- كما صورنا- فهو كذلك إن حصل أداء الشهادة بالرؤية في يوم الثلاثين بعد الزوال [سواء أكان من شخص عدل في الظاهر، أو في الباطن وعدل بعد الزوال] أيضاً، إما في النهار أو بعد الغروب، كما حكاه البندنيجي وغيره من العراقيين، وكذا الحكم عندهم فيما لو وقعت الشهادة يوم الثلاثين قبل الزوال، وعدلت البينة بعد الزوال، [كما حكاه ابن الصباغ.

وألحق الماوردي بذلك ما] إذا وقعت الشهادة بعد الزوال والبينة ظاهرة العدالة، أنا نحكم بالفطر، ولا نحكم بفوات الصلاة، بل تصلى أداء؛ لأن الغلط يكثر في ذلك، وهذا شعار عظيم، ويبعد تفويته بذلك؛ فهو كخطأ الحجيج في الوقت.

وعلى هذا تصلَّى في الغد ما بين طلوع الشمس والزوال.

وقال في "الذخائر": إنا إذا قلنا به: فإن أمكن جمع الناس في بقية النهار، جمعهم، وصلى بهم بنية الأداء، وإلا جمعهم من الغد، وصلى بهم بنية الأداء. وهذا لم أره في غيره.

وقالوا فيما إذا شهدت البينة بعد الزوال، وعدِّلت بعد الغروب: فهل يكون الحكم كما تقدم، أو يكون كما إذا شهدت بعد الغروب؟ فيه خلاف مبني على أن العبرة بحال الأداء، أو بحال ثبوت العدالة؟ وفيه قولان، قال الرافعي: ويقال: وجهان، والمذهب منهما- كما قال في "الذخائر"- الثاني، وهو الذي صححه الرافعي، ولم يحك الماوردي في كتاب الصيام غيره.

والذي ذكره العراقيون: كأبي الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ، وكذا المتولي- الأول، وكذلك كان مذهبهم ما سلف، واستدلوا على ذلك بأن شاهدين لو شهدا على رجل، وماتا، ثم عدلا بعد الموت، فإنه يحكم بتلك الشهادة، ولو كان الاعتبار بوقت التعديل لامتنع الحكم.

وكذا بنوا على الخلاف المذكور ما إذا شهدت البينة قبل الزوال، وعدلت

ص: 436

بعده، ولا يخفى تفريعه مما سلف.

وقد اتفق الفريقان على أن الشهادة لو وقعت بعد الغروب يوم الثلاثين، بالرؤية ليلة الثلاثين: أن الصلاة تفعل في الغد أداء.

ومن طريق الأولى: إذا وقعت في الحادي والثلاثين قبل الصلاة، ووجهه قوله- عليه السلام:"وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحُّون، وعرفتكم يوم تعرِّفون"، أخرجه أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة.

وعبارة المراوزة: "أنا لا نصغي إلى الشهادة في هذه الحالة؛ إذ لا فائدة فيها إلا ترك صلاة العيد؛ فإن شوالاً قد دخل يقيناً، وصوم ثلاثين من رمضان قد تم.

قال الرافعي: وفي قولهم: "لا فائدة إلا ترك صلاة العيد" إشكال؛ فإن لاستهلال الهلال فوائد أخر: كوقوع الطلاق والعتق المعلقين على استهلال شوال، وانقضاء العدة في انقضاء التاسع والعشرين، ونحو ذلك؛ فوجب أن تقبل الشهادة لمثل هذه الفوائد.

قال: ولعل مرادهم من عدم الإصغاء فيما يرجع إلى صلاة العيد، وجعلها فائتة، لا عدم القبول على الإطلاق، وإن أطلقوا ذلك في عبارتهم.

قلت: الوجه حمله على العموم؛ فإنّ التشاغل بذلك- ولا فائدة محققة في الحال- عبث، والحاكم يشتغل بالمهمات.

ص: 437

نعم، إن كان ذلك موجوداً، فالوجه ما قاله، والله أعلم.

وقد ألحق المراوزة بذلك ما لو وقع أداء الشهادة يوم الثلاثين، ولم تعدَّل البينة إلا بعد طلوع الشمس [في الحادي والثلاثين؛ كما حكاه القاضي الحسين والفوراني والإمام، ولم ينظروا في هذه الحالة إلى حالة الأداء؛ لأن بعد طلوع الشمس] قد دخل وقت صلاة العيد بالقطع، فلا يعارضه ما لا يفيد إلا الظن.

والبندنيجي قال: الاعتبار بحالة الأداء في هذه الصورة- أيضاً- فيكون الحكم ما تقدم.

ولو قامت البينة بالرؤية قبل الزوال [يوم الثلاثين، وهي ظاهرة العدالة أو عدلت قبل الزوال]- أيضاً- أقيمت الصلاة قبل الزوال إن اتسع الوقت، وإن لم يتسع فالحكم كما لو شهدت بعد الزوال وقبل الغروب، والله أعلم.

التفريع:

إذا قلنا بالقضاء، قال العراقيون: فلا يتأقت، بل أي وقت فعله حصل، فالأولى أن يفعل في ثاني العيد قبل الزوال، إن لم يمكن اجتماع الناس بقية النهار؛ لاتساع الخطبة. وإن أمكن اجتماعهم في بقية اليوم بالبوق والطبل ونشر العلم، ونحو ذلك؛ لضيق الخطبة، فالأولى فعلها في بقية اليوم؛ لأنه يوم العيد، ولأنه إلى وقت الأداء أقرب.

وحكى المراوزة معه وجهاً آخر: أن الأفضل فعلها في ثاني العيد، وهو ظاهر النص؛ فإنه قال:"إن الصلاة تعاد من الغد".

ووجهه: أنه- عليه السلام هكذا [فعل]، وهو أشبه بالأداء، وأهون للاجتماع، والذي صححه الرافعي الأول.

وفي "الحاوي": أن الأصحاب اختلفوا في علة قوله: "إنها تفعل في الغد" على وجهين:

أحدهما- وهو قول أبي إسحاق-: أنها [يعذر اجتماع] الناس [لها]؛

ص: 438

لتفرقهم، وعدم علمهم.

فعلى هذا: إن كان أمكن اجتماع الناس بعد الزوال من يومهم، صلِّيت في اليوم؛ لأنه أقرب إلى وقتها الفائت، وقد حكاه القاضي الحسين في "كتاب الصيام" عن النص.

والثاني- وهو ظاهر مذهب الشافعي [أن العلة في تأخيرها أن يؤتى بها في وقتها المسنونة فيه، وذلك بعد طلوع الشمس وقبل الزوال.

قال: وعلى هذا لا يجوز قضاؤها في اليوم بحال.

وعبارته في كتاب الصيام: "والثاني- وهو مذهب الشافعي-] يؤخرها إلى الغد؛ ليصليها في مثل وقتها.

وعبارة القاضي الحسين توافق ذلك؛ فإنه قال: إذا قلنا: تقضى من الغد، فهل يجوز أن تقضى في بقية اليوم أو لا؟ فيه وجهان.

وكلام الفوراني يشعر بهما على هذا النحو إشعاراً ظاهراً.

ولعل القائل بمنع القضاء في اليوم هو القائل بأن صلاة العيد لا تجعل فائتة بأداء الشهادة بعد الزوال وإن أثرت في الفطر كما تقدم.

وعبر بالقضاء عن أصل الفعل، لا عن فعله خارج الوقت، والله أعلم.

وقال المراوزة: في تأقيت القضاء عند الاشتباه وتبين الحال ثلاثة أقوال أو أوجه:

أحدها: ما تقدم.

والثاني: تختص بالغد من العيد؛ إتباعاً لظاهر الخبر.

وأيضاً: فإن ما قرب من العيد عيد، وهي من شعاره، وثاني العيد يجوز أن يفرض يوم العيد؛ فوقوع هذا الشعار فيه متجه، فأما إذا فرض بعده فلا؛ لأنه يخالف الشعار المعهود.

ولا فرق في ذلك بين عيد الفطر والنحر؛ كما قال الرافعي.

قال: إلا أن يقال: إن الشهادة بعد دخول ذي الحجة غير مسموعة؛ على قياس

ص: 439

ما ذكروه في الحادي والثلاثين.

وقد ادعى الإمام ظهور هذا الوجه فيما إذا كانت الصلاة تقام في جماعة ومشهد من الناس؛ لأنها لو أقيمت [في غيره] لخالفت الشعار المعهود، ويشيع منه سمعة غير مألوفة في البلاد، لا يدركها إلا خواص الناس، وتعطيل شعار سنة أهون من هذا.

وإن أراد الناس أن يقضوا صلاة العيد فرادى من غير إظهار شعار، فالظاهر أنه لا يمنع منه بعد الحادي والثلاثين.

والثالث: أنها تقضى إلى شهر.

قال الغزالي: كما يتأقت قضاء نافلة اليوم باليوم في قولٍ.

والإمام استأنس بتأقيت النوافل للوجه قبله، وقال في هذا: إن كان المراد: أنها لا تقضى في جماعة، فلا معنى لذكر الشهر. وإن كانت تقام في الجماعة، فهذا خيال فاسد، وإن تم فلعله يجري في شوال نقص أو كمل أو بقية [شهر] ذي الحجة وإن كانت عشرين يوماً. وعلى الجملة لا أعده من المذهب.

وقال الرافعي: إن [هذا] الوجه لم ينقله سوى الإمام.

قلت: وقال في "الإبانة" في حال ترك الصلاة لشغل: وحكاه القاضي الحسين في الإمام إذا ترك الصلاة؛ لاشتغالهم بالجهاد أياماً، [وقال: قيل:] إنه الذي نص عليه الشافعي.

أما إذا اختص الفوات بالإرادة، قال الرافعي: فمقتضى كلام الأصحاب: أنها تقضى أبداً.

قال: والسنة أن يمسك في عيد الأضحى إلى أن يصلي، ويأكل في عيد الفطر قبل الصلاة؛ لما روى الترمذي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى

ص: 440

حتى يصلي".

وقال الدارقطني: "حتى يرجع، فيأكل من أضحيته".

[والمعنى في الإمساك يوم الأضحى إلى ما بعد الصلاة؛ ليأكل من أضحيته]، أو يشارك الفقراء فيه؛ لأنه وقت أكلهم، وفي تعجيل الأكل يوم الفطر [قبل الصلاة: مخالفة العادة السالفة.

ولأن الفطر في ابتداء الإسلام كان محرماً قبل الصلاة]؛ فقدم ليعلم نسخه.

قال الأصحاب: ويستحب أن يكون ما يأكله يوم الفطر قبل الصلاة تمرات وتراً؛ لرواية البخاري عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات".

وفي رواية علقها وأسندها الإسماعيلي والدارقطني: "يأكلهن وتراً".

ص: 441

قال الشافعي: وإن لم يطعم في بيته، ففي الطريق أو المصلى إن أمكنه ذلك؛ قاله في "البيان".

قال: وتقام الصلاة في الجامع؛ أي: عند الاتساع؛ لأن خير البقاع وأطهرها من الأنجاس المساجد؛ ومن ثم كان الأئمة يصلون العيد في المسجد الحرام؛ لأن فيه اتساع الخطة والشرف.

ولأن في إقامتها في الجامع تسهيلاً على الناس، وهذا يؤخذ من قوله في "المختصر":"وأحب للإمام أن يصلي بهم حيث هو أرفق بهم، وقد بينا أن الصلاة في الجامع مع الاتساع أرفق".

قال: فإن ضاق عليهم، صلوا في الصحراء؛ روى أبو سعيد الخدري:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الفطر والأضحى في الصحراء؛ طلباً للسعة".

قال [في]"الحاوي": وقد صار مصلى المدينة] اليوم داخل البلد، لأن العمارة زادت، واتصلت حتى عبرت الجبان؛ فصار مصلاهم اليوم عند رحبة دار عبد الرحمن بن عوف، فلو خالف الإمام في هذه الحالة، وأقامها في المسجد- كان مكروهاً؛ لوقوع الناس في الزحمة، وعسر الأمر عليهم.

قال: ويستخلف الإمام، أي: في هذه الحالة من يصلي في الجامع بضعفة الناس؛ لأنه روي عن علي- كرم الله وجهه- أنه استخلف أبا مسعود الأنصاري؛ ليصلي بضعفة الناس [في المسجد، ولا مخالف له؛ ولأن في ذلك حيازة فضيلة الصلاة لهم.

ص: 442

وضعفه الناس:] الشيوخ، والزمنى، والمرضى، وهو بفتح الضاد والعين، ويقال: ضعفاء، وضعاف.

وقد أفهم كلام الشيخ: أن فعلها في الجامع عند اتساعه أفضل من الصحراء؛ لما ذكرناه، دون حالة الضيق.

وحكى المراوزة معه وجهاً آخر عن رواية صاحب "التقريب"، ولم يورد المتولي [غيره]: أن فعلها في الصحراء أفضل مطلقاً؛ لأن ذلك أرفق بالناس؛ [فإنه] يحضرها الداني والقاصي، والفرسان والرجالة، والصبيان، والنساء الحيض، ولا يتأتى لهن دخول المسجد.

نعم، يستثنى من البلاد مكة-[شرفها الله تعالى]- لانضمام [فضيلة] مشاهدة الكعبة إلى فضيلة البقعة، وغير ذلك؛ فلا تفوت؛ وهذا قد حكاه القاضي الحسين عن نصِّه في "الكبير"؛ فإنه قال فيه:"ولا يقام العيد في البلدان في المساجد، بل يخرجون إلى الجبَّان إلا بمكة؛ فإنهم يصلون في المسجد".

وعن الصيدلاني إلحاق بيت المقدس فيما نحن فيه بمكة، وهو المذكور في "الخلاصة".

نعم، لو كان [هناك عذر من مطر، أو ثلج، ونحو ذلك- كان] إقامتها في المسجد أولى بكل حال؛ لما روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه قال: "أصابنا مطر في يوم عيدٍ؛ فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد".

قال أبو إسحاق المروزي: وعند الضيق يصلي الإمام في المسجد الأعظم بمن يطيق الحضور فيه، واستخلف من يصلي بالناس في موضع آخر بحيث يكون أرفق بهم.

قال الرافعي: وفي كلام الأئمة ما يفهم بناء هذا الخلاف على أن إقامة

ص: 443

الصلاة بمكة كان لخصوص فضيلة المسجد الحرام، أو لسعة الخطة.

فإن قلنا بالثاني، فالمسجد أولى في سائر البلاد أيضاً.

وإن قلنا بالأول، فلا.

والذي أورده العراقيون، والماوردي، والبغوي، وهو الأظهر في "الرافعي": ما ذكره الشيخ، وعليه ظاهر النص؛ فإنه قال في [كتاب] الصيد والذبائح:"وتجب إقامة العيد [بحيث تجب إقامة الجمعة] ".

وقال في القديم: "ويصلي العيد حيث يصلي الجمعة"، والجمعة لا تقام في الصحراء، بل في البلد؛ فكذا العيد.

وقد أخذ الشيخ أبو محمد بظاهر هذا النص، وقال: لا تصح إقامتها إلا حيث تصح الجمعة كما سنذكره.

والحيّض إن حضرن، يقفن على باب المسجد.

قال: ويحضرها الرجال؛ للإجماع، والنساء، والصبيان؛ لما روى مسلم عن أم عطية قالت:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجن في العيدين: العواتق، والحيَّض، وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين"؛ فثبت في النساء بالنص، وقيس عليهن الصغار.

ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في النساء بين الشابة والعجوز، وبه صرح البندنيجي في باب صلاة الجمعة، وقال هنا: إنه المذهب، وهو ما حكاه في "الحاوي" عن بعض أصحابنا البغداديين؛ لأنه- عليه السلام كان يخرج بناته ونساءه إلى العيدين.

ولفظ الشافعي- رحمه الله في "الأم" يشهد له؛ لأنه قال: "وأحب شهود العجائز وغير ذوات الهيئة للصلاة والأعياد، وأنا لشهودهن الأعياد أشد استحباباً مني لشهودهن غيرها من الصلوات المكتوبات"، لكنه يقتضي أن ذات الهيئة

ص: 444

منهن لا يستحب لها الحضور، وقد أخذ به المتولي، فقال: الأولى لذوات الهيئات والجمال الصلاة في بيوتهن، ولو خرجن جاز؛ للخبر السابق.

والذي حكاه المزني عنه: أنه قال: "وأحب حضور العجائز غير ذوات الهيئة"، وهو الذي حكاه في "المهذب"، وهو يقتضي اختصاص الاستحباب بالعجائز؛ إذا لم يكن لهن هيئة، أما الشابات فلا يستحب لهن الحضور.

وصرح الماوردي والرافعي: بأنه يكره لهن الحضور؛ لأنه يخشى افتتانهن بالرجال و [افتتان] الرجال بهن.

وقال: إن خبر أم عطية يجوز أن يكون متقدماً.

ويقرب منه قول الصيدلاني.

والقاضي الحسين يرى: أن الرخصة في خروجهن وردت في ذلك الوقت، فأما اليوم فيكره لهن الخروج إلى مجتمع الناس؛ لأن الناس قد تغيروا؛ قالت عائشة:"لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم لمنعهن الخروج".

قال: ويظهرون الزينة، أي: بلبس أفخر الثياب المباحة، وإزالة الأوساخ، والتطيب؛ لأنه- عليه السلام كان يلبس في العيد بردة حبرة، ويعتم.

ص: 445

وروى جابر أنه- عليه السلام كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة. رواه ابن عبد البر.

[وروي] عن الحسن أنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلبس يوم العيد أحسن ما نجد، ونتطيب بأجود ما نجد، وأن نضحي بأسمن ما نجد، وأن نظهر التكبير وعلينا السكينة والوقار.

قال الشافعي في "الأم": "وأحب أن تلبس العمامة في الحر والبرد، واستحباب ذلك للإمام أكثر؛ لأن الإمام منظور إليه ومقتدى به".

وما ذكرناه مختص بما عدا النساء؛ أما النساء فيخرجن في بذلة الثياب، ولا يتطيبن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تفلات" يعني:

ص: 446

غير عطرات، رواه مسلم.

فلو لبسن الشهرة من الثياب كره لهن ذلك، وكذا لو تطيبن؛ كما قاله أبو الطيب.

وقال في "التتمة": إن التزين سنة للرجال والنساء، والعبيد والأحرار، والكبار والصغار؛ لأنه يوم فرح وسرور، وكل ذلك في النساء سواء. ولعل مراده بذلك: إذا كن في بيوتهن؛ فأما إذا خرجن للمصلى فلا؛ لأنه قال بعد ذلك: إن المستحب لهن أن يخرجن في ثياب مهنة، ويتنظفن بالماء، ولا يستعملن الطيب.

قال: ويغتسل لها؛ لقول ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل يوم الفطر، ويوم الأضحى"، ذكره أبو أحمد من حديث حجاج بن تميم عن ميمون ابن مهران، عن ابن عباس، رضي الله عنه.

[و] قد روي عن علي، وابن عمر، وسلمة بن الأكوع أنهم كانوا يغتسلون في العيد.

وعن عروة بن الزبير أنه قال: "السنة أن يغتسل يوم العيدين".

ولأنه موضع شرع فيه الاجتماع؛ فيسن فيه الاغتسال كالجمعة.

وكما يستحب الغسل يستحب الأخذ من الشعر والظفر إن احتيج إليه؛ لأنه من تمام الزينة.

ص: 447

قال: بعد الفجر؛ لأنه غسل استحب لأجل صلاة العيد؛ فدخل وقته بدخول وقت العيد لا قبله كغسل الجمعة.

قال: فإن اغتسل لها قبل الفجر أجزأه في أحد القولين؛ لأن الصلاة تقام في أول النهار، ويقصدها الناس من البعد، فلو لم يرخص لهم في التقدم، لأدى إلى ترك هذه السنة؛ وبهذا خالف غسل الجمعة حيث لا يجوز قبل الفجر [على المذهب، وقد ترجع حقيقة هذا القول [إلى] أنه مخير في الاغتسال قبل الفجر] وبعده، وكذلك نقله البويطي؛ كما حكاه القاضي أبو الطيب.

والبندنيجي والماوردي، وغيره حكوه وجهاً عن ابن أبي هريرة.

ثم ظاهر كلام الشيخ: أنه بعد الفجر أولى على هذا القول، ولاشك فيه؛ لأنه عند الرواح كما ستعرفه.

والقول الآخر: أنه لا يجزئه؛ لما ذكرناه، وهو ما حكاه البندنيجي عن نصه في "الأم"، ونقله في "المختصر"، وحكاه الماوردي وجهاً عن أبي إسحاق.

والصحيح عند الرافعي، والنواوي الإجزاء.

قال القاضي أبو الطيب: وإذا قلنا به فلا يغتسل إلا بعد نصف الليل؛ كما في أذان الصبح، وهو ما أورده القاضي الحسين، وقال: إنه لا خلاف فيه.

وقال ابن الصباغ: يحتمل أن يجوز في جميع الليل كالنية في الصوم، ويخالف الأذان للصبح؛ فإنه إذا فعل قبل نصف الليل اشتبه بأذان العشاء؛ لأنه يبقى [الاختيار فيه] ما بقي وقت اختيار الصلاة، وهو يبقى إلى نصف الليل.

قلت: ولا يقال: إن قوله: "الصلاة خير من النوم" مميز بينهما؛ لأن الشخص قد لا يسمع ذلك.

وقد عكس الإمام ما ذكرناه، فقال: من جوز الغسل في الليل، فالمحفوظ عنه

ص: 448

أن جميع الليل وقت له، وهو ما اختاره في "المرشد"، ولم يحك في "الوسيط" غيره.

ثم قال الإمام: وكان لا يبعد في القياس أن يقرب تقريب الأذان لصلاة الصبح.

ثم الاغتسال يوم العيد وإظهار الزينة، لا يختص بمن يحضر الصلاة، بل يعم جميع الناس؛ فإنه يوم سرور وزينة، بخلاف الغسل للجمعة؛ فإنه مخصوص بمن يصلي؛ لقطع الروائح.

قال: ويبكر الناس بعد الصبح؛ ليحصل بقرب الإمام، وليكن منتظراً للصلاة؛ قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ أحدكم في صلاةٍ ما دام ينتظر الصَّلاة".

وقال- عليه السلام: "ألا أدلُّكم على ما يرفع الله به الدَّرجات، ويمحو [به] الخطايا؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط" أخرجه مسلم.

قال: ويتأخر الإمام إلى الوقت الذي يصلي بهم [فيه]؛ لما روى أبو سعيد الخدري- رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى

ص: 449

المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة" رواه مسلم.

قال الأصحاب: ويكره له التنفل قبلها أو بعدها لما روى البخاري ومسلم، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتي العيد، ولم يتنفل [لا] قبلها ولا بعدها. ولا يكره ذلك للمأموم إلا في الوقت المكروه.

قال: ولا يركب، أي: قاصدها في المضي إليها؛ لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى العيد ماشياً، ويرجع ماشيّاً.

وروي أنه- عليه السلام لم يركب في عيد ولا جنازة قط.

ثم كلام الشيخ يفهم أنه مخير في الركوب والمشي في الرجوع، وبه صرح القاضيان: أبو الطيب، والحسين؛ لأن القربة قد انقضت، وشاهد ذلك: تشييع الجنازة؛ فإنه يمشي في المضي، ويركب في العود؛ كما دل عليه ما سنذكره

ص: 450

من الخبر ثم.

وهذا إذا لم يكن الطريق ضيقاً، فإن كان فترك الركوب أولى؛ [كي لا] يزدحم الناس؛ قاله البندنيجي.

وعلى هذه الحالة يحمل ما صدر منه صلى الله عليه وسلم ومحل ذلك في الذهاب والعود إذا أطاق المشي، فإن عجز عنه؛ لضعف [أو] كبر أو مرض، أو كان الموضع بعيداً- فله أن يركب كما قلنا في تشييع الجنازة.

قال: ويمضون إليها في طريق، ويرجعون في أخرى؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما روى جابر قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق". أخرجه البخاري.

وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: [كان] النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد من طريق رجع في غيره".

وروى نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى العيد من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرَّس، وقد بينهما في باب صفة الحج، وتكلم

ص: 451

الأصحاب في المعنى الذي لأجله فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك:

فقيل يحتمل: أنّه فعله؛ ليساوي في ممرِّه بين القبيلتين: الأوس والخزرج؛ لأنهم كانوا يتفاخرون بذلك في محالهم، فيقولون: مر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه.

ويقال: إنه ما مر بطريق إلا ويفوح منها رائحة المسك.

وقيل: يحتمل أنه كان يتصدق؛ فأحب أن يعم مساكين الطريقين.

وقيل: إنه كان يقصد بالسؤال [في طريقه]، ولا يحضره ما يغنيهم؛ فكان يخالف بين الطريقين توقياً للمسألة.

وقيل: إنه كان يسأل في طريقه عن معالم الدين، وأحكام الشرع، فأحب أن يعود في الآخر؛ ليعلِّم أهل الطريقين.

وقيل: يحتمل أنه كان يفعل ذلك؛ للسعة، وقلة الزحام. وهذا [التأويل] منقول عن ابن عمر.

وقيل: يحتمل أنه كان يفعله تفاؤلاً بتغير الحال؛ كما في تقليب الرداء في الاستسقاء.

وقيل: يحتمل أنه كان يسلك الأبعد في ذهابه، والأقرب في رجوعه.

وقيل: يحتمل أنه كان يفعل ذلك؛ لينتشر المسلمون في الطريق؛ فيزداد غيظ اليهود.

وقيل: يحتمل أنه فعله؛ تجنباً لكيد المنافقين، وإبطالاً [له]؛ لأنهم ربما ترصدوا له في الطريق الذي ذهب فيه.

وقيل: يحتمل أنه فعله؛ لتشهد له البقاع، فقد روي:"من مشى في خير أو بر شهدت له البقاع يوم القيامة".

قال الماوردي: وفي شهادة البقاع تأويلان:

ص: 452

أحدهما: أن الله- تعالى- ينطقها بذلك.

والثاني: أن الشاهد أهلها؛ كقوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان: 29].

قال أبو إسحاق: وإذا احتمل: أنه- عليه السلام فعل ذلك لمعنى؛ فإن عرفنا أن ذلك المعنى يختص به، لم يشاركه فيه [غيره، وإن لم نعرف ذلك فعلناه. ومن طريق الأولى إذا عرفنا: أنه فعله لمعنى نشاركه فيه].

وقال أبو علي بن أبي هريرة: نفعله؛ إتباعاً له، سواء عرفنا أنه لمعنى يختص به أو لا.

قال الماوردي: وهما متوافقان على الإتباع فيما نحن فيه؛ لأنه لم يعرف أنه فعله لمعنى يختص به.

ونقل بعض الناس عن رواية الماوردي في هذا الموضع: أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى، فزال ذلك المعنى- ففيه وجهان:

أحدهما- قاله أبو إسحاق-: لا يفعل إلا بدليل.

والثاني- قاله ابن أبي هريرة-: يفعل.

وكلام الرافعي يفهم أن الخلاف جار في وقتنا هذا في المضي إلى العيد، وادعى أن الذي مال إليه الأكثرون: مذهب ابن أبي هريرة.

قال: والسنة أن تفعل في جماعة- أي: واحدة- لنقل الخلف عن السلف.

والمفهوم من لفظ "السنة"- إذا أطلقه الفقهاء-: الندب، غير الطريقة؛ وحينئذ يكون كلام الشيخ مصرحاً بانعقادها فرادى، وهو المذهب الجديد الذي نص عليه في "الأم" و"الإملاء"، ولفظه في "الأم": و"لا بأس أن يصلّوها في مساجد الجماعات في المصر، فإذا فعلوا فلا أحب أن يخطب أحد في المصر إذا كان

ص: 453

به إمام؛ خوف الفتنة".

ومنهم من قطع بهذا القول، والذي عليه الجمهور إجراء قولين في المسألة:

أحدهما: هذا.

والثاني- وهو مأخوذ من نصه في الصيد والذبائح والقديم-: أنه لا يقيمها إلا من تقام به الجمعة، واستؤنس له بأنه- عليه السلام لم يصل العيد بمنى، ولو ساغ لأقامها.

والقائلون بالأول قالوا: إنما ترك الصلاة بمنى؛ لاشتغاله بالمناسك.

وقد قال الشافعي: " [و] أما أهل منى فلا يصلون صلاة الأضحى، وسواء كانوا من أهل مكة أو غيرهم؛ فإن لهم بغيرها شغلاً".

التفريع:

إن قلنا بما ذكره الشيخ، فإذا انفرد الشخص بصلاة العيد في محلة جاز.

ولو فرضت جماعة متفرقة، صحت الصلاة، ولكن الإمام يمنع من هذا من غير حاجة؛ حتى تجتمع الجماعات على صعيد واحد، قاله الإمام.

وإن قلنا بمقابله، قال الأصحاب: فلا يصليها المنفرد في بيته، ولا عبد ولا امرأة ولا مسافر إلّا تبعاً لأهل الجمعة، وكذا أهل السواد إذا كانوا دون الأربعين [وهم على مسافة لا يبلغهم النداء.

نعم، إن كانوا أربعين،] أقاموها، ولا يشترط أن يكون الأربعون بصفة من تنعقد بهم الجمعة، بل إن كان بعضهم من أهلها، وباقيهم من غيرها، أجزأ؛ كذا حكاه البندنيجي عن الشيخ أبي حامد.

ص: 454

وعبارة ابن الصباغ في حكاية ذلك عنه مخالفة لبعضه؛ ولذلك استشكلها.

وقال الإمام- في حكاية هذا القول-: إنه يشترط أن تكون صفاتهم صفات الأربعين الذين تنعقد بهم الجمعة، وإنه يشترط دار الإقامة كما في الجمعة، وكذا كل ما يشترط في الجمعة، إلا تقديم الخطبتين على الصلاة، وإقامتها في البلد؛ فإن صلاة الجمعة يتقدمها الخطبتان، ولا تقام في الجبان، وصلاة العيد تتقدم الخطبتين، وتقام بارزة. وعمل الأئمة الماضين أصدق شاهد في ذلك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيم صلاة العيد بالمدينة في الجبان.

وهذا قد وافق عليه أبو حامد، فقال: ولا خلاف على المذهب أنه لي سمن شرطها الوطن؛ فإن السنة إذا ضاق بهم المسجد أن تقام في المصلى خارج البلد [بحيث] لا يجوز إقامة الجمعة فيه.

وقد حكى الإمام عن شيخه أنه قال: [إنا] إذا فرعنا على هذا القول لم تجز صلاة العيد إلا حيث تجوز صلاة الجمعة، وهو ما اقتضاه كلام القاضي الحسين؛ لأنه قال: أحد القولين: أن العيد كالجمعة، في أنه لا يجوز إلا في مصر أو قرية جامعة، ولا يجوز إلّا في جماعة، ولا يؤدى في بلد إلا في جماعة واحدة، ولابد فيه من العدد.

قال الإمام: والذي ذكره شيخي وإن كان قياساً، فهو في حكم المعاندة لما عليه الناس، والقول في نفسه ضعيف؛ إذ يبعد كل البعد إذا مضت الصلاة، وفرض اختلال بالخطبة أن ينعطف البطلان على الصلاة.

قال: وينادي لها: الصلاة جامعة؛ لما روى الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر أن ينادى للعيد والاستسقاء: "الصلاة جامعة"، وبالقياس على الكسوف.

ص: 455

والوجه: النصب فيهما: الأول على الإغراء، والثاني على الحال.

والتقدير: ائتوا الصلاة جامعة، أي: جامعة الناس والقربات؛ فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.

وقال القاضي الحسين: يقول: "الصلاة الصلاة"[ولا يقول]: "جامعة"، بل هذا لفظ الشافعي، يعني: هذه الصلاة جامعة: اجتمعتم.

والجمهور على الأول، وقالوا: إن الشافعي قال: "لو قال: هلموا إلى الصلاة؛ فلا بأس"؛ ولأجله قال أبو الطيب: [إنه مخير بين أن يقول: "الصلاة جامعة"، أو:"هلموا إلى الصلاة".

ولو قال: حي على الصلاة، فلا بأس، إلا أنه يستحب أن يتوقى كلمات الأذان.

وقال في "الشامل": لو قال: هلموا إلى الصلاة، أو]: حي على الصلاة- فلا بأس.

وزاد في "العدة" فقال: إن قوله: حي على الصلاة، مستحبٌّ. وضده قول أبي الفتح سليم: إنه مكروه.

وقال الماوردي: إن الشافعي قال: "لو قال: هلموا إلى الصلاة، أو: حي على الصلاة، أو: قد قامت الصلاة- كرهنا ذلك، وأجزأه".

ولا خلاف في أن الأذان والإقامة غير مشروعين فيه؛ لما روى مسلم عن جابر قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة دون أذان ولا إقامة.

قال: ويصلي ركعتين؛ للإجماع، إلا أنه يكبر في الأولى بعد دعاء الاستفتاح، وقبل التعوذ- سبع تكبيرات، وفي الثانية قبل القراءة: خمس تكبيرات؛ لقول الشافعي- رحمه الله: سمعت سفيان بن عبد الله [يقول: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: سمعت عبد الله] بن عباس يقول: أشهد على

ص: 456

رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كبر في صلاة العيدين في الأولى سبعاً سوى تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً سوى [تكبيرة] القيام.

ولرواية الترمذي عن عمرو بن عوف: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة، وفي الأخيرة خمساً قبل القراءة".

وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "التكبير في الفطر سبعٌ في الأولى، وخمسٌ في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيهما".

ص: 457

وقد صحَّح البخاري هذين الحديثين، وخرج الثاني بهذا الإسناد الدارقطني، وقال:"سبعاً في الأولى، وخمساً في الآخرة سوى تكبيرة الصلاة".

وفي حديث أبي داود عن عائشة: "سوى تكبيرتي الركوع".

قال ابن عبد البر: وقد روي عنه- عليه السلام من طرق: أنه كبر في العيد سبعاً في الأولى، وخمساً في الثانية، ولم يرو عنه من حديث قوي أو ضعيف خلاف ذلك.

واحترز الشيخ بقوله: "بعد دعاء الاستفتاح" عن مذهب المزني وأبي ثور؛ فإن عندهما: أن تكبيرة الإحرام من السبع، والخبر حجة عليهما، مع أن تكبيرة الإحرام وكذا الهوى لا تدخل في العدد؛ لأنهما لا تختصان بالعيد.

وبقوله: "وقبل التعوذ" عن مذهب أبي يوسف؛ فإن عنده: أن دعاء الاستفتاح يليه التعوذ، كما في غيرها من الصلوات.

وقد أشار الصيدلاني إلى تردد فيه، بقوله: الأشبه بالمذهب: أن التعوذ بعد التكبيرات وقبل القراءة، وهو المشهور؛ لقوله تعالى:{فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، وقبل التكبير ليس بقارئ، ويفارق سائر الصلوات؛ لأن القراءة تلي التعوذ.

[و] بالأمرين معاً يقع الاحتراز عن مذهب محمد بن الحسن؛ فإن عنده أن دعاء الاستفتاح والتعوذ معاً يفعلان بعد التكبيرات، وهو قول حكاه في "البيان" و"الزوائد".

والصحيح الأول؛ لأنه إذا تأخر عن أولها لم يكن مستفتحاً.

ص: 458

و [احترز] بقوله: "في الثانية قبل القراءة" عن مذهب أبي حنيفة؛ فإن عنده أنه يكبر بعد القراءة، والحديث حجة عليه.

وسكوت الشيخ عن التعوذ في الركعة الثانية تفريع على أن التعوذ يختص بالركعة الأولى؛ كما تقدم في موضعه.

قال: يرفع فيها اليدين؛ قياساً على التكبيرات في صلاة الجنازة.

والرفع يكون إلى حذو منكبيه؛ كما في تكبيرة الإحرام.

قال الشافعي: ويقف بين كل تكبيرتين بقدر آية لا طويلة ولا قصيرة، يهلل الله، ويكبره، ويحمده، ويمجده.

وشرح الأصحاب ذلك، فقالوا: يقول بين كل تكبيرتين من السبع والخمس: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.

وقال بعضهم: يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت [وهو حي لا يموت]، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير".

قال ابن الصباغ- تبعاً للقاضي أبي الطيب-: ولو قال ما اعتاده الناس، [وهو]: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً"- كان حسناً؛ لأن الوليد بن عقبة سأل ابن مسعود: ما أفعل في يوم عيد؟ فقال له: "تكبر، وتحمد، وتثني على الله، وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين"، ولا يقول ابن مسعود ذلك إلا توقيفاً.

ولأن ذلك لم ينكره منكر مع وجوده في كل عصر.

فلو ترك ذلك، ووالى بين التكبيرات، كان مكروهاً؛ قاله القاضي أبو الطيب، وعليه نص في "الأم"، وقال:"إنه لا إعادة عليه ولا سجود".

ويستحب أن يضع يمناه على يسراه بين كل تكبيرتين؛ قاله الماوردي.

ص: 459

وقال الرافعي: إن في "العدة" ما يشعر بخلاف فيه.

[فروع]:

[أحدها:] لو اقتدى في العيد بمن يخالفه في التكبير، بأن كان هو يعتقد أنها في الأولى ست، وإمامه يعتقد أنها سبع، أو بالعكس: فهل يتابع إمامه أو يمشي على اعتقاد نفسه؟ حكى الإمام في كتاب الجنائز عن رواية الشيخ فيه قولين، الذي ذكره منهما ها هنا، وكذا الفوراني والرافعي: إتباع الإمام.

وقال القاضي الحسين: إن الإمام لو ترك التكبيرات بجملتها، هل يأتي بها المأموم؟ وجهان وهما قريبان من القولين اللذين رواهما الشيخ أبو علي.

ثم قال الإمام في كتاب الجنائز، في مسألة القولين: والذي عندي فيه: أن المقتدي لو تابع، أو ترك المتابعة في التكبيرات، أو لم يكبر، وكان الإمام يكبر- فلا ينتهي الأمر في ذلك إلى الحكم ببطلان الصلاة؛ فإن هذه التكبيرات ليست من الأركان حتى يقال: سبق الإمام بها، أو سبق المأموم بها، وفيه احتمال ظاهر، والعلم عند الله سبحانه.

قلت: ويقوي الاحتمال: أن الإمام لو أتى بسجدتي السهو، ولم يتبعه المأموم- بطلت صلاته، وإن لم يكونا من الأركان.

[وإن نظر] إلى الجنس فتكبيرة الإحرام من الأركان.

[الفرع] الثاني: إذا أدرك المأموم الإمام بعد فراغ التكبير، لا يقضي على الجديد؛ [لأنه سنة]، بخلاف تكبيرات الجنازة.

وعلى القديم: يأتي بها؛ لأن محل التكبير القيام، وقد أدركه، وكذا لو أدرك

ص: 460

بعض التكبيرات، فإنه يكبر ما أدرك معه، وهل يكبر ما فاته؟ على القولين:

ولو أدركه في الركوع لا يكبر بلا خلاف، بل يركع معه.

ولو أدركه بعد فراغ القراءة، عند إرادة الركوع، قال في "الإبانة": فهل يأتي به؟ فيه قولان:

فإن قلنا: يأتي به، فهل يعيد الفاتحة؟ فيه وجهان.

ولو أدركه في الركعة الثانية، كبر خمساً معه؛ للمتابعة، ثم إذا قام لقضاء الركعة كبر خمساً أيضاً؛ لأن ما أدركه معه هو أول صلاته، والإمام تحمَّل عنه التكبيرتين الزائدتين على الخمس؛ كذا قاله الجمهور.

وقال المتولي: إن ذلك تفريع على الجديد.

[و] إذا قلنا بالقديم كبر مع الإمام خمس تكبيرات، ثم أتى بتكبيرتين تتمة السبع.

[الفرع] الثالث: إذا ترك الإمام أو المنفرد التكبيرات ناسياً، ثم تذكر: فإن كان قبل الشروع في القراءة أتى بها، وإن كان بعده، قال في القديم: يأتي بها، ويقطع القراءة.

وإن كان بعد الفراغ من القراءة، أتى بها، ولم يعد القراءة، والأولى أن يعيدها؛ نص عليه.

وفي "الرافعي" وجه: أنه يعيدها.

والجديد الذي نص عليه في "الأم": أنه لا يأتي بها؛ كما لو ترك دعاء الاستفتاح، ثم تذكره بعد الشروع في القراءة؛ فإنه لا يعود إليه بلا خلاف.

وحكى الإمام مع هذه الطريقة طريقة أخرى عن رواية الشيخ أبي علي طاردة للقول القديم في تدارك دعاء الاستفتاح أيضاً.

[والقاضي] الحسين حكاه وجهاً عن ابن سريج.

والطريق الأوّل أصح؛ لأنه إذا تأخر عن أول الصلاة، لم يبق استفتاحاً؛ فإن موضع الاستفتاح على أثر التحريم.

[الفرع] الرابع: إذا ترك التكبيرات في الركعة الأولى، لا يستحب له أن

ص: 461

يأتي بها مع تكبير الثانية بأن يكبر اثنتي عشرة تكبيرة، فإن فعل، قال في "الأم": كرهته، ولا إعادة عليه، ولا سجود؛ وكذا لو ترك التكبيرات عمداً أو سهواً لا سجود عليه؛ لأن شعارها لا يختص بالصلاة؛ فإنها مشروعة في الخطبتين.

نعم، إذا فاتته، وقلنا: لا يقضيها، فأتى بها بعد القراءة، فهل يؤمر بالسجود؟ فيه وجهان مبنيان على ما إذا نقل ذكراً هو سنة إلى بعض الأركان، فإنه ينظر فيه:

فإن كان من الأبعاض: كالقنوت، ففي اقتضاء الإتيان به في غير موضعه السجود- وجهان؛ بناءً على ما إذا نقل ركناً ذكريّاً، وها هنا أولى بألا يسجد؛ لأنه ليس ركناً؛ فحكمه أخف.

و [إن] أتى بذكر ليس بركن، ولا بعض، فوجهان مرتبان على قنوت، وأولى بعدم اقتضاء السجود.

وعلى هذا يخرج الإتيان بالتكبيرات بعد القراءة، وكذا دعاء الاستفتاح إذا منعناه، وكذا قراءة السورة في التشهد.

واعلم أن الإتيان بالتكبيرات في هذه الصلاة محله إذا وقعت أداء، فلو فعلت قضاء، قال العجلي: فلا يكبر؛ لأن التكبير من سنة الوقت، وقد فات. ويجيء فيه الاحتمال الذي سنذكره عن القاضي الحسين، فيما إذا فاتته صلاة [في أيام] التشريق، فقضاها في غيرها، هل يكبر خلفها أم لا؟

قال: ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة "ق"، وفي الثانية "اقتربت الساعة .. "؛ لما روى مسلم عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه سأل أبا واقد اللَّيثي: ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـ "ق والقرآن المجيد

"، و"اقتربت الساعة وانشق القمر .. ".

ص: 462

والمعنى في ذلك: أن يوم العيد شبيه بيوم القيامة؛ لما فيه من حشر الناس كيوم الحشر، والسورتان فيهما ذكر القيامة.

وقاف، قال النواوي: جبل محيط بالدنيا من زبرجد، وهو من وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة، وما بينهما ظلمة؛ كذا نقله الواحدي عن أكثر المفسرين.

وقال مجاهد: هو فاتحة السور، وهو مذهب أهل اللغة.

قال: يجهر فيهما؛ لخبر أبي واقد؛ إذ لو لم يكن- عليه السلام قد جهر بهما لما عرف أنه قرأهما.

قال أبو الطيب: وهذا مما لا خلاف فيه، وقد روي أنه- عليه السلام وأبا بكر وعمر [جهروا] بالقراءة في [العيد، وعلى ذلك عمل المسلمين في سائر الأمصار، وما ورد من أنه- عليه السلام كان يقرأ في] العيدين بـ "سبح اسم ربك الأعلى .. "، و"هل أتاك حديث الغاشية

"- كما رواه مسلم عن النعمان بن بشير، والنسائي عن سمرة بن جندب- نحمله على الجواز؛ لأن ما ذكرناه [أكمل؛ لما ذكرناه] من المعنى.

ص: 463

قال: ويخطب بهم خطبتين، أي: بعد الصلاة؛ لما روى مسلم عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة.

قال الإمام: فلو قدمت الخطبة على الصلاة، ففي الاعتداد بها عندي احتمال مع الكراهة، ولا يعتد بها قبل طلوع الشمس بلا خلاف.

واعلم أن جميع الخطب المشروعة في الإسلام عشر: ثمان منها بعد الصلاة: خطبة عيد الفطر، وخطبة عيد الأضحى، وخطبة كسوف الشمس، وخطبة خسوف القمر، وخطبة الاستسقاء، وثلاث خطب في الحج من أربعة.

واثنتان تفعل [كلٌّ منهما] قبل الصلاة، وهما: خطبة الجمعة، وخطبة يوم عرفة.

قال: كخطبتي الجمعة، أي: في الأركان والسنن؛ لأن جابراً روى أن- عليه السلام خطب على المنبر.

وروى ابن ماجة عنه أنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى إلى المصلى، فخطب قائماً، ثم قعد بعده، ثم قام.

ص: 464

قال: إلا أنه يستفتح الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع تكبيرات؛ لما روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: انه قال: "هو السنة".

قال الماوردي: وقوله: "هو السنة" يحتمل أمرين:

أحدهما: سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

والثاني: سنة الصحابة، رضي الله عنهم.

وأيما كان، فالاقتداء به حسن.

قال الإمام: وسنة العدد الذي ذكرناه؛ كسنة الخطبتين بركعتي صلاة العيد؛ فإن الركعة الأولى تشتمل على تسع تكبيرات: بتكبيرة الإحرام والهوي، والثانية تشتمل على سبع تكبيرات على الترتيب الذي ذكرناه.

واعلم أن الشيخ لو قال: "ثم يخطب بهم"- كما ذكره المزني- لكان أحسن؛ ليؤذن بأن الخطبة بعد الصلاة، كما هو السنة.

وقوله: "كخطبتي الجمعة" يفهم: أنه عند طلوعه يجلس، وهو ما نص عليه في "الأم".

وقال أبو إسحاق: لا يجلس؛ لأن جلوسه في الجمعة؛ ليفرغ المؤذن.

والصحيح الأول؛ ليستريح؛ فلا يبهر في الخطبة.

وقوله: "إلا أنه يستفتح الأولى .. " إلى آخره يفهم أمرين:

أحدهما: أن التكبير من الخطبة، وقد قال الشيخ أبو حامد: إنه ليس من الخطبة، والخطبة ما يأتي بعده؛ لقول الشافعي:"يكبر، ويخطب".

وقال في "الحلية" بعد حكايته: إن فيه نظراً، ويشبه أن يكون من الخطبة.

قال في "الروضة": والذي نص عليه الشافعي وكثيرون من الأصحاب ما قاله الشيخ أبو حامد.

ومن قال منهم: تفتتح الخطبة بالتكبير، لا يأباه؛ لأن افتتاح الشيء قد يكون ببعض مقدماته التي ليست من نفسه.

الثاني: أنه لا يأتي بين التكبيرات بذكر، وهو ما حكاه أبو حامد في "التعليق"،

ص: 465

وقال: إنه لا يستحب ذلك؛ لأن ابن عتبة قال: "السنة في التكبير يوم الأضحى والفطر: أن يبتدئ الإمام قبل الخطبة وهو قائم على المنبر بتسع تكبيرات تَتْرَى، ولا يفصل بينها بكلام، [ثم يخطب، ثم يجلس، ثم يقوم إلى الخطبة الثانية، فيفتتحها بسبع تكبيرات تَتْرَى لا يفصل بينها بكلام].

وقال الشافعي في "الأم": "ويكون نسقاً، فإن فصل بين كل تكبيرتين بحمد الله، والثناء عليه- كان حسناً؛ لأنه نقل عن عبد الله بن مسعود أنه يحمد الله، ويصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم".

وقال الصيدلاني: يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.

قال: ويعلمهم في الفطر زكاة الفطر، وفي الأضحى الأضحية، أي: يذكر من أحكامهما ما تعم الحاجة إليه؛ لأنه لائق بالحال.

وقد روى البراء بن عازب قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة، ثم قال:"من صلَّى صلاتنا ونسك نسكنا، فقد أصاب السُّنَّة، ومن نسك قبل ذلك فتلك شاة لحمٍ"، رواه أبو داود.

قال: ويجوز أن يخطب قاعداً؛ أي: مع القدرة على القيام؛ لأنه روي عن علي- كرم الله وجهه- أنه خطب يوم العيد على راحلته.

وروي عن عثمان [والمغيرة بن شعبة] مثل ذلك.

ولأن الخطبة سنة؛ فجازت قاعداً مع القدرة؛ كصلاة العيد.

قال في "البحر": وقد روى الجويني وجوب القيام فيها، وهو غلط.

قلت: لعل هذا بناءً على اشتراط شرائط الجمعة فيها.

ثم إذا خطب قاعداً، سكت بين الخطبتين سكتة خفيفة تقوم مقام الجلسة لو خطب قائماً؛ قاله أبو الطيب.

قال الشافعي في "الأم": "وإذا خطب، ثم رأى نسوة أو جماعة من الرجال لم

ص: 466

يسمعوا الخطبة، لم أر بأساً أن يأتيهم، فيستأنف لهم الخطبة؛ لأنه- عليه السلام فعل ذلك".

قال: والسنة أن يبتدئ في عيد الفطر بالتكبير؛ أي: رافعاً [به] صوته بعد الغروب من ليلة الفطر خلف الصلوات، وفي غيرها من الأحوال؛ لقوله تعالى:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185].

قال الشافعي: "سمعت من أرضى من العلماء بالقرآن يقول: أراد كمال عدة صوم شهر رمضان، والتكبير عند إكماله".

وإذا كان كذلك فإكمال العدة يقع بغروب الشمس، والواو موضوعة للجمع المطلق، وهو ضربان:[ضرب] جمع [مقاربة، وجمع معاقبة، وقد قام الإجماع على عدم إرادة][جمع] المقاربة؛ فتعين جمع المعاقبة، وذلك بعد الغروب.

وبعضهم قال: حمل الواو على الجمع المطلق هنا خلاف الإجماع؛ فتعين حملها على الترتيب.

وقضيته: أن يقع التكبير بعد الغروب؛ فثبت بالكتاب أن ابتداء وقته بعد الغروب، وبالسنة أنه يدوم على الخروج إلى الصلاة؛ روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغدو إلى المصلى في الفطر والأضحى رافعاً صوته بالتكبير، وإذا كان كذلك اندرج فيه ما بعد فراغ الصلوات الواقعة في هذا الوقت.

وقد يفهم من قول الشيخ: "والسنة أن يبتدئ بالتكبير بعد الغروب من ليلة الفطر خلف الصلوات": أنه ورد في ذلك [بخصوصه] شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة- رضي الله عنهم وهذا لم ينقله أحد من الأصحاب، بل قالوا: إنه تكرر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم عيد الفطر؛ ولم ينقل أنه كبر عقيب الصلوات، ولم يستحب بعضهم لأجل ذلك التكبير عقيب الصلوات الواقعة فيه؛ كما قاله

ص: 467

البندنيجي [وغيره].

وقد حكاه القاضي الحسين عن الجديد، ولم يورد في "الحاوي" و"المرشد" غيره.

وقال في "الشامل": إنه ظاهر المذهب؛ أخذاً من قول أبي الطيب: إن الشافعي لم يذكره.

ولأنه من شعار العيد إلى العيد؛ فلا تعلق له بالصلاة، والذي يدل عليه: أن ذلك ينقضي بالفراغ من صلاة العيد، ويفارق حكمه في عيد النحر؛ لأنه لا ينقضي بالفراغ من صلاة العيد.

لكن الذي قال البندنيجي: إنه المنصوص، وحكاه القاضي الحسين والمتولي عن نصِّه في القديم- استحباب ذلك؛ لأنه عيد سنَّ فيه التكبير المطلق؛ فسن فيه المقيد، وهو ما يأتي به خلف الصلوات؛ كالأضحى.

فعلى هذا يكبر عقيب ثلاث صلوات: المغرب والعشاء والصبح.

قال: وخاصة عند ازدحام الناس؛ ليوافقوه إذا سمعوه فيحصل له [أجر] مذكر.

قال: إلى أن يحرم الإمام بصلاة العيد؛ لأنّ الكلام قبل إحرامه مباح؛ فاستحب التكبير، وبإحرامه يكره الكلام؛ فامتنع التكبير؛ وهذا ما نقله البويطي، ولم يحك عن الشافعي غيره، وغلط الفوراني من قال بخلافه، ووراءه قولان:

أحدهما: أنه يكبر إلى أن يخرج الإمام إلى المصلى؛ قاله في "الأم" ونقله المزني.

والثاني: إلى أن يفرغ الإمام من الصلاة؛ حكاه القاضي أبو الطيب والإمام عن رواية شيخه عن القديم، وعليه جرى المتولي، فقال: ولم يعتبر الشافعي فراغ الإمام من الخطبة وإن كان فيها تكبير؛ لأن تكبيرات الخطبة مختصة بالخطيب غير مسنونة في حق سائر الناس.

وفي "تعليق" البندنيجي: أنه قال في القديم: يكبر حتى يفرغ الإمام من الصلاة والخطبتين معاً. وهو ما قاله الشيخ أبو حامد وابن الصباغ، وعليه ينطبق قول

ص: 468

الماوردي: إنه يكبر إلى أن ينصرف الإمام.

وفي "الذخائر": أن الشيخ أبا محمد نقل نصّاً: أنه يدوم إلى أن يبقى من الخطبة شيء.

وقد أخذ بعض الأصحاب بظاهر النصوص، فأثبت في المسألة ثلاثة أقوال، وقال: إذا قلنا بالأول والثاني، تصور التكبير إلى آخر وقته في حق من حضر مع الإمام ومن لم يحضر معه. وإذا قلنا بالثالث، لم يتصور ذلك إلا في حق من غاب عنه؛ فإنه يكبر حتى يعلم فراغ الإمام من الخطبتين على طريقة أبي حامد، وعلى طريقة غيره إلى فراغه من الصلاة، وبه قال ابن الصباغ.

وقال ابن سريج وأبو إسحاق: المسألة على قول واحد وهو ما نقله البويطي.

وقالا: نصه في "الأم" أراد به: ما نقله البويطي؛ لأنه يفتتح الصلاة عند خروجه؛ فالعبارة مختلفة والمعنى واحد، وما قاله في القديم أراد به: جنس التكبير؛ فإنه يبقى إلى أن يفرغ الإمام من الخطبتين؛ فإن الخطبتين [فيهما التكبير]؛ وهذه الطريقة قال الإمام: إن المزني اختارها، وهي الطريقة المرضية [التي] لم يذكر الأئمة غيرها.

قال: وفي عيد النحر يبتدئ [؛ أي]: بالتكبير المقيد يوم النحر بعد صلاة الظهر؛ لأن الناس في التكبير في هذا العيد تبع للحجيج، وهم يكبرون بعده؛ قال الله تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 200]، وانقضاء المناسك على الوجه المطلوب يكون ضحوة يوم النحر، وأول صلاة تلقاهم بعد ذلك صلاة الظهر؛ فكان أول الوقت.

قال: خلف الفرائض، أي: على الأعيان؛ لنقل الخلف عن السلف.

قال القاضي الحسين: ولأي معنى كان ذلك؟ فيه ثلاثة معانٍ:

أحدها: لأنَّه تأدية صلاة فرض في [وقت] أيام التشريق.

ص: 469

والثاني: لأنه تأدية وظيفة مشروعة في زمان أيام التشريق.

والثالث: لأنه [تأدية] صلاة مفعولة في أيام التشريق.

وفائدة ذلك تظهر من بعد.

قال: وخلف النوافل في أصح القولين؛ لأنها صلاة راتبة في الوقت أو صلاة مفعولة في أيام التشريق؛ فشرع التكبير عقيبها كالفرائض، ومنهم من قطع بهذا القول كما حكاه في "المهذب" وغيره، وهو مخرج على المعنى الثاني والثالث.

ومقابله: أنه لا يكبر خلفها؛ لأن التكبير شعار الفرائض؛ فلا يكون شعار النوافل؛ كالأذان والإقامة؛ وهذا يخرجه المعنى الأول.

وعن بعض الأصحاب القطع به؛ حكاه الماوردي وأبو الطيب مع الطريقين الأوّلين.

ومنهم من قال: يكبر خلف النوافل الراتبة، سواء كانت تابعة للفرائض أو غير تابعة كالوتر والأضحى، ولا يكبر لغيرها؛ نظراً للمعنى الثاني دون الأول.

والثالث حكاه القاضي الحسين وغيره.

ومنهم من قال: ما يسن له الاجتماع يكبر عقيبه، وما لا فلا؛ حكاه الماوردي، وبه يحصل في المسألة خمس طرق.

قال: إلى أن يصلي الصبح من آخر أيام التشريق، في أصح الأقوال؛ لما ذكرنا أن الناس تبع للحجيج، وآخر صلاة يصليها الحاج بمنى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق.

وقد تلخص من هذا القول الذي صححه الشيخ: أن ابتداء التكبير خلف الصلوات من بعد صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهكذا حكاه القاضي أبو الطيب عن رواية المزني والزعفراني والبويطي عن الشافعي، وهو منصوص في "الأم" على هذا النحو، وقال في "الشامل": إنه مذهب مالك. وهو يقتضي أنه لا يكبر عقيب صلاة الصبح آخر أيام التشريق؛ لأن الوقت قد انقضى بالصلاة.

ص: 470

وعبارة البندنيجي في حكاية ذلك عن "الأم" والقديم والبويطي تقتضي أنه يكبر عقيبها؛ لأنه قال: إنهم حكوا أنه يكبر عقيب صلاة الظهر يوم النحر إلى بعد الصبح من آخر أيام التشريق.

وعليه ينطبق قول الأصحاب: إنه يكبر على هذا القول عقيب خمس عشرة صلاة.

قال: وفيه قول ثان: أنه يكبر من المغرب ليلة العيد- قياساً على عيد الفطر- إلى [أن يصلي] الصبح من آخر أيام التشريق؛ لما ذكرناه.

ووجهه القاضي أبو الطيب بأن العاكف بمنى يقطع التكبير إذا فرغ من الرمي، وذلك ضحى آخر أيام التشريق؛ فيجب أن يكون غيرهم كذلك.

وهذا فيه نظر تعرفه في كتاب الحج.

وهذا القول قال [القاضي] أبو الطيب: إنه نصَّ عليه في موضع آخر، وصرح فيه بأنه يكبر إلى بعد صلاة الفجر من آخر أيام التشريق.

وقال البندنيجي: إنه أخذه من قوله في "الأم": "ولو كبر عقيب المغرب من ليلة العيد، لم أكره ذلك، وسمعت من يستحبه"؛ ولأجل هذا النص قال القاضي الحسين والإمام: إن الشافعي لم يتعرض في هذا النص للآخر؛ ولأجل ذلك قال القاضي الحسين في موضع من تعليقه: إن مذهب الشافعي متفق على أن القطع إنما يكون بعد الصبح في آخر أيام التشريق.

واختلف قوله في الابتداء:

المنصوص: "أنه يبتدئ خلف الظهر [يوم النحر] ".

وقال في موضع آخر: "يبتدئ خلف الصبح من يوم عرفة".

وقال في آخر: "يبتدئ من ليلة النحر خلف المغرب".

وقد حكى الغزالي والمتولي ما ذكره الإمام عن نصه في "الأم"، وقال الغزالي: إن آخره بعد صلاة الصبح من آخر أيام التشريق.

وعلى هذا يكبر عقيب ثماني عشرة صلاة.

والمتولي قال: يكون آخره ذلك أو بعد العصر من آخر أيام التشريق، وهذا

ص: 471

يقتضي أن يكون آخره العصر على قول؛ فيكبر عقيب عشرين صلاة.

قال: وفيه قول ثالث: أنه يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى أن يصلي العصر من آخر أيام التشريق.

وعبارة القاضي أبي الطيب: "إلى بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق"، وهذا مراد الشيخ أيضاً.

ووجهه: ما روى جابر أنه- عليه السلام صلى الصبح يوم عرفة، وأقبل علينا، فقال:"الله أكبر الله أكبر"، وحدَّ التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق. أخرجه الدارقطني من طرق، وفي بعضها:"الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد". وقد روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس، رضي الله عنهم.

[و] قال القاضي الحسين والإمام والغزالي: إنه اختيار المزني، وهو معزي في "التتمة" إلى القديم، ولاشك في أن ابن سريج وابن المنذر اختاراه، وكذا النواوي، وعليه العمل في سائر الأمصار والبلدان؛ لأن به يكون جامعاً بين الذكر في الأيام المعلومات والمعدودات، وقد أمر الله بالذكر [فيها] فقال:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، وقال:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، وعلى هذا يكبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة.

وقد رأيت فيما وقفت عليه من "الإبانة": أن الذي اختاره المزني وابن سريج: أنه يكبر من المغرب ليلة العيد إلى أن يصلي الظهر من اليوم الثالث من أيام التشريق، ولم أره في غيره، فلعله سهو من الناسخ، أو غلط في النسخة.

وفي "الشامل" و"تعليق" أبي الطيب: أن المزني: أن المزني اختار أنه يكبر بعد صلاة الظهر يوم النحر إلى بعد الظهر آخر أيام التشريق، والله أعلم.

ص: 472

وقد امتنع بعض الأصحاب- وهو أبو إسحاق، وابن أبي هريرة- من إجراء خلاف في المسألة، وقال: هي [على] قولٍ واحدٍ وهو الأول، وهو مذهب الشافعي، والقولان الآخران حكاهما عن غيره.

ثم محل الطريقين في غير الحاج، أما الحاج فقد قال المحاملي: إنه لا يتأتى في حقه إلا القول [الأول] وهو ما حكاه مجلي عن الشيخ أبي حامد، وقال: إن غيره لم يفصل هذا التفصيل، وأبو حامد تمسك بقوله في "الأم":"إنهم يكبرون على أن يرموا الجمرة، ثم أول صلاة تلقاهم يوم النحر صلاة الظهر، ولا يصلون بعد الصبح بمنى صلاة".

وقد حكى الإمام هذا المذهب عن العراقيين، وقال: إن ما ذكروه في الابتداء في مكانه، وأما ما ذكروه في الانتهاء ففيه تردد واحتمال.

أما فرائض الكفاية، هل يكبر خلفها كالعيد؛ إذا قلنا: إنها فرض كفاية، وكذا الكسوف، والاستسقاء، وصلاة الجنازة أو لا؟

المنقول في صلاة العيد: أنها كالسنن الراتبة.

وصلاة الجنازة، قال في "التتمة": لا يكبر خلفها؛ لأن مبناها على التخفيف. والمنقول في "الحلية" عن القاضي الحسين: وحكى الماوردي في التكبير خلفها وجهين؛ تفريعاً على قولنا: إن ما تشرع له الجماعة من النوافل يكبر خلفه.

وقال الشاشي: عندي ينبغي أن يبنى على النفل، فإن قلنا: يكبر خلفه، فهذه أولى، وإن قلنا: لا يكبر خلفه، بني على الفوائت المقضية في أيام التشريق؛ لأنه لا وقت لها.

قال مجلي: والأشبه أن يقال: يكبر عقيبها وجهاً واحداً؛ لأنها فريضة مؤداة، وقعت في وقت التكبير، بخلاف النوافل والصلاة المقضية.

وصلاة الكسوف والاستسقاء لم أقف فيها على نقل، ويشبه أن يكون فيها الخلاف في صلاة النفل التي ليست براتبة.

فأما إذا قلنا: إنها سنة، فقد تقدم حكاية الخلاف فيها.

ص: 473

والصلاة المنذورة، قال الإمام: إنها فيما نحن فيه كالنوافل بلا خلاف.

وقد أفهم كلام الشيخ: أنه لا يكبر في ليلة عيد النحر التكبير المرسل، وهو ما يشرع من غير صلاة مع رفع الصوت.

وقد قال البندنيجي: إنه مستحب بلا خلاف.

وقال الماوردي: إنه إجماع.

نعم، حكى الغزالي خلافاً في أنه هل يستحب في الأيام التي يشرع فيها التكبير المقيَّد خلف الصلوات أم لا؟ وهو منسوب في "النهاية" إلى رواية صاحب "التقريب".

فإن قلنا: لا يستحب، كان آخر وقت التكبير المرسل آخر وقته في عيد الفطر؛ صرح به في "الإبانة".

وأول وقته على كل حال بعد الغروب ليلة النحر، وعليه نص في "المختصر" إلا في حق الحاج.

واختلف قوله في أي الليلتين آكد في التكبير: هل ليلة الفطر، أو ليلة الأضحى؟

فقال في القديم: ليلة الأضحى؛ لإجماع السلف عليه فيها.

وقال في الجديد: ليلة الفطر؛ لورود النص فيها.

والتكبير المشروع- كما قال الشافعي-: "الله أكبر، الله أكبر، [الله أكبر] " ثلاثاً نسقاً؛ لما روي عن سعيد بن أبي هند قال: صليت وراء جابر بن عبد الله، فلما سلَّم قال:"الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر".

وحكى المتولي عن القديم: أنه يكبر مرتين.

[قالي في "الإبانة": وهل يهلل؟ فيه قولان: القديم: لا، والجديد: نعم؛ لأنه قال [في] المختصر": "وما زاد من ذكر الله [فهو حسن]"، لكنه لم يبين الذكر المراد، وبينه في "الكبير"، فقال: "يقول بعد التكبيرات الثلاث

ص: 474

المتواليات: الله أكبر تكبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلا، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله [وحده]، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله والله أكبر"، لأنه- عليه السلام قال ذلك على الصفا في حجة الوداع.

قال القاضي أبو الطيب: ولو كبر كما يكبر العامة في هذا الوقت، وقال كما يقولون من التهليل والتحميد لم يكن به بأس.

وشرح ذلك ما قاله ابن الصباغ: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، [الله أكبر] ولله الحمد".

وعن القديم: أنه يقول: "الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أبلانا وأولانا".

قال الإمام: ولست أرى ما نقل عن الشافعي مستنداً إلى [خبر أو أثر]، ولكنه لعله ثبتت عنده هذه الألفاظ في الدعوات المأثورة، فرآها لائقة بالتكبيرات.

ثم ما ذكرناه من انقطاع التكبير بمضي ما ذكرناه أردنا به التكبير الذي يأتي به المرء شعاراً مع رفع الصوت، فأما لو استغرق المرء عمره بالتكبير في نفسه، فهو ذكر من أذكار الله- تعالى- لا يتحقق المنع منه؛ قاله الإمام.

فروع:

[الفرع الأول]: من فاته شيء من الصلوات التي شرع التكبير خلفها، فقضاها في غيرها، لا يكبر بعدها عند الجمهور من الفريقين؛ لأن التكبير من سنة الوقت، فإذا فات الوقت فات التكبير.

وقد حكى القاضي الحسين ذلك عن النص، ثم قال: ويحتمل أن يقال: يسن لها على الطريقة التي قلنا: الاعتبار بحالة الوجوب، كما لو فاتته صلاة في السفر، فقضاها في الحضر، هل له القصر أم لا؟ فعلى قولين:

ص: 475

أحدهما: له القصر؛ اعتباراً بحالة الوجوب؛ كذا هذا مثله.

والمنقول: الأول.

نعم، لو فاتته في أيام التشريق، فقضاها فيها: هل يكبر؟ فيه وجهان في "المهذب"، والمختار في "المرشد" منهما: المنع أيضاً.

وقال الغزالي: إنه يكبر. ولم يحك فيه خلافاً، لكن التكبير مقضي أو مؤدى؟ قال: فيه قولان. وهذه طريقة ابن سريج، حكاها عنه القاضي الحسين.

وقال في "الإبانة": إن القولين- كما ذكر- مبنيان على النفل:

إن قلنا: يكبر خلف النافلة، ففي الفائتة أولى، ويكون أداء.

وإن قلنا: لا يكبر خلف النفل، فيكون قضاء.

وحكى الإمام أن من أئمتنا من قطع بأن الفوائت تستعقب التكبير، وإن كانت فائتة في غير أيام التشريق؛ لمرتبة الفرائض وعلوِّ منصبها، ثم قال:[و] الوجه التسوية؛ فلا أثر لقوة الفريضة، وإنما المرعي ما ذكرناه من قبل.

قال الغزالي- تبعاً للفوراني والإمام-: وعلى القولين ينبني ما إذا فاتته صلاة في غير أيام التشريق، فقضاها [فيها:

فإن قلنا: إنه في المسألة] قبلها أداءٌ، كبر هنا.

وإن قلنا: [إنه مقضيٌّ] ثم، فلا يكبر هنا.

[الثاني]: إذا نسي التكبير خلف الصلاة في الوقت، ثم تذكر، قال القاضي الحسين: نظر:

إن لم يطل الفصل، كبر؛ كما لو تذكر سجدتي السهو عن قريب.

وإن طال الفصل، فحكمه حكم سجدتي السهو، وفيه وجهان.

وعلى هذا جرى الفوراني والإمام والبغوي.

[و] قال القاضي في موضع آخر قبل ذلك: إن الخلاف عند القفال مبني

ص: 476

على أن من فاتته صلاة في أيام التشريق، فقضاها في الأيام، فإنه يكبر، وهل يكون ذلك قضاء أو أداء؟ فيه وجهان:

فإن قلنا: قضاء، فلا يأتي به؛ لأن التكبير لا يفرد بالقضاء.

وإن قلنا: أداء، فيأتي به.

قال: والمنصوص هذا الوجه؛ فإن الشافعي قال: "لو سلم، وانفصل إلى مكان آخر، كبر فيه، ولا يعود إلى مصلاه"، وهو ما أورده ابن الصباغ والمتولي، وقالا: يكبر حيث ذكره، ويخالف سجود السهو؛ لأن سجود السهو لإتمام الصلاة؛ فلا يجوز بعد طول الفصل، والتكبير لأجل الوقت، والوقت باقٍ.

[الثالث]: إذا كبر الإمام خلف صلاة، والمأموم لا يعتقد استحبابه، فهل يتبعه أو لا؟ ذكر ابن سريج فيه تردداً، وهو وجهان حكاهما الإمام:

أحدهما: نعم؛ كالقنوت؛ لأنه من توابع الصلاة.

والثاني- وهو أصح في "النهاية"-: لا؛ لأنه خارج عن الصلاة، فليجر المأموم فيه على اعتقاده.

قال: وإذا رأى شيئاً من بهيمة الأنعام في الأيام المعلومات- وهي العشر الأول من ذي الحجة- كبر.

قال بعضهم: لورود السنة بذلك.

وقال آخرون؛ لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28]، وقد قال المفسرون: الأيام المعلومات عشر ذي الحجة.

والبهيمة سميت بذلك؛ لأنها لا تتكلم، مأخوذ من: استبهم، إذا استغلق.

قال الأزهري: البهيمة- في اللغة-: معناها: المبهمة عن العقل والتمييز.

والأنعام: الإبل، والبقر، والغنم.

وإذا [قيل]: النعم، فهو الإبل خاصة. والنعم يذكر ويؤنث؛ قاله المبرد.

[قلت: والاستدلال] بالآية يتوقف على معرفة ما قيل فيها.

ص: 477

وقد اختلف أصحابنا في معنى قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} الآية [الحج: 28].

فقال المزني: الذكر في يوم النحر منها على الذبح، وإن كان مضافاً إليها كلها، وقد يضاف الشيء إلى جملة وإن كان يقع في بعضها؛ كقوله تعالى:{اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً* وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} [نوح: 15، 16].

وعلى هذا: لا يحسن الاستدلال بالآية على المدعى، بل حجته ورود السنة بذلك.

وقال الصيمري: الذكر يقع في كلها: يوم النحر على الذبح، وما قبله على سوق الهدي.

وعلى هذا: يحسن الاستدلال بها.

وقال غيرهما من أصحابنا: المضاف إليها شهود المنافع والذكر معاً، فقال عز من قائل:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} [الحج: 28] فشهود المنافع: التجارات قبل النحر، والذكر يوم النحر.

وقال الشيخ أبو حامد: معناه: الذكر على الذبح في كلها؛ كذا حكى ذلك البندنيجي في كتاب الحج.

ثم الأيام في ألسنة الفقهاء أصناف:

المعلومات: وقد سبق ذكرها.

والمعدودات: هي أيام التشريق، ويقال لها: أيام منى، [وأيام الذبح]، وأيام الذكر.

ويوم التروية- وهو الثامن من ذي الحجة- ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم الحج الأكبر، كما جاء في الخبر.

وقد نجز شرح مسائل الباب، فنختمه بفرع يتعلق به، وهو:

يستحب إحياء ليلتي العيد؛ لقوله- عليه السلام: "من أحيا ليلتي العيد لم يمت قلبه يوم تموت القلوب".

ص: 478

وقد اختلف في قوله "لم يمت قلبه":

فمنهم من قال: أراد به: لم يفزع قلبه من أهوال القيامة يوم تفزع القلوب؛ قال- عليه السلام: "يحشر الله النَّاس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً"، فقالت واحدة من نسائه: واسوءتاه، أينظر الرجال إلى عورات النساء؟! فقال- عليه السلام:"إنَّ لهم في ذلك اليوم لشغلا، لا يعرف الرَّجل أنَّه رجلٌ، ولا تعرف المرأة أنَّها امرأةٌ".

ومنهم من قال: أراد: لم يشغف قلبه بحب الدنيا؛ لأ، من شغف قلبه بحب الدنيا مات قلبه، قال- عليه السلام:"لا تدخلوا على هؤلاء الموتى" قيل: يا رسول الله، ومن الموتى؟ قال:"هم الأغنياء".

ومنهم من قال: أراد به: أن الله يحفظه من الشرك؛ فلا يختم عاقبته على الشرك؛ قال الله- تعالى-: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] معناه: من كان كافراً، فهديناه.

وقد قيل- كما حكاه الصيدلاني-: لم يرد شيء من الفضائل مثل هذا؛ لأن موت

ص: 479

القلوب؛ إما الكفر في الدين وإما الفزع في القيامة، وما أضيف إلى القلب فهو أعظم؛ ألا ترى إلى قوله تعالى:{وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283].

قال في "الروضة": وتحصل فضيلة الإحياء بمعظم الليل.

وقيل: تحصل بساعة.

وقد نقل عن الشافعي في "الأم" عن جماعة من خيار أهل المدينة ما يؤيده.

وقال القاضي الحسين: إنه روي عن ابن عباس أنه قال: إحياء ليلة العيد هو أن يصلي في ليلة العيد صلاة العشاء جماعة، ويعزم أن يصلي الصبح في جماعة، وينام، فإذا فعل هكذا، فقد أحيا ليلة العيد؛ قال- عليه السلام:"إنَّ أحدكم في الصَّلاة ما دام ينتظر الصَّلاة".

قلت: وقد جاء في "صحيح" مسلم: "من صلَّى العشاء في جماعةٍ فكأنَّما قام نصف اللَّيل، ومن صلَّى الصُّبح في جماعةٍ فكأنَّما صلَّى الليل كلَّه".

وأراد من صلى الصبح [في جماعة] وقد صلى العشاء في جماعة؛ يدل عليه رواية أبي داود عن عثمان بن عفان، وهو راوي حديث مسلم- أيضاً- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلَّى العشاء في جماعةٍ كان كقيام نصف ليلةٍ، ومن صلَّى العشاء والفجر في جماعةٍ كان كقيام ليلةٍ".

قال الشافعي: وبلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال: ليلة الجمعة، والعيدين؛ وليلة رجب، ونصف شعبان، وأستحب كل ما حكيت في هذه الليالي. كذا حكاه عنه في "الروضة".

وكما ورد الحث على الطاعات في ليلة العيد ورد الحث على منع المعاصي فيها، روي أنه- عليه السلام قال:"من عصى الله ليلة عيد، كان كمن عصاه في ليلة الوعيد، ومن عصى الله وهو يضحك أدخله النَّار وهو يبكي".

ص: 480

[فرع] آخر: إذا أدرك المسبوق الإمام في خطبة العيد نظر:

فإن كان في المصلى، فالمستحب في حقه أن يسمع الخطبة، فإذا فرغت، صلى العيد في المصلى أو في بيته، اللهم إلا أن يضيق الوقت؛ فالمستحب أن يصليه والإمام يخطب.

وإن كان في المسجد، فالمستحب ألا يجلس حتى يصلي ركعتين، لكن هل يفعل العيد أم تحية المسجد؟ فيه وجهان:

أحدهما- وهو اختيار أبي إسحاق-: يصلي العيد، وينوب عن تحية المسجد.

والثاني- وهو اختيار ابن أبي هريرة-: يصلي التحية.

والأول أصح.

***

ص: 481